الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ارنست رنان - للدكتور أنور حاتم
بقية المنشور في الصفحة 738
في فرنسا مقاطعة الأحلام والتأملات، بعيدة عن العالم، منفردة في الجنوب، تلامسها أمواج البحر الاطلنتيكي وتتراكم في سمائها الغيوم، حزينة قاحلة تمتد على شواطئها الصخور ويغشاها الضباب، ينشأ سكانها في ذلك الإقليم الكئيب فتساورهم الكآبة ويقضون حياتهم في وحشة وجود غير الذي نحن فيه فتثور عواطفهم ويتسع خيالهم ويتولد في قلبهم اليأس. بريطانيا الصغرى وطن شاتوبريان ولامونيه اللذين تتغلب فيهما دقة الحس على قوة العقل - هي أيضاً وطن ارنست رنان.
ترعرع رنان بين والدين تقيين وقد ظن نفسه أهلاً للرهبنة فانقطع إلى مدرسة اكلير كية ولكنه بعد أن تعلم وأنهى تحصيله شعر بأنه أضاع إيمانه بالدين فرفع تحت تأثير أخته هنرييت ثوبه الأسود ورجع إلى تلك الدنيا التي هجرها بدون تفكر ولكنه لم يعتم أن شعر بعدم مؤالفته لحياة الناس كأن هناك هوة عميقة تفرقه عن أقرب الخلق إليه. فانعزل عن الدين والدنيا وانكب على العلم وقد قال وهو في مقتبل العمر التفكير والحس هما كل نفسي، هما ديني وهما ألهي.
أراد رنان أن يداوي اضطراب نفسه بالدرس والمطالعة. فتش عن حقيقة الأديان فلم ير إلا أفكاره المضربة وأخلاقه اليائسة وأراد أن يورد لنا صورة صادقة للشعوب البائدة فمثل لنا ما أنتجه خياله التائه الحائر. لم يك لرنان رفيق غير نفسه وقد أبدع لنفسه عالماً وهمياً عاش فيه واسكن فيه الأشباح التي أبدعها وفهم موسى والمسيح ومحمداً لا الذين عرفهم التاريخ ولكن الذين وصفهم ارنست رنان نفسه.
إن الخيال ضروري في التاريخ فالخيال يهب الحياة للأجيال الميتة ينعشها فينهض أبطال الماضي من غفلتهم ليعيشوا أمامنا كأنهم أبناء عصرنا ونشعر بأنهم رجال مثلنا يفرحون ويتألمون كما نتألم ونفرح، لهم عيوب وفضائل وأجساد ونفوس.
قاوموا الأيام كما نقاومها نحن فتارة فشلوا وتارة فازوا وطبيعة الإنسان واحدة لا تغيرها الأزمان، والعاطفة ضرورية لكتابة التاريخ إذ يستحيل على أن يتجرد عن عواطفه مادام إنساناً ولكن العواطف لا تمنع العدل في الحكم ولا يضل المؤرخ إن كان مخلصاً عن
البحث النزيه والتنقيب بين الوثائق التاريخية. ولكن ارنست رنان أساء استعمال الخيال والعاطفة في تأليفه فلم تكن أحكامه نتائج بحث ولكنها تولدت في عقله قبل أن يشرع في البحث فحرقت من آرائه وقادته إلى طريق الضلال.
كانت نفسية رنان قريبة من نفسية الشعوب السامية وقد باشر صغيراً في درس اللغات السامية عندما كان يستعد للحياة الاكليركية في سان سولبيس وأول من علمه اللغة العربية مستشرق يدعى (لوهير) ولوهير على زعم رنان عالم بالعبقرية والسريانية ولكنه ضعيف بالعربية فلهذا السبب لم يتمكن رنان من حفظ أصول هذه اللغة وعند خروجه من سان سولبيس أكمل دراسة اللغة العربية على رينو في المكتبة الملوكية (المكتبة الوطنية) و (كوسان دي برسفال) مؤلف تاريخ العرب قبل الإسلام ودرس الفارسية على الأستاذ كاترمير المعروف بشراسة أخلاقه واللغات الهندية على الفيلسوف برنوف واهتم بالدروس الصينية تحت تأثير الأستاذ ستانيسلاس جوليان ورافق العالم الأثري الفرنسي مارييت باشا في أحدى رحلاته لمصر ليدرس معه اللغة والآثار المصرية. درس جميع هذه اللغات ولم يبرز في واحدة منها ولم يظهر كفاءة في مادة من مواد تلك اللغات. أقام سنة كاملة في سوريا (من تشرين الأول 1860 إلى تشرين الأول 1861) لاكتشاف الآثار الفينيقية وقد فتش طويلاً في بيروت وصيدا وجبيل وعمشيت (حيث توفيت أخته هنرييت ودفنت) وطرطوس وأم العواميد عن الآثار فلم تأت رحلته الطويلة بفائدة علمية تذكر وقد أثبتت رحلات من عقبه من المستشرقين قلة اطلاعه وقد أطنب أصحاب رنان بذكر طول باعه في اللغة العبرية ولكن علماء اليوم هدموا كل ما بناه رنان بالأمس فيما يتعلق بالتاريخ الإسرائيلي وكل من درس اليوم كتب رنان يعرف تأثير شتروس وهرددر وكروزر وهيفل من كتاب الألمان في مذاهبه المبتكرة. وقد أظهر عداوة غريبة للعرب والإسلام، وحدث صهره جان بسكاري بأنه لما كان رنان صغيراً وضع قصائد عديدة مطلعها جميعها: اسحقوا الأتراك وأنكر على العرب علومهم وفلاسفتهم ونسب النهضة العربية في بغداد والأندلس إلى اليهود والروم.
