الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مارسيل بروست
اعتاد الناس أن يطلبوا التضحية من الكاتب فيريدون أن يضحي الكاتب بكل شيء في سبيل فنه، براحته ورفاهيته، بشهرته، وحتى بحياته، يريدون أن يكتب الكاتب بدمه. أما القارئ فمن يجسر على مطالبته بشيء من هذا؟ على أني كنت أتمنى لو أن القارئ يقبل بتضحية واحدة: بعادات فكره. كما يتعود اللسان نوعاً من الأطعمة، والجسم إقليماً خاصاً، كذلك الفكر، أنه أسرع إلى التعلق بالأشياء امن الجسم وأميل للراحة والجمود. فهو إذا سار على طريق، يؤلمه الانحراف عنها والمجازفة في طرق مجهولة. يطلب الناس من الكاتب جديداً، ولكن ما النفع من هذا الجديد إذا كانوا لا يرونه ولا يسمعونه إلا بأعين وآذان قديمة؟ إني قلما أقدر الذي يكتسب هذه الصفة دون مقاومة وصراع عنيف. وقد لا يكون الجديد في أغلب الأحيان إلا صدى لملل القراء. أما الجديد الحقيقي فيظل مجهولاً زمناً حتى ولو صفقت له الجماهير، لأنها في الواقع تصفق لتلهي نفسها.
ومارسيل بروست من هذه الفئة التي تصطدم بما في الفكر البشري من عادات سقيمة فتذوق من العذابات أقساها في صراعها مع بلادة الناس، ولكنها ترقى إلى سماء الخلود على سلم هذه العذبات.
الأديب كالنبي، لابد أن يضطهد من أجل رسالته، لولا فرق بينهما يميز الأديب على النبي وهو أن هذا يحمل في جديدة بذور الموت إذ أنه يجيء بجديد يفرضه على المستقبل ويحرم عليه التجدد، في حين أن جوهر الأدب حرية لا نهاية لها.
إن حماقة الناس لا تفتأ منذ القديم في ندم متواصل على أخطاء متواصلة ومنذ القديم لا يزال الناس يتعاملون عن العبقرية إذ تكون ماثلة أمامهم، ثم يعودون فيندمون على جهلهم، ولكن بعد ابتعادها عنهم، مثل الناظر إلى لوحة تصوير فإنه لا يستطيع تقديرها ما لم يبتعد عنها بضع خطوات.
أليس من المشجي أن نرى مارسيل بروست، وقد أنهكته الأمراض، وأحس بالموت يدنو منه حثيث الخطى، يستعطف أصحاب المكاتب والناشرين، ويتقرب من الأدباء يطلب رفقهم برسالة يحسها كامنة في فؤاده ويخشى عليها الضياع في جسمه المريض العاني إذا هي لم تنقل إلى ملجأ أمين، وتودع في صفحات كتاب؟! ولكن الأدباء حتى أكابرهم لم يفهموا معنى تلك الرسالة، والناشرين حتى أحقرهم لم يرضوا أن يفسحوا مطابعهم لأفكار
بروست، ولم يجدوا فيها ما يستحق النشر والبيع!
قضى بروست بضع سنين في يأس قتال من الصمت الذي أحاط كتبه عندما توصل أخيراً إلى نشرها. فهو كان يفضل لو يلقى من ينتقده وينهال عليه بالذم والشتم على أن يبقى الناس في ذلك الوجوم، ويتجاهلوا وجود كتاباته كأنه لم يأت بفن حقيق بالذكر. ولكن القدر شاء له أن لا يموت قبل أن يستمتع بقسط من الظفر الذي يستحقه، وأن يطمئن على مصير فنه. فقد توصل سنة 1919، بمساعي بعض أفراد فهموه، لنيل جائزة غونكور، فمدت شهرته جناحيها على أوروبا بسرعة البرق. ولكنه لئن سره أن يرى بعض المفكرين قد فهموه وقدروه، فلقد تألم كثيراً من مرأى تلك الجماهير التي غدت تصفق له اليوم بدون أن تقرأه، مثلما كانت تتجاهله بالأمس، وهي في الحالتين تسير مستعبدة للتقليد والجمود!
