الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من البحرين
عن حكم الحج وترك الملوك والأمراء وبعض العلماء له
(س30 - 36) لصاحب الإمضاء بجزيرة البحرين:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة سيدي العلامة المصلح العليم مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف
الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير، أدام الله تعالى شريف وجوده
وسلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فالداعي لتحريره عرض مسألة عرضت
لنا في هذه الأيام، وهو أننا عشرة أشخاص نوينا هذه السنة التوجه لحج بيت الله
الحرام والتمتع بمشاهدة مهد الإسلام، وبهذه المناسبة صار بيننا جدال وكلام كثير
بخصوص الحج ومناسكه فالتجأنا إلى طلب الاستهداء من حضرتكم لإرشادنا إلى
السبيل الأقوم والصراط المستقيم، فعليه قدمنا هذا الكتاب مؤملين فيه الجواب من
حضرتكم على هذه الأسئلة وهي:
علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار لنا الإسلام دينا وجعل هذا الدين مُقامًا
على خمسة أركان رئيسية، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع
إليه سبيلا.
هذا هي الخمسة الأركان التي لا يكمل الإسلام إلا بها، وبفضل المنار المنير
وباقي كتب العلماء المصلحين الأفاضل قد فهمنا المقاصد والحكم من الصلوات
والزكاة والشهادتين والصيام كما قد فهمنا المقصد من الحج على الوجه العام، ولكن
اسمح لنا يا حضرة المفضال الحكيم أن نقول في الحج بعض أعمال لم نعرف
الحكمة منها فلذلك جئنا بهذا الكتاب نلتمس منك هدايتنا إلى ما جهلناه وهو:
1-
ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود إذا عرفنا أنه حجر
لا يضر ولا ينفع ولا يخفى ما في ذلك من المظاهرة الوثنية؟
2-
ما الحكمة في رمي الحجارة الجمار في القليب في مزدلفة؟
3-
ما الحكمة في الهرولة بين المروتين؟
4-
ما المقصد في ذبح الذبائح على كثرتها ودفن لحومها في منى، وفي ذلك
ما فيه من النتائج الوخيمة التي تصدر من تعفن اللحوم؛ إذ تنتشر الأوبئة منها،
ولماذا يمنع الناس من أكلها؟ وهل ذلك لازم، ومن المناسك التي لا يتم الحج إلا
بها على هذه الصورة. ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنويًّا
ثمنًا لهذه اللحوم؛ إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه فما قولكم لو صرفوا هذه
المبالغ على إصلاح آبار مكة وطرقها وتكاياها وتنظيفها وعلى كل ما يعود على
الحجاج بالراحة والصحة والسلامة.
5-
لماذا أقاموا دون عرفة بِنَائَيْنِ عن اليمين والشمال تعرف بالعلمين؟ وكل
من لم يكن خلف هذين البِنَائَيْنِ ليس مقبول الحج مع أنه تكلف العشاء ووصل إلى ما
دونهما؟ ولماذا يكون من خلفها مقبول الحج، وهو في لهوه ولعبه، وممارسة ما
اعتاده في بلاده من الأعمال، ومن كان دونها غير مقبول، ولو كان على غير ذلك؟
وهل هذان البناءان حد فاصل بين الله والناس أو بين الجنة والنار.
6-
نرى كثيرًا من علماء الأمة الإسلامية ومرشديها المصلحين منهم من عاش
ومات وهو لم يحج مع أنه ربما رحل في سنته مرتين أو ثلاثا إلى أوربا أو إلى
غيرها من البلاد ولم يذهب إلى مكة مع أنه كان الألزم والأوجب أن يقصد مكة
والحج كل موسم للنصح والإرشاد. فهذا ساكن الجنان الأستاذ الإمام والمرحوم السيد
عبد الرحمن الكواكبي وغيرهم عاشوا وماتوا وهم لم يروا مكة في وقت الحج.
وحضرتك أيضا كذلك، فما هي الأسباب يا ترى ونحن نعتقد أن امتناعكم جميعًا عن
الحج لا بد له من سبب فما هو ذلك السبب العظيم الذي يمنع رجال الإصلاح العظام
عن الحج المقدس.
7-
وكذلك نرى أن جميع ملوك الإسلام وأمراءه وأغنياءه لا يحجون ولا نرى
الحجاج سواهم إلا من فقراء الهند والصين والروسيا وجاوا وبلاد العرب كمصر
وتونس وسوريا والعراق وغيرها. وهذا كثير من سلاطين آل عثمان الخلفاء
وأمراء البيت السلطاني وأعاظم الرجال من الوزراء والحكام والأغنياء المشار إليهم
بالبنان كلهم لا يحجون ولا يدور في خلد أحدهم أن يحج، فما هو السر في ذلك يا
ترى، وكم عجبنا لما سمعنا بحج أمير مصر قبل سنتين، وكثر تحدث الناس في
ذلك حتى تجرأ أحدهم فقال: إن المقصود من حج العزيز غرض سياسي ورحلة في
جهات الحجاز لا غيرُ، وليس له مقصد في الحج قطعًا.
هذا ما وجهناه لحضرتكم ملتمسين التنازل بمجاوبتنا عليه، ولك يا سيدنا
الخيار في المجاوبة أن تكون على صفحات المنار أو كتاب مخصوص، وإذ كانت
في المنار تكون أعم وأنفع، وإن أردت أن تجاوب على بعضها في المنار وبعضها
كتابة مخصوصة فالأمر إليك، ونحن قد اتكلنا بعد الله عليك، ولنا كبير الأمل أن
حضرتك تهدينا إلى سواء السبيل لا سيما وحجنا يتوقف على جوابكم؛ لأنه لا
يخفاك أننا نقصد الحج نطلب الأجر والغفران، لا الإثم والخسران، فأمط لنا - بما
أعطاك الله من سعة العلم - نقاب الباطل عن وجه الحقيقة أدامك الله سراجًا يهتدي
به مَن ضل عن محجة الصواب، والسلام عليك.
4 شعبان سنة 1331 إلى مصر. القاهرة
…
...
…
...
…
...
…
... من المخلص
…
...
…
...
…
...
…
ناصر مبارك الخيري
…
...
…
...
…
...
…
...
…
بالبحرين
أجوبة المنار
قد سبق لنا القول في مجلدات المنار السابقة عن حكم الحج جملة وتفصيلا،
والانتقاد على ملوك المسلمين وأمرائهم أنهم تركوا هذه الفريضة، وعذر الأستاذ
الإمام رحمه الله تعالى في تأخير هذه الفريضة إلى أن وافاه أمر ربه، وكون عذرنا
عين عذره.
وما نظن أن السائل وأصحابه الذين أشار إليهم قد علقوا حجهم على جواب
هذه الأسئلة، ولعله قال ذلك لنبادر إلى الجواب عنها، وها نحن أولاء نبادر إلى
ذلك، وإن كان لدينا كثير من الأسئلة مقدمة عليها في التاريخ.
* * *
حكمة تقبيل الحجر الأسود
ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى
والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل
قائليه من جهة وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى، ومن عرف معنى العبادة
يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود ولا الكعبة ولكن يعبدون الله تعالى
وحده باتباع ما شرعه فيهما، بل كان من تكريم الله تعالى لبيته أن صرف مشركي
العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل الإسلام عن عبادته،
وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ولم يعبدوه. ذلك أن عبادة الشيء عبارة
عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده أو دفع الضرر
عنه، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه، سواء كانت هذه
السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود فيستقل بالنفع والضرر أو كانت غير ذاتية له بأن
يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة الذاتية، ولا يوجد
أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له، ولا أن
سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى، ولا كانت العرب في الجاهلية تعتقد
ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى} (الزمر: 3)، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) وإنما عقيدة
المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيله،
قال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن.
وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله
عنه، وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أثر عمر كان العمدة في
هذا الباب للاتفاق على صحة سنده.
قال الطبري: إنما قال عمر ذلك أي أنه معلوم من الدين بالضرورة؛ لأن
الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر
الأسود من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد أن يعلم
الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر يضر
وينفع بذاته. اهـ.
فإن قلت: روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري أن عمر لما قال ذلك قال له
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنه يضر وينفع، وبين ذلك بأن الله لما أخذ
الميثاق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، وأنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (يأتي يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد)
فالجواب أن هذا الحديث باطل، انفرد بروايته عن أبي سعيد أبو هارون عمارة بن
جوين العبدي، وأهون ما قيل فيه: إنه ضعيف، وكذَّبه حماد بن زيد، وقال
يحيى بن معين: ضعيف لا يصدق في حديثه، وقال الجوزجاني: أبو هارون كذاب
مفتر، وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديث، وقال شعبة:
كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي فقدم فرأيت عنده كتابًا فيه أشياء
منكرة في علي رضي الله عنه، فقلت ما هذا الكتاب؟ فقال: هذا الكتاب حق،
وقال شعبة أيضا: أتيت أبا هارون فقلت له: أخرج إلي ما سمعته من أبي
سعيد، فأخرج إلي كتابًا فإذا فيه: حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل في حفرته وأنه
لكافر بالله. فدفعت الكتاب في يده وقمت. وأقول: إن طعنه في كل من الصهرين
الكريمين يفسر لنا قول الدارقطني فيه: يتلون خارجي وشيعي.
والذي يظهر لي من كلامهم هذا أنه كان منافقًا. فإن قيل يقوي حديثه هذا
حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وغيرهما. قلت: ليس في حديث ابن عباس
أنه ينفع ويضر وإنما فيه أنه يشهد لمن استلمه بحق، فإذا صحت هذه الشهادة مهما
كانت كيفيتها في عالم الغيب فهي لا تدل على أن الحجر الأسود يملك لأحد من
الناس ضرًّا أو نفعًا هو مختار فيه، ولا يطلب أحد من المسلمين منه هذه الشهادة
بألسنتهم ولا قلوبهم فيقال: إن طلبه عادة، وشهادة أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة
أصح من شهادة الحجر وليست معبودة بهذا المعنى.
