الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السادسة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فقد جرت عادتنا أن نشير في فواتح
سني المنار إلى شيء من تاريخه أو تاريخ الإصلاح، أو حال سيره في عالم
الإسلام، ونقول الآن على رأس السنة السادسة عشرة: إن صوت الإصلاح الديني
قد علا كل صوت في الأقطار الإسلامية التي بلغتها دعوته وهزتها صيحته،
فخفتت دونه أصوات الحشوية الجامدين، والدجاجلة المخرفين، وقد خذل الله
ببيروت في العام الماضي أشدهم إفكًا وتخريفًا، فيما يسميه نظمًا وتأليفًا، فخذلته
الخاصة ولم تنصره العامة، وعورض ما يفتريه من الرؤى والأحلام بشيوع خبر
رؤيين رآهما بعض الصالحين من الحجاج، فقد حدثني الثقة المتفق على توثيقه
في بيروت قال: لما عاد والدي من الحجاز عام حجه جاء (الشيخ فلان) للسلام عليه،
وكان يُعد من أصدقائه وأقبل بلهف ودهشة ليعانقه، فصاح به والدي: يا شيخ فلان -
وذكر اسمه - إن النبي صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنك، فقد رأيته عند
زيارته في المدينة المنورة في الرؤيا، وأمرني أن أبلغك أنه غير راضٍ عنك.
وأما الرؤيا الأخرى فقد رُويت لي عن رجل من الحجاج أعطاه ذلك الدجال
نسخًا من كتبه ليوزعها في المدينة المنورة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في
نومه قبل دخول المدينة بليلة واحدة يقول له: إن هذه الكتب غير مقبولة، فلما
استيقظ ألقى تلك الكتب أو دفنها في جانب الطريق.
فمثل هاتين الرؤيين من ذينك الحاجين الصالحين نقض ما يدعيه ذلك الدجال
من الرؤى التي هو متهم فيها بتعظيم شأن نفسه، والتمهيد لدعوى الولاية له ولولده
وتحقير من اتخذهم أعداء له؛ لأنهم ينيرون عقول الأمة حتى لا تغتر بمثله.
هذا إيماء إلى عاقبة دجال القطر السوري المجاهر بعداوة الإصلاح وأهله،
ولا نكبر شأنه بالرد عليه أو التصريح باسمه.
وقد خفت أيضًا صوت دجال (جاوه) وظهر جهله، وما أبقى عليه تكريم
حكومة هولندة بل نسبه وسنه، ودجال تونس المقيم معدود عند عقلاء بلده من
المجاذيب أو المجانين، ولو كان في تونس حرية لحزب الإصلاح كالحرية الشاملة
لأهل الجمود والفساد؛ لرأى العالم الإسلامي من تونس ما لم يَرَه من سائر الأقطار.
وأما دجالها المتقلب في البلاد كتقلبه في الآراء والأفكار فهو يتتبع
مواقع الصيت والاشتهار، ويتأيّا مساقط الدرهم والدينار، فيدور مع من يملك ذلك
حيثما دار، حتى إنه أفتى بجواز بناء الكنائس للروم والبلغار، والإنفاق على ذلك
من بيت المال، فنال الحظوى بمثل هذه الفتوى عند زعماء جمعية الاتحاد والترقي،
واصطنعوه لكل ما يبغون من الخداع الديني، وقد خذلهم الله ولم يعتبر المسكين
{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 183) .
هذه حال المجاهرين بمقاومة الإصلاح الديني وأهله، لا صوت لأحد منهم
يُسمع، ولا رأي لهم يُتبع، وإنما يغترون بكثرة من يصدق الخرافات، ويسلِّم كل
ما يُعزى إلى الأموات تقليدًا للآباء والأمهات، ومواتاةً للأتراب واللدات، ويحسبون
هذا اتباعًا لهم، ويعدون أهله من أشياعهم، فيفتنون بكثرتهم، ويهونون من أمر
المصلحين لقلتهم، وقلة من يهتدي بهم، ولو فكروا وقدروا وتدبروا واعتبروا،
لرأوا أن هذه القلة هي محل الرجاء، وتلك الكثرة كالغثاء أو الهباء، وأنها تتفلت كل
يوم من أيديهم كما تتفلت الإبل من عقلها، بل من جامعة الإسلام التي عرفوا اسمها
وجهلوا حدها وفصلها، فكثرة أشياع الخرافات إلى قلة، وقلة حزب المصلحين إلى
كثرة، وقد فطن هرقل ملك الروم لهذا الأمر الذي جهله المغرورون، فسأل عن
أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ فلما علم أنهم على قلتهم في
ازدياد، وأن من دخل فيهم لا يخرج منهم، علم أنهم حزب الله الغالبون.
ولو رجَّع أولئك الدجالون البصر وكرروا التأمل والنظر، لرأوا أن هؤلاء
العوام الذين لم تبلغهم حقيقة دعوة الإصلاح، أو صدهم عن النظر فيها سدنة القبور
المعبودة وتجار الولاية والصلاح، هم الذين يتسللون يومًا بعد يوم مما يسمى
الإسلام التقليدي، ولا يهتدون السبيل إلى حقيقة الإسلام البرهاني، فأكثرهم يفتنون
بالشبهات المادية التي يبثها فيهم حملة قشور العلوم العصرية، ومنهم من يشُكُّون
في الإسلام بمطاعن دعاة النصرانية، فما بال زعماء الدجل والخرافات لا يتصدون
للرد على تلك الشبهات، وأنى لهم الرد عليها وهم لا يعرفون مواردها ومصادرها،
ولا يقفون على شيء من العلوم المتولدة هي منها، ولا يميزون بين أصول الإسلام
التي يجب الدفاع عنها، والخرافات والأوهام الملصقة بها، وإنما قصارى ما عندهم
أن يقولوا للعوام: إن جميع العلوم الطبيعية باطلة، وإن تعلمها كفر، ومتعلميها
زنادقة، ويريدون أن يتلقى الناس قولهم هذا بالقبول والتسليم، كما يوجبون عليهم
قبول جميع ما يقولون: إنه من الدين، على أنهم يعظمون الحكام والأغنياء
المتعلمين لتلك العلوم، فهل يرضى أحد بأن يكون من هؤلاء في مكان المقلد من
الإمام المعصوم؟ كلا إننا نرى كثيرًا من المتعلمين في المدارس العصرية يعدون
خرافات أمثال هؤلاء الدجالين حجة على جميع العلوم الإسلامية، فهم لذلك يصدون
عنها، ويعدون من إضاعة الوقت النظر في شيء منها.
يزعم هؤلاء الدجالون أن الضلال كل الضلال هو ما يدعو إليه المصلحون
من هدي الكتاب والسنة، على النحو الذي كان عليه الصدر الأول من الأمة، ونبذ
كل ما استحدثه الخلف، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة.
وقد جعلوا همهم الطعن في دعاة هذا الإصلاح، ورميهم بحجارة الزور
والبهتان، وأكبر شبهتهم أن هذا من الاجتهاد الذي انقطع فضل الله به عن العباد،
وأن كتاب الله الذي أنزله هدى للعالمين، ووصفه بالتبيان والمبين، لم يتبين معناه
إلا للأفراد القليلين، الذين وصفوا بالأئمة المجتهدين، حتى إنهم لو لم يوجدوا لما
أمكن لأحد أن يكون من المسلمين، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكفي
في بيان كتاب الله من دون علمهم، وإن قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) فإن لم يكن قد بيَّنه كما أمر الله، فكيف
يكون قد بلَّغ رسالة الله؟ وهل يُعقل أن يكون عجز عن ذلك وقدر عليه سواه؟ معاذ
الله، وحاش لله.
ألا إن هؤلاء ليسوا من أهل البصيرة والاستدلال، فنجذبهم بالحجة أو ندمغهم
بالبرهان، وإنما نريد بمثل هذا الكلام أن نُذكِّر من لهم نصيب من الاستقلال بأن
مقلدة أمثال هؤلاء المساكين كلهم عرضة للمروق من الدين، وأنهم لو كانوا يغارون
عليهم وعلى دينهم لجعلوا همهم في وقايتهم من الكفر والإلحاد، لا في وقايتهم من
هدي السنة وهدي القرآن، وحصروا عنايتهم في كشف الشبهات التي تخرجهم من
حظيرة الإسلام، لا في نشر الخرافات التي تحصرهم في زريبة الأوهام، ولكن
يظهر أن ترك الإسلام ألبتة أهون عليهم من ترك التقليد الأعمى إلى هداية الكتاب
والسنة؛ ولذلك نراهم يدهنون للمارقين من أصحاب المال والجاه، ويثنون عليهم
بالألسنة والأقلام، ولا تظهر غيرتهم على الدين إلا في تضليل حماة الدين، ونحمده
تعالى أن خذلهم وكبتهم، وصرف قلوب الناس عما تزوّر أقلامهم، وتفتري ألسنتهم.
هذا، وإن الإسلام ليشكو اليوم من شيطان الإفساد السياسي، ما لا يشكو من
شيطان الإفساد الديني، فقد غلب على مقام أولي الأمر زعنفة من عبدة الطاغوت
والشر جعلوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وأرهقوا الأمة قتلاً وحبسًا ومصادرةً
وتخويفًا، يأكلون تراث الأمة أكلاً لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا، إذا دعوتهم إلى
الحق وَلَّوْا منك فرارًا، وجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا
واستكبروا استكبارًا، وقد مكروا بأناس استخدموهم لغش المسلمين مكرًا كبارًا،
فاتبعوا من لم يزده ماله وجاهه إلا خسارًا، وكان من كيدهم ومكرهم - وعند الله
عاقبة مكرهم - أنهم عجزوا عن إسكان حركة الإصلاح، وإسكات نداء دعاته: حَيَّ
على الفلاح، أرادوا إفساد أمرها بتوسيدها إلى غير أهلها من المنافقين المتزلفين
إليهم، الراضين أن يكونوا آلات في أيديهم، فنصروا هؤلاء على أبناء بجدتها،
وآباء عذرتها، كما وسدت صروف الزمان إليهم من الأمر ما ليسوا له بأهل، فدنت
بذلك ساعة الأمة، وقد جاء أشراطها ، ولا تلبث أن تأتي بغتة، قال الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)
رواه البخاري في صحيحه.
هذا هو السر في تناقض بعض الصحف التي ظهرت بعد ظهور الفئة الباغية،
والجمعية الطاغية الإسلامية في الظاهر الاتحادية في الباطن؛ إذ تمدح الإسلام
وتنفِّر عن الأعمال التي تحييه وتطعن في القائمين بها، وتدعو إلى الجامعة
الإسلامية، وتلقي الشقاق بين العاملين لها، ويزاحم أهلها المصلحين، وهم أعوان
المفسدين، ومنهم مَن تخدع رؤيته وتفتن خلابته ويغر ببكائه أو تباكيه، والمنافق
يملك عينيه فيبكي بهما متى شاء.
فكم أذرى الدموع لنهب مال
…
وكم أبدى الخشوع لنيل جاه
ومنهم من لو علم المغرورون برقته، حقيقةَ حاله في علمه وعمله وعقيدته،
لولَّوْا منه فرارًا، وأعرضوا عنه ازورارًا، واستصغروا أنفسهم استصغارًا،
لتعجلهم باتباع كل ناعق، وعدم التزييل بين الصادق والمنافق، وستظهر للجميع
الحقائق، فحبل الكذب وإن طال قصير، ومصير المنافقين شر مصير. وإنما
نخشى أن لا تظهر العبرة إلا بعد خراب البصرة، وأن يأخذ الله المسلمين كافةً بما
جنته تلك الفئة الباغية {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة} (الأنفال:
25) .
ذلك بأن الأمة تحتاج إلى ضروب من الإصلاح يمد بعضها بعضًا، وأصولها
خمسة: الديني، والعلمي، والاجتماعي، والسياسي، والمالي، وقد تداعت هذه
الأصول كلها في العالم الإسلامي، ولا يسهل إقامة بعضها إلا بإقامة باقيها؛ لهذا
أردنا عندما لاحت لنا من الآستانة بارقة الأمل في الإصلاح السياسي أن ننشئ فيها
عملاً كبيرًا من الإصلاح الديني والعلمي، الذي هو أكبر عون على غيره، ولا
سيما الإصلاح الاجتماعي، فعلمنا أن ما لاح لنا كان برقًا خلبًا، وسرابًا بقيعة
يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل تبين لنا أن مثل ذلك البلاء
النازل، الذي تراءى بصورة الإصلاح الخادع، كمثل ذلك العذاب الذي نزل
بصورة العارض {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا
يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24-25) .
أجل، إن هذا العذاب ليمثل ذلك الانقلاب، الذي حسبنا أن وراءه ما نرجو
من الإصلاح، فكان بسوء تصرف ذويه عين الإفساد، وقد أنذرنا الأمة سوء عاقبته،
وخطر مغبته، فتماروا بالنذر {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ
جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 3-5)
وقد هُزِمَ الجمع وولوا الدبر، فبأي القول والفعل بعد ذلك يُعْتَبَر، فإن لم يتدارك
الأمر أهل البصيرة والنظر، فلا منجاة بعد ذلك ولا مفر {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 46) لا أريد الإشارة إلى قيامة الناس كافة، بل
أريد قيامة هذه الأمة خاصة، فإذا هي فقدت هذا الرمق من استقلالها، وزال هذا
الذماء الذي تتردد به أنفاسها، فأي نوع تملكه بعده من أنواع إصلاحها.
فليس الخطر الذي نخشاه اليوم على الإسلام هو كيد المفسدين لدعاة الإصلاح
بإغراء غير أهله بالدعوة له؛ لمعارضة المضطلعين بالقيام به، واستئجارهم
المنافقين وتأييدهم على الصادقين، مع عدم تمييز الأكثرين بين المحقين والمبطلين،
ولا نحو ذلك من أعمال هؤلاء الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وإنما
الخطر الأكبر هو إفسادهم السياسي الذي فتح علينا باب المسألة الشرقية، فبدأ
بمملكة طرابلس الغرب الإفريقية، وثنى بولايات الدولة الأوروبية، ويُخشى أن
يثلث بالولايات الآسيوية، ولا ينفعنا يومئذ ظهور صدقنا وكذبهم، ونصحنا وغشهم؛
لأن الأمر يخرج من أيدينا وأيديهم، إلى مَن لا يرحمنا ولا يرحمهم، على أن
زعماء هذه الفتنة، ومبسلي هذه الأمة لا حظ لهم من الحياة إلا الجاه والمال، فإذا
فاتهم الأول بفقد الاستقلال، فإن لهم من الآخر ما يمتعهم بسائر اللذات، ولم يدرء
هذا الخطر مقاومة أهل الإخلاص لهم، وانتزاعهم تلك المقاليد من أيديهم، على أنه
لا يبعد أن تعود إليهم، فتكون الكرة الثانية هي الطامة القاضية، ولا يدرؤها من
بعد، مثل ما كان من قبل، وإنما يرجى أن يدرأه البدار إلى تقوية كل قطر من
المملكة في نفسه، ونوط الدفاع عنه وإقامة العمران فيه بأهله، وهو ما يعبرون عنه
بالمدافعة الملية، والإدارة اللامركزية، ثم بناء المصلحة العامة على قواعد الصدق
والإخلاص، فإذا لم تتفق الأمة والدولة على هذا، فعلى الأمة والدولة السلام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض في الإسلام، هو سياجه وحفاظه
أن تعتدى حدوده بين أهله، كما أن الجهاد سياجه وحفاظه أن يعتدي عليه غير أهله،
وقد قصر المسلمون في الفريضتين فكان عاقبة أمرهم ما نسمعه ونرى ونذوق،
فالمنار يدعو كل من يطلع عليه ويرى فيه خطأً أن يبينه لنا بالمشافهة إن كان ممن
يلقانا ونلقاه، وإلا فبالكتابة، والطريقة المثلى في ذلك أن يقال: إن في صفحة كذا
من جزء كذا خطأً، ويبين ذلك الخطأ وصوابه بالدليل من غير استطراد ولا تطويل،
ونحن نرجع إلى الصواب إن ظهر لنا، أو نبين ما عندنا في المسألة.
هذه هي طريقة الأمر والنهي، والتواصي بالحق والصبر، لا ما يذهب إليه
أهل الأهواء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهو أنهم إذا رأوا أو
سمعوا - ولو كذبًا - أن أخاهم أخطأ في شيء أشاعوا ذلك بين الناس بالقول
والكتابة، فيدري بذلك الخطأ مَن يلقونه دونه، وربما كان ذلك منكرًا أو شبهةً على
الدين تعلق في نفس المستمع، ولا يدري كيف يتفصى منها، وكثيرًا ما يكونون هم
المخطئين، ومنهم من يصدق عليهم قول الشاعر:
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا
…
شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
فمن ابتلي من أهل التقوى والإخلاص من هؤلاء الذين يوسوسون في
صدور الناس يُذم أو يُسب أو يُطعن، مَن يدعى عليه أنه أخطأ، فليقل: إن هذه
غيبة يفسق صاحبها، لا نصيحة يتبع قائلها، فإن كان فلان أخطأ، فذَكِّره بينك
وبينه، فإن لم يرجع فهو شيطان، فأعرض عنه وقل سلام.
محمد رشيد رضا الحسيني
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجهاد أو القتال في الإسلام
(س1) من صاحب الإمضاء في فاينات (خراسان) .
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العلامة السعيد المرتضى، السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار
الغراء، بعد إهداء شكري إليه مما أنعمت به من فيض دجلة تلك المجلة، إني قرأت
في مجلتكم الغراء، ما يشعر بتنزيل ما ورد في الجهاد من الآيات الكريمة على الجهاد
الدفاعي فحسب؛ دفعًا لما أورده الإفرنج على دين الإسلام، وما نقموا من نكير
سيفه وتنمره في ذات الله، وهذا وإن كان له وجه وجيه بالنظر الفلسفي، حيث إن
العلة التي أوجبت الدعوة إلى دين يراد به ترقية الإنسان إلى كافة السعادات الدنيوية
والأخروية، وإخراج الناس كافة من الظلمات إلى النور، ومن الوحشية الموحشة
إلى المدنية المؤنسة، ومن الشقاوة الكبرى إلى السعادة العظمى، هي التي أوجب
إبرامها، والتي أوجب إبرامها هي التي أوجب إعلاءها، بحيث يصلح للبقاء إلى
قيام الساعة، والعقل السليم يفرق بين موجبات نشر دينٍ من شأنه دفع ظلمة
التوحش وطردها، وبين ما لا يراد به إلا التجافي عن الدنيا والفراغ للعبادة، ولو
في شعب الجبال، ويلزم على الصادع بمثل هذا الدين الدفاع عن علوه وبقائه، كما
يلزم عليه الدفاع عن إبلاغه وإسماعه، فمثله في عالم التشريع كمثل النور في عالم
التكوين، وكما أن النور يطرد الظلمة بسنا برقه، فكذلك ذاك الدين طارد للوحشة
بسنا بريقه، فهو من بدء ظهوره ظهر دافعًا، وهو كذلك إلى الأبد.
هذا هو الحق الحقيق بالتصديق لكنه لا يلائم ظاهر معنى الدفاع، ولا تقسيمهم
الجهاد إلى دفاعي وابتدائي، ولا يزيح علة الخصم في لجاجه وإيقاعه ولا يوافقه
شواهد التاريخ وأدلة الأحكام وعناوين الفقهاء التي كلها منك بمسمع ومرأى، ولو
تركناها على ظاهرها فإن تحقق معنى الدفاع بظاهره يتوقف على سبق الخصم
بالمزاحمة، وعليه فكيف يمكننا أن نقول: إن الفرس والروم زاحموا محمدًا
وصحبه الكرام، عليه وعليهم السلام، وهم في بحبوحة الحجاز حتى أوجب عليه
وعليهم دفعهم إلى حد الصين شرقًا وأفريقية غربًا.
فيا عجبًا من الإفرنج كيف يعدّ احتلال بلاد الإسلام وصلب رجالها واستحياء
نسائها أو ذبح أطفالها لأدنى فائدة اقتصادية ترجع إليهم من دون حق لهم عليه
مشروعًا تمدنيًّا بل دينيًّا، ولا يعدّ ضرب السيف بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة
وتخيير المكلف بين الإسلام ونيل سعادته الأبدية في أعقابه، أو قبول أدنى جزية
وصون حقوقه البشرية في إنجاده مشروعًا دينيًّا إسلاميًّا، مع أن ما هو عليه الآن
من الترقي والتمدن صدقة من صدقات الإسلام عليه بعد ما كان عليه من أخس
مراتب التوحش، أرجو من فضيلتكم السامية بعد تجديد شكري إليكم بسط الكلام في
هذا الموضوع بحيث تزيح علة الخصم مع موافقته لظواهر الآثار.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
خادم الإسلام
…
...
…
...
…
...
…
... محمد حامد البيرجندي
من قطر قاينات من بلاد خراسان
(ج) لا يجهل أحد له نصيب ما من تاريخ الإسلام أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما أظهر دعوته إلى الإسلام عاداه قومه وقاوموه وآذوه هو وكل من آمن به
واتبعه، ولم يعصم دمه ولا دم أحد من أصحابه إلا حماية عشائرهم أو مواليهم لهم
بنعرة النسب أو الولاء وعصبيتهما، وإن تلك الحماية لم تمنع الإيذاء بل اضطرت
قريش أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بأهل بيته مع ابن أخيه من
مكة إلى الشِّعب لإصراره على حمايته وعدم تمكينهم منه، ثم ما زالوا يكيدون
ويمكرون حتى ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه بصفة يضيع بها دمه في
كل القبائل، بأن يختاروا من كل قبيلة رجلاً ليضربوه بسيوفهم في آنٍ واحد،
فأطلعه الله تعالى على كيدهم، وأذن له بالهجرة من بلدهم، راجع تفسير قوله
تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال:
30) هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وهاجر السابقون
الأولون من أصحابه فآواهم إخوانهم الأنصار الذين كانوا أسلموا في موسم الحج
بمكة، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه من كل معتدٍ كما يمنعون
ويحمون أنفسهم وأولادهم، وبذلك صار حربًا للعرب عامة، وأهل مكة خاصة، أي
صاروا يعدونه محاربًا ويعدّهم محاربين بحسب العرف العام في ذلك الزمان، فكان
المؤمنون مع المشركين يومئذ كالعثمانيين مع البلقانيين اليوم، لا يقدر أحد أن ينال
من الآخر نيلاً فيقصر فيه، بل كانت العرب قبل البعثة وفي عهدها في غزو دائم
وقتال مستمر، لا يعصم قبيلة من قبيلة إلا بأسُها وقوتُها، أو المعاهدات التي كانت
تفي بها، فكانت كل قبيلة تتوقع القتال في كل أوان من كل قبيلة ليس بينها وبينها
عهد أو حلاف، فالحرب (معلنة) عرفًا في كل زمان ومكان، إلا ما كان لهم من
التقاليد المتبعة في الأشهر الحرم والبلد الحرام، ومن البين الجليّ أن البدء بالقتال لا
يعدّ من الاعتداء في مثل هذه الحال، ومع ذلك كان المشركون هم الذين يعتدون
على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويحزّبون عليهم الأحزاب، فكان قتاله
صلى الله عليه وسلم كله دفاعًا حتى ما كانت صورته هجومًا، وكانت القاعدة
الأساسية للحرب قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب بالقتال ملكًا، وقد رغبوا إليه في مكة
أن يجعلوه ملكًا عليهم بشرط أن يترك دعوته، وعرضوا عليه كل ما يقدرون عليه
من مال ومتاع، فلم يقبل ذلك وهو في حال الضعف والاحتياج، وكان دفاعه في
أكثر سني الهجرة دفاع الضعف للقوة، إلى أن أظفره الله الظفر الأكبر بفتح مكة،
وأظهر الآيات على حرصه صلى الله عليه وسلم على حقن الدماء وكراهته للقتال،
رضاؤه بصلح الحديبية وهو في قوة ومنعة، على ما في ذلك من الشروط الثقيلة
التي كرهها يومئذ جميع الصحابة، حتى تراءى للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم
خرجوا أو كادوا يخرجون من الطاعة. فالقتال الديني الحقيقي هو ما كان دفاعًا عن
الدعوة وأهلها، أو لحمايتها وحمايتهم في نشرها وتعميمها.