إذا لقي بروست في فرنسا من المقاومة أشكالاً وألواناً، فلا احسب حظه يكون أوفر في البلاد العربية، بل أني أتوقع له فيها مقاومة أشد. لأن الأصنام التي انتصبت أمامه ومنعت عنه معبد الأدب حيناً، هي نفس الأصنام التي تقف في بلادنا حائلاً دون كل تجديد: عادات الفكر، وطرق الإنشاء. توسط صديق لبر وست عند أحد الناشرين من أجل طبع كتبه، فأجابه الناشر: لابد أن يكون الله ضرب على عقلي غشاوة فلا أفهم كيف يخصص كاتب ثلاثين صفحة يصف لنا فيها تقلبه في فراشه قبل أن يوافيه النوم! إن هذه الصفحات الثلاثين من أجمل ما قرأت من حيث بلاغة الوصف ودقته، ولكن ذنبها أنها لم تكتب بالأسلوب السهل الواضح الذي تعوده القراء واختصت به اللغة الفرنسية، بل هي معقدة لكون الموضوع معقداً، ولأن بروست ضحى السهولة والوضوح في سبيل الإخلاص والصدق في التعبير لأن السهولة والوضوح لا يتفقان دائماً مع التفكير الجديد والصور الجديدة فوصف الحالة المتوسطة بين النوم واليقظة، بما فيها من تمازج عويص غريب بين الحقائق والأوهام، ثم الانتقال السريع من عالم النوم إلى عالم اليقظة، وكيف يقفز المرء في مدة ثانية أو ثانيتين من فوق أجيال وعوالم عديدة مجهولة ليعود شيئاً فشيئاً إلى رابطته بالعالم الحقيقي، ويسترجع مركزه من هذا العالم في المكان والزمان، كل هذا يضطر الكاتب إلى تناسي قواعد البيان ليؤدي رسالة الفكر الصحيح.
قضى بروست حياته في الأوجاع، وظهرت فيه أمراض عصبية قاسية وهو لا يزال ابن
تسع سنين، فكان يعيش من جرائها عيشة غريبة محجوبة، يجعل جدران غرفته من الفلين لأن أقل صوت يزعجه، وإذا سافر ونزل في فندق، يستأجر، علاوة على غرفته الخاصة، الغرف الأربع المحيطة بها من كل جهاتها حتى لا يسكنها أحد يقلقه بضجيجه! لا يستطيع احتمال النور ولا رائحة العطور. يسد النوافذ بسجوف كثيفة، ويهجر غرفته ليعرضها ثلاثة أيام متوالية للهواء إذا زاره فيها صديق في جيبه منديلاً معطراً. إن هذه الحساسية الدقيقة الشديدة أثرت في أدبه، وخلقت خاصة من أهم خواصه هي: إحياء الماضي بالإحساس الحاضر. كان بروست قد نسي أكثر ماضي طفولته وحداثته، ولم يحفظ منهما سوى خيالات مبهمة، ولطخٍ من النور مبعثرة على ظلام وسيع، فإذا به يذكر هذا الماضي بصورة قوية حية كأنه يعيش فيه للمرة الأولى، وكل ذلك لأنه أكل قطعة من الحلوى بعد أن أغمسها في كأس من الشاي، فأعاد إليه طعمها تاريخ سنين طويلة، ملأى بالحوادث طاجة بالإحساسات، لأنها ذكرته بنفس الحلوى المغموسة بالشاي التي كان يأكلها صباح كل أحد عند عمته في صغره.
إن هذه النقطة فتح جديد في الفلسفة والأدب لأنها تبتكر طريق جديدة في التذكر بواسطة الحواس. فتذكر الماضي بواسطة العقل جامد ميت لا يوحي لنا شيئاً ولا يهز نفوسنا لأننا، كما يقول باسكال في الموت، نعلمه ولا نؤمن به،
نشعر أنه غريب عنا ومنفصل عن شخصنا، كأنه عضو ميت في جسمنا لا نستطيع بتره ولا إحياءه! ولكنه يكفينا أن نسمع أنغاماً شاردة، أو يهفو نحونا عبير ضائع أو نذوق طعماً أو نلمس شيئاً، حتى نشعر بكل كياننا يرتجف، كأن برقاً اخترق داخلنا فأضاء فينا قسماً من حياتنا التي كنا حسبناها قد فقدت منا إلى الأبد، فإذا بها تعود إلينا بدمها وحرارتها، بأدق تفاصيلها.
