الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمة غندي
أو طفولة المهاتما
اقتبست هذه المقالة من كتاب قيد الطبع للكاتبة
اليونانية (البنى ساميوس) تصف فيه حياة المهاتما غندي
المقدسة بأسلوب شعري جميل
لا أزال أذكر وجه أمي الكئيب المطرق فوق سريري. فقد كان على جبهتها دائرة تلمع كأنها كوكب خافق في الظلام الحالك. وكان من عادتها أن تنهض من النوم قبل الفجر، وقبل أن يستيقظ أحد من الناس. فتقف كسائر النساء الهنديات، صامتة واجمة مفكرة، مدة نصف ساعة، كأنها تخشى أن تعكر سكون الصبح.
وكانت مولعة بزينتها فإذا انتهت من ذلك عانقتنا وطلبت من كل واحد منا أن يردد في نفسه.
إنني حر، إنني شجاع، إن لساني لا ينطق بغير الحقيقة
لم تكن سني تتجاوز الرابعة يوم كنت أقول: لا أريد أن أضر أحداً، أريد أن أتعود فعل الخير.
لقد علموا والدتي يوم كانت صغيرة كثيراً من الأشياء التي يعلمونها اليوم لأخواتنا. لقد علموها أن تمشي رويداً فإذا مشت كتفت وخطرت في مشيتها بلطف كما تخطر اليمامة، ولا أذكر أنني سمعت خطواتها أبداً.
لم تفارق الابتسامة شفتي والدتي أبداً، فكانت كثيرة الصبر، لا تعرف التعب وما كنا نسمعها تفتح أو تغلق باباً، ولولا صلصلة الحلي فوق ثوبها الفضفاض لما كان أحد يشعر بمرورها أبداً.
كان النساء يلتقين كل يوم في الساعة الثالثة بعد الظهر في صحن المعبد الكبير. فإذا انتضد عقدهن في ظلال الشجر تحدثن عن كل ما جرى معهن في النهار، ثم أغرقن في الضحك والثرثرة، ولا يعدن إلى سكونهن وتأملهن إلا بعد سماع جرس الكاهن، وإذا قرع الجرس قرأ الكاهن بصوته الحزين بعض ملاحمنا المعروفة، ثم تبعه الناس مرددين ما يقول بصوت غضٍ خفي لأنهم كانوا يحفظون تلك الملاحم غيباً.
آه. كم كنت أحب سماع هذه الأناشيد.
لقد كانت نفسي معجبة بهؤلاء الأبطال الذين لا يغلبون والذين توصلوا بشجاعتهم إلى التغلب على قوى الشر فغلبوا تارة ملك الحيات وأخرى ملك القردة. وكنت أحب أن أنظر من قريب إلى الفقراء والحجاج الذين كانوا مقيمين في صحن المعبد. ولقد صادفت الحكمة غير مرة تحت أثوابهم البالية.
لا أزال أذكر رجلاً من هؤلاء الفقراء المتسولين. فقد كان طويل القامة صلب الوجه، لأن الشمس والأمطار قد جعدت غضونه ولكن الشرف المتدفق من عينيه وملامحه المتسقة كانت تدل على أصله الشريف دلالة واضحة.
لقد أدرك سكان مدينتنا حقيقة سره لأن غضون جبهته لم تكن تخفى عن الناظر إليها إن صاحب هذه الجبهة المتجعدة شريف النسب قد هجر ثروته وأولاده ليكسب بهذه الحياة البسيطة الحكمة السامية.
لقد كان لهذا الفقير صوت جميل، وكنت اسمعه ينشد على قيثارته قصائد أحسن شعرائنا:
نحن نهيم منذ طلوع الفجر على وجهنا
سائرين دائماً إلى الأمام
لا نقف إلا حينما يخيم الظلام
ويزول النور، صديق الجميع.
نحن أولاد القدر الأحرار
مالنا وللثروة
وللعظمة والقوة
والمجد والسلطان
قد يهبنا الدهر منزلاً أو ثياباً
وقد يحرمنا منها.
وقد يهبنا خبزاً أو ذهباً
وقد يحرمنا من ذلك كله.
