المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (16)

- ‌المحرم - 1331ه

- ‌فاتحة السنة السادسة عشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الجهاد أو القتال في الإسلام

- ‌فتاوى المنار

- ‌عبر الحرب البلقانيةوخطر المسألة الشرقية [*](1)

- ‌أحوال مسلمي الصين

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌أبو سعيد العربي الهندي

- ‌صفر - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدولة العثمانيةتعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيهاونظرة في حالها ومستقبلها

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الانقلاب الخطروجمعية الأحمرين الدم والذهب

- ‌ربيع أول - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌عبر الحرب البلقانيةوخطر المسألة الشرقية(5)

- ‌نظريتي في قصة صلب المسيحوقيامته من الأموات(2)

- ‌خطبة لرأس هذه السنة الجديدةسنة 1331 هجرية [

- ‌الفهم والتفاهم

- ‌بيان حزب اللامركزية الإدارية العثماني [*]

- ‌حديث كامل باشامع مؤسس المؤيد

- ‌اللامركزية الإداريةحياة البلاد العثمانية

- ‌ربيع الآخر - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌إذن سلطانيعن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي

- ‌لائحة الإصلاح لولاية بيروت

- ‌كتاب سياسيللعبرة والتاريخ

- ‌انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية

- ‌المسألة العربية عند الاتحاديين

- ‌الصلح بعد سوء العاقبة

- ‌مستقبل الدولة العثمانية

- ‌جمادى الأولى - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌محاورة بين عالم سياسي وتاجر ذكيفي المركزية واللامركزية

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(2)

- ‌دعاة النصرانيةفي البحرين وبلاد العرب

- ‌جمعية خدام الكعبة [*]

- ‌كتاب متصرف عسيروقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي [*](يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح)

- ‌الكتاب الذي أرسل إلى السيد الإدريسيمن مأمور مفرزة (ميدي)

- ‌المؤتمر العربي بباريسوحزب اللامركزية بمصر

- ‌أخبار مختصرة مفيدة

- ‌جمادى الآخر - 1331ه

- ‌إشكالان في حديث وآيتين

- ‌ما الحكمة في الذبح

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(3)

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌قانون جماعة خدام الكعبة

- ‌السيد الإدريسيوالحكومة العثمانية

- ‌تفريط الاتحاديين بحقوق الدولةفي خليج فارس والعراق والطرف الشرقي من جزيرة العرب

- ‌الأخبار والآراء

- ‌رجب - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(4)

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌نظرة في الحرمين الشريفينومشروع جماعة خدام الكعبة

- ‌احتفال لتكريمأحمد فتحي باشا زغلول

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌قتل محمود شوكت باشا

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌فرنسا الإسلامية

- ‌المجلة المصرية الفرنسيةورأيها في المنار

- ‌الاتفاق الإنكليزي التركيعلى خليج فارس وشط العرب

- ‌مذهب الإباضيةفي صلاة المسافر والاستفتاح والتأمين

- ‌إحراق الكتب الضارة والفرق بينها

- ‌الإصلاح والاتفاقبين الاتحاديين والعرب

- ‌أهم الأنباء والحوادث

- ‌رمضان - 1331ه

- ‌أسئلة من البحرين

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة

- ‌نموذجمن إنشاء طلبة السَّنة التمهيديةلمدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌قرارات المؤتمر السوري العربي

- ‌شوال - 1331ه

- ‌وجود الله ووحدانيتهوالقضاء والقدر

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة

- ‌العرب والعربيةبهما صلاح الأمة الإسلامية

- ‌نزوح العرب عن أسبانيا

- ‌تركيا في بلاد العرب

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌حركة الأمة الهندية الشرقيةوالحكومة الهولندية

- ‌الإصلاح اللامركزي في البلاد العربيةواتفاق الترك مع العرب

- ‌ذو القعدة - 1331ه

- ‌صرف الزكاةللإعانة على تعليم القرآن والكتابةوغيرهما من العمل النافع

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌بيان للأمة العربية من حزب اللامركزية [*]

- ‌الجنسية واللغة

- ‌صحيفةالتيمس الأفريقية ومجلة الشرق

- ‌مصاب مصر والصحافة العربية الإسلاميةبالشيخ علي يوسف رحمه الله تعالى

- ‌الأزهر ودعاة النصرانية

- ‌بيان حزب اللامركزية والإصلاح في الولايات

- ‌عناية نظارة المعارف المصرية باللغة العربية

- ‌ذو الحجة - 1331ه

- ‌أنا عربي وليس العرب مني

- ‌تحويل مصلحة الأوقاف العمومية بمصر إلى نظارة

- ‌الإصلاح في نظارة المعارففي عهد أحمد حشمت باشا

- ‌الإسلام وحرية العقيدةوكتاب الدعوة الإسلامية

- ‌المرأة قبل الإسلام وبعده

- ‌سقوط مسقط [*]

- ‌الشيخ علي يوسف(2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة السادسة عشرة

الفصل: ‌صفر - 1331ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة السادسة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على

سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فقد جرت عادتنا أن نشير في فواتح

سني المنار إلى شيء من تاريخه أو تاريخ الإصلاح، أو حال سيره في عالم

الإسلام، ونقول الآن على رأس السنة السادسة عشرة: إن صوت الإصلاح الديني

قد علا كل صوت في الأقطار الإسلامية التي بلغتها دعوته وهزتها صيحته،

فخفتت دونه أصوات الحشوية الجامدين، والدجاجلة المخرفين، وقد خذل الله

ببيروت في العام الماضي أشدهم إفكًا وتخريفًا، فيما يسميه نظمًا وتأليفًا، فخذلته

الخاصة ولم تنصره العامة، وعورض ما يفتريه من الرؤى والأحلام بشيوع خبر

رؤيين رآهما بعض الصالحين من الحجاج، فقد حدثني الثقة المتفق على توثيقه

في بيروت قال: لما عاد والدي من الحجاز عام حجه جاء (الشيخ فلان) للسلام عليه،

وكان يُعد من أصدقائه وأقبل بلهف ودهشة ليعانقه، فصاح به والدي: يا شيخ فلان -

وذكر اسمه - إن النبي صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنك، فقد رأيته عند

زيارته في المدينة المنورة في الرؤيا، وأمرني أن أبلغك أنه غير راضٍ عنك.

وأما الرؤيا الأخرى فقد رُويت لي عن رجل من الحجاج أعطاه ذلك الدجال

نسخًا من كتبه ليوزعها في المدينة المنورة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في

نومه قبل دخول المدينة بليلة واحدة يقول له: إن هذه الكتب غير مقبولة، فلما

استيقظ ألقى تلك الكتب أو دفنها في جانب الطريق.

فمثل هاتين الرؤيين من ذينك الحاجين الصالحين نقض ما يدعيه ذلك الدجال

من الرؤى التي هو متهم فيها بتعظيم شأن نفسه، والتمهيد لدعوى الولاية له ولولده

وتحقير من اتخذهم أعداء له؛ لأنهم ينيرون عقول الأمة حتى لا تغتر بمثله.

هذا إيماء إلى عاقبة دجال القطر السوري المجاهر بعداوة الإصلاح وأهله،

ولا نكبر شأنه بالرد عليه أو التصريح باسمه.

وقد خفت أيضًا صوت دجال (جاوه) وظهر جهله، وما أبقى عليه تكريم

حكومة هولندة بل نسبه وسنه، ودجال تونس المقيم معدود عند عقلاء بلده من

المجاذيب أو المجانين، ولو كان في تونس حرية لحزب الإصلاح كالحرية الشاملة

لأهل الجمود والفساد؛ لرأى العالم الإسلامي من تونس ما لم يَرَه من سائر الأقطار.

وأما دجالها المتقلب في البلاد كتقلبه في الآراء والأفكار فهو يتتبع

مواقع الصيت والاشتهار، ويتأيّا مساقط الدرهم والدينار، فيدور مع من يملك ذلك

حيثما دار، حتى إنه أفتى بجواز بناء الكنائس للروم والبلغار، والإنفاق على ذلك

من بيت المال، فنال الحظوى بمثل هذه الفتوى عند زعماء جمعية الاتحاد والترقي،

واصطنعوه لكل ما يبغون من الخداع الديني، وقد خذلهم الله ولم يعتبر المسكين

{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 183) .

هذه حال المجاهرين بمقاومة الإصلاح الديني وأهله، لا صوت لأحد منهم

يُسمع، ولا رأي لهم يُتبع، وإنما يغترون بكثرة من يصدق الخرافات، ويسلِّم كل

ما يُعزى إلى الأموات تقليدًا للآباء والأمهات، ومواتاةً للأتراب واللدات، ويحسبون

هذا اتباعًا لهم، ويعدون أهله من أشياعهم، فيفتنون بكثرتهم، ويهونون من أمر

المصلحين لقلتهم، وقلة من يهتدي بهم، ولو فكروا وقدروا وتدبروا واعتبروا،

لرأوا أن هذه القلة هي محل الرجاء، وتلك الكثرة كالغثاء أو الهباء، وأنها تتفلت كل

يوم من أيديهم كما تتفلت الإبل من عقلها، بل من جامعة الإسلام التي عرفوا اسمها

وجهلوا حدها وفصلها، فكثرة أشياع الخرافات إلى قلة، وقلة حزب المصلحين إلى

كثرة، وقد فطن هرقل ملك الروم لهذا الأمر الذي جهله المغرورون، فسأل عن

أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ فلما علم أنهم على قلتهم في

ازدياد، وأن من دخل فيهم لا يخرج منهم، علم أنهم حزب الله الغالبون.

ولو رجَّع أولئك الدجالون البصر وكرروا التأمل والنظر، لرأوا أن هؤلاء

العوام الذين لم تبلغهم حقيقة دعوة الإصلاح، أو صدهم عن النظر فيها سدنة القبور

المعبودة وتجار الولاية والصلاح، هم الذين يتسللون يومًا بعد يوم مما يسمى

الإسلام التقليدي، ولا يهتدون السبيل إلى حقيقة الإسلام البرهاني، فأكثرهم يفتنون

بالشبهات المادية التي يبثها فيهم حملة قشور العلوم العصرية، ومنهم من يشُكُّون

في الإسلام بمطاعن دعاة النصرانية، فما بال زعماء الدجل والخرافات لا يتصدون

للرد على تلك الشبهات، وأنى لهم الرد عليها وهم لا يعرفون مواردها ومصادرها،

ولا يقفون على شيء من العلوم المتولدة هي منها، ولا يميزون بين أصول الإسلام

التي يجب الدفاع عنها، والخرافات والأوهام الملصقة بها، وإنما قصارى ما عندهم

أن يقولوا للعوام: إن جميع العلوم الطبيعية باطلة، وإن تعلمها كفر، ومتعلميها

زنادقة، ويريدون أن يتلقى الناس قولهم هذا بالقبول والتسليم، كما يوجبون عليهم

قبول جميع ما يقولون: إنه من الدين، على أنهم يعظمون الحكام والأغنياء

المتعلمين لتلك العلوم، فهل يرضى أحد بأن يكون من هؤلاء في مكان المقلد من

الإمام المعصوم؟ كلا إننا نرى كثيرًا من المتعلمين في المدارس العصرية يعدون

خرافات أمثال هؤلاء الدجالين حجة على جميع العلوم الإسلامية، فهم لذلك يصدون

عنها، ويعدون من إضاعة الوقت النظر في شيء منها.

يزعم هؤلاء الدجالون أن الضلال كل الضلال هو ما يدعو إليه المصلحون

من هدي الكتاب والسنة، على النحو الذي كان عليه الصدر الأول من الأمة، ونبذ

كل ما استحدثه الخلف، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا

هذا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة.

وقد جعلوا همهم الطعن في دعاة هذا الإصلاح، ورميهم بحجارة الزور

والبهتان، وأكبر شبهتهم أن هذا من الاجتهاد الذي انقطع فضل الله به عن العباد،

وأن كتاب الله الذي أنزله هدى للعالمين، ووصفه بالتبيان والمبين، لم يتبين معناه

إلا للأفراد القليلين، الذين وصفوا بالأئمة المجتهدين، حتى إنهم لو لم يوجدوا لما

أمكن لأحد أن يكون من المسلمين، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكفي

في بيان كتاب الله من دون علمهم، وإن قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ

لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) فإن لم يكن قد بيَّنه كما أمر الله، فكيف

يكون قد بلَّغ رسالة الله؟ وهل يُعقل أن يكون عجز عن ذلك وقدر عليه سواه؟ معاذ

الله، وحاش لله.

ألا إن هؤلاء ليسوا من أهل البصيرة والاستدلال، فنجذبهم بالحجة أو ندمغهم

بالبرهان، وإنما نريد بمثل هذا الكلام أن نُذكِّر من لهم نصيب من الاستقلال بأن

مقلدة أمثال هؤلاء المساكين كلهم عرضة للمروق من الدين، وأنهم لو كانوا يغارون

عليهم وعلى دينهم لجعلوا همهم في وقايتهم من الكفر والإلحاد، لا في وقايتهم من

هدي السنة وهدي القرآن، وحصروا عنايتهم في كشف الشبهات التي تخرجهم من

حظيرة الإسلام، لا في نشر الخرافات التي تحصرهم في زريبة الأوهام، ولكن

يظهر أن ترك الإسلام ألبتة أهون عليهم من ترك التقليد الأعمى إلى هداية الكتاب

والسنة؛ ولذلك نراهم يدهنون للمارقين من أصحاب المال والجاه، ويثنون عليهم

بالألسنة والأقلام، ولا تظهر غيرتهم على الدين إلا في تضليل حماة الدين، ونحمده

تعالى أن خذلهم وكبتهم، وصرف قلوب الناس عما تزوّر أقلامهم، وتفتري ألسنتهم.

هذا، وإن الإسلام ليشكو اليوم من شيطان الإفساد السياسي، ما لا يشكو من

شيطان الإفساد الديني، فقد غلب على مقام أولي الأمر زعنفة من عبدة الطاغوت

والشر جعلوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وأرهقوا الأمة قتلاً وحبسًا ومصادرةً

وتخويفًا، يأكلون تراث الأمة أكلاً لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا، إذا دعوتهم إلى

الحق وَلَّوْا منك فرارًا، وجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا

واستكبروا استكبارًا، وقد مكروا بأناس استخدموهم لغش المسلمين مكرًا كبارًا،

فاتبعوا من لم يزده ماله وجاهه إلا خسارًا، وكان من كيدهم ومكرهم - وعند الله

عاقبة مكرهم - أنهم عجزوا عن إسكان حركة الإصلاح، وإسكات نداء دعاته: حَيَّ

على الفلاح، أرادوا إفساد أمرها بتوسيدها إلى غير أهلها من المنافقين المتزلفين

إليهم، الراضين أن يكونوا آلات في أيديهم، فنصروا هؤلاء على أبناء بجدتها،

وآباء عذرتها، كما وسدت صروف الزمان إليهم من الأمر ما ليسوا له بأهل، فدنت

بذلك ساعة الأمة، وقد جاء أشراطها ، ولا تلبث أن تأتي بغتة، قال الصادق

المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)

رواه البخاري في صحيحه.

هذا هو السر في تناقض بعض الصحف التي ظهرت بعد ظهور الفئة الباغية،

والجمعية الطاغية الإسلامية في الظاهر الاتحادية في الباطن؛ إذ تمدح الإسلام

وتنفِّر عن الأعمال التي تحييه وتطعن في القائمين بها، وتدعو إلى الجامعة

الإسلامية، وتلقي الشقاق بين العاملين لها، ويزاحم أهلها المصلحين، وهم أعوان

المفسدين، ومنهم مَن تخدع رؤيته وتفتن خلابته ويغر ببكائه أو تباكيه، والمنافق

يملك عينيه فيبكي بهما متى شاء.

فكم أذرى الدموع لنهب مال

وكم أبدى الخشوع لنيل جاه

ومنهم من لو علم المغرورون برقته، حقيقةَ حاله في علمه وعمله وعقيدته،

لولَّوْا منه فرارًا، وأعرضوا عنه ازورارًا، واستصغروا أنفسهم استصغارًا،

لتعجلهم باتباع كل ناعق، وعدم التزييل بين الصادق والمنافق، وستظهر للجميع

الحقائق، فحبل الكذب وإن طال قصير، ومصير المنافقين شر مصير. وإنما

نخشى أن لا تظهر العبرة إلا بعد خراب البصرة، وأن يأخذ الله المسلمين كافةً بما

جنته تلك الفئة الباغية {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة} (الأنفال:

25) .

ذلك بأن الأمة تحتاج إلى ضروب من الإصلاح يمد بعضها بعضًا، وأصولها

خمسة: الديني، والعلمي، والاجتماعي، والسياسي، والمالي، وقد تداعت هذه

الأصول كلها في العالم الإسلامي، ولا يسهل إقامة بعضها إلا بإقامة باقيها؛ لهذا

أردنا عندما لاحت لنا من الآستانة بارقة الأمل في الإصلاح السياسي أن ننشئ فيها

عملاً كبيرًا من الإصلاح الديني والعلمي، الذي هو أكبر عون على غيره، ولا

سيما الإصلاح الاجتماعي، فعلمنا أن ما لاح لنا كان برقًا خلبًا، وسرابًا بقيعة

يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل تبين لنا أن مثل ذلك البلاء

النازل، الذي تراءى بصورة الإصلاح الخادع، كمثل ذلك العذاب الذي نزل

بصورة العارض {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا

بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا

يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24-25) .

أجل، إن هذا العذاب ليمثل ذلك الانقلاب، الذي حسبنا أن وراءه ما نرجو

من الإصلاح، فكان بسوء تصرف ذويه عين الإفساد، وقد أنذرنا الأمة سوء عاقبته،

وخطر مغبته، فتماروا بالنذر {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ

جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 3-5)

وقد هُزِمَ الجمع وولوا الدبر، فبأي القول والفعل بعد ذلك يُعْتَبَر، فإن لم يتدارك

الأمر أهل البصيرة والنظر، فلا منجاة بعد ذلك ولا مفر {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ

وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 46) لا أريد الإشارة إلى قيامة الناس كافة، بل

أريد قيامة هذه الأمة خاصة، فإذا هي فقدت هذا الرمق من استقلالها، وزال هذا

الذماء الذي تتردد به أنفاسها، فأي نوع تملكه بعده من أنواع إصلاحها.

فليس الخطر الذي نخشاه اليوم على الإسلام هو كيد المفسدين لدعاة الإصلاح

بإغراء غير أهله بالدعوة له؛ لمعارضة المضطلعين بالقيام به، واستئجارهم

المنافقين وتأييدهم على الصادقين، مع عدم تمييز الأكثرين بين المحقين والمبطلين،

ولا نحو ذلك من أعمال هؤلاء الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وإنما

الخطر الأكبر هو إفسادهم السياسي الذي فتح علينا باب المسألة الشرقية، فبدأ

بمملكة طرابلس الغرب الإفريقية، وثنى بولايات الدولة الأوروبية، ويُخشى أن

يثلث بالولايات الآسيوية، ولا ينفعنا يومئذ ظهور صدقنا وكذبهم، ونصحنا وغشهم؛

لأن الأمر يخرج من أيدينا وأيديهم، إلى مَن لا يرحمنا ولا يرحمهم، على أن

زعماء هذه الفتنة، ومبسلي هذه الأمة لا حظ لهم من الحياة إلا الجاه والمال، فإذا

فاتهم الأول بفقد الاستقلال، فإن لهم من الآخر ما يمتعهم بسائر اللذات، ولم يدرء

هذا الخطر مقاومة أهل الإخلاص لهم، وانتزاعهم تلك المقاليد من أيديهم، على أنه

لا يبعد أن تعود إليهم، فتكون الكرة الثانية هي الطامة القاضية، ولا يدرؤها من

بعد، مثل ما كان من قبل، وإنما يرجى أن يدرأه البدار إلى تقوية كل قطر من

المملكة في نفسه، ونوط الدفاع عنه وإقامة العمران فيه بأهله، وهو ما يعبرون عنه

بالمدافعة الملية، والإدارة اللامركزية، ثم بناء المصلحة العامة على قواعد الصدق

والإخلاص، فإذا لم تتفق الأمة والدولة على هذا، فعلى الأمة والدولة السلام.

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدعوة إلى انتقاد المنار

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض في الإسلام، هو سياجه وحفاظه

أن تعتدى حدوده بين أهله، كما أن الجهاد سياجه وحفاظه أن يعتدي عليه غير أهله،

وقد قصر المسلمون في الفريضتين فكان عاقبة أمرهم ما نسمعه ونرى ونذوق،

فالمنار يدعو كل من يطلع عليه ويرى فيه خطأً أن يبينه لنا بالمشافهة إن كان ممن

يلقانا ونلقاه، وإلا فبالكتابة، والطريقة المثلى في ذلك أن يقال: إن في صفحة كذا

من جزء كذا خطأً، ويبين ذلك الخطأ وصوابه بالدليل من غير استطراد ولا تطويل،

ونحن نرجع إلى الصواب إن ظهر لنا، أو نبين ما عندنا في المسألة.