دخل بروست حياة الأدب وهو مسلح بقوتين بلغتا عنده أقصى حدودهما: الإحساس والذكاء. وقد رأينا إلى أي ابتكار قاده إحساسه العجيب. أما ذكاؤه فأوصله إلى عمق في التحليل لم يستهدف له كاتب قبله. مثلما غاص في بحر الماضي بإحساسه. انظر إليه كيف يغوص بذكائه: لماذا تردد عشيقته البرتين أبداً هذه الكلمة: أصحيح هذا؟ بمناسبة وبغير مناسبة؟ أتكون كلمة من جملة الكلمات التي يتعود الناس تكرارها دون أي قصد آخر؟ كلا، لأنها لو
كانت كذلك لرددتها البرتين بصورة آلية وبدون شعور بمعناها. ولكنها ترفقها بلهجة سؤال صادقة وبشيء من الغنج. أذن ماذا؟ أيبلغ النسيان بها أنها تحتاج الاستفهام والتأكد من كل ما يقال؟ غير محتمل. ولكن بروست يتغلغل في ظلمات ماضي عشيقته المجهول ويتصور زمناً كانت فيه البرتين عشيقة لغيره، وكان ذلك العشيق يقول لها: أتعلمين أني لم أر امرأة حتى اليوم تدانيك في الجمال أو أتعلمين أني أكن لك حباً كبيراً؟ فتجيبه بشيء من الدلال: أصحيح هذا؟، وتملكت منها العادة حتى غدت الآن تسأل نفس السؤال بنفس اللهجة لمن يقول لها: لقد غفوت أكثر من ساعة.
يقول بروست: كل حياة فيها سر ومجهول تستهوينا، كي نهتك سرها ونعريها من جمالها. في هذه الفكرة خلاصة حياة بروست وأدبه. وهي أول صلتي وتعلقي به لأني قرأت فيها حقيقة نفسي المرة، وحقيقة كل نفس تضم بين جوانحها وحشاً هداماً، يجمع بين رقة الشاعر وقسوة الجلاد. ترى مثل هذه النفوس تعشق الحياة، تهيم بمظاهرها المتنوعة وألوانها الشتيتة، تثمل من أدق طعم لها وتهفو مع أخف نسائمها. ولماذا؟ ألحب الحياة المجرد ولتعبدها تعبداً صوفياً؟ كلا. بل لتهدم مظاهرها وبواطنها، لتحل ألوانها وتفسد طعمها، لتوقف الحركة، لتسلب الحياة من الحياة!. . . وحش هدام أو طفل ساذج قاس، هكذا أرى بروست، والحياة دمية أمامه لا يهدأ له روع إلا إذا فككها وهتك سرها وأرجعها أجزائها البسيطة، بعد ذلك، كالطفل أمام دميته المحطمة، يقف بروست أمام الحياة وقفة اليائس المشدوه! ويلذلي تشبيه فنان كبر وست بفاتح وحشي كجنكيز، يمشي على ملايين الجماجم والإطلال، ويجيل فيها نظرة انتقام أخرس وتشفٍ بلا سبب! لماذا أسال جنكيز من الدم أنهاراً؟ وهو نفسه لا يدري. لماذا أنهال بروست على أصنام الحياة فأظهر للملأ فراغها؟ إطاعة للفن الذي في نفسه. أفيكون الفن، وهو ابن الحياة، ابناً عاقاً بها؟
يحب بروست المرأة، فتراه يقترب منها وكله إجلال وعبادة. يحب امرأة، فيخالها تختلف عن كل النساء غيرها، يراها فياضة بالأسرار، غنية بالغرائب، ثم يتابع اقترابه منها، لا يزال يدنو خفيف الخطى كاللص، وفي كل خطوة يسرق سراً من أسرارها، يمزق برقعاً من براقعها، إلى أن يصحو لنفسه فلا يرى أمامه إلا امرأة عادية، لا يلوح لها فكر أو يبدو منها عمل إلا ويعلم كنهه وعلته، فينصرف عنها قانطاً لأنه لم يعد لنفسه فيها غذاء.
