الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسرح والمقصف
بقلم الدكتور كاظم الداغستاني
1 -
المسرح
كتبت هذا المقال منذ عشر سنوات، فوصفت فيه
المسرح القديم في دمشق المسمى (تياترو) وقد اتبعته في هذا
الجزء من الثقافة بصورة المقصف الجديد في دمشق المسمى (بار).
ولعل بين الصورتين القديمة والجديدة من الفوارق ما يدعو لاهتمام
المولعين بهذا النوع من وصف الواقع.
سأحدثك عن المسرح وعن الغناء والرقص وتمثيل أدوار الحب فيه، وأريد بكلمة المسرح ذلك المسرح المعروف في دمشق وأكثر مدن سورية الذي تستطيع مئات السنين أن تغير من أوضاعه القديمة شيئاً مذكوراً، ولعلني أكفيك في حديثي هذا، مؤونة ليال كثيرة تصرفها في مثل هذه الأماكن إذا أردت أن تقف على ما أريد أن أطلعك عليه من شؤونها.
تغني الناس على الغالب، في هذا المسرح: امرأة يدعونها رئيسة الجوقة، يرافقها ثلاث نساء أو أربع يجلسن إلى جانبها بترتيب يجري على ما يقدره لهن صاحب المسرح من جمال أو براعة في الرقص والغناء، ويجلس إلى جانبها الآخر، جوقة موسيقية من الرجال تعينها في غنائها وتوقع الراقصات حينما ينتهي دور الغناء فيقمن للرقص الواحدة تلو الأخرى ويجلس المتفرجون من مختلف الطبقات أمام المسرح جماعات وأفراداً لا ترتيب في صفوفهم ولا انتظام في مواقع جلوسهم. ويأوي البعض منهم في المسارح القائمة في غير الحدائق،
إلى مقاصير (ألواح) خاصة تشرف على المسرح، وكثيراً ما يختار العشاق هذه (الألواح) لجلوسهم لأنها أوقع في نفوس نساء المسرح وأحكم في لفت أنظارهن، ويحظر على نساء المسرح حظراً شديداً في دمشق أن يجلسن إلى الرجال من (المتفرجين) أو يحدثنهم، وكثيراً ما تشدد دائرة الأمن في هذا الحظر، حتى أنها تعاقب المرأة التي تجرؤ وهي صاعدة إلى المسرح أو نازلة منه على محادثة أحد المتفرجين، أو الوقوف معه ولو قليلاً، بأن تمنعها عن عملها أياماً تحرم فيها من أجرها، ولكنها لا تمنعها مهما اشتد أمر المنع، أن تبعث
بنظراتها وهي جالسة أو راقصة في المسرح إلى من تشاء وأن تبتسم وتومئ إلى من تريد وأن تتقبل زجاجات الشمبانيا التي يبعث بها إليها عشاقها، وأن ترفع كأسها فتشرب نخب من قدم هذه الهدية إليها. ويصعب أو يتعذر على العشاق محادثة هؤلاء النسوة، وقد تزيدهم هذه الصعوبة غراماً فيعانونها برغبة ولذة.