هذه هي طريقة الأمر والنهي، والتواصي بالحق والصبر، لا ما يذهب إليه

أهل الأهواء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهو أنهم إذا رأوا أو

سمعوا - ولو كذبًا - أن أخاهم أخطأ في شيء أشاعوا ذلك بين الناس بالقول

والكتابة، فيدري بذلك الخطأ مَن يلقونه دونه، وربما كان ذلك منكرًا أو شبهةً على

الدين تعلق في نفس المستمع، ولا يدري كيف يتفصى منها، وكثيرًا ما يكونون هم

المخطئين، ومنهم من يصدق عليهم قول الشاعر:

إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا

شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا

فمن ابتلي من أهل التقوى والإخلاص من هؤلاء الذين يوسوسون في

صدور الناس يُذم أو يُسب أو يُطعن، مَن يدعى عليه أنه أخطأ، فليقل: إن هذه

غيبة يفسق صاحبها، لا نصيحة يتبع قائلها، فإن كان فلان أخطأ، فذَكِّره بينك

وبينه، فإن لم يرجع فهو شيطان، فأعرض عنه وقل سلام.

محمد رشيد رضا الحسيني

_________

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجهاد أو القتال في الإسلام

(س1) من صاحب الإمضاء في فاينات (خراسان) .

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى العلامة السعيد المرتضى، السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار

الغراء، بعد إهداء شكري إليه مما أنعمت به من فيض دجلة تلك المجلة، إني قرأت

في مجلتكم الغراء، ما يشعر بتنزيل ما ورد في الجهاد من الآيات الكريمة على الجهاد

الدفاعي فحسب؛ دفعًا لما أورده الإفرنج على دين الإسلام، وما نقموا من نكير

سيفه وتنمره في ذات الله، وهذا وإن كان له وجه وجيه بالنظر الفلسفي، حيث إن

العلة التي أوجبت الدعوة إلى دين يراد به ترقية الإنسان إلى كافة السعادات الدنيوية

والأخروية، وإخراج الناس كافة من الظلمات إلى النور، ومن الوحشية الموحشة

إلى المدنية المؤنسة، ومن الشقاوة الكبرى إلى السعادة العظمى، هي التي أوجب

إبرامها، والتي أوجب إبرامها هي التي أوجب إعلاءها، بحيث يصلح للبقاء إلى

قيام الساعة، والعقل السليم يفرق بين موجبات نشر دينٍ من شأنه دفع ظلمة

التوحش وطردها، وبين ما لا يراد به إلا التجافي عن الدنيا والفراغ للعبادة، ولو

في شعب الجبال، ويلزم على الصادع بمثل هذا الدين الدفاع عن علوه وبقائه، كما

يلزم عليه الدفاع عن إبلاغه وإسماعه، فمثله في عالم التشريع كمثل النور في عالم

التكوين، وكما أن النور يطرد الظلمة بسنا برقه، فكذلك ذاك الدين طارد للوحشة

بسنا بريقه، فهو من بدء ظهوره ظهر دافعًا، وهو كذلك إلى الأبد.

هذا هو الحق الحقيق بالتصديق لكنه لا يلائم ظاهر معنى الدفاع، ولا تقسيمهم

الجهاد إلى دفاعي وابتدائي، ولا يزيح علة الخصم في لجاجه وإيقاعه ولا يوافقه

شواهد التاريخ وأدلة الأحكام وعناوين الفقهاء التي كلها منك بمسمع ومرأى، ولو

تركناها على ظاهرها فإن تحقق معنى الدفاع بظاهره يتوقف على سبق الخصم

بالمزاحمة، وعليه فكيف يمكننا أن نقول: إن الفرس والروم زاحموا محمدًا

وصحبه الكرام، عليه وعليهم السلام، وهم في بحبوحة الحجاز حتى أوجب عليه

وعليهم دفعهم إلى حد الصين شرقًا وأفريقية غربًا.

فيا عجبًا من الإفرنج كيف يعدّ احتلال بلاد الإسلام وصلب رجالها واستحياء

نسائها أو ذبح أطفالها لأدنى فائدة اقتصادية ترجع إليهم من دون حق لهم عليه

مشروعًا تمدنيًّا بل دينيًّا، ولا يعدّ ضرب السيف بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة

وتخيير المكلف بين الإسلام ونيل سعادته الأبدية في أعقابه، أو قبول أدنى جزية

وصون حقوقه البشرية في إنجاده مشروعًا دينيًّا إسلاميًّا، مع أن ما هو عليه الآن

من الترقي والتمدن صدقة من صدقات الإسلام عليه بعد ما كان عليه من أخس

مراتب التوحش، أرجو من فضيلتكم السامية بعد تجديد شكري إليكم بسط الكلام في

هذا الموضوع بحيث تزيح علة الخصم مع موافقته لظواهر الآثار.

...

...

...

...

خادم الإسلام

...

...

...

... محمد حامد البيرجندي

من قطر قاينات من بلاد خراسان

(ج) لا يجهل أحد له نصيب ما من تاريخ الإسلام أن النبي صلى الله عليه

وسلم لما أظهر دعوته إلى الإسلام عاداه قومه وقاوموه وآذوه هو وكل من آمن به

واتبعه، ولم يعصم دمه ولا دم أحد من أصحابه إلا حماية عشائرهم أو مواليهم لهم

بنعرة النسب أو الولاء وعصبيتهما، وإن تلك الحماية لم تمنع الإيذاء بل اضطرت

قريش أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بأهل بيته مع ابن أخيه من

مكة إلى الشِّعب لإصراره على حمايته وعدم تمكينهم منه، ثم ما زالوا يكيدون

ويمكرون حتى ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه بصفة يضيع بها دمه في

كل القبائل، بأن يختاروا من كل قبيلة رجلاً ليضربوه بسيوفهم في آنٍ واحد،

فأطلعه الله تعالى على كيدهم، وأذن له بالهجرة من بلدهم، راجع تفسير قوله

تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال:

30) هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وهاجر السابقون

الأولون من أصحابه فآواهم إخوانهم الأنصار الذين كانوا أسلموا في موسم الحج

بمكة، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه من كل معتدٍ كما يمنعون

ويحمون أنفسهم وأولادهم، وبذلك صار حربًا للعرب عامة، وأهل مكة خاصة، أي

صاروا يعدونه محاربًا ويعدّهم محاربين بحسب العرف العام في ذلك الزمان، فكان

المؤمنون مع المشركين يومئذ كالعثمانيين مع البلقانيين اليوم، لا يقدر أحد أن ينال

من الآخر نيلاً فيقصر فيه، بل كانت العرب قبل البعثة وفي عهدها في غزو دائم

وقتال مستمر، لا يعصم قبيلة من قبيلة إلا بأسُها وقوتُها، أو المعاهدات التي كانت

تفي بها، فكانت كل قبيلة تتوقع القتال في كل أوان من كل قبيلة ليس بينها وبينها

عهد أو حلاف، فالحرب (معلنة) عرفًا في كل زمان ومكان، إلا ما كان لهم من

التقاليد المتبعة في الأشهر الحرم والبلد الحرام، ومن البين الجليّ أن البدء بالقتال لا

يعدّ من الاعتداء في مثل هذه الحال، ومع ذلك كان المشركون هم الذين يعتدون

على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويحزّبون عليهم الأحزاب، فكان قتاله

صلى الله عليه وسلم كله دفاعًا حتى ما كانت صورته هجومًا، وكانت القاعدة

الأساسية للحرب قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ

اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .

ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب بالقتال ملكًا، وقد رغبوا إليه في مكة

أن يجعلوه ملكًا عليهم بشرط أن يترك دعوته، وعرضوا عليه كل ما يقدرون عليه

من مال ومتاع، فلم يقبل ذلك وهو في حال الضعف والاحتياج، وكان دفاعه في

أكثر سني الهجرة دفاع الضعف للقوة، إلى أن أظفره الله الظفر الأكبر بفتح مكة،

وأظهر الآيات على حرصه صلى الله عليه وسلم على حقن الدماء وكراهته للقتال،

رضاؤه بصلح الحديبية وهو في قوة ومنعة، على ما في ذلك من الشروط الثقيلة

التي كرهها يومئذ جميع الصحابة، حتى تراءى للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم

خرجوا أو كادوا يخرجون من الطاعة. فالقتال الديني الحقيقي هو ما كان دفاعًا عن

الدعوة وأهلها، أو لحمايتها وحمايتهم في نشرها وتعميمها.

أما غير العرب فلم يتصدَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى قتال الروم منهم

في غزوة تبوك وكان سببها أنه بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام وقدموا

مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين بإغراء متنصرة العرب، ولولا ذلك لما أمر

بالخروج في ذلك الوقت الذي كان المسلمون فيه في عسرة ومجاعة، وقد أدركت

ثمارهم فاضطروا إلى تركها، والحر شديد، والشقة بعيدة، والعدد كثير، ولهذا

كانت هي الغزوة التي ظهر فيها صدق الصادقين ونفاق المنافقين.

على أن نشر الدعوة في ذلك العصر كان متعذرًا بغير قوة يأمن بها الدعاة

على أنفسهم، وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر، والفرس

والعراق قد اعتدوا على بعض أهلها وأخضعوهم لسلطانها، فلما اجتمعت كلمة أكثر

العرب في الجزيرة بجامعة الإسلام، صار أولئك الجيران عدوًّا لهم،

وكان العدو حربًا لعدوه حيث كان، فكان لا مندوحة للمسلمين - والحال ما ذكرنا - أن

يؤيدوا نشر الدعوة بما يستطيعون من قوة، ولكنهم لا يستعملون القوة إلا عند الحاجة

أو الضرورة، فكانوا يعرضون على الناس الإسلام، فإن أجابوا كانوا

مثلهم، وإلا اكتفوا منهم بأخذ جزية قليلة تكون اكتفاء شرهم، وتركوا لهم الحرية

في أنفسهم وأموالهم ودينهم، حتى إنهم لا يجبرونهم على التحاكم إليهم، وإن

تحاكموا إليهم ساووهم في ذلك بأنفسهم، فلم يكن الغرض من هذا إلا أن تكون دعوة

الحق في حماية قوة يمكن بها إظهارها كما يعتقدها ويدين لله بها أربابها، من غير

اعتداء على دين أحد ولا ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده، فهكذا كانت سيرة

الخلفاء الراشدين في فتوحاتهم.

وأما من بعدهم من خلفاء العرب وملوك الطوائف في عهدهم، فقد شاب

فتوحاتهم لنشر دعوة الإسلام شائبة حب سعة الملك وعظمة السلطان، ومع هذا قال

غوستاف لوبون من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران وعلماء التاريخ من الإفرنج:

(ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .

هذا مجمل ما نفهمه من آيات كتاب الله عز وجل، وسيرة نبيه صلى الله عليه

وسلم، وهو مبني على قواعد العدل والرحمة، وما شرع لأجله الدين من إصلاح

الأمة، وهو في الإسلام إصلاح البشر كافةً، ولسنا كغيرنا ممن يغيرون ويبدلون،

ويحرفون ويؤولون لدفع ما يعترض به المعترضون، فإن ديننا ليس كسائر الأديان

التي يدافع عنها أهلها كما يدافع المحامي عن موكله المبطل بتمويه باطله، وتصويره

بغير صورته، وإنما دفاعنا عن ديننا هو إظهار حقيقته، وإزالة ما عرض من

التمويه والتلبيس عليه.

ونحن نعلم أن المعترضين عليه فريقان لا ثالث لهما: الجاهلون بحقيقته،

والمعادون له للعصبية الدينية أو المطامع السياسية، وهؤلاء يطعنون فيما يرونه

من محاسنه بأشد مما يطعنون فيما يتوهمون من مساويه، وغرضهم من ذلك

إضعاف أهله بإزالة ثقتهم به ثم بأنفسهم، ومن ذلك طعنهم في مسألة الجهاد، وهم

لا يطعنون في التوراة التي تأمر باستئصال الأعداء واصطلامهم من الأرض، كما

بينا ذلك في المنار مرارًا، ومن أوضحها ما رددنا به على لورد كرومر.

ولو أن المسلمين عملوا بأحكام القتال كما أمر الله ورسوله لكان سلطانهم في

علو دائم، ومد لا جزر معه، بما يدعمه من العدل والرحمة، مع استكمال أسباب

القوة، فالواجب على الدعوة الإسلامية أن تكون أقوى دول الأرض وأن تقيم دعوة

الإسلام وتحميها بالقوة، وقد يكون ذلك بالدفاع وبالهجوم، مع مراعاة قاعدة:

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .

_________

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من الشيخ راغب القباني في بيروت

لقب الإمام

(س) تطلقون على المرحوم الشيخ محمد عبده لقب الأستاذ الإمام،

ونرى بعض المعترضين عليكم يقولون: إن هذا اللقب لا يجوز إطلاقه إلا

على المجتهدين أصحاب المذاهب المتبعة.

(ج) إن هذا اللقب قد أطلقه الناس على كثير من العلماء في القرون

الأخيرة حتى في هذا القرن وما قبله كما ترونه على الكتب المطبوعة في

مصر من تأليف علماء الأزهر وغيرهم الذين لم يدَّعوا ولم يدَّعِ لهم أحد

الاجتهاد ولا كانوا مظنة لدعواه، واشتهر إطلاقه على بعض العلماء في

القرون الوسطى ممن لا يعدونهم من المجتهدين بل يذكرونهم في طبقات

المقلدين كالفخر الرازي الأشعري الشافعي فهو الذي ينصرف إليه لقب الإمام

إذا أطلق في كتب أصول الفقه والكلام والمنطق التي ألفت بعده، وكان تاج

الدين السبكي يطلق على والده لقب الشيخ الإمام كما ترونه في كتبه كجمع

الجوامع، وطبقات الشافعية، وسبقه الرازي إلى ذلك.

* * *

قول الشيخ محمد عبده في الربا

(س) يزعم بعض الناس أن الشيخ محمد عبده فتح بابًا للقول بجواز

الربا إذا كان غير أضعاف مضاعفة.

(ج) نحن ما رأينا هذا الباب فدلونا عليه في كلامه، وبينوا لنا الباطل

منه لننشره للناس لإزالة الالتباس، ونحن نعلم أن بعض أعداء الإصلاح

يطعن في الرجل كذبًا وبهتانًا اتباعًا للهوى، فلا تغتروا بأقوال أمثال هؤلاء

الطاعنين اللاعنين.

* * *

التصوير الحيواني

(س) لم يقنع الناس بالاستدلال على جواز التصوير الحيواني بأن

المعلول يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، فإنهم يقولون: إن العلة لا تزال

موجودةً، فنرغب إليكم بالتفصيل.

(ج) ليس عندنا تفصيل نوافيكم به، ولسنا وكلاء على الناس فيما يرونه

ويعتقدونه، ونحن نعلم أن من الناس مَن هو مقتنع بأن ما شائبة للدين فيه من

أمر هذه الصور والتصوير لا يمس الدين، كالذي يفعله بعض جواسيس

الحرب، وكصور المجرمين التي تستعين بها الحكومة على معرفتهم

وكالصور التي يستعان بها على تعليم التشريح والتاريخ الطبيعي واللغة، فإن

كثيرًا من الحيوانات التي نرى أسماءها في كتب اللغة لا نعرف مسمياتها إذا

رأيناها ما لم نكن رأينا صورها، فإذا كان الناس الذين يعنيهم السائل يقولون:

إن علة تحريم الصور متحققة في هذا الأمثلة جدلاً وعنادًا أو رأيًا واعتقادًا فهم

لا يخاطَبون؛ لأنهم لا يفقهون.

_________

ص: 29

الكاتب: جمال الدين القاسمي

ميزان الجرح والتعديل [*]

(2)

درء وهم واشتباه

يقول بعضهم: إن مسلمًا روى عن ابن عباس أنه قال في نجدة الحروري:

(لولا أن أرده عن نتن يقع فيها ما كتبت إليه ولا نعمة عين) . قال النووي:

كان ابن عباس يكرهه لبدعته وهي كونه من الخوارج.

والجواب: أنه لا يلزم من كراهة الفرد كراهة المجموع، وإلا لما خرَّج

لثقاتهم وعلمائهم الشيخانُ وغيرُهما، وهل يؤخذ الجميع بجريرة الفرد؟ على

أن نجدة ليس من رجال الرواية عند المحدثين، فقد ضعَّفه الذهبي في (ميزان

الاعتدال) وقال عنه: ذكر في الضعفاء للجوزجاني، على أن الحال وصل

إليه في قومه أن يختلفوا عليه وينبزوه بالكفر كما تراه في كتاب (الفرق)

للإمام أبي منصور البغدادي، والملل والنحل للشهرستاني وغيرهما، فلا نعمة

عين - كما قال ابن عباس - ولو كان يُكره كل خارجي لبدعته لما أخرج

لأثباتهم أئمةُ السنة في الصحاح والمسانيد، ويكفي أن الإمام مالكًا رضي الله

عنه عُدَّ ممن يرى رأيهم، كما رواه الإمام المبرد في كامله [1] . ومن عزا لك

ما يأثره، وأراك مصدره، فقد أوقفك من المسالك على الصراط المستقيم.

ومن الغريب أن يستدل بعضهم على معاداة المُبَدَّعين بأمر النبي صلى الله

عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خُلفوا، ورفض تكليمهم حتى تِيبَ عليهم، مع

أنه لا تناسب بين دليله والدعوى بوجه ما؛ لأن البحث في الرواة المجتهدين

الثقات المتقنين الذين ما نبذ السلف مرويهم لرأي رأوه أو مذهب انتحلوه، فهل كان

المخلفون كذلك؟ وما المناسبة بين قوم هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم لذنب

محقق اعترفوا به حتى تيب عليهم، وقوم لا يرون ما هم عليه إلا طاعة وعقدًا

صحيحًا يدان الله به، وتنال النجاة والزلفى بسببه؟ فالإنصاف يا أولي الألباب

الإنصاف، وحذار من الجري وراء التعصب والاعتساف.

غريب أمر المتعصبين والغلاة الجافين، تراهم سراعًا إلى التكفير

والتضليل والتفسيق والتبديع، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا

ما دعا إليه الحسد، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم، وجهل مشرب

البخاري ومسلم، وأصحاب المسانيد والسنن هداة الأمة، ولا قوة إلا بالله.

* * *

ثمرة الرفق بالمخالفين

قال بعض علماء الاجتماع: يختلف فكر عن آخر باختلاف المنشأ والعادة

والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في

مسائل الدين والدنيا، ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين

بفكره، ويعتقد أنه يعمل صالحًا ويسدي معروفًا وينقذ من جهالة ويزع

عن ضلالة، ومن العدل أن لا يكون الاختلاف داعيًا للتنافر ما دام صاحب

الفكر يعتقد ما يدعو إليه، ولو كان على خطأ في غيره؛ لأن الاعتقاد في

شيء أثر الإخلاص، والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى؛

ليتغلب عليه بالبرهان، لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام، وما ضر

صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا،

ويراه غيره خطأً، أو يقرب منه، وفي ذلك من امتثال الأوامر الربانية، والفوائد

الاجتماعية ما لا يحصى، فإن أهل الوطن الواحد لا يحيون حياة طيبة إلا إذا

قل تعاديهم، واتفقت على الخير كلمتهم، وتناصفوا وتعاطفوا، فكيف تريد مني أن

أكون شريكك، ولا تعاملني معاملة الكفؤ على قدم المساواة؟

دع مخالفك - إن كنت تحب الحق - يصرح بما يعتقد، فإما أن يقنعك

وإما أن تقنعه، ولا تعامله بالقسر، فما قط انتشر فكر بالعنف، أو تفاهم قوم

بالطيش والرعونة، من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن

يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه؛ لأن ذلك من طبع البشر مهما

تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم.

وبعدُ فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون، هو من أهم العوامل في

رقيّ البشر، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها

في كل مجتمع، والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لا

العالمين، والمهوسين لا المعتدلين. اهـ مع تلخيص وزيادة.

ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ

إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة: 83) وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ

عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا

أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها.

* * *

حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين

لما استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف

الأولى من الهجرة ضجت عقلاء الفقهاء، وصوبت سهام الردود في وجوه زاعمي

ذلك، حتى قالت الحنفية - عليهم الرحمة - ما معناه: (لو أمكن أن يُكفَّر المرء في

أمر من تسعة وتسعين وجها، ومن وجه واحد لا يكفر؛ يُرجَّح عدم التكفير على

التكفير لخطره في الدين) .

ولم يشتد الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله والإرجاف به في عصر من

العصور مثل القرن الثامن للهجرة، ومن سبَر تاريخ الحافظ ابن حجر المسمى

(بالدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) أخذه من ذلك المقيم المقعد؛ إذ يرى

أن العالم الجليل الذي هو زينة عصره وتاج دهره، كان لا يأمن على نفسه

من الإفك عليه والسعاية به فيما يكفره ويحل دمه، حتى صار يخشى

على نفسه من أخذت منه السن، وأقعده الهرم، وأفلجته الشيخوخة، ولا من

راحم أو منصف - كما تقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام

النووي، وأنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دائمًا وثيقة أحد

القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره، ولقد أريقت دماء محرمة،

وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان

أعوامًا وسنين، حتى عج لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض

والسموات، بكشف هذه الغمم والظلمات، ولم يزل سبحانه يملي لها

ويستدرجها في غيها، ولم تحسب للأيام ما خبئ لها في طيها، إلى أن امتلأ

إناؤها، وحان حصدها وإفناؤها، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة، ودارت

على دولتها الدائرة، ومحق الله بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة، وأورثها

للدولة الصالحة العاقلة، فأمَّنت الناس على أنفسها ودمائها، وذهبت عصبة الجمود

بزبدها وغثائها.