أما نحن فلا نتغير
بل تبقى قلوبنا سعيدة.
الدهر أشبه بالعاصفة الهوجاء
والمستقبل زهر لم تنشق عنه أكمامه
ليت شعري هل نحيا لنجني ثماره
نحن نسير دائماً متجمعين
لا نخاف من شيء
حاملين عصا الحرية في يدنا
تائهين حائرين من بلد إلى آخر
حتى نصادف الليل
الذي يوصل الملوك
كما يوصل الفقراء
إلى نهاية أسفارهم كلها
ما أعظم اللذة التي كنت أشعر بها عند سماع هذه الأنشودة الحماسية.
تعلمت من هذا الفقير أسطورة جميلة وذلك أنه لما كان ذات يوم واقفاً في الطريق تجمع حوله أولاد المدينة وأخذوا يسألونه قائلين:
- ماذا يجب على الإنسان أن يفعل إذا أراد أن يكون صالحاً؟
فأجاب الحكيم:
- أيها الأولاد، كان فيما سلف من الزمان رجل حكيم فاضل قضى حياته في إقامة الصلاة وفعل الزكاة فلما جاءه هادم الحياة صعدت روحه إلى السماء فوجدت باب الجنة مغلقاً. فطرقت الباب حتى سمع الله صوتها - وكان واقفاً وراء الباب - فقال لها:
- من الطارق
فقال الرجل الصالح:
- أنا أيها السيد افتح لي باب جنتك
فأجابه الله:
- أنك لا تستطيع الآن أن تدخل الجنة، عد إلى الأرض ولا تأت إلي إلا بعد أن تجد
الحكمة العلوية.
فرجع الرجل الصالح إلى الأرض وعاش فيها مرة ثانية، وتصدق بكثير من أمواله على الفقراء، وزار كثيراً من المعابد والأماكن المقدسة فلما جفت ذبالة حياته أخذ لدخول الجنة أهبته.
فقال له الله من جديد:
- من هذا؟
قال الرجل الصالح:
- أنا أيها السيد افتح لي باب جنتك. أنا، أنا ابنك الصالح، لقد عدت من الأرض.
فقال الله:
- والآن أيضاً لا تستطيع أن تدخل الجنة، ارجع إلى الأرض ولا تعد إلا بعد أن تجد الحكمة العلوية.
فرجع الحكيم مرة ثالثة إلى الأرض وهجر منزله وزوجته وابنه الوحيد واعتكف في الحج زماناً طويلاً للبحث عن الحكمة العلوية فوجد الحقيقة بالتأمل والاتحاد ثم انقضت الأعوام أثر الأعوام واظلم سراج حياته فحمل عصاه وصعد إلى السماء وقرع باب الجنة.
فسأله الله من وراء الباب من أنت؟
فقال الرجل الصالح:
- أنت، أنت أيها السيد، أنت أما أنا فقد نسيت نفسي، وأتحدث بذاتك
فقال الله:
- أدخل يا بني، الآن عرفتك
ثم فتح له باب الجنة.
لقد كانت حياتنا نحن الشرقيين في الأزمنة الماضية جميلة جداً، لأننا كنا في غنى عن هذا الوحش الضاري الذي يسمونه الآلة.
وكنا نجد من الوقت متسعاً للتأمل، فنفكر في الصباح والظهر والمساء، عند اشتداد الحر في ظلال الأشجار أو في صحن دارنا الصغيرة.
وكثيراٍ ما كنا نغني ونحن بقرب المغزل أو عندما نحرث الأرض فنعمل بنشاط وفرح
رافعين نفوسنا نحو الجمال والحقيقة.
وكان أخواتنا ينسجن ضفائر الزهر ويعلقنها في قرون البقر.
لم يكن معنى الزمان في بلادنا كما هو عند الأوروبيين في أيامنا هذه.
لم يعلمنا حكيم من حكمائنا هذا المبدأ اللعين القائل: الزمان من ذهب. لأننا لا نحب الذهب ولا نريد أن نضحي بالزمان في سبيله.
العمل عندنا هو إبداع الجمال، ورفع النفس إلى الأفق الأعلى حيث تقيم الآلهة.
