المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٨

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام

‌صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام

تابع لما قبل

للأستاذ وصفي زكريا

ذكرت في العدد الماضي أن أمراء قبيلة الموالي الحاضرين في زمننا والمعروفين بأولاد أبي ريشة منحدرون من عيسى بن مهنا الفضلي الربيعي الطائي. وسأذكر الآن أدلتي على ذلك مبتدئاً بأصول آل عيسى ونازلاً نحو فروعهم مع بيان أحسابهم وقصص أحداثهم وحالات معاشهم ورفههم وأساليب الإدارة التي كانت تنفذ فيهم في دول الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، مستنداً إلى أوثق المصادر التي أتيح لي الوصول إليها، خدمة لهذه الناحية الغامضة من تاريخ الشام ودرءً لزعم أولئك الأمراء من أنهم عباسيون من أعقاب شقير بن هارون الرشيد وأنهم وانهم. إلى آخر ما سوف أرويه وأفنده، خصوصاً وأن في انتسابهم إلى عيسى بن مهنا وأعقابه الذين كانوا ملوك البادية وساداتها شرفاً منيفاً يغنيهم عن ذلك الزعم السخيف.

ذكر القلقشندي في صبح الأعشى (ج1) ما خلاصته: إن العرب العرباء هم بنو قحطان، وإن من يعرب بن قحطان قبيلة كهلان بن سبأ الذين أخذوا الرياسة على العرب بالبادية بعد تقاصر ملك حمير، ومن أحياء بني كهلان طيء أخذاً من الطاءة وهي الأبغال في المرعى. وهم بنو طيء بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن أزد بن كهلان والنسبة إليهم طائي وإليهم ينسب حاتم الطائي المشهور بالكرم وأبو تمام الطائي الشاعر المشهور. قال ابن خلدون في العبر: وكانت منازلهم باليمن فخرجوا منها على أثر خروج الأزد عند تفرقهم بسيل العرم فنزلوا بنجد والحجاز على القرب من بني أسد ثم غلبوا بني أسد على جبلي أجا وسلمى من بلاد نجد فنزلوهما فعرفا بجبلي طيء إلى الآن ثم افترقوا في أول الإسلام زمن الفتوحات في الأقطار، ومنهم أمم كثيرة ملأوا السهل والجبل حجازاً وشاماً وعراقاً وهم أصحاب الدولة في العرب لهذا العهد (القرن التاسع) في العراق والشام ومصر. ومنهم بنو هناء بن عمروا وابن الغوث بن طيء. وكانت الرياسة على طيء في الجاهلية لبني هناء ومن ولده إياس بن قبيصة الذي أدال به كسرى ابرويز النعمان بن المنذر حين قتله وانزل طياً بالحيرة مكان لخم قوم النعمان وولى على العرب منهم إياساً هذا فكانت له

ص: 25

ولأعقابه الرياسة إلى حين انقراض ملك الفرس. ومن عقب إياس هذا بنو ربيعة بن حازم ابن علي بن مفرج بن دغفل بن جراح. ويزعم كثير من جهلة البادية من بني ربيعة أنهم من ولد سميع بن جعفر بن يحيى البرمكي وإن سميعاً هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد بن جعفر المذكور وكانت سبب نكبة البرامكة زعم كاذب لا أصل له وحاشا لله من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي بنات كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من بني برمك وأمثالهم

