الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب والعالم
للكاتب النمساوي شتيفان تسوايغ
كنت في سفينة طليانية تتنقل بنا في البحر الأبيض المتوسط من جنوا إلى نابولي ومن نابولي إلى تونس ومن تونس إلى الجزائر. وكان مقرراً أن تدوم هذه الرحلة أياماً طويلة ولما رأيت السفينة تكاد تكون خالية من الركاب فقد اضطررت إلى الدخول في الحديث مرات عديدة مع أحد البحارة وهو شاب يعاون الخادم فيكنس الغرف وينظم الممشى ويقوم بما يشبه ذلك من الأعمال التي تعتبر حقيرة بين الناس.
كان في مقتبل العمر يتدفق بهجة وسروراً يبهر منظره الناس ويستلفت أبصارهم بلونه الأسمر الجميل وعينيه السوداويين البراقتين وأسنانه البيضاء اللامعة.
وكأن الشاب شعر بعطفي عليه واقتصار حديثي معه وحده من بين جميع البحارة فأخذ يسترسل في الكلام معي ولا يكتم عني شيئاً من الأسرار وهكذا لم ينقض يومان فقط حتى أصبحنا مثل صديقين أو رفيقين قديمين.
ولكن على أثر حادث طفيف شعرت فجأة كأن سداً منيعاً ارتفع بيني وبينه.
فقد كنا في مرفأ نابولي ثم غادرت السفينة بعد شحن الفواكه والخضر وأخذ الفحم والركاب والبريد وأصبحنا نرى السحب فوق بركان (الفيزو) من بعيد كأنها دخان سيكارة يتبدد في الهواء. وإذا بالشاب يقترب مني على حين غرة وضحكة سعيدة مرتسمة على شفتيه وأعطاني كتاباً استلمه، على ما يظهر، قبل برهة صغيرة في نابولي وطلب مني أن أقرأه له.
لم أفهم في بادئ الأمر ماذا يقصد. وذهب بي الظن إلى أن (جوفاني) وصله كتاب بلغة أجنبية، بالفرنسية أو بالألمانية، وعلى أكبر احتمال من فتاة، لأنه كان طبيعياً أن يحظى هذا الفتى الجميل بعطف النساء وميلهن، فيظهر أنه يريد مني ترجمة الكتاب إلى الطليانية. ولكن لا. لقد كانت الرسالة بلغة (جوفاني) إذاً ماذا يريد؟ هل اطلاعي على ما جاء فيه فقط؟
كلا أجابني مكرراٌ قوله بشيء من الشدة والضجر، بل أرجو أن تقرأه لي لأسمعه.
وفجأة أدركت كل شيء: إن هذا الشاب الجميل الذي يظهر عليه من الطبيعة العقل والأدب
واللطف لا يعرف القراءة فهو أحد الأميين الذين تقول الإحصاءات أنهم يبلغون 7 - 8 في المائة بين أفراد الأمة الطليانية. .
أنه أمي. ولم أكن في تلك اللحظة أذكر أنني حادثت من قبل أحداُ من الأميين الذين يكاد ينقرض أثرهم في أوروبا.
إن (جوفاني) هذا كان أول أوروبي صادفته لا يعرف القراءة، فلا عجب إذاً أنا نظرت إليه في تلك اللحظة بكثير من الاستغراب ولا غرابة إذا أنا لم أعتبره حينئذ صديقاً ورفيقاُ كما في السابق بل أعجوبة.
على أنني بطبيعة الحال قرأت له الكتاب الذي كان مرسلاُ إليه من خياطة اسمها (مارية) أو (كارولينا) ولا يخرج مضمونه عما اعتادت الفتيات أن تكتبه إلى الفتيان في جميع البلدان وبكل اللغات.
كان (جوفاني) أثناء القراءة لا يحول أنظاره عن فمي وكنت ألاحظ عليه آثار الانتباه الشديد ليلتقط كل كلمة، فكانت عضلات جبهته تتجمد وملامح وجهه جميعها تتوتر من الجهد الذي يبذله لسماع الرسالة وحفظ كلماتها بالتمام، وقد قرأت له الرسالة مرتين قراءة بطيئة، واضحة لئلا تفلت منه أية جملة أو كلمة فأخذ يظهر عليه الرضى والسرور المتزايد وبدأت عيناه تلمعان وانفرج فمه كأنه وردة تتفتح.