بقي أن يقال: إذا كان الحجر لا ينفع ولا يضر كما قال عمر في الموسم
تعليمًا للناس وأقره بعض الصحابة عليه. وكان استلامه وتقبيله لمحض الطاعة
والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتبع في سائر العبادات، فما هي
حكمة جعل ما ذكر من العبادة؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى الله عليه
وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين واستمالة لهم إلى
التوحيد؟
والجواب: أن الحجر ليس من آثار الشرك ولا من وضع المشركين، وإنما
هو من وضع إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، جعله في بيت الله
ليكون مبدأ للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها فيكون الطواف بنظام لا
يضطرب فيه الطائفون.
وبهذا صار من شعائر الله يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها
بيتًا لله تعالى، وإن كانت مبنية بالحجارة، فالعبرة بروح العبادة: النية والقصد،
وبصورتها الامتثال لأمر الشارع، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان، ولهذا لا
تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره
من الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية.
وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية بغير قصد العبادة معروف في جميع
الأمم لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون، وأشد الناس عناية به
الإفرنج فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة
ونصبوا لهم التماثيل الجميلة، وهم لا يعبدون شيئا منها، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به
كل قسيس أو سياسي يريد تنفير المسلمين من دينهم إذا موَّه علينا في شأن تعظيم
الحجر الأسود فزعم أنه من آثار الوثنية، ونحن نعلم أنه أقدم أثر تاريخي ديني
لأقدم إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين الذي عُرِفَ شيء صحيح من
تاريخهم وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي جمع على تعظيمه مع المسلمين
اليهود والنصارى؟
وبقي من حكمة استلام الحجر وتقبيله ما اعتمده الصوفية فيها أخذًا مما ورد
في بعض الأحاديث الضعيفة كحديث علي السابق، وحديث ابن عباس: (الحجر
الأسود يمين الله في أرضه) رواه الطبراني وهو أنه رمز لمبايعة الله تعالى، فكأن
الحجر يمين الله تعالى ومُسْتَلِمه مبايع له على توحيده والإخلاص له واتباع دينه
الحق، والأعمال الرمزية معروفة في جميع الأديان السابقة، وقال المهلب: حديث
عمر يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ
الله أن تكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختبارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع
الله، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم. اهـ. وليس مراد من
قال: إنه يمين الله أن لله جارحة، وإنما أراد ما ذكرنا، والعمدة في رد هذا القول
عدم صحة الحديث فيه، فإن صح وجب قبوله ومعناه ظاهر.
قال الخطابي: معنى كونه يمين الله في الأرض أن من صافحه لمن يريد
موالاته والاختصاص به فخاطبهم بما يعهدونه. وقال المحب الطبري: إن كل ملك
إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه، فلما كان الحاج أول ما يقدم سن له تقبيله نزل منزلة
يمين الله، {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: 60) . اهـ.
ولعمري لو أن ملوك الإفرنج وعلماءهم أمكنهم أن يشتروا هذا الحجر العظيم
لتغالوا في ثمنه تغاليًا لا يتغالون مثله في شيء آخر في الأرض، ولوضعوه في
أشرف مكان من هياكل التحف والآثار القديمة، ولحج وفودهم إلى رؤيته وتمنى
الملايين منهم لو تيسر لهم لمسه واستلامه، وناهيك بمن يعلم منهم تاريخه وكونه
من وضع إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام وإنهم ليتغالون فيما لا شأن له من آثار
الملوك أو الصناع.
هذا، وإن من مقاصد الحج النافعة: تذكر نشأة الإسلام دين التوحيد والفطرة
في أقدم معابده، وإحياء شعائر إبراهيم التي طمستها وشوهتها الجاهلية بوثنيتها
فطهرها الله ببعثة ولده محمد الذي استجاب الله به دعوته: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة: 129)
عليهما الصلاة والسلام.
روى أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع،
(كمنبر واسمه) يزيد الأنصاري ونحن بعرفة، في مكان يباعده عمرو عن الإمام [1]
فقال أما إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم: (قفوا على
مشاعركم فإنكم على إرث من أبيكم إبراهيم) هذا سياق أبي داود وقد سكت عليه.
وقال الترمذي: حديث ابن مربع الأنصاري حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث
ابن عيينة عن عمرو بن دينار.
وجملة القول أن مناسك الحج من شريعة إبراهيم وقد أبطل الإسلام كل ما
ابتدعته الجاهلية فيها من وثنيتها وقبيح عملها كطوافهم بالبيت عراة، وإن الكعبة
من بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما هو ثابت عند العرب بالإجماع
المتواتر بينهم وكانوا يعظمونها هم والأمم المجاورة لهم بل والبعيدة عنهم كالهنود،
ومن الثابت أيضا أنهم لما جددوا بناءها أبقوا الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم
وإنما اقتصروا من جهة الركنين الشاميين، ولذلك ورد استلام الركنين اليمانيين دون
غيرهما، ويقال لأحدهما الركن الأسود؛ لأن فيه الحجر الأسود وللآخر اليماني فإذا
ثنوهما قالوا اليمانيين تغليبًا كما يقولون في تثنية الركن الشامي والركن العراقي
الشاميين.
ولما كانت الكعبة قد جدد بناؤها قبل الإسلام وبعده لم يبق فيها حجر يعلم
باليقين أنه من وضع إبراهيم إلا الحجر الأسود لامتيازه بلونه وبكونه مبدأ المطاف
كان هو الأثر الخاص المذكر بنشأة الإسلام الأولى في ضمن الكعبة المذكرة بذلك
بوضعها وموضعها وسائر خصائصها، زادها الله حفظًا وشرفًا. وقد علم بهذا أن
الحجر له مزية تاريخية دينية، وإن كان الأصل في وضعه بلون مخالف للون البناء
اهتداء للناس بسهولة إلى جعله مبدأً للطواف، ولنا مع علمنا بهذا أن نقول: إن لله
تعالى أن يخصص ما شاء من الأجسام والأمكنة والأزمنة لروابط العبادة والشعائر،
فلا فرق بين تخصيص الحجر الأسود بما خصصه وبين تخصيص البيت الحرام
والمشعر الحرام وشهر رمضان والأشهر الحرم، ومبنى العبادات على الاتباع لا
على الرأي.
* * *
حكمة رمي الجمار
إذا وعيت ما تقدم كان نورًا بين يديك تبصر به حكم سائر مناسك الحج أعني
بها مما تَعَبَّدَنا الله تعالى بها لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال سواء عرفنا سبب كل
عمل منها وحكمته أم لا، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام
الموحدين المخلصين، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى، وإن لاستحضار
ذلك لتأثيرا عظيما في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به، والثقة بأنه دين الله
الخالص الذي لا يقبل غيره، فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها
لا يضرنا ذلك، ولا يثنينا عن إقامتها كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب
من عدة أجزاء، وجهلنا سبب كون بعضها أكثر من بعض، فإن ذلك لا يثنينا
عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به، ولا يدعونا إلى التوقف وترك استعماله إلى
أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء ومقاديرها.
أبسط ما يتبادر إلى الذهن من منشإ هذه العبادة أن هذه المواضع التي
تسمى الجمرات كانت من معاهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام فشرع لنا أن نقف
عند كل واحدة منها نكبر الله سبع تكبيرات ترمى عند كل تكبيرة حصاة صغيرة بين
أصابعنا نعد بها التكبير، والعدد بالحصى - ومثله النوى في مثل الحجاز - من
الأمور المعهودة عند الذين يعيشون عيشة السذاجة، فنجمع بهذا الذكر بهذه الكيفية
بين إحياء سنة إبراهيم الذي أقام الدين الحق في هذه المعاهد وبين التعبد لله تعالى
بكيفية لا حظ للنفس ولا محل للهوى فيها، وللعبادة منها شعائر يجتمع لها الناس
وتقصد الأمة بعملها إظهار الدين والاجتماع والتآلف على عبادة الله تعالى، وكل
أعمال الحج من هذا القبيل، ومنها ما يقصد به تربية كل فرد نفسه وتزكيتها فقط
كالتهجد، وذكر الله في الخلوة، فلا يقال: إن الذكر والتكبير لا يختص بذلك الزمان
والمكان؛ لأن هذا القول لا يصح إلا في غير الشعائر؛ إذ الشعائر لا بد فيها من
التخصيص والتوقيت لأجل جمع الناس عليها بنظام كالأذان وصلاة الجماعة
والجمعة والعيدين.
أما كون رمي الجمار شرع لذكر الله تعالى فسيأتي حديث عائشة المصرح به
في جواب السؤال التالي، وأما سبب وقوف إبراهيم في تلك المعاهد لذكر الله
وتكبيره وعده بالحصى فلا يضرنا جهله، ويكفينا أن نقتدي به في هذه الشعيرة
كشعيرة الطواف وغيرها من المناسك.
وورد في بعض الأحاديث الضعيفة السند: أن إبليس عرض له هنالك أي
يوسوس له ويشغله عن أداء المناسك فكان يرميه كل مرة فيخنس ثم يعود. روى
الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس (لما أتى خليل الله المناسك عرض له
الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبعة حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له
عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض) ثم ذكر الجمرة
الثالثة كذلك.
وروي عن محمد بن إسحاق قال: (لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء
البيت الحرام جاء جبريل عليه السلام فقال له: طف به سبعًا) ثم ساق الحديث
وفيه: (أنه لما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس عند جمرة العقبة فقال له
جبريل: كبر وارمه سبع حصيات، فرماه فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة
الوسطى فقال له جبريل: كبر وارمه فرماه إبراهيم سبع حصيات، ثم برز له عند
الجمرة السفلى فقال له جبريل: كبر وارمه، فرماه سبع حصيات مثل حصى
الخذف، فغاب عنه إبليس، ثم مضى إبراهيم في حجه) الحديث.
وليس تمثل الشيطان للأنبياء ولا ظهوره لهم بغريب في قصصهم ففي الإنجيل
المعتمد عند النصارى أنه ظهر للمسيح عليه السلام وجربه تجارب طويلة.
