الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحركة الفلسفية المعاصرة
في
مصر والشام
للأستاذ المستشرق جان لوسرف
تعريب عز الدين التنوخي
تدل المطبوعات الحديثة على ولع أدباء العرب وجمهورهم بالمسائل الفلسفية. وليس تجدد هذا الافتتان بالفلسفة إلا نتيجة طبيعية للولع بالتعلم، ولجماع حركة الفكر المؤيد للعلوم الحديثة التي ظهر في طليعتها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، إذ لم يستطيع أحد مثله أن يبين بجميع أنواع البراهين السديدة تلك الضرورة والحاجة الشديدة إلى توسيع نطاق التعليم الشرعي واقتباس الأساليب الغربية، وذلك بفتحه الباب على مصراعيه لجميع العلوم والعادات والآراء والعادات والآراء الأوروبية. ودخول الآراء الحديثة يقتضي بالطبع إثارة اضطرابات نفسية، وإحداث انعكاسات شديدة من قبل العواطف والإحساسات الشرقية، وليس من العدل أن يؤاخذ الشيخ محمد عبده على قلة تبصره في نهجه هذا، إذ له الفضل الكبير بإدراكه لقوة تيار الآراء الحديثة، وانتباهه لوجوب رد فعل هذا التيار على الأجانب، فإن التقرير الذي أرسله للحكومة التركية باحثاً عن التعليم العام في سورية لا يدع أدنى ريبة في فكرة تنظيم التعليم ومحاربة الأجانب بأسلحتهم لأجل مقاومة المكاتب المسيحية فرنسة أو ألمانية أو انكليزية، وهي وطنية بالاسم أجنبية بالحقيقة والأستاذ يقترح إنشاء مدارس للحكومة في درجة لا تنقص عن مكاتب الأجانب في شيء00 وأن يكون أساسها إحياء الدين وحب الدولة. ويرى في تهذيب الشعب الرجوع إلى إدراك مدنية مبتكرة يجتمع فيها الإسلام بمجد الماضي القومي بوازنة حكيمة أي المحافظة على أساس القرون الوسطى مع الروح الحديثة، ولذلك كان الوجدان القومي الذي أراد أن يوقظه مهدداً بنفس الوسائل التي تتخذ لتكوينه والنهضة العربية تؤدي حتماً إلى إثارة جميع القضايا التاريخية والفلسفية.
ومع ذلك فقد كانت الحاجة إلى التعليم تظهر بوضوح واحد لجميع كتاب هذا الجيل بدافع من عواطف مركبة ومتضادة. أنهم بادئ الرأي يشعرون جداً بضعف الشرقيين الحاضر في
معترك تنازع البقاء، وبياناً لذلك ننقل عبارة أديب إسحاق في مقالته ما هو الشرق؟ قال ما نصبه: على أن الأوروبيين وأن اختلفت آراؤهم في تعريف الشرق وتحديده، فقد اتفقوا على الاعتقاد بانحطاط الشرقيين عنهم في رتبة الوجود وتآلفوا على السعي في إذلال شأنهم وخفض مكانهم كما يدل على ذلك ما نسمع من أقوال خطبائهم، وما نقرأ من تصانيف علمائهم، وما نشهد من أعمال زعمائهم، فهم والحالة هذه عصبة على الشرقي من أي محتد وعلى أي مشرب كان، يصرفون عنايتهم إلى استخدامه واستبعاده ومحو استقلاله وفتح بلاده، فإذا اختلفوا فعلى تقسيم الغنيمة بين الفاتحين لا على وجوب الغارة (التمدينية) على القوم المتوحشين.