أما غير العرب فلم يتصدَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى قتال الروم منهم
في غزوة تبوك وكان سببها أنه بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام وقدموا
مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين بإغراء متنصرة العرب، ولولا ذلك لما أمر
بالخروج في ذلك الوقت الذي كان المسلمون فيه في عسرة ومجاعة، وقد أدركت
ثمارهم فاضطروا إلى تركها، والحر شديد، والشقة بعيدة، والعدد كثير، ولهذا
كانت هي الغزوة التي ظهر فيها صدق الصادقين ونفاق المنافقين.
على أن نشر الدعوة في ذلك العصر كان متعذرًا بغير قوة يأمن بها الدعاة
على أنفسهم، وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر، والفرس
والعراق قد اعتدوا على بعض أهلها وأخضعوهم لسلطانها، فلما اجتمعت كلمة أكثر
العرب في الجزيرة بجامعة الإسلام، صار أولئك الجيران عدوًّا لهم،
وكان العدو حربًا لعدوه حيث كان، فكان لا مندوحة للمسلمين - والحال ما ذكرنا - أن
يؤيدوا نشر الدعوة بما يستطيعون من قوة، ولكنهم لا يستعملون القوة إلا عند الحاجة
أو الضرورة، فكانوا يعرضون على الناس الإسلام، فإن أجابوا كانوا
مثلهم، وإلا اكتفوا منهم بأخذ جزية قليلة تكون اكتفاء شرهم، وتركوا لهم الحرية
في أنفسهم وأموالهم ودينهم، حتى إنهم لا يجبرونهم على التحاكم إليهم، وإن
تحاكموا إليهم ساووهم في ذلك بأنفسهم، فلم يكن الغرض من هذا إلا أن تكون دعوة
الحق في حماية قوة يمكن بها إظهارها كما يعتقدها ويدين لله بها أربابها، من غير
اعتداء على دين أحد ولا ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده، فهكذا كانت سيرة
الخلفاء الراشدين في فتوحاتهم.
وأما من بعدهم من خلفاء العرب وملوك الطوائف في عهدهم، فقد شاب
فتوحاتهم لنشر دعوة الإسلام شائبة حب سعة الملك وعظمة السلطان، ومع هذا قال
غوستاف لوبون من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران وعلماء التاريخ من الإفرنج:
(ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .
هذا مجمل ما نفهمه من آيات كتاب الله عز وجل، وسيرة نبيه صلى الله عليه
وسلم، وهو مبني على قواعد العدل والرحمة، وما شرع لأجله الدين من إصلاح
الأمة، وهو في الإسلام إصلاح البشر كافةً، ولسنا كغيرنا ممن يغيرون ويبدلون،
ويحرفون ويؤولون لدفع ما يعترض به المعترضون، فإن ديننا ليس كسائر الأديان
التي يدافع عنها أهلها كما يدافع المحامي عن موكله المبطل بتمويه باطله، وتصويره
بغير صورته، وإنما دفاعنا عن ديننا هو إظهار حقيقته، وإزالة ما عرض من
التمويه والتلبيس عليه.
ونحن نعلم أن المعترضين عليه فريقان لا ثالث لهما: الجاهلون بحقيقته،
والمعادون له للعصبية الدينية أو المطامع السياسية، وهؤلاء يطعنون فيما يرونه
من محاسنه بأشد مما يطعنون فيما يتوهمون من مساويه، وغرضهم من ذلك
إضعاف أهله بإزالة ثقتهم به ثم بأنفسهم، ومن ذلك طعنهم في مسألة الجهاد، وهم
لا يطعنون في التوراة التي تأمر باستئصال الأعداء واصطلامهم من الأرض، كما
بينا ذلك في المنار مرارًا، ومن أوضحها ما رددنا به على لورد كرومر.
ولو أن المسلمين عملوا بأحكام القتال كما أمر الله ورسوله لكان سلطانهم في
علو دائم، ومد لا جزر معه، بما يدعمه من العدل والرحمة، مع استكمال أسباب
القوة، فالواجب على الدعوة الإسلامية أن تكون أقوى دول الأرض وأن تقيم دعوة
الإسلام وتحميها بالقوة، وقد يكون ذلك بالدفاع وبالهجوم، مع مراعاة قاعدة:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
أسئلة من الشيخ راغب القباني في بيروت
لقب الإمام
(س) تطلقون على المرحوم الشيخ محمد عبده لقب الأستاذ الإمام،
ونرى بعض المعترضين عليكم يقولون: إن هذا اللقب لا يجوز إطلاقه إلا
على المجتهدين أصحاب المذاهب المتبعة.
(ج) إن هذا اللقب قد أطلقه الناس على كثير من العلماء في القرون
الأخيرة حتى في هذا القرن وما قبله كما ترونه على الكتب المطبوعة في
مصر من تأليف علماء الأزهر وغيرهم الذين لم يدَّعوا ولم يدَّعِ لهم أحد
الاجتهاد ولا كانوا مظنة لدعواه، واشتهر إطلاقه على بعض العلماء في
القرون الوسطى ممن لا يعدونهم من المجتهدين بل يذكرونهم في طبقات
المقلدين كالفخر الرازي الأشعري الشافعي فهو الذي ينصرف إليه لقب الإمام
إذا أطلق في كتب أصول الفقه والكلام والمنطق التي ألفت بعده، وكان تاج
الدين السبكي يطلق على والده لقب الشيخ الإمام كما ترونه في كتبه كجمع
الجوامع، وطبقات الشافعية، وسبقه الرازي إلى ذلك.
* * *
قول الشيخ محمد عبده في الربا
(س) يزعم بعض الناس أن الشيخ محمد عبده فتح بابًا للقول بجواز
الربا إذا كان غير أضعاف مضاعفة.
(ج) نحن ما رأينا هذا الباب فدلونا عليه في كلامه، وبينوا لنا الباطل
منه لننشره للناس لإزالة الالتباس، ونحن نعلم أن بعض أعداء الإصلاح
يطعن في الرجل كذبًا وبهتانًا اتباعًا للهوى، فلا تغتروا بأقوال أمثال هؤلاء
الطاعنين اللاعنين.
* * *
التصوير الحيواني
(س) لم يقنع الناس بالاستدلال على جواز التصوير الحيواني بأن
المعلول يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، فإنهم يقولون: إن العلة لا تزال
موجودةً، فنرغب إليكم بالتفصيل.
(ج) ليس عندنا تفصيل نوافيكم به، ولسنا وكلاء على الناس فيما يرونه
ويعتقدونه، ونحن نعلم أن من الناس مَن هو مقتنع بأن ما شائبة للدين فيه من
أمر هذه الصور والتصوير لا يمس الدين، كالذي يفعله بعض جواسيس
الحرب، وكصور المجرمين التي تستعين بها الحكومة على معرفتهم
وكالصور التي يستعان بها على تعليم التشريح والتاريخ الطبيعي واللغة، فإن
كثيرًا من الحيوانات التي نرى أسماءها في كتب اللغة لا نعرف مسمياتها إذا
رأيناها ما لم نكن رأينا صورها، فإذا كان الناس الذين يعنيهم السائل يقولون:
إن علة تحريم الصور متحققة في هذا الأمثلة جدلاً وعنادًا أو رأيًا واعتقادًا فهم
لا يخاطَبون؛ لأنهم لا يفقهون.
_________
الكاتب: جمال الدين القاسمي
ميزان الجرح والتعديل [*]
(2)
درء وهم واشتباه
يقول بعضهم: إن مسلمًا روى عن ابن عباس أنه قال في نجدة الحروري:
(لولا أن أرده عن نتن يقع فيها ما كتبت إليه ولا نعمة عين) . قال النووي:
كان ابن عباس يكرهه لبدعته وهي كونه من الخوارج.
والجواب: أنه لا يلزم من كراهة الفرد كراهة المجموع، وإلا لما خرَّج
لثقاتهم وعلمائهم الشيخانُ وغيرُهما، وهل يؤخذ الجميع بجريرة الفرد؟ على
أن نجدة ليس من رجال الرواية عند المحدثين، فقد ضعَّفه الذهبي في (ميزان
الاعتدال) وقال عنه: ذكر في الضعفاء للجوزجاني، على أن الحال وصل
إليه في قومه أن يختلفوا عليه وينبزوه بالكفر كما تراه في كتاب (الفرق)
للإمام أبي منصور البغدادي، والملل والنحل للشهرستاني وغيرهما، فلا نعمة
عين - كما قال ابن عباس - ولو كان يُكره كل خارجي لبدعته لما أخرج
لأثباتهم أئمةُ السنة في الصحاح والمسانيد، ويكفي أن الإمام مالكًا رضي الله
عنه عُدَّ ممن يرى رأيهم، كما رواه الإمام المبرد في كامله [1] . ومن عزا لك
ما يأثره، وأراك مصدره، فقد أوقفك من المسالك على الصراط المستقيم.
ومن الغريب أن يستدل بعضهم على معاداة المُبَدَّعين بأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خُلفوا، ورفض تكليمهم حتى تِيبَ عليهم، مع
أنه لا تناسب بين دليله والدعوى بوجه ما؛ لأن البحث في الرواة المجتهدين
الثقات المتقنين الذين ما نبذ السلف مرويهم لرأي رأوه أو مذهب انتحلوه، فهل كان
المخلفون كذلك؟ وما المناسبة بين قوم هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم لذنب
محقق اعترفوا به حتى تيب عليهم، وقوم لا يرون ما هم عليه إلا طاعة وعقدًا
صحيحًا يدان الله به، وتنال النجاة والزلفى بسببه؟ فالإنصاف يا أولي الألباب
الإنصاف، وحذار من الجري وراء التعصب والاعتساف.
غريب أمر المتعصبين والغلاة الجافين، تراهم سراعًا إلى التكفير
والتضليل والتفسيق والتبديع، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا
ما دعا إليه الحسد، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم، وجهل مشرب
البخاري ومسلم، وأصحاب المسانيد والسنن هداة الأمة، ولا قوة إلا بالله.
* * *
ثمرة الرفق بالمخالفين
قال بعض علماء الاجتماع: يختلف فكر عن آخر باختلاف المنشأ والعادة
والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في
مسائل الدين والدنيا، ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين
بفكره، ويعتقد أنه يعمل صالحًا ويسدي معروفًا وينقذ من جهالة ويزع
عن ضلالة، ومن العدل أن لا يكون الاختلاف داعيًا للتنافر ما دام صاحب
الفكر يعتقد ما يدعو إليه، ولو كان على خطأ في غيره؛ لأن الاعتقاد في
شيء أثر الإخلاص، والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى؛
ليتغلب عليه بالبرهان، لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام، وما ضر
صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا،
ويراه غيره خطأً، أو يقرب منه، وفي ذلك من امتثال الأوامر الربانية، والفوائد
الاجتماعية ما لا يحصى، فإن أهل الوطن الواحد لا يحيون حياة طيبة إلا إذا
قل تعاديهم، واتفقت على الخير كلمتهم، وتناصفوا وتعاطفوا، فكيف تريد مني أن
أكون شريكك، ولا تعاملني معاملة الكفؤ على قدم المساواة؟
دع مخالفك - إن كنت تحب الحق - يصرح بما يعتقد، فإما أن يقنعك
وإما أن تقنعه، ولا تعامله بالقسر، فما قط انتشر فكر بالعنف، أو تفاهم قوم
بالطيش والرعونة، من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن
يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه؛ لأن ذلك من طبع البشر مهما
تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم.
وبعدُ فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون، هو من أهم العوامل في
رقيّ البشر، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها
في كل مجتمع، والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لا
العالمين، والمهوسين لا المعتدلين. اهـ مع تلخيص وزيادة.
ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ
إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة: 83) وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها.
* * *
حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين
لما استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف
الأولى من الهجرة ضجت عقلاء الفقهاء، وصوبت سهام الردود في وجوه زاعمي
ذلك، حتى قالت الحنفية - عليهم الرحمة - ما معناه: (لو أمكن أن يُكفَّر المرء في
أمر من تسعة وتسعين وجها، ومن وجه واحد لا يكفر؛ يُرجَّح عدم التكفير على
التكفير لخطره في الدين) .
ولم يشتد الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله والإرجاف به في عصر من
العصور مثل القرن الثامن للهجرة، ومن سبَر تاريخ الحافظ ابن حجر المسمى
(بالدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) أخذه من ذلك المقيم المقعد؛ إذ يرى
أن العالم الجليل الذي هو زينة عصره وتاج دهره، كان لا يأمن على نفسه
من الإفك عليه والسعاية به فيما يكفره ويحل دمه، حتى صار يخشى
على نفسه من أخذت منه السن، وأقعده الهرم، وأفلجته الشيخوخة، ولا من
راحم أو منصف - كما تقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام
النووي، وأنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دائمًا وثيقة أحد
القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره، ولقد أريقت دماء محرمة،
وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان
أعوامًا وسنين، حتى عج لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض
والسموات، بكشف هذه الغمم والظلمات، ولم يزل سبحانه يملي لها
ويستدرجها في غيها، ولم تحسب للأيام ما خبئ لها في طيها، إلى أن امتلأ
إناؤها، وحان حصدها وإفناؤها، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة، ودارت
على دولتها الدائرة، ومحق الله بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة، وأورثها
للدولة الصالحة العاقلة، فأمَّنت الناس على أنفسها ودمائها، وذهبت عصبة الجمود
بزبدها وغثائها.
سيقول بعض الناس ممن تغره القشور، ولم تقف مداركه على لباب روح
العصور: إن تلك الدماء المراقة والأرواح المهدرة، لم يحكم عليها إلا
بالبينة والشهود، التي بمثلها تقام الحدود، وهل بعد ذلك من ملام أو جحود؟
يقول ويجهل أو يتجاهل أن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة، أو الإيقاع بالشبهة،
وأن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنُّ الأجر بنصرة الدين بقتل
هؤلاء المساكين، لا سيما إذا دُفعوا بتشويق المتصولحين والمتمفقرين [2] ،
والحشوية البكائين، احتيالاً وقنصًا للمغفلين.
ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالين المضلين الإغراء بقتل
الداعين إلى الكتاب والسنة، والمجاهدين في الإصلاح العاملين، على أن
قاعدة المحققين هي عدم البتّ في أمر تاريخي إلا بعد تعرفه من أطرافه، ومراجعة
عدة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته، والإشراف على غثه وسمينه، ووزنه
بميزان العقول السليمة، والقواعد الاجتماعية المعقولة، كما أشار إليه الإمام ابن
خلدون في مقدمته.
نحن لم نصِم أعمال أولئك بالظلم والجور والبغي إلا لما فضح نبذًا منها
الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب (البهجة، واللامية، والديوان،
والمقامات) فقد شفى بالحقيقة الأوام، وأوضح عن مكر أولئك بالتمويه
والإيهام في مقالة بديعة أنشأها في القاضي الرباحي المالكي [3] سماها
(الحرقة للخرقة) . ولا بأس بنقل جمل منها تأييدًا لما قلناه، قال رضي الله عنه:
أما بعد، حمدًا لله الذي لا يحمد على المكاره سواه، والصلاة والسلام على
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاف مقام ربه وعصم من اتباع هواه،
وعلى آله وصحبه الذين بذل كل منهم في صون الأمة قواه، وسلمت صدورهم
من فساد النيات، وإنما لكل امرئ ما نواه، فإن نصيحة أولي الأمر تلزم،
والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم، والمتكلم لله تعالى مأجور،
والظالم ممقوت مهجور، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة،
والنثر والنظم للذَّب عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة، وجرحة الحاكم
الأعراض بالأغراض صعبة؛ إذ نص الحديث النبوي: أن حرمة المسلم أعظم
من حرمة الكعبة، ومخرق خرقته مذموم، ولحم العلماء مسموم، وهذه
رسالة أخلصت فيها النية، وقصدت بها النصيحة للرعاة والرعية، أودعتها
من جوهر فكري كل ثمين، وناديت بها على هزيل ظلم أبناء جنسي مناداة
اللحم السمين، لكن جنبتها فحش القول؛ إذ لست من أهله، وخلدتها في ديوان
الدهر شاهدة على المسيء بفعله، ورجوت بها الثواب، نصرة للمظلوم،
وغيرة على حملة العلوم، وسميتها:(الحرقة للخرقة) فقلت: اعلموا يا ولاة
الأمر، ويا ذوي الكرم الغمر، أبقاكم الله بمصر [4] للأمة، ووفقكم لدفع الإصر
وبراءة الذمة، أن حلب قد نزعت للزبدة، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي
في خسر وشدة، قاضٍ سلب الهجوع وسكب الدموع، وأخاف السرب، وكدَّر
الشرب، بجراءته التي طمت وطمت، وعَمايَته التي عمت وغمت، وفتنته
التي بلغت الفراقد، وأسهرت ألف راقد، ووقاحته التي أدهشت الألباب، وأخافت
النطف في الأصلاب، فكم لطخ من زاهد، وكم أسقط من شاهد، وكم رعب
بريًّا، وكم قرب جريًّا، وكم سعى في تكفير سليم، وكم عاقب بعذاب أليم،
وكم قلب ذائب، بنائبة توسط بها عند النائب، فامتنعت الأمراء عن
الشفاعة، وظنوا هم والنائب أن هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة:
يا حامل النائب في حكمه أن يقتل النفس التي حرمت
غششته والله في دينه بشراك بالنار التي أضرمت
(إلى أن قال الزين ابن الوردي) : ثم إنه فسق مفتيًا في الدين، وفضح
خطيبًا على رؤوس المسلمين، ثم قال: يحب إثبات الردة والكفر كحب الدنانير
الصفر.
حاكم يصدر منه
…
خلف كل الناس حفر
يتمنى كفر شخص
…
والرضا بالكفر كفر
(ثم قال) : إذا وقع عنده عالم فقد وقع بين مخالب الأسود، وأنياب
الأفاعي السود:
أدركوا العلم وصونوا أهله
…
من جهول حاد عن تبجيله
إنما يعرف قدر العلم من
…
سهرت عيناه في تحصيله
ثم قال: ما أقدره على السفير، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير، كم
دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب، ونراه حيران لعدم الرقة، فإذا قيل له:
فلان قد كفر، طاب، يحبس على الردة بمجرد الدعوى، ويقوي شوكته على
أهل التقوى، قد ذلل الفقهاء والأخيار، وجرأ عليهم السفهاء والأغيار:
يحبس في الردة من
…
شاء بغير شاهد
لا كان من قاضٍ حكى الـ
…
ـفقاع جد بادر
أراح الله من تعرضه، وصان عراض الأعراض من تعرضه، يقصد
بذلك أهل الدين، والقراء المجودين:
جرحت الأبرياء فأنت قاضٍ
…
على الأعراض بالأغراض ضاري
ألم تعلم بأن الله عادل
…
(ويعلم ما جرحتم بالنهار)
هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية،
وكلها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصب قضاة ذلك الوقت، ولا سيما
المالكية منهم، ولقد كان قضاة المذاهب يحيلون الأمر في التعزير والتأديب إلى
القاضي المالكي لما اشتهر في الفقه المالكي من مضاعفة النكال، وشدة التأديب في
باب التعزير؛ إذ بسط للقاضي يده فيه بسطًا لم يوجد في مذهب غيره، فلذا كان
محبو الانتقام والتشفي يعمدون إلى إحالة القضية إلى القاضي المالكي؛ لما يعلمون
ما وراء قضائه، مما فصل بعضه الإمام ابن الوردي كما قرأت، على أن الأمر في
التعصب لم يقف عند القاضي المالكي وحده لنتعصب ضده، وإنما كان هو الأقوى
تعصبًا والأشد تصلبًا، وإلا فإن مظهر ذاك العصر كان التعصب لجميعهم، فقد حكى
الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في مقدمة طبقاته الكبرى المسماة بلواقح الأنوار ما
مثاله: وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة أن
شخصًا وقع في عبارة موهمة للتكفير، فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أرادوا قتله
قال السلطان جقمق: هل بقي أحد من العلماء لم يحضر؟ فقالوا: نعم، الشيخ جلال
الدين المحلي شارح المنهاج، فأرسل وراءه فحضر، فوجد الرجل في
الحديد بين يدي السلطان، فقال الشيخ: ما لهذا؟ قالوا: كفر، فقال: ما مستند من
أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني من مشاهير الشافعية، وقال: قد أفتى
والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير، فقال الشيخ جلال
الدين رضي الله عنه: يا ولدي أتريد أن تقتل رجلاً مسلمًا موحدًّا يحب الله ورسوله
بفتوى أبيك؟ حلوا عنه الحديد، فجردوه، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج
والسلطان ينظر، فما تجرأ أحد يتبعه رضي الله تعالى عنه.
وقد عد الشعراني من الأعلام الذين أكفرهم الجامدون المتعصبون ما
يقرب من الثلاثين، فمنهم القاضي عياض، اتهموه بأنه يهودي؛ لملازمته
بيته للتأليف نهار السبت، وذكر أن المهدي قتله.
ومنهم الإمام الغزالي كفره قضاة المغرب وأحرقوا كتبه، ومنهم التاج
السبكي رموه بالكفر مرارًا، وسجن أربعة أشهر [5] ، وكل هذا إنما كان بزعم
المتعصبين بشهادات وأقضية وفتاوى، ولكن سرعان ما فضحهم التاريخ
وكشف عوارهم، كما حكاه الشعراني وغيره، والحمد لله الذي جعل الباطل
زهوقًا.
وهكذا يمر بتواريخ تلك القرون ما لا يحصى من حوادث من أقيمت عليهم
الفتن، واتهموا بما اتهموا به، مع أن الحدود تدرأ بالشبهات، ونعني بالحدود ما نص
عليه في الكتاب العزيز والسنة الغراء، فإذا كانت في تلك المكانة وقد شرع
فيها محاولة درئها بالشبهات، فكيف بحدود لا سند لها إلا بالاجتهاد، وليس لها أصل
قاطع، ولا نص محكم، فلا ريب أنها أولى بالدرء، وأجدر بالدفع، ولا يدري
المرء ما الذي حملهم على نسيان هذه الموعظة حتى عكسوا القضية، وأصبحوا
يكبرون الصغير، ويعظمون الحقير، ويهولون الأمور، ويدعون بالويل والثبور،
مما لا يقومون بعشره للمنكرات المجمع عليها، والكبائر التي يجاهَر بها، فلا حول
ولا قوة إلا بالله.
ولما تشددت القضاة المالكية في هذا الباب، أصبحوا هدفًا لأولي الألباب،
حتى قال الإمام ابن الوردي في ذاك القاضي المتقدم الرباحي: إن المالكية
بدمشق كتبوا إليه: يا مغلوب، لقد بغضت مذهب مالك إلى القلوب، وقطعت
المذاهب الأربعة عليه بالخطا، وزالت بهجته عند الناس وانكشف الغطا، إلخ.