فإذا صح أن إبليس عرض لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في أثناء أداء
مناسكه بظهور ذاته أو مثاله، أو بمجرد التصدي للوسوسة والشغل عن ذكر الله
تعالى فلا غرابة في قذفه ورجمه كما يطرد الكلب، فمن المعروف في الأخلاق
والطباع أن يأتي الإنسان بعمل عضوي يظهر به كراهته لما يعرض له حتى من
الخواطر القبيحة ودفعه عنه وبراءته منه، فأخذ الحصيات ورميها مع تكبير الله
تعالى من هذا القبيل، وإن حركة اليد المشيرة إلى البعد لتفيد في دفع الخواطر
الشاغلة للقلب.. والرجم بالحجارة بقصد الدلالة على السخط والتبري أو الإهانة
معهود من الناس، وله شواهد عند الأمم كرجم بني إسرائيل مع يشوع (النبي
يوشع عليه السلام لمجان بن زراح وأهله وماله من ناطق وصامت (كما في7: 24
و25) من سفر يشوع، وكرجم النصارى لشجرة التين التي لعنها المسيح، ورجم
العرب في الجاهلية لقبر أبي رغال في المغمس بين مكة والطائف؛ لأنه كان يقود
جيش أبرهة الحبشي إلى مكة لأجل هدم الكعبة حرسها الله تعالى.
والعمدة في رمي الجمار ما تقدم من قصد التعبد لله تعالى وحده، بما لا حظ
للنفس فيه اتباعًا لإبراهيم أقدم رسل الله الذين بقيت آثارهم في الأرض، ومحمد
خاتم رسل الله ومكمل دينه ومتممه الذي حفظ دينه كله في الأرض، صلى الله
عليهم أجمعين.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحج من الإحياء: وأما
رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهارًا للرق والعبودية، وانتهاضًا لمجرد
الامتثال، من غير حظ للعقل والنفس في ذلك؛ ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه
السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه
شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله
فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه وأما أنا فليس يعرض لي
الشيطان، فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك
في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به؟
فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي، فبذلك ترغم أنف الشيطان.
واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه
الشيطان وتقصم به ظهره، إذا لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه
وتعالى تعظيمًا له بمجرد الأمر، من غير حظ للنفس والعقل فيه اهـ.
* * *
حكمة الرَّمَل في الطواف والسعي بين الصفا والمروة
الطواف بالكعبة المعظمة والرمي والسعي بين الصفا والمروة من مناسك
الحج وشعائر الإسلام، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وروي أن هاجر
رضي الله تعالى عنها كانت تسعى بينهما والِهَةً حَيْرَى عند حاجتها إلى الماء زمن
ولادتها إسماعيل حتى هداها الله تعالى إلى بئر زمزم.
والعمدة في هذه العبادة ما ذكرناه في الكلام على رمي الجمار من إقامة ذكر الله
تعالى في هذه المعاهد التي هي أقدم معاهد التوحيد المعروفة في الأرض وإحياء
سنن المرسلين فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت
وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) رواه أبو داود والترمذي وقال:
حسن صحيح من حديث عائشة. وأذكاره معروفة في المناسك.
وأما الرَّمَل فيه فهو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة ومعناه سرعة في
المشي مع تقارب الخطوات من غير عَدْو ولا وثب، ويسمى الخَبَب أيضا فهو دون
العَدْو وفوق المشي المعتاد، فإن زادت السرعة كان عَدْوًا.
أما سبب الرَّمَل في الطواف والسعي بهمة ونشاط بين الصفا والمروة فهو كما
يؤخذ من عدة أحاديثَ إظهارُ قوة المسلمين للمشركين، وكان قد علم النبي صلى
الله عليه وسلم أن المشركين قالوا عام الحديبية في المؤمنين: قد أوهنتهم حمى
يثرب، وروى في الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة لعمرة
القضاء قال المشركون: إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من
الهزال؛ لذلك أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في ثلاث طوفات
ويمشوا في أربع من الأشواط السبعة من طواف القدوم فقط.
وكان خطر لعمر بن الخطاب أن يتركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله
لسبب عارض، ثم بدا له فمضى عليه؛ لأنه علم أن المحافظة على ما فعله النبي
صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه كالمحافظة على ما كان فعله جده إبراهيم صلى الله
عليه وسلم إن لم تكن أولى، روى أبو داود وابن ماجه عنه أنه قال: فيم الرملان
اليوم والكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام (أي: وطأه وأحكمه) ونفى الكفر
وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأصله في البخاري بلفظ: فما لنا والرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم
الله، ثم قال: هو شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه.
وقوله: (راءينا) مشاركة من الرؤية أي أريناهم قوتنا وأننا لا نعجز عن
مقاومتهم، وقيل: هو من الرياء بمعنى إراءة ما هو غير الواقع أي أريناهم من
الضعف قوة. والرياء مذموم؛ لأنه خداع؛ والخداع جائز في الحرب، وهذا من
قبيل الحرب.
وقوله في الرواية الأولى: والكشف عن المناكب: معناه الاضطباع وهو أن
يؤخذ الرداء من تحت إبط اليد اليمنى فيلقى على كتف اليسرى فتظهر المناكب،
وحكمته عين حكمة الرمل، وقيل: إنما هو لأجل التمكن منه.
وقد ورد في الصحيح: أن المشركين قالوا عندما رأوا النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه يرملون مضطبعين: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم أجلد
من كذا وكذا. وفي رواية أجلد منا.
فعلم من هذا أن الرمل أو الهرولة كما قال السائل إنما شرعت في الطواف
لسبب، وإنما نحافظ عليه لتمثيل حال سلفنا الصالحين: رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه رضي الله عنهم اتباعًا وتذكر لنشأة الإسلام الأولى في عهدهم، وهل
توجد أمة من الأمم غيرنا تعرف من نشأة دينها هذه الدقائق بيقين؟ لا لا، فالحمد لله
رب العالمين.
* * *
حكمة ذبح النسك ودفن لحومها في منى
حكمة ذبائح الهدي والأضاحي معروفة لا يجهلها عامة المسلمين، وهي طاعة
الله تعالى وتقواه، وإظهار نعمته بتوسعة المسلمين على أنفسهم وعلى الفقراء
والمساكين في أيام العيد التي هي أيام ضيافة الله للمؤمنين، وهي من مناسك الحج؛
لأنها إحياء لسنة إبراهيم وتذكر لنعمة الله عليه وعلى الناس بفداء ولده إسماعيل من
الذبح الذي ابتلاه الله واختبره به؛ لتظهر قوة إيمانه بالله تعالى وإيثاره لرضاه.
ونعمة الله بذلك على الناس كافة إنما هي من حيث إن إسماعيل هو جد محمد صلى
الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى خاتمًا لرسله وهاديًا للناس كافة.
قال تعالى في البدن التي تنحر للنسك في: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (الحج: 36) وقال في ذبائح النسك عامة: {لَن يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم} (الحج: 37) الآية.
وأما دفن لحومها في هذه الأزمنة، التي كثرت فيها الحجاج وقلت معرفتهم
ومعرفة حكامهم بأحكام الدين وحكمه، فليس من الدين في شيء، وإنما هو من
الجهل بأمر الدين والدنيا. ولو كان للحجاز حكومة عاقلة رشيدة لعرفت كيف تحفظ
ما زاد عن حاجة الناس من تلك اللحوم بجعل بعضها قديدًا، وبعضها مقليًّا من النوع
الذي يقال له (قاورمه) ولأفاضت منها على فقراء الحرم طول سنتهم، وها نحن
أولاء نرى الأمم العالمة التي تعرف كيف تستفيد من جميع نعم الله تعالى تنقل اللحم
الغريض والسمك الطري من قطر إلى قطر، حتى إن الغنم تذبح في استرالية ويباع
لحمها في مصر من شمالي إفريقية وفي شمال أوربة أيضا، ونحن قد جعلنا حسنات
ديننا سيئات بسوء تصرفنا، فصرنا حجة عليه في نظر الأمم كلها، وهو حجة
علينا عند الله تعالى.
وإذا جاز أن تترك هذه الذبائح وينفق ثمنها فيما ذكر السائل فمن يضمن أن
يقوم الناس بذلك؟ كلا إن هذا شعار لا يقوم غيره مقامه، ولو كان للمسلمين من
الاهتمام بعمران الحرمين وخدمة الحجاج ما أشار إليه لما توقف قيامهم به على
تركهم لهذا النوع من النسك؟
فإن كان في الأنعام التي تذبح هنالك ما يضر لحمه الآكلين، وعرف ذلك
بشهادة الأطباء والعارفين، فالواجب على الحكومة أن تمنع دخول هذا النوع الضار
حتى لا يسوق الناس إلى الحرم من الغنم وغيرها من النعم إلا كل صحيح لا يخشى
منه ضرر.
* * *
العَلَمَان وحكمة حدود عرفة
إذا كان من أركان الحج الوقوف بعرفة وجب أن يكون لعرفة حدود معينة،
وإلا بطل معنى فرضية الوقوف فيها، وهكذا كل عبادة اعتبر في فرضيتها مكان أو
زمان كالطواف والسعي بين الصفا والمروة وصيام رمضان وكون الصيام من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس، لا تحصل العبادة لمن خرج عن الحد المكاني أو
الزماني، وأما مسألة القبول فهي شيء آخر: ما كل من أتى بأعمال العبادة الظاهرة
نجزم بأن عمله مقبول عند الله تعالى، إذ يجوز أن يكون مرائيًا بعمله غير مخلص
فيه، وإنما يتقبل الله من المتقين المخلصين، ولكن المخلص إذا لم يأت بالعمل الذي
فرضه الله تعالى كما فرضه تعالى بحدوده من زمان ومكان، فلا مجال للقول بأن
عمله مقبول؛ لأن العمل لم يوجد، فمن سعى إلى الحج ولم يدرك الوقوف بعرفة
وراء العَلَمَين اللَّذيْن هما أول حد عرفة لم يدرك الحج حتى يبحث في قبول حجه
وعدم قبوله، ومثله مثل من سعى إلى صلاة الجمعة ولم يدرك ركعة منها مع الإمام
لا يقال: إن جمعته مقبولة أو غير مقبولة؛ لأنه لا جمعة له، وإن سعى إليها من
أول النهار مخلصًا لله في ذلك، ولكن الله لا يضيع أجر من سعى إلى الحج أو
الجمعة أو غيرهما من العبادات مع الإخلاص فيثيبه على ذلك وإن لم يسقط عنه
الفرض، وكان لا بد في الجمعة من صلاة الظهر في الحج من أدائه تامًّا في ميقاته.