لما كنت صغيراً ذهبت مع والدي ذات يوم لرؤية الأولاد الصغار الذين يحتفلون بهم لاعتناقهم حرف والديهم.
لا أزال أذكر أن الولد ذهب قبل كل شيء إلى النهر واغتسل فيه ليجعل جسده نقياً كنفسه، ثم جاءت به والدته إلى الهيكل حيث كان والده وعقلاء القرية ينتظرونه حول النار المقدسة فسأله أبوه إذ ذاك قائلاً:
- هل تريد أن تعتنق مهنتي وتحافظ على أسمي، هل تريد أن تصبح حداداً فتمتم الصبي قائلاً وهو مضطرب:
- نعم يا أبتاه
ثم أقسم قائلاً:
- أقسم بالنار وبوالدي، وبالله الحي القيوم أنني أرغب في أن أكون حداداً وأريد أن أبدع للناس كل جمال وخير.
ثم عرفه بالأدوات التي رافقته في أيام الإنتاج بأمانة وإخلاص، فتقرب الشاب من هذه الأخوات الصغيرة على الملقط والمطرقة والمنفخ وقميص الجلد وعانقها بحنان كأنه يعانق أحياء ثم أتم قسمه قائلاً:
- أقسم أنني سوف لا ألوث هذه الأدوات، وأشهد أنني لا استعملها إلا لإبداع الجمال والخير.
لقد مر بي زمان كان فيه النساجون يصنعون شالات الكاشمير ويعدون لذلك من رجال الفن كالنقاشين والمصورين.
فكانوا يصفون المبتدئين حول المغزل فيمسك هذا خيطاً أزرق وهذا خيطاً أصفر وذياك
خيطاً أخضر.
وكان رئيسهم يرفع في كل صباح عصيته قبل الابتداء بالعمل فيخيم السكون المطلق. ثم يفكرون ويتأملون ويصلون جميعاً ويبتهلون للإله أن يساعدهم على نفع الناس وإبداع الجمال عل وجه الأرض.
ثم ينقسمون بعد انتهاء الصلاة فرقتين وينشدون قائلين:
ماذا تنسجون؟
ننسج السماء بالنجوم
ماذا تنسجون؟
ننسج الأرض بالأزهار
ماذا تنسجون؟
ننسج البحر بالأسماك والسفين
وكان كل واحد من المبتدئين يدخل خيط الصوف بحركات متسقة، وكان معلمهم يجلس بينهم فينظم نبراتهم ويزن نقراتهم ويقود بعصيته التي تشبه عصية رئيس الجوق الموسيقي حركة خيطان الصوف. وكان العمال ينسجون بأناشيدهم خيوط الصوف الحمراء والصفراء والزرقاء ويولدون بعملهم هذا أنغاماً متسقة من الأصوات والألوان.
ثم أنهم يتابعون عملهم كل يوم في الصلاة والإنشاد فإذا انقضى عليهم ثلاثة أسابيع أنهوا صنع الشال فيأخذه كل عامل بيده وينظر إليه بإعجاب.
إن هذا الشال هو عمل الجميع، أنهم يحبونه كما يحبون الأحياء. ليس لحبهم ثمن لأن كلاًّ منهم قد وضع فيه شيئاً من نفسه. أنهم معجبون به. كل عامل يضع يده عليه بلطف وبود أن يبقى إلى جانبه فيقول لهم سيدهم:
لننتخب له الآن أسماً. ماذا ترى يا (دانوبه).
فيجيب العامل قائلاً وهو يحك رأسه:
- أود لو نسميه شقيق الشمس
فيقول الآخر:
- أو نسميه الوحيد أو الأحد
ثم يقول النساج:
- لا بل نسميه السرور. ألم ننسجه ونحن في جو من السرور والمحبة.
فيصفق الجميع له ثم يودعون هذا الشال الغالي الثمن ويرسلونه إلى أقصى مناطق الأرض ثم يعودون بعد ذلك إلى عملهم ليتعاونوا على إبداع أثر جديد من آثار الفن ينشرون به الجمال وينفعون به البشر.
جميل صليبا