وكانت رياسة طيء في أيام الخلفاء الفاطميين لبني الجراح وكان كبيرهم مفرج ابن دغفل بن الجراح وكان من أقطاعة الرملة. وهو الذي قبض عليه سنة 368 على افتكين أحد قواد بني بويه الذي ولاه الدمشقيون عليهم لما رأوا من عسف عمال الفاطميين وكان الخليفة الفاطمي العزيز ابن المعز لدين الله خرج لقتاله وجعل لمن يحضر افتكين مائة ألف دينار، ولما كسر افتكين وانهزم طلب بيت صديقه مفرج بن دغفل الطائي فغدر به مفرج وأسره وسلمه إلى العزيز واستحوذ على الجعل وعلى إقطاع الرملة. ولما كثرت جموع مفرج وقويت شوكته شق عصا الطاعة وصار يعيث في فلسطين متغلباً على جنوب الشام يعيث ويصادر ويخرب إلى أن سير الحاكم بأمر الله عليه جيشاً لجباً في سنة 404 وقبل وصول هذا الجيش مات مفرج واتصل بأولاده قصد العساكر إليهم فذهبوا مع العرب إلى البرية وتخلوا عن الرملة وغيرها من البلاد التي غلبوا عليها. ثم تولى ابنه حسان ولما ضعف شأن الخلفاء الفاطميين والنقرض بنو حمدان وتقاسمت أمراء القبائل العربية بلاد الشام كان شمال من حصة صالح بن مرداس أمير بني كلاب ووسطه لسنان بن عليان أمير بني كلب وجنوبه لحسان بن مفرج الطائي. وقصد حسان الرملة سنة 415 ففتحها وأتى عليها حرقاً ونهباً وأسراً. وفي السنة 416 جهز الخليفة الظاهر جيشاً لقتال صالح بن مرداس وحسان بن مفرج فلاقياه عند طبرية فانكسرا فقتل صالح وانهزم حسان والتجأ إلى قيصر الروم. وجاء مع جيش الروم سنة 422 وعلى رأسه علم فيه صليب ووصل إلى أفامية وملك قلعتها المعروفة في يومنا بقلعة المضيق وغنم ما فيها (فتأمل).

ويظهر أن بني طيء - وهم بيت القصيد في مقالنا - وجد بعضهم إذ ذاك في شمالي الشام فقد عدهم ابن خلدون في جملة القبائل التي كانت منتشرة في القرن الرابع ما بين الجزيرة

ص: 26

والشام في عدوة الفرات كبني كلاب وبني كعب وبني عقيل وبني نمير وبني قشير وكلهم من عامر بن صعصعة من العدنانية كانوا كالرعايا لبني حمدان أصحاب حلب يؤدون إليهم الإتاوات وينفرون معهم في الحروب. ثم استفحل أمرهم عند فشل دولة بني حمدان وساروا إلى ملك البلاد ففي سنة 344 اجتمعت القبائل المذكورة بعضهم في مروج سلمية وبعضهم في عين الزرقاء بين خناصرة وأسريا وتشاركوا ما لحقهم من سيف الدولة وتضافروا على حربه وهاجموا عماله وقتلوا بعض نوابه وكان مشغولاً عنهم بغزو الروم فزاد طمعهم وبعث ينصحهم فلم يرتدعوا فخرج إليهم من حلب إلى سلمية فواقعهم فيها وفتك بهم ولحق جموعهم وفلوهم إلى الفرقلس والغنثر وتدمر يقتل وياسر ويصفح وامتدحه يومئذ المتنبي بقصيدة جاء فيها ذكر سلمية منها:

اقبلها المروج مسوملت

ضوامر لا هزال ولا شيار

تثير على سلمية مسبطراً

تناكر تحته دون الشعار

وفي قصيدة لأبي فراس الحمداني يفخر بتلك المواقع:

سقينا بالرماح بني قشير

ببطن الغنثر السم المذابا

ثم استفحل أمر هذه القبائل لما انقرضت دولة بني حمدان في غرة القرن الخامس وضعف شأن الخلفاء الفاطميين فتقاسموا بلاد الشام على ما قدمناه وتحضروا وأنشأوا ممالك، فدام ملك بني مرداس الكلابيين في حلب وأعمالها سبعون سنة (402 - 372) إلى أن أخذ الملك منهم بنو عقيل أصحاب الموصل ومنهم شرف الدولة مسلم بن قريش كان له من الموصل إلى حلب، ثم دام ملك هؤلاء إلى أن قرضه نور الدين محمود بن زنكي سنة 564. أما بقية القبائل التي ظلت بادية فقد ضعف شأنها واضمحل فمنها من عاد إلى قلب الجزيرة العربية وضاع خبره من اندمج في بني طيء لما عظم شأنهم ونبه ذكرهم في شمالي الشام فتضاء اسمه وذاب جسمه في بيئتهم.

وصارت الرئاسة في طيء إلى آل ربيعة. قالوا وكان ربيعة أمير عرب الشام في غرة القرن السادس في عهد الأنابك طغتكين ثم خلفه في إمارة ابنه مراء بن ربيعة الذي ذكر له أبو الفداء حادثة خطيرة مع الصليبيين. قال أبو الفداء:

(ج2 ص243) وفي سنة 513 سار جوسلين صاحب تل باشر إلى بلاد دمشق ليكبس

ص: 27

العرب بني ربيعة، وأميرهم إذ ذاك مراء بن ربيعة فتقدم عسكر جوسلين قدامه فضل جوسلين عنهم ووقع عسكره على العرب وجرى بينهم قتال شديد انتصر فيع مراء بن ربيعة وقتل وأسر من الفرنج عدة كثيرة اه -.