ويغلب على المرأة التي تغني في مثل هذه المسارح أن لا يكون لها من الجمال والصوت والبراعة في الرقص ما يجعلها تستغني عن أن تمثل لعشاقها أدوار حبها وهيامها بهم، فهي تمثل دائماً وأبداً وتحوجها الإجادة في هذا التمثيل إلى استعداد فطري قد ينشأ معها وتمرين تعاوده أياماً طويلة وقد تجيد هذا النوع من التمثيل الإجادة كلها، ولكنها قد لا تنجح فيما تقصده من تمثيلها، لأنها تحتاج في هذا النجاح زيادة عن الإجادة في التمثيل، لأشياء كثيرة صعبة المراس، فهي لا تكتفي بما تحتاجه الممثلة لكي تجيد التمثيل، من الذهول عن نفسها وتناسيها ذاتها ليتسنى لها أن تتقمص الشخصية الجديدة التي يتطلبها الموقف بل يحوجها الأمر لأن تمثل لكل من عشاقها الدور الذي يلائم طبعه، وأن ننتخب لكل واحد منهم الموقف الذي يتفق مع مزاجه، وكثيراً ما يقضي غليها الأمر أن تختار من الأدوار ما تخلق أوضاعه خلقاً وترتجل فصوله ارتجالاً دون أن تكون قد فكرت فيه أو استعدت له من قبل. وكثيراً ما تحتاج أيضاً لأن تمثل من الأدوار ما يناقض بعضه بعضاً فتمثل الفرح لأحدهم وتشخص الحزن لرفيقه في آن واحد وتعاني في التوفيق بين هذا التناقض ما لا يمكنك أن تعرف شأنه ودقة الصنعة فيه إلا إذا رأيت تلك الأمارات المرسومة على محياها في موقفها هذا وهي تدل على إجهادها النفس وقسرها على ما ربما كان فوق طاقتها، وإنك إذا أطلعت على ما بين أمزجة عشاق هذه المرأة من التباين وما في مشاربهم من التفاوت وعرفت أنهم جميعهم، يحتشدون أمامها في ساحة واحدة، وإنها مضطرة لأن تقنع كلاً منهم بأنها عالقة به وحده وإنه لا مهرب لها من أن تهتم خلال ذلك في الغناء الذي تغنيه ما الرقصة التي ترقصها وتحافظ على مقاييس الأنغام لترضي بقية المتفرجين من غير العشاق أيقنت من عظيم الجهد الذي تبذله هذه المرأة وشدة الذكاء والمقدرة التي تحتاج إليهما فيما تعانيه من عملها الشاق، وأجدني متشوقاً لكي أؤيد لك ذلك، إلى أن أصف لك موقفها من عشاقها وموقفهم منها، وأذكر لك بإيجاز بعض ما يبدو للناقد وهو يراقب (المتفرجين) في هذا
المسرح فأطلعك على ما يمثل هنالك من أدوار قد يشترك في بعض فصولها أفراد الجوقة وصاحب المسرح وخدامه وكثير من العشاق والحاضرين أيضاً.
فهنالك بين الجالسين أمام المسرح، ثلاثة رفاق لعلهم من أبناء وجهاء المدينة، جلسوا حول منضدة صفت عليها أقداح العرق وأطباق الفاكهة، وإذا عن لك أن تراقبهم علمت أن الأول من بينهم هو العاشق المتظاهر بحبه، وإذا أطلت نظرك إليه علمت أنه يعتقد بل يجزم بينه وبين نفسه بأنه الرجل الوحيد الذي اختصته هذه المرأة بحبها من دون الناس جميعاً، فهو لا يبرح يتعهد تصفيف شعره ويتفقد منديله الحريري المتدلي على صدره، ويرفع كأسه بين آونة وأخرى عندما تمر بنظرها عليه، فيشرب نخبها وتشرب نخبه من زجاجة الشمبانيا التي بها إليها. وتفهم من نظرات الرفيق الثاني إلى هذه المرأة وإغضائه عنها كلما التفت إلى رفيقه أنه لا يريد أن يقف من رفيقه موقف الخصومة في الحب فتجده يغتنم الفرص كلما سنحت ويبعث إليها بنظرة وابتسامة يحاول أن يمثل لها بهما حال العاشق المتألم الذي لا يبيح له الموقف أن يظهر ما تكنه جوانحه من بوارح الحب. وتنظر إليها فتجدها قد فقهت ما يريد أن يفهمها إياه، فرفعت كأسها وشربت نخب رفيقه متبسمة، ثم حولت نظرها إليه من طرف خفي، كأنها تشير إليه أن بين جوانحها أيضاً من آلام شغفها به أضعاف ما به لكنها لا تريد أن يطلع على تحاببهما هذا رفيقه الذي بذل لها من هداياه وشرابه الشيء الكثير.
وترسل طرفك إلى الرفيق الثالث، فتراه وقد جلس جلسة الر جل الرصين المتظاهر بأنه أعرف بهذه الأمور وأعلم بحقيقة الطريق التي يجب أن يسلكها الرجل ليصل منها إلى قلب المرأة التي يحنها، وتجد \ ها وهي تمر بنظرها عليه قد علمت ما يريد أن يفهمها من أمره فتحاول أن تفهمه، يما تخلقه في محياها من علائم الإعجاب بأوضاعه أنه لا يعجبها من الرجل إلا رجاحة عقله ورصانته في مجلسه فلا يلبث أن يبتسم بينه وبين نفسه ابتسامة العاشق المنتصر على عذاله.