والسبب في ذلك ما ابتدعه الملك الظاهر برقوق من توظيف قضاة أربعة
على المذاهب الأربعة مما لم يعهد قبله في دولة من الدول، حتى نشأ من ذلك
ما نقمه عليه الأعلام، وعدوه من التفرقة في الإسلام، قال التاج السبكي في
طبقاته [6] ، في ترجمة قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب
ابن بنت الأعز الشافعي المتوفى سنة 566، ما مثاله: وفي أيامه جدد الملك
الظاهر القضاة الثلاثة في القاهرة، ثم تبعتها دمشق وكان الأمر متمحضًا
للشافعية، فلا يعرف أن غيرهم حكم في الديار المصرية منذ وليها أبو زرعة
محمد بن عثمان الدمشقي في سنة 284 إلى زمان الظاهر إلا أن يكون نائب
يستنيبه بعض قضاة الشافعية في جزئية خاصة، وكذا دمشق لم يَلِهَا بعد أبي
زرعة المشار إليه إلا شافعي غير التلاشا عوني التركي، الذي وليها يويمات
وأراد أن يجدد في جامع بني أمية إمامًا حنفيًّا، فأغلق أهل دمشق الجامع،
وعزل القاضي [7] .
(قال السبكي) : واستمر جامع بني أمية في يد الشافعية، كما كان في
زمن الشافعي رضي الله عنه، قال: ولم يكن يلي قضاء الشام والخطابة
والإمامة بجامع بني أمية إلا من يكون على مذهب الأوزاعي إلى أن انتشر مذهب الشافعي، فصار لا يلي ذلك إلا الشافعية. ثم قال السبكي: وقد حكي أن الملك
الظاهر رؤي في النوم فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: عذبني عذابًا شديدًا بجعل
القضاة أربعة، وقال: فرقت كلمة المسلمين. اهـ.
ولا يخفى على ذي بصيرة ما حصل من تفرق الكلمة، وتعدد الأمراء
واضطراب الآراء، وقد قال أبو شامة لما حكى ضم القضاة، أنه ما يعتقد أن
هذا وقع قط. قال السبكي: وصدق فلم يقع هذا في وقت من الأوقات، قال:
وبه حصلت تعصبات المذاهب، والفتن بين الفقهاء، فإنه يؤيد ما قدمناه من
اتخاذ هذه آلة للفتن والتشفي من المخالفين، حتى أدال الله من تلك الدولة
للسلطان سليم خان، فنسخ كل ذلك، وقصر الأمر على قاضٍ حنفي واحد،
ولا ريب أن هذا كان من النعم الكبيرة، إذ قمعت به فتن خطيرة، وحسمت به
شرور وفيرة، نعم لم يزل في الأمر حاجة إلى الكمال، وهو سعي أولي الحل
والعقد بعقد مؤتمر علمي من كبار فقهاء المذاهب المعروفة، وتأليف مجلة
تستمد من فقه سائر الأئمة الأربعة وغيرهم مما فيه رحمة ويسر، ومشى مع
المصالح والمنافع، ودفع المضار في أبواب المعاملات، فبذلك تظهر محاسن
الدين في الأقضية والأحكام، ويعرف أنه دين المدنية في كل زمان ومكان إلى
قيام الساعة وساعة القيام، وإن اليوم الذي تتحقق فيه هذه الأمنية لهو أسعد الأيام،
والمستعان بالله ذي الجلال والإكرام اهـ.
_________
(*) لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
(1)
جزء 2.
(2)
المتمفقر: كالمتمسكن مدعي الفقر، أي: التصوف، وليس من أهله.
(3)
راجعها في ص (190) من المجموعة الأدبية التي طبعت في مطبعة الجوائب عام (1300) ، مشتملة على لامية العرب وشرحها وشرح المقصورة الدريدية، وديوان ابن الوردي، وديوان الخشاب ورسائله.
(4)
كانت مصر في عهد المؤلف، وهو القرن الثامن: عاصمة دولة المماليك.
(5)
ذكر السبكي محنته هذه في آخر منظومة له في الفقه، عندي الكراسة الأخيرة منها.
(6)
جزء (5) ص (134) .
(7)
تأمل هذا التعصب واسترجع وحوقل، أين غاب عنهم فضل سائر الأئمة المبتوعين الأربعة وغيرهم، وكيف نسوا أن الناس عيال عليهم، تستمد من بركة فقههم واستنباطهم وتأصيلهم وتفريعهم؟ ما أجمد قومًا يزعمون أنهم تعبدوا بمذهب واحد، أو اتباع إمام واحد، أوَ ما علموا أن كلهم من رسول الله ملتمس، وأن الله تعالى إنما تعبَّد الناس بتنزيله الكريم وهدي نبيه المعصوم.
الكاتب: أحمد عمر الإسكندري
…
...
…
...
…
نظرة في الجزء الثاني من كتاب
تاريخ آداب اللغة العربية [*]
(2)
الخطأ في النقل
قد أخطأ المؤلف في نقل عبارات المؤلفين إما بتصرفه فيها تصرفًا أفسد
معناها، وإما بتحريف الكلم، وإما بنقلها عن نسخة محرَّفة من غير تمحيص
لها، فمن ذلك:
(1)
قوله في ترجمة سلم الخاسر: هو سلم (ويقال سالم) ابن عمرو،
أحد موالي أبي بكر الصديق.
فسالم الخاسر هو (سَلْم) بفتح السين وسكون اللام، فمن أين جاء
للمؤلف أن يقال في اسمه: سالم أيضًا، وليس سلم مجهولاً حتى يشتبه في
اسمه.
منشأ هذا التحريف الذي وقع فيه المؤلف أن نسخة تاريخ ابن خلكان
المطبوعة كتب فيها (سلم) بألف توهمًا من الناسخ الأصلي أن الألف محذوفة
كما تحذف في (القسم والحرث) فأثبتها وطبعت النسخة على هذه الصورة
خطأً، وفي نسخة ابن خلكان هذه ذكر اسم (سلم) منظومًا في الشعر في قول
أبي العتاهية له:
تعالى الله يا سلم بن عمرو
…
أذل الحرص أعناق الرجال
ونحن لا نشك أن المؤلف قرأ ترجمة (سلم) في (الأغاني) وفيها وقع
اسمه منظومًا في غير موضع، فمن ذلك قول أبي العتاهية:
إنما الفضل لسلم وحده
…
ليس فيه لسوى سلم درك
وله فيه وقد حبس إبراهيم الموصلي:
سلم يا سلم ليس دونك سر
…
حبس الموصلي فالعيش مر
وقول أبي محمد اليزيدي فيه:
عق سلم أمه صغرًا
…
وأبا سلم على كبره
ومن هجاء أبي الشمقمق فيه:
* يا أم سلم هداك الله زورينا *
وقول مروان بن أبي حفصة فيه:
أسلم بن عمر وقد تعاطيت غايةً
…
تقصر عنها بعد طول عنائكا
وقول أشجع السلمي يرثيه:
يا سلم إن أصبحت في حفرة
…
موسدًا تربًا وأحجارًا
فرب بيت حسن قلته
…
خلفته في الناس سيارًا
فهو عند هؤلاء الشعراء المعاصرين له اسمه (سلم) فحسب، ويجوز
عند مؤلفنا وناسخ ابن خلكان أن يُسمى (سالمًا) أيضًا، فليختر القارئ لنفسه ما
يحلو.
(2)
ومن خطئه في النقل قسمه اسم رجل واحد على مسميين، فذكر
في ترجمة الصولي (ص175) أن له كتابًا اسمه الأوراق وهو في دار
الكتب الخديوية، وذكر ممن ترجم له هذا الكتاب أحمد بن يوسف بن صبيح،
فقال: (وأحمد بن يوسف وزير المأمون وآله، وابن صبيح كاتب دولة بني
العباس، وتوقيعات أحمد المذكور وكلامه فضلاً عن أشعاره) .
والحقيقة أن الثاني هو عين الأول، ومن يراجع الكتاب يعرف ذلك.
وهو أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح، ويتبين هذا أيضًا من خلال كلام
مؤلفنا؛ إذ ذكر أحمد ثم ابن صبيح ثم قفَّى بذكر توقيعات أحمد ورسائله
وشعره.
فلو كان ابن صبيح غير أحمد، فما الداعي لفصل توقيعات أحمد عن
ترجمته؟
ولو فرضنا أن المؤلف يريد بابن صبيح جده القاسم، فذلك لم يكن كاتب
دولة بني العباس، بل كان يكتب لبني أمية وللمنصور في بدء خلافته، ولم
تطل أيامه، وليس هناك في الكتابة، وإنما ذكره الصولي مع من ذكره من آل
أحمد بن يوسف.
(3)
ومن خطئه في النقل بتصرفه في عبارة المؤلفين قوله في ترجمة
ابن الرومي صفحة 158:
(اشتهر بالتوليد في الشعر؛ لأنه أتى بكثير من المعاني لم يسبق إليها،
ومن مميزاته أنه لا يترك المعنى حتى يستوفيه، ويمثله للقارئ تمثيلاً) .
ومن عبارة المؤلفين في ذلك ما قاله صاحب معاهد التنصيص:
(هو أبو الحسن.. . صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب يغوص
على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن قالب، وكان إذا
أخذ المعنى لا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية) .
وقال ابن خلكان: (صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على
المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها، ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك
المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية) .
فترى أن عبارة ابن خلكان أجود في تصوير الشاعر، وعنه نقل صاحب
معاهد التنصيص مع تغيير قليل.
فرأى مؤلفنا أن ينقل عنهما بتغيير آخر، ولكن تغييره شذ عن مرادهما
فهما يقصدان بقولهما: (صاحب التوليد الغريب) أنه إذا استنبط معنًى من
قرآن أو حديث أو حكمة أو مثل أو من كلام شاعر آخر، أو اخترعه اختراعًا
لا يزال يولد منه معاني متشاكلةً بالزيادة عليه أو النقص منه، أو بالقياس عليه
فيستعمله في مدح ويقلبه في هجو ويزينه في وصف حتى لا يدع لغيره وجهًا
أيًّا كان يستعمله فيه بعد، وقد فسر المؤلفان غرضهما في عبارتهما بقولهما:
(يغوص على المعاني.. .) إلخ.
ففهم مؤلفنا من التوليد أنه يأتي بمعانٍ لم يسبق إليها، مع أن ابن الرومي
كثيرًا ما يُغِيرُ على قول غيره، وفهم من قولهما: (وكان إذا أخذ المعاني
…
) إلخ،
أنه يوضح المعنى، ويمثله تمثيلاً، وما كان عليه لو نقل عبارة المؤلفين
كما فعل في أكثر مواضع الكتاب.
(4)
ومن تقصير المؤلف في توضيح ما ينقله ما نقله عن السيوطي ـ
ناقلاً عن كتاب العين، ومختصر الزبيدي ـ إحصاء المستعمل من الألفاظ العربية
والمهمل منها، فاستخرج المؤلف من كلام الزبيدي جدولاً استنتج منه أن عدد
المستعمل من ألفاظ اللغة العربية 5620 لفظًا، مع أن كتاب القاموس وحده،
وهو ليس إلا قطرةً من بحر اللغة العربية، يشتمل على ستين ألف مادة، متوسط ما
في كل منها من المزيد والمشترك عشرون كلمة على الأقل، أي نحو مائتي ألف وألف
ألف كلمة، فكيف ولسان العرب به ثمانون ألف مادة، متوسط ما في كل منها
ثلاثون كلمة على الأقل.
والمؤلف نقل عبارة الزبيدي عن المزهر للسيوطي، وهي فيه مختلة
أيضًا أسقط منها النساخ كلمة (ألف) المكررة في عدد المهمل والمستعمل
فصار فيها ألف الألف (أي المليون) ألفًا فقط، ويعرف هذا بمراجعة مقدمة
شارح القاموس، فإنه نقل عبارة الزبيدي أيضًا، وفيها مكان الألف في بيان
المهمل والمستعمل (ألف ألف) وإن وجد بها بعض تحريف أيضًا، فكان جديرًا
بالمؤلف أن يزن العبارة بميزان عقله، ويعدلها - إذا شاء - كما عدل الأرقام
التي ذكرها المزهر؛ لتصح له عملية الجمع.
(5)
ومن تحريف المؤلف بنقل عبارة المؤلفين ناقصة ما نقله في
ترجمة المتنبي في قوله: (حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان،
وفي وسطه سيف ومنطقة، ويركب بحاجبين من مماليكه، وهما بالسيوف
والمناطق، فلما رأى كافور منه سموّه بنفسه وتعاليه بشِعْره خافَه، وقال: يا
قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ألا يدَّعي المُلك مع
كافور؟ فحسبكم. فأغضبه فخرج أبو الطيب من مصر.
والمتأمل في هذه العبارة يجد أن قول كافور: يا قوم.. . إلخ، مقتضب
مما قبله بل هو تتمة لكلام محذوف، وهو الواقع فإن كافورًا كان وعده بولاية
بعض أعماله، وطمع المتنبي في ذلك، واستنجزه وعده في شعره مرارًا وهو
يماطله، فعاتبه بعض كبار الدولة في مطله عن إبلاغه أمنيته على كثرة مدحه
له وهجرته إليه مغاضبًا لسيف الدولة فقال كافور: يا قوم.. . إلخ.
* * *
عدم تحري الحقيقة والصواب
اعتاد المؤلف أن ينقل إلى كتبه ما يعتقده بذاته، أو ما يكون ذائعًا على ألسنة
عامة القراء والوراقين، أو يقرؤوه في الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها،
من غير تمحيص لحقيقتها؛ حرصًا على إفادة القراء وإتحافهم بالغرائب،
وهو اجتهاد يشكر عليه؛ لولا ما يشوّه بهذه الأخبار محاسن كتبه من حيث لا
يقصد، وربما يلتمس له في ذلك عذر، وهو تسرعه في تأليف الكتب تعجيلاً
لفائدتها، وأن التحري والبحث والتحقيق والتدقيق كلها تستدعي أزمانًا طويلة
ومراجعةً لكثير من الكتب، ومساءلةً لجمهور الأدباء، وهو ما يضيق دونه
وقته الثمين، وعامة القراء يرضيهم ما دون ذلك، والمستفيد يتوخى أربح
الطريقين (وَلِكُلٍّ وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)(البقرة: 148) .
ولكن الرأي الذي نراه أنه ينبغي لكل من تعرض لتدوين التاريخ في
السياسة أو الأدب ألَاّ يكتفي برواية كتاب واحد أو كتابين وبما يذيع على ألسنة
الناس، بل يجب عليه تحقيق الخبر وتمحيصه والأخذ بالرواية القريبة من
العقل، واللائقة بمنزلة من روي عنهم.
ويوجد في هذا الكتاب كثير من الأخبار التي اغتر المؤلف بنقلها من
الكتب ولم يمحصها، فمن بعض ذلك:
(1)
نقله عبارة ابن خلكان التي نقلها مثل المؤلف كثير من الناقلين من
أن الأمين جمع بين سيبويه والكسائي في مجلسه للمناظرة، وأن الكسائي
زعم أن العرب تقول: (كنت أظن الزنبور أشد لسعًا من النحلة فإذا هو إياها) .
وأن سيبويه قال: إن المثل: (
…
فإذا هو هي) وأن الأمين تعصب لأستاذه
الكسائي وأوعز سرًّا إلى أعرابي حكَّمُوه في المسألة أن يصوب الكسائي
ويخطئ سيبويه.
مع أن المسألة مشهورة في كتب الأدب والتاريخ والنحو من أن المناظرة
جرت في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وأن الكسائي كان يجيز الوجهين، أي:
(فإذا هو هي) و (فإذا هو إياها) وأن أعرابًا عدة معروفين بعينهم
وأسمائهم شهدوا بجواز الأمرين، وأن الغلبة كانت على سيبويه في هذا المقام،
وليس في العلم كبير. وهذا ما يليق بمقام الكسائي والأمين وثقات رواة
الأعراب.
والقصة مبسوطة بالتفصيل في معجم الأدباء لياقوت ص 191 ج 5 في
ترجمة الكسائي، وفي ص 81 ج6 ولم يكمل طبعه، ولكن ما طبع اطلعت
عليه، وفيه ترجمة سيبويه، وفي ص 366 من بغية الوعاة في طبقات النحاة،
وفي مبحث (إذا) من الجزء الأول من مغني اللبيب لابن هشام وفي غيرها
من الكتب غير المطبوعة، وفي أكثرها إعراب الوجه الثاني من الوجهين
اللذين يجوِّزهما الكسائي، وأن البصريين أنفسهم لا ينكرون صحة شهادة
الأعراب الثقات، وإنما يطعنون فيهم بأنهم من أعراب الحطمة، أي أنهم ليسوا
فصحاء، ولولا طول هذه القصة لأوردتها من كثير من الكتب التي تخالف ابن
خلكان في النقل، وربما اطلع عليها المؤلف ولكنه آثر روايته؛ إما لغرابتها
أو لغرض آخر.
(2)
ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة والصواب قوله في
ص 146 في تعداد كتب الواقدي:
-2 - كتاب فتوح الشام: هو أشبه بالقصص منه بالتاريخ؛ لما حواه من
التفاصيل والمبالغات؛ لكنه مؤسس على الحقيقة. وفيه حقائق لا توجد في
سواه من كتب الفتوح، وقد طبع مرارًا إلى أن قال: وطبع أيضًا في مصر
سنة 1882 وغيرها.
ثم بعد أن ذكر عدة كتب له قال:
-7 - عدة كتب في الفتوح تنسب إليه كفتح منف والجزيرة والبهنسا طبعت
بمصر وغيرها، وكان له كتاب يسمى فتوح الأمصار لم نقف عليه، ولكن
المؤرخين نقلوا عنه. وأكثر كتبه محشوة بالمبالغات لا يُعول عليها، وفي مجلة
المشرق البيروتية مقالة انتقادية في الواقدي ومؤلفاته (صفحة 936 سنة 10)
جزيلة الفائدة.
أقول: إني لم أطلع على مجلة المشرق ولا على انتقادها، ولكن الأمر لا
يجهله من له أدنى إلمام بتمييز كتابات العصور المختلفة أو بالتاريخ أن كتب
المغازي التي تطبع في مصر من مثل فتوح الشام ومصر والبهنسا وفتح خيبر
وفتح مكة، ورأس الغول ونحوها ـ هي من الكتب الموضوعة الخيالية المشتملة
على بعض حقائق تاريخية، والأقرب أنها وضعت هي وقصة عنترة وذات
الهمة وغيرها زمن الحروب الصليبية؛ لتغرس في الناس فضيلة الشجاعة
والاقتداء بالسلف الصالح، لا أنها هي نفس كتب الواقدي الحقيقية، وإن الذين
سموها بهذه الأسماء هم جماعة الوراقين والنساخين؛ لترويج سلعهم عند
القراء، كما نسب مؤلف قصة عنترة وروايتها إلى الأصمعي، وزعم أنه عمر
وأدرك الجاهلية وقابل شيبوبًا أخا عنترة، وإني لأخجل أن أرى مثل مؤلفنا قد
انخدع بهذا الباطل، وطوح به الأمر أن قال في كتب الواقدي أبي التاريخ: إنها
محشوة بالمبالغات لا يعول عليها، وليت شعري على من نعول في تاريخ الفتوح
إذا لم نعول عليه وهذا ابن سعد كاتب الواقدي وتلميذه نقل عنه أكثر أخبار الفتوح
في كتابه الكبير طبقات ابن سعد، البالغ بضعة عشر مجلدًا، وهو أصح كتاب
في طبقات الصحابة.
على أن المؤلف لو راجع عبارة بعض هذه الكتب المنحولة للواقدي
وبعض الكتب الأخرى الصحيحة النسبة إليه كفتح إفريقية وفتح العجم؛ لميز
بين الصحيح والموضوع، ولكن قاتل الله العجلة، وخاصة العجلة في
التأليف.
(3)
ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة: نقله ما يقول بعض
خصوم الجاحظ من الصفاتية وأهل السنة من أنه كان يقول: إن القرآن المنزل من
قبيل الأجساد، وإنه يمكن أن يصير مرة رجلاً ومرة حيوانًا إلخ إلخ،
والجاحظ أعقل من أن تنسب إليه هذه المقالة وهو من علمت، ومذهب
المعتزلة مبسوط معروف في كتب الكلام، ولم يسمع عنهم هذا القول،
والجاحظ لسانهم وحجتهم والمؤيد لمذهبهم، وإنما أخذ أعداؤه هذا من قوله في
القرآن: إنه مخلوق، أي كما تخلق بقية الموجودات من إنسان وحيوان. وترجمة
الجاحظ ذكرت في كثير من الكتب، وأخصها ترجمة ياقوت في معجم الأدباء،
وهي نحو 25 صفحة، ولا توجد فيها هذه الفرية، ولا أعرف المؤلف
نقلها عن غير الشهرستاني أو عمن نقل عنه.
* * *
التناقض
ناقض المؤلف نفسه في كثير من مواضع كتابه، فمن ذلك:
(1)
قوله في صفحة (159) : (ويمتاز ابن الرومي بتفضيله المعنى
على اللفظ كالمتنبي فيطلب صحة المعنى ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ
وقبحه وخشونته، ومع ذلك فإنك تجد في نظمه سهولة ومتانة) .
قرأنا هذه العبارة فتعجبنا من تناقضها ولمحنا في أثنائها رقمًا يشير به إلى
الذيل من أنه أخذ هذه العبارة من العمدة لابن رشيق (ج 1 ص 82) فراجعنا العمدة
فإذا فيها: (ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته ولا يبالي
…
) إلخ.
ولم يذكر العبارة التي زادها مؤلفنا من عنده، فأوقع نفسه في التناقض كما أوقع
قارئ كتابه في حيرة.
(2)
ومن تناقض كلام المؤلف قوله في صفحة 123 في تعرضه
لكتاب العين: (ولم ينبغ نحويّ ولا لغويّ ولا أديب في عصر الخليل وما يليه
إلا استفاد من كتابه، ولكن الثقات الباحثين مختلفون في حقيقة نسبته إليه،
وفي صحة ما جاء فيه من الروايات والأقوال، من ذلك ما رواه ابن النديم في
الفهرست عن ابن دريد قال: (وقع في البصرة كتاب العين سنة ثمانٍ وأربعين
ومائتين قدم به وراق من خراسان وكان في ثمانية وأربعين جزءًا فباعه
بخمسين دينارًا، وكان قد سمع بهذا الكتاب أنه في خزائن الظاهرية حتى قدم
به هذا الوراق) .
فأنت ترى من هذه العبارة أن الكتاب اشتهر في عصر الخليل حيث لم
ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصره إلا استفاد منه على زعم المؤلف،
ولكن لا تكاد تفرغ من قراءة هذه الجملة حتى تقع في أن الثقات الباحثين
مختلفون في نسبته للخليل، وفي صحة ما فيه، فليت شعري من هم هؤلاء
الثقات الباحثون؟ أهم جميع النابغين من النحويين واللغويين والأدباء الذين
استفادوا جميعهم منه؟ أم هم غير هؤلاء النابغين؟
وبعدُ فمتى استفاد هؤلاء النابغون؟ والكتاب بشهادة ابن النديم بل بشهادة
كل من كتب في تاريخ كتاب العين لم يظهرإلا بعد موت الخليل بنحو سبعين
سنة، وذلك ما جعل العلماء يشكون فيه، وأنه لو كان للخليل لذاع أمره
وعرفه تلاميذه، ونقلوا عنه، مع أن تلاميذ الخليل مثل الأصمعي وأبي عبيدة
وأبي زيد وتلاميذهم، كل أولئك لا يعرفون عن كتاب العين شيئا، ولكن
مؤلفنا وحده يعلم أنه لم ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصر الخليل وبعده
إلا استفاد منه، ولله في خلقه شئون.
