المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عبقرية شوقي وعبقرية العرب للدكتور منير العجلاني ولد شوقي في مصر، فسكبت الشمس - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٨

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌عبقرية شوقي وعبقرية العرب للدكتور منير العجلاني ولد شوقي في مصر، فسكبت الشمس

‌عبقرية شوقي

وعبقرية العرب

للدكتور منير العجلاني

ولد شوقي في مصر، فسكبت الشمس في صدره شعاعاً حاراً ينضج الفكرة في غير عناء وصبر، وأوحى إليه الهلال الذي يداعب كرمة=ابن هاني في ليالي القاهرة، الساحرة، أغاريد الحب، ولقنته الأهرام الحكمة، وعلمته الفراعنة الكبرياء، فشوقي - إذن - صنع مصر وصورتها!

ولكن شوقي ليس مفخرة مصر وحدها، بل مفخرة العرب، في مشرق الأرض ومغربها، ذلك لأن نور مصر وأهرامها وفراعنتها وبدورها، ليست إلا خطوطاً فنية ألف شوقي ألوانها ورسم خطوطها على أسلوب المعلم الأكبر، (عبقرية العرب)، فكل رجل ينتمي إلى هذا المعلم بسبب يجد في شوقي صديقاً أو بكلمة أبرع يجد نفسه وشوقي من مدرسة واحدة، ويتذوقه، لأنه يتفهمه!

لم يكن شوقي الشاعر العاشق اليائس، ولا الجمال العميق، بل كان كاتباً بليغاً ينظم نثره، وشاعراً وطنياً يزود الرجال بحكمة يرددونها، وأنة يصعدونها، وغضبة يهددون بها العدو العنيد، فهو من هذه الناحية وأرث الشعراء الإلى يفاخرون بعشائرهم وتفاخر العشائر بهم ويسير نظميهم في المضارب.

ثم هو شاعر الأمراء، ولكنه لم يكن يجهل أنه هو كذلك أمير، فلم تكن نفسه تنزل من التواضع إلى الضعة، وكان يشفق على قصائده أن تضيع في المديح فيشحنها بالحكم، وهو، على جده وجلاله، لا تخلو مدائحه من دعابات مقصودة أو غير مقصودة.

ألم يقل لأم المحسنين يستوقفها:

أرفعي الستر وحيي بالجبين

وأرينا فلق الصبح المبين!. . .

00 واتركي فضل زماميه لنا

نتناوب نحن والروح الأمين

إلى آخر القصيدة! فشوقي يداعب الأمراء ولا يغرب في ذلك. . .

لأن من شعراء الهند من يداعب الآلهة، (كأن الآلهة تحب المداعبة) فلماذا لا يداعب العربي أمراءه وهم دون الآلهة منزلة؟ يقول طاغور إن جدياً شكا إلى (براهما) ذات يوم أن

ص: 20

القصابين لا يرحمون صغر سنه فأجابه الإله أنا نفسي لما أنظر إليك، اشتهي لحمك الطري!. . .

فالآلهة نفسها فيها من العنصر الإنساني حس الضحك والميل إلى العبث! وليس هذا مما يعاب عليه شوقي.

ينظم بعض شعرائنا قصائد نصفق لها، لا لأنها كما يقول نيتشه تصور لنا أننا عظماء وأننا أقوياء وإننا نستطيع أن نفعل كذا وكذا. . .

فنعجب بها في الظاهر ونحن إنما نعجب في الواقع بأنفسنا، كمثل خطيب نصفق له لا لأنه إبداع وأجاد ولكن لأنه ردد كلمات معروفة ولكننا نحب سماعها، وكمثل كثيرين تهز أقوالهم أجسامنا، وتثيرنا بصورة الفاجعة لا ببراعة تصويرها، بالدموع لا بالآلام، وباللطم على الوجه لا بالإفهام!