ويضحك رجل جلس وحيداً وراء هؤلاء الرفاق الثلاثة ينظر إلى تلك المرأة بشغف ويسرع إلى رفع كأسه عندما يرى أحدهم قد رفع كأسه ليشرب نخبها فيشرب معه ومعها ويكتفي أن يسلك بغرامه هذا الطريق الخيالي الذي لا يكلفه شيئاً من المال. وتنظر إليها حينئذ فتجدها
تسعى جهدها لتبعث إليه برشاش من تلك الابتسامة التي وجهتها إلى غيره، وتعرف من أثار الغبطة الظاهرة على شفتيه أنه سعيد بما ناله يخيل إليه أن هذا الرشاش الذي أصابه هو بحر من الحب قد غمرته أمواجه.
ويحزنك رجل من أرياف المدينة جلس غير بعيد من هؤلاء، تجده ينظر إلى هذه المرأة نظرة العشق الآمل، ويرفع كأسه كلما رآها ترفع كأسها فيشرب نخبها، وتراها لا تنظر إليه أبداً ولا تبتسم له قط، وإنك إذا شئت أن تبحث عن أمره تعلم أن خادم المسرح قد خدعه كما اعتاد أن يخدع الكثيرين من أمثاله في كل ليلة فأوهمه أن المرأة وهو يعلم من أمر شغفه بها ما يعلم، بعثت تطلب منه زجاجة من الشمبانيا، فأجاب طلبها، وإن شئت فقل طلب الخادم الذي تقاضى ثمن الزجاجة من عشاق كثيرين أيضاً ورأى هذا الرجل أن المرأة لا تنظر إليه ولا تشرب نخبه فخيل إليه أنها لا تريد أن تتظاهر بحبها له أمام عشاقها بعد أن اصطفته لنفسها من دونهم جميعاً، فطار في جو خياله سعيداً هانئاً. ونقد الخادم ثمن الزجاجة الموهومة التي لم تعلم هذه المرأة من أمرها شيئاً.
وهنالك شابان متأنقان في ملبسهما، يظهر لك من أوضاعهما وشدة اهتمام خدام المسرح بهما أنهما من أبناء الأغنياء وموظفي دواوين الحكومة وتفهم من نظراتهما لنساء المسرح ومغازلة هؤلاء لهما أن الأول مولع برئيسة الجوقة يتظاهر لها بحبه وإن الثاني عاشق للمرأة التي تجلس بجانب الرئيسة، وتعلم من أمر الثاني هذا الثاني أنه غير قانع بحبه لهذه المرأة وحدها فهو يود لما يراه بنفسه من القدرة على معاناة هذه الأمور أن يظهر للرئيسة هيامه بها أيضاً فتجده يخالس رفيقه النظرات العميقة إليها مبتسماً. ثم ينقطه عن التبسم متصنعاً الإطراق والتفكير ليمثل دور المتردد في أي الحبين يختار. وتراه كأنما يريد أن يثبت للرئيسة أنه أرجح عقلاً من صاحبه وأعرف منه بشؤون المجالس، فينصرف إليه متكلفاً الإخلاص له وينبهه - بإشارات تفهمها الرئيسة - إلى أنه مخطئ في جلسته التي يجلسها، أو مخل بما يجب أن يراعي في مثل هذا الموقف، وينتبه رفيقه إلى ما يرمي إليه من نصحه فيكاتمه ما عرفه من أمره، وتلحظ جارة الرئيسة الدور الذي يريد أن يمثله عاشقها ليؤيد صلاته مع جارتها فتبتسم لرفيقه، وتومئ إليه أن ينتقم لنفسه من صاحبه فيغازلها هو أيضاً، فينصرف بنظره عنها كأنما يريد أن يفهمها أنه يأبى أن يكون متقلباً
كرفيقه، وتفقه الرئيسة ما دار بينهما من الحوار الصامت فتطرق مفكرة وقد انتشرت على وجهها غبرة من إجهاد النفس في سبيل الاهتداء إلى الدور الذي يجب أن تمثله بهذا الموقف لتنتصر على جارتها وتستأثر بالاثنين معاً. ويرى ضارب العود الجالس إلى جانبها إطراقها وذهولها وهو يعشقها ويتوهم أنها مولعة به، فتحدوه الغيرة لأن يظن أن مبعث إطراقها وتفكيرها هو شغفها بأحد عشاقها، فتنم أسارير وجهه على ما يخامر فؤاده من القلق، وينظر إليها نظرة التذكير بالحب، فتميل نحوه ميلة تتفق مع توقيع الأغنية التي تغنيها بتدريبه ومساعدته، وتتكلف الابتسامة له تكلفاً يظهر لك من خلاله أمر ما تعانيه في هذا الموقف من عمل شاق تكاد أن ترتبك فيه.