(3)
ومن تناقض المؤلف قوله في صفحة 201 نشأ علم الجغرافية في
هذا العصر (أي: العصر الثاني العباسي) بعد نقل علوم القدماء إلى العربية،
وفي جملتها كتاب بطليموس وعليه معولهم في تقويم البلدان، على أن
المسلمين بدءوا بوضع الجغرافية قبل اطلاعهم على ذلك الكتاب لأسباب غير
التي دعت اليونان إلى وضعها إلخ فإن تمحلنا عذرًا للمؤلف في هذا
التناقض، وقلنا: إنه استعمل شبه الاستخدام البديعي في كلامه فيكون قد ذكر
الجغرافية أولاً بمعنى الرياضية وأعادها ثانيا الجغرافية التخطيطية التي كانت
تسمى علم المسالك والممالك، فلا يصح رفع التناقض من كلام المؤلف أيضًا؛
لأن العرب اشتغلوا بالجغرافية اليونانية قبل العصر الثاني، والمأمون وعلماؤه
ممن صحح أغلاط بطليموس في محيط الأرض وقطرها ومقياس الدرجة
الأرضية.
(4)
ومن تناقض المؤلف وتحيره في قوله في أبي العتاهية: (وقد
نظم في كل أبواب الشعر وامتاز منها بالزهد، ويؤخذ من سيرة حياته أنه كان
مترددًا متقلبًا ويغلب ذلك في طباع الشعراء؛ لأنهم أهل خيال وأوهام،
وخصوصًًا الذين يستجْدون بشعرهم، فإنهم يتقلبون مع الأهواء ويسعون وراء
النفع حيثما كان، على أن تمنع أبي العتاهية عن قول الغزل بعد أن أمره به
الرشيد يخالف هذه القاعدة ولكن لعل له سببًا حمله على ذلك.
ما قولك أيها القارئ في هذه العلل التي لو صدقت - لا قدر الله - على
كل شاعر يتكسب بالشعر كأبي العتاهية لتبرمت الدنيا بكثرة المحرورين
والموسوسين المتخبطين، على أن الله أرحم من أن يصدق زعم المؤلف في
الشعراء من عباده، فلم تر بعد أبي العتاهية من يشبهه في سودائه، والحمد لله.
* * *
الاختصار فيما ينبغي الإطناب فيه
(والإطناب فيما ينبغي الاختصار أو فيما هو أجنبي من موضوع الكتاب)
من أعجب أمور المؤلف أنه يعلم ويعلم أن الناس تعلم أنه يؤلف كتابه في
آداب اللغة العربية لا آداب اللغة اليونانية القديمة ولا الفارسية ولا الهندية ولا
السريانية ولا اللغات الأوروبية الحاضرة، ثم نراه إذا خاض في ذكر مبحث
من مباحث الآداب العربية أو عدَّد نبغاءً، أو ذكر ترجمة شاعر نابغ أو كاتب
أو مصنف ـ اقتصر على ذكر نتف قليلة من المبحث، أو اقتصر على العدد
القليل من مشهوري النبغاء، واختصر تراجمهم مكتفيًا بذكر ما لا يلزم الناقد
الأديب وبذكر الكتب التي يراجعها من شاء التوسع، وقد لا تزيد عن كتابين
معروفين لأكثر الناس لا حاجة للدلالة عليهما، على حين أنه يطول في كثير من
المواضع حتى ليكرر كثيرًا من المباحث في غير مكانه لمجرد ولعه وإعجابه، بل
يخرجه ولعه بالشيء أن يُدخل في كتابه مباحث مطولة جدًّا ليست من
موضوع آداب اللغة العربية وتراجم أناس ليسوا من العرب، ولا خالطوا
العرب، فمن النوع الأول:
(1)
اختصاره في تراجم مشهوري الشعراء، واقتصاره منها على ذكر
نتف جافة قلما يتعرض فيها لنقد أو موازنة أو تقرير حكم معتذرًا عن ذلك بأنه
ليس من الأدباء المتفرغين للدرس والنقد، قال في صفحة 58 عند ذكر سبعة
من شعراء العصر الأول:
(وإليك تراجمهم على هذا الترتيب بما يقتضيه المقام من الإيجاز، وإلا
فإن كلاًّ منهم يحتاج في بسط ترجمته إلى مجلد قائم بنفسه، فنترك ذلك إلى من
تفرغ للدرس والنقد من الأدباء) .
ونحن نسلم معه أنه ليس من المتفرغين للدرس والنقد من الأدباء، ولكن
لا نسلم أن من لم يتفرغ للدرس والنقد من الأدباء يوثق بقوله، أو يعتد برأيه
في هذا الباب، أويظن أنه باختصاره آثر الأهم على المهم، وأيّ مقام يفرض
عليه الإيجاز الخالي من الحكم الأدبي، والكتاب ليس مذكرة مدرسية تنطبق على
برنامج مدرس مختصر، وإنما يقصد المؤلف به أن يكون مرجعًا لجمهور المتأدبين
من القراء الشداة لا التلاميذ الأحداث، بدليل أن حضرته وعد في كتابه هذا
أن يختصر منه ملخصًا لتلاميذ المدارس، على أن الذي يستطيع أن يؤلف مجلداً
في ترجمة شاعر لا يعجزه أن يلخص هذا المجلد في صفحة أو اثنتين بحيث يشير
في كلامه إلى نتيجة البحث والنقد.
(2)
ومن اختصاره أو اقتصاره ـ أو تقصيره ـ أنه لم يترجم لأحد
من كُتاب الرسائل في العصر الأول ولا الثاني، أي في مدة مائتي سنة وهما
عصرًا البلاغة والجزالة، إلا لاثنين، أحدهما عمرو بن مسعدة، والآخر القائد
طاهر بن الحسين فاتح بغداد، وقاتل الأمين، ووالي خراسان، وقد علمت أنه
ليس من كتاب الرسائل ولا عمل في ديوان.
مع أن كتاب الرسائل في هذين العصرين لا يقل النابغ منهم عن عشرين
تولى أكثرهم الوزارة، أو ديوان الرسائل والتوقيع والخاتم، كعمارة بن حمزة
وأبي عبيد الله ويعقوب بن داود وزيري المهدي وخالد بن برمك وابنيه الفضل
وجعفر وأحمد بن يوسف وزير المأمون، وابن الزيات وإبراهيم الصولي
والحسن بن وهب، وسليمان بن وهب، وسعيد بن حميد وابن مكرم وأحمد
ابن إسرائيل والحسن بن مخلد، وبني المدبر، وآل ثوابة، وآل الفرات، وآل
الجراح وابن مقلة، وغيرهم ممن تزينت كتب الأدب ببارع كتبهم، وطلعت
أهلة البلاغة من خلال فصولهم، وليسوا بالمجهولين فيجهلهم المؤلف، ولا المدفوعين
عن تقدم فيلوي عنهم عنانه.
(3)
ومن تقصير المؤلف إهماله ذكر الجرمي من نحاة العصر الثاني مع
ترجمته لابن ولاد وأبي جعفر النحاس وغيرهما، ومكان الجرمي في النحو لا
يجهل.
(4)
ومن تقصير المؤلف إهماله ذكر الأوزان والقوافي التي طرأت على
الشعر في جميع العصور التي ذكرها كالمواليا والدوبيت وأبحر المولدين
والشعر المزدوج والمسمط والتعريف بقائليها، واكتفى بنبذة يسيرة في
الموشحات في العصر الثالث.
ومن النوع الثاني، أي: التطويل في غير موضعه، بل إدخاله ما ليس من
موضوع الفن فيه أو ما ليس من موضوع هذا الجزء الثاني الخاص بالعصر
العباسي:
(1)
تخصيصه اثنتي عشرة صفحة من كتابه لموضوع أجنبي من
موضوع آداب اللغة العربية بالمرة، وهو آداب اللغة اليونانية وأطوارها
وتراجم مستقلة بصور كبيرة لفلاسفة اليونان كسقراط، وأفلاطون وأرسطو وأبقراط
وإقليدس وأرشميدس وجالينوس وآداب اللغة الفارسية وأطوارها، وآداب اللغة
السريانية وأطوارها وآداب اللغة الهندية ، نقل هذه المباحث من دوائر المعارف
ووضعها في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي لأقل مناسبة ثم نقلها هنا بلا مناسبة،
وكان الأولى بالمؤلف أن يحل محلها كُتاب الدولة العباسية وهم فحول البلاغة
وقادة الكلام.
(2)
ومن ذلك إسهاب المؤلف في شرح الأدب والإنشاء عند الإفرنج
ص 276 مع أنه ليس من غرض كتابه.
(3)
وذكره لبعض قادة الإفرنج الخرافية ووضع صور خرافية لحروب
الإسكندر المقدوني مع أمم لهم ست أيدٍ وأمم لهم وجوه بهائم.
(4)
ومن التطويل: أو من الإخلال بالنظام: وضع الكلام في مبحث تأثير
القرآن الكريم في اللغة العربية في هذا الجزء، وكان من حقه أن يدرج في
الجزء الأول.
(5)
ومن التطويل: تكرار الكلام في موضعين أو ثلاثة لغير موجب مثل
وصف التهتك والخلاعة، ذكره في الشعراء، ثم أعاده بعينه في الشعراء ص 50.
(6)
ومن التطويل في غير موضعه: نقل القصة المطولة التي تُحكى
عن عبد الملك من أنه قال لجلسائه يوما: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه
وله ما شاء؟ وأن سويدًا ذكر من كل حرف كلمة ثم ثلاث كلمات، وأن هذه
القصة وما سيقت لأجله، وقد بلغت نحو صفحة، كان حقها أن توضع في
حالة اللغة في بني أمية لا أن تذكر في علم اللغة في بني العباس.
(7)
ومن ذلك ذكره حالة الغناء في الدولة الأموية، ضمن مقالة
الموسيقى والغناء في الدولة العباسية، وكان من حقها أن توضع في الجزء الأول.
* * *
الاستدلال بحادثة جزئية على أمر كلي
اعتاد المؤلف في كتبه أن يستنتج من حادثة جزئية أمرًا كليًّا، وهذه
الخصلة من أكثر ما ينعاه عليه النقاد، وقد عمل بها في كتابه هذا غير مرة
كقوله في صفحة 78 في ترجمة سلم الخاسر.
وكثيرًا ما كان يأخذ أقواله ـ أي أقوال بشارـ فيسلخها ويمسخها كما مسخ
هذا البيت:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فجعله:
من راقب الناس مات غمًّا
…
وفاز باللذة الجسور
فبلغ بيته بشارًا فغضب وأقسم ألا يدخل عليه ولا يفيده ما دام حيًّا
فاستشفع إليه بكل صديق حتى رضي
…
إلخ.
فكل من تتبع ترجمة سلم الخاسر في مظانها لا يجد من سرقته لشعر بشار غير
هذا البيت، وهو وحده سبب الغضب.
وقوله في صفحة 167 في ترجمة الجاحظ وذكر إصابته بالفالج ولزومه
بيته بالبصرة وكان قد اشتهر وذاع صيته في العالم الإسلامي فتقاطر الناس لمشاهدته
والسماع منه فلا يمر أديب أو عالم بالبصرة إلا طلب أن يرى الجاحظ ويكلمه.
فليتفضل علينا المؤلف ويذكر لنا أديبين أو ثلاثة من هؤلاء غير ذلك الوالي
البرمكي المصروف عن ولايته بالسند الذي جعل ذهبه في أشكال الإهليلج إن جاز
له أن يدعي أنه كان أديبًا عالمًا.
ومن هذا القبيل شيء كثير في الكتاب.
***
تقليده مستعربي الفرنجة حتى في الخطأ
للمصنف ولع بنقل ما يكتبه المستعربون عن العرب وآدابهم، ولو خالف
الواقع، ومن ذلك نقله فصولاً برمتها مشوبةً بالخطأ من كتاب نيكلسن
الإنكليزي، وبروكلمان الألماني مثل مقالة الشعر في العصر الأول وغيرها.
* * *
اضطراب التبويب والتقسيم
إن بعض مقرظي هذا الكتاب وصفه بأن أهم ما يمتاز به عن كتب
المتقدمين هو حسن تبويبه وتقسيمه، ولكني لسوء حظي لم أوفق إلى سر
تبويبه وتقسيمه لهذا الكتاب؛ إذ أجد ما يصلح أن يذكر في تاريخ الآداب وما
يلزم أن يوضع في كتب آداب الفرنجة وضع في أدب العرب، وما ينبغي أن
يجعل في عصر ظهور الإسلام جعل في عصر بني العباس، ومن يجب أن
يترجم له في عصر معين أو طائفة بعينها ترجم له في عصر غير عصره أو
طائفة غير طائفته إلخ إلخ، بحيث تضطرب المباحث وتتداخل العصور
ويلتبس الأمر على القارئ فلا يدري خاصة كل عصر، فمن ذلك:
(1)
ذكر القرآن الكريم والعلوم التي تفرعت منه وبيان تأثيره في آداب
الجاهلية من الخطابة والشعر والإنشاء واللغة وبيان تأثيره من الوجهة الاجتماعية
والأخلاقية، مع أن محل ذلك مبدأ ظهور الإسلام؛ إذ هو وحده مبدأ هذه التفريعات.
(2)
ابتداء المؤلف هذا الجزء بالكلام المسهب في العلوم الدخيلة
وتراجم رجال اليونان وتأخيره الشعر العربي والعلوم العربية والشرعية عن
موضعها مع أنها هي المباحث العربية الأَََولى بالتقديم؛ لأن الكتاب صنف في
آداب اللغة العربية لا الدخيلة، ولو سلمنا أن للمؤلف سرًّا في تقديم الدخيلة،
فما هو السر في أنه أخرها عن الشعر العربي والعلوم العربية والشرعية في
العصر الثاني والثالث؟
(3)
إسهابه في صفحة 119 و 120 في حالة العناية بأمر اللغة في
زمن بني أمية، وكان الأليق أن يذكرها في الجزء الأول الخاص بآداب
الجاهلية وعصر الخلفاء الراشدين وبني أمية.
(4)
إسهابه في الكلام على الأغاني في عصر بني أمية في هذا الجزء
الخاص ببني العباس، ومن حقه أن يذكر في الجزء الأول.
(5)
ذكره أن احتدام الخلاف بين النحويين: الكوفيين والبصريين
حصل في العصر الثاني وما بعده من عصور الدولة العباسية، والحقيقة أن الخلاف
أشد ما كان بين كوفي وبصري قد كان في العصر الأول. وأما الثاني والثالث
وما بعدهما فقد هان فيها الخلاف ووجدت مذاهب ملفقة من المذهبين، فكان
الأولى ذكر هذا المبحث المسهب في العصر الأول.
(6)
ومن ذلك تأخيره الكلام في نشأة علم الفرائض إلى العصر الثالث
مع أنه قديم دُوِّنَ منذ دُوِّنَ الفقه، فكان الواجب ذكره في العصر الأول.
(7)
ومن ذلك ذكره عددًا كثيرًا من الشعراء، والعلماء المصنفين من
أهل عصرين، العصر الذي يليه أو الذي قبله، ويعلم ذلك من وفياتهم، فلينتبه
القارئ، ولولا أني سئمت من كثرة التعداد لأتيت عليهم جميعًا، وكثيرًا ما يذكر
المؤلف علماء فن مع علماء فن آخر وشعراء نوع في شعراء فن آخر، وإن
شاء المؤلف أن نفصل له هذا الإجمال، ونذكر من هم الذين عاملهم بهذه المعاملة
فنحن على كتب من إجابته.
* * *
تهافت المؤلف
للمؤلف تهافت وولع بالشيء لا يؤبه له أو بالأمر يناسب مقامًا خاصًّا فيقحمه في
كل مقام، كما فعل هذا في كتابه هذا وغيره في مواضع شتى فمن أمثلة ذلك:
ولعه بمسألة النشوء والارتقاء يقيس بها كل أمر حتى خرج به القياس
إلى عكس ما يراد بها، فذكر في هذا الكتاب صفحة 221 أن اضطراب الخلافة
الإسلامية وانحلالها إلى إمارات وممالك صغيرة متنافسة متشاكسة من دواعي النشوء
والارتقاء، في حين يعده المؤرخون من دواعي الانقراض والفناء، كما هي النتيجة
الحقيقة التي أعقبت هذا الانشعاب، فذلك حيث يقول: فلما اضطربت أحوال الخلافة
في أيام المتوكل ثم نشأت الدول الجديدة في المملكة الإسلامية بالتفرع والتشعب
على مقتضى ناموس الارتقاء تفرق العلماء 000000 إلخ إلخ.
ثم ناقض قوله هذا بقوله في العصر الثاني، أي الذي كان بعد أن
اضطربت الخلافة وحدث الارتقاء، على زعمه: حدث في العصر العباسي
الأول نهضة علمية أعقبها في العصر الثاني فتور على أثر البحران السياسي
الذي أخذ من نفوس رجال الدولة حتى اشتغلوا بأنفسهم عن تنشيط العلم، ثم
ذكر أن بعد هذا الفتور حدثت نهضة لم يبين سببها، وقال: والفاعل في هذه
النهضة ناموس النشوء الطبيعي إلخ. ومن مثل هذه المسألة كثير في الكتاب.
* * *
اللحن والأغلاط اللغوية
لا تكاد تمر بالقارئ صفحة من الكتاب إلا مشتملة على خطأ لفظي إما
في النحو أو الصرف أو اللغة، وكان يجدر بالمؤلف أن يعرض كتبه على ناقد
بصير بصناعة الإعراب حافظ لمستعمل اللغة حتى لا يرذل كتبه النفيسة بهذه
الأغلاط الشائنة.
وإذا كانت هذه الأغلاط تعد بالعشرات بل المئات لا نرى من الواجب علينا
شحن عجالتنا هذه بشيء منها، ولكننا لا نتأخر عن إجابة حضرة المؤلف
إذا أراد تصحيح كتابه مرة أخرى بتعدادها له في فرصة من فراغنا إن سنحت.
* * *
النتيجة
إن الكتاب على ما فيه من مواضع النقد لا يخلو من منافع في موضوعه
وغير موضوعه ونشكر حضرة المؤلف على اهتمامه بخدمة العلم ونسأله
مسامحتنا فيما كتبنا اقتداءً به أو مساعدة له على هذه الخدمة لا غير، وحسبنا
الله ونعم الوكيل.
_________
(*) بقلم الأستاذ الشيخ أحمد عمر الإسكندري.
الكاتب: محمد رشيد رضا
عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية [*]
(1)
(مقدمة وتمهيد)
من الناس من يكتب ليعجب الناس بما يأتي به من زخرف القول،
ومنهم من يكتب ليرضيهم بما يبديه من حسن الرأي، فهذا يفترض حوادث الزمن،
وذاك يرتقب سوانح النكت، ليحل كلامهما محل القبول، ويصيب مواقع
الاستحسان من القلوب، ونسأل الله أن لا يجعلنا منهم.
ومن الناس من يكتب لأجل النفع، بإزالة باطل أو إظهار حق، أو أمر
بمعروف أو نهي عن منكر، فهو يتخول الناس بالموعظة، ويتخونهم بالكشف
عن مكامن العبرة.
ونرجو الله أن نكون من هؤلاء في الدنيا وأن نحشر معهم في الآخرة.
تساءل بعض الناس لمَ كتبتُ تلك المقالات الطوال في المؤيد حين أُوقدت
نار الحرب في طرابلس الغرب وبرقة، ولم أكتب فيه شيئًا في إبان هذه الحرب،
وهي أدهى وأمرّ، وأنكى وأضر؟ ولو تذكروا تلك المقالات لعلموا أنها كتبت في
شأن هذه الحروب وكون تلك المقدمات لها، أي أنها فتح لباب المسألة
الشرقية وتصدٍّ من أوربة لحل هذه المسألة، والقضاء المبرم على ما بقي للمسلمين
من هذه الدولة، فلو وعاها إخواننا المسلمون ووزنوها بميزانها لفكروا في مستقبلهم،
واجتمع أهل الرأي منهم في كل مكان للبحث عن مصيرهم، ولم يرضوا أن تبقى
مصلحتهم العامة في أيدي بعض سفهاء الأحلام، الذين لا يملكون هنا إلا البذاء في
الكلام، وتضليل العامة بالوساوس والأوهام، وكان من ضررهم ما كان، فكيف
بحال أمثالهم في عاصمة الدولة، وقد ملكوا مع هذا كل شيء فدمروا كل شيء.
إنني - وايم الله - لأكتب من أجل الإفادة والنفع، وما اكتفيت في أيام هذه
الحرب بما كتبت في المنار، وأمسكت عن الكتاب [1] في الجرائد اليومية -
وأولاها بما أكتب في هذه الحال: المؤيد - إلا لأنني أرى أن هذه مثل البلاد لا
تستطيع أن تنفع الدولة الآن إلا بالمال. وقد انبرى لجمعه لها أمراؤها فخَفَتَ
لصوتهم كل صوت، وقصر عن قولهم كل قول، وتضاءل دون سعيهم كل
سعي، جزاهم الله أفضل الجزاء، وحسبي من شرف مشاركتهم في ذلك ولو بالاسم
أنني عضو في جمعية الهلال الأحمر فلم يبق من طرق نفع الكلام في هذه الحرب
إلا بيان ما فيها من العبر، وما أدى إليها من الأسباب وما يلزم عن تلك المقدمات
من النتائج، وهذا ما كنت أتربص به أن تضع الحرب أوزارها، لئلا يقال: إنه
ابتسر العبرة فجاءت قبل أوانها، كما قال بعض أصدقائي في مقالة نشرتها في
المنار.
أما وقد عقدت الهدنة، وعين المفوضون للبحث في شروط الصلح، وقد
ثبت خيانة وفساد الاتحاد والترقي للدولة ثبوتًا رسميًّا، وعلم الخاص والعام،
أنها هي علة حرب طرابلس وحرب البلقان، فقد جاء الوقت الذي يرجى أن
ينفع فيه القول، ويخشى أن يضر السكوت، وترجح المقتضي على المانع.
قد كان يكون من موانع الكتابة قلة وجود المتدبرين الذين يميزون بين قول الحق
ويعرفون أهله بأدلتهم وسيرتهم، وبين أقوال المبطلين الذين يغشون الأمة ويغرونها
بتأييدهم للأقوياء الذين ينتفعون منهم، فقد كان زعماء الحزب الوطني
هنا يغشون الناس بالسلطان عبد الحميد الذي باعوه ذمتهم بالرتب والنياشين
والدراهم والدنانير حتى كان بعض زعمائهم يجعل الشهادتين في الإسلام
ثلاثا فأوجب على من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله،
أن يثلث فيقول: وأشهد أن السلطان عبد الحميد خليفة الله. ولولا هذا
التثليث لما انتقل من لقب أفندي إلى لقب بك. ومنه إلى لقب باشا، وما زالت
جريدة اللواء تغش المسلمين عامة والمصريين خاصة بعبد الحميد مدة حياة
مؤسسها وبعد موته إلى ما قبل إعلان الدستور بيوم واحد؛ إذ كتب فيها يوم
الأربعاء طعن شديد في طلاب الدستور من العثمانيين ورمي لهم بأنهم يريدون به
هدم الدولة، وأنبأتنا البرقيات بإعلان الدستور يوم الجمعة.