قد يكون في شعر شوقي شيء من هذا الشعر الذي يستمد قوته من غير العبقرية والفن، ولكن في شعر شوقي قطعاً إذا لم نسمها صوراً شعرية كاملة فهي قطع من أسمى الشعر وأعمقه، وهي كثيرة في شعره الوطني، وإن من الأبيات التي قالها في دمشق وغيرها ما لو أنشدت عند ميت لاهتزت في قبره عظامه!

وهنا، أخيراً، شوقي الروائي، فمهما اختلفت أحكامنا في شعره المسرحي فأن المسرح العربي لا يعرف أحسن منها ولو عد بها في القدماء لكان أقربهم إلى المجددين!

هذه طائفة من الأفكار خطرت ببالي وأنا أقرأ أشعاراً لشوقي، ذكرتها لأخلص منها إلى الرد على جماعة من الكتاب يدعون أنهم انتقدوا شوقي وعابوا شعره وهم في الواقع إنما ينقدون أسلوباً ولوناً من العبقرية00وهو الأسلوب العربي00 فنقدهم عاطفي شخصي وإن ألبسوه ثوب العلم.

يذكر (فاغيه) - النقادة الفرنسي الكبير - في كلامه على الدراما القديمة والدراما الحديثة ثلاثة أساليب في عمل الروايات: اليوناني والانكليزي والفرنسي، ومن جملة ما يصف به كل واحد من هذه الأساليب قوله:

اليونان عشاق جمال، فأوصافهم بسيطة لأن الجمال بساطة الخطوط ونبل المواقف.

والانكليز عشاق حقيقة واقعة فأوصافهم معقدة لأن الحياة معضلة. . .

ص: 21

والفرنسيون عشاق مسائل الفكر، فأوصافهم مجردة لأن الوصف المجرد فكرة. . .

فالشعور العام الذي تخرج به من رواية يونانية هو شعور مجموعة فنية جميلة، ومن الرواية الانكليزية هو شعور بصورة غنية لحياة الإنسان، ومن الرواية الفرنسية هو شعور بتفكير يقاد على أحسن أسلوب إلى نتيجة غير منظرة.

فاللذة عند اليونانيين هي التروي في الجمال، وعند الفرنسيين حب الاستطلاع يغذيه المنطق وعند الانكليز الإحساس بالحياة.

. . . فالآلهة اليونانية هي الجمال، والآلهة الانكليزية هي الحياة والآلهة الفرنسية هي الفكر.

. . . وفي كل رواية يوناني نقاش، وموسيقى، ومغن، ومحارب.

وفي كل رواية انكليزي مؤرخ ورسام طبائع وفيلسوف. وفي كل رواية فرنسي خطيب ومعلم أخلاق ومنطق!

فنم هذا ترى أنه لا يفضل أسلوباً على أسلوب، بل هو يرضى عن الأساليب كلها ويتفهمها كلها، إذ لا غضاضة على أمة أن لا تكون لعباقرتها مزايا توفرت لعباقرة الأمم الأخرى، وليس يجب علينا إذا أعجبنا بلون من العبقريات الغريبة أن تنتقص عبقريتنا الوطنية ونرميها بالسخف والجمود بل يجب علينا أن نعجب بالصورة البارعة مهما يكن أسلوبها وإلى أية مدرسة ينتمي صاحبها.

عندنا صور بارعة، ولكنها لا تنتمي إلى المدرسة اليونانية التي يكبرها بعض أدبائنا تقليداً لبعض أدباء الغرب. . فهل نرمي بها في البحر إكراماً لعيون المقلدين - المجددين؟

نحن أنصار الجديد، لا نصير له أكثر حماسة منا، ولكننا لسنا أعداء لعبقرية العرب، ونحن مؤمنون بما آمن به غوتي من قبل من أن أكثر الناس إنسانية هو الذي يعرف أن يستفيد من عبقرية وطنه!

منير العجلاني

ص: 22