أولع بروست منذ صغره بالعالم الارستقراطي، لما يحيطه من الأسرار ويحول دون الوصول إليه من العقبات، وكانت طفولته قد نفذت من مطالعة أخبار هذه الطبقة وتاريخها العجيب، فغدا إذا لمح امرأة ارستقراطية مارة بمركبتها في الطريق أو جالسة على مقعدها في الكنيسة، ازدحمت مخيلته بكل الصور والقصص التي قرأها وحسب أن هذه المرأة تضم في شخصها، في القبعة التي تلبسها والثوب الفضفاض الذي تجرره وراءها، ثروة لا متناهية من العجائب والغوا مض تجعل منها كائناً فوق منزلة البشر. ظل هذا الشوق اللجوج يذكى خياله حتى استطاع دخول المعبد الارستقراطي، وهناك بدأ زحفه البطيء على فريسته، مازال يتحبب إلى جماعة الإشراف من رجال ونساء، يحضر حفلاتهم ويسايرهم في نزهاتهم، يصغي بتعبد لأحاديثهم ويشخص إلى حركاتهم وتحياتهم وشكل مشيهم وقعودهم، ينساب كالأفعى في مشكلاتهم الشخصية والعائلية، حتى انبرى بعد بضع سنين وهو يحمل في يده صك إعدامهم، لأنه أزاح عنهم القناع فإذا هم آلات مسكينة تسيرهم تقاليد حقيرة، فيخضعون لها خضوع النعاج، وإذا بتلك العظمة الظاهرية تستر فراغاً في النفس وجفافاً في الشعور.
لقد رفع الكاتب لنا الستار عن العالم الارستقراطي فإذا بنا أمام مرسح تمثيل يلعب فيه الشريف الدور الذي تمليه عليه طبقته ولقبه، وينسى شخصه، بل يقتل شخصه من أجل دوره. انه دوق أو كونت قبل أن يكون إنساناً، إنه ومن قبل أن يكون حقيقة. فمهما بلغ حب ارستقراطي لشخص من غير منزلته لا يمكن أن يظهر له التقرب أكثر مما تسمح له قوانين طبقته. انظر كيف يحلل لنا بروست أشكال التحية عند الأشراف:
إذا اضطرت مدام دي كورفوازيه أن تحيي شخصاً أدنى من طبقتها فإنها تحني نحوه رأسها والقسم العلوي من جسمها بمقدار زاوية 45 درجة. ولكنها لا تلبث أن ترجع هذا القسم العلوي من جسمها فجأة إلى الوراء بمقدار يقرب من المسافة التي انحنت بها في البدء كأنها تريد أن تسحب تواضعها الموقت الذي تظاهرت به أمام ذلك الشخص!
على أن الرجال الارستقراطيين يعكسون هذه الخطة فيبدأون سلفاً بسحب ما سيظهرونه لك من احترام موقت:
فالدوق دي غير مانت يبدو لأول وهلة عازماً على أن لا يحييك ثم يمد إليك ذراعه بكل
طوله كأنه يقدم لك سيفاً للبراز، ويده تبعد عنه إلى حد أنه تصعب عليك، عندما يحني رأسه، معرفة ما إذا كان يحييك أم يحيي يده!
وهناك فلسفة غزيرة للتحايا: تحية الجمود الرفيع والإهمال السريع وتحية الذي تمتد يده لمصافحتك عندما يسمع اسمك، كأنها بالرغم منه دون أن يشاركها نظره أو أي حركة من جسمه. ثم تحية الدوشيش دي غير مانت التي تحيي الزائرين بأن تشع في عينيها لهيباً ذكياً فإذا كان ثمة حفلة عيد كبرى فإنها تشعل عينيها طوال الليل!.
أدب بروست أوسع من أن يلم به كله في مقال. لذلك اقتصرت على بعض الخاطرات التي عرضت لي عند قراءته. وقد ألححت على نقطة لم ينتبه إليها أحد من نقاد هذا الكاتب وهي التأثير السلبي الذي يحدثه أدبه. فأسلوبه ليس أسلوب الإيحاء الذي يعطيك أكثر مما في محتواه بما فيه من موسيقى تغنيك فتفكر، تغنيك فتعمل، بل إنه لا يوحي لك شيئاً لأنه يقول لك كل شيء، بل ربما أوحى لك اليأس لأنه بذكائه العجيب قد استنفد كل معاني الموضوع فأتى على كل جهاته، ونزل إلى أظلم دفائنه، وحلق في أبعد أجوائه حتى تركه أمامك جثة هامدة. ولعل خير دليل على نظرتي هذه هو أن بروست بقي وحيداً فريداً في فنه، ولقد صرخت كاتبة انكليزية شهيرة، بعد أن أنهت قراءته، صرخة إعجاب ويأس: كيف يمكن للمرء أن يكتب بعد قراءة أديب كهذا؟!
ميشيل عفلق