فلما سقط عبد الحميد ونزا على الدولة بعده أولئك الأغيلمة المتخرجون
في ملاهي غلطه وبيوغلي وسلانيك وباريس، وأفسدوا كثيرًا من ضباط
الجيش، وجعلوا بقوتهم الدستور آلةً لتفريق عناصر الدولة وذريعة لمحو
اسمها من لوح الوجود، قام أنصار عبد الحميد هنا وفي بلاد أخرى ينصرون
هؤلاء المتغلبين المخربين، ويغشون الأمة بهم كما كانوا يغشونها به وأشد،
وكان يصدقهم في إطرائهم كثير من الناس مع بيان جرائد الأمم كلها لمفاسدهم،
بل مع ظهور هذه المفاسد بالفعل، إلى أن أبكم الله ألسنتهم قبل ثبوت خيانة
مستأجريهم للدولة ثبوتًا رسميًّا، وتنكيل الحكومة السلطانية بهم وتمزيقها
لشملهم، ولعله لو بقي لهم لسان ينطق، وقلم يكتب وينشر، لم يخجلوا من
الاستمرار على التمويه والتضليل، إذا كان أملهم بعودة الجمعية إلى استبدادها
باقيًا، أو إمدادها لهم لا يزال متصلاً، ويا حسرتى على شبان هذه البلاد،
الذين خدع كثير منهم بهؤلاء المفتونين بالمال والشهوات والشهرة الباطلة والأوهام
المضللة.
نعم إن رواج التغرير والتضليل في سوق السياسة وقلة التمييز بين المحق
والمبطل، والصادق والكاذب، قد يكون مانعًا من التصدي للكتابة لولا أن الله
أوجب النصح وبيان الحق، وحرم القنوط واليأس، وجعل العاقبة للمتقين.
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
(جمعية الاتحاد والترقي)
إنني أعرف من أمر هذه الجمعية ما لا يعرفه أحد في القطر المصري، وقد
بلوناها واختبرناها في الآستانة مدة سنة كاملة، رأيت من زعمائها وسمعت من
ألسنتهم ورويت عنهم بالأسانيد العالية المتصلة بهم، ما لا يتفق مثله إلا لقليل
من الناس، ثم أيدت أحاديث جرائد العالم وحوادث الدهر ووقائعه ما
علمته عنهم، فأنا أروي ما تؤيده الأحاديث والحوادث، وأستخرج العبرة منه
ليعلم أولو الغيرة على هذه الدولة التي لم يبق للمسلمين غيرها أين مكانتها،
وما هو الخطر الذي ينذرها، لعل ذلك يكون مما يستبين به أولو الرأي ما يجب
لحفظ سلطة الإسلام، المهددة بالزوال والانقراض والعياذ بالله.
أبدأ بذكر أهم الوسائل التي شرع الاتحاديون فيها ولا أذكر مقصدهم الذي
يتوسلون إليه بتلك الوسائل الآن؛ لأنه لا يصدقه غير العارف بحقيقة أمرهم،
إلا إذا اطلع على المقدمات والوسائل التي أذكرها؛ لأنه مقصد غريب في نفسه.
…
...
…
... أعمال الاتحاديين
التي كانت مقدمات الخذلان في الحرب
(إزالة قوة المسلمين غير الترك من الدولة)
أول ما قرر زعماء هذه الجمعية البدء به من الأعمال، بعد ما عنوا به من
جمع الأموال بضروب من القوة والاحتيال هو إزالة كل قوة في هذه الدولة.
حدثني غير واحد في الآستانة من الترك وغير الترك من العثمانيين
وبعض الأجانب والعارفين بأمور الدولة أن من برنامج جمعية الاتحاد والترقي أن
تجمع السلاح من الأرنؤط وتضربهم ضربة شديدة، ثم تجرد جيشًا آخر أو
جيوشًا لضرب العرب في اليمن وعسير، وعشائرهم وعشائر الدروز في
حوران وجنوب بلاد الشام ثم العراق، وتجمع السلاح من الجميع، وسأذكر ما قرر
في شأن طرابلس بعد، وبعد هذا وذاك تجرد جيشًا آخر على الأكراد تذللهم وتجمع
السلاح منهم، فإذا هي جمعت السلاح وأخضعت لهيبتها أولي القوة والبأس من
المسلمين، يسهل عليها أن تنفذ مقصدها بلا معارض ولا منازع.
قررت جمعية الاتحاد والترقي تنفيذ هذه المادة من برنامجها ولم تفكر في
عواقبه، لم تفكر في عجز الدولة عن حماية هذه البلاد إذا كانت مجردة من
القوة الذاتية، ولم تفكر فيما تخسره في قتال هذه الممالك من الأموال التي تأخذها
من أوربة بالربا الفاحش، ومن الجنود المنظمة التي تحتاج إليها للدفاع عن الدولة
وحفظ سلطانها، ولا فيما ينشأ عن هذا القتال من الفتن، وتفرق عناصر الدولة
وانحلال روابطها.
بدأت الجمعية بقتال الأرنؤوط وأنا في الآستانة فبذل مبعوثو هذا الشعب
جهدهم في إصلاح حال الجمعية بأن يتوسلوا إلى حل مسألة الأرنؤط بالنصح
والسلم فلم يقبلوا، وأظهروا الاحتقار بهؤلاء المبعوثين حتى أنهم صفعوا
إسماعيل كمال بك الزعيم الشهير في مجلس الأمة، ومن غرائب صنعهم أن
جمعوا ما قدروا على جمعه من سلاح المسلمين ولم يعيدوه إليهم، ولكنهم
أعادوا السلاح إلى الماليسوريين لأنهم نصارى، فانظر كيف كان عاقبة أمرهم،
وكيف ظهر أنه يجب عليهم أن يسلحوا جميع مسلمي تلك البلاد ويدربوهم
على الفنون العسكرية لأجل الدفاع عنها، ويؤلفوا منهم عصابات كعصابات البلغار
وغيرهم، ولو فعلوا ذلك لنفع الدولة في هذه الحرب نفعًا عظيمًا.
ثم فعلوا فعلتهم في اليمن وعسير، وفي الكرك وحوران، فقد جردوا لقتال
المسلمين في هذه البلاد زهاء مائة ألف جندي من أحسن جنود الدولة النظامية
أو أحسنها على الإطلاق، قتل منهم في اليمن ألوف كثيرة وبقيت مسألة اليمن كما
كانت. ولكن خربوا بلادًا كثيرةً منها ومن بلاد الكرك وحوران ولم تستفد الدولة في
مقابلة هذا التخريب والخسران شيئًا، ولو تم لهم ما أرادوا من جمع السلاح من بلاد
اليمن لاستولت عليها إيطالية في السنة الماضية وقتلت من فيها من العسكر؛ لأن
الدولة ما كانت تستطيع أن ترسل إليها مددًا، ولو ظل أولئك الجنود في معسكرهم
لرجحت الدولة على البلقانيين بهم.
والآن يتحدث الناس فيما ذكرته الجرائد الفرنسية عن سورية ومصالح
دولتها فيها، والظاهر أن المراد به اختبار رأي الدول في أمر استيلائهم عليها،
وقد عرف بالقياس على مسألة طرابلس الغرب ومسألة البلقان أن الدولة لا
تقدر على حفظ سورية إلا إذا كان فيها قوة ذاتية تخشى الدول العظمى بأسها،
ولا يمكن أن تأتي هذه القوة من الرومللي ولا من الأناضول، بل يجب أن
تكون مؤلفة من الجند النظامي والاحتياطي الذي فيها، ومن قبائل العرب
والعشائر الوطنية والمجاورة، وهؤلاء هم الذين يخشى الأجانب من جانبهم إذا
كانوا مدربين على القتال ما لا يخشونه من الجند الرسمي؛ لأن قتالهم يكون
بالمطاولة لا بالمناجزة، فالخسارة فيه عظيمة، وإنما هؤلاء الأجانب تجار
يطلبون الربح من أقرب طرقه، وأشدهم اتقاء للقتال أعظمهم توغلاً في
الاستعمار كإنكلترة وفرنسة.
ولعل إيطالية لا تعود إلى مثل غلطها في طرابلس الغرب، بل أظن أن
البلغار قد ندمت على تهورها في طلب أمنيتها على ما أتيح لها من الظفر
بتخاذلنا وإهمالنا، وأنها لا تعود إلى مثله.
ظهر ضرر هذا العمل السيئ الذي شرع فيه الاتحاديون، وظهر أنه كان
الواجب المحتم أن يعملوا ضده، وأن يجعلوا في كل قطر من هذه الأقطار قوةً
أهليةً تساعدها الدولة وتؤهلها للدفاع عن قطرها، فهل يعتبر الناس بهذا
ويسعون للواجب من جميع الطرق، هل يعتذر عنه الاتحاديون ويندمون عليه،
هل يسكت عن الاعتذار لهم مأجوروهم والمغرورون بهم؟
كلا إننا قرأنا في جرائد أمس أن زعماءهم لا يخجلون من الإصرار على
التبجح بقتال الدولة - أو الحكومة الاتحادية - للأرناؤوط، وإن ظهر أن ذلك
كان مصابًا كبيرًا على جمعيتهم من جهة، وعلى الدولة نفسها من جهة أخرى،
وهاك شاهدًا مما نقلته إحدى جرائد الآستانة عن أحد زعماء الجمعية الذين
فروا في هذه الأيام إلى أوربة:
كتب صاحب جريدة أقدام التركية من سويسرة إلى جريدته في الآستانة
يقول: إنه قرأ في جريدة بسترلويد حديثًا دار بين مكاتب هذه الجريدة مسيو
رالي وبين جاويد بك أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان ناظر
المالية في أهم وزاراته، سأل ذلك المكاتب جاويد بك عن أسباب انكسار
الجيش العثماني وخذلانه في البلقان، فكان الجواب بعد مقدمة فيما ينقص
الجيش وفي معداته ما خلاصته:
(إننا كنا هيأنا كل شيء وأنفقنا على ذلك أربعين مليون ليرة في السنوات
الأربع الماضية، ولقد ظهر كل هذا في تجهيزنا الحملة على بلاد الأرنؤوط
ومحاربتنا لتلك البلاد، أما أسباب فشلنا العظيم فترجع إلى تنظيم رجال جدد لم
يطلعوا على الترتيبات) .
فليتأمل العقلاء كيف اعترف الزعيم الاتحادي الذي كان ناظرًا للمالية
بأنهم صرفوا على الجيش أربعين مليون ليرة، وكيف يتبجح بأن ثمرة تنظيمهم
للجيش وإنفاقهم عليه قد ظهرت في قتالهم لطائفة من رعية الدولة المخلصة لها،
أهذه هي غاية استعداد الدولة الحربي أيتها الجمعية الدستورية المصلحة؟
أتعدون منتهى شوطكم أن تأخذوا أبناء الأمة وأموالها وتحملوها الديون التي
تذلها للأجانب لأجل أن تقاتلوها به وتذلوها وتدمروا بلادها؟ ألا فليعتبر المعتبرون،
أو ليأتينهم العذاب وهم ينظرون.
(2)
تهييج عصبية العناصر العثمانية
كان الناس يفهمون من اسم جمعية الاتحاد والترقي أنها جمعية غرضها
أن تجعل بين العناصر العثمانية وحدة سياسية اجتماعية بالمساواة بين الترك
وغيرهم في الحقوق الشخصية والحقوق العامة كمناصب الدولة ووظائفها، وأن
هذا هو المراد من كلمة الاتحاد الذي يتبعه الترقي في العمران، وما يتوصل به
إليه من العلوم والفنون. فلما صار النفوذ في هذه الجمعية لأمثال الدكتور ناظم
وطلعت وجاويد ورحمي وجاهد وأضرابهم، ظهر للباحثين، والمطلعين من
العثمانيين والأجانب أن مرادهم بالاتحاد أن تدغم العرب والأرنؤوط والكرد وغيرهم
في الترك، وتفنى لغاتهم وجنسياتهم فيهم فيكون جميع العثمانيين تركًا.
كنا في طليعة مَن كتب في هذه المسألة ببيان فوائدها وغوائلها ومقاصدها،
ووجوب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ومن أوسع ما كتبناه في
ذلك بيانًا مقالة فلسفية اجتماعية عنوانها: الجنسيات العثمانية واللغات
التركية والعربية، نشرت في منار رجب سنة 1327 أي بعد الدستور بسنة
واحدة، بينا فيها بالدلائل والحجج القيمة أن محو جنس من البشر بإدغامه في
جنس آخر قد صار في هذا العصر محالاً، وأن الدولة العثمانية لا تستطيع أن
تجعل غير الترك فيها تركًا، وأنها لو كانت تستطيعه لعذرتها عليه سياسة لا
دينًا، لأنني وأنا مسلم أرى أن الإسلام لا حياة له إلا بحياة اللغة العربية،
وإنما حياتها بجعلها لغة الخطاب والعلم عند أهلها، ولكن زعماء الجمعية
المغرورين الأغرار كانوا يرون أنفسهم قادرين على المحال.
لا عجب ولا غرابة في الأمر، فإن أولئك الزعماء إذا لم يسمعوا حجج تلك
المقالة ولم يشعروا بها فقد كان لهم على غرارتهم مانع من نشوة الغرور بخضوع
العثمانيين لهم، وتقديسهم لجمعيتهم، وإفاضتهم الدنانير والدراهم عليهم، ومن سكر
الإعجاب بثناء الجرائد الأوروبية على رجال الانقلاب العثماني، وإن كان المستحق
لهذا الثناء هو صادق بك والضباط الذين اتبعوه من دونهم، ولكن العجب والغرابة
في استمرار أكثر العثمانيين على الاغترار بهم بعد السنة الأولى للانقلاب، وأعجبه
وأغربه ما كان من العرب الذين لم يهتم بهم الاتحاديون بشيء اهتمامهم بمحو لغتهم
وإزالة جنسياتهم، أو إضعافها وإنهاك قواها ليستريحوا من إدلالهم بالكثرة والدين
الذي يخيفهم منه على السلطة التركية ما في كتب العقائد وكتب الحديث من كون
الخلافة في قريش والأئمة منهم، وإن لم ينازعهم العرب في جعل الخلافة فيهم.
وكل ما يوجد من هذا القبيل فيما نعلم أن بعض أصحاب الدسائس والمطامع
في مصر كانوا يستغلون وسواس السلطان عبد الحميد فيوهمونه أن للعرب
جميعة أو جمعيات تسعى للخلافة سعيها، فكان بعضهم يرسل التقارير السرية
إلى المابين في ذلك حتى تجرأ مصطفى كامل على الجهر بالإرجاف بهذه
الفتنة في لوائه، في أول العهد بإنشائه، وكبر الوهم فيها وعظمه بزعمه أن
بعض الأمراء يساعد هؤلاء الساعين على سعيهم.
وقد أنكرنا على اللواء الإرجاف بهذه الفتنة في المجلد الثاني من المنار
فكان إنكارنا هذا هو السبب الأول في طعن ذلك الرجل وأخلافه فينا (كما أنكر
المؤيد عليه ذلك مرارًا) .
فلما زالت سلطة عبد الحميد ودالت الدولة لفتيان الترك الأحرار الذين كنا
نسعى معهم سعيًا واحدًا إلى إزالة الاستبداد السابق ظننا أننا استرحنا من
الدسائس التي يروجها المفسدون في سوق الوساوس، ولكن رأينا زعماء
جمعية الاتحاد والترقي لم يدعوا سيئة من سيئات العهد الحميدي إلا وأعادوها
جذعةً، فهم بعد أن أرسلوا مفتشيهم وجواسيسهم إلى جميع البلاد العربية حتى
الحجاز فلم يروا من العرب إلا الإخلاص الكامل للدولة، ولم يشموا في بلادهم
أدنى رائحة لشيء يسمى الخلافة العربية، وبعد أن أغروا شريف مكة بابن
سعود، وإمام اليمن بالسيد الإدريسي، وليس عند العرب قوة حربية تذكر إلا
ما عند هؤلاء، وبعد أن رأوا جميع كتاب العرب في مصر وسورية والعراق
يثنون عليهم ويدافعون عنهم، وليس عند العرب قوة أدبية إلا ما عند هؤلاء،
بعد هذا كله رجحوا سعاية المفسدين من البراهين الحسية، وأصغوا إلى
المرجفين بالخلافة العربية، فتقرب شياطين العهد السابق وأخلافهم إليهم، إذ
رأوهم يحسبون كل صيحة عليهم، وعاد محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز
شاويش إلى مثل إرجاف سلفهما مصطفى كامل بهذه المسألة فأعادوها في
جريدتهم (العلم) سيرتها الأولى في جريدته (اللواء) .
ولما كان الشيخ عبد العزيز شاويش أشد غلوًّا وتهافتًا من مصطفى كامل،
لم يكتفِ باتهام جماعة الدعوة والإرشاد بهذه التهمة، بل طعن في جميع مسلمي
العرب فكتب في جريدة (العلم) أن الدولة العلية لا يخشى عليها من البلغار ولا
من الروم ولا من الأرمن ولا من نصارى العرب، وإنما يخشى عليها من مسلمي
العرب خاصة.
ولأجل هذا الغلو قربته جمعية الاتحاد والترقي منها، وجعلته من دعاتها
وأعوانها، وأنشأت له مطبعة وجريدة يومية في الآستانة كانت تنفق عليها من
مال الحكومة زهاء 350 جنيها عثمانيًّا في كل شهر.
ثم جاءت الحوادث تكذب هذا الإرجاف؛ فإن الحكومة الاتحادية حاربت
عرب اليمن، ونكلت بعرب حوران والكرك، وعَرَّضَتْ عرب طرابلس
الغرب لنيران إيطالية، ومع هذه كله لم يزدد العرب إلا تعلقًا بالدولة وإقدامًا
على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيلها. وما رأينا من الأمراء الذين أرجف بهم
اللواء أولاً والعلم ثانيًا والهلال العثماني ثالثًا ـ إلا النجدة العالية للدولة
والمساعدة التامة لها، وهي في أحرج مواقفها، وبعد هذا كله ترى كثيرًا من
الناس لا يفقهون ولا يعتبرون، ولا يميزون بين المصلحين والمفسدين.
نعم كان العرب قد ظلوا على إخلاصهم للدولة ولكنهم ليسوا حجارةً ولا
حديدًا فتمر عليهم هذه الكوارث ولا تؤثر في نفوسهم، إلا أنها أثرت شر تأثير،
وهو أن اليأس من الدولة قد دب دبيبه إلى قلوبهم وخصوصًا بعد حمل
الجمعية مولانا السلطان على حل مجلس المبعوثين الذي ضعفت فيه السلطة
الاتحادية، وتأليفهم مجلسًا جديدًا بقوة الحكومة بعد الضغط على الصحف وحرية
الاجتماع وغير ذلك.
يئسوا من عد الدولة إياهم عضوًا صحيحًا منها كإخوانهم الترك أولاً، ومن
إصلاح الدولة ثانيًا، ومن بقائها ثالثًا، إلا أن تزول منها مفاسد الاتحاديين وتنشأ خلقًا
جديدًا. ومن العجائب أن يئوسهم هذه لم تدفعهم إلى القيام بمشروع ما لحفظ وجودهم
وحفظ سلطة الإسلام في الأرض، بل ظل لسان حالهم يقول: إن بقيت الدولة نعيش
معها بعز أو ذل كيفما اتفق لنا، وإن ماتت نموت معها، ولا خير لنا في الحياة
بعدها.
وإنني أذكر من شواهد اليأس الأول من هذه اليئوس ما سمعته من أحد
أفراد حزب الاتحاد والترقي من العرب بعد استعراض الجيش العثماني في
روابي الآستانة أمام ملك البلغار سنة 1328 وكنت حضرت هذا الاستعراض
في خيمة المبعوثين، فلما انتهى وأردنا الذهاب قال لي ذلك المبعوث
العربي الاتحادي: متى يكون لنا جيش منظم مثل هذا؟ فكانت هذه الكلمة كجذوة
نار وقعت في قلبي؛ إذ علمت أن هذا المبعوث الذي كنا نعد وجود مثله في
الاتحاديين سببًا لحسن الظن بهم، قد أداه اختباره الصحيح لهم إلى الاعتقاد بأن
جيش الدولة ليس جيشًا لنا، وإنما هو الغالب علينا.
هنا يخطر ببال كل قارئ هذا السؤال: إذا كان هذا هو اعتقاد هذا
المبعوث في الجمعية فلم بقي فيها؟ وعندي جواب هذا السؤال؛ فإني كنت ألقيته
عليه قبل تلك السنة التي قال فيها كلمتة النارية، فقال: اسكت إنني علمت أن
زعماء هذه الجمعية إذا أحسوا بأن أمر الدولة أشرف على التفلت من أيديهم
فإنهم يعرضونها للزوال دون ذلك، ولهذا أرى أن بقاءنا معهم خير من تركنا
إياهم.
هذا بعض تأثير تهييج الاتحاديين للعصبية الجنسية ومحاولتهم تتريك
العناصر حتى العرب الذين هم أخلص المخلصين للدولة، وقد ظهر صدق
إخلاصهم لها بالبرهان والعيان.
وناهيك بكفاحهم في طرابلس الغرب وبلائهم في هذه الحرب، وهل يخفى
على بصير ما لليأس من الغوائل وسوء العواقب. وأما تأثيره في نصارى أوروبة
العثمانيين من البلغاريين واليونانيين والمصريين، فهو الذي أوقد نار هذه
الحرب، وكان أكبر شرها وويلها على الترك والمستتركين الذين هضم الاتحاديون
حقوق جميع العناصر وقصدوا إذلالها بجهلهم، وما كان أغناهم عن ذلك.
كان المفتونون بخداع الاتحاديين من مسلمي العرب يخطئون أهل
البصيرة من إخوانهم إذا طالبوا الدولة بالعناية بتعليم اللغة العربية في مدارسها،
وجعل القضاة والحكام في الولايات العربية من العارفين بلغة أهلها، وما
كان من حجتهم إلا أن قالوا: إنكم إذا طلبتم هذا فتحتم الباب لنصارى مقدونية
لطلب مثله لأنفسهم، ظانين أن رضانا بهضم حقوقنا يكون سببًا لرضاء أولئك
بمثل ما نرضى به وبدونه، جاهلين أنهم لا يرضون بمثل تلك الحقوق التي
يحملوننا على السكوت عن طلبها، وإن كان صلاحنا وصلاح دولتنا لا يكونان
إلا بها، وإنما وجهتهم انفصال ولاياتهم من الدولة ألبتة، واتصال كل شعب
منها بالدولة التي هو من جنسها.
بل جهل هؤلاء المفتونون بخداع الاتحاديين أنه لولا نصارى الولايات العثمانية
الأوروبية لما خطر في بال أحد من رجال دولتنا وإخواننا الترك فكرة الحكومة
النيابية.
ولا حاجة إلى شرح هذه المسألة الآن، وإنما موضع العبرة الذي اقتضت
الحال بيانه هو أن جمعية الاتحاد والترقي جعلت الدستور خدعةً لهؤلاء الناس
وللدول التي تنتصر لهم.
وأما مسلمو العثمانيين من العرب والأرنؤوط والأكراد فلا قيمة لهم
عندها؛ لأنها تعتقد أنها تدبر أمرهم بالقوة القاهرة، فكان غرورها هذا مهيجًا
لهؤلاء النصارى وحاملاً إياهم على الحرب الحاضرة بعد أن رأوا الجمعية
نفرت جميع العثمانيين من الدولة وأضعفت ثقتهم بها، وأحدثت مفاسد أخرى
أضعفت قوتيها: المادية والمعنوية، وهو ما بينا بعضه في المقالة الأولى،
وسنبين بقية المهم منه في المقالات الأخرى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نشرناها أولاً في المؤيد.