ثم انقسم آل ربيعة إلى ثلاثة أفخاذهم المشهورين ومن عداهم أتباع لهم وداخلون في عددهم ولكل من الثلاثة أمير مختص به. وهم آل فضل بن ربيعة وآل مراء ابن ربيعة وهو أخو فضل وآل علي بن حديثة بن عقبة بن فضل بن ربيعة. قال القلقشندي في نهاية الأرب: قال الحمداني هؤلاء سادات العرب ووجوهها ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة وصيت عظيم إلى رونق في بيوتهم ومنازلهم وفد منهم فرج بن حية على الملك المعزايبك صاحب مصر (648 - 655) ونزل بدار الضيافة وأقام بها أياماً فكان مقدار ما وصل إليه من عين وقماش وإقامة له ولمن معه ستة وثلاثين ألف دينار. قال واجتمع أيام الظاهر بيبرس جماعة من آل ربيعة وغيرهم فحصل لهم من الضيافة خاصة في المدة اليسيرة أكثر من هذا المقدار كل ذلك على يدي. قال ابن فضل الله العمري المتوفي سنة 748 في مسالك الأبصار: قال الحمداني هذا واستكثره فكيف لو عمر إلى زماننا ورأى إليهم إحسان سلطاننا (يعني السلطان الملك الناصر بن قلاوون) والعطايا كيف كانت تفيض عليهم فيضا من الذهب العين بمئات الألوف والخلع والأطلس بالأطرزة المزركشة وأنواع القماش المفصل لملوكهم بالسمور والوشق والسنجاب والبراطس واللمع والباهي والعنابي من السكندي والمصنوعات المجوهرة وأنواع المزركش لنسائهم والسكر المكرر والأشربة المختلفة بالقناطير المقنطرة إلى ما ينعم به على أعيانهم من الجواري الترك والخيل للنتاج والفحول للمهائر مع ما يطلق لهم من الأموال الجمة من الشام ويقطع باسمهم من المدن والبلاد ويملك لهم من القرى والضياع ويعطى علماؤهم ويجري للائذين بهم والنجاة بجاههم من المكافآت العالية والشفاعات المقبولة في استخدام الوظائف وترتيب الرواتب والإطلاق من السجون والمراعاة في الغيبة والحضور إلى غير ذلك من تجاوز أمثال الكفاية في الإنزال والمضيف لهم ولأتباعهم منذ خروجهم من بيوتهم إلى حين عودتهم إليها مع مواكلة السلطان في مدة أقامتهم بحضرته غداء وعشاء والدخول في المحافل والخلوات وملازمته في أكثر الأوقات. . . الخ.

ص: 28

فأما آل مراء بن ربيعة فقد كانت ديارهم من بلاد الجيدور والجولان إلى الزرقا والضليل إلى البصرى ومشرقاً إلى الحرة المعروفة بحرة كشت قريباً من مكة إلى شعباء إلى نيران مزبد إلى الهضب المعروف بهضب الراقي وربما طاب لهم البر وامتد بهم المرعى أو أن خصب الشتاء فتوسعوا في الأرض وأطالوا عدد الأيام والليالي حتى تعود مكة المعظمة وراء ظهورهم ويكاد سهيل يصير شامهم ويصيرون مستقبلين بوجوههم الشام. وقد تشعبوا إلى آل أحمد بن جحى وآل مسخر وآل نمى وآل بقرة وآل شما وبيت الإمرة فيهم في آل أحمد ثم صاروا يتقاتلون بقسمة الإمرة. ويدخل في حلفهم بنو صخر وزبيد حوران ويأتيهم من عرب البرية المفارجة وآل برجس والخرسان وآل حسين الشرفا وخثعم وعدوان وغيرهم.