وهنالك أربعة شبان لعلهم من طلاب المدارس العليا جلسوا قريباً من المسرح تفهم من مغازلة الرئيسة لهم أنها لا تأمل من وراء ما يظهرونه لها من الحب نفعاً كبيراً فتجدها تبتسم إليهم جميعاً ابتسامة واحدة تقسمها بينهم تقسيماً يدهشك ما فيه من مهارة في الصنعة وكثيراً ما تراها تبعث إليهم بهذه الابتسامة مشاعة فيتقاسمونها بينهم قسمة رضائية أو يختلفون عليها فيعتقد كل منهم أنها له وحده فيصفق لها ويحيها.
ويسترعي اهتمامك رجل علت وجهه مسحة من طيب السريرة، جلس بين جمع من رفاقه وهو يميل إلى هذه المرأة لكنه يود أن يسلك في التعرف إليها طريقاً قليلة النفقة فيبعث إليها مع خادم المسرح بعلبة صغيرة من (الملبس) دون أن ينقد الخادم أجراً مقدماً على عمله، ويسرع أحد رفاقه، خفية عنه، فيرشوا الخادم ويومئ إليه أن يفهم المرأة أنه هو الذي أهدى هذه العلبة إليها، وتجد الرجل لا يكاد يرى المرأة وقد بدأت تلتفت إلى صاحبه متبسمة وتهتم به من دونه حتى تبدو على محياه علائم الاضطراب والغضب فيردد طرفه بين المرأة وبين صاحبه مستغرباً الأمر مرتاباً فيما وقع، ويستوضحها الأمر بنظراته وإشاراته فتحدق نظرها فيه وتجهد نفسها لتعلم ما يريده منها فلا توفق إلى ذلك.
وهنالك رجل من ذوي النفوذ والسلطة جلس بعيداً عن المسرح وهو ولوع بهذه المرأة فتراه ينظر إليها مقطباً حاجبيه كأنما يريد أن يذكرها بماله من السلطة عليها وتجدها قد رزنت في مجلسها عند مجيئه واهتمت كثيراً بأن تظهر له أن ليس بين عشاقها من يشغلها عن الاهتمام به، وترى صاحب المسرح قد خف للقياه مرحباً به غير ناس أن يشير إلى المرأة
من طرف خفي ليذكرها أيضاً بما يجب أن تمنح من التفاتها لهذا القادم إليه بأنها عارفة بما يجب عليها.
ويدخل القاعة شاب تعرف من مظهره وخيلائه كثرة ندمائه المحتاطين به أنه من كبار أغنياء المدينة، وترى هذه المرآة تنظر إليه باهتمام بعد أن رأته يطيل نظره إليها، فتلفتت إلى جارها ضارب العود فتسأله عن هذا القادم الجديد، وتراها تريد أن تفهم هذا الشاب أنها تسأل عنه لتظهر له أنها بدأت أن تكون شديدة الاهتمام به مذ رأته، وتجده حينئذٍ وقد أغواه ما أكتشفه من أمر سؤلها عنه قد أزداد تيها وعجباً، وتشعر هي بنجاحها في دورها الأول فتستعد لتمثيل الدور الثاني الذي اعتادت أن تستغوي به أمثاله لولا أن يزعجها حينئذٍ رجل من طبقة العوام جلس قريباً من المسرح، أطربه ما تغنيه فرماها بتفاحة كبيرة أصابت يدها ووقعت في حضنها. وتقدم الشرطي ليقبض عليه، فاحتاط به رفاقه يمانعون في أخراجه من بينهم، وأصر الشرطي على أخراجه فوقعت بينه وبينهم معركة صغيرة لم يكد ينتهي أمرها ويرجع مشاهدوها إلى مجالسهم حتى وقف ذلك الشاب متظاهراً بانزعاجه مما كأنه لم يعتد أن يراه. ثم لا يلبث أن يخرج مع أعوانه وندمائه مظهراً تأففه مما رأى.