وقد علم مما ذكرنا أن العَلَمَين حدٌّ لعرفة لا حَدٌّ بين الله والناس، ولا بين الجنة
والنار.
* * *
ترك بعض العلماء لفريضة الحج
الحج فرض على من استطاع إليه سبيلاً، وهو على التراخي لا الفور إذا
وُجِدَ العذرُ، والخلاف في المسألة مشهور، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا في آخر سنة من عمره، ولكنه اعتمر قبل ذلك. ومن ترك الحج وهو
يستطيع السبيل إليه حتى مات، مات عاصيًا لله تعالى. ولا يقتدى به ولا يعد تركه
إياه عذرًا لغيره، والسائل يقول: إنه يرى كثيرًا من علماء الأمة ومرشديها
المصلحين لم يحجوا، وأنا لا أعرف أحدًا من العلماء المصلحين ولا غيرهم من
الجامدين الراضين بحال المسلمين السيئة ترك الحج بغير عذر حتى مات. وقد ذكر
السائل منهم الأستاذ الإمام والسيد الكواكبي - رحمهما الله تعالى - وذكرني معهم.
فأما الكواكبي فهو من علماء الاجتماع والسياسة لا من علماء الدين، وإن كان له
مشاركة ما في الفقه ونحوه لا تنكر، ولا أدري أحج أم لا؟ وأنا ما عرفته إلا في
مصر، ولم يكن ذا سَعَةٍ فيها، نعم إنه ساح بعد هجرته إلى مصر في جزيرة
العرب ثم عاد إليها، ولكن بمساعدة من بعض الناس، ومن لا يستطيع الحج إلا
بمال غيره لا يجب عليه الحج، ولا أن يقبل تبرع غيره له بنفقته إن هو تبرع.
وأما الأستاذ الإمام فأنا أعلم أنه كان عازمًا على الحج وقد سمعت ذلك من
لسانه وأنه يريد أن يقيم في المدينة المنورة وما جاورها طائفة من الزمن، ويبحث
عن مواضع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بحثًا يستعين به على ما كان ينويه
من الكتابة في تاريخ الإسلام، وتحرير سيرته عليه الصلاة والسلام، وقد بينت
عذره وعذري وسبب تأخيرنا للحج من قبل، فمن ذلك قولي في تفسير قوله تعالى:
{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) من جزء التفسير الرابع ما نصه:
إن كثيرًا من أمراء المسلمين ونابغيهم يعلمون أن دون أدائهم لفريضة الحج عقبات
سياسية لا يسهل اقتحامها، وقد جاء في صحف الأخبار أن أمير مصر استأذن
السلطان في حج والدته وبعض أمراء أسرته فلم يأذن.
وقد كان الأستاذ الإمام يعتقد أنه إذا حج يلقي بيديه إلى التهلكة، وأنه لا أمان
له في الحرم الذي كان يرى الجاهلي فيه قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء. وإن كاتب
هذه السطور يعتقد مثل هذا الاعتقاد، فنسأل الله تعالى أن يحقق لنا ثانية مضمون
قوله تعالى {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) لنمتثل ما فرضه علينا من
حج هذا البيت
…
إلخ.
وأقول الآن: قد ظهرت صحة اعتقاد الأستاذ واعتقادنا في هذا في مرض
موته حين قبضت الحكومة الحميدية العثمانية في بيروت على الحاج محيي الدين
حمادة عند عودته من مصر؛ لأنه كان ضيفًا له وكانت بنت أخيه زوجًا له،
وأخذت أوراقه وحبسته على وجاهته وحسن سيرته وبعده عن السياسة ومذاهبها،
ثم علمنا أن الحكومة كانت ترسل العسكر بعد ذلك ليلاً لمراقبة سواحل بيروت وما
يجاورها؛ لأنه بلغها أن الأستاذ يريد النزول فيها.
وكانت هذه الحكومة قبل ذلك وبعده تصادر كل كتاب يدخل المملكة العثمانية
إذا وجد عليه أو فيه اسم محمد عبده أو اسم المنار، أو مطبعة المنار، دع اسم
صاحب المنار، وتمنع أيضا ذكر هذه الأسماء في هذه الجرائد، ويعلم قارئ المنار
في زمن عبد الحميد أنه كان ممنوعًا من ممالكه، وأن والدي مات والعسكر يحيط
بداره وكان أخي في السجن؛ لأن المنار وجد عنده، وكانت الحكومة تعاقب كل من
تعلم أنه يقرأ المنار أو يكاتب صاحبه.
والسبب في ذلك كله وسوسة جواسيس السوء للسلطان عبد الحميد بأننا نريد
إقامة خلافة قرشية في الحجاز أو غير الحجاز وكان من هؤلاء الجواسيس مصطفى
باشا كامل.
خلع السلطان عبد الحميد بعد وفاة الأستاذ الإمام فظهر ورثته من الاتحاديين
بعداء للعرب أشد خطرًا علينا مما كان من عداء عبد الحميد لنا، جئنا الآستانة
وحاولنا أن نقنعهم بحسن نية العرب ووجوب إنصافهم فلم نستطع. ثم جعلوا
صاحب هذه المجلة من أعدى أعدائهم وذنبه عندهم أنه يدعو إلى النهضة العربية،
فكان قصد الحج في هذه المدة مما يقوي سوء ظنهم، ولا يؤمن معه غدرهم، وقد
صادروا المنار في بريدهم، ومنعوا دخوله لبلادهم، كما فعل عبد الحميد لمثل ذلك
السبب، وقد صار خلفاء مصطفى كامل من زعماء الحزب الوطني وكتاب جرائده
جواسيس لهم كما كان زعيمهم جاسوسًا لعبد الحميد، ويتهموننا بما كان يتهمنا به
وفي مقدمتهم محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز شاويش، ولكننا دخلنا مع
الاتحاديين الآن في طور جديد يرجى أن تمحى فيه سعاية الجواسيس، فقد اعترفوا
بأننا نطلب حقًّا وأجابونا إلى بعضه رسميًّا ووعدوا بالباقي وعدًا مؤكدًا.
فعسى أن يتم الاتفاق، ويمحو آية الشقاق، ويكون قد ظهر لهم حسن نيتنا
وإخلاصنا نحن وسائر طلاب الإصلاح من قومنا لهذه الدولة، وحرصنا على
تعزيزها وإصلاح شأنها، وهذا ما يظهرونه الآن، وقد بلغونا أن منع المنار قد
ارتفع. ويترتب على حسن نيتهم في العرب رضاهم بعمران الحجاز، وعدم خوفهم
من زيارة طلاب الإصلاح له في النسك وغير النسك، وحينئذ نرجو أن يوفقنا الله
في العام القابل لأداء الفريضة بفضله وكرمه.
* * *
ترك ملوك المسلمين وأمرائهم الأغنياء للحج
سبق لنا في مجلدات المنار السابقة الانتقاد على سلاطين آل عثمان وملوك
إيران وغيرهم من أمراء المسلمين ترك فريضة الحج، ولكن لم يخطر في بالنا أن
أحدًا من المسلمين يقتدي بهؤلاء الملوك والسلاطين في ترك هذه الفريضة، وكذلك
الأغنياء المترفون لا يصح أن يكونوا قدوة في ذلك ولا أن يكونوا شبهة من الشبهات
على الحج.
ومن سوء الظن القبيح أن يقول مسلم: إن حَجَّ عزيز مصر الأمير عباس
الثاني كان لغرض سياسي، وأي غرض سياسي يتوقف على أدائه لمناسك الحج؟
على أن كثيرًا من الأغنياء يحجون، فإن كان غير الأغنياء أكثر حجًّا؛ فذلك لأنهم
في أنفسهم أكثر عددًا، وأقل فسقًا وترفًا، هذا ما نراه كافيًا في جواب هذه الأسئلة،
فعسى أن يراه السائل كذلك، والله الموفق.
_________
(1)
هذه الجملة مُدْرَجَةٌ في الحديث أدرجها راويه عمرو بن دينار، ومعناه أنهم في مكان بعيد عن موقف الإمام بحيث لا يسمعون كلامه، فقوله: يباعده عمرو يعني يذكر عمرو بن عبد الله بن صفوان التابعي أنه بعيد عن الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم فلذلك أرسل إليهم رسولاً.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
تابع ما قبله
(8)
جاء في إنجيل متى (15: 22 - 28) أن امرأة كنعانية صرخت
إليه ليشفي ابنتها المجنونة، وكانت تقول له: ارحمني يا سيد يا ابن داود، فلم
يجبها بكلمة فصارت تصيح وراءه حتى طلب تلاميذه منه صرفها فقال لهم: لم
أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة. فجاءت وسجدت له قائلة يا سيد أعني.
فقال لها: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فقالت: نعم يا سيد
والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ شفى لها ابنتها
بعد هذا العناء العظيم والإلحاح الكبير. فانظر إلى مقدار عطفه ورحمته بالضعفاء.
وهو الرجل الذي يقولون: إنه جاء لخلاص الناس أجمعين. ألا يدل ذلك على أن
كل ما جاء في تعاليمه مما يفيد معنى الرحمة والمسامحة والإحسان إلى الناس ما كان
يريد به إلا أمته اليهودية فقط لا غيرهم من الأمم كما هو صريح عباراته في هذه
القصة التي تدل على القساوة المتناهية حتى حركت أعمال المرأة عطف تلاميذه
أنفسهم قبله؛ ولذلك طلبوا منه إجابة طلبها فأبى أولا. فهذه هي أخلاق هذا الرجل
الذي يمدح نفسه بقوله (مت 11: 29) : (لأني وديع ومتواضع القلب) فهل يتفق
هذا مع فعله مع المرأة الكنعانية؟ نعم هو وديع ومتواضع القلب ولكن مع من؟ مع
الأقوياء من أمة اليهود [1] ومع الرومانيين حكامه وحكام أمته. أما الضعفاء الأجانب
فهم عنده كلاب. فهذا هو مبلغ تعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة على غلوها أحيانًا
فهو نفسه كان يخص بها اليهود رغمًا عن دعواهم الآن أنها للبشر أجمعين.