سيقول بعض الناس ممن تغره القشور، ولم تقف مداركه على لباب روح

العصور: إن تلك الدماء المراقة والأرواح المهدرة، لم يحكم عليها إلا

بالبينة والشهود، التي بمثلها تقام الحدود، وهل بعد ذلك من ملام أو جحود؟

يقول ويجهل أو يتجاهل أن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة، أو الإيقاع بالشبهة،

وأن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنُّ الأجر بنصرة الدين بقتل

هؤلاء المساكين، لا سيما إذا دُفعوا بتشويق المتصولحين والمتمفقرين [2] ،

والحشوية البكائين، احتيالاً وقنصًا للمغفلين.

ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالين المضلين الإغراء بقتل

الداعين إلى الكتاب والسنة، والمجاهدين في الإصلاح العاملين، على أن

قاعدة المحققين هي عدم البتّ في أمر تاريخي إلا بعد تعرفه من أطرافه، ومراجعة

عدة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته، والإشراف على غثه وسمينه، ووزنه

بميزان العقول السليمة، والقواعد الاجتماعية المعقولة، كما أشار إليه الإمام ابن

خلدون في مقدمته.

نحن لم نصِم أعمال أولئك بالظلم والجور والبغي إلا لما فضح نبذًا منها

الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب (البهجة، واللامية، والديوان،

والمقامات) فقد شفى بالحقيقة الأوام، وأوضح عن مكر أولئك بالتمويه

والإيهام في مقالة بديعة أنشأها في القاضي الرباحي المالكي [3] سماها

(الحرقة للخرقة) . ولا بأس بنقل جمل منها تأييدًا لما قلناه، قال رضي الله عنه:

أما بعد، حمدًا لله الذي لا يحمد على المكاره سواه، والصلاة والسلام على

نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاف مقام ربه وعصم من اتباع هواه،

وعلى آله وصحبه الذين بذل كل منهم في صون الأمة قواه، وسلمت صدورهم

من فساد النيات، وإنما لكل امرئ ما نواه، فإن نصيحة أولي الأمر تلزم،

والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم، والمتكلم لله تعالى مأجور،

والظالم ممقوت مهجور، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة،

والنثر والنظم للذَّب عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة، وجرحة الحاكم

الأعراض بالأغراض صعبة؛ إذ نص الحديث النبوي: أن حرمة المسلم أعظم

من حرمة الكعبة، ومخرق خرقته مذموم، ولحم العلماء مسموم، وهذه

رسالة أخلصت فيها النية، وقصدت بها النصيحة للرعاة والرعية، أودعتها

من جوهر فكري كل ثمين، وناديت بها على هزيل ظلم أبناء جنسي مناداة

اللحم السمين، لكن جنبتها فحش القول؛ إذ لست من أهله، وخلدتها في ديوان

الدهر شاهدة على المسيء بفعله، ورجوت بها الثواب، نصرة للمظلوم،

وغيرة على حملة العلوم، وسميتها:(الحرقة للخرقة) فقلت: اعلموا يا ولاة

الأمر، ويا ذوي الكرم الغمر، أبقاكم الله بمصر [4] للأمة، ووفقكم لدفع الإصر

وبراءة الذمة، أن حلب قد نزعت للزبدة، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي

في خسر وشدة، قاضٍ سلب الهجوع وسكب الدموع، وأخاف السرب، وكدَّر

الشرب، بجراءته التي طمت وطمت، وعَمايَته التي عمت وغمت، وفتنته

التي بلغت الفراقد، وأسهرت ألف راقد، ووقاحته التي أدهشت الألباب، وأخافت

النطف في الأصلاب، فكم لطخ من زاهد، وكم أسقط من شاهد، وكم رعب

بريًّا، وكم قرب جريًّا، وكم سعى في تكفير سليم، وكم عاقب بعذاب أليم،

وكم قلب ذائب، بنائبة توسط بها عند النائب، فامتنعت الأمراء عن

الشفاعة، وظنوا هم والنائب أن هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة:

يا حامل النائب في حكمه أن يقتل النفس التي حرمت

غششته والله في دينه بشراك بالنار التي أضرمت

(إلى أن قال الزين ابن الوردي) : ثم إنه فسق مفتيًا في الدين، وفضح

خطيبًا على رؤوس المسلمين، ثم قال: يحب إثبات الردة والكفر كحب الدنانير

الصفر.

حاكم يصدر منه

خلف كل الناس حفر

يتمنى كفر شخص

والرضا بالكفر كفر

(ثم قال) : إذا وقع عنده عالم فقد وقع بين مخالب الأسود، وأنياب

الأفاعي السود:

أدركوا العلم وصونوا أهله

من جهول حاد عن تبجيله

إنما يعرف قدر العلم من

سهرت عيناه في تحصيله

ثم قال: ما أقدره على السفير، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير، كم

دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب، ونراه حيران لعدم الرقة، فإذا قيل له:

فلان قد كفر، طاب، يحبس على الردة بمجرد الدعوى، ويقوي شوكته على

أهل التقوى، قد ذلل الفقهاء والأخيار، وجرأ عليهم السفهاء والأغيار:

يحبس في الردة من

شاء بغير شاهد

لا كان من قاضٍ حكى الـ

ـفقاع جد بادر

أراح الله من تعرضه، وصان عراض الأعراض من تعرضه، يقصد

بذلك أهل الدين، والقراء المجودين:

جرحت الأبرياء فأنت قاضٍ

على الأعراض بالأغراض ضاري

ألم تعلم بأن الله عادل

(ويعلم ما جرحتم بالنهار)

هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية،

وكلها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصب قضاة ذلك الوقت، ولا سيما

المالكية منهم، ولقد كان قضاة المذاهب يحيلون الأمر في التعزير والتأديب إلى

القاضي المالكي لما اشتهر في الفقه المالكي من مضاعفة النكال، وشدة التأديب في

باب التعزير؛ إذ بسط للقاضي يده فيه بسطًا لم يوجد في مذهب غيره، فلذا كان

محبو الانتقام والتشفي يعمدون إلى إحالة القضية إلى القاضي المالكي؛ لما يعلمون

ما وراء قضائه، مما فصل بعضه الإمام ابن الوردي كما قرأت، على أن الأمر في

التعصب لم يقف عند القاضي المالكي وحده لنتعصب ضده، وإنما كان هو الأقوى

تعصبًا والأشد تصلبًا، وإلا فإن مظهر ذاك العصر كان التعصب لجميعهم، فقد حكى

الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في مقدمة طبقاته الكبرى المسماة بلواقح الأنوار ما

مثاله: وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة أن

شخصًا وقع في عبارة موهمة للتكفير، فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أرادوا قتله

قال السلطان جقمق: هل بقي أحد من العلماء لم يحضر؟ فقالوا: نعم، الشيخ جلال

الدين المحلي شارح المنهاج، فأرسل وراءه فحضر، فوجد الرجل في

الحديد بين يدي السلطان، فقال الشيخ: ما لهذا؟ قالوا: كفر، فقال: ما مستند من

أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني من مشاهير الشافعية، وقال: قد أفتى

والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير، فقال الشيخ جلال

الدين رضي الله عنه: يا ولدي أتريد أن تقتل رجلاً مسلمًا موحدًّا يحب الله ورسوله

بفتوى أبيك؟ حلوا عنه الحديد، فجردوه، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج

والسلطان ينظر، فما تجرأ أحد يتبعه رضي الله تعالى عنه.

وقد عد الشعراني من الأعلام الذين أكفرهم الجامدون المتعصبون ما

يقرب من الثلاثين، فمنهم القاضي عياض، اتهموه بأنه يهودي؛ لملازمته

بيته للتأليف نهار السبت، وذكر أن المهدي قتله.

ومنهم الإمام الغزالي كفره قضاة المغرب وأحرقوا كتبه، ومنهم التاج

السبكي رموه بالكفر مرارًا، وسجن أربعة أشهر [5] ، وكل هذا إنما كان بزعم

المتعصبين بشهادات وأقضية وفتاوى، ولكن سرعان ما فضحهم التاريخ

وكشف عوارهم، كما حكاه الشعراني وغيره، والحمد لله الذي جعل الباطل

زهوقًا.

وهكذا يمر بتواريخ تلك القرون ما لا يحصى من حوادث من أقيمت عليهم

الفتن، واتهموا بما اتهموا به، مع أن الحدود تدرأ بالشبهات، ونعني بالحدود ما نص

عليه في الكتاب العزيز والسنة الغراء، فإذا كانت في تلك المكانة وقد شرع

فيها محاولة درئها بالشبهات، فكيف بحدود لا سند لها إلا بالاجتهاد، وليس لها أصل

قاطع، ولا نص محكم، فلا ريب أنها أولى بالدرء، وأجدر بالدفع، ولا يدري

المرء ما الذي حملهم على نسيان هذه الموعظة حتى عكسوا القضية، وأصبحوا

يكبرون الصغير، ويعظمون الحقير، ويهولون الأمور، ويدعون بالويل والثبور،

مما لا يقومون بعشره للمنكرات المجمع عليها، والكبائر التي يجاهَر بها، فلا حول

ولا قوة إلا بالله.

ولما تشددت القضاة المالكية في هذا الباب، أصبحوا هدفًا لأولي الألباب،

حتى قال الإمام ابن الوردي في ذاك القاضي المتقدم الرباحي: إن المالكية

بدمشق كتبوا إليه: يا مغلوب، لقد بغضت مذهب مالك إلى القلوب، وقطعت

المذاهب الأربعة عليه بالخطا، وزالت بهجته عند الناس وانكشف الغطا، إلخ.

والسبب في ذلك ما ابتدعه الملك الظاهر برقوق من توظيف قضاة أربعة

على المذاهب الأربعة مما لم يعهد قبله في دولة من الدول، حتى نشأ من ذلك

ما نقمه عليه الأعلام، وعدوه من التفرقة في الإسلام، قال التاج السبكي في

طبقاته [6] ، في ترجمة قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب

ابن بنت الأعز الشافعي المتوفى سنة 566، ما مثاله: وفي أيامه جدد الملك

الظاهر القضاة الثلاثة في القاهرة، ثم تبعتها دمشق وكان الأمر متمحضًا

للشافعية، فلا يعرف أن غيرهم حكم في الديار المصرية منذ وليها أبو زرعة

محمد بن عثمان الدمشقي في سنة 284 إلى زمان الظاهر إلا أن يكون نائب

يستنيبه بعض قضاة الشافعية في جزئية خاصة، وكذا دمشق لم يَلِهَا بعد أبي

زرعة المشار إليه إلا شافعي غير التلاشا عوني التركي، الذي وليها يويمات

وأراد أن يجدد في جامع بني أمية إمامًا حنفيًّا، فأغلق أهل دمشق الجامع،

وعزل القاضي [7] .

(قال السبكي) : واستمر جامع بني أمية في يد الشافعية، كما كان في

زمن الشافعي رضي الله عنه، قال: ولم يكن يلي قضاء الشام والخطابة

والإمامة بجامع بني أمية إلا من يكون على مذهب الأوزاعي إلى أن انتشر مذهب الشافعي، فصار لا يلي ذلك إلا الشافعية. ثم قال السبكي: وقد حكي أن الملك

الظاهر رؤي في النوم فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: عذبني عذابًا شديدًا بجعل

القضاة أربعة، وقال: فرقت كلمة المسلمين. اهـ.

ولا يخفى على ذي بصيرة ما حصل من تفرق الكلمة، وتعدد الأمراء

واضطراب الآراء، وقد قال أبو شامة لما حكى ضم القضاة، أنه ما يعتقد أن

هذا وقع قط. قال السبكي: وصدق فلم يقع هذا في وقت من الأوقات، قال:

وبه حصلت تعصبات المذاهب، والفتن بين الفقهاء، فإنه يؤيد ما قدمناه من

اتخاذ هذه آلة للفتن والتشفي من المخالفين، حتى أدال الله من تلك الدولة

للسلطان سليم خان، فنسخ كل ذلك، وقصر الأمر على قاضٍ حنفي واحد،

ولا ريب أن هذا كان من النعم الكبيرة، إذ قمعت به فتن خطيرة، وحسمت به

شرور وفيرة، نعم لم يزل في الأمر حاجة إلى الكمال، وهو سعي أولي الحل

والعقد بعقد مؤتمر علمي من كبار فقهاء المذاهب المعروفة، وتأليف مجلة

تستمد من فقه سائر الأئمة الأربعة وغيرهم مما فيه رحمة ويسر، ومشى مع

المصالح والمنافع، ودفع المضار في أبواب المعاملات، فبذلك تظهر محاسن

الدين في الأقضية والأحكام، ويعرف أنه دين المدنية في كل زمان ومكان إلى

قيام الساعة وساعة القيام، وإن اليوم الذي تتحقق فيه هذه الأمنية لهو أسعد الأيام،

والمستعان بالله ذي الجلال والإكرام اهـ.

_________

(*) لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.

(1)

جزء 2.

(2)

المتمفقر: كالمتمسكن مدعي الفقر، أي: التصوف، وليس من أهله.

(3)

راجعها في ص (190) من المجموعة الأدبية التي طبعت في مطبعة الجوائب عام (1300) ، مشتملة على لامية العرب وشرحها وشرح المقصورة الدريدية، وديوان ابن الوردي، وديوان الخشاب ورسائله.

(4)

كانت مصر في عهد المؤلف، وهو القرن الثامن: عاصمة دولة المماليك.

(5)

ذكر السبكي محنته هذه في آخر منظومة له في الفقه، عندي الكراسة الأخيرة منها.

(6)

جزء (5) ص (134) .

(7)

تأمل هذا التعصب واسترجع وحوقل، أين غاب عنهم فضل سائر الأئمة المبتوعين الأربعة وغيرهم، وكيف نسوا أن الناس عيال عليهم، تستمد من بركة فقههم واستنباطهم وتأصيلهم وتفريعهم؟ ما أجمد قومًا يزعمون أنهم تعبدوا بمذهب واحد، أو اتباع إمام واحد، أوَ ما علموا أن كلهم من رسول الله ملتمس، وأن الله تعالى إنما تعبَّد الناس بتنزيله الكريم وهدي نبيه المعصوم.

ص: 30

الكاتب: أحمد عمر الإسكندري

...

...

نظرة في الجزء الثاني من كتاب

تاريخ آداب اللغة العربية [*]

(2)

الخطأ في النقل

قد أخطأ المؤلف في نقل عبارات المؤلفين إما بتصرفه فيها تصرفًا أفسد

معناها، وإما بتحريف الكلم، وإما بنقلها عن نسخة محرَّفة من غير تمحيص

لها، فمن ذلك:

(1)

قوله في ترجمة سلم الخاسر: هو سلم (ويقال سالم) ابن عمرو،

أحد موالي أبي بكر الصديق.

فسالم الخاسر هو (سَلْم) بفتح السين وسكون اللام، فمن أين جاء

للمؤلف أن يقال في اسمه: سالم أيضًا، وليس سلم مجهولاً حتى يشتبه في

اسمه.

منشأ هذا التحريف الذي وقع فيه المؤلف أن نسخة تاريخ ابن خلكان

المطبوعة كتب فيها (سلم) بألف توهمًا من الناسخ الأصلي أن الألف محذوفة

كما تحذف في (القسم والحرث) فأثبتها وطبعت النسخة على هذه الصورة

خطأً، وفي نسخة ابن خلكان هذه ذكر اسم (سلم) منظومًا في الشعر في قول

أبي العتاهية له:

تعالى الله يا سلم بن عمرو

أذل الحرص أعناق الرجال

ونحن لا نشك أن المؤلف قرأ ترجمة (سلم) في (الأغاني) وفيها وقع

اسمه منظومًا في غير موضع، فمن ذلك قول أبي العتاهية:

إنما الفضل لسلم وحده

ليس فيه لسوى سلم درك

وله فيه وقد حبس إبراهيم الموصلي:

سلم يا سلم ليس دونك سر

حبس الموصلي فالعيش مر

وقول أبي محمد اليزيدي فيه:

عق سلم أمه صغرًا

وأبا سلم على كبره

ومن هجاء أبي الشمقمق فيه:

* يا أم سلم هداك الله زورينا *

وقول مروان بن أبي حفصة فيه:

أسلم بن عمر وقد تعاطيت غايةً

تقصر عنها بعد طول عنائكا

وقول أشجع السلمي يرثيه:

يا سلم إن أصبحت في حفرة

موسدًا تربًا وأحجارًا

فرب بيت حسن قلته

خلفته في الناس سيارًا

فهو عند هؤلاء الشعراء المعاصرين له اسمه (سلم) فحسب، ويجوز

عند مؤلفنا وناسخ ابن خلكان أن يُسمى (سالمًا) أيضًا، فليختر القارئ لنفسه ما

يحلو.

(2)

ومن خطئه في النقل قسمه اسم رجل واحد على مسميين، فذكر

في ترجمة الصولي (ص175) أن له كتابًا اسمه الأوراق وهو في دار

الكتب الخديوية، وذكر ممن ترجم له هذا الكتاب أحمد بن يوسف بن صبيح،

فقال: (وأحمد بن يوسف وزير المأمون وآله، وابن صبيح كاتب دولة بني

العباس، وتوقيعات أحمد المذكور وكلامه فضلاً عن أشعاره) .

والحقيقة أن الثاني هو عين الأول، ومن يراجع الكتاب يعرف ذلك.

وهو أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح، ويتبين هذا أيضًا من خلال كلام

مؤلفنا؛ إذ ذكر أحمد ثم ابن صبيح ثم قفَّى بذكر توقيعات أحمد ورسائله

وشعره.

فلو كان ابن صبيح غير أحمد، فما الداعي لفصل توقيعات أحمد عن

ترجمته؟

ولو فرضنا أن المؤلف يريد بابن صبيح جده القاسم، فذلك لم يكن كاتب

دولة بني العباس، بل كان يكتب لبني أمية وللمنصور في بدء خلافته، ولم

تطل أيامه، وليس هناك في الكتابة، وإنما ذكره الصولي مع من ذكره من آل

أحمد بن يوسف.

(3)

ومن خطئه في النقل بتصرفه في عبارة المؤلفين قوله في ترجمة

ابن الرومي صفحة 158:

(اشتهر بالتوليد في الشعر؛ لأنه أتى بكثير من المعاني لم يسبق إليها،

ومن مميزاته أنه لا يترك المعنى حتى يستوفيه، ويمثله للقارئ تمثيلاً) .

ومن عبارة المؤلفين في ذلك ما قاله صاحب معاهد التنصيص:

(هو أبو الحسن.. . صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب يغوص

على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن قالب، وكان إذا

أخذ المعنى لا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية) .

وقال ابن خلكان: (صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على

المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها، ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك

المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية) .

فترى أن عبارة ابن خلكان أجود في تصوير الشاعر، وعنه نقل صاحب

معاهد التنصيص مع تغيير قليل.

فرأى مؤلفنا أن ينقل عنهما بتغيير آخر، ولكن تغييره شذ عن مرادهما

فهما يقصدان بقولهما: (صاحب التوليد الغريب) أنه إذا استنبط معنًى من

قرآن أو حديث أو حكمة أو مثل أو من كلام شاعر آخر، أو اخترعه اختراعًا

لا يزال يولد منه معاني متشاكلةً بالزيادة عليه أو النقص منه، أو بالقياس عليه

فيستعمله في مدح ويقلبه في هجو ويزينه في وصف حتى لا يدع لغيره وجهًا

أيًّا كان يستعمله فيه بعد، وقد فسر المؤلفان غرضهما في عبارتهما بقولهما:

(يغوص على المعاني.. .) إلخ.

ففهم مؤلفنا من التوليد أنه يأتي بمعانٍ لم يسبق إليها، مع أن ابن الرومي

كثيرًا ما يُغِيرُ على قول غيره، وفهم من قولهما: (وكان إذا أخذ المعاني

) إلخ،

أنه يوضح المعنى، ويمثله تمثيلاً، وما كان عليه لو نقل عبارة المؤلفين

كما فعل في أكثر مواضع الكتاب.

(4)

ومن تقصير المؤلف في توضيح ما ينقله ما نقله عن السيوطي ـ

ناقلاً عن كتاب العين، ومختصر الزبيدي ـ إحصاء المستعمل من الألفاظ العربية

والمهمل منها، فاستخرج المؤلف من كلام الزبيدي جدولاً استنتج منه أن عدد

المستعمل من ألفاظ اللغة العربية 5620 لفظًا، مع أن كتاب القاموس وحده،

وهو ليس إلا قطرةً من بحر اللغة العربية، يشتمل على ستين ألف مادة، متوسط ما

في كل منها من المزيد والمشترك عشرون كلمة على الأقل، أي نحو مائتي ألف وألف

ألف كلمة، فكيف ولسان العرب به ثمانون ألف مادة، متوسط ما في كل منها

ثلاثون كلمة على الأقل.

والمؤلف نقل عبارة الزبيدي عن المزهر للسيوطي، وهي فيه مختلة

أيضًا أسقط منها النساخ كلمة (ألف) المكررة في عدد المهمل والمستعمل

فصار فيها ألف الألف (أي المليون) ألفًا فقط، ويعرف هذا بمراجعة مقدمة

شارح القاموس، فإنه نقل عبارة الزبيدي أيضًا، وفيها مكان الألف في بيان

المهمل والمستعمل (ألف ألف) وإن وجد بها بعض تحريف أيضًا، فكان جديرًا

بالمؤلف أن يزن العبارة بميزان عقله، ويعدلها - إذا شاء - كما عدل الأرقام

التي ذكرها المزهر؛ لتصح له عملية الجمع.