إن هذا الانفعال يستلزم كنتيجة منطقية طلب العدل والكرامة والاستقلال والمساواة التي لا تتحقق إلا برفع المستوى الاجتماعي وترقية التربية والتعليم، فتقليد الأجانب هو على ذلك الوسيلة للصعود من وهدة الانحطاط، ويستنتج أديب إسحاق قائلاً: ولا يكون الاستقلال جديراً بالصيانة إلا أن يكون مقترناً بالحرية، ولا حرية إلا بالحق المعين ولا حد للحقوق إلا بالعلم، ولا علم إلا بالحقائق، ولا حقيقة إلا بالبحث المطلق، ولا أطلاق للمقيدين بسلاسل الأوهام.
إن الشعور بالحاجة إلى العلوم الأجنبية هو شعور مبهم بين كتاب العرب، ومن هذه العلوم ما يحذر الأستاذ الإمام سوء تأثيره، وهي في نظر أديب إسحاق شرط للحرية، ولم يكتب شيء على الأنظمة الموروثة والتربية الشرقية أقسى مما كتبه الكواكبي على الاستبداد بقوله:
إن المستبد لا يخشى شيئاً من علوم اللغة التي لا بطولة وراءها ولا بلاغة ولا يخاف من علوم الدين التي لا تثير في طلابها حب الاستطلاع، وإنما هو يخشى غائلة علوم الحياة الحقيقة، ومعرفة الطبيعة والفلسفة والسياسة والتاريخ00
وهكذا نرى أن إجماع الكلمة على الترقي العقلي كان يبطن اختلافاً شديداً في الآراء منذ بدء النهضة. أعني أن عمل التهذيب الشعبي الذي بدئ به في خاتمة القرن التاسع عشر كان يشعر بحركة الأفكار الحاضرة ويشتمل على بذور اختلافها.
ويظهر هذا الاختلاف على الأخص بالتباين في الأقوال والأفعال. فإن أقوال الكتاب لا
تزال تعبر بعبارات مختلفة عن استيائها من عدم الأخذ بالأفكار الحديثة وأما الأفعال فإنها تبدي للملاحظ من الخارج مشهد سلسلة من الغفلات. إن المنطق بعيد عنها لأنها محسوسة، لذلك نرى أن حسن حسين هيكل يعتقد أن تعريب نظريات هيكل (الفيلسوف الألماني) في التكامل مفيد، ويعين بنفسه على نشرها وقد افتتح كتابه المعرب بمقدمة، تشعر فيها برد أديب يدل على إنكاره لآرائه، ولكن ذلك لم يمنعه من الاعتقاد أن نظرية النشوء والارتقاء قد أشير إليها في مقدمة ابن خلدون، فله إذن شرف الانتباه إليها، أو الملامة عليها؟ ومن البين أن المؤلف لم يستطع أن يطرح هذا السؤال الأخير، ولا أن ينتهي به الشعور الجلي، فقد أصبح غامضاً بالاشتباه الحاصل في القيم الأجنبية. إن الجهد المبذول لتوحيد القديم والحديث ينتهي إلى انعكاسين متباينين قد يعبر عنهما بعبارتين متضادتين: أولاً رأي حديث أجنبي متهم، ثانياُ وقال به مع ذلك القدماء.
وكثيراً ما يظهر هذا التضاد المشهود عند اقتباس العادات الأجنبية فمسألة الاقتباس هي كذلك كثيرة التعقيد كمسألة الحجاب. فإنه لا يزال في الشرق يثير النضال بين أنصار القديم والحاضر، واستشهد على ذلك بمحاضرة الشيخ عبد القادر المغربي التي ألقاها في جمعية تهذيب الشبيبة السورية ببيروت عام 1928، وعنوانها محمد والمرأة ذكر فيها أنه بينما كان النبي (ص) يعامل النساء معاملة حرية ومساواة، كان مجمع (ماقون) بالاتفاق العجيب يبحث عما إن كانت المرأة إنساناً من البشر؟ وفيما فسر به الحجاب إبهام، يجعله حاجباًً للمرأة عن الابتذال. وأنه عادة الملوك والملكات والعظماء. ولا يزال الحجاب شأنهم إلى هذه الأيام، وإن التأثير الشعبي هو الذي ألجأ النبي إلى حجب النساء وهو المظهر الارستقراطي الوحيد الذي ظهر به النبي بتأثير مقتضيات الأحوال.