وهذه القصة تدل على أنه ليس بإله؛ لأنه مقيد بإرادة من أرسله كما يفهم من
قوله: (لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة) . ولذلك تركها يوحنا كعادته
وأتى بقصة المرأة السامرية، وهي تغايرها بالمرة (يو 4: 7 - 30) وغرضه منها
أن يظهر أن بعثته كانت عامة، فقال: إنه كان يتكلم مع هذه المرأة السامرية
ويطلب الشرب معها مع أن اليهود لا يجوز لهم معاملة السامريين حتى صار تلاميذه
يتعجبون من ذلك وهذه القصة - كغيرها مما تقدم - تدل على تأخر زمن هذا
الإنجيل عن الأناجيل التي قبله؛ ولذلك أتى بها ليظهر أن بعثته ليست قاصرة على
اليهود كما يفهم من قصة المرأة الكنعانية ومن (مت 10: 5 و6) بل كانت للبشر
كافة أما قول متى (28: 19) : اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، فهو إن لم يكن
إضافة متأخرة كقول مرقس بدعوة الخليقة كلها (16: 15) الذي ثبت عندهم
إضافته أيضًا (كما سبق في صفحة 50) فالمراد به أمم اليهود كافة فإنهم، كما قال
سفر الأعمال، كانوا في أورشليم وحدها من كل أمة تحت السماء أع 2: 5-13
فما بالك بمن كانوا في أرض اليهودية كلها؟ ويؤيد هذا المعنى قول المسيح لتلاميذه
(مت 10: 23) فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن
الإنسان. فهذه المدن كانت عندهم العالم كله كما أريناك سابقًا ص 14 من هذه
الرسالة، وعلى ذلك يحمل قوله في مرقس (13: 10) ينبغي أن يكرز أولاً
بالإنجيل في جميع الأمم، وقوله في متى (24: 14) في كل المسكونة لجميع
الأمم ثم يأتي المنتهى. ولا تنس قول لوقا (2: 1) (صدر أمر من أوغسطس
قيصر بأن يكتتب كل المسكونة) ، أي أرض اليهودية خاصة كما قال صاحب كتاب
الهداية المسيحي في مجلد (2 ص 255) وغيره.
ومن أمثلة وداعته وتواضعه ورحمته غير ما تقدم ما جاء في إنجيل متى
(18: 21 و22) أن أحد تلاميذه مات أبوه فاستأذنه في الانصراف ليدفنه فلم يقبل
وقال له: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم. والظاهر من هذا القول أن أبا هذا
التلميذ لم يكن مؤمنًا به فلذا حقد عليه حتى بعد موته، ومنع ابنه من الذهاب ليدفنه
ولا ندري ماذا كان يفعل به لو قدر عليه وهو حي؟ فهل هذا خلق الرجل الذي أمر
غيره بمحبة الأعداء. وقد داس بعمله هذا مع تلميذه على أمر التوراة بإكرام
الوالدين وأيضًا بعمله مع أمه مريم ومخاطبته لها بقوله (يو 2: 4) ما لي ولك يا
امرأة) ولكن كان في أول الأمر وخوفًا من اليهود يقول لهم (مت 5: 17) : (لا
تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء) . فما أصدق كلامه هذا وغيره.
وهذه القصة تظهر أيضًا أنه ما كان يريد بتعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة
والإحسان إلى اليهود عامة كما قلنا من قبل تساهلاً (ص191) بل كان يريد بها
من آمن به فقط من اليهود واتبعه ولذلك قال متى (12: 46 - 49) : إن أمه
وإخوته جاءوا مرة إليه ووقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه نحو تلاميذه، وقال: (ها
أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي)
يعني من آمن به فقط [2] .
ولذلك أمر أتباعه ببغض غيرهم كما سبق (لو 14: 26) فهل هذا هو الأمر
بالإحسان إلى الناس كافة حتى الأعداء؟ ومتى عمل هو نفسه بذلك أو أتباعه الذين
استغاثت الأرض من سفكهم دماء بعضهم بعضًا لأقل الأسباب ودماء غيرهم من
الأمم بغير حق إلى الآن. ومنهم من أدار خده الآخر للضاربين (مت 5: 39)
وأحب أعداءه؟ أليست هذه التعاليم كلها حبرًا على ورق، وهي مع ذلك غلو مذموم
مخالف للعقل والعدل وللطبيعة البشرية، وإيجابها في جميع الأحوال مؤد إلى الفساد
بطغيان الأشرار، وبتثبيط همة الأصدقاء وتنفيرهم لمساواتهم بالأعداء فيهملون ولا
يبالون. ومن منهم ترك ما اعتادوه من الانغماس في الملاذ والشهوات والترف،
وباع كل ماله كما في لوقا (18: 22) ووزعه على الفقراء؟ وإذا أطاع الناس
هذا الأمر أتصلح أحوال هذا المجتمع ويتقدم إلى الأمام أم يبطل فيه كل عمل
واختراع واكتشاف واجتهاد ما دامت الأموال كلها توزع من الأغنياء على الفقراء
بلا عمل ولا حساب؟ قال ملحدوهم: الظاهر أن يسوع ما أمر بذلك إلا حيلة؛
ليتمكن هو وتلاميذه من أخذ أموال الأغنياء ليعيشوا بها بلا عمل سوى التجول من
مدينة إلى أخرى صارفين في حاجاتهم كلها من أموال غيرهم حتى من النساء (لو
8: 1-3) كما هو شأن أهل البطالة والكسل المتشردين، وإذا كان كل شيء ينال
بالصلاة كما قال في (مت 18: 19 و20) فما حاجته بعد إلى أموال الناس التي
كان يأخذها منهم ويحملها في صندوق معهم يهوذا الإسخريوطي (يو12: 6)
فلماذا لم يترك المال لأهله ويسأل أباه السماوي فيعطيه كل ما احتاج إليه هو
وتلاميذه الفقراء الذين لا عمل لهم بعد اتباعه (مت 4: 19 - 22) سوى الإنفاق
من المال الذي كان يلقى لهم في الصندوق من الناس.
فهذا شيء قليل من كثير مما أصبح بعض الإفرنج يقولونه في المسيح. ومن
أراد أكثر منه فليقرأ مثل كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة المذكور آنفًا The
Truth about Jesus of Nazareth، وإني أستغفر الله من كل هذا، ومما
جاء في هذا الكتاب الإنجليزي وغيره من تأليف ملحدي النصارى أنفسهم.
وقال هؤلاء الملحدون أيضا: إذا صح أن يسوع صدق في نبوة واحدة من
نبواته فهي قوله (مت 10: 34) : لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض،
ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا. فإن الأرض لم تخضب بدم أكثر مما خضبها به
أتباعه منذ أن صارت لهم قوة ودولة ولم يصدر عن أمة في العالم ما صدر من أمته،
حتى من رؤساء الدين منهم [3] ، من ظلم الأبرياء والأذى والاضطهاد وسائر
أنواع المفاسد والمظالم، حتى الآن كما هو مشاهد. (انظر مثلاً ص 130 و131
من كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة) .
ويقولون: إذا كانت هذه ثمرة دينه في الأرض فبئست الثمرة، وإذا كان ذلك
كله مما فعله في ثلاث سنين، وهو فقير حقير ضعيف مضطهد (أش 53: 3)
فكيف به لو كان أوتي عزًّا ومالاً وملكًا كبيرًا وعمرًا طويلاً، لذلك كفر به الناس
وكفروا بدينه، وبكل ما جاء به وألفوا المؤلفات الضخمة في مطاعنهم وردودهم
وصاروا اليوم يدعون الناس في أوربة جهرًا إلى آرائهم وأفكارهم.
فليتأمل في ذلك دعاة النصرانية الذين يطعنون، وهم في بلاد المسلمين خوفًا
من أن يسمعهم الملحدون فيضحكون منهم يطعنون في محمد بمطاعن ضعيفة واهية
لا تعد شيئًا بالنسبة لما فعله المسيح وما يفعله الآن أتباعه كثيرًا كالانتحار وشرب
الخمور والربا والمقامرة وحب المال لدرجة الفناء فيه والفسق والخلاعة والتبرج
والزنا والقتل والظلم والانغماس في اللذات والشهوات، وغير ذلك مما أتت به إلى
بلادَنَا مَدِنَيَّتُهُم الإفرنجية التي يسمونها مسيحية ولا يخجلون ويظنون أن المسلمين
يخجلون من حكم الطلاق وتعدد الزوجات في الإسلام وجهاد الأعداء [4] في سبيل
الله بسبب ظلمهم لنا، على فرض قبحها، ليست كالأشياء التي رووها أنفسهم عن
المسيح، وأشرنا إلى بعضها هنا، والحكم عليها بالقبح مع ذلك ليس مما أجمع عليه
العقل البشري كمسائلهم تلك، بل هي أمور اعتبارية، ألا ترى أن مسألة تعدد
الزوجات في الإسلام هي من المسائل التي يختلف الحكم عليها باختلاف عادات
البلاد واختلاف أذواق أهلها فهي أقل من مسألة التزوج عند بعض الأمم بالأقارب
الأقربين مثلا.
فنحن، وإن كنا نستفظع ذلك التزوج بالأقربين ونستقبحه ونمقته، إلا أنه
ليس من المسائل المجمع على قبحها بين سائر البشر، وكذلك عادة رقص النساء مع
غير أزواجهن وإبداء زينتهن لغير محارمهن هي عندنا قبيحة وشنيعة وعند الإفرنج
حسنة وتعمل رسميًّا في قصور ملوكهم، فالخلاف بيننا وبينهم فيه كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
…
عندك راض والرأي مختلف
فإن قيل: إذا كانت هذه المسائل التي حكيتها عن المسيح صحيحة فما جواب
المسلمين عنها وهي تنافي معتقدهم في المسيح الذي عظمه القرآن تعظيما، وإن
كانت كاذبة فهل يعقل أن الإنجيليين وهم أحباب المسيح يخترعونها وينسبونها إليه
كذبًا؟ قلت: إننا لا نقول: إن كل هذه المسائل اخترعها الإنجيليون أنفسهم بل
نقول: إنها روايات كاذبة افتجرها بعض أعداء المسيح الأولين من اليهود وغيرهم
وروجوها بين أتباعه حتى اشتهرت وظنوها روايات صحيحة فدخلت الغفلة على
رواة النصرانية حتى على كتاب الأناجيل لشدة جهلهم وغباوتهم كما دخلت على
كثير من محدثي المسلمين وكتاب السير منهم بعض أشياء من المنافقين والوضاعين
توجب الطعن في محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام مع الفرق العظيم بين رواة
المسلمين ورواة غيرهم في نقد الحديث كما اعترف بذلك بعض علماء الإفرنج
أنفسهم (راجع مثلاً كتاب المسحاء الوثنيين ص238 و239 لمؤلفه المستر
روبرتسن J. M. Robertson) .