ولا تنهض هذه المرأة للرقص. وهي آخر من يرقص من نساء المسرح، حتى تكون الخمرة قد فعلت فعلتها في رؤوس المشاهدين. وكثيراً ما يحدث حينئذٍ أن يقف رجل يترنح سكراً فيطلب إليها أن تغنيه أغنية يحبها. ويصيح من الجهة الثانية رجل آخر فيطالبها بأغنية غيرها. ولا يلبث بعد قليل أن ينضم لكل من الرجلين رفاقه. ويسرع الشرطي لتلافي الأمر فلا يكاد يصل إليهم إلا وقد ابتدأت المعركة بينهم. وقد تستمر المرأة في غنائها ورقصها حينما تكون المعركة خفيفة الوطأة. ويتقدم الشرطي فيقود معه من يقود منهم ويعود الأمن إلى نصابه. وتلتفت فترى رجلاً بلغت منه الخمرة أشدها وقد أشجاه غناء هذه المرأة وهاج رقصها ما كمن في نفسه من شعور هيامه بها. فأهوى برأسه على عضد رفيقه يبكي وينتحب. وتمر بنظرها عليه فيضحكها بكاؤه. ويرى ضحكها رجل آخر جالس غير يعيد من الباكي. فيندفع صائحاً: يا لها من امرأة فاجرة لئيمة لا يضحكها إلا منظر الدموع التي تسكب قدميها، وينهض وهو يحاول أن يهاجمها في مسرحها. فيحول بينه وبين ذلك رفيق له لعله أقل سكراً منه.
وترمي بطرفك إلى جهة أخرى، فترى رجلاً يشتد به السكر فيهوي عن كرسيه ساقطاً إلى الأرض. فينهضه ويعيده إلى مجلسه. ثم يقدم له كأساً من الخمرة فيتعذر عليه شربها. لأنه لم يبق في أحشائه فراغ يستوعبها. ويرى رفيقه أن المرأة تنظر إليهما فيود أن يسترضيها فيستحلفه بها ويطلب إليه أن يشرب نخبها. فيحتسي الكأس مضطراً ثم لا تلبث أن تضيق أمعاؤه بد ذرعاً. فيعيدها وكأنما يعيد معها قطعاً من أحشائه.
ولعلك إذا التفت إلى ناحية ثانية رأيت مناظر شتى لا تخرج عما يمثله السكارى من الأدوار التي يحزنك أكثرها وقد يضحك بعضها وإذا أردت مراقبة هذه المرأة أكثر مما راقبتها وانتظرت خروجها من مسرحها رأيتها حينئذ وقد أحاط بها جمع غفير من عشاقها وأكثرهم سكارى. فيتقدم الأول إليها باسطاً يديه يذكرها بعهده. ويعترضها الثاني في طريقها فيعاتبها ويسترضيها. ويحاذيها الثالث فيحاول أن يستغويها بمزاحه وهزله. وقد يهاجمها مشهراً خنجره بيده يريد أن يؤيد حبه لها بالسلاح الأبيض وتجدها في هذا الموقف أشد ما تكون ارتباكاً واضطراباً لا تعرف أيهم تجيب ولا أياً منهم تسترضي. ويزيد في همها أن الشرطي يسير غير بعيد منها يراقبها وينذرها من حين إلى آخر بمنعها عن عملها في المسرح.
وكثيراً ما يؤنبها ويوجه إليها من كلماته ما يؤلمها ويغضبها وقد تظل في ارتباكها حتى دارها. وكثيراً ما ترى المعركة قائمة على بابها بين من سكروا في مسرحها وبين أفراد الشرطة.
2 -
المقصف
لا أعلم أن كنت أوفق بما أصفه لك في هذه
العجالة من صور المقصف، لأن وصف الواقع
وتمثيله باهتمام ورغبة يحتاجان لحالة خاصة من
حالات النفس هيهات أن تبقيها السنوات العشر
الغابرة على ما كانت عليه، على أني سأجرب وفي
التجريب ما قد يدعو للتوفيق.
سأحدثك إذاً عن المقصف في دمشق، وأريد بالمقصف ذلك الملهى الذي لا عهد لدمشق به
إلا منذ بضعة أعوام وهو نوع من الحانات يسميه المترددون إليه في سورية تارة (بار) وتارة (كازينو) ومرة (دانسينغ). ومهما تعددت أسماؤه واختلفت فهو قاعة من قاعات الليل يجد فيها من يغشاها شراباً وموسيقى ورقصاً وغناء ويفرق المقصف الجديد عن المسرح القديم أن جل ما في المقصف أوروبي، شرابه وموسيقاه، رقصه وغناءه.