وماذا يستنتج من ذلك؟ أن الكل قديم: حرية المرأة، ومساواتها بالرجل (بل امتيازها عليه) وحتى السفور فإنه قديم، إذن فليست العوائد مقتبسة وإنما هي متأصلة في الأمة.
ونذكر المثال الآتي لبيان حكم المشارقة على مدنياتنا، وهو مقتبس من البيانات المنشورة في مجلة الهلال عام 1928. من الدكتور عبد الحق الأستاذ في جامعة حيدر آباد الدكن الهندية في طريقة إلى مؤتمر المستشرقين باكسفور ذاهباً إليه ليمثل جامعته العثمانية الموسوعة باسم حاكم الولاية نظام عثمان عي خان قال ما تعريبه: إن مواطنيّ لا يزالون
ينظرون شزراً إلى تركية هذه الأيام. إن الرابطة الوحيدة التي كانت تربطنا بالأتراك عي الإسلام، وقد قطعوه اليوم. إن الرابطة الشرقية ليست في درجة واحدة من الخطورة في نظر الهنود، ولو اهتموا بها لكان أحرى بهم أن يرتبطوا باليابان والصين. كان الهنود فيما سبق يحترمون الأتراك ويحبونهم مسلمين، أما اليوم فأنهم يشعرون لهم بالخصومة التي يشعرون بها للغربيين. نحن لا نأبى أن يتمدن الأتراك، ولا أن يقتبسوا عناصر المدنية الغربية، ولكننا نفضل لهم أن يحافظوا على الطابع الشرقي، وعلى أخلاقهم وعاداتهم القيمة أه -. إن مثال الأتراك هذا يؤخذ منه درس أخلاقي وفلسفي واضح في ظاهرة كل الوضوح: ما هو الفرق بين المدينة الشرقية والغربية؟ إن مدنية الغرب مادية، والمدنية الشرقية روحية إن نص كلام الدكتور عبد الحق لا يبين أسلوباً جديداً في سلوك الأمة ولا يعطينا بأنه بنفسه لا ينهج نهج الأتراك. . .
وأود أن لا يرى القارئ في هذه الأمثلة نقداً للفكر الشرقي. إنا نعيد قولنا أن انكليزياً أو فرنسي أو غيرهما أحدهما بالارتياب عينه في كثير من هذه الظروف والأحوال، بيد أن التحولات السياسية والاجتماعية في الشرق تجعل الارتياب عملاً عاماً وظاهراً. إن خشونة الاتصال بالأجانب، وقوة الذكريات تجعل في الأفكار والمطالب نوعاً من التوتر والعناد الظاهر. إن شخصية الشرقي، بمقدار إيجابها الاستمرار مع الماضي، تدخل في نزاع مع آمالها الذاتية، وينتهي هذا النزاع بصور شتى، فتارة تبقى الرغبات المعاكسة، وطوراً تتموضع المعاكسة على بعض المسائل فيتكاثف الغموض من حولها. حيناً آخر تصيب الفكرة الوحدة والطمأنينة ولكن متباعدة عن العمل والحقيقة. هذه هي أشكال الارتباك الذي تمتاز به على ما يظهر عقلية البلاد السريعة في تقدمها وترقيها. وقد بقي علينا أن نبين المخرج. والحاصل إن حال المشكل يتوزع على نزعتين متطرفتين: إحداهما عصرية لا تترد في أن نصار الثقافة الأوروبية. والثانية محافظة تعتقد بوجوب الاستقاء من ينابيع التقليد الوطني، ونحن الآن لتحليل كل من هاتين النزعتين، ولكن هذه الرسالة لا يتسع صدرها للتفصيل وسنورد في العدد الآتي بعض الأمثلة على ذلك.
جان لوسرف