ومع ذلك فقد ترك بعض الإنجيليين بعض هذه الأشياء ولم يشر إليها أو ذكرها
لذيوعها بين الناس، بطريقة مخففة لرفع الإشكال بقدر الإمكان بحيث لا يرى منها
أصل القصة جليًّا واضحًا إلا بالرجوع إلى الأناجيل كلها أو بعضها وأخذ عبارة فيها
من هنا وعبارة من هناك حتى يتم فهم القصة، كمسألة تردد المسيح على بيت مريم
ومرثا في قرية بيت عنيا، فإن علاقة المسيح بهما وكونهما عاهرتين يحبهما
المسيح ويكثر مخالطتهما والمبيت عندهما إلخ، إنما يستنتج ذلك كله من مجموع ما
رووه فيهما لا من واحد منهما فقط.
ومن أعظم الأسباب أيضًا أن بعض هذه المسائل كان يوجد مثلها عند الوثنيين
الداخلين في المسيحية كما بيناه في حاشية (صفحة 185) وقد تأصلت في نفوسهم
فلم يهن عليهم تركها فأدخلوها في دينهم الجديد ليجعلوا المسيح كأحد آلهتهم لكي لا
يشعروا بالفرق الكبير بين الدينين، شأن البشر فيما ألفوه من آرائهم ومعتقداتهم،
وقد قبل منهم أكثر النصارى ما أدخلوه جهلاً منهم بحقيقة دينهم أو فرحًا بهم واستمالة
لهم لعلهم لا يرجعون.
وربما كان غرض بعضهم أيضًا من ذكر هذه المسائل إظهار أن المسيح وهو
عندهم يغفر لمن يشاء (لو م7: 47 - 49) وقد أعطى هذه السلطة لتلاميذه أيضًا
كما سبق (مت 18: 18 ويو20: 23) فوق الناموس والشريعة وغير مقيد بها
وله أن يتصرف فيها كما يشاء ويفعل ما شاء؛ لأنه هو واضعها على زعمهم،
وشارعها للناس [5] وأنه إذا اقترب من المعاصي فلا يقع فيها إلا بمشيئته ولحكمة
نجهلها، ولذلك ترى أن أكثر مثل هذه القصص التي أريد بها غالبًا إظهار كبريائه
وعدم مبالاته بالناموس، وأنه فوق كل شيء واردة في إنجيل يوحنا دون غيره أو
مستوفاة فيه أكثر، وهو الإنجيل الذي ذكر أيضًا (8: 2-11) قصة عدم رجم
المسيح للزانية ونقضه شريعة موسى في ذلك (لا 20: 10) راجع أيضًا (يو 4:
9 -
30) .
وأما عبارة إنجيل لوقا (9: 56) التي تشبه في المبدأ مسألة الرجم هذه فقد
وجدوا أنها متروكة من بعض النسخ القديمة، وهو دليل على زيادتها فيه ليجعلوا
إنجيل لوقا كإنجيل يوحنا انظر (يو 3: 17 و12: 47) فيجوز أن يكون اختراع
هذه المسائل والقصص هو لمثل ذلك الغرض أي إظهار أنه فوق الناموس الأكبر،
وأنه أكبر من كل شيء، وإن كان هذا الاختراع قد أدى إلى عكسه فذم الناس
المسيح ذمًّا شنيعًا بسبب ما نسب إليه، ولكن كتابهم ما كانوا ينتظرون حصول هذه
النتيجة المحزنة. وأيضًا فقد كان الاستهتار بالشريعة الموسوية وعدم المبالاة بها
وبأحكامها أكبر ما سعى إليه بولس وتبعه في ذلك كثير من الأمم لسهولته كما هو
معلوم، فلذا قالوا عن المسيح ما قالوا: فإن مبادئهم كانت أقرب إلى الإباحية
والاشتراكية من أي شيء آخر كما سبق (انظر صفحة 59 و105 و187) .
أما غرضنا نحن من ذكر هذه المسائل هنا مع أننا نبرأ منها إلى الله مرارًا
وتنفر منها طباعنا، والإسلام يحرم علينا نسبتها إلى عيسى عليه السلام، ويوجب
علينا التأدب في حقه وحق سائر الأنبياء، فهو أن نظهر أننا يمكننا أن نقابل
النصارى بالمثل لولا ديننا وآدابنا، وأن نري متعصبيهم أن الطعن في محمد عليه
السلام بالروايات الضعيفة والأحاديث الموضوعة أو بالمسائل المختَلف بيننا وبينهم
في قبحها وحسنها ليس من العقل ولا من الإنصاف في شيء وعندهم في أناجيلهم
القانونية لا الموضوعة ما يوجب الطعن في المسيح بأشد مما يوجد عندنا في محمد،
حتى نفر عقلاؤهم وعلماؤهم في أوربة من المسيح والمسيحية، ومن كان في بيت
من زجاج لا يليق به إن كان عاقلاً أن يرمي بالحجارة الساكنين في بيوت من حديد.
ومما تقدم ترى أن الاعتقاد بهذه الأناجيل ضار بمقام المسيح عليه السلام
ضررًا بليغًا ولا خلاص للناس من كل الإشكالات المتقدمة وغيرها التي أوقعت
المفكرين والعقلاء في الإلحاد إلا بنبذ هذه الكتب والاعتقاد بالقرآن الشريف فإنه هو
الذي برأ المسيح بالحق من كل عيب، ومن كل دعوة إلى عقيدة باطلة ورفع مقامه
رفعًا حقيقيًّا عاليًا.
أما هذه الأناجيل فقد حطته من حيث لا تشعر وهي تسعى في تأليهه بنسبة
أقوال إليه تدل لو صحت ولن تصح، على جنون قائلها لشدة بساطة كاتبيها وبعدهم
عن العلم الصحيح والعقل وشدة تأثرهم بالوثنية، ومع أن رواية هذه الأناجيل هي
عند النصارى أصح الروايات بل مكتوبة بالوحي الإلهي، فقد رأيت ما تؤدي إليه
من نسبة ما لا يليق إلى المسيح، وهو منه براء عليه السلام. فكيف يكون الحال
إذا عاملنا النصارى كما يعاملوننا في طعنهم في محمد صلى الله عليه وسلم وأخذهم
بكل سخيف ضعيف من الروايات؟ ولكن ديننا يحول بيننا وبين ذلك، وهو أيضًا
لا يتيسر لنا؛ لأنهم أضاعوا الروايات الأخرى وأغلب الأناجيل، ولم يبق إلا ما
وافق آراءهم وأهواءهم، ومع ذلك فنحن قد أخذنا بأصح رواياتهم في اعتقادهم
وأريناك كيف تؤدي إلى الطعن في المسيح عليه السلام، وهم إنما يأخذون بأضعف
الروايات عندنا وأسخفها بل بالموضوع منها وأحيانًا يفتجر بعضهم الروايات لنا
افتجارًا، فهل أمكنهم بعد ذلك كله نسبة شيء قبيح قبحًا حقيقيًّا لمحمد صلى الله عليه
وسلم [6] كخلوته بالزانيات وحبه لهن وتردده عليهن مرارًا هو وتلاميذه
ودلكهن قدميه بالطيب ودهن رأسه به ومسح رجليه بشعورهن، وعدم إنكاره على
الناس شرب الخمر ومساعدتهم على ذلك بل فرضه عليهم وسكره، وتجرده من
ملابسه مرة أمام تلاميذه وعشقه لأحدهم وإجلاسه له في حضنه، وكذبه على
إخوته، وعقوقه لوالدته ومنعه تلميذه من دفن أبيه، وحقده على كل من لم يؤمن به
إلخ، وهو مع ذلك كله فقير مسكين ضعيف مضطهد، فما بالك إذا أوتي ما
أوتيه محمد من الملك والعز والمجد والعظمة وسعة الرزق وطول العمر.
وقد حثَّ عيسى تلاميذه - وهو ضعيف - على المقاومة للدفاع عنه وحمل
السيوف واستعمالها في ذلك، وأمر الناس كافة ببغض آبائهم وسائر أقاربهم الأقربين
وإلقائه الشقاق والحرب والتفريق بينهم، ثم إن أعظم تعاليمه موجبة لضعة النفس
والذل، وهي ليست عملية ولا يمكن إطاعتها وفيها من الغلو ما فيها وتؤدي إلى
خراب هذا المجتمع، بل القيام ببعضها مستحيل حتى عليه هو نفسه كمحبة الأعداء
وهو نفسه لم يحبهم بل كان يسبهم سبًّا شنيعًا (مت 23: 13 - 36) ويحقد عليهم
وما منعه من الانتقام منهم إلا ضعفه كما بينا، ومن ذلك حثه الناس على بذل جميع
ما لهم للفقراء وعلى عدم اهتمامهم بشئون الحياة وترك العمل [7][8]
(مت 5: 44 و6: 25 و19: 21 - 25) وحضه لهم على عدم التزوج وعلى
الخصاء (مت 19: 11 و12) وإيجابه الطاعة العمياء والخضوع للرؤساء بلا قيد
ولا شرط لشدة خوفه من قياصرة الرومان، ونصه على أن سلطتهم هي من الله (مت
22: 15 - 22 ويو19: 11) ولذلك قال بولس اتِّباعًا له: (إن من قاومهم فقد
قاوم ترتيب الله وسيأخذ لنفسه دينونة) (رو13: 1 و2)[9] .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الدكتور
…
...
…
...
…
...