قال: وآل مراء أبطال مناجيد ورجال صناديد وأقيال قل كونوا حجارة أو حديداٍ لا يعد منهم عنترة العبسي ولا عرابة الأوسي إلا أن الحظ يحظ بني عمهم بأكثر مما يحظهم ولم تزل بينهم نوب الحرب ولهم في أكثرها الغلب. قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: كنت في نوبة حمص في واقعة التتار (التي جرت سنة 680) جالساً على سطح باب الأصطبل السلطاني بدمشق إذ أقبل آل مراء زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسومة والجياد المنطهمة وعليهم الكزغندات الحمر الأطلس المعدني والديباج الرومي وعلى رؤوسهم البيض مقلدين بالسيوف وبأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور وأمامهم العبيد تميل على الركائب ويرقصون بتراقص المهارى وبأيديهم الجنائب التي إليها عيون الملوك صوراً. وورائهم الظعائن والحمول ومعهم مغنية لهم تعرف بالحضرمية طائرة السمعة سافرة من الهودج وهي تغني:

وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة

ليالي لاقينا جذاما وحميرا

ولما لقينا عصبة تغلبية

يقودون جرداً للمنية ضمرا

فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه

ببعض أبت عيدانه أن تكسر

سقيناهم كأساً سقونا بمثله

ولكنهم كانوا على الموت اصبرا

وكان الأمر كذلك فإن الكسرة أولاً على المسلمين ثم كانت لهم الكرة على التتار فسبحان منطق الألسنة ومصرف الأقدار اه - قلت يظهر مما ذكره هذا الشيخ أن آل مراء بن ربيعة

ص: 29

اشتركوا في المعركة الهائلة التي جرت في حمص سنة 680 بين الملك المنصور قلاوون الصالحي والتتار - وكانت الدائرة على التتار - مع أبناء عمهم آل فضل ابن ربيعة على ما سوف نذكره. وقد سبق لجد آل مراء أن انتصر على الصليبيين سنة 513 كما قدمنا، لذلك ليس بمستغرب بعد هذه الانتصارات أن يجل الملوك الأيوبيين والسلاطين المماليك قدر أمراء الأعراب ويكرمونهم ذلك الإكرام الذي نوه به الحمداني والعمري ويداورونهم جلباً لمنفعتهم ودرءً لمفسدتهم فهم كانوا في بعض الأحايين عضد أولئك الملوك والسلاطين في الخطوب ورديفهم في الحروب أن بروا وأبلوا نصروا ونفعوا وأن نقضوا وختروا ضروا وافسدوا.

وأما آل علي بن حديثة فهم وإن كانوا من ضئضيء آل فضل فقد انفردوا منهم حتى صاروا طائفة أخرى وديارهم مرج دمشق وغوطتها بين أخوتهم آل فضل وبني عمهم آل مراء ومنتهاهم إلى الجوف والجبابنة إلى تيما إلى البرادع. وإنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى عيسى بن مهنا وهم أهل بيت عظيم الشأن مشهور السادات إلى أموال جمة ونعم ضخمة ومكانة في الدول علية. وكان أميرهم رملة بن جماز بن محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثة وكان جده أميراً ثم أبوه، قلد الملك الأشرف خليل بن قلاوون جده محمد بن أبي بكر أمرة آل فضل حين أمسك مهنا بن عيسى ثم تقلدها من الملك الناصر أخيه أيضاً حين طرد مهنا وسائر أخوته وأهله. ولما أمر رماة كان حدث السن فحسده أعمامه بنو محمد بن أبي بكر وقدموا على السلطان بتقادمهم وتراموا على الأمراء وخواص السلطان وذوي الوظائف فلم يحضرهم السلطان إلى عنده ولا أدنى أحداً منهم فرجعوا بعد معاينة الحين بخفى حنين ثم لم يزالوا يتربصون به الدوائر وينصبون له الحبائل والله تعالى يقيه سيئات ما مكروا حتى صار سيد قومه وفرقد دهره آه.

أما آل فضل فهم رأس الكل وأعلاهم درجة وديارهم من حمص إلى قلعة جعبر إلى الرحبة آخذين على شفى الفرات وأطراف العراق. قال ابن خلدون: هذا الحي من العرب يعرفون بآل فضل وهم رحالة ما بين الشام والجزيرة وبرية نجد من أرض الحجاز ينتقلون هكذا بينها في الرحلتين وينتهون في طيء ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهريم ومذحج أحلاف لهم باين بعضهم في الغلب والعدد آل مراء ويزعمون أن آل فضل كلهم كانوا بأرض

ص: 30

حوران فغلبهم عليها آل مراء وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها ثم اتصلوا برجال السلطنة فولوهم على أحياء العرب واقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا برياستهم على آل مراء وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريباً من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل وكانت معهم أحياء من أفار يق الأعراب يندرجون في لفيفهم وحلفهم.

يتبع

وصفي زكريا

ص: 31