(1)
هكذا في الأصل والمقصود الكتابة.
الكاتب: عناية الله أحمدي
أحوال مسلمي الصين
(مسلمو مدينة نانكين في الصين)
نانكين مدينة من كبريات المدن الصينية المشهورة بتجارتها، سكان هذه
المدينة زهاء مليون نسمة، والمسلمون منهم مقدار مسلمي بكين في الكثرة،
ومنهم أناس أولو ثروة طائلة وتجارة كبيرة، وهم أرقى مسلمي الصين على
الإطلاق في دنياهم؛ إذ أكثر الموظفين في دوائر الحكومة منهم، وكذلك منهم
أكثر المعلمين في المدارس، ويعد المسلمون في هذه الولاية أرقى علمًا وفكرًا
من سائر أهلها، ولكن لبعدهم عن العاصمة (مدينة بكين) التي هي مركزهم
الإسلامي لا يعرفون من الإسلام غير كلمة التوحيد والسلام، والمستنيرون
منهم قد عرفوا أخيرًا أي: بعد حصولهم على الحرية - وجوب تربية أولادهم
على روح الإسلام، فأسسوا في مدنية نانكين جمعية باسم: جمعية نشر
الإسلام والمعارف.
لهذه الجمعية مقاصد أحدها: بيان حقيقة الجمهورية للمسلمين والدلالة على
طرق الاستفادة منها، ولذلك يطبعون رسائل مختصرة في لغة الصين وينشرونها
بين المسلمين في البلاد والقرى ويخطبون بذلك في المجامع، وأكثر ما يهتمون
به هو شئون الانتخابات، يجتهدون كثيرًا في انتخاب نواب الولاية من الذين يحبون
الإسلام ويسعون لخير المسلمين.
ثانيها: افتتاح المكاتب الابتدائية والرشدية في أحياء المسلمين كلها، ونشر
لسان العرب وبيان حقيقة الإسلام للأهالي، وتكثير سواد المسلمين الحقيقيين.
ثالثها: الاجتهاد في محو العادات والأخلاق الفاسدة المتمكنة من المسلمين،
وافتتاح المكاتب الصناعية لإزالة الكسل والفقر منهم. ومسلمو الصين لجهلهم
وتعصبهم المفرط لعوائدهم لا يشتغلون بما يشتغل به الوثنيون من الصناعات
فيستنكف أحدهم أن يكون حدادًا أو خياطًا أو ساعاتيًّا مصلحًا للساعات؛ لأن
الوثنيين يشتغلون بهذه الصناعات وينفرون ممن هذه صناعته من المسلمين.
فبجهلهم هذا وتعصبهم الزائد صارت منزلتهم في التجارة والصناعة
متأخرة جدًّا بالنسبة إلى غيرهم، وبلغوا نهاية قصوى من الفقر، وبسعي هذه
الجمعية أخذوا يتعلمون في المدارس الصناعية ويشتغلون ببعض الصناعات
كالخياطة.
ومن مقاصد الجمعية أيضًا السعي في انتخاب العلماء لمنصب الإمامة في
المساجد من الذين يستحقونها.
والحاصل أن مقصد الجمعية السعي في ترقية المسلمين وإزالة أسباب الفقر
وفساد الأخلاق من بينهم، وإنقاذهم من المهانة في الدنيا والخسار في الآخرة،
والجمعية تفتح أيضًا شُعبًا لها في ولايات خانقو شانغاي، وسيجوان، وأرسلت نور
الدين أفندي وثلاثة آخرين من زعمائها إلى تلك البلاد للتشاور بينها وبين مسلميها
واختيار أعضاء منهم للجمعية، ولها الآن أكثر من عشرة آلاف عضو في مدينة
نانكين وولايتها.
فإذا اجتهد مسلمو الصين على هذه الكيفية من غير فتور يرجى أن يرتقوا
في مدة يسيرة.
…
...
…
...
…
...
…
(ع. أحمدي)
…
...
…
...
…
(مترجم من جريدة (وقت) عدد 1050)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ)
هذا الكتاب من تصنيف أحد علماء اليمن المجتهدين، الشيخ صالح
مهدي المقبلي المتوفى سنة 1108، وكان في الأصل على مذهب الزيدية
ولكنه قرأ كتب الكلام والأصول وعرف مذاهب الفرق كلها وكتب التفسير
والحديث وسائر العلوم، وطلب بذلك الحق ومرضاة الله تعالى، فانتهى به ذلك
إلى ترك التمذهب وقبول الحق الذي يقوم عليه الدليل، وقد شهد له الإمام الشوكاني
بالاجتهاد المطلق، وهو يشرح في هذا الكتاب أمهات المسائل التي وقع الخلاف
فيها بين المذاهب الشهيرة كالأشعرية والمعتزلة وأهل السنة والشيعة الزيدية
والإمامية وكذا الصوفية. ويبين ما يظهر له أنه هو الحق ولا يتعصب لمذهب
على مذهب، وهذا هو مراده الذي يدل عليه اسم كتابه.
وقد توسع في الكلام على مسائل التحسين والتقبيح العقليين، والكسب
والاختيار والجبر، وأفعال الباري تعالى وأفعال العباد، ورواية الحديث
ونقدها، والجزاء والتوبة، وافتراق المسلمين والفرقة الناجية المشار إليها في
الحديث، والطائفة التي تبقى ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها فيه،
وعنده أن أهل الحق يكونون من مجموع المسلمين لا من أهل مذهب معين،
وبيَّن في هذا المقام مفاسد الخلاف بين المسلمين ومضاره، ومسألة وحدة
الوجود وحقيقة حالة أهلها، ولا تكاد تجد كتابًا منشورًا تعرف منه حقيقة
مذهب المعتزلة والزيدية غير هذا الكتاب، ومنه تعلم أن أكثر ما تجده في كتب
العقائد المتداولة من مذهب المعتزلة خطأ؛ لأنه مِن نقل المخالفين لهم نظروا
إليه بعين السخط، ونقلوه بالمعنى لا بالنص، وتصرفوا فيه كما فهموا، وبهذا
يتجلى لك صدق قول العلماء من أن نقل المخالف لا يعتد به.
كان هذا الكتاب من الأسرار والمخبآت يكتمه كل من يظفر بنسخة منه
إعجابًا به وخوفًا من الناس أن يشنعوا عليه؛ لأنه يخالف كل مذهب من
المذاهب في بعض المسائل، وإن لم يخرج عن مجموعها في شيء، وهو شديد
الحملة على ما يعتقد بطلانه، قوي الإنكار لا يتحامى التشنيع والنبذ بالألقاب
المنكرة، فهو في هذا الخلق يشبه الإمام ابن حزم الذي هجر جمهور الناس كتبه
في الأصول والفقه لشدة إنكاره على مخالفيه من أئمة الفقهاء، ونبزهم بلقب
الجهل وما أشبهه من الألقاب، ولولا ذلك لاشتهرت كتبه وأخذ الناس
بها، وترك كثير منهم مذاهبهم إليها؛ لأنها في الذروة العليا، كما شهد بذلك سلطان
العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام الشهير إذ سئل عن أحسن ما كتبه المسلمون
في الفقه فقال: (المحلى) لابن حزم و (المغني) للشيخ الموفق، وأنا أرى
أن كتب ابن حزم هي أكبر وأوسع مادةً استمد منها شيخا الإسلام ابن تيمية وابن
القيم. ولكنهما كانا أنزه قلمًا وأشد أدبًا مع الأئمة.
فكتاب (العلم الشامخ) ككتاب (المحلى) هو من الكتب التي يستفيد منها
العلماء الخواص أصحاب العقول والأفهام المستقلة والصدور الواسعة، وقد نقل
عنه شيخ الأزهر العطار الشهير في حاشيته على الجلال المحلي، فدل ذلك
على أن الكتاب كان يتداوله العلماء ويتناسخونه كما كانوا يتناقلون قبل ذلك
كتب ابن حزم.
وقد تصدى لطبع هذا الكتاب منذ ثلاث سنين بعض الشرفاء والفضلاء
الحجازيين والسوريين بعد أن استنسخه بعضهم من مكتبة حسين حسني أفندي
الذي كان شيخَ الإسلام في دار السلطنة، ولما قيل له: إننا نريد طبعه، قال:
ومن يتجرأ على طبعه؟ ومن عاش معظم عمره في حجر السلطة الحميدية
تحيط به جواسيسها لا يبعد منه أن يقول مثل هذا القول، على أنه رحمه الله
كان من أوسع علماء الآستانة صدرًا، وأشدهم تسامحًا، وكان معجبًا بالكتاب
ضنينًا به، ولكنه سمح بنسخه، ولو علم بما يطبع في مصر من كتب الفِرق
والجدل، ومن كتب دعاة النصرانية، لرأى الفرق الكبير بين مصروالآستانة
حتى في عهدها الذي يسمى الدستوري.
طبع الكتاب مع زوائده: (الأرواح النوافخ لإيثار آثار الآباء والمشايخ)
الذي أوضح به مسائله وفند به كلام من أنكر عليه بعضها، ووضعت له عدة
هوامش فيها انتقاد على المؤلف بعضها من النسخة الأصلية يوشك أن تكون
للمحقق الشوكاني.
وهو مطبوع على ورق جيد وصفحاته تناهز 800 صفحة، ولهما
فهرس واسع جدًّا مرتب على حروف المعجم، وثمن النسخة منه 25 قرشا،
وأجرة البريد للخارج خمسة قروش، وللقطر المصري 25 مليما، وهو يطلب
من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر.
***
(رسالة بغية الراغبين، وقرة عين أهل البلد الأمين، فيما يتعلق بعين
الجوهرة السيدة زبيدة أم الأمين)
تأليف العالم الفاضل السيد عبد الله بن السيد محمد صالح الزواوي الحسني
الإدريسي المدرس بالمسجد الحرام ورئيس لجنة عين زبيدة
رسالة تشتمل على ذكر أحوال عين زبيدة التي يستقي منها أهل البلد
الحرام (مكة) والوافدون لحج البيت العتيق مع بيان التصليح والترميم مما
أحدثته اللجنة المشكلة تحت رعاية صاحب السيادة والدولة أمير مكة المعظم،
ورئاسة مؤلف هذه الرسالة، ثم بيان خطط البلد الأمين.
وقد تبرع السيد عمر الخشاب الكتبي بطبع هذه الرسالة؛ إعانةً على
المشروع الجليل النفع، العميم الفائدة، ومن يطلع على هذه الرسالة يعلم أن
إعانات عين زبيدة إنما أنفقت في طريقها وعلى وجهها، فنشكر للمؤلف سعيه
في سبيل الله وخدمة بلده الحرام.
…
...
…
...
…
***
…
...
…
...
…
(كفاية الطالبين لرد شبهات المبشرين)
تأليف الشيخ محمد عبد السميع الحفناوي مدرس اللغة العربية بالمدارس الحرة
صفحاته 133 بقطع، (الإسلام والنصرانية) ، مطبوع بمطبعة أبي الهول
بالقاهرة سنة 1330 على ورق نظيف متوسط ثمنه ثلاثة قروش، ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
موضوع الكتاب الرد على دعاة النصرانية، وقد أبطل المؤلف به ادعاء
النصارى كون كتبهم كتبت بإلهام من الله، وبيَّن اختلافاتها وأغلاطها وأنحى
على عقيدة التثليث ببراهين وأدلة عقلية، وكذلك فعل في نفي الشريك والولد
عن الله تعالى، وفي إبطال ما يتمسك به النصارى من صلب المسيح، وتكلم
على حقية القرآن ووجوه إعجازه، وفي نبوة سيد الأنبياء صلى الله عليهم وسلم
مستدلاًّ على ذلك بنصوص كتبهم التي يسمون مجموعها الكتاب المقدس، ورد
شبهات أولئك الدعاة، وختم الكتاب بمقابلته بين آيات من القرآن الشريف
وجمل من العهد العتيق والعهد الجديد.
***
(كتاب أمراض النساء)
تأليف الدكتور نجيب بك محفوظ الطبيب بمستشفى القصر العيني صفحاته
176 بقطع، (الإسلام والنصرانية) طبع بمطبعة التوفيق، ويشتمل على 45
شكلاً من أشكال الأعضاء والأدوات، يباع بعشرين قرشًا في المكاتب الشهيرة
بمصر.
هذا الكتاب من الكتب العلمية السهلة الفهم التي تفيد مطالعتها الخاصة
والعامة خصوصًا الذين يتعلمون الجراحة بغير اللغة العربية، فنشكر لمؤلفه
على اجتهاده ونتمنى لكتابه الانتشار ليعم نفعه.
***
(كتاب الفتوحات الإلهية في مجمل العلوم الأزهرية، وكتاب التسهيلات
الإلهية في أصول الحنفية والشافعية)
كلاهما تأليف الشيخ أحمد بن محمد درويش القاضي الشرعي وأحد علماء الأزهر
طبع الكتابان في القاهرة بمطبعة مقداد، على ورق نظيف بقطع المنار،
صفحات الأول منها 27، تكلم فيه مؤلفه في تعريف أشهر العلوم الأزهرية
تعريفًا أزهريًّا مصطلاحيًّا، وبيان موضوعاتها وفوائدها ومسائلها، وصفحات
الثاني 200 واسمه يدل على موضوعه، ويطلبان من مكتبة المنار بمصر.
***
(حكم النبي محمد)
للفيلسوف تولستوي
تعريب سليم أفندي قبعين، صفحاته 77 بقطع تفسير الفاتحة، مطبوع
بمطبعة التقدم بمصر، ويطلب من مكتبة المنار وثمنه قرش واحد صحيح.
بحث مؤلف هذا الكتاب في حالة المسلمين الدينية في روسية وشرح ما
قاسوه من الاضطهاد بسبب دينهم، وما منحهم إياه القيصر نقولا الثاني من
حرية عود المتنصرين جبرًا إلى دينهم، ومن حرية المدافعة عن الدين، ونشر
الجرائد بلغة المسلمين إلى غير ذلك، ثم استطرد إلى بيان أخلاق المسلمين
وتعظيم القرآن للمسيح وأمه، وأفرد فصلاً للكلام على النبي محمد صلى الله
عليه وسلم، تكلم فيه عن حالة العرب قبل ظهور الإسلام، وأورد آيات من
القرآن للحكم على الدين الإسلامي فيها بالتوحيد الخالص والأحكام العمومية،
وأبان ما كان للدين الإسلامي من الأثر الصالح في العالم.
وأورد طائفة من الأحاديث النبوية في الأحكام والحِكم ومكارم الأخلاق،
وتكلم على الحجاب وبيَّن مفاسد التهتك إلخ، ولكن فيها شيئًا من الغلط ومن
التحريف المطبعي، ولو قوبلت الحِكم بأصلها من القرآن والأحاديث لكان أقوم
قيلاً.
***
(أمالي الشيخ علي عبد الرازق من علماء الأزهر في علم البيان)
صفحاته 122 بقطع أسرار البلاغة، طبع سنة 1330 بمطبعة مقداد على
ورق نظيف، ويباع بخمسة قروش في مكتبة المنار ومكتبة النيل.
هذا الكتاب هو مجموعة أمالي ألقاها المؤلف دروسًا في الأزهر سنة
1330 هـ، ثم جمعها في كتاب على حدة فجاءت كتابًا وافيًا بالغرض حسن
الأسلوب سهل الفهم ولم أر لعالم أزهري لهذا العهد كتابةً محررةً مختصرةً
مفيدةً تدل على تفكر الكاتب وتوخيه الاستفادة والفائدة مثل هذا الكتاب، وإن
القارئ ليقرأ فيفهم فن المعاني مجردًا.
***
(الجرح والتعديل)
رسالة من تأليف عالم الشام العامل الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي،
نشرت في المنار، وجمعت فجاءت 40 صفحة بقطع المنار على حدة، وثمنها
قرشان، وهي تطلب من مكتبة المنار بمصر، ومن مؤلفها في دمشق.
هذه الرسالة هي الحكمة التي تكم أفواه الحشوية ومتعصبي الفرق،
وترجع بهم إلى سماحة الإسلام ببيان ما جرى عليه العلماء الأعلام مثل
البخاري وغيره من اعتبار رواية الفرق التي يكفر أهلها اليوم جهلة المقلدين
والحشوية، وتبين أضرار التعصب للمذاهب ميلاً مع الهوى وتكون خير عون
للمصلحين على جمع كلمة المسلمين والتأليف بين المختلفين.
***
…
...
…
... (العلاج الجراحي)
الجزء الأول منه تأليف وليم روز ألبرت كارلس وتعريب الدكتور محمد عبد
الحميد طبيب مستشفى قليوب صفحاته 195 بقطع المنار، طبع سنة 1912 بمطبعة
المعارف بمصر طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وهو مزين بالرسوم الملونة والأشكال
التي بلغت عشرين شكلاً، ويطلب من معربه بقليوب، ومن مكتبة المنار بمصر،
وثمنه عشرة قروش خلا أجرة البريد.
***
…
...
…
... (التشريح الجراحي)
الجزء الأول منه تأليف فردريك لريفي وآرثر كيت وتعريب الدكتور محمد عبد
الحميد أيضًا صفحاته 252 بقطع (الإسلام والنصرانية) طبع في مطبعة
المعارف طبعًا نظيفًا على ورق جيد مزينًا بالصور الملونة التي بلغت 45
شكلاً، وثمنه عشرة قروش، ويطلب من معربه ومن مكتبة المنار بمصر.
مواد الكتاب: فروة الرأس، قبوة الجمجمة، محتويات الجمجمة،
الحجاج والعين، الأنف وتجاويفه، الوجه، الفم واللسان والحنك والبلعوم،
العنق، وأسلوبه كأسلوب سابقه بل كسائر معربات الدكتور محمد عبد الحميد
الذي يفيد لغته وأمته بما يقدمه حينًا بعد حين من الآثار النافعة.
***
(بلوغ المرام من أدلة الأحكام)
تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني
صفحاته 278 بقطع المنار طبعه بمطبعة التمدن الشيخ عبد الرحمن بدران
الكتبي وشريكاه، على ورق متوسط، وثمنه سبعة قروش، ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
الكتاب مجموعة من أحاديث مخرجة مرتبة على أبواب الفقه، وزاد فيه
باب الأدب، فيجدر بكل من يروم فقه الدين من السنة أن يطلع على هذا الكتاب.
***
(كتاب التبيان في تخطيط البلدان)
الجزء الأول منه
يشمل الدروس التي ألقاها بالجامعة المصرية العالم المؤرخ إسماعيل
رأفت بك أستاذ الجغرافية وعلم الشعوب (قبوغرافية) بها ومدرس الجغرافية
والتاريخ العام بمدرسة دار العلوم، صفحاته 499 بقطع المنار، طبع بمطبعة
محمد الوراق بمصر سنة 1329 وله خرائط للاستعانة على توضيح أبحاثه،
ويباع بعشرين قرشًا في مكتبة المختار بمصر.
معظم ما نقرأه من كتب الجغرافية العربية أنها أشبه بالنقل منها بالتأليف،
ولكن كتاب التبيان على العكس من ذلك فإن مؤلفه قرأ وبحث وباحث ونظر
فكتب، وإنه يخيل إلى القارئ أن المؤلف سائح خريت جاب القارة الأفريقية
وأثبت مشاهداته في مؤلفه هذا.
والكتاب يتناول قارة أفريقية وقد وصفها أوصافها الطبيعية والاقتصادية
والسياسة الجوية، وذيَّل الكتاب بفهرس ذكر فيه أسماء مشاهير المكتشفين
والسياح الذين مر ذكرهم في الكتاب، وكتبها بالحرف اللاتيني والحرف العربي؛
ليرجع القارئ إلى ما كتبه عنهم في أسفل صحائف الكتاب بسهولة.
وحبذا لو تم المؤلف كتابه على هذا النمط، فإن اللغة العربية في أشد الحاجة
إلى كتاب جغرافي عمومي مطول.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحرب البلقانية الصليبية
لقد بدا للناس من هذه الحرب ما لم يكونوا يحتسبون، فقد كانت أقوال صحف
أوربة تدل على أن الأوربيين كالعثمانيين يظنون أن كفة الدولة العثمانية تكون هي
الراجحة، وكفة البلقانيين هي المرجوحة، ولذلك صرحت الدول الكبرى بأنها متفقة
على أن هذه الحرب لا تغير شيئًا من الحال الحاضرة ولا من خارتة البلقان.
فلما ظهر رجحان كفة البلقانيين رجعت عن قولها، وصرحت بأنه ليس من
العدل حرمان الدول المتحالفة من ثمرة انتصارها (والعدل عند هؤلاء الناس لا
يجوز أن يتعدى أبناء جنسهم وأهل ملتهم ودينهم) بل تجاوزت ذلك إلى محاولة
إكراه الدولة العثمانية وقسرها على أن تعطي الصليبيين ما فتحوا من بلادها وما
أعياهم فتحه كأدرنة، وقد أجمعت ذلك دول التثليث كلهن، سواء منهن من أبدى
ناجزَيْ الشر للدولة، وأظهر ضلعه وتعصبه للصليبيين كدول الاتفاق الثلاثي، ومن
جامل العثمانيين بالقول بعض المجاملة كدول التحالف الثلاثي.
نعم إن ما ظهر من ضعف الدولة العثمانية وخللها هو ما لم يكن يحتسبه كله
أحد ولا الأوربيون الذين يعبرون عنها بالرجل المريض، ويرون أنها بهذا المرض
تكاد أن تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، وهكذا شأن الناس في تقدير أحوال مَن
ضعُف بعد قوة عظيمة، أو افتقر بعد ثروة كبيرة، فإنهم يتصورون شيئًا من ماضيه
مع تصور حاضره، ويستخرجون النتيجة من مقدمات التاريخ الماضي زالت مع
زمنها ومن مقدمات التاريخ الحاضر، وكذلك يخطئون في تاريخ حال من دخل في
حياة جديدة، استصحابًا لشيء من ماضيه يمزجونه بما عرفوا من حاضره، حتى
تأتي الحوادث والوقائع الكبيرة بما لم يكن في الحسبان، كما رأينا في حرب
الروسية واليابان، ولكن العبرة في رجحان البلغار على الترك أكبر، والتفاوت
بين الفريقين فيها أعظم.
ومما ظهر وبان هاجمًا من وراء حدود الحسبان، شيء آخر كان كثير من
المغرورين بمدنية هذا الزمان يظنون أنه من وراء حدود الإمكان، وهو طغيان
صليبي البلقان الظافرين على أبناء وطنهم المسلمين المسالمين، وإسرافهم في
تقتيلهم وتعذيبهم، وهتك أعراضهم وسلب أموالهم، وإنهم ليقتلون النساء والأطفال
ليقل عدد المسلمين في البلاد، حتى ألجأوا بعضهم إلى الخروج من الإسلام،
وانتحال النصرانية حفظًا لأنفسهم، وصيانة لأعراضهم وأموالهم، وقد شهد فظائعهم
هذه كثير من مكاتبي الصحف الأوروبية من الشعوب المختلفة، وبعض وكلاء
الدول السياسيين (القناصل) وذكرت الجرائد الأوروبية والتركية كثيرًا من حوادثه
تقشعر منها الجلود، وتفتت لهولها الكبود.