وفي المقصف راقصات فنانات (آرتيستات) يدفع لهن صاحب المقصف أجراً معيناً عدا ما يضيف إليه من الحصة التي تصيب كلاً منهن من ثمن الشراب الذي قدمه إليها العشاق أو اللاهون. ويبلغ عدد الراقصات الفنانات في المقاصف الكبيرة ثماني أو عشراً ندر أن تجد بينهن من تتكلم بالعربية فهن من الأوروبيات وأكثرهن من بلاد النمسا والمجر ورومانيا ويوغسلافيا واليونان. وقل أن تجد بين هؤلاء الفنانات من هي بارزة الجمال فاتنة المحيا ولكنهن جميعهن على الغالب أنيقات ذوات قامات هيفاء وخصور نحيلة وأجسام غضة متناسبة الأعضاء، وأكثرهن ماهرات في تمثيل اللهجة الصادقة، مثقفات بارعات في أساليب الحديث ومناهجه حاذفات في استطراد الحكاية وربط مقاطعها حتى في لغة لا يعرفن منها إلا الشيء القليل. ويسمح للرجال من المتفرجين في المقصف أن يرقصوا مع هؤلاء النسوة، على أنهم إذا جلسوا إليهن للحديث أو دعوهن للجلوس لموائدهم عليهم أن يقدموا لهن ما يطلبنه من الشراب. وثمن الشراب الذي يقدم للفنانات هو على الغالب ثلاثة أضعاف الشراب الذي يقدم لغيرهن. والفنانات قديرات على تحمل الشراب ماهرات في طلبه حتى أن بينهن من تستطيع أن تشرب في سهرة واحدة من الأقداح ما يربو عدده على الأربعين.
ولا يوشك الثلث الأول من الليل أن ينقضي حتى تنهض كل من الفنانات بدورها للرقص في مسرح المقصف أو في ساحته التي يحتاط بها المتفرجون، وتختار من الراقصات ما تكون مارسته واتفقت عليه مع الجوقة الموسيقية من قبل وقد يشاركها في ذلك واحدة أو اثنتان من زميلاتها يلبسن جميعهن ألبسة خاصة بالرقص لا تستر في الغالب إلا قسماً قليلا من أجسامهن، وقد تجد بينهن من تبلغ في رقصها وإنشادها مبلغاً من الإجادة يحيي في النفس شيئاً كثيرا من هوى الفن وعاطفة الإعجاب بمظاهره. وتبعث الراقصة للمتفرجين بابتسامات مشاعة عامة وتختص عشاقها ومريديها بنظرات ذات مغاز ومعان تجيد في
تصويبها وتوجيهها فتمثل ما تريد أن تعلنه لهم تمثيلاً صحيحاً قد يصعب التفريق بينه وبين الحقيقة.
وتنتهي الفنانات من رقصهن وتمثيل أدوارهن على المسرح فيعدن إلى مجالسهن بين المتفرجين وقد انتصف الليل وهو الوقت الذي يكثر من بعده إقبال زوار المقصف على دعوة الفنانات إلى موائدهم لمجالستهن والتحدث إليهن. ولا تلبث الخمرة أن يدب دبيبها وتتغلغل نشوتها في الرؤوس فيبدو للمراقب في المقصف من المشاهد والمواقف ما يلهيه ويسترعي اهتمامه.
فهناك شاب متأنق متظرف لم ينل الشراب منه بعد إلا قليلا، جلس إلى فنانة صبوحة الوجه قدم لها من الويسكي شربته خلال مدة قصيرة من الحديث، وأخذت تدور بعينيها تفتش عن خادم المقصف لتطلب قدحاً ثانياً، وانبرى جليسها يحاول أن يستلهيها بحديثه ليصرفها عما تريد فلا يوفق، ثم لا يجد بدا من الإذعان، فيصبر على كره، ويوعز للخادم أن يجيبها إلى ما طلبت وهو حريص على ودها يأمل أن يصل إلى قلبها ويخشى إذا أبى عليها ما طلبت أن يسقط في عينيها سقطة لا مقبل له منها. فيحاول أن يكتمها ما في نفسه ويعود لمغازلتها متكلفاً الهناء والغبطة.