وتحمس للشعر الجاهلي من دون أن يدرك معانيه وزعم أن الفرس ضحية العرب والإسلام مع أن الفرس متمسكون بالإسلام أكثر من العرب أنفسهم. أما سوريا فقد سحر برقة جبالها
وديانها ومياهها العذبة وحاول أن يسند إلى مناظرها الفتانة أسباب انتشار المسيحية في نواحيها بعد وفاة المسيح وبدأ يكتب حياة المسيح أثناء إقامته في سوريا ويظهر من كتبه إلى صديقه برتلو إنه لولا زيارته لسوريا لكان غير رأيه في الديانات السامية فسوريا مسؤولة إذاً عن روايات رنان وأحاديثه وأوهامه فالذنب كل الذنب على تلك البلاد الجميلة التعيسة!!
وإذا أردنا أن نحلل مذاهب رنان الاجتماعية نرى أن لرنان مذهباً واحداً هو الابتعاد عن كل المذاهب وقد قيل عن موقفه أمام المبادئ الفلسفية إنه أشبه بطفل في غرفة مملوءة بالدمى وضعت تحت تصرفه فينظر فيها ويجر بها ويلعب بها ويحطمها واحدة بعد الأخرى ولم يترك حين خروجه إلا قطعاً مختلفة الألوان فرنان نفسه لا يعرف إن كان أدبياً مبدعاً أو عالماً بحاثة أو فيلسوفاً اجتماعياً، ولسنا نعرف أكثر منه عن ذلك. عاش رنان حائراً متردداً متشككاً في آرائه ومعتقداته تتقاذفه الأديان تارة وطوراً تضله العلوم، عاش تائهاً حائراٍ لا يدرك ما يحويه الوجود من الظلمات، شك رنان لأنه كان يرى الحقيقة تتلألأ حيناً في كل مذهب من مذاهب الإنسان وحيناً يرى أن كل ما أبدعه الفكر البشري فاسد، ومن كان بهذه العقلية فلا يبارى في التناقض، فبعد أن رفع رنان العلم فوق الدين وبعد أن صرح بأن كل شيء يزول ما خلا العلم (العلم معناه الخلود) شك في حقيقة العلوم ومنفعتها وأنكر رنان وجود الله ونادى في ظروف أخرى بأن الله واحد أزلي خالق للبشر. وقضى رنان عمره في الدرس والمطالعة. قال شيخوخته أن لا فائدة من أعماله وبعد ذلك تمنى أن يعيش أعماراً عديدة ليطلع على كل العلوم. وقد حاول أن يطبق على جميع أبحاثه العلمية ميزان طبيعته المتقلبة السيارة فجاءت تلك الأبحاث كثيرة القلق كأنها مبنية على ماء.
عاش رنان منفرداً متعجرفاً معتقداً أنه نابغة كل الاعتقاد وكانت ساعة موته مناقضة لجميع أعماله وقد وصفها لنا جان بسيكاري إذ أغلق له عينيه للمرة الأخيرة.
قال: كان رنان مضطجعاً على فراشه في داره المجاورة لمعهد الكوليج دي فرانس كانت عيناه متجهتين نحو النافذة فخيل إليه أنه بين هياكل اليونان فصرخ قائلاً: ارفعوا الستار عن النافذة أريد أن أرى الشمس تضيء فوق معبدنا ولما اقترب منه الموت دعا جان بسيكارى إليه وقال له: اعرف أن آثاري ستزول بعد موتي وأني سأصبح شيئاً منسياً. أنا
أعرف بأني سأصبح شيئاً منسياً، شيئاً منسياً.
ولم يمض على هذا القول أربع وعشرون ساعة حتى قضى رنان نحبه بين ظلمات الشك وشبهات القلق.
أنور حاتم