ولم يكن عجب الناس من اقتراف البلقانيين لهذه الجرائم والجنايات
والفواحش والمنكرات وجعلهم ذلك باسم الصليب في سبيل المسيحية كعجبهم من
الدول والشعوب الإفرنجية في أوربة وأمريكة لسكوتهم عنها، بل إقرارهم إياهم
عليها، فهل هذه هي المسيحية التي يبذلون الملايين في سبيل دعوتنا إليها؟ وهل
هذه هي الإنسانية التي يفتخرون بدعواها؟
اختلفت دعاة النصرانية في مؤتمرهم الذي عقدوه للنظر في وسائل تنصير
المسلمين: هل إله المسلمين هو إله النصارى أم لا؟ فقال قس من أكبر قسوسهم:
إن إله المسيحيين غير إله المسلمين؛ لأنه دين محبة ورحمة، وإله المسلمين ليس
كذلك.
فأين هذا القس المحب الرحيم الآن؟ لا أراه إلا فرحًا مسرورًا مع قومه
بفظائع الصليبيين في البلقان، فإنه هو وأمثاله قد اتخذوا المسيحية آلة للشهوات
واللذات وسعة الملك واستعباد الأمم والشعوب، وهم أبعد خلق الله عن دين المسيح
عليه الصلاة والسلام، وعن دين بولس الذي تمثله الكتب والرسائل التي يسمونها
العهد الجديد أيضًا.
وإذا كان هذا شأن رجال الدين فيهم فكيف يكون شأن رجال السياسة المنافقين
الذين ينفثون في أرواحهم سموم العصبية الدينية، ويغرونهم بإفساد عقائد الناس،
ويعينونهم على ذلك بالنفوذ والمال، وإذا لقوا أحدًا من أهل الملل الذين يغرونهم بهم
ادعوا أنهم يمقتون العصبية الدينية وأهلها، وأنهم لا يدينون بدين إلا دين الإنسانية
العامة، وهم بهذا الوجه الذي يلقون به المسلمين وغيرهم من أهل الملل الشرقية
المخالفة أشد إفسادًا في الدين والاجتماع من دعاة دينهم، فإن الذين أفسد عليهم
الإفرنج دينهم باسم الإنسانية، أضعاف أضعاف الذين أفسدوا دينهم ودنياهم باسم
المسيحية.
صدق هؤلاء المنافقين تلاميذهم ومريدوهم من المسلمين وغيرهم، وظنوا فيهم
الخير، وتوهموا أنهم بترك الدين وحل رابطته والدعوة إلى رابطة أخرى يسلكون
طريقهم في الترقي المادي، وإنما يهوون في مهواة التدلي والانقراض.
إلا أنه قد وجد فينا الحكماء العارفون، وطالما حذروا وأنذروا، فعلت أصوات
الخادعين أصواتهم فلم تعتبر بها الأمة، وإننا نذكرها الآن بنبذة من مقالة التعصب
إحدى مقالات العروة الوثقى التي نشرناها في المنار من قبل ونقلتها بعض الصحف،
وهي منشورة أيضًا في بعض الكتب.
بيَّن الأستاذ رحمه الله في أول تلك المقالات معنى التعصب في اللغة
والاصطلاح ومفاسد الغلو فيه ومدح الاعتدال، وما ثبت في التاريخ من غلو
الأوربيين في تعصبهم، وإبادتهم للمخالفين لهم، وتسامح المسلمين وتساهلهم، ثم
بيَّن غرضهم من تنفير المسلمين خاصة من التعصب الديني مطلقًا، وإن كان معتدلاً
لا يترتب عليه شيء من إيذاء المخالفين، وهو أن يحلوا رابطتهم ويتمكنوا من
إزالة سلطانهم، وبين كون الموافقين لهم المخدوعين بسحرهم يخربون بيوت
أنفسهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، ثم قال:
(هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادت الدول اختباره وجنت ثماره
فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في
البلاد العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية، ولم تعدم صيدًا من
الأمراء المنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من
بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن
يميلوا مع هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع
بقائهم على عقائدهم، وثباتهم في إيمانهم، يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني
ويلهجون في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة، ولا
يعلم أولئك المسلمون أنهم بهذا يشقون عصاهم ويفسدون شأنهم، ويخربون بيوتهم
بأيديهم وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة
ودفعها إلى أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماءً، والله
ما عجبنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين من الأمم الإفرنجية
الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين، ولا يخجلون من تبشيع
التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة، الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من
التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم
السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على إنجاح أعمالهم،
وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم
ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق، سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت
تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة،
وحدثت حادثة مهمة، فأجمِعوا الأمر وخذوا الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من
وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية، وتراهم على اختلافهم في الأجناس،
وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لغرة الأخرى
حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية
والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين، وإن كان في أقصى قاصية من الأرض،
ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.
أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر وجه البسيطة من دماء
المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس بل
يتغافلون عنه ويذرونه، وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده، ويذهلون عما
أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والرحمة الطبيعية كأنما يعدون من
الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية. وليسوا من نوع
الإنسان الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين
منهم، بل الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في
تعصبهم الديني، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم، وليتهم يقفون عند الحق ولكن
كثيرًا ما تجاوزوه، أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب.
يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه ثم لا تجد كلمة
تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة
من روحه (انظر إلى كتب جلادستون وخطبه السابقة) اهـ.
ومما بدا للمسلمين من هذه الحرب ولم يكونوا يحتسبونه، أن الدولة العثمانية
ليست بالدولة القوية التي يرجى أن تحفظ نفسها من أوربة بقوتها الحربية، سواء
منها البرية والبحرية، وإنما بقاؤها بدوام تنازع الدول في اقتسامها، وإن هذا
الاقتسام متفق عليه في الجملة، مختلف عليه في التفصيل، وإن ممالكها في نظرهن
كالأرض الموات: مَن سبق إلى شيء منه ملكه، وإن ما يبديه بعضهن لها من الميل
والانعطاف أحيانًا، وهو لا يتعدى القول اللطيف والمساعدة السلبية، فإنما سببه جر
المغنم العاجل كالامتيازات والقروض وبيع الأسلحة والذخائر، على أنهن صرن
يقبضن أيديهن عن إقراضها ولو بالربا الفاحش ويتشددون في ذلك، وأما ما كان من
مساعدة بعضهن لها في الزمن الماضي فسببه تعارضهن في النفوذ والطمع في
بلادها أيضًا، وقد ارتقوا عن هذه الدرجة الآن.
عرف خواص المسلمين هذه الحقائق في الأقطار الكثيرة، وشعر به عوامهم
في مصر وولايات السلطنة أيضًا، فأصابهم من الغم والكآبة ما وجلت له القلوب،
وذرفت لأجله العيون، وطفق الناس يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه
مختلفون، وهو كيف يكون حال الإسلام والمسلمين إذا صارت هذه الدولة
في عداد الغابرين؟
إن أصحاب هذه الدولة يجدُّون ويجتهدون في هدمها منذ قرنين أو أكثر وكانت
بعض الدول الأوربية تدعّهم إلى الإسراع في الهدم، وبعضها تدعوهم إلى التريث
فيه، وقد اشتد الهدم على عهد عبد الحميد ولكن من وراء الحجب والأستار، وفي
حنادس الظلمات، وأما بعد سقوطه فقد صار الهدم أشد، ولكن الهادمين يسمون
أنفسهم البنائين الأحرار، وصار أبين وأظهر لأنه يؤتى في ضوء النهار.
لقد كان جهل المسلمين بحقيقة حال هذه الدولة، أكبر مصائبهم ومصائب
الدولة، ولو كانوا يعرفون كُنْهَ حالها، منذ تنبهوا لأنفسهم ولها - أي من عهد
انكسارها في حرب الروسية الأخيرة - لاجتهدوا في إصلاح أنفسهم وإصلاحها،
ولكنهم اغتروا وخُدعوا بها، وأمدتهم جرائد المنافقين في غرورهم، فحسبوا أن لهم
دولة قوية عزيزة تقيم شرعهم، وتعلي كلمة دينهم وتدافع عنه وعنهم، وكم
نبهناهم وأنذرناهم فتماروا بالنذر، ولا يزال كثير منهم على غرورهم، كما يدلنا
على ذلك تجاوب اقتراحهم عليها إدامة الحرب، وكراهتهم لما جنحت إليه الوزارة
الكاملية من السلم، وعقد الهدنة للبحث عن شروط الصلح.
إن كل ما عرفناه من مساعدة العالم الإسلامي للدولة في حربها هذه هو أنهم
أمدوها بإعانة لا تتجاوز نصف مليون من الجنيهات إلا قليلاً، إلا أن يكون هنالك
إعانات خفية عنا وعن غيرنا، وليس هذا بالذي ينهض بمثل هذه الدولة الكبيرة،
ولا إظهار الغيرة عليها بالذي يدفع عدوان الدول عنها، بل يخشى أن يكون مغريًا
لدول الاستعمار بالتعجيل عليها، فأنا لا أزال أعيد ما بدأت من القول بأن الدولة
على خطر، وحل المسألة الشرقية أقرب غائب ينتظر، وأدعو عقلاء المسلمين
خاصة إلى التفكير في المآل وإعداد ما يستطيعون له من العدة والمال، وما بعد
الجهد إلا العزم والاتكال، وإنني أشير إلى شيء من ذلك بالإجمال:
مستقبل الإسلام والمسلمين:
أهم ما يهم كل مسلم في الأرض أن يكون للإسلام سلطة تقام بها شريعته،
وتحيا بها دعوته، وقد كان المسلمون لفشو الجهل فيهم مغرورين بحكوماتهم
ودولهم، ولم يكن غرور التابعين للدول ذات التاريخ الكبير كالدولة العثمانية، بأشد
من غرور التابعين للدول ذات التاريخ الصغير كسائر الدول الأفريقية والآسيوية،
ولكن الغرور بالدولة العثمانية تجاوز بلادها إلى الملايين من المسلمين الذين استولت
عليهم الدول الأوروبية في الشرق والغرب، وإن هذا الغرور قد أوصل السلطة
الإسلامية إلى درجة الخطر - خطر الفناء والزوال - فوجب على كل عارف مخلص
أن يصرح للمسلمين بما يعرف، وقد كنا في السنين الغابرة نكني، ولكن الوقت
ضاق عن الكنى.
ولو عرف جماهير المسلمين كُنه حال دولهم وحكوماتهم من قبل لجَدَّ العقلاء
في السعي لإصلاحهم وحفظها، ولكان الفوز أرجى لهم من الخيبة، ويجب أن يعرفوا
الآن ما جهلوا من قبل، وإن كان الرجاء في السعي الآن أضعف، ولكن المسلم لا
ييأس ولا يقنط، ولقد كان أكبر بلاء الدولة العثمانية من بعض رجالها الذين يئسوا
منها في الزمن الذي دبَّ فيه إلى مسلمي الآفاق الرجاء فيها، وما زلزل غرور
المسلمين وأزال بقايا غرور غير الحكام من العثمانيين، إلا هذه الحرب البلقانية،
فإذا كانت ثمرتها أن نعرف حدنا ونهتدي إلى رشدنا، فنعرف كيف ندرأ خطر
الزوال عنا، فإن هذه الحرب تكون - كما قلت من قبل - أكبر نعمة علينا.
ألا فليعلم من لم يكن يعلم أن وجود الدولة العثمانية في أوربة هو سبب
غرورها وفقرها ومولد الفتن فيها، وهو الذي جعل رجال الدولة يحتقرون بلادها
في آسية وأفريقية وجميع الشعوب الذين في هذه البلاد، فكل قوة الدولة تعد في
ولاياتها الأوروبية ولولاياتها الأوروبية، ومعظم أموال الدولة تصرف فيها،
وعاقبتها للأوروبيين دون العثمانيين؛ لأن أوروبة كلها مجمعة على ذلك، ولكن
تنفذه بالتدريج، فلا ينبغي أن نأسى على ما يزول من أملاك الدولة في أوروبة،
ولا نفرح بما يبقى منها، وإنما ينبغي أن نوجه كل عنايتنا إلى أملاكنا في آسية،
وأن نقيم بناء الإدارة والإصلاح فيها على الطريقة التي يسمونها اللامركزية.
فتجب العناية قبل كل شيء بجعل كل من يقدر على حمل السلاح في كل قطر
من الأقطار جنودًا مستعدين للدفاع عنه إذا هاجمه العدو، وأن يكونوا في هذا
متكافلين متعاونين بنظام يوضع لذلك، وأن يكون أول ما يبدأ به من ذلك الحجاز
والبلاد المجاورة له، وأن يكون كل ما يجمع من المال لإعانة الدولة خاصًّا
بتحصين الحرمين الشريفين وما حولهما، وإعداد تلك البقاع كلها للدفاع عنهما،
وبجعلهما مثابة للعلوم والفنون بإقامة المدارس العامة في المدينة المنورة والطائف،
وأن يتولى هذا العمل جمعية علمية إسلامية يختار أعضاؤها من خيار مسلمي الآفاق
كلها. فإذا لم يبادر عقلاء المسلمين من العرب والترك والهنود والفرس وغيرهم إلى
جمع المال لهذين العملين والسعي لتنفيذهما - فوالله ثم والله ليندمُنَّ وليعلمُنَّ
أن اهتمامهم بأدرنة والقسطنطينية لا يغني عنهم من ذلك شيئًا.
وليسقطن تحت نير أوربة كل ما بقي لهم، حتى كعبتهم وروضة نبيهم صلى
الله عليه وسلم، فليتدبروا ويتذاكروا {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13)
وسنعود إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلتنا الهندية
شكر علني
كنت أرى من حقوق إخواني مسلمي الهند وعمان والعراق الذين
أكرموا مثواي في رحلتي، وأحسنوا ضيافتي وبالغوا في مودتي، أن أكتب
إلى كل واحد منهم كتاب شكر خاص به، وكنت أتربص فرصة فراغ أوفيهم
حقهم هذا، ولكن قد طال العهد والزمن لم يَجُدْ عليَّ بهذه الفرصة، وذلك أن
زمن الرحلة قد امتد في العودة فلم أبلغ القاهرة إلا في النصف الثاني من شهر
شوال، فالأعمال التي كانت متأخرة من مدة ستة أشهر، وما يجب من
الاهتمام والعمل لفتح مدرسة الدعوة والإرشاد، وكان قد جاء موعد فتح
المدارس، وما يجب من جمع الهيئة العامة لجماعة الدعوة والإرشاد في
النصف الأول من ذي القعدة، وما عرانا من انحراف المزاج، ثم ما شغل
البال والوقت من هذه الحرب المشئومة، كل ذلك كان حائلاً دون سنوح
الفرصة المنتظرة.
لهذا رأيت أنه يجب عليَّ في عرف الوفاء والأدب أن أستعيض عن
الشكر التفصيلي الخاص بشكر إجمالي عام لأولئك الأصدقاء الكرام، والعلماء
الأعلام، والأمراء الفخام، وإنني أرجو وقد وفقت للكتابة إلى قليل منهم، أن أوفق
إلى مكاتبة سائرهم أو أكثرهم، وإنني أخص بالذكر من أتذكر الآن أسماءهم.
أولهم وأولاهم بالشكر من جالية العرب في بمبي ومن أهلها صديقي
الحميم المحسن العظيم الكريم ابن الكريم ابن الكريم، الشيخ قاسم بن محمد آل
إبراهيم، فهو الذي قام بحسن ضيافتي في غدوتي وروحتي، وأعد سيارة
كهربائية خاصة مدة إقامتي في بمبي، ثم ابنا أخيه الشيخ عبد الرحمن إبراهيم،
والشيخ يعقوب إبراهيم، والشيخ محمد المشاري رئيس شركة البواخر
العربية، وعبد الله فوزان، وسائر الجالية العربية في بومباي الذين استقبلوني
على رصيفها هم وبعض كرام أهلها كالحاج سليمان عبد الواحد شريف البلد
والحاج إسماعيل صوباني رئيس (أنجمن إسلام) الذي حياني على رصيف
البحر بخطبة بليغة، وميان محمد حاجي جان محمد شوتهاني كبير طائفة
الميمن وأشهر تجارهم نجدةً ومروءةً، والحاج عبد الله ميان الكهندواني من
كبراء طائفة الميمن أيضًا، وهؤلاء قد أدبوا لنا مآدب حافلة اجتمع لها مئات
من الكبراء والفضلاء.
ثم أشكر فضل باي من أكابر سروات البلد جماعة آغاخان، وكنت أتمنى
لو كان زعيمهم محمد سلطان (إمام الإسماعيلية) يومئذ في بمبي فإني كنت
حريصًا على لقائه، وقد سررت من اهتمام فضل باي بأمر الجامعة الإسلامية؛
لأنها كانت جل حديثنا في تزاورنا.
وممن أخص بالشكر والثناء السيد علي الحسن معاون البوليس في آكره
الذي أحسن ضيافتي وإطلاعي على الآثار العظيمة التي فيها، ومحمد شعيب
مفتش مصلحة الآثار في آكره ودهلي.
وأما أهل دهلي فأجدرهم بثنائي وشكري النواب محمد أجمل خان حاذق
الملك الطبيب الشهير كبير سروات دهلي وأحد أفراد المسلمين الممتازين في
الهند بالعلم والفضل وعلو الجانب، وقد أحسن - حفظه الله - ضيافتي
وجمعني في داره بأكبر علماء البلد ووجهائه، وخصص لي سيارة كهربائية
تيسر لي بركوبها رؤية جميع الآثار القديمة في ضواحي تلك المدينة في مدة
قصيرة، ولا أنسى أولئك العلماء الكرام الذين أنسنا بهم هناك وأخص بالذكر
منهم مولوي الشيخ سيف عبد الرحمن المدرس الأول والناظر لمدرسة فتح
بوري الدينية، وقد زرنا مدرسته وسمعنا وأسمعنا ما فتح الله به فيها.
وتكلمنا معه في إصلاح التعليم، والعناية باللغة العربية فصادفنا منه ارتياحًا لرأينا
في ذلك، ومولوي الشيخ عبد الله الغزيبوري، ومولوي أحمد الله المبارك بوري،
وميرزا ضمير الدين أحمد اللوهاري، ولا أنسى مودة التاجر الصادق الحاج
التقي عبد الغفار بن الحاج علي جان، الذي كان يترك محل تجارته الكبير
ويصاحبني في كل مكان، وقد صحبنا معه في رؤية آثار دهلي النواب ضمير
الدين، وبالقرب من الأثر العظيم الذي هو أكبر آثار دهلي، منارة قطب أوليا، بلدة
اسمها مهرولي، عرجنا فيها على دار الشيخ رياض الدين من كبراء أهلها
وكان أعد لنا غداءً طيبًا نوَّع فيه ألوان الأطعمة الهندية،وكان من مظاهر
الكرم الإسلامي في تلك الديار.
ولم أنسَ ولا أنسى زيارة مدرسة مظاهر العلوم في مدينة سهارنبور ولقاء
ناظرها وأكبر مدرسيها مولوي الشيخ خليل أحمد الذي لم أر في علماء الهند
الأعلام أشد منه إنصافًا ولا أبعد عن التعصب للمشايخ وللتقاليد، وما ذلك إلا
لإخلاصه وقوة دينه ونور بصيرته.
وأبدأ من شكر أهل لاهور الكرام بالثناء على الأمير الجليل والسري
النبيل، النواب فتح علي خان قزلباش، الذي أحسن ضيافتنا وأكرم وفادتنا،
ولا غرو فقصره في تلك المدينة القديمة معهد الكبراء والفضلاء، وموئل
السائحين والغرباء، وأثني بالثناء على الصديقين الفاضلين، والرصيفين
الكريمين مولوي محبوب عالم صاحب جريدة بيسه أخبار، ومولوي محمد إن
شاء الله صاحب جريدة وطن، وكان هذان الفاضلان يتسابقان لضيافتي،
ويرى كل منهما أنه أولى بي: الأول لأنه تكرم بزيارتي في مصر عند
منصرفه من أوربة، والثاني لما بيني وبينه من صلة المكاتبة وعنايته بنشر
تفسير المنار، ولكن النواب الجليل قال: إنه هو الأحق بذلك، فلم يسعهما إلا
الإذعان، لأنه هو البدء الذي لا يختلف على تقديمه اثنان.
ثم أثني الثناء الأوفى على الكاتب البليغ والخطيب المصقع مولوي ظفر
علي خان، صاحب جريدة (زميندار) الذي بالغ في الترحيب بي قبل وصولي
إلى الهند، واقترح أن تعقد لجنة لوضع برنامج لحفاوة مسلمي الهند بي، وكان
يريد أن يحتفل احتفالاً عامًّا يجتمع له الألوف من جميع طبقات الشعب
فاعتذرت له على ذلك بأنني مضطر إلى السفر إلى ندوة العلماء لقرب موعد
احتفالهم هذا العام.
ومما أذكره مع الشكر والثناء مواتاته لي في الصلح بينه وبين صديقي
صاحب جريدة (وطن) الذي أشكر له مثل هذه المواتاة، وكانت جرت بينهما
مناظرة حادة أدت إلى الجفوة وآلمت فضلاء المسلمين في جميع البلاد الهندية
حتى رغب إليَّ كثير من كبرائهم في السعي للصلح بينهما عند زيارة لاهور.
ومما أشكره لصديقي محبوب عالم شكرًا خاصًّا، ترْكه لنجله الكريم مريضًا
يعالَج وطوافه بي على مساجد البلد ومدارسها ومعاهدها الأثرية فيها وفي
ضواحيها.
وأما أهل لكنهؤ فلا أستطيع أن أوفيهم حقهم من الشكر والثناء، فقد
استقبلني الألوف منهم بحفاوة قلما يستقبل بمثلها الملوك، حتى خجلت
واستحييت وكلما رجوتهم أن يختصروا في التكريم غلوا فيه وأفرطوا، حتى
إنهم جروا المركب التي ركبتها بأيديهم، وأخص بالشكر والثناء رجال ندوة
العلماء الكرام، وفي مقدمتهم رئيسهم صديقي العلامة الهمام شمس العلماء
الشيخ شبلي النعماني، والسيد ممتاز حسين رئيس لجنة المستقبلين فيها، وهو
الذي خصص داره الفيحاء لنزولي فيها، وتأنق في إتقان الضيافة ما شاء فجمع
بين مقتضى أصله العربي الصميم، وفرعه الهندي الكريم، واحتشام السلطنة
أمين أموال الندوة، وسائر علماء الندوة وغيرهم كالعلامة الكبير السيد ناصر
حسين كبير علماء الشيعة.
ثم عظماء البلد الذين أدبوا لنا المآدب الحافلة: مشير حسين القدوائي،
الذي كان كاتب السر لجمعية الجامعة الإسلامية في لندن وأخوه شاهد حسين
والسيد محمد علي حسن خان ابن أمير العلماء وعلامة الأمراء المرحوم السيد
صديق حسن خان، نواب بهوبال صاحب التصانيف الشهيرة، والأمير الكبير
النواب محمد علي راجا ولاية محمود آباد، وهو من أعظم أمراء الهند
وسرواتهم من طائفة الشيعة الإمامية، وأركان النهضة الإسلامية، فإنه يبذل
المال لمدرسة العلوم الكلية في عليكرة بألوف الجنيهات، كما يبذل للمدارس
الخاصة بأهل السنة كمدرسة ندوة العلماء، فنسأل الله أن يكثر في المسلمين من
أمثاله، وكانت خاتمة الدعوات الحافلة في لكهنؤ دعوة الطبيب الشهير الحكيم
محمد عبد الولي حياه الله تعالى.