(5)

ومن تحريف المؤلف بنقل عبارة المؤلفين ناقصة ما نقله في

ترجمة المتنبي في قوله: (حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان،

وفي وسطه سيف ومنطقة، ويركب بحاجبين من مماليكه، وهما بالسيوف

والمناطق، فلما رأى كافور منه سموّه بنفسه وتعاليه بشِعْره خافَه، وقال: يا

قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ألا يدَّعي المُلك مع

كافور؟ فحسبكم. فأغضبه فخرج أبو الطيب من مصر.

والمتأمل في هذه العبارة يجد أن قول كافور: يا قوم.. . إلخ، مقتضب

مما قبله بل هو تتمة لكلام محذوف، وهو الواقع فإن كافورًا كان وعده بولاية

بعض أعماله، وطمع المتنبي في ذلك، واستنجزه وعده في شعره مرارًا وهو

يماطله، فعاتبه بعض كبار الدولة في مطله عن إبلاغه أمنيته على كثرة مدحه

له وهجرته إليه مغاضبًا لسيف الدولة فقال كافور: يا قوم.. . إلخ.

* * *

عدم تحري الحقيقة والصواب

اعتاد المؤلف أن ينقل إلى كتبه ما يعتقده بذاته، أو ما يكون ذائعًا على ألسنة

عامة القراء والوراقين، أو يقرؤوه في الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها،

من غير تمحيص لحقيقتها؛ حرصًا على إفادة القراء وإتحافهم بالغرائب،

وهو اجتهاد يشكر عليه؛ لولا ما يشوّه بهذه الأخبار محاسن كتبه من حيث لا

يقصد، وربما يلتمس له في ذلك عذر، وهو تسرعه في تأليف الكتب تعجيلاً

لفائدتها، وأن التحري والبحث والتحقيق والتدقيق كلها تستدعي أزمانًا طويلة

ومراجعةً لكثير من الكتب، ومساءلةً لجمهور الأدباء، وهو ما يضيق دونه

وقته الثمين، وعامة القراء يرضيهم ما دون ذلك، والمستفيد يتوخى أربح

الطريقين (وَلِكُلٍّ وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)(البقرة: 148) .

ولكن الرأي الذي نراه أنه ينبغي لكل من تعرض لتدوين التاريخ في

السياسة أو الأدب ألَاّ يكتفي برواية كتاب واحد أو كتابين وبما يذيع على ألسنة

الناس، بل يجب عليه تحقيق الخبر وتمحيصه والأخذ بالرواية القريبة من

العقل، واللائقة بمنزلة من روي عنهم.

ويوجد في هذا الكتاب كثير من الأخبار التي اغتر المؤلف بنقلها من

الكتب ولم يمحصها، فمن بعض ذلك:

(1)

نقله عبارة ابن خلكان التي نقلها مثل المؤلف كثير من الناقلين من

أن الأمين جمع بين سيبويه والكسائي في مجلسه للمناظرة، وأن الكسائي

زعم أن العرب تقول: (كنت أظن الزنبور أشد لسعًا من النحلة فإذا هو إياها) .

وأن سيبويه قال: إن المثل: (

فإذا هو هي) وأن الأمين تعصب لأستاذه

الكسائي وأوعز سرًّا إلى أعرابي حكَّمُوه في المسألة أن يصوب الكسائي

ويخطئ سيبويه.

مع أن المسألة مشهورة في كتب الأدب والتاريخ والنحو من أن المناظرة

جرت في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وأن الكسائي كان يجيز الوجهين، أي:

(فإذا هو هي) و (فإذا هو إياها) وأن أعرابًا عدة معروفين بعينهم

وأسمائهم شهدوا بجواز الأمرين، وأن الغلبة كانت على سيبويه في هذا المقام،

وليس في العلم كبير. وهذا ما يليق بمقام الكسائي والأمين وثقات رواة

الأعراب.

والقصة مبسوطة بالتفصيل في معجم الأدباء لياقوت ص 191 ج 5 في

ترجمة الكسائي، وفي ص 81 ج6 ولم يكمل طبعه، ولكن ما طبع اطلعت

عليه، وفيه ترجمة سيبويه، وفي ص 366 من بغية الوعاة في طبقات النحاة،

وفي مبحث (إذا) من الجزء الأول من مغني اللبيب لابن هشام وفي غيرها

من الكتب غير المطبوعة، وفي أكثرها إعراب الوجه الثاني من الوجهين

اللذين يجوِّزهما الكسائي، وأن البصريين أنفسهم لا ينكرون صحة شهادة

الأعراب الثقات، وإنما يطعنون فيهم بأنهم من أعراب الحطمة، أي أنهم ليسوا

فصحاء، ولولا طول هذه القصة لأوردتها من كثير من الكتب التي تخالف ابن

خلكان في النقل، وربما اطلع عليها المؤلف ولكنه آثر روايته؛ إما لغرابتها

أو لغرض آخر.

(2)

ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة والصواب قوله في

ص 146 في تعداد كتب الواقدي:

-2 - كتاب فتوح الشام: هو أشبه بالقصص منه بالتاريخ؛ لما حواه من

التفاصيل والمبالغات؛ لكنه مؤسس على الحقيقة. وفيه حقائق لا توجد في

سواه من كتب الفتوح، وقد طبع مرارًا إلى أن قال: وطبع أيضًا في مصر

سنة 1882 وغيرها.

ثم بعد أن ذكر عدة كتب له قال:

-7 - عدة كتب في الفتوح تنسب إليه كفتح منف والجزيرة والبهنسا طبعت

بمصر وغيرها، وكان له كتاب يسمى فتوح الأمصار لم نقف عليه، ولكن

المؤرخين نقلوا عنه. وأكثر كتبه محشوة بالمبالغات لا يُعول عليها، وفي مجلة

المشرق البيروتية مقالة انتقادية في الواقدي ومؤلفاته (صفحة 936 سنة 10)

جزيلة الفائدة.

أقول: إني لم أطلع على مجلة المشرق ولا على انتقادها، ولكن الأمر لا

يجهله من له أدنى إلمام بتمييز كتابات العصور المختلفة أو بالتاريخ أن كتب

المغازي التي تطبع في مصر من مثل فتوح الشام ومصر والبهنسا وفتح خيبر

وفتح مكة، ورأس الغول ونحوها ـ هي من الكتب الموضوعة الخيالية المشتملة

على بعض حقائق تاريخية، والأقرب أنها وضعت هي وقصة عنترة وذات

الهمة وغيرها زمن الحروب الصليبية؛ لتغرس في الناس فضيلة الشجاعة

والاقتداء بالسلف الصالح، لا أنها هي نفس كتب الواقدي الحقيقية، وإن الذين

سموها بهذه الأسماء هم جماعة الوراقين والنساخين؛ لترويج سلعهم عند

القراء، كما نسب مؤلف قصة عنترة وروايتها إلى الأصمعي، وزعم أنه عمر

وأدرك الجاهلية وقابل شيبوبًا أخا عنترة، وإني لأخجل أن أرى مثل مؤلفنا قد

انخدع بهذا الباطل، وطوح به الأمر أن قال في كتب الواقدي أبي التاريخ: إنها

محشوة بالمبالغات لا يعول عليها، وليت شعري على من نعول في تاريخ الفتوح

إذا لم نعول عليه وهذا ابن سعد كاتب الواقدي وتلميذه نقل عنه أكثر أخبار الفتوح

في كتابه الكبير طبقات ابن سعد، البالغ بضعة عشر مجلدًا، وهو أصح كتاب

في طبقات الصحابة.

على أن المؤلف لو راجع عبارة بعض هذه الكتب المنحولة للواقدي

وبعض الكتب الأخرى الصحيحة النسبة إليه كفتح إفريقية وفتح العجم؛ لميز

بين الصحيح والموضوع، ولكن قاتل الله العجلة، وخاصة العجلة في

التأليف.

(3)

ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة: نقله ما يقول بعض

خصوم الجاحظ من الصفاتية وأهل السنة من أنه كان يقول: إن القرآن المنزل من

قبيل الأجساد، وإنه يمكن أن يصير مرة رجلاً ومرة حيوانًا إلخ إلخ،

والجاحظ أعقل من أن تنسب إليه هذه المقالة وهو من علمت، ومذهب

المعتزلة مبسوط معروف في كتب الكلام، ولم يسمع عنهم هذا القول،

والجاحظ لسانهم وحجتهم والمؤيد لمذهبهم، وإنما أخذ أعداؤه هذا من قوله في

القرآن: إنه مخلوق، أي كما تخلق بقية الموجودات من إنسان وحيوان. وترجمة

الجاحظ ذكرت في كثير من الكتب، وأخصها ترجمة ياقوت في معجم الأدباء،

وهي نحو 25 صفحة، ولا توجد فيها هذه الفرية، ولا أعرف المؤلف

نقلها عن غير الشهرستاني أو عمن نقل عنه.

* * *

التناقض

ناقض المؤلف نفسه في كثير من مواضع كتابه، فمن ذلك:

(1)

قوله في صفحة (159) : (ويمتاز ابن الرومي بتفضيله المعنى

على اللفظ كالمتنبي فيطلب صحة المعنى ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ

وقبحه وخشونته، ومع ذلك فإنك تجد في نظمه سهولة ومتانة) .

قرأنا هذه العبارة فتعجبنا من تناقضها ولمحنا في أثنائها رقمًا يشير به إلى

الذيل من أنه أخذ هذه العبارة من العمدة لابن رشيق (ج 1 ص 82) فراجعنا العمدة

فإذا فيها: (ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته ولا يبالي

) إلخ.

ولم يذكر العبارة التي زادها مؤلفنا من عنده، فأوقع نفسه في التناقض كما أوقع

قارئ كتابه في حيرة.

(2)

ومن تناقض كلام المؤلف قوله في صفحة 123 في تعرضه

لكتاب العين: (ولم ينبغ نحويّ ولا لغويّ ولا أديب في عصر الخليل وما يليه

إلا استفاد من كتابه، ولكن الثقات الباحثين مختلفون في حقيقة نسبته إليه،

وفي صحة ما جاء فيه من الروايات والأقوال، من ذلك ما رواه ابن النديم في

الفهرست عن ابن دريد قال: (وقع في البصرة كتاب العين سنة ثمانٍ وأربعين

ومائتين قدم به وراق من خراسان وكان في ثمانية وأربعين جزءًا فباعه

بخمسين دينارًا، وكان قد سمع بهذا الكتاب أنه في خزائن الظاهرية حتى قدم

به هذا الوراق) .

فأنت ترى من هذه العبارة أن الكتاب اشتهر في عصر الخليل حيث لم

ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصره إلا استفاد منه على زعم المؤلف،

ولكن لا تكاد تفرغ من قراءة هذه الجملة حتى تقع في أن الثقات الباحثين

مختلفون في نسبته للخليل، وفي صحة ما فيه، فليت شعري من هم هؤلاء

الثقات الباحثون؟ أهم جميع النابغين من النحويين واللغويين والأدباء الذين

استفادوا جميعهم منه؟ أم هم غير هؤلاء النابغين؟

وبعدُ فمتى استفاد هؤلاء النابغون؟ والكتاب بشهادة ابن النديم بل بشهادة

كل من كتب في تاريخ كتاب العين لم يظهرإلا بعد موت الخليل بنحو سبعين

سنة، وذلك ما جعل العلماء يشكون فيه، وأنه لو كان للخليل لذاع أمره

وعرفه تلاميذه، ونقلوا عنه، مع أن تلاميذ الخليل مثل الأصمعي وأبي عبيدة

وأبي زيد وتلاميذهم، كل أولئك لا يعرفون عن كتاب العين شيئا، ولكن

مؤلفنا وحده يعلم أنه لم ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصر الخليل وبعده

إلا استفاد منه، ولله في خلقه شئون.

(3)

ومن تناقض المؤلف قوله في صفحة 201 نشأ علم الجغرافية في

هذا العصر (أي: العصر الثاني العباسي) بعد نقل علوم القدماء إلى العربية،

وفي جملتها كتاب بطليموس وعليه معولهم في تقويم البلدان، على أن

المسلمين بدءوا بوضع الجغرافية قبل اطلاعهم على ذلك الكتاب لأسباب غير

التي دعت اليونان إلى وضعها إلخ فإن تمحلنا عذرًا للمؤلف في هذا

التناقض، وقلنا: إنه استعمل شبه الاستخدام البديعي في كلامه فيكون قد ذكر

الجغرافية أولاً بمعنى الرياضية وأعادها ثانيا الجغرافية التخطيطية التي كانت

تسمى علم المسالك والممالك، فلا يصح رفع التناقض من كلام المؤلف أيضًا؛

لأن العرب اشتغلوا بالجغرافية اليونانية قبل العصر الثاني، والمأمون وعلماؤه

ممن صحح أغلاط بطليموس في محيط الأرض وقطرها ومقياس الدرجة

الأرضية.

(4)

ومن تناقض المؤلف وتحيره في قوله في أبي العتاهية: (وقد

نظم في كل أبواب الشعر وامتاز منها بالزهد، ويؤخذ من سيرة حياته أنه كان

مترددًا متقلبًا ويغلب ذلك في طباع الشعراء؛ لأنهم أهل خيال وأوهام،

وخصوصًًا الذين يستجْدون بشعرهم، فإنهم يتقلبون مع الأهواء ويسعون وراء

النفع حيثما كان، على أن تمنع أبي العتاهية عن قول الغزل بعد أن أمره به

الرشيد يخالف هذه القاعدة ولكن لعل له سببًا حمله على ذلك.

ما قولك أيها القارئ في هذه العلل التي لو صدقت - لا قدر الله - على

كل شاعر يتكسب بالشعر كأبي العتاهية لتبرمت الدنيا بكثرة المحرورين

والموسوسين المتخبطين، على أن الله أرحم من أن يصدق زعم المؤلف في

الشعراء من عباده، فلم تر بعد أبي العتاهية من يشبهه في سودائه، والحمد لله.

* * *

الاختصار فيما ينبغي الإطناب فيه

(والإطناب فيما ينبغي الاختصار أو فيما هو أجنبي من موضوع الكتاب)

من أعجب أمور المؤلف أنه يعلم ويعلم أن الناس تعلم أنه يؤلف كتابه في

آداب اللغة العربية لا آداب اللغة اليونانية القديمة ولا الفارسية ولا الهندية ولا

السريانية ولا اللغات الأوروبية الحاضرة، ثم نراه إذا خاض في ذكر مبحث

من مباحث الآداب العربية أو عدَّد نبغاءً، أو ذكر ترجمة شاعر نابغ أو كاتب

أو مصنف ـ اقتصر على ذكر نتف قليلة من المبحث، أو اقتصر على العدد

القليل من مشهوري النبغاء، واختصر تراجمهم مكتفيًا بذكر ما لا يلزم الناقد

الأديب وبذكر الكتب التي يراجعها من شاء التوسع، وقد لا تزيد عن كتابين

معروفين لأكثر الناس لا حاجة للدلالة عليهما، على حين أنه يطول في كثير من

المواضع حتى ليكرر كثيرًا من المباحث في غير مكانه لمجرد ولعه وإعجابه، بل

يخرجه ولعه بالشيء أن يُدخل في كتابه مباحث مطولة جدًّا ليست من

موضوع آداب اللغة العربية وتراجم أناس ليسوا من العرب، ولا خالطوا

العرب، فمن النوع الأول:

(1)

اختصاره في تراجم مشهوري الشعراء، واقتصاره منها على ذكر

نتف جافة قلما يتعرض فيها لنقد أو موازنة أو تقرير حكم معتذرًا عن ذلك بأنه

ليس من الأدباء المتفرغين للدرس والنقد، قال في صفحة 58 عند ذكر سبعة

من شعراء العصر الأول:

(وإليك تراجمهم على هذا الترتيب بما يقتضيه المقام من الإيجاز، وإلا

فإن كلاًّ منهم يحتاج في بسط ترجمته إلى مجلد قائم بنفسه، فنترك ذلك إلى من

تفرغ للدرس والنقد من الأدباء) .

ونحن نسلم معه أنه ليس من المتفرغين للدرس والنقد من الأدباء، ولكن

لا نسلم أن من لم يتفرغ للدرس والنقد من الأدباء يوثق بقوله، أو يعتد برأيه

في هذا الباب، أويظن أنه باختصاره آثر الأهم على المهم، وأيّ مقام يفرض

عليه الإيجاز الخالي من الحكم الأدبي، والكتاب ليس مذكرة مدرسية تنطبق على

برنامج مدرس مختصر، وإنما يقصد المؤلف به أن يكون مرجعًا لجمهور المتأدبين

من القراء الشداة لا التلاميذ الأحداث، بدليل أن حضرته وعد في كتابه هذا

أن يختصر منه ملخصًا لتلاميذ المدارس، على أن الذي يستطيع أن يؤلف مجلداً

في ترجمة شاعر لا يعجزه أن يلخص هذا المجلد في صفحة أو اثنتين بحيث يشير

في كلامه إلى نتيجة البحث والنقد.

(2)

ومن اختصاره أو اقتصاره ـ أو تقصيره ـ أنه لم يترجم لأحد

من كُتاب الرسائل في العصر الأول ولا الثاني، أي في مدة مائتي سنة وهما

عصرًا البلاغة والجزالة، إلا لاثنين، أحدهما عمرو بن مسعدة، والآخر القائد

طاهر بن الحسين فاتح بغداد، وقاتل الأمين، ووالي خراسان، وقد علمت أنه

ليس من كتاب الرسائل ولا عمل في ديوان.

مع أن كتاب الرسائل في هذين العصرين لا يقل النابغ منهم عن عشرين

تولى أكثرهم الوزارة، أو ديوان الرسائل والتوقيع والخاتم، كعمارة بن حمزة

وأبي عبيد الله ويعقوب بن داود وزيري المهدي وخالد بن برمك وابنيه الفضل

وجعفر وأحمد بن يوسف وزير المأمون، وابن الزيات وإبراهيم الصولي

والحسن بن وهب، وسليمان بن وهب، وسعيد بن حميد وابن مكرم وأحمد

ابن إسرائيل والحسن بن مخلد، وبني المدبر، وآل ثوابة، وآل الفرات، وآل

الجراح وابن مقلة، وغيرهم ممن تزينت كتب الأدب ببارع كتبهم، وطلعت

أهلة البلاغة من خلال فصولهم، وليسوا بالمجهولين فيجهلهم المؤلف، ولا المدفوعين

عن تقدم فيلوي عنهم عنانه.

(3)

ومن تقصير المؤلف إهماله ذكر الجرمي من نحاة العصر الثاني مع

ترجمته لابن ولاد وأبي جعفر النحاس وغيرهما، ومكان الجرمي في النحو لا

يجهل.

(4)

ومن تقصير المؤلف إهماله ذكر الأوزان والقوافي التي طرأت على

الشعر في جميع العصور التي ذكرها كالمواليا والدوبيت وأبحر المولدين

والشعر المزدوج والمسمط والتعريف بقائليها، واكتفى بنبذة يسيرة في

الموشحات في العصر الثالث.

ومن النوع الثاني، أي: التطويل في غير موضعه، بل إدخاله ما ليس من

موضوع الفن فيه أو ما ليس من موضوع هذا الجزء الثاني الخاص بالعصر

العباسي:

(1)

تخصيصه اثنتي عشرة صفحة من كتابه لموضوع أجنبي من

موضوع آداب اللغة العربية بالمرة، وهو آداب اللغة اليونانية وأطوارها

وتراجم مستقلة بصور كبيرة لفلاسفة اليونان كسقراط، وأفلاطون وأرسطو وأبقراط

وإقليدس وأرشميدس وجالينوس وآداب اللغة الفارسية وأطوارها، وآداب اللغة

السريانية وأطوارها وآداب اللغة الهندية ، نقل هذه المباحث من دوائر المعارف

ووضعها في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي لأقل مناسبة ثم نقلها هنا بلا مناسبة،

وكان الأولى بالمؤلف أن يحل محلها كُتاب الدولة العباسية وهم فحول البلاغة

وقادة الكلام.

(2)

ومن ذلك إسهاب المؤلف في شرح الأدب والإنشاء عند الإفرنج

ص 276 مع أنه ليس من غرض كتابه.

(3)

وذكره لبعض قادة الإفرنج الخرافية ووضع صور خرافية لحروب

الإسكندر المقدوني مع أمم لهم ست أيدٍ وأمم لهم وجوه بهائم.

(4)

ومن التطويل: أو من الإخلال بالنظام: وضع الكلام في مبحث تأثير

القرآن الكريم في اللغة العربية في هذا الجزء، وكان من حقه أن يدرج في

الجزء الأول.

(5)

ومن التطويل: تكرار الكلام في موضعين أو ثلاثة لغير موجب مثل

وصف التهتك والخلاعة، ذكره في الشعراء، ثم أعاده بعينه في الشعراء ص 50.

(6)

ومن التطويل في غير موضعه: نقل القصة المطولة التي تُحكى

عن عبد الملك من أنه قال لجلسائه يوما: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه

وله ما شاء؟ وأن سويدًا ذكر من كل حرف كلمة ثم ثلاث كلمات، وأن هذه

القصة وما سيقت لأجله، وقد بلغت نحو صفحة، كان حقها أن توضع في

حالة اللغة في بني أمية لا أن تذكر في علم اللغة في بني العباس.

(7)

ومن ذلك ذكره حالة الغناء في الدولة الأموية، ضمن مقالة

الموسيقى والغناء في الدولة العباسية، وكان من حقها أن توضع في الجزء الأول.