وتراها قد اكتشفت سريعاً ما ود أن يخفيها من أمره وسجيته، وعرفت أنه من المعجبين بأنفسهم الذين يحاولون أن يستغووا مثيلاتها بنفقة زهيدة تافهة. فتنصرف إليه، متكلفة هي أيضاً الهناء والسرور، تمثل أمامه دوراً جديداً يتفق مع ما اهتدت إليه مع طبعه، فتأخذ بالثناء عليه، والإطراء على عذوبة حديثه وجمال وجهه وملبسه وتمثل في ملامحها ونظراتها ما تريد أن تقنعه معه أنها أصبحت وفي نفسها من الإعجاب به ما قد ينقلب بعد زمن قريب إلى هيام ووله. على أنه لا تلبث على شأنها إلا قليلاً حتى تراها وقد أخذت تقلب الطرف من جديد في جمهور الحاضرين وتستعرفهم فترسل نظرة استغواء عميقة وابتسامة عجلى لرجل ينظر إليها باسماً وقد جلس غير بعيد عنها في جمع من رفاقه. ثم تعود إلى حديثها مع جليسها، وتعزف موسيقى الجازبند مقطوعة من رقصة الرومبا فتنهض وإياه إلى ساحة الرقص مع الراقصين والراقصات وتستمر في تحدثها إليه وهي ترقص لكنها لا تصل في دورتها مرة إلى الناحية التي جلس فيها ذلك الرجل الذي ابتسمت له إلا
وتمنحه خفية عن الراقص معها، من التفاتها ما يجعله يتنحنح في مجلسه فيصلح من شأن ملبسه ويمر بأصابعه على ربطة رقبته يتعهدها بالترتيب ثم لا يلبث أن يكيل لهذه الراقصة على مسمع من رفاقه، من صيحات الثناء عليها وعلائم الإعجاب بجمالها ما قد لا يتفق مع ما كان يقوله عنها قبل حين.
وقد لا يتسنى لك تتبع هذه الراقصة بنظراتك فتنصرف لمراقبتها دون سواها لأن بين جمهور الراقصين والراقصات من الأزواج ما يسترعي اهتمامك أيضاً، فقد تجد رجلاً قصير القامة مستدير الجسم يرقص مع فنانة طويلة جداً وتراه يتحدث إليها ويغازلها وهو كأنما ينظر إلى سقف القاعة. وقد تجد كهلاً سمحاً تجاوز الخمسين يرقص مع شابة فاتنة وهو يتكلف الرشاقة في حركاته وخطواته وترى راقصته تنظر خفية عنه إلى عشاقها والمعجبين بها الجالسين حول ساحة الرقص هازئة به بما تبديه في وجهها من ملامح وإشارات متعملة التأفف والضجر، وتراه هو منهمكاً في رقصه لا ينتبه إلى ما يجري حوله ومن وراء كتفه ولا يعرف شيئاً مما يدور بين راقصته وبين المتفرجين.
وترى ركن من أركان القاعة فتى من أبناء الموسرين بدت في أسارير وجهه الجميل ملامح الغباوة والسذاجة جلس إلى فنانة روسية نحيلة الجسم سوداء العينين ذات شعور صناعية الشقرة وتجده جواداً كريماً في تقديم ما تطلبه من الشراب، وهو لا يحب هذه المرأة ولا يعشقها بل يهوى راقصة غيرها من راقصات المقصف رأى من جفائها له ما حاول من بعده أن يستثير كوامن الغيرة في نفسها فدعا لمائدته زميلتها هذه وأخذ يطارحها الصبابة والوجد. وليس من الصعب عليك أن تفهم إذا أمعنت النظر في أوضاعها ونظراتها إلى زميلتها تلك التي جلست تحدث رجلاً آخر، أن تعرف أن الاثنتين قد اتفقتا على الفتى. تعاقدتا على أن يتقاسما ما يصيبهما من كرمه.