ورأينا من بعيد أحد ضباط السفينة قادماُ فأسرع (جوفاني) واختفى لمتابعة عمله.
هذا هو الحادث بتمامه. إنما لا يمكن تقدير أهميته إلا بعد سرد ما أعقبه في نفسي من التصورات ومعرفة ما جال في خاطري من الأفكار تحت تأثيره المباشر.
فإنني لما بقيت وحدي اتكأت على مقعد
طويل وسرحت نظري في سماء الليل الهادئ الرقيق، ولكن كنت أشعر أن هذا التصادف الغريب قد آثار نفسي في أعماقها وبعث فيها الشيء الكثير من القلق. أنها المرة الأولى التي التقيت فيها برجل أمي، هو فوق ذلك من الأوربيين تعرفت إليه قبل أيام فألفيته عاقلاً، ذكياً وتحدثت إليه كصديق ورفيق والآن أخذ أمر هذا الرجل يشغل بالي، لا بل يزعجني ويدفعني إلى التفكير في حل هذا اللغز ومعرفة كيف يتمثل العالم في مثل هذا الدماغ الذي لم تنطبع فيه آثار القراءة
لقد حاولت أن أتصور حالة من لا يستطيع القراءة وجربت النفوذ إلى نفس هذا الرجل، إنه يتناول صحيفة فلا يفهمها، ويمسك كتاباً فيحس به في يده كشيء أخف من الحطب أو الحديد، شيء مستطيل ملون لا فائدة له فيعود ويضعه مكانه دون أن يعرف ماذا يصنع به. . يقف أمام مكتبة فيرى هذه الأشياء الجميلة الصفراء والخضراء والحمراء والبيضاء بجلودها المذهبة ولا فرق عنده بينها وبين زجاجات العطور الملونة التي لا سبيل إلى استنشاق عبيرها من وراء البلور، أنه لا يستطيع أن يتصور البهجة العظيمة التي يمكن أن تنفجر فجأة من سطر واحد في هذه الكتب كما ينبثق القمر الفضي من السحب المظلمة الميتة، هذا المسكين إنه لا يعرف الرعشة التي كثيراً ما تهزنا إذا قرأنا وصف حادثة من حياة شخص يتخيله الكاتب فلا تملك أنفسنا من أن نعيش معه ونشاركه في مقدراته، فهو يعيش منفرداً كأن جداراً يحيط به لأنه لا يعرف شيئاً من الكتب ويقضي الحياة في ظلمة وجمود، وقد سألت نفسي كيف يمكن احتمال مثل هذه الحياة دون أن نختنق وكيف نستطيع البقاء دون أية صلة بالمجموع؟ كيف يمكن الصبر على عدم معرفة شيء سوى ما نبصره ونسمعه بالتصادف وكيف يمكننا التنفس دون استنشاق هواء العالم الذي يتدفق من الكتب؟
لقد حاولت بجهد متزيد أن أتصور حالة عدم معرفة القراءة وأتخيل موقف من لا صلة له بعلم الفكر وسعيت كثيراً لأتمثل في ذهني حياة مثل هذا الرجل كما يسعى العلماء بتنقيب آثار العصور الحجرية القديمة أن يتمثلوا معيشة الإنسان الابتدائي ولكنني لم استطع الرجوع بنفسي إلى ذهنية رجل أوروبي لم يقرأ كتاباً أبداً وتيقنت استحالة ذلك وإنني في هذه الحالة لا فرق بيني وبين أصم يحاول تصور الأنغام الموسيقية. . .
على أنني بعد أن عجزت عن فهم ذهنية الرجل الأمي رأيت أن أحاول تصور حياتي الذاتية منفصلة عن الكتب، فبدأت أسعى للتجرد ساعة عن كل ما اقتبسته من الكتب ولكن منذ أول الأمر تيقنت من استحالة ذلك لأنني رأيت أن ما أسميه ذاتي وما يتكون منه مفهوم (الأنا) سوف يذوب ويتحلل ولا يبقى منه شيء أبداً أذا حاولت تجريده من جميع ما اقتبسته عن الكتب من علم وتجربة وقوة وعاطفة ومن معرفة بالعالم وشعور بالذات أي شيء حاولت أن أفكر فيه كنت أرى الذكريات والتجارب التي استفدتها من الكتب ترتبط به وكل كلمة تخطر لي كانت تثير بالتداعي مالا يحصى من آثار القراءة والتعليم، إذا فكرت مثلاً
أنني أسافر الآن إلى الجزائر وتونس فإن ألافاً من الأفكار تتداعى بسرعة البرق وتتبلور حول هاتين الكلمتين فأتذكر قرطاجنة وعبادة (بعل) وسالامبو والمنظرة التي يصف فيها المؤرخ ليفيوس تلاقي سيبيون مع هانيبال في (زاما) ومرت أمام مخيلتي الصورة البديعة التي رسمها (دولاقروا) ووصف رائع لتلك البلاد في كتب (فلوبير).