…
... محمد توفيق صدقي
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
نعم إنه لما يئس من اليهود أخذ يسبهم ويلعنهم بأفحش الألفاظ كقوله (مت 23: 13 - 36) : أيها المراءون والقادة العميان والجهال والحيات أولاد الأفاعي إلخ، وقوله لهم (مت 21: 31) : إن العشارين والزواني (وهم الذين كان يحبهم بنص الإنجيل، انظر مثلا يو 11: 5) يسبقونكم إلى ملكوت الله، فهذا مثل آخر من أمثلة محبته لأعدائه، ولكن أتدري ماذا حصل له بعد هذا السب مباشرة؟ هم أخذوه وصلبوه وأهانوه شر إهانة ثم قتلوه فهذه نتيجة شجاعته أمام هؤلاء الأقوياء بعد يأسه منهم وفشله في أمرهم، كل هذا نقوله ونحن بريئون منه إلى الله وإنما نقوله إلزامًا للخصم وإظهارًا لما تجر إليه قصص هذه الأناجيل.
(2)
الظاهر من هذه العبارة ومن غيرها في الأناجيل أن مريم أمه وأخوته لم يكونوا به مؤمنين (انظر يو 7: 5 ومر 3: 21) ، ولا عن أعماله راضين، فلذا حقد عليهم وكرههم حتى أمه، وقد بلغ من قسوة قلبه عليها وجموده أنها ذهبت ووقفت عند الصليب لتنظر ابنها وفلذة كبدها وهو مصلوب، (يو 19: 25 - 27) فلما رآها يسوع خاطبها مرة أخرى بقوله يا امرأة، فهذه هي أخلاق المرأة التي عبدها النصارى منذ القدم، وهذه هي قيمتها عند ابنها، ولكن صورتها بحسب الأناجيل تغاير صورتها بحسب القرآن الشريف الذي أثنى عليها مرارًا وعظَّمها وقال: إن الله اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين وجعلها للناس آية، فالظاهر أن قصتها في الأناجيل مما دسه اليهود على النصارى؛ ولشدة جهلهم وبعدهم عن التمحيص والتحقيق إذ ذاك دخلت عليهم الغفلة وصدقوهم فيها كما دخلت عليهم في غير ذلك كثيرًا وصدقوا قصصهم في فسق أنبياء بني إسرائيل ومعاصيهم الكبيرة الكثيرة وصاروا يدافعون عن هذه القصص الفظيعة ويعتبرونها مقدسة إلى الآن، فحاشا لله أن يصطفي من خلقه الزناة السكيرين الكذبة الخونة (تك 26: 7 و27: 19 الكفرة 1 مل 11: 5 و6) الأشرار كما صورهم اليهود لا سامحهم الله.
(3)
ولذلك تراهم الآن، وقبل الآن، في كل زمان ومكان يباركون الجيوش ويدعون يسوع لأجلها، ويصلون فرحًا بانتصاراتها ونجاحها في سفك الدماء، وتيتيم الأطفال، وهتك الأعراض، وتخريب الديار، وهدم معالم التوحيد، وعبادة الرحمن، واستبدالها بالسجود للصور والصلبان، عبادة ابن الإنسان وهو في الحقيقة من كل ذلك بريء وعليه حاقد ناقم، وما هم فيه إلا متبعون أهواءهم وشياطينهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(4)
إن شئت أن تقرأ بحثًا مستفيضًا في هذه المسائل كلها فاقرأ رسالتنا: (الإسلام في الرد على اللورد كرومر) .
(5)
حاشية: هذا لا يدل على أنهم كانوا يعتقدون ألوهية حقيقية؛ لأنهم يقولون: إن ذلك مما أعطاه الله إياه كالقدرة على الخلق وغيره انظر (يو 14: 24 و5: 30) وقال يوحنا أيضا (3: 35) :
(الأب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده) وهو صريح كما قلنا مرارًا في أن الله هو الذي أعطاه كل شيء فهو عند كتاب العهد الجديد ليس إلهًا لذاته فإن قيل: لعل هذا القول في الابن باعتبار الناسوت، قلت: إن هذا الناسوت باعتراف النصارى عاجز جاهل كباقي البشر وليس في يده شيء وهو أيضا حادث، ولم يخلق شيئا من العالم، وإنما الذي في يده بزعمهم، كل شيء وخلق العالم (يو 1: 3) هو الله الابن وهذا بنص الإنجيل لم تكن له القدرة من ذاته بل الله هو الذي دفعها له كما قال يوحنا وغيره انظر (أع 2: 22 وأف 1: 22 و1 كو 15: 27 و28 ومتى 11: 27) فكيف إذا يكون إلهًا حقيقيًّا مساويًا للأب في كل شيء كما يزعمون؟ .
(6)
هذا مع انحطاط الوسط الذي نشأ فيه محمد صلى الله عليه وسلم من أكثر الوجوه عن الوسط الذي نشأ فيه المسيح حيث كانت توجد شرائع اليهود وكتبهم الدينية وآداب اليونان والرومان وكتبهم العلمية والفلسفية وغيرها، وأما أهل مكة والعرب عمومًا فكانوا وثنيين جاهلين منغمسين في الشهوات كالخمر وحب النساء وفي سفك الدماء ووأد البنات والسلب والنهب والأذى والقسوة وفاقهم محمد جميعًا بدرجات عالية منذ صغره، وكان مثال الكمال بينهم في كل شيء، وأما المسيح فلا نعلم في أي شيء فاقه قومه بحسب هذه الأناجيل وجميع تعاليمه الحسنى توجد في كتب اليهود وغيرهم من قبل كما بينه كثير من علماء الإفرنج أنفسهم كما ذكرنا آنفا، (راجع ص 118 - 120) من هذه الرسالة نعم نحن لا ننكر أنه نشر في هذه التعاليم العالية بين عامة اليهود علمًا وعملاً بعد أن كانت في كتبهم لا يقرؤها إلا بعض خاصتهم ويندر وجود من يعمل بها كلها منهم ولذلك قال تعالى فيهم:(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)(الجمعة: 5) وبسبب عيسى صلى الله عليه وسلم انتشرت بين العامة والخاصة حتى عرفت في العالم الروماني كله واشتهرت بين الناس إلى اليوم، ولكنها مشوبة بشوائب كثيرة حاول بعضهم كالفيلسوف تولستوي تجريدها منها.
(7)
مقتضى هذه التعاليم (مت 6: 25 - 34 ولو 12: 22 - 31) أن لا يهتم الإنسان بشيء من حاجاته الجسدية من مأكل وملبس ومشرب ومسكن وأن يهملها كلها، وعلى ذلك تكون قذارة الثوب ورِثتَّه ووساخة الجسد والمسكن وفساد هوائه والفقر من المستحبات ودلائل التوكل والإيمان في المسيحية، فمن من النصارى يعمل بهذه الأوامر؟ وإذا عملوا بها فكيف تكون حالتهم الصحية؟ وهل هذه التعاليم تساعد على الاكتشافات والاختراعات وترقي العلوم الطبية والهندسية والاجتماعية والاقتصادية والنظامات الدستورية وغيرها من علوم العمران والحضارة والمدنية الاجتماعية؟ وما حاجة الناس إلى هذه العلوم إذًا وإهمال الجسد والذل والفقر والكسل عن كل عمل دنيوي من أعظم دلائل الفضيلة والطاعة والإيمان والتوكل على الله بحسب الأناجيل؟ وهل اتهام متعصبي النصارى الإسلام بأنه هو السبب في قذارة المدن وفساد هوائها وضعف صحة أهلها وخرابها واستبداد ملوكها صحيح أم هو مقتضى تعاليم المسيحية التي أخذ بها متصوفوا المسلمين ثم عمتهم كلهم حتى أصبحوا أشد تمسكًا بها من أهلها الذين أهملوها ألبتة حتى ضرب بينهم وبينها بسور من حديد كما هو مشاهد في كل زمان ومكان، قارن عبارات كتبهم هذه بقول القرآن:(قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)(يونس: 101) وقوله: (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون) َ (يوسف: 105) وقوله: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ)(الجاثية: 13) الآية، ونحو ذلك كثير سنذكر بعضه، وقول المسيح بحسب رواية لوقا (12: 22 - 31) : ولا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون تأملوا الغربان إنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخدع ولا مخزن والله يقيها، كم أنتم بالحري أفضل من الطيور فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم، فضلا عما فيه من الحض الصريح على ترك السعي والعمل والجد والاجتهاد في الدنيا، هو أيضا غير صحيح فإن سنة الله في هذا الكون أن الإنسان إذا ترك السعي والعمل خسر كل شيء، ولو طلب ملكوت الله كل يوم ألف مرة لما زيد له شيء من مطالب الحياة إلا إذا أصبح عالة على الناس يحسنون إليه بشيء من كدهم وعملهم حتى إذا ورث شيئا وترك العمل فيه خسره تدريجيًّا إلى أن يفقده، فإذا اتبع جميع الناس هذه التعاليم أكان العالم يصل إلى ما وصل إليه من الرقي والتقدم؟ وهل ما وصل إليه الإفرنج الآن هو بفضل هذه التعاليم المسيحية كما يدعي المبشرون؟ ومن منهم يعمل بها إلا أهل البطالة والكسل أو الشحاذون؟ وهل هذه الأوامر تتفق مع سنن الوجود؟ فليجربها مَن شاء منهم وليترك الاهتمام والعمل ثم ليرنا أي شيء زيد له من مطالب الحياة؟ .