* * *

الاستدلال بحادثة جزئية على أمر كلي

اعتاد المؤلف في كتبه أن يستنتج من حادثة جزئية أمرًا كليًّا، وهذه

الخصلة من أكثر ما ينعاه عليه النقاد، وقد عمل بها في كتابه هذا غير مرة

كقوله في صفحة 78 في ترجمة سلم الخاسر.

وكثيرًا ما كان يأخذ أقواله ـ أي أقوال بشارـ فيسلخها ويمسخها كما مسخ

هذا البيت:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

فجعله:

من راقب الناس مات غمًّا

وفاز باللذة الجسور

فبلغ بيته بشارًا فغضب وأقسم ألا يدخل عليه ولا يفيده ما دام حيًّا

فاستشفع إليه بكل صديق حتى رضي

إلخ.

فكل من تتبع ترجمة سلم الخاسر في مظانها لا يجد من سرقته لشعر بشار غير

هذا البيت، وهو وحده سبب الغضب.

وقوله في صفحة 167 في ترجمة الجاحظ وذكر إصابته بالفالج ولزومه

بيته بالبصرة وكان قد اشتهر وذاع صيته في العالم الإسلامي فتقاطر الناس لمشاهدته

والسماع منه فلا يمر أديب أو عالم بالبصرة إلا طلب أن يرى الجاحظ ويكلمه.

فليتفضل علينا المؤلف ويذكر لنا أديبين أو ثلاثة من هؤلاء غير ذلك الوالي

البرمكي المصروف عن ولايته بالسند الذي جعل ذهبه في أشكال الإهليلج إن جاز

له أن يدعي أنه كان أديبًا عالمًا.

ومن هذا القبيل شيء كثير في الكتاب.

***

تقليده مستعربي الفرنجة حتى في الخطأ

للمصنف ولع بنقل ما يكتبه المستعربون عن العرب وآدابهم، ولو خالف

الواقع، ومن ذلك نقله فصولاً برمتها مشوبةً بالخطأ من كتاب نيكلسن

الإنكليزي، وبروكلمان الألماني مثل مقالة الشعر في العصر الأول وغيرها.

* * *

اضطراب التبويب والتقسيم

إن بعض مقرظي هذا الكتاب وصفه بأن أهم ما يمتاز به عن كتب

المتقدمين هو حسن تبويبه وتقسيمه، ولكني لسوء حظي لم أوفق إلى سر

تبويبه وتقسيمه لهذا الكتاب؛ إذ أجد ما يصلح أن يذكر في تاريخ الآداب وما

يلزم أن يوضع في كتب آداب الفرنجة وضع في أدب العرب، وما ينبغي أن

يجعل في عصر ظهور الإسلام جعل في عصر بني العباس، ومن يجب أن

يترجم له في عصر معين أو طائفة بعينها ترجم له في عصر غير عصره أو

طائفة غير طائفته إلخ إلخ، بحيث تضطرب المباحث وتتداخل العصور

ويلتبس الأمر على القارئ فلا يدري خاصة كل عصر، فمن ذلك:

(1)

ذكر القرآن الكريم والعلوم التي تفرعت منه وبيان تأثيره في آداب

الجاهلية من الخطابة والشعر والإنشاء واللغة وبيان تأثيره من الوجهة الاجتماعية

والأخلاقية، مع أن محل ذلك مبدأ ظهور الإسلام؛ إذ هو وحده مبدأ هذه التفريعات.

(2)

ابتداء المؤلف هذا الجزء بالكلام المسهب في العلوم الدخيلة

وتراجم رجال اليونان وتأخيره الشعر العربي والعلوم العربية والشرعية عن

موضعها مع أنها هي المباحث العربية الأَََولى بالتقديم؛ لأن الكتاب صنف في

آداب اللغة العربية لا الدخيلة، ولو سلمنا أن للمؤلف سرًّا في تقديم الدخيلة،

فما هو السر في أنه أخرها عن الشعر العربي والعلوم العربية والشرعية في

العصر الثاني والثالث؟

(3)

إسهابه في صفحة 119 و 120 في حالة العناية بأمر اللغة في

زمن بني أمية، وكان الأليق أن يذكرها في الجزء الأول الخاص بآداب

الجاهلية وعصر الخلفاء الراشدين وبني أمية.

(4)

إسهابه في الكلام على الأغاني في عصر بني أمية في هذا الجزء

الخاص ببني العباس، ومن حقه أن يذكر في الجزء الأول.

(5)

ذكره أن احتدام الخلاف بين النحويين: الكوفيين والبصريين

حصل في العصر الثاني وما بعده من عصور الدولة العباسية، والحقيقة أن الخلاف

أشد ما كان بين كوفي وبصري قد كان في العصر الأول. وأما الثاني والثالث

وما بعدهما فقد هان فيها الخلاف ووجدت مذاهب ملفقة من المذهبين، فكان

الأولى ذكر هذا المبحث المسهب في العصر الأول.

(6)

ومن ذلك تأخيره الكلام في نشأة علم الفرائض إلى العصر الثالث

مع أنه قديم دُوِّنَ منذ دُوِّنَ الفقه، فكان الواجب ذكره في العصر الأول.

(7)

ومن ذلك ذكره عددًا كثيرًا من الشعراء، والعلماء المصنفين من

أهل عصرين، العصر الذي يليه أو الذي قبله، ويعلم ذلك من وفياتهم، فلينتبه

القارئ، ولولا أني سئمت من كثرة التعداد لأتيت عليهم جميعًا، وكثيرًا ما يذكر

المؤلف علماء فن مع علماء فن آخر وشعراء نوع في شعراء فن آخر، وإن

شاء المؤلف أن نفصل له هذا الإجمال، ونذكر من هم الذين عاملهم بهذه المعاملة

فنحن على كتب من إجابته.

* * *

تهافت المؤلف

للمؤلف تهافت وولع بالشيء لا يؤبه له أو بالأمر يناسب مقامًا خاصًّا فيقحمه في

كل مقام، كما فعل هذا في كتابه هذا وغيره في مواضع شتى فمن أمثلة ذلك:

ولعه بمسألة النشوء والارتقاء يقيس بها كل أمر حتى خرج به القياس

إلى عكس ما يراد بها، فذكر في هذا الكتاب صفحة 221 أن اضطراب الخلافة

الإسلامية وانحلالها إلى إمارات وممالك صغيرة متنافسة متشاكسة من دواعي النشوء

والارتقاء، في حين يعده المؤرخون من دواعي الانقراض والفناء، كما هي النتيجة

الحقيقة التي أعقبت هذا الانشعاب، فذلك حيث يقول: فلما اضطربت أحوال الخلافة

في أيام المتوكل ثم نشأت الدول الجديدة في المملكة الإسلامية بالتفرع والتشعب

على مقتضى ناموس الارتقاء تفرق العلماء 000000 إلخ إلخ.

ثم ناقض قوله هذا بقوله في العصر الثاني، أي الذي كان بعد أن

اضطربت الخلافة وحدث الارتقاء، على زعمه: حدث في العصر العباسي

الأول نهضة علمية أعقبها في العصر الثاني فتور على أثر البحران السياسي

الذي أخذ من نفوس رجال الدولة حتى اشتغلوا بأنفسهم عن تنشيط العلم، ثم

ذكر أن بعد هذا الفتور حدثت نهضة لم يبين سببها، وقال: والفاعل في هذه

النهضة ناموس النشوء الطبيعي إلخ. ومن مثل هذه المسألة كثير في الكتاب.

* * *

اللحن والأغلاط اللغوية

لا تكاد تمر بالقارئ صفحة من الكتاب إلا مشتملة على خطأ لفظي إما

في النحو أو الصرف أو اللغة، وكان يجدر بالمؤلف أن يعرض كتبه على ناقد

بصير بصناعة الإعراب حافظ لمستعمل اللغة حتى لا يرذل كتبه النفيسة بهذه

الأغلاط الشائنة.

وإذا كانت هذه الأغلاط تعد بالعشرات بل المئات لا نرى من الواجب علينا

شحن عجالتنا هذه بشيء منها، ولكننا لا نتأخر عن إجابة حضرة المؤلف

إذا أراد تصحيح كتابه مرة أخرى بتعدادها له في فرصة من فراغنا إن سنحت.

* * *

النتيجة

إن الكتاب على ما فيه من مواضع النقد لا يخلو من منافع في موضوعه

وغير موضوعه ونشكر حضرة المؤلف على اهتمامه بخدمة العلم ونسأله

مسامحتنا فيما كتبنا اقتداءً به أو مساعدة له على هذه الخدمة لا غير، وحسبنا

الله ونعم الوكيل.

_________

(*) بقلم الأستاذ الشيخ أحمد عمر الإسكندري.

ص: 41

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عبر الحرب البلقانية

وخطر المسألة الشرقية [*]

(1)

(مقدمة وتمهيد)

من الناس من يكتب ليعجب الناس بما يأتي به من زخرف القول،

ومنهم من يكتب ليرضيهم بما يبديه من حسن الرأي، فهذا يفترض حوادث الزمن،

وذاك يرتقب سوانح النكت، ليحل كلامهما محل القبول، ويصيب مواقع

الاستحسان من القلوب، ونسأل الله أن لا يجعلنا منهم.

ومن الناس من يكتب لأجل النفع، بإزالة باطل أو إظهار حق، أو أمر

بمعروف أو نهي عن منكر، فهو يتخول الناس بالموعظة، ويتخونهم بالكشف

عن مكامن العبرة.

ونرجو الله أن نكون من هؤلاء في الدنيا وأن نحشر معهم في الآخرة.

تساءل بعض الناس لمَ كتبتُ تلك المقالات الطوال في المؤيد حين أُوقدت

نار الحرب في طرابلس الغرب وبرقة، ولم أكتب فيه شيئًا في إبان هذه الحرب،

وهي أدهى وأمرّ، وأنكى وأضر؟ ولو تذكروا تلك المقالات لعلموا أنها كتبت في

شأن هذه الحروب وكون تلك المقدمات لها، أي أنها فتح لباب المسألة

الشرقية وتصدٍّ من أوربة لحل هذه المسألة، والقضاء المبرم على ما بقي للمسلمين

من هذه الدولة، فلو وعاها إخواننا المسلمون ووزنوها بميزانها لفكروا في مستقبلهم،

واجتمع أهل الرأي منهم في كل مكان للبحث عن مصيرهم، ولم يرضوا أن تبقى

مصلحتهم العامة في أيدي بعض سفهاء الأحلام، الذين لا يملكون هنا إلا البذاء في

الكلام، وتضليل العامة بالوساوس والأوهام، وكان من ضررهم ما كان، فكيف

بحال أمثالهم في عاصمة الدولة، وقد ملكوا مع هذا كل شيء فدمروا كل شيء.

إنني - وايم الله - لأكتب من أجل الإفادة والنفع، وما اكتفيت في أيام هذه

الحرب بما كتبت في المنار، وأمسكت عن الكتاب [1] في الجرائد اليومية -

وأولاها بما أكتب في هذه الحال: المؤيد - إلا لأنني أرى أن هذه مثل البلاد لا

تستطيع أن تنفع الدولة الآن إلا بالمال. وقد انبرى لجمعه لها أمراؤها فخَفَتَ

لصوتهم كل صوت، وقصر عن قولهم كل قول، وتضاءل دون سعيهم كل

سعي، جزاهم الله أفضل الجزاء، وحسبي من شرف مشاركتهم في ذلك ولو بالاسم

أنني عضو في جمعية الهلال الأحمر فلم يبق من طرق نفع الكلام في هذه الحرب

إلا بيان ما فيها من العبر، وما أدى إليها من الأسباب وما يلزم عن تلك المقدمات

من النتائج، وهذا ما كنت أتربص به أن تضع الحرب أوزارها، لئلا يقال: إنه

ابتسر العبرة فجاءت قبل أوانها، كما قال بعض أصدقائي في مقالة نشرتها في

المنار.

أما وقد عقدت الهدنة، وعين المفوضون للبحث في شروط الصلح، وقد

ثبت خيانة وفساد الاتحاد والترقي للدولة ثبوتًا رسميًّا، وعلم الخاص والعام،

أنها هي علة حرب طرابلس وحرب البلقان، فقد جاء الوقت الذي يرجى أن

ينفع فيه القول، ويخشى أن يضر السكوت، وترجح المقتضي على المانع.

قد كان يكون من موانع الكتابة قلة وجود المتدبرين الذين يميزون بين قول الحق

ويعرفون أهله بأدلتهم وسيرتهم، وبين أقوال المبطلين الذين يغشون الأمة ويغرونها

بتأييدهم للأقوياء الذين ينتفعون منهم، فقد كان زعماء الحزب الوطني

هنا يغشون الناس بالسلطان عبد الحميد الذي باعوه ذمتهم بالرتب والنياشين

والدراهم والدنانير حتى كان بعض زعمائهم يجعل الشهادتين في الإسلام

ثلاثا فأوجب على من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله،

أن يثلث فيقول: وأشهد أن السلطان عبد الحميد خليفة الله. ولولا هذا

التثليث لما انتقل من لقب أفندي إلى لقب بك. ومنه إلى لقب باشا، وما زالت

جريدة اللواء تغش المسلمين عامة والمصريين خاصة بعبد الحميد مدة حياة

مؤسسها وبعد موته إلى ما قبل إعلان الدستور بيوم واحد؛ إذ كتب فيها يوم

الأربعاء طعن شديد في طلاب الدستور من العثمانيين ورمي لهم بأنهم يريدون به

هدم الدولة، وأنبأتنا البرقيات بإعلان الدستور يوم الجمعة.

فلما سقط عبد الحميد ونزا على الدولة بعده أولئك الأغيلمة المتخرجون

في ملاهي غلطه وبيوغلي وسلانيك وباريس، وأفسدوا كثيرًا من ضباط

الجيش، وجعلوا بقوتهم الدستور آلةً لتفريق عناصر الدولة وذريعة لمحو

اسمها من لوح الوجود، قام أنصار عبد الحميد هنا وفي بلاد أخرى ينصرون

هؤلاء المتغلبين المخربين، ويغشون الأمة بهم كما كانوا يغشونها به وأشد،

وكان يصدقهم في إطرائهم كثير من الناس مع بيان جرائد الأمم كلها لمفاسدهم،

بل مع ظهور هذه المفاسد بالفعل، إلى أن أبكم الله ألسنتهم قبل ثبوت خيانة

مستأجريهم للدولة ثبوتًا رسميًّا، وتنكيل الحكومة السلطانية بهم وتمزيقها

لشملهم، ولعله لو بقي لهم لسان ينطق، وقلم يكتب وينشر، لم يخجلوا من

الاستمرار على التمويه والتضليل، إذا كان أملهم بعودة الجمعية إلى استبدادها

باقيًا، أو إمدادها لهم لا يزال متصلاً، ويا حسرتى على شبان هذه البلاد،

الذين خدع كثير منهم بهؤلاء المفتونين بالمال والشهوات والشهرة الباطلة والأوهام

المضللة.

نعم إن رواج التغرير والتضليل في سوق السياسة وقلة التمييز بين المحق

والمبطل، والصادق والكاذب، قد يكون مانعًا من التصدي للكتابة لولا أن الله

أوجب النصح وبيان الحق، وحرم القنوط واليأس، وجعل العاقبة للمتقين.

مقدمات الخذلان في هذه الحروب

(جمعية الاتحاد والترقي)

إنني أعرف من أمر هذه الجمعية ما لا يعرفه أحد في القطر المصري، وقد

بلوناها واختبرناها في الآستانة مدة سنة كاملة، رأيت من زعمائها وسمعت من

ألسنتهم ورويت عنهم بالأسانيد العالية المتصلة بهم، ما لا يتفق مثله إلا لقليل

من الناس، ثم أيدت أحاديث جرائد العالم وحوادث الدهر ووقائعه ما

علمته عنهم، فأنا أروي ما تؤيده الأحاديث والحوادث، وأستخرج العبرة منه

ليعلم أولو الغيرة على هذه الدولة التي لم يبق للمسلمين غيرها أين مكانتها،

وما هو الخطر الذي ينذرها، لعل ذلك يكون مما يستبين به أولو الرأي ما يجب

لحفظ سلطة الإسلام، المهددة بالزوال والانقراض والعياذ بالله.

أبدأ بذكر أهم الوسائل التي شرع الاتحاديون فيها ولا أذكر مقصدهم الذي

يتوسلون إليه بتلك الوسائل الآن؛ لأنه لا يصدقه غير العارف بحقيقة أمرهم،

إلا إذا اطلع على المقدمات والوسائل التي أذكرها؛ لأنه مقصد غريب في نفسه.

...

... أعمال الاتحاديين

التي كانت مقدمات الخذلان في الحرب

(إزالة قوة المسلمين غير الترك من الدولة)

أول ما قرر زعماء هذه الجمعية البدء به من الأعمال، بعد ما عنوا به من

جمع الأموال بضروب من القوة والاحتيال هو إزالة كل قوة في هذه الدولة.

حدثني غير واحد في الآستانة من الترك وغير الترك من العثمانيين

وبعض الأجانب والعارفين بأمور الدولة أن من برنامج جمعية الاتحاد والترقي أن

تجمع السلاح من الأرنؤط وتضربهم ضربة شديدة، ثم تجرد جيشًا آخر أو

جيوشًا لضرب العرب في اليمن وعسير، وعشائرهم وعشائر الدروز في

حوران وجنوب بلاد الشام ثم العراق، وتجمع السلاح من الجميع، وسأذكر ما قرر

في شأن طرابلس بعد، وبعد هذا وذاك تجرد جيشًا آخر على الأكراد تذللهم وتجمع

السلاح منهم، فإذا هي جمعت السلاح وأخضعت لهيبتها أولي القوة والبأس من

المسلمين، يسهل عليها أن تنفذ مقصدها بلا معارض ولا منازع.

قررت جمعية الاتحاد والترقي تنفيذ هذه المادة من برنامجها ولم تفكر في

عواقبه، لم تفكر في عجز الدولة عن حماية هذه البلاد إذا كانت مجردة من

القوة الذاتية، ولم تفكر فيما تخسره في قتال هذه الممالك من الأموال التي تأخذها

من أوربة بالربا الفاحش، ومن الجنود المنظمة التي تحتاج إليها للدفاع عن الدولة

وحفظ سلطانها، ولا فيما ينشأ عن هذا القتال من الفتن، وتفرق عناصر الدولة

وانحلال روابطها.

بدأت الجمعية بقتال الأرنؤوط وأنا في الآستانة فبذل مبعوثو هذا الشعب

جهدهم في إصلاح حال الجمعية بأن يتوسلوا إلى حل مسألة الأرنؤط بالنصح

والسلم فلم يقبلوا، وأظهروا الاحتقار بهؤلاء المبعوثين حتى أنهم صفعوا

إسماعيل كمال بك الزعيم الشهير في مجلس الأمة، ومن غرائب صنعهم أن

جمعوا ما قدروا على جمعه من سلاح المسلمين ولم يعيدوه إليهم، ولكنهم

أعادوا السلاح إلى الماليسوريين لأنهم نصارى، فانظر كيف كان عاقبة أمرهم،

وكيف ظهر أنه يجب عليهم أن يسلحوا جميع مسلمي تلك البلاد ويدربوهم

على الفنون العسكرية لأجل الدفاع عنها، ويؤلفوا منهم عصابات كعصابات البلغار

وغيرهم، ولو فعلوا ذلك لنفع الدولة في هذه الحرب نفعًا عظيمًا.

ثم فعلوا فعلتهم في اليمن وعسير، وفي الكرك وحوران، فقد جردوا لقتال

المسلمين في هذه البلاد زهاء مائة ألف جندي من أحسن جنود الدولة النظامية

أو أحسنها على الإطلاق، قتل منهم في اليمن ألوف كثيرة وبقيت مسألة اليمن كما

كانت. ولكن خربوا بلادًا كثيرةً منها ومن بلاد الكرك وحوران ولم تستفد الدولة في

مقابلة هذا التخريب والخسران شيئًا، ولو تم لهم ما أرادوا من جمع السلاح من بلاد

اليمن لاستولت عليها إيطالية في السنة الماضية وقتلت من فيها من العسكر؛ لأن

الدولة ما كانت تستطيع أن ترسل إليها مددًا، ولو ظل أولئك الجنود في معسكرهم

لرجحت الدولة على البلقانيين بهم.

والآن يتحدث الناس فيما ذكرته الجرائد الفرنسية عن سورية ومصالح

دولتها فيها، والظاهر أن المراد به اختبار رأي الدول في أمر استيلائهم عليها،

وقد عرف بالقياس على مسألة طرابلس الغرب ومسألة البلقان أن الدولة لا

تقدر على حفظ سورية إلا إذا كان فيها قوة ذاتية تخشى الدول العظمى بأسها،

ولا يمكن أن تأتي هذه القوة من الرومللي ولا من الأناضول، بل يجب أن

تكون مؤلفة من الجند النظامي والاحتياطي الذي فيها، ومن قبائل العرب

والعشائر الوطنية والمجاورة، وهؤلاء هم الذين يخشى الأجانب من جانبهم إذا

كانوا مدربين على القتال ما لا يخشونه من الجند الرسمي؛ لأن قتالهم يكون

بالمطاولة لا بالمناجزة، فالخسارة فيه عظيمة، وإنما هؤلاء الأجانب تجار

يطلبون الربح من أقرب طرقه، وأشدهم اتقاء للقتال أعظمهم توغلاً في

الاستعمار كإنكلترة وفرنسة.