وغير ذلك آلاف التفرعات التي قامت حية في ذاكرتي ومخيلتي بمجرد تلفظ كلمتي تونس والجزائر - لقد تذكرت البلدتين منذ آلاف السنين والحروب التي قامت فيها وتزاحمت علي جميع المعلومات التي كنت قرأتها وتعلمتها منذ أيام الطفولة.
حينئذ عرفت أن من يقتبس ما في الكتب من تجارب غيره ويتعلم ما تشرحه من أحوال جميع البلدان والعصور والأجيال هو وحده الذي يحصل على نعمة الإحاطة بالعالم في فكره ويمتاز بهذه القدرة النادرة، العجيبة التي تجعله يشرف على الكون من جميع الجهات وقد شعرت بقشعريرة عندما تصورت عكس هذه الحال إذ يضيق العالم وتنحصر حدوده في نظر من لا علاقة له بالكتب.
تذكرت مواقف حاسمة من حياتي كان لما قرأته في الكتب من الآراء أكبر الأثر فيها وخطر لي كثير من الساعات الماضية التي انقطعت فيها إلى قراءة بعض الشعراء القدماء فكانت هذه الساعات أثمن وأعز لدي من بعض الاجتماعات بالأصدقاء والنساء، وكلما أمعنت في التفكير ازداد يقيني بأن عالمنا الفكري يتألف من ملايين من الذرات التي تبقى من انطباعاتنا المتوالية وأن عدداً صغيراً جداً من هذه الذرات يرجع وحده إلى تجاربنا ومشاهداتنا الخاصة بينما جميع القسم الأخر وهو المجموع الذي عليه العمدة إنما جاءنا من الكتب، مما نقرأه ونتعلمه.
وكل من انكشفت له هذه الحقيقة وعرف قيمة الكتابة والقراءة وأهمية التفاهم الفكري بمعناها الواسع، لابد أن يبتسم ساخراً من الخنوع والذل الذي استولى اليوم على الكثيرين من أصحاب القلم والفكر. فهم يبثون الشكوى من أن عصر الكتب قد انقضى وأن السيطرة الآن للصنعة والاختراعات الفنية ويقولون إن الغراموفون والسينما الناطق والراديو قد أخذت تزاحم الكتاب في نقل الكلام والأفكار بصورة أدق وأسهل ولذلك ربما لا يمضي زمن حتى يفقد الكتاب أهميته في الحضارة ويصبح من الآثار التاريخية.
ولكن ما أقصر مثل هذا النظر وما أضيق مثل هذا الفكر!
هل استطاع العلم والفن الصناعي منذ آلاف السنين إيجاد شيء يفوق اختراع الكتاب، بل يضاهيه؟ فإن الكيمياء لم تكتشف مادة مفرقعة تقرب من الكتاب في تأثيره البعيد المدهش، ولم تصنع من صفائح البولاد والشمنتو المسلح ما يزيد في المتانة والبقاء على هذه الحزمات الصغيرة من الورق المطبوع ولم يتوصل الفن إلى إبراز شعلة كهربائية يضاهي نورها ما ترسله بعض المجلدات من أنوار. ومن الصعب أن نقايس بين أعظم التيارات الكهربائية الصناعية وبين الهزة التي تعتري النفس عند تماسها ببعض الكتب.
ليس من خوف من جانب الصناعة والفن على الكتاب الذي لا يبيد ولا يبلى ولا يتغير على ممر الأيام والذي يجمع أعظم قوة ممكنة في أصغر وأبسط حيز ممكن بل أليس الصناعة الفنية نفسها إنما يمكن تعلمها وتطورها وتقدمها بالكتب؟ فالكتاب هو كل شيء ليس في حياتنا الخاصة فقط بل في جميع الأمور وهو المبدأ والمنتهى في كل معرفة وعلم.
كامل عياد