(8)
أما القرآن الشريف فقال: (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(القصص: 77) وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)(الملك: 15) وقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ)(الجمعة: 10) وقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)(البقرة: 219-220) أي: في أمورها معًا وما به صلاحهما فأين الثريا من الثرى؟ وقال القرآن الشريف أيضًا: (مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)(الإسراء: 18-20) ونحوه في القرآن كثير وهو يفيد أن من أراد الدنيا وسعى لها سعيها أوتيها، ولو كان كافرًا ومن أراد الآخرة كذلك أوتيها وأما من لم يرد الدنيا ولم يعمل بها فلا يؤتى منها ما يؤتاه العاملون ولو كان صالحًا تقيًّا طالبًا ملكوت الله وهو الحق كما هو مشاهد بخلاف قول الإنجيل فإنه يفيد أن من طلب الآخرة ولم يطلب الدنيا أوتي الدنيا أيضا، وقال القرآن:(وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا)(آل عمران: 145) فطلب الدنيا شيء وطلب الآخرة شيء آخر، ولا يعطاهما إلا من طلبهما معا ولا يغني طلب الآخرة وحدها عن طلب الدنيا كما هو صريح الإنجيل فإن ذلك مخالف لسنن الكون المعروفة، وقد كانت هذه الأفكار المسيحية من أسباب تأخر المسلمين فإنها انتقلت إليهم ممن دخل في دينهم من النصارى الأولين وفشت فيهم مع ترك النصارى أنفسهم لها منذ أن ارتقوا ولو اتبعوها لتركوا كل عمل وكرهوا الحياة الدنيا وعدوها سجنًا لهم يجب الخلاص منه بالتجرد عنه حتى يموت الإنسان كبعض أهل الهند، وهي مبادئ لا تتفق مع مبادئ القرآن في شيء كما لا يخفى على الباحثين في المدن الأوربية، أو في الأحياء الإفرنجية الشرقية، في أيام الآحاد، أو الأعياد، وانظر إلى جمال الإفرنج والإفرنجيات وتأنقهم وجمال مساكنهم وملابسهم ومشاربهم ومآكلهم وتمتعهم بسائر أنواع اللذات والشهوات والمسرات وخصوصًا التمتع بالنظر إلى الكاسيات العاريات من الغانيات الحسان، والفتيات الفاتنات الكاعبات الأبكار والثبيات، وقل لي بأبيك في أي شيء تتفق هذه المدنية الأوربية (أو الرومانية باعتبار أصلها) مع التعاليم المسيحية الحاثة على الفقر والتقشف وترك مطالب الحياة وإهمالها كلها، والحاضَّة على الزهد في الدنيا والناهية عن الاعتناء بالجسد والآمرة بطلب الخبز الكفاف من الله يوما بيوم (مت 6: 11) والمحرمة النظر بشهوة إلى الأجنبيات (مت 5: 28) مع أنه لا توجد نساء في الدنيا تبدي من الخلاعة والزينة وكشف أجزاء من أجسامهن واختلاطهن بالرجال والرقص معهم وتبادلهن معا كئوس بنت الكروم أكثر من الإفرنجيات المسيحيات، فبأي حق أو عقل يسمون هذه المدنية الأوربية بالمسيحية وبينهما كما بين السماء والأرض، إني والله لا أجد في الدنيا اسما أكذب من هذا الاسم، ولا يصح اعتبار المسيحية الدين الكامل للبشر الختامي لهم بل كان فقط درجة تمهيدية في ذلك الزمن زمن بعد اليهود عن روح الدين وتعلقهم بقشوره وانتشار المدنية الرومانية وما فيها من الإسراف والترف والملاذ والإغراق في الماديات مع عدم ارتقاء العقل البشري إلى الدرجة التي ارتقى إليها فيما بعد فأتت المسيحية أيضا لنقدر به على مقاومة كل ذلك ولتهيئ النفوس لقبول الإصلاح الإسلامي الختامي الجامع بين مصالح الدين والدنيا ومطالب الروح والجسد والخالي من الإفراط والتفريط لعدم حاجة الناس في زمنه إلى غلو المسيحية لارتقاء العقول والنفوس عن ذي قبل فيكفيها الاعتدال في بيان الحقيقة على أكمل وجهها، فهذا هو سبب اختلاف المسيحية عن الإسلام في أوامرها وتعاليمها فإنها لا تناسب إلا زمنها ولكن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ولذلك تجده أقرب إلى الفطرة البشرية والعقل من كل دين آخر ولا تجد سواه يتفق مثله مع أصول المدنية الصحيحة والحضارة والعمران والعلم، والذي يدلك على ارتقاء الناس في الجملة علمًا وعقلاً ونفسًا في عهده عن ذي قبل مع أن ذلك من مقررات العلم الحديث القائل بترقي المتأخر عن المتقدم أنهم كانوا أبعد عن الوثنية، أميل إلى التنزيه والتوحيد، وكان عندهم ميل شديد ورغبة عظمى في البحث والنقد والتمحيص والفلسفة العقلية مبلغًا لا نكون كاذبين إذا قلنا: إن الإفرنج إلى الآن لم يساووهم تمامًا في ذلك، ولذلك جاءهم الدين خاليا من التكليف بالمحال ومن الغلو، معتدلا في جميع ما شرعه لهم؛ لأنهم كانوا قد ارتقوا عن درجة الطفولية التي كانوا فيها من قبل وأصبح عندهم من التمييز والعقل وقوة الإرادة ما لم يكن عند الأولين، ولو جاءت المسيحية معتدلة مثله لما كان لها ما كان من التأثير في تلك العقول الضعيفة، والنفوس الصغيرة، ولبقي الناس حيث كانوا، فتبارك الله أحكم
الشارعين.
(9)
قارن ذلك بقول القرآن الشريف: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)(النساء: 59) لاحظ قوله هنا (مِنكُمْ)(النساء: 59) : (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)(النساء: 59) وهو صريح في أن طاعة أولي الأمر لا تجب علينا إلا فيما لا يخالف الدين فإن اشتبه علينا الأمر جاز لنا أن نتوقف وننازعهم فيه ووجب أن نرده إذًا إلى الله ورسوله، أي إن كان حيًّا، حتى لا نعمل إلا بما وافق الدين وهو يدل على وجوب العمل بالقياس والاستنباط المَبْنِيَّيْن على العقل والتفكر فيما أوحاه الله إلينا، والرد إلى الرسول في زمنه واجب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أعقلهم وهو أدرى الناس وأعلمهم بأسرار شريعته ومع ذلك فهو مأمور بالشورى بنص قوله تعالى:(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(آل عمران: 159) ولذلك كان عليه السلام يستشير أصحابه وكان منهم من يعارضه في أفكاره وآرائه حتى كان يرجع عن رأيه لرأيهم، ولكن إذا قرر شيئا بعد الشورى وبعد النظر في الكتاب العزيز ولو خالفهم فيه وجب الإذعان له وإطاعته فإنه كان يرى ما لا يرونه ولذلك قال تعالى:(فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)(النساء: 59) والرد إليه خاص بزمنه وفي القرآن نحو ذلك من الآيات كثير كقوله تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً)(النور: 63) وقوله: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)(الحجرات: 2) وقوله: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)(المجادلة: 12) أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيرد الأمر كله إلى كتاب الله أو إلى ما علم عنه صلى الله عليه وسلم باليقين، والذين يردون الأمر هم نواب الأمة ورؤساؤها وأولياء أمرها لقوله تعالى:(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(النساء: 83) والمستنبطون الأمر من كتاب الله هم هؤلاء الناس الخاصة من المؤمنين لا العامة منهم ويجب عليهم في بحثهم واستنباطهم مشاورة بعضهم بعضا بحيث لا يستبد أحد بالأمر فيهم لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(الشورى: 38) فإذا قرروا شيئا بعد ذلك وجب على عامة الأمة إطاعته ما لم يكن مخالفًا لدين الله فإن ذلك بالضرورة لا يكون مستنبطًا منه، وإذا اختلف هؤلاء المستنبطون معا وتساوى عددهم ولم يمكن الترجيح بينهم كان للأمة الحق في أن تعمل بما تراه من آرائهم أقرب إلى نصوص الدين، هذا هو ما يستفاد من مجموع آيات القرآن في هذا الباب فأي مبادئ أدعى من هذه إلى العدل ومنع الاستبداد وإيجاب الشورى والتفكر والحرية وعزة النفس؟ وأي فرق بينها وبين نظامات أرقى أمم العالم الحالي النيابية والدستورية؟ وإلى أي الدينين الإسلام أو المسيحية ترى أن مبادئ هذه الأمم الراقية أقرب أو أشبه؟ وأنت ترى أن المسيحية توجب عليك الخضوع للسلاطين ولو كانوا ظالمين وتنص على أن سلطتهم هي من الله وأن من قاومها فقد قاوم الله واستحق عقابه كما قال بولس إرضاء للقوة الحاكمة في زمنه وتملقا لها كعادته (رو 13: 1-7) وقال بطرس أيضا (1 بط 2: 3)(فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب إن كان للملك فكمن هو فوق الكل أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير إلى قوله: أيها الخدام (أي العبيد) كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ليس للصالحين المترفقين فقط للعنفاء
أيضًا) فأين ذلك من القرآن الذي قال: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)(الممتحنة: 12) وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: 13) وقال: (وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(المنافقون: 8) والذي ألزم الناس بعتق من طلب الحرية من الأرقاء مكاتبة إن علمنا صلاحيته لذلك وأوجب عليهم إمداده بالمال حتى يقدر على مكاتبة سيده فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)(النور: 33) وأحكام الرق في الإسلام شهيرة، وهي من أعظم ما يفتخر به في هذا العصر وما وصلت إلى مثلها أوربة إلا بشق الأنفس وبعد قرون عديدة بفضل ديننا وكتبه (وقد بينا شيئا مثلها في كتابنا الإسلام في الرد على اللورد كرومر ص 17 - 19 و40 - 46 فليراجعه من شاء) ولكنا نعذر مؤسسي النصرانية كبولس وبطرس فيما قالا، فإنهما لو فاها ببنت شفة يفهم منها الانتقاد على نظامات الرومان إذ ذاك أو الخروج عليهم لما أبقوا للنصرانية باقية فكانت تلك السياسية في منتهى الحسن في زمن ضعفهم وذلهم فإنهم كانوا يتقون كل ما يوجب إيذاءهم واضطهادهم وخصوصًا مثل تلك المسائل السياسية ولذلك ترى الآن محققي المؤرخين من الإفرنج أنفسهم يشكون في أكثر قصص اضطهاد النصارى الأولين بعد أن علمت مسالمتهم وخنوعهم إذ لا يفهم هؤلاء المحققون سببًا لها وقد كان الرومانيون واسعي الصدر أحرارًا في المسائل الدينية وخصوصًا مع رعاياهم الضعفاء الأذلاء الخاضعين لهم كمال الخضوع كهؤلاء النصارى الأقدمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…