ولعل إيطالية لا تعود إلى مثل غلطها في طرابلس الغرب، بل أظن أن

البلغار قد ندمت على تهورها في طلب أمنيتها على ما أتيح لها من الظفر

بتخاذلنا وإهمالنا، وأنها لا تعود إلى مثله.

ظهر ضرر هذا العمل السيئ الذي شرع فيه الاتحاديون، وظهر أنه كان

الواجب المحتم أن يعملوا ضده، وأن يجعلوا في كل قطر من هذه الأقطار قوةً

أهليةً تساعدها الدولة وتؤهلها للدفاع عن قطرها، فهل يعتبر الناس بهذا

ويسعون للواجب من جميع الطرق، هل يعتذر عنه الاتحاديون ويندمون عليه،

هل يسكت عن الاعتذار لهم مأجوروهم والمغرورون بهم؟

كلا إننا قرأنا في جرائد أمس أن زعماءهم لا يخجلون من الإصرار على

التبجح بقتال الدولة - أو الحكومة الاتحادية - للأرناؤوط، وإن ظهر أن ذلك

كان مصابًا كبيرًا على جمعيتهم من جهة، وعلى الدولة نفسها من جهة أخرى،

وهاك شاهدًا مما نقلته إحدى جرائد الآستانة عن أحد زعماء الجمعية الذين

فروا في هذه الأيام إلى أوربة:

كتب صاحب جريدة أقدام التركية من سويسرة إلى جريدته في الآستانة

يقول: إنه قرأ في جريدة بسترلويد حديثًا دار بين مكاتب هذه الجريدة مسيو

رالي وبين جاويد بك أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان ناظر

المالية في أهم وزاراته، سأل ذلك المكاتب جاويد بك عن أسباب انكسار

الجيش العثماني وخذلانه في البلقان، فكان الجواب بعد مقدمة فيما ينقص

الجيش وفي معداته ما خلاصته:

(إننا كنا هيأنا كل شيء وأنفقنا على ذلك أربعين مليون ليرة في السنوات

الأربع الماضية، ولقد ظهر كل هذا في تجهيزنا الحملة على بلاد الأرنؤوط

ومحاربتنا لتلك البلاد، أما أسباب فشلنا العظيم فترجع إلى تنظيم رجال جدد لم

يطلعوا على الترتيبات) .

فليتأمل العقلاء كيف اعترف الزعيم الاتحادي الذي كان ناظرًا للمالية

بأنهم صرفوا على الجيش أربعين مليون ليرة، وكيف يتبجح بأن ثمرة تنظيمهم

للجيش وإنفاقهم عليه قد ظهرت في قتالهم لطائفة من رعية الدولة المخلصة لها،

أهذه هي غاية استعداد الدولة الحربي أيتها الجمعية الدستورية المصلحة؟

أتعدون منتهى شوطكم أن تأخذوا أبناء الأمة وأموالها وتحملوها الديون التي

تذلها للأجانب لأجل أن تقاتلوها به وتذلوها وتدمروا بلادها؟ ألا فليعتبر المعتبرون،

أو ليأتينهم العذاب وهم ينظرون.

(2)

تهييج عصبية العناصر العثمانية

كان الناس يفهمون من اسم جمعية الاتحاد والترقي أنها جمعية غرضها

أن تجعل بين العناصر العثمانية وحدة سياسية اجتماعية بالمساواة بين الترك

وغيرهم في الحقوق الشخصية والحقوق العامة كمناصب الدولة ووظائفها، وأن

هذا هو المراد من كلمة الاتحاد الذي يتبعه الترقي في العمران، وما يتوصل به

إليه من العلوم والفنون. فلما صار النفوذ في هذه الجمعية لأمثال الدكتور ناظم

وطلعت وجاويد ورحمي وجاهد وأضرابهم، ظهر للباحثين، والمطلعين من

العثمانيين والأجانب أن مرادهم بالاتحاد أن تدغم العرب والأرنؤوط والكرد وغيرهم

في الترك، وتفنى لغاتهم وجنسياتهم فيهم فيكون جميع العثمانيين تركًا.

كنا في طليعة مَن كتب في هذه المسألة ببيان فوائدها وغوائلها ومقاصدها،

ووجوب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ومن أوسع ما كتبناه في

ذلك بيانًا مقالة فلسفية اجتماعية عنوانها: الجنسيات العثمانية واللغات

التركية والعربية، نشرت في منار رجب سنة 1327 أي بعد الدستور بسنة

واحدة، بينا فيها بالدلائل والحجج القيمة أن محو جنس من البشر بإدغامه في

جنس آخر قد صار في هذا العصر محالاً، وأن الدولة العثمانية لا تستطيع أن

تجعل غير الترك فيها تركًا، وأنها لو كانت تستطيعه لعذرتها عليه سياسة لا

دينًا، لأنني وأنا مسلم أرى أن الإسلام لا حياة له إلا بحياة اللغة العربية،

وإنما حياتها بجعلها لغة الخطاب والعلم عند أهلها، ولكن زعماء الجمعية

المغرورين الأغرار كانوا يرون أنفسهم قادرين على المحال.

لا عجب ولا غرابة في الأمر، فإن أولئك الزعماء إذا لم يسمعوا حجج تلك

المقالة ولم يشعروا بها فقد كان لهم على غرارتهم مانع من نشوة الغرور بخضوع

العثمانيين لهم، وتقديسهم لجمعيتهم، وإفاضتهم الدنانير والدراهم عليهم، ومن سكر

الإعجاب بثناء الجرائد الأوروبية على رجال الانقلاب العثماني، وإن كان المستحق

لهذا الثناء هو صادق بك والضباط الذين اتبعوه من دونهم، ولكن العجب والغرابة

في استمرار أكثر العثمانيين على الاغترار بهم بعد السنة الأولى للانقلاب، وأعجبه

وأغربه ما كان من العرب الذين لم يهتم بهم الاتحاديون بشيء اهتمامهم بمحو لغتهم

وإزالة جنسياتهم، أو إضعافها وإنهاك قواها ليستريحوا من إدلالهم بالكثرة والدين

الذي يخيفهم منه على السلطة التركية ما في كتب العقائد وكتب الحديث من كون

الخلافة في قريش والأئمة منهم، وإن لم ينازعهم العرب في جعل الخلافة فيهم.

وكل ما يوجد من هذا القبيل فيما نعلم أن بعض أصحاب الدسائس والمطامع

في مصر كانوا يستغلون وسواس السلطان عبد الحميد فيوهمونه أن للعرب

جميعة أو جمعيات تسعى للخلافة سعيها، فكان بعضهم يرسل التقارير السرية

إلى المابين في ذلك حتى تجرأ مصطفى كامل على الجهر بالإرجاف بهذه

الفتنة في لوائه، في أول العهد بإنشائه، وكبر الوهم فيها وعظمه بزعمه أن

بعض الأمراء يساعد هؤلاء الساعين على سعيهم.

وقد أنكرنا على اللواء الإرجاف بهذه الفتنة في المجلد الثاني من المنار

فكان إنكارنا هذا هو السبب الأول في طعن ذلك الرجل وأخلافه فينا (كما أنكر

المؤيد عليه ذلك مرارًا) .

فلما زالت سلطة عبد الحميد ودالت الدولة لفتيان الترك الأحرار الذين كنا

نسعى معهم سعيًا واحدًا إلى إزالة الاستبداد السابق ظننا أننا استرحنا من

الدسائس التي يروجها المفسدون في سوق الوساوس، ولكن رأينا زعماء

جمعية الاتحاد والترقي لم يدعوا سيئة من سيئات العهد الحميدي إلا وأعادوها

جذعةً، فهم بعد أن أرسلوا مفتشيهم وجواسيسهم إلى جميع البلاد العربية حتى

الحجاز فلم يروا من العرب إلا الإخلاص الكامل للدولة، ولم يشموا في بلادهم

أدنى رائحة لشيء يسمى الخلافة العربية، وبعد أن أغروا شريف مكة بابن

سعود، وإمام اليمن بالسيد الإدريسي، وليس عند العرب قوة حربية تذكر إلا

ما عند هؤلاء، وبعد أن رأوا جميع كتاب العرب في مصر وسورية والعراق

يثنون عليهم ويدافعون عنهم، وليس عند العرب قوة أدبية إلا ما عند هؤلاء،

بعد هذا كله رجحوا سعاية المفسدين من البراهين الحسية، وأصغوا إلى

المرجفين بالخلافة العربية، فتقرب شياطين العهد السابق وأخلافهم إليهم، إذ

رأوهم يحسبون كل صيحة عليهم، وعاد محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز

شاويش إلى مثل إرجاف سلفهما مصطفى كامل بهذه المسألة فأعادوها في

جريدتهم (العلم) سيرتها الأولى في جريدته (اللواء) .

ولما كان الشيخ عبد العزيز شاويش أشد غلوًّا وتهافتًا من مصطفى كامل،

لم يكتفِ باتهام جماعة الدعوة والإرشاد بهذه التهمة، بل طعن في جميع مسلمي

العرب فكتب في جريدة (العلم) أن الدولة العلية لا يخشى عليها من البلغار ولا

من الروم ولا من الأرمن ولا من نصارى العرب، وإنما يخشى عليها من مسلمي

العرب خاصة.

ولأجل هذا الغلو قربته جمعية الاتحاد والترقي منها، وجعلته من دعاتها

وأعوانها، وأنشأت له مطبعة وجريدة يومية في الآستانة كانت تنفق عليها من

مال الحكومة زهاء 350 جنيها عثمانيًّا في كل شهر.

ثم جاءت الحوادث تكذب هذا الإرجاف؛ فإن الحكومة الاتحادية حاربت

عرب اليمن، ونكلت بعرب حوران والكرك، وعَرَّضَتْ عرب طرابلس

الغرب لنيران إيطالية، ومع هذه كله لم يزدد العرب إلا تعلقًا بالدولة وإقدامًا

على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيلها. وما رأينا من الأمراء الذين أرجف بهم

اللواء أولاً والعلم ثانيًا والهلال العثماني ثالثًا ـ إلا النجدة العالية للدولة

والمساعدة التامة لها، وهي في أحرج مواقفها، وبعد هذا كله ترى كثيرًا من

الناس لا يفقهون ولا يعتبرون، ولا يميزون بين المصلحين والمفسدين.

نعم كان العرب قد ظلوا على إخلاصهم للدولة ولكنهم ليسوا حجارةً ولا

حديدًا فتمر عليهم هذه الكوارث ولا تؤثر في نفوسهم، إلا أنها أثرت شر تأثير،

وهو أن اليأس من الدولة قد دب دبيبه إلى قلوبهم وخصوصًا بعد حمل

الجمعية مولانا السلطان على حل مجلس المبعوثين الذي ضعفت فيه السلطة

الاتحادية، وتأليفهم مجلسًا جديدًا بقوة الحكومة بعد الضغط على الصحف وحرية

الاجتماع وغير ذلك.

يئسوا من عد الدولة إياهم عضوًا صحيحًا منها كإخوانهم الترك أولاً، ومن

إصلاح الدولة ثانيًا، ومن بقائها ثالثًا، إلا أن تزول منها مفاسد الاتحاديين وتنشأ خلقًا

جديدًا. ومن العجائب أن يئوسهم هذه لم تدفعهم إلى القيام بمشروع ما لحفظ وجودهم

وحفظ سلطة الإسلام في الأرض، بل ظل لسان حالهم يقول: إن بقيت الدولة نعيش

معها بعز أو ذل كيفما اتفق لنا، وإن ماتت نموت معها، ولا خير لنا في الحياة

بعدها.

وإنني أذكر من شواهد اليأس الأول من هذه اليئوس ما سمعته من أحد

أفراد حزب الاتحاد والترقي من العرب بعد استعراض الجيش العثماني في

روابي الآستانة أمام ملك البلغار سنة 1328 وكنت حضرت هذا الاستعراض

في خيمة المبعوثين، فلما انتهى وأردنا الذهاب قال لي ذلك المبعوث

العربي الاتحادي: متى يكون لنا جيش منظم مثل هذا؟ فكانت هذه الكلمة كجذوة

نار وقعت في قلبي؛ إذ علمت أن هذا المبعوث الذي كنا نعد وجود مثله في

الاتحاديين سببًا لحسن الظن بهم، قد أداه اختباره الصحيح لهم إلى الاعتقاد بأن

جيش الدولة ليس جيشًا لنا، وإنما هو الغالب علينا.

هنا يخطر ببال كل قارئ هذا السؤال: إذا كان هذا هو اعتقاد هذا

المبعوث في الجمعية فلم بقي فيها؟ وعندي جواب هذا السؤال؛ فإني كنت ألقيته

عليه قبل تلك السنة التي قال فيها كلمتة النارية، فقال: اسكت إنني علمت أن

زعماء هذه الجمعية إذا أحسوا بأن أمر الدولة أشرف على التفلت من أيديهم

فإنهم يعرضونها للزوال دون ذلك، ولهذا أرى أن بقاءنا معهم خير من تركنا

إياهم.

هذا بعض تأثير تهييج الاتحاديين للعصبية الجنسية ومحاولتهم تتريك

العناصر حتى العرب الذين هم أخلص المخلصين للدولة، وقد ظهر صدق

إخلاصهم لها بالبرهان والعيان.

وناهيك بكفاحهم في طرابلس الغرب وبلائهم في هذه الحرب، وهل يخفى

على بصير ما لليأس من الغوائل وسوء العواقب. وأما تأثيره في نصارى أوروبة

العثمانيين من البلغاريين واليونانيين والمصريين، فهو الذي أوقد نار هذه

الحرب، وكان أكبر شرها وويلها على الترك والمستتركين الذين هضم الاتحاديون

حقوق جميع العناصر وقصدوا إذلالها بجهلهم، وما كان أغناهم عن ذلك.

كان المفتونون بخداع الاتحاديين من مسلمي العرب يخطئون أهل

البصيرة من إخوانهم إذا طالبوا الدولة بالعناية بتعليم اللغة العربية في مدارسها،

وجعل القضاة والحكام في الولايات العربية من العارفين بلغة أهلها، وما

كان من حجتهم إلا أن قالوا: إنكم إذا طلبتم هذا فتحتم الباب لنصارى مقدونية

لطلب مثله لأنفسهم، ظانين أن رضانا بهضم حقوقنا يكون سببًا لرضاء أولئك

بمثل ما نرضى به وبدونه، جاهلين أنهم لا يرضون بمثل تلك الحقوق التي

يحملوننا على السكوت عن طلبها، وإن كان صلاحنا وصلاح دولتنا لا يكونان

إلا بها، وإنما وجهتهم انفصال ولاياتهم من الدولة ألبتة، واتصال كل شعب

منها بالدولة التي هو من جنسها.

بل جهل هؤلاء المفتونون بخداع الاتحاديين أنه لولا نصارى الولايات العثمانية

الأوروبية لما خطر في بال أحد من رجال دولتنا وإخواننا الترك فكرة الحكومة

النيابية.

ولا حاجة إلى شرح هذه المسألة الآن، وإنما موضع العبرة الذي اقتضت

الحال بيانه هو أن جمعية الاتحاد والترقي جعلت الدستور خدعةً لهؤلاء الناس

وللدول التي تنتصر لهم.

وأما مسلمو العثمانيين من العرب والأرنؤوط والأكراد فلا قيمة لهم

عندها؛ لأنها تعتقد أنها تدبر أمرهم بالقوة القاهرة، فكان غرورها هذا مهيجًا

لهؤلاء النصارى وحاملاً إياهم على الحرب الحاضرة بعد أن رأوا الجمعية

نفرت جميع العثمانيين من الدولة وأضعفت ثقتهم بها، وأحدثت مفاسد أخرى

أضعفت قوتيها: المادية والمعنوية، وهو ما بينا بعضه في المقالة الأولى،

وسنبين بقية المهم منه في المقالات الأخرى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نشرناها أولاً في المؤيد.

(1)

هكذا في الأصل والمقصود الكتابة.

ص: 54

الكاتب: عناية الله أحمدي

‌أحوال مسلمي الصين

(مسلمو مدينة نانكين في الصين)

نانكين مدينة من كبريات المدن الصينية المشهورة بتجارتها، سكان هذه

المدينة زهاء مليون نسمة، والمسلمون منهم مقدار مسلمي بكين في الكثرة،

ومنهم أناس أولو ثروة طائلة وتجارة كبيرة، وهم أرقى مسلمي الصين على

الإطلاق في دنياهم؛ إذ أكثر الموظفين في دوائر الحكومة منهم، وكذلك منهم

أكثر المعلمين في المدارس، ويعد المسلمون في هذه الولاية أرقى علمًا وفكرًا

من سائر أهلها، ولكن لبعدهم عن العاصمة (مدينة بكين) التي هي مركزهم

الإسلامي لا يعرفون من الإسلام غير كلمة التوحيد والسلام، والمستنيرون

منهم قد عرفوا أخيرًا أي: بعد حصولهم على الحرية - وجوب تربية أولادهم

على روح الإسلام، فأسسوا في مدنية نانكين جمعية باسم: جمعية نشر

الإسلام والمعارف.

لهذه الجمعية مقاصد أحدها: بيان حقيقة الجمهورية للمسلمين والدلالة على

طرق الاستفادة منها، ولذلك يطبعون رسائل مختصرة في لغة الصين وينشرونها

بين المسلمين في البلاد والقرى ويخطبون بذلك في المجامع، وأكثر ما يهتمون

به هو شئون الانتخابات، يجتهدون كثيرًا في انتخاب نواب الولاية من الذين يحبون

الإسلام ويسعون لخير المسلمين.

ثانيها: افتتاح المكاتب الابتدائية والرشدية في أحياء المسلمين كلها، ونشر

لسان العرب وبيان حقيقة الإسلام للأهالي، وتكثير سواد المسلمين الحقيقيين.

ثالثها: الاجتهاد في محو العادات والأخلاق الفاسدة المتمكنة من المسلمين،

وافتتاح المكاتب الصناعية لإزالة الكسل والفقر منهم. ومسلمو الصين لجهلهم

وتعصبهم المفرط لعوائدهم لا يشتغلون بما يشتغل به الوثنيون من الصناعات

فيستنكف أحدهم أن يكون حدادًا أو خياطًا أو ساعاتيًّا مصلحًا للساعات؛ لأن

الوثنيين يشتغلون بهذه الصناعات وينفرون ممن هذه صناعته من المسلمين.

فبجهلهم هذا وتعصبهم الزائد صارت منزلتهم في التجارة والصناعة

متأخرة جدًّا بالنسبة إلى غيرهم، وبلغوا نهاية قصوى من الفقر، وبسعي هذه

الجمعية أخذوا يتعلمون في المدارس الصناعية ويشتغلون ببعض الصناعات

كالخياطة.

ومن مقاصد الجمعية أيضًا السعي في انتخاب العلماء لمنصب الإمامة في

المساجد من الذين يستحقونها.

والحاصل أن مقصد الجمعية السعي في ترقية المسلمين وإزالة أسباب الفقر

وفساد الأخلاق من بينهم، وإنقاذهم من المهانة في الدنيا والخسار في الآخرة،

والجمعية تفتح أيضًا شُعبًا لها في ولايات خانقو شانغاي، وسيجوان، وأرسلت نور

الدين أفندي وثلاثة آخرين من زعمائها إلى تلك البلاد للتشاور بينها وبين مسلميها

واختيار أعضاء منهم للجمعية، ولها الآن أكثر من عشرة آلاف عضو في مدينة

نانكين وولايتها.

فإذا اجتهد مسلمو الصين على هذه الكيفية من غير فتور يرجى أن يرتقوا

في مدة يسيرة.

...

...

...

(ع. أحمدي)

...

...

(مترجم من جريدة (وقت) عدد 1050)

_________

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ)

هذا الكتاب من تصنيف أحد علماء اليمن المجتهدين، الشيخ صالح

مهدي المقبلي المتوفى سنة 1108، وكان في الأصل على مذهب الزيدية

ولكنه قرأ كتب الكلام والأصول وعرف مذاهب الفرق كلها وكتب التفسير

والحديث وسائر العلوم، وطلب بذلك الحق ومرضاة الله تعالى، فانتهى به ذلك

إلى ترك التمذهب وقبول الحق الذي يقوم عليه الدليل، وقد شهد له الإمام الشوكاني

بالاجتهاد المطلق، وهو يشرح في هذا الكتاب أمهات المسائل التي وقع الخلاف

فيها بين المذاهب الشهيرة كالأشعرية والمعتزلة وأهل السنة والشيعة الزيدية

والإمامية وكذا الصوفية. ويبين ما يظهر له أنه هو الحق ولا يتعصب لمذهب

على مذهب، وهذا هو مراده الذي يدل عليه اسم كتابه.

وقد توسع في الكلام على مسائل التحسين والتقبيح العقليين، والكسب

والاختيار والجبر، وأفعال الباري تعالى وأفعال العباد، ورواية الحديث

ونقدها، والجزاء والتوبة، وافتراق المسلمين والفرقة الناجية المشار إليها في

الحديث، والطائفة التي تبقى ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها فيه،

وعنده أن أهل الحق يكونون من مجموع المسلمين لا من أهل مذهب معين،

وبيَّن في هذا المقام مفاسد الخلاف بين المسلمين ومضاره، ومسألة وحدة

الوجود وحقيقة حالة أهلها، ولا تكاد تجد كتابًا منشورًا تعرف منه حقيقة

مذهب المعتزلة والزيدية غير هذا الكتاب، ومنه تعلم أن أكثر ما تجده في كتب

العقائد المتداولة من مذهب المعتزلة خطأ؛ لأنه مِن نقل المخالفين لهم نظروا

إليه بعين السخط، ونقلوه بالمعنى لا بالنص، وتصرفوا فيه كما فهموا، وبهذا

يتجلى لك صدق قول العلماء من أن نقل المخالف لا يعتد به.