وقد سِرت من لكهنؤ إلى بنارس مدينة البراهمة المقدسة ومقر أقدم أصنام
في الأرض فلم أعرف من مسلميها إلا مضيفنا الكريم محمد ممنون حسن خان
المعاون المسلم للحاكم الإنكليزي فيها، وهو أفغاني الأصل، فقد تفضل - أحسن
الله جزاءه - مع حسن الضيافة بمساعدتنا على رؤية الآثار القديمة الوثنية
الثابتة من ألوف السنين المكتشفة حديثًا في ضواحيها، صرفنا كل وقتنا في
رؤية الآثار والعاديات فلم نتعرف لأحد، على أن أكثر مسلمي بنارس من
الصناع والزراع وقلما يوجد فيها أحد من أهل العلوم والآداب فيما نعلم.
للشكر بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أبو سعيد العربي الهندي
كان هذا الرجل في (درنه) يتردد على أنور بك وحاشيته مثل الشيخ صالح
التونسي وجاء مصر فاتصل بأخلاط الحزب الوطني فلحقه الفريقان بالطعن في
صاحب المنار فكتب في بعض جرائد الهند ينكر عليها فيها إطراءه وتسميته مصلحًا،
وبلغني أنه ادعى في بعضها أنه يتكلم في شأني عن معرفته بي، وهو لا يعرفني
وإنما رآني مرتين: إحداهما في لجنة الهلال الأحمر وثانيتهما في الطريق، دعوته
فيها إلى إدارة المنار للتعارف والمذاكرة فاعتذر.
فإذا كان قد كتب ما كتب بسوء الفهم، وهو مخلص، فستظهر له عاقبة
المنافقين الذين كذبوه وخدعوه، والله يعفو عنه، وإن كان مثلهم فجزاؤه على
الله تعالى، والعاقبة للمتقين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
] مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه ِ [[*]
(س5) من صاحب الإمضاء بالإسكندرية:
حضرة مولانا الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل السيد محمد رشيد رضا
الأكرم، السلام عليكم ورحمة الله، مولاي، نشرت إحدى الصحف أن طبيبًا
أمريكيًّا اكتشف عائلة مكونة من أب وأبناء له ثلاث بأن كل فرد منهم له قلبان
وأن كل قلب مستقل عن الآخر ويؤدي وظيفته تمام التأدية، ولما كان هذا
معارَضًا بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب:
4) أرجوكم إجلاء الحقيقة مع إظهار معنى الآية الشريفة وبيان وجه مخالفة
الآية والعقل معًا لذلك إن كان ثمت مخالفة أو موافقة، هل الآية قاصرة على
الرجل أو تشمل المرأة التي هي فرعه، وهل يؤخذ من الآية أم الخارج، أملي
التكرم بالجواب خدمة للعلم والدين لا زلتم للفضل أهلاً.
…
...
…
...
…
...
…
من المخلص محمد \ سليمان
…
...
…
...
…
...
…
... بجريدة الأهالي
وقد أرسل السائل الفاضل ما نشرته في ذلك جريدة الأهالي في عدد 689
وهذا نصه:
المعروف للآن أن القلب يسكن الجانب الأيسر من صدر الإنسان وأن
الذين وجدت لهم قلوب في الجانب الأيمن يمكن أن يعدوا على الأصابع بين
مئات الملايين من بني آدم، ولكن أحد أطباء أمريكا اكتشف أخيرًا أمرًا أغرب
بكثير من وجود القلب في الجانب الأيمن، اكتشف أربعة أشخاص من أسرة
واحدة لكل منهم قلبان: قلب في اليمين وقلب في اليسار، وهؤلاء أربعة هم أب
وأبناؤه الثلاثة.
وبعد المشاهدة والامتحان عرف أن كلاًّ من القلبين منفصل عن أخيه تمامًا
ويؤدي وظيفته كما لو كان وحده، رأيه أن الأبناء ورثوا ذلك من أبيهم. اهـ.
(ج5) يطلق لفظ القلب اسمًا لمضغة من الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى
الفؤاد مطلقا، ويقول بعضهم: إن القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه
المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة، كأنه يريد أن هذا هو الأصل، ثم جعله
بعضهم اسمًا لهذه المضغة وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها حتى شحمها
وحجابها قلبًا، ويطلق اسمًا لما في جوف الشيء وداخله كقلب الحبة، واسمًا
لشيء معنوي وهو النفس الإنسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر
وتتقي وتزيغ وتطمئن وتلين وتقسو وتخشى وتخاف، وقد نسبت إليه كل هذه
الأفعال في القرآن.
والأصل في هذا أن أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء
الحسية، وقد أطلق على الشيء الذي يحيا به الإنسان ويدرك العقليات
والوجدانيات كالحب والبغض والخوف والرجاء عدة أسماء منها الروح وهو
من مادة الريح، فإن لفظ الريح، أصله (روح) بكسر الراء فقلبت الواو ياء
لمناسبة الكسرة كواو الميزان، ولذلك تجمع الريح على أروح والميزان على
موازين، والمناسبة بين الروح والريح أن كلاً منهما خلْقٌ خفي قوي، ومنها
النفس وهو من النَّفَس بفتحتين؛ لأن النفس دليل الحياة التي تكون بالنفس،
ومنها القلب واللب؛ لأن لب الشيء وقلبه من المخلوقات الحية هو مستَقَر
حياته ومنشؤها كما يعرف ذلك في الحبوب، وهنالك مناسبة أخرى للقلب هو أن
قلب الحيوان هو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها، وللوجدانات النفسية
والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان، ومهما كانت المناسبة التي
كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القرآن بمعنى النفس المدركة
والروح العاقلة التي يموت الإنسان بخروجها منه، قال تعالى: {وَبَلَغَتِ القُلُوبُ
الحَنَاجِرَ} (الأحزاب: 10) أي الأرواح لا هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من
مكانها، وقال:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: 46) أي نفوس أو
أرواح وليس المراد أن القلب الحسي هو آلة العقل. وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ
* عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة،
وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية ولا العقل؛ لأن العقل في اللغة ضرب
خاص من ضروب العلم والإدراك لا يقال: إن الوحي نزل عليه، ولكن قد تسمى
النفس العاقلة عقلاً كما تسمى قلبًا، وقد يُعزى إلى القلب ويُسند إليه ما هو من
أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها أثر في القلب الحسي كقوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال: 2) وقوله: {ِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 156) وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة: 15)
وللاشتراك بين القلب المعنوي وهو النفس، والقلب الحسي وهو المضغة التي
ينبعث منها الدم؛ أو لأن الاسم الأول مأخوذ من الثاني، وإن صار
مستقلاًّ بمعناه، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي
الصُّدُورِ} (الحج: 46) أما الجوف في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) فقد يراد به الصدر، وقد يراد به ما هو أعم منه،
فإن جوف الشيء باطنه كقلبه، فالرأس له جوف وفيه الدماغ، والقلب له جوف
وفيه السويداء، فعُلم مما تقدم أن القلب في هذه الآية هو الروح الإنساني
المدرك.
روى أحمد والترمذي وحسَّنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم،
والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في سبب نزول هذه الآية:
(قام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا يصلي فخطر خطرةً، فقال المنافقون
الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلبًا معكم وقلبًا معهم، أي: مع
أصحابه الصادقين) .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان رجل من قريش
يسمى ذا القلبين كان يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. فأنزل الله فيه ما
تسمعون.
وروي أنه وجد من المشركين من ادعى أن له قلبين يفهم بكل منهما أو
يعقل أفضل من عقل محمد، وأنه هو أو غيره كان يدعى ذا القلبين، وأن الآية
ردت هذا الزعم كما أبطلت مزاعم التبني والظهار من ضلالات العرب،
ومعنى القلب اللحمي غير مراد على كل حال.
ولو فرضنا أن المراد بالآية نفي أن يكون للإنسان قلبان حسيان لكان
الكلام صحيحًا، سواء صحت رواية الجريدة أم لا، ولا تصلح أن تكون هذه
الرواية ناقضة لخبر الآية لا لأن خبر الآية ماضٍ وما اكتشف بعدها لا ينقض
خبرها عما قبله؛ بل لأن بيان أحوال الخلق إنما تبنى على ما مضت به السنة
العامة التي يعبرون عنها بالناموس الطبيعي؛ والشاذ لا حكم له، ولا يعد
مكذبًا لمن يخبر عن السنن الكونية بما هو المعروف.
فإذا قال علماء وظائف الأعضاء والتشريح: إن جسد الإنسان مركب من
رأس ويدين ورجلين مثلاً، وإن لكل يد ورجل خمس أصابع فلا ينقض قولهم
هذا ولادة طفل برأسين أو أكثر من يدين بست أصابع، ونحو ذلك مما يسمونه
فلتات الطبيعة.
وإذا أنت تدبرت السياق الذي وردت فيه الآية وفهمت المراد منها بمعونته
علمت أن مسألة اكتشاف رجل له ولكل من أولاده قلبان لا يدنو من معنى الآية
بوجه ما. ذلك بأن السورة افتتحت بالأمر بتقوى الله والنهي عن طاعة
الكافرين والمنافقين واتباع الوحي خاصة، وجاء بعد ذلك قوله تعالى: {مَا
جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} (الأحزاب: 4) فكان المراد منه أن الإنسان لا
يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين، وهما ابتغاء رضوان الله
وابتغاء مرضاة الكافرين والمنافقين والإخلاص فيكون في وقت واحد مخلصًا
لله ومخلصًا لأعداء دينه، ومن هذا الباب قول الشاعر:
لو كان لي قلبان عشت بواحد
…
وتركت قلبا في هواك معذبا
فهل يتعلق اكتشاف قلبين لحميين لرجل واحد - إذا صح - بشيء من
مراد الشاعر هنا؟ لا، إلا إن كانت إدراكاته ووجداناته النفسية صارت تجمع
بين الضدين في حال وزمن واحد كأن يكون مؤمنًا كافرًا، محبًّا مبغضًا، آمنًا
خائفًا، من غير ترجيح بين هذه الأشياء المتقابلة، وهذا محال.
***
ترتيب آي الرحمن الرحيم
(س6) من صاحب الإمضاء الرمزي في جبل لبنان:
حضرة الفاضل العلامة السيد رشيد رضا منشئ المنار الأغر. بعد السلام،
أعرض أنه قد تجاهل بعضهم حكم الله تعالى وآياته المحكمة التي أنزلت على
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي أحرزت بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً} (الإسراء: 88) وأخذ مأخذه من التغيير والتأويل والتحريف والتبديل،
مدعيًا ما لم يدعه أحد قبله في العصور الخالية، وهو أن البسملة التي هي فاتحة
الكتاب، فيها خلل يعثر عليه المنتبهون مثله من ذوي الألباب، وهو أن البلاغة
تقضي بتقديم الرحيم على الرحمن.
فأرجو من سيادتكم وإرشادكم أن تبينوا هذا لمن جهل الحقيقة على
صفحات مناركم المنير، كيلا يتشبث بهذا التشبث من غلب عليه الجهل من
المسلمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... م. ح
(ج6) إن بعض المتعصبين الكارهين للشيء لا ينظرون إليه إلا نظرة
الكاره الملتمس للمَذَامِّ والمعايب، فإذا وجدوا منفذًا لشبهة يشوهون بها حسنه
عدوها حجة ناهضة، وقد استنبط بعضُهم الاعتراضَ الذي أشار إليه السائل من
قول أكثر المفسرين للبسملة: إن لفظ الرحمن أبلغ وأعظم معنى من لفظ الرحيم؛
لأنه أكثر حروفا، والأصل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى،
وفسروا (الرحمن) بأنه المنعم بجلائل النعم، والرحيم بأنه المنعم بدقائقها،
وأوردوا على هذا أن الترتيب لا يكون على قاعدة الترقي في الكلام بالانتقال
من الأدنى إلى الأعلى، وأجابوا على ذلك بأن الترقي إنما يكون هو الأبلغ إذا
كان اللفظان - كعالم ونحرير - يدل أحدهما على معنى الآخر وزيادة، فإنك إذا
قلت: فلان نحرير عالم كان لفظ عالم، تكرارًا لا فائدة له؛ لأن لفظ نحرير يدل عليه؛
لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص، وذكر الأخص يستلزم الأعم ولا عكس.
وكلمتا (الرحمن الرحيم) ليستا من هذا القبيل؛ لأن (الرحمن) هو المنعم
بجلائل النعم فقط، فبدئ به لأنه الأعظم معنى، والمقام مقام الثناء فيقدم فيه الأبلغ
الأدل على الفضل، ثم جيء بلفظ (الرحيم) كالمتمم للمعنى؛ ولئلا يحجم من
يحتاج إلى النعم الدقيقة عن طلبها من الله تعالى. وهذا توجيه قوي جهله أو
تجاهله المعترض المتعصب فقال ما قال.
على أن هذا التفسير للاسمين الكريمين ليس هو التفسير الذي لا معدل
عنه، فقد اختار الأستاذ الإمام قول بعضهم: إن لفظ (الرحمن) من قبيل
الصفات العارضة كالعطشان والغضبان، ولفظ (الرحيم) من الصفات الثابتة
كالحكيم والعليم، فذكر الوصف الدال على التلبس بالرحمة بالفعل عند عروض
الحاجة إليها بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى الذي لا يطرأ عليه تغيير، ثم
ذكر الوصف الدال على الثبات والدوام ليفهم العربي من أسلوب كلامه أنه
سبحانه وتعالى متصف بالرحمة بالفعل عند حاجة العباد إليها، وأنها مع ذلك
صفة ثابتة له في الأزل والأبد بصرف النظر عن تعلقها بالعباد، وهو وجه ظاهر.
وهنالك وجه آخر في حسن الترتيب وبلاغته، وهو أن (الرحمن) هو
الوصف الذي عُدَّ من قبيل اسم العَلَم واسم الذات؛ ولذلك قال تعالى {قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) وأما
الرحيم فهو الوصف الذي يراد منه معنى الوصفية، ولذلك تعلقت بها الباء في
قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29) وهذا الوجه ظاهر أيضًا لا
شبهة تجرئ المتعصب على الاعتراض عليه بل هو الأظهر، فهو إذا لم
يجهله يتجاهله تعصبًا {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور:
40) .
_________
(*)(الأحزاب: 4) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلتنا الهندية
شكر علني
(تتمة ما في الجزء الأول)
(مدرسة عليكره)
أبدأ من شكر مدرسة عليكره ومديري شئونها وطلابها بذكر الشيخ
الجليل والمولى النبيل النواب وقار الملك بهادر مولوي مشتاق حسين،
سكرتير (عمدة) المدرسة وأحد زعماء مسلمي الهند وأركان النهضة العلمية فيها،
وبالعالم الأصولي النحرير، والمحامي الشهير المقبل على شأنه، الخبير
بأهل زمانه آفتاب أحمد خان، رئيس مؤتمر التربية والتعليم في الهند،
وبالعالم العامل المهذب الفاضل مولوي محمد حبيب الرحمن، رئيس الشرف
للشعبة الدينية في المدرسة، ثم بسائر العلماء الأعلام المدرسين، ووجهاء البلد
المقدمين، وفي طليعتهم الدكتور محمد أشرف، والدكتور ضياء الدين،
والأستاذ يوسف هردوتس الألماني أستاذ الشعبة العربية في المدرسة، والسيد
سليمان أشرف البهاري معلم الشعبة الدينية على مذهب أهل السنة، ومولوي
فدا حسين معلم الشعبة الدينية على مذهب الشيعة الإمامية، وعبد المجيد
خواجه المحامي، وأبو الحسن معاون سكرتير المدرسة.
تفضل هؤلاء العلماء الأجلاء باستقبالي على محطة السكة الحديدية خارج
البلد مع جمهور عظيم من أهل المدرسة ووجهاء البلد، وبتوديعي كذلك،
وبالحفاوة الفائقة بي مدة إقامتي بينهم، وقد بالغ النواب الجليل وقار الملك في
التأنق بضيافتي وأعد لي دار صديقه السري الكبير (خان) بهادر نواب محمد
فرمل الله خان الفسيحة الفيحاء، ذات الحديقة الغناء، وكان يدعو لمؤانستي
على الطعام كل يوم أكابر العلماء والأدباء، وقد استفدت من فضلاء عليكره
علمًا وخبرةً بأحوال إخواني مسلمي الهند لم أجدهما عند غيرهم.
ثم أشكر لناظر المدرسة الهمام مستر جي أيشتول بهادر، ترحيبه بي هو
وقرينته الفاضلة ودعوتهما إياي إلى شرب الشاي في دارهما، ووعد الناظر
إياي بالإجابة إلى ما اقترحته عليه من العناية بتوسيع نطاق تعليم اللغة العربية
في المدرسة، وأشكر مثل هذا الوعد لأستاذ الشعبة العربية يوسف هردتس
الألماني، أما النواب وقار الملك وعمدة المدرسة وأساتذتها فإن ارتياحهم
لاقتراحي عليهم لم يكن إلا تذكيرًا بما لا يغيب عن أذهانهم، بل رميًا عن
قوس عقيدتهم، وقد وعدوني بأنهم سينشئون ناديًا في المدرسة لا يتكلمون فيه
إلا بالعربية، ولعلهم أنجزوا الموعد، فإنهم أهل الوفاء والصدق، وقد ذكرني
رأيهم هذا، وكان وعدا مفعولاً، ما حدثني به بعض علماء المسلمين في
روسية وهو أنهم توسلوا إلى التمرن على اللغة العربية باتفاق أهل العلم
وطلابه على التزام التكلم بالعربية دون سواها في مدة شهر رمضان.
أما النواب الجليل فقال كما قال هردوتس: إنه لا يتيسر لهم اتفاق تعليم
اللغة العربية ما دامت المدرسة تابعة لنظارة معارف (إله آباد) قال النواب:
وإننا قد جمعنا المال الكافي لتحويل المدرسة إلى جامعة مستقلة، فمتى تم لنا
ذلك فإننا نجتهد فيما اقترحتموه علينا من إتقان تعليم الدين وتعليم العربية أتم
الاجتهاد، وقد أحزنني بعد عودتي ما بلغني من استقالة النواب الجليل من
المدرسة، ولا أدري أحق ما قيل من أن المال الذي كان جمع لجعلها جامعة قد
دفع لإعانة الدولة العثمانية على الحرب أم لا؟ وإذا صح فهل تصدوا لجمع
غيره أم لا؟ أما المبلغ فهو مئتا ألف جنيه إنكليزي وبضعة آلاف من الجنيهات.
ولا يسعني من شكر طلاب المدرسة النجباء والثناء عليهم إلا الإجمال،
فقد قرت عيني بما رأيته من أمارات النجابة والاجتهاد عليهم، وما توسمته
من شعور الإخاء الإسلامي في وجوههم، وما قابلوا به خطبتي عليهم في
التربية من الارتياح والقبول، وقولهم: إنهم نقشوها في ألواح النفوس وصحف
القلوب، ثم إن طلاب القسم العالي والأعلى منهم لم يكتفوا بإظهار سرورهم
واحترامهم بالقول الحسن، والزيارة والسؤال، وغير ذلك من شعائر الاحترام،
بل استأذنوا النواب الجليل في مأدبة حافلة للعشاء باسمهم فكانت مأدبتهم أكبر
مأدبة أكرمني بها أمراء الهند وأغنياؤهم، فإن أصحاب الدعوة من الطلبة
بضع مئين ودعوا معي أساتذة المدرسة من الوطنيين والأوربيين ووجهاء البلد،
على أنهم قدروا نفقات دعوة لزهاء ألف رجل يقدم لهم أنفس ما يأكل الأمراء
والكبراء من الطعام، ثم اكتفوا بعد مذاكرتي ورضائي مع الإعجاب والسرور
بأن يجعلوا المأدبة في الدرجة الوسطى ويجعلوا باقي ما قدروه من نفقتها إعانة
لأيتام وجرحى المجاهدين في طرابلس الغرب، فكان ذلك ثلث ما قدروه،
وكذلك فعل العالم العامل التقي الخفي مولوي حبيب الرحمن الذي آثر بأن
أسميه صديقي المحبوب في دعوته إياي إلى حفلة الشاي، فحيا الله هؤلاء
الإخوة الكرام.
***
(مدرسة ديوبند)
قد بينت في العجالة التي كتبتها عن رحلتي وأنا في العراق ما كان من
سروري وارتياحي في مدرسة ديوبند الدينية، وأن الخُبر لها كان خيرًا من
الخَبر عنها، فأشكر لعلمائها الأعلام وطلابها النجباء تواضعهم وكرمهم
بي والعناية باستقبالي وتوديعي؛ إذ خرج لهما رؤساؤهم وجمهورهم إلى
محطة السكة الحديدية البعيدة عن البلد، وفي مقدمتهم مولانا العلامة الشيخ
محمود حسن رئيس المدرسين، ومولانا الحافظ محمد أحمد ناظر المدرسة،
ومولانا العلامة الشيخ عبيد الله رئيس جمعية الأنصار، ومولانا العلامة الشيخ
أنور شاه، ومولانا العلامة الشيخ محمد حبيب الرحمن من كبار المدرسين،
وكان من ذوقهم ولطفهم أن وضعوا على باب المدرسة قطعة كبيرة من النسيج،
مرسومًا عليها حديث: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى
للغرباء) وقد حيوني بالخطب والشعر حياهم الله تعالى، وبالغوا في الاعتذار
عن التقصير في الضيافة بأن حالهم وحال بلدهم الصغيرة لا يمكنانهم من كل
ما يرونه لائقًا من كثرة الألوان وضروب الإتقان، وأقول: إنهم والله ما
قصروا ولقد كانت كيفية ضيافتهم آثر عندي وأروح لنفسي من ضيافات كبراء
الدنيا، ومن مبالغتهم في ضيافتهم أنهم زودونا بأطعمة نفيسة حملوها إلى
القطار الحديدي عند توديعنا، فأكلنا منها في الطريق وأفضنا على الفقراء في
بعض المحطات، وهذا من الكرم الذي انفردوا به دون سائر الكرماء.
وإنني أختم الشكر والثناء بذكر من يستحق أن يشارك أهل كل بلد زرته
هنالك في شكري لهم، وهو صديقي الصفي الوفي، السيد عبد الحق حقي
الأعظمي البغدادي، مدرس اللغة العربية، في مدرسة العلوم الكلية، فإنه كان
رفيقي وأنيسي وترجماني في كل هاتيك البلاد، وإنني ما لقيت في حياتي رفيقًا
أخف روحًا وأكبر مروءةً وأشد تواضعًا وأحسن تصرفًا من هذا الأخ الكريم،
والولي الحميم، فإنه وضع نفسه مني، وهو الكفؤ الكريم، في موضع التلميذ
المجتهد من الأستاذ المحقق، والمريد الصادق من المسلك العارف، والولد
البار من الوالد، بل الخادم الأمين من المخدوم القمين، ثم كتب رسالة في
ملخص رحلتي لقب نفسه فيها بهذه الألقاب، وطبعها ونشرها في البلاد، ولولا
ذلك لما أبحت لنفسي أن أذكرها ولو لأشكرها، وأبين أن فضله وكماله هما
اللذان حملاه على التفضل بها، فهي أيادٍ يمنها عليَّ، وليس لي يد أمنها عليه،
وإنما أسأل الله أن يحسن جزاءه ويديم وفاءه، وأن يقر عينه بولده، حتى
تتصل بهم سلسلة الولاء والوفاء من بعده.
للكلام بقية في شكر أهل عمان والعراق
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدولة العثمانية
تعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيها
ونظرة