ويدعو اهتمامك رجل ثمل انتحى ناحية من القاعة مع راقصة قدم لها قدحاً من الكونياك وهي لا تعرف إلا اللغة الألمانية وبضع كلمات من الفرنسية وتسمعه يتحدث إليها بالعربية وعندما يرى أنه لم يستطيع إفهامها ما يود أن يقوله لها يعود فيمزج كلامه العربي بألفاظ تركية وتراها أوشكت أن تفهم بعض الشيء من حديثه فتجيبه بالفرنسية مستعينة على ذلك بإشارات الوجه والأصابع ويجري بينهما حوار متقطع مضحك يقع فيه بينهما من سوء
التفاهم ما يذهب بهما إلى غير ما يريدانه. ويجلس في جهة قريبة منك رجل يهوى راقصة رومانية فاتنة لا يعرف لغتها ولا اللغة الفرنسية التي تعرفها هي، وقد دعاه هيامه بها لأن يدعوها لمائدته فيقدم لها زجاجة من الشمبانيا ويستعين على محادثتها برفيق له يعرف الفرنسية وترى هذا الرفيق تأبى عليه نفسه أن يقوم بدور المترجم فحسب بل تراه لا يحجم أن يشارك رفيقه في مطارحتها عواطف نفسه وآيات إعجابه حتى أنه كثيراً ما يتصرف بالترجمة تصرفاً لا يتفق مع الأمانة في النقل ولا يلتئم مع مصالح من عهد إليه بهذه المهمة.
وهنالك شاب لعله من موظفي الدوائر العامة أو من الموسرين أرباب المصالح الحرة في ملابس علية القوم وشمائلهم، دخل المقصف رصيناً رزيناً، وجلس مع رفيق له في زاوية من زواياه جلسة هادئة محتشمة، على أنه لم يشرب القدح الثاني من الوسكي حتى أصبح طروباً يكاد أن يكون عربيداً يرن صدى ضحكه في أجواء القاعة، وما هو إلا القدح الثالث حتى أطلق العنان لهوى نفسه فانبرى يصيح مع الصائحين ويرقص مع الراقصين مستسلماً لما تمليه عليه وتطلبه منه راقصة ايطالية رشيقة رعناء دعاها وجميع من يلوذ بها في المقصف إلى الشراب، وحام حول مائدتها العازف على القيثارة يسمعهم نغمة تؤجج أقصى ما في الأنفس من حنان ووله. فانهالت عليهم الأقداح تترى وضاعف خدام المقصف عددها وأثمانها في دفاترهم التي سيبرزونها عند الحساب.
وفي ناحية أخرى رهط من الرفاق دعوا لمائدتهم غانية من غانيات المقصف قدموا لها قدحاً من الوسكي اتفقوا فيما بينهم على أداء ثمنه مساهمة وتجدهم محيطين بها يتسابقون في استجوابها واسترضائها بمختلف اللغات واللهجات فتكاد لا تعرف إلى أي منهم تتحدث أو أيهم تجيب.
وإلى جانب هؤلاء جماعة من الغرباء الذين وفدوا من الغرب إلى الشرق، جلسوا يقصفون ويسمرون أو يتحدثون لفتيات المقصف ويراقصونهن وقد تجدهم في جلستهم محتشمين هادئين تارة وصائحين معربدين أحياناً.
وهنالك فئة من الشباب وطلاب المدارس العليا اجتمعوا في حلقة علا ضجيجها حتى أوشكت أن تقلق صاحب المقصف وتراهم جميعهم يهتفون ويصفقون متكلنين فرح الشباب
وهناء الصبى، وتدلك غبرة من الكآبة انتشرت على وجوههم أن ليس في قرارة نفوسهم شيء من حقيقة الهناء والفرح.
ويكاد المقصف لا يخلو في كل ليلة من فئة الرجال تجمعهم إلى بعضهم على مائدة واحدة وحدة الأذواق وغرابة الطبع، وهم لا يقصفون ولا يرقصون بل يجدون العزاء لأنفسهم عن ذلك باهتمامهم بكل شأن من شؤون سواهم من اللاهيين أمامهم فيعدون على كل منهم خطواته وحركاته ويأخذون عليه لهوة وقصفه، وكثيراً ما يختلفون في حكمهم ويطول بهم الجدل فيلجأون إلى ورقة ينشرونها بينهم يقيدون فيها دخل الرجل الذي ينقدونه ومكسبه الشهري أو السنوي وما يحتاجه من المال في ملبسه ومعاشه وإعالة ذويه، وكثيراً ما يستنتجون مؤيدين رأيهم بالأرقام أن الرجل أمسى وهو لا يملك سوى ما ينفقه في هذه الليلة أو أن مصيره الإفلاس والخراب بعد شهور أو أيام معدودات.
ويحين موعد الانصراف من المقصف والساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل. . . 0
كاظم الداغستاني