كان هذا الكتاب من الأسرار والمخبآت يكتمه كل من يظفر بنسخة منه

إعجابًا به وخوفًا من الناس أن يشنعوا عليه؛ لأنه يخالف كل مذهب من

المذاهب في بعض المسائل، وإن لم يخرج عن مجموعها في شيء، وهو شديد

الحملة على ما يعتقد بطلانه، قوي الإنكار لا يتحامى التشنيع والنبذ بالألقاب

المنكرة، فهو في هذا الخلق يشبه الإمام ابن حزم الذي هجر جمهور الناس كتبه

في الأصول والفقه لشدة إنكاره على مخالفيه من أئمة الفقهاء، ونبزهم بلقب

الجهل وما أشبهه من الألقاب، ولولا ذلك لاشتهرت كتبه وأخذ الناس

بها، وترك كثير منهم مذاهبهم إليها؛ لأنها في الذروة العليا، كما شهد بذلك سلطان

العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام الشهير إذ سئل عن أحسن ما كتبه المسلمون

في الفقه فقال: (المحلى) لابن حزم و (المغني) للشيخ الموفق، وأنا أرى

أن كتب ابن حزم هي أكبر وأوسع مادةً استمد منها شيخا الإسلام ابن تيمية وابن

القيم. ولكنهما كانا أنزه قلمًا وأشد أدبًا مع الأئمة.

فكتاب (العلم الشامخ) ككتاب (المحلى) هو من الكتب التي يستفيد منها

العلماء الخواص أصحاب العقول والأفهام المستقلة والصدور الواسعة، وقد نقل

عنه شيخ الأزهر العطار الشهير في حاشيته على الجلال المحلي، فدل ذلك

على أن الكتاب كان يتداوله العلماء ويتناسخونه كما كانوا يتناقلون قبل ذلك

كتب ابن حزم.

وقد تصدى لطبع هذا الكتاب منذ ثلاث سنين بعض الشرفاء والفضلاء

الحجازيين والسوريين بعد أن استنسخه بعضهم من مكتبة حسين حسني أفندي

الذي كان شيخَ الإسلام في دار السلطنة، ولما قيل له: إننا نريد طبعه، قال:

ومن يتجرأ على طبعه؟ ومن عاش معظم عمره في حجر السلطة الحميدية

تحيط به جواسيسها لا يبعد منه أن يقول مثل هذا القول، على أنه رحمه الله

كان من أوسع علماء الآستانة صدرًا، وأشدهم تسامحًا، وكان معجبًا بالكتاب

ضنينًا به، ولكنه سمح بنسخه، ولو علم بما يطبع في مصر من كتب الفِرق

والجدل، ومن كتب دعاة النصرانية، لرأى الفرق الكبير بين مصروالآستانة

حتى في عهدها الذي يسمى الدستوري.

طبع الكتاب مع زوائده: (الأرواح النوافخ لإيثار آثار الآباء والمشايخ)

الذي أوضح به مسائله وفند به كلام من أنكر عليه بعضها، ووضعت له عدة

هوامش فيها انتقاد على المؤلف بعضها من النسخة الأصلية يوشك أن تكون

للمحقق الشوكاني.

وهو مطبوع على ورق جيد وصفحاته تناهز 800 صفحة، ولهما

فهرس واسع جدًّا مرتب على حروف المعجم، وثمن النسخة منه 25 قرشا،

وأجرة البريد للخارج خمسة قروش، وللقطر المصري 25 مليما، وهو يطلب

من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر.

***

(رسالة بغية الراغبين، وقرة عين أهل البلد الأمين، فيما يتعلق بعين

الجوهرة السيدة زبيدة أم الأمين)

تأليف العالم الفاضل السيد عبد الله بن السيد محمد صالح الزواوي الحسني

الإدريسي المدرس بالمسجد الحرام ورئيس لجنة عين زبيدة

رسالة تشتمل على ذكر أحوال عين زبيدة التي يستقي منها أهل البلد

الحرام (مكة) والوافدون لحج البيت العتيق مع بيان التصليح والترميم مما

أحدثته اللجنة المشكلة تحت رعاية صاحب السيادة والدولة أمير مكة المعظم،

ورئاسة مؤلف هذه الرسالة، ثم بيان خطط البلد الأمين.

وقد تبرع السيد عمر الخشاب الكتبي بطبع هذه الرسالة؛ إعانةً على

المشروع الجليل النفع، العميم الفائدة، ومن يطلع على هذه الرسالة يعلم أن

إعانات عين زبيدة إنما أنفقت في طريقها وعلى وجهها، فنشكر للمؤلف سعيه

في سبيل الله وخدمة بلده الحرام.

...

...

***

...

...

(كفاية الطالبين لرد شبهات المبشرين)

تأليف الشيخ محمد عبد السميع الحفناوي مدرس اللغة العربية بالمدارس الحرة

صفحاته 133 بقطع، (الإسلام والنصرانية) ، مطبوع بمطبعة أبي الهول

بالقاهرة سنة 1330 على ورق نظيف متوسط ثمنه ثلاثة قروش، ويطلب من

مكتبة المنار بمصر.

موضوع الكتاب الرد على دعاة النصرانية، وقد أبطل المؤلف به ادعاء

النصارى كون كتبهم كتبت بإلهام من الله، وبيَّن اختلافاتها وأغلاطها وأنحى

على عقيدة التثليث ببراهين وأدلة عقلية، وكذلك فعل في نفي الشريك والولد

عن الله تعالى، وفي إبطال ما يتمسك به النصارى من صلب المسيح، وتكلم

على حقية القرآن ووجوه إعجازه، وفي نبوة سيد الأنبياء صلى الله عليهم وسلم

مستدلاًّ على ذلك بنصوص كتبهم التي يسمون مجموعها الكتاب المقدس، ورد

شبهات أولئك الدعاة، وختم الكتاب بمقابلته بين آيات من القرآن الشريف

وجمل من العهد العتيق والعهد الجديد.

***

(كتاب أمراض النساء)

تأليف الدكتور نجيب بك محفوظ الطبيب بمستشفى القصر العيني صفحاته

176 بقطع، (الإسلام والنصرانية) طبع بمطبعة التوفيق، ويشتمل على 45

شكلاً من أشكال الأعضاء والأدوات، يباع بعشرين قرشًا في المكاتب الشهيرة

بمصر.

هذا الكتاب من الكتب العلمية السهلة الفهم التي تفيد مطالعتها الخاصة

والعامة خصوصًا الذين يتعلمون الجراحة بغير اللغة العربية، فنشكر لمؤلفه

على اجتهاده ونتمنى لكتابه الانتشار ليعم نفعه.

***

(كتاب الفتوحات الإلهية في مجمل العلوم الأزهرية، وكتاب التسهيلات

الإلهية في أصول الحنفية والشافعية)

كلاهما تأليف الشيخ أحمد بن محمد درويش القاضي الشرعي وأحد علماء الأزهر

طبع الكتابان في القاهرة بمطبعة مقداد، على ورق نظيف بقطع المنار،

صفحات الأول منها 27، تكلم فيه مؤلفه في تعريف أشهر العلوم الأزهرية

تعريفًا أزهريًّا مصطلاحيًّا، وبيان موضوعاتها وفوائدها ومسائلها، وصفحات

الثاني 200 واسمه يدل على موضوعه، ويطلبان من مكتبة المنار بمصر.

***

(حكم النبي محمد)

للفيلسوف تولستوي

تعريب سليم أفندي قبعين، صفحاته 77 بقطع تفسير الفاتحة، مطبوع

بمطبعة التقدم بمصر، ويطلب من مكتبة المنار وثمنه قرش واحد صحيح.

بحث مؤلف هذا الكتاب في حالة المسلمين الدينية في روسية وشرح ما

قاسوه من الاضطهاد بسبب دينهم، وما منحهم إياه القيصر نقولا الثاني من

حرية عود المتنصرين جبرًا إلى دينهم، ومن حرية المدافعة عن الدين، ونشر

الجرائد بلغة المسلمين إلى غير ذلك، ثم استطرد إلى بيان أخلاق المسلمين

وتعظيم القرآن للمسيح وأمه، وأفرد فصلاً للكلام على النبي محمد صلى الله

عليه وسلم، تكلم فيه عن حالة العرب قبل ظهور الإسلام، وأورد آيات من

القرآن للحكم على الدين الإسلامي فيها بالتوحيد الخالص والأحكام العمومية،

وأبان ما كان للدين الإسلامي من الأثر الصالح في العالم.

وأورد طائفة من الأحاديث النبوية في الأحكام والحِكم ومكارم الأخلاق،

وتكلم على الحجاب وبيَّن مفاسد التهتك إلخ، ولكن فيها شيئًا من الغلط ومن

التحريف المطبعي، ولو قوبلت الحِكم بأصلها من القرآن والأحاديث لكان أقوم

قيلاً.

***

(أمالي الشيخ علي عبد الرازق من علماء الأزهر في علم البيان)

صفحاته 122 بقطع أسرار البلاغة، طبع سنة 1330 بمطبعة مقداد على

ورق نظيف، ويباع بخمسة قروش في مكتبة المنار ومكتبة النيل.

هذا الكتاب هو مجموعة أمالي ألقاها المؤلف دروسًا في الأزهر سنة

1330 هـ، ثم جمعها في كتاب على حدة فجاءت كتابًا وافيًا بالغرض حسن

الأسلوب سهل الفهم ولم أر لعالم أزهري لهذا العهد كتابةً محررةً مختصرةً

مفيدةً تدل على تفكر الكاتب وتوخيه الاستفادة والفائدة مثل هذا الكتاب، وإن

القارئ ليقرأ فيفهم فن المعاني مجردًا.

***

(الجرح والتعديل)

رسالة من تأليف عالم الشام العامل الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي،

نشرت في المنار، وجمعت فجاءت 40 صفحة بقطع المنار على حدة، وثمنها

قرشان، وهي تطلب من مكتبة المنار بمصر، ومن مؤلفها في دمشق.

هذه الرسالة هي الحكمة التي تكم أفواه الحشوية ومتعصبي الفرق،

وترجع بهم إلى سماحة الإسلام ببيان ما جرى عليه العلماء الأعلام مثل

البخاري وغيره من اعتبار رواية الفرق التي يكفر أهلها اليوم جهلة المقلدين

والحشوية، وتبين أضرار التعصب للمذاهب ميلاً مع الهوى وتكون خير عون

للمصلحين على جمع كلمة المسلمين والتأليف بين المختلفين.

***

...

... (العلاج الجراحي)

الجزء الأول منه تأليف وليم روز ألبرت كارلس وتعريب الدكتور محمد عبد

الحميد طبيب مستشفى قليوب صفحاته 195 بقطع المنار، طبع سنة 1912 بمطبعة

المعارف بمصر طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وهو مزين بالرسوم الملونة والأشكال

التي بلغت عشرين شكلاً، ويطلب من معربه بقليوب، ومن مكتبة المنار بمصر،

وثمنه عشرة قروش خلا أجرة البريد.

***

...

... (التشريح الجراحي)

الجزء الأول منه تأليف فردريك لريفي وآرثر كيت وتعريب الدكتور محمد عبد

الحميد أيضًا صفحاته 252 بقطع (الإسلام والنصرانية) طبع في مطبعة

المعارف طبعًا نظيفًا على ورق جيد مزينًا بالصور الملونة التي بلغت 45

شكلاً، وثمنه عشرة قروش، ويطلب من معربه ومن مكتبة المنار بمصر.

مواد الكتاب: فروة الرأس، قبوة الجمجمة، محتويات الجمجمة،

الحجاج والعين، الأنف وتجاويفه، الوجه، الفم واللسان والحنك والبلعوم،

العنق، وأسلوبه كأسلوب سابقه بل كسائر معربات الدكتور محمد عبد الحميد

الذي يفيد لغته وأمته بما يقدمه حينًا بعد حين من الآثار النافعة.

***

(بلوغ المرام من أدلة الأحكام)

تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني

صفحاته 278 بقطع المنار طبعه بمطبعة التمدن الشيخ عبد الرحمن بدران

الكتبي وشريكاه، على ورق متوسط، وثمنه سبعة قروش، ويطلب من

مكتبة المنار بمصر.

الكتاب مجموعة من أحاديث مخرجة مرتبة على أبواب الفقه، وزاد فيه

باب الأدب، فيجدر بكل من يروم فقه الدين من السنة أن يطلع على هذا الكتاب.

***

(كتاب التبيان في تخطيط البلدان)

الجزء الأول منه

يشمل الدروس التي ألقاها بالجامعة المصرية العالم المؤرخ إسماعيل

رأفت بك أستاذ الجغرافية وعلم الشعوب (قبوغرافية) بها ومدرس الجغرافية

والتاريخ العام بمدرسة دار العلوم، صفحاته 499 بقطع المنار، طبع بمطبعة

محمد الوراق بمصر سنة 1329 وله خرائط للاستعانة على توضيح أبحاثه،

ويباع بعشرين قرشًا في مكتبة المختار بمصر.

معظم ما نقرأه من كتب الجغرافية العربية أنها أشبه بالنقل منها بالتأليف،

ولكن كتاب التبيان على العكس من ذلك فإن مؤلفه قرأ وبحث وباحث ونظر

فكتب، وإنه يخيل إلى القارئ أن المؤلف سائح خريت جاب القارة الأفريقية

وأثبت مشاهداته في مؤلفه هذا.

والكتاب يتناول قارة أفريقية وقد وصفها أوصافها الطبيعية والاقتصادية

والسياسة الجوية، وذيَّل الكتاب بفهرس ذكر فيه أسماء مشاهير المكتشفين

والسياح الذين مر ذكرهم في الكتاب، وكتبها بالحرف اللاتيني والحرف العربي؛

ليرجع القارئ إلى ما كتبه عنهم في أسفل صحائف الكتاب بسهولة.

وحبذا لو تم المؤلف كتابه على هذا النمط، فإن اللغة العربية في أشد الحاجة

إلى كتاب جغرافي عمومي مطول.

_________

ص: 65

الكاتب: محمد رشيد رضا

الحرب البلقانية الصليبية

لقد بدا للناس من هذه الحرب ما لم يكونوا يحتسبون، فقد كانت أقوال صحف

أوربة تدل على أن الأوربيين كالعثمانيين يظنون أن كفة الدولة العثمانية تكون هي

الراجحة، وكفة البلقانيين هي المرجوحة، ولذلك صرحت الدول الكبرى بأنها متفقة

على أن هذه الحرب لا تغير شيئًا من الحال الحاضرة ولا من خارتة البلقان.

فلما ظهر رجحان كفة البلقانيين رجعت عن قولها، وصرحت بأنه ليس من

العدل حرمان الدول المتحالفة من ثمرة انتصارها (والعدل عند هؤلاء الناس لا

يجوز أن يتعدى أبناء جنسهم وأهل ملتهم ودينهم) بل تجاوزت ذلك إلى محاولة

إكراه الدولة العثمانية وقسرها على أن تعطي الصليبيين ما فتحوا من بلادها وما

أعياهم فتحه كأدرنة، وقد أجمعت ذلك دول التثليث كلهن، سواء منهن من أبدى

ناجزَيْ الشر للدولة، وأظهر ضلعه وتعصبه للصليبيين كدول الاتفاق الثلاثي، ومن

جامل العثمانيين بالقول بعض المجاملة كدول التحالف الثلاثي.

نعم إن ما ظهر من ضعف الدولة العثمانية وخللها هو ما لم يكن يحتسبه كله

أحد ولا الأوربيون الذين يعبرون عنها بالرجل المريض، ويرون أنها بهذا المرض

تكاد أن تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، وهكذا شأن الناس في تقدير أحوال مَن

ضعُف بعد قوة عظيمة، أو افتقر بعد ثروة كبيرة، فإنهم يتصورون شيئًا من ماضيه

مع تصور حاضره، ويستخرجون النتيجة من مقدمات التاريخ الماضي زالت مع

زمنها ومن مقدمات التاريخ الحاضر، وكذلك يخطئون في تاريخ حال من دخل في

حياة جديدة، استصحابًا لشيء من ماضيه يمزجونه بما عرفوا من حاضره، حتى

تأتي الحوادث والوقائع الكبيرة بما لم يكن في الحسبان، كما رأينا في حرب

الروسية واليابان، ولكن العبرة في رجحان البلغار على الترك أكبر، والتفاوت

بين الفريقين فيها أعظم.

ومما ظهر وبان هاجمًا من وراء حدود الحسبان، شيء آخر كان كثير من

المغرورين بمدنية هذا الزمان يظنون أنه من وراء حدود الإمكان، وهو طغيان

صليبي البلقان الظافرين على أبناء وطنهم المسلمين المسالمين، وإسرافهم في

تقتيلهم وتعذيبهم، وهتك أعراضهم وسلب أموالهم، وإنهم ليقتلون النساء والأطفال

ليقل عدد المسلمين في البلاد، حتى ألجأوا بعضهم إلى الخروج من الإسلام،

وانتحال النصرانية حفظًا لأنفسهم، وصيانة لأعراضهم وأموالهم، وقد شهد فظائعهم

هذه كثير من مكاتبي الصحف الأوروبية من الشعوب المختلفة، وبعض وكلاء

الدول السياسيين (القناصل) وذكرت الجرائد الأوروبية والتركية كثيرًا من حوادثه

تقشعر منها الجلود، وتفتت لهولها الكبود.

ولم يكن عجب الناس من اقتراف البلقانيين لهذه الجرائم والجنايات

والفواحش والمنكرات وجعلهم ذلك باسم الصليب في سبيل المسيحية كعجبهم من

الدول والشعوب الإفرنجية في أوربة وأمريكة لسكوتهم عنها، بل إقرارهم إياهم

عليها، فهل هذه هي المسيحية التي يبذلون الملايين في سبيل دعوتنا إليها؟ وهل

هذه هي الإنسانية التي يفتخرون بدعواها؟

اختلفت دعاة النصرانية في مؤتمرهم الذي عقدوه للنظر في وسائل تنصير

المسلمين: هل إله المسلمين هو إله النصارى أم لا؟ فقال قس من أكبر قسوسهم:

إن إله المسيحيين غير إله المسلمين؛ لأنه دين محبة ورحمة، وإله المسلمين ليس

كذلك.

فأين هذا القس المحب الرحيم الآن؟ لا أراه إلا فرحًا مسرورًا مع قومه

بفظائع الصليبيين في البلقان، فإنه هو وأمثاله قد اتخذوا المسيحية آلة للشهوات

واللذات وسعة الملك واستعباد الأمم والشعوب، وهم أبعد خلق الله عن دين المسيح

عليه الصلاة والسلام، وعن دين بولس الذي تمثله الكتب والرسائل التي يسمونها

العهد الجديد أيضًا.

وإذا كان هذا شأن رجال الدين فيهم فكيف يكون شأن رجال السياسة المنافقين

الذين ينفثون في أرواحهم سموم العصبية الدينية، ويغرونهم بإفساد عقائد الناس،

ويعينونهم على ذلك بالنفوذ والمال، وإذا لقوا أحدًا من أهل الملل الذين يغرونهم بهم

ادعوا أنهم يمقتون العصبية الدينية وأهلها، وأنهم لا يدينون بدين إلا دين الإنسانية

العامة، وهم بهذا الوجه الذي يلقون به المسلمين وغيرهم من أهل الملل الشرقية

المخالفة أشد إفسادًا في الدين والاجتماع من دعاة دينهم، فإن الذين أفسد عليهم

الإفرنج دينهم باسم الإنسانية، أضعاف أضعاف الذين أفسدوا دينهم ودنياهم باسم

المسيحية.

صدق هؤلاء المنافقين تلاميذهم ومريدوهم من المسلمين وغيرهم، وظنوا فيهم

الخير، وتوهموا أنهم بترك الدين وحل رابطته والدعوة إلى رابطة أخرى يسلكون

طريقهم في الترقي المادي، وإنما يهوون في مهواة التدلي والانقراض.

إلا أنه قد وجد فينا الحكماء العارفون، وطالما حذروا وأنذروا، فعلت أصوات

الخادعين أصواتهم فلم تعتبر بها الأمة، وإننا نذكرها الآن بنبذة من مقالة التعصب

إحدى مقالات العروة الوثقى التي نشرناها في المنار من قبل ونقلتها بعض الصحف،

وهي منشورة أيضًا في بعض الكتب.

بيَّن الأستاذ رحمه الله في أول تلك المقالات معنى التعصب في اللغة

والاصطلاح ومفاسد الغلو فيه ومدح الاعتدال، وما ثبت في التاريخ من غلو

الأوربيين في تعصبهم، وإبادتهم للمخالفين لهم، وتسامح المسلمين وتساهلهم، ثم

بيَّن غرضهم من تنفير المسلمين خاصة من التعصب الديني مطلقًا، وإن كان معتدلاً

لا يترتب عليه شيء من إيذاء المخالفين، وهو أن يحلوا رابطتهم ويتمكنوا من

إزالة سلطانهم، وبين كون الموافقين لهم المخدوعين بسحرهم يخربون بيوت

أنفسهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، ثم قال:

(هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادت الدول اختباره وجنت ثماره

فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في

البلاد العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية، ولم تعدم صيدًا من

الأمراء المنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من

بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن

يميلوا مع هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع

بقائهم على عقائدهم، وثباتهم في إيمانهم، يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني

ويلهجون في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة، ولا

يعلم أولئك المسلمون أنهم بهذا يشقون عصاهم ويفسدون شأنهم، ويخربون بيوتهم

بأيديهم وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة

ودفعها إلى أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماءً، والله

ما عجبنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين من الأمم الإفرنجية

الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين، ولا يخجلون من تبشيع

التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة، الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من

التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم

السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على إنجاح أعمالهم،

وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم

ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق، سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت

تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة،

وحدثت حادثة مهمة، فأجمِعوا الأمر وخذوا الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من

وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية، وتراهم على اختلافهم في الأجناس،

وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لغرة الأخرى

حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية

والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين، وإن كان في أقصى قاصية من الأرض،

ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.

أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر وجه البسيطة من دماء

المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس بل

يتغافلون عنه ويذرونه، وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده، ويذهلون عما

أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والرحمة الطبيعية كأنما يعدون من

الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية. وليسوا من نوع

الإنسان الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين

منهم، بل الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في

تعصبهم الديني، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم، وليتهم يقفون عند الحق ولكن

كثيرًا ما تجاوزوه، أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب.

يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه ثم لا تجد كلمة

تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة

من روحه (انظر إلى كتب جلادستون وخطبه السابقة) اهـ.

ومما بدا للمسلمين من هذه الحرب ولم يكونوا يحتسبونه، أن الدولة العثمانية

ليست بالدولة القوية التي يرجى أن تحفظ نفسها من أوربة بقوتها الحربية، سواء

منها البرية والبحرية، وإنما بقاؤها بدوام تنازع الدول في اقتسامها، وإن هذا

الاقتسام متفق عليه في الجملة، مختلف عليه في التفصيل، وإن ممالكها في نظرهن

كالأرض الموات: مَن سبق إلى شيء منه ملكه، وإن ما يبديه بعضهن لها من الميل

والانعطاف أحيانًا، وهو لا يتعدى القول اللطيف والمساعدة السلبية، فإنما سببه جر

المغنم العاجل كالامتيازات والقروض وبيع الأسلحة والذخائر، على أنهن صرن

يقبضن أيديهن عن إقراضها ولو بالربا الفاحش ويتشددون في ذلك، وأما ما كان من

مساعدة بعضهن لها في الزمن الماضي فسببه تعارضهن في النفوذ والطمع في

بلادها أيضًا، وقد ارتقوا عن هذه الدرجة الآن.

عرف خواص المسلمين هذه الحقائق في الأقطار الكثيرة، وشعر به عوامهم

في مصر وولايات السلطنة أيضًا، فأصابهم من الغم والكآبة ما وجلت له القلوب،

وذرفت لأجله العيون، وطفق الناس يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه

مختلفون، وهو كيف يكون حال الإسلام والمسلمين إذا صارت هذه الدولة

في عداد الغابرين؟

إن أصحاب هذه الدولة يجدُّون ويجتهدون في هدمها منذ قرنين أو أكثر وكانت

بعض الدول الأوربية تدعّهم إلى الإسراع في الهدم، وبعضها تدعوهم إلى التريث

فيه، وقد اشتد الهدم على عهد عبد الحميد ولكن من وراء الحجب والأستار، وفي

حنادس الظلمات، وأما بعد سقوطه فقد صار الهدم أشد، ولكن الهادمين يسمون

أنفسهم البنائين الأحرار، وصار أبين وأظهر لأنه يؤتى في ضوء النهار.

لقد كان جهل المسلمين بحقيقة حال هذه الدولة، أكبر مصائبهم ومصائب

الدولة، ولو كانوا يعرفون كُنْهَ حالها، منذ تنبهوا لأنفسهم ولها - أي من عهد

انكسارها في حرب الروسية الأخيرة - لاجتهدوا في إصلاح أنفسهم وإصلاحها،

ولكنهم اغتروا وخُدعوا بها، وأمدتهم جرائد المنافقين في غرورهم، فحسبوا أن لهم

دولة قوية عزيزة تقيم شرعهم، وتعلي كلمة دينهم وتدافع عنه وعنهم، وكم

نبهناهم وأنذرناهم فتماروا بالنذر، ولا يزال كثير منهم على غرورهم، كما يدلنا

على ذلك تجاوب اقتراحهم عليها إدامة الحرب، وكراهتهم لما جنحت إليه الوزارة

الكاملية من السلم، وعقد الهدنة للبحث عن شروط الصلح.

إن كل ما عرفناه من مساعدة العالم الإسلامي للدولة في حربها هذه هو أنهم

أمدوها بإعانة لا تتجاوز نصف مليون من الجنيهات إلا قليلاً، إلا أن يكون هنالك

إعانات خفية عنا وعن غيرنا، وليس هذا بالذي ينهض بمثل هذه الدولة الكبيرة،

ولا إظهار الغيرة عليها بالذي يدفع عدوان الدول عنها، بل يخشى أن يكون مغريًا

لدول الاستعمار بالتعجيل عليها، فأنا لا أزال أعيد ما بدأت من القول بأن الدولة

على خطر، وحل المسألة الشرقية أقرب غائب ينتظر، وأدعو عقلاء المسلمين

خاصة إلى التفكير في المآل وإعداد ما يستطيعون له من العدة والمال، وما بعد

الجهد إلا العزم والاتكال، وإنني أشير إلى شيء من ذلك بالإجمال:

مستقبل الإسلام والمسلمين:

أهم ما يهم كل مسلم في الأرض أن يكون للإسلام سلطة تقام بها شريعته،

وتحيا بها دعوته، وقد كان المسلمون لفشو الجهل فيهم مغرورين بحكوماتهم

ودولهم، ولم يكن غرور التابعين للدول ذات التاريخ الكبير كالدولة العثمانية، بأشد

من غرور التابعين للدول ذات التاريخ الصغير كسائر الدول الأفريقية والآسيوية،

ولكن الغرور بالدولة العثمانية تجاوز بلادها إلى الملايين من المسلمين الذين استولت

عليهم الدول الأوروبية في الشرق والغرب، وإن هذا الغرور قد أوصل السلطة

الإسلامية إلى درجة الخطر - خطر الفناء والزوال - فوجب على كل عارف مخلص

أن يصرح للمسلمين بما يعرف، وقد كنا في السنين الغابرة نكني، ولكن الوقت

ضاق عن الكنى.

ولو عرف جماهير المسلمين كُنه حال دولهم وحكوماتهم من قبل لجَدَّ العقلاء

في السعي لإصلاحهم وحفظها، ولكان الفوز أرجى لهم من الخيبة، ويجب أن يعرفوا

الآن ما جهلوا من قبل، وإن كان الرجاء في السعي الآن أضعف، ولكن المسلم لا

ييأس ولا يقنط، ولقد كان أكبر بلاء الدولة العثمانية من بعض رجالها الذين يئسوا

منها في الزمن الذي دبَّ فيه إلى مسلمي الآفاق الرجاء فيها، وما زلزل غرور

المسلمين وأزال بقايا غرور غير الحكام من العثمانيين، إلا هذه الحرب البلقانية،

فإذا كانت ثمرتها أن نعرف حدنا ونهتدي إلى رشدنا، فنعرف كيف ندرأ خطر

الزوال عنا، فإن هذه الحرب تكون - كما قلت من قبل - أكبر نعمة علينا.

ألا فليعلم من لم يكن يعلم أن وجود الدولة العثمانية في أوربة هو سبب

غرورها وفقرها ومولد الفتن فيها، وهو الذي جعل رجال الدولة يحتقرون بلادها

في آسية وأفريقية وجميع الشعوب الذين في هذه البلاد، فكل قوة الدولة تعد في

ولاياتها الأوروبية ولولاياتها الأوروبية، ومعظم أموال الدولة تصرف فيها،

وعاقبتها للأوروبيين دون العثمانيين؛ لأن أوروبة كلها مجمعة على ذلك، ولكن

تنفذه بالتدريج، فلا ينبغي أن نأسى على ما يزول من أملاك الدولة في أوروبة،

ولا نفرح بما يبقى منها، وإنما ينبغي أن نوجه كل عنايتنا إلى أملاكنا في آسية،

وأن نقيم بناء الإدارة والإصلاح فيها على الطريقة التي يسمونها اللامركزية.

فتجب العناية قبل كل شيء بجعل كل من يقدر على حمل السلاح في كل قطر

من الأقطار جنودًا مستعدين للدفاع عنه إذا هاجمه العدو، وأن يكونوا في هذا

متكافلين متعاونين بنظام يوضع لذلك، وأن يكون أول ما يبدأ به من ذلك الحجاز

والبلاد المجاورة له، وأن يكون كل ما يجمع من المال لإعانة الدولة خاصًّا

بتحصين الحرمين الشريفين وما حولهما، وإعداد تلك البقاع كلها للدفاع عنهما،

وبجعلهما مثابة للعلوم والفنون بإقامة المدارس العامة في المدينة المنورة والطائف،

وأن يتولى هذا العمل جمعية علمية إسلامية يختار أعضاؤها من خيار مسلمي الآفاق

كلها. فإذا لم يبادر عقلاء المسلمين من العرب والترك والهنود والفرس وغيرهم إلى

جمع المال لهذين العملين والسعي لتنفيذهما - فوالله ثم والله ليندمُنَّ وليعلمُنَّ

أن اهتمامهم بأدرنة والقسطنطينية لا يغني عنهم من ذلك شيئًا.

وليسقطن تحت نير أوربة كل ما بقي لهم، حتى كعبتهم وروضة نبيهم صلى

الله عليه وسلم، فليتدبروا ويتذاكروا {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13)

وسنعود إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

رحلتنا الهندية

شكر علني

كنت أرى من حقوق إخواني مسلمي الهند وعمان والعراق الذين

أكرموا مثواي في رحلتي، وأحسنوا ضيافتي وبالغوا في مودتي، أن أكتب

إلى كل واحد منهم كتاب شكر خاص به، وكنت أتربص فرصة فراغ أوفيهم

حقهم هذا، ولكن قد طال العهد والزمن لم يَجُدْ عليَّ بهذه الفرصة، وذلك أن

زمن الرحلة قد امتد في العودة فلم أبلغ القاهرة إلا في النصف الثاني من شهر

شوال، فالأعمال التي كانت متأخرة من مدة ستة أشهر، وما يجب من

الاهتمام والعمل لفتح مدرسة الدعوة والإرشاد، وكان قد جاء موعد فتح

المدارس، وما يجب من جمع الهيئة العامة لجماعة الدعوة والإرشاد في

النصف الأول من ذي القعدة، وما عرانا من انحراف المزاج، ثم ما شغل

البال والوقت من هذه الحرب المشئومة، كل ذلك كان حائلاً دون سنوح

الفرصة المنتظرة.

لهذا رأيت أنه يجب عليَّ في عرف الوفاء والأدب أن أستعيض عن

الشكر التفصيلي الخاص بشكر إجمالي عام لأولئك الأصدقاء الكرام، والعلماء

الأعلام، والأمراء الفخام، وإنني أرجو وقد وفقت للكتابة إلى قليل منهم، أن أوفق

إلى مكاتبة سائرهم أو أكثرهم، وإنني أخص بالذكر من أتذكر الآن أسماءهم.

أولهم وأولاهم بالشكر من جالية العرب في بمبي ومن أهلها صديقي

الحميم المحسن العظيم الكريم ابن الكريم ابن الكريم، الشيخ قاسم بن محمد آل

إبراهيم، فهو الذي قام بحسن ضيافتي في غدوتي وروحتي، وأعد سيارة

كهربائية خاصة مدة إقامتي في بمبي، ثم ابنا أخيه الشيخ عبد الرحمن إبراهيم،

والشيخ يعقوب إبراهيم، والشيخ محمد المشاري رئيس شركة البواخر

العربية، وعبد الله فوزان، وسائر الجالية العربية في بومباي الذين استقبلوني

على رصيفها هم وبعض كرام أهلها كالحاج سليمان عبد الواحد شريف البلد

والحاج إسماعيل صوباني رئيس (أنجمن إسلام) الذي حياني على رصيف

البحر بخطبة بليغة، وميان محمد حاجي جان محمد شوتهاني كبير طائفة

الميمن وأشهر تجارهم نجدةً ومروءةً، والحاج عبد الله ميان الكهندواني من

كبراء طائفة الميمن أيضًا، وهؤلاء قد أدبوا لنا مآدب حافلة اجتمع لها مئات

من الكبراء والفضلاء.

ثم أشكر فضل باي من أكابر سروات البلد جماعة آغاخان، وكنت أتمنى

لو كان زعيمهم محمد سلطان (إمام الإسماعيلية) يومئذ في بمبي فإني كنت

حريصًا على لقائه، وقد سررت من اهتمام فضل باي بأمر الجامعة الإسلامية؛

لأنها كانت جل حديثنا في تزاورنا.

وممن أخص بالشكر والثناء السيد علي الحسن معاون البوليس في آكره

الذي أحسن ضيافتي وإطلاعي على الآثار العظيمة التي فيها، ومحمد شعيب

مفتش مصلحة الآثار في آكره ودهلي.

وأما أهل دهلي فأجدرهم بثنائي وشكري النواب محمد أجمل خان حاذق

الملك الطبيب الشهير كبير سروات دهلي وأحد أفراد المسلمين الممتازين في

الهند بالعلم والفضل وعلو الجانب، وقد أحسن - حفظه الله - ضيافتي

وجمعني في داره بأكبر علماء البلد ووجهائه، وخصص لي سيارة كهربائية

تيسر لي بركوبها رؤية جميع الآثار القديمة في ضواحي تلك المدينة في مدة

قصيرة، ولا أنسى أولئك العلماء الكرام الذين أنسنا بهم هناك وأخص بالذكر

منهم مولوي الشيخ سيف عبد الرحمن المدرس الأول والناظر لمدرسة فتح

بوري الدينية، وقد زرنا مدرسته وسمعنا وأسمعنا ما فتح الله به فيها.

وتكلمنا معه في إصلاح التعليم، والعناية باللغة العربية فصادفنا منه ارتياحًا لرأينا

في ذلك، ومولوي الشيخ عبد الله الغزيبوري، ومولوي أحمد الله المبارك بوري،

وميرزا ضمير الدين أحمد اللوهاري، ولا أنسى مودة التاجر الصادق الحاج

التقي عبد الغفار بن الحاج علي جان، الذي كان يترك محل تجارته الكبير

ويصاحبني في كل مكان، وقد صحبنا معه في رؤية آثار دهلي النواب ضمير

الدين، وبالقرب من الأثر العظيم الذي هو أكبر آثار دهلي، منارة قطب أوليا، بلدة

اسمها مهرولي، عرجنا فيها على دار الشيخ رياض الدين من كبراء أهلها

وكان أعد لنا غداءً طيبًا نوَّع فيه ألوان الأطعمة الهندية،وكان من مظاهر

الكرم الإسلامي في تلك الديار.

ولم أنسَ ولا أنسى زيارة مدرسة مظاهر العلوم في مدينة سهارنبور ولقاء

ناظرها وأكبر مدرسيها مولوي الشيخ خليل أحمد الذي لم أر في علماء الهند

الأعلام أشد منه إنصافًا ولا أبعد عن التعصب للمشايخ وللتقاليد، وما ذلك إلا

لإخلاصه وقوة دينه ونور بصيرته.

وأبدأ من شكر أهل لاهور الكرام بالثناء على الأمير الجليل والسري

النبيل، النواب فتح علي خان قزلباش، الذي أحسن ضيافتنا وأكرم وفادتنا،

ولا غرو فقصره في تلك المدينة القديمة معهد الكبراء والفضلاء، وموئل

السائحين والغرباء، وأثني بالثناء على الصديقين الفاضلين، والرصيفين

الكريمين مولوي محبوب عالم صاحب جريدة بيسه أخبار، ومولوي محمد إن

شاء الله صاحب جريدة وطن، وكان هذان الفاضلان يتسابقان لضيافتي،

ويرى كل منهما أنه أولى بي: الأول لأنه تكرم بزيارتي في مصر عند

منصرفه من أوربة، والثاني لما بيني وبينه من صلة المكاتبة وعنايته بنشر

تفسير المنار، ولكن النواب الجليل قال: إنه هو الأحق بذلك، فلم يسعهما إلا

الإذعان، لأنه هو البدء الذي لا يختلف على تقديمه اثنان.

ثم أثني الثناء الأوفى على الكاتب البليغ والخطيب المصقع مولوي ظفر

علي خان، صاحب جريدة (زميندار) الذي بالغ في الترحيب بي قبل وصولي

إلى الهند، واقترح أن تعقد لجنة لوضع برنامج لحفاوة مسلمي الهند بي، وكان

يريد أن يحتفل احتفالاً عامًّا يجتمع له الألوف من جميع طبقات الشعب

فاعتذرت له على ذلك بأنني مضطر إلى السفر إلى ندوة العلماء لقرب موعد

احتفالهم هذا العام.

ومما أذكره مع الشكر والثناء مواتاته لي في الصلح بينه وبين صديقي

صاحب جريدة (وطن) الذي أشكر له مثل هذه المواتاة، وكانت جرت بينهما

مناظرة حادة أدت إلى الجفوة وآلمت فضلاء المسلمين في جميع البلاد الهندية

حتى رغب إليَّ كثير من كبرائهم في السعي للصلح بينهما عند زيارة لاهور.

ومما أشكره لصديقي محبوب عالم شكرًا خاصًّا، ترْكه لنجله الكريم مريضًا

يعالَج وطوافه بي على مساجد البلد ومدارسها ومعاهدها الأثرية فيها وفي

ضواحيها.

وأما أهل لكنهؤ فلا أستطيع أن أوفيهم حقهم من الشكر والثناء، فقد

استقبلني الألوف منهم بحفاوة قلما يستقبل بمثلها الملوك، حتى خجلت

واستحييت وكلما رجوتهم أن يختصروا في التكريم غلوا فيه وأفرطوا، حتى

إنهم جروا المركب التي ركبتها بأيديهم، وأخص بالشكر والثناء رجال ندوة

العلماء الكرام، وفي مقدمتهم رئيسهم صديقي العلامة الهمام شمس العلماء

الشيخ شبلي النعماني، والسيد ممتاز حسين رئيس لجنة المستقبلين فيها، وهو

الذي خصص داره الفيحاء لنزولي فيها، وتأنق في إتقان الضيافة ما شاء فجمع

بين مقتضى أصله العربي الصميم، وفرعه الهندي الكريم، واحتشام السلطنة

أمين أموال الندوة، وسائر علماء الندوة وغيرهم كالعلامة الكبير السيد ناصر

حسين كبير علماء الشيعة.

ثم عظماء البلد الذين أدبوا لنا المآدب الحافلة: مشير حسين القدوائي،

الذي كان كاتب السر لجمعية الجامعة الإسلامية في لندن وأخوه شاهد حسين

والسيد محمد علي حسن خان ابن أمير العلماء وعلامة الأمراء المرحوم السيد

صديق حسن خان، نواب بهوبال صاحب التصانيف الشهيرة، والأمير الكبير

النواب محمد علي راجا ولاية محمود آباد، وهو من أعظم أمراء الهند

وسرواتهم من طائفة الشيعة الإمامية، وأركان النهضة الإسلامية، فإنه يبذل

المال لمدرسة العلوم الكلية في عليكرة بألوف الجنيهات، كما يبذل للمدارس

الخاصة بأهل السنة كمدرسة ندوة العلماء، فنسأل الله أن يكثر في المسلمين من

أمثاله، وكانت خاتمة الدعوات الحافلة في لكهنؤ دعوة الطبيب الشهير الحكيم

محمد عبد الولي حياه الله تعالى.

وقد سِرت من لكهنؤ إلى بنارس مدينة البراهمة المقدسة ومقر أقدم أصنام

في الأرض فلم أعرف من مسلميها إلا مضيفنا الكريم محمد ممنون حسن خان

المعاون المسلم للحاكم الإنكليزي فيها، وهو أفغاني الأصل، فقد تفضل - أحسن

الله جزاءه - مع حسن الضيافة بمساعدتنا على رؤية الآثار القديمة الوثنية

الثابتة من ألوف السنين المكتشفة حديثًا في ضواحيها، صرفنا كل وقتنا في

رؤية الآثار والعاديات فلم نتعرف لأحد، على أن أكثر مسلمي بنارس من

الصناع والزراع وقلما يوجد فيها أحد من أهل العلوم والآداب فيما نعلم.

للشكر بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أبو سعيد العربي الهندي

كان هذا الرجل في (درنه) يتردد على أنور بك وحاشيته مثل الشيخ صالح

التونسي وجاء مصر فاتصل بأخلاط الحزب الوطني فلحقه الفريقان بالطعن في

صاحب المنار فكتب في بعض جرائد الهند ينكر عليها فيها إطراءه وتسميته مصلحًا،

وبلغني أنه ادعى في بعضها أنه يتكلم في شأني عن معرفته بي، وهو لا يعرفني

وإنما رآني مرتين: إحداهما في لجنة الهلال الأحمر وثانيتهما في الطريق، دعوته

فيها إلى إدارة المنار للتعارف والمذاكرة فاعتذر.

فإذا كان قد كتب ما كتب بسوء الفهم، وهو مخلص، فستظهر له عاقبة

المنافقين الذين كذبوه وخدعوه، والله يعفو عنه، وإن كان مثلهم فجزاؤه على

الله تعالى، والعاقبة للمتقين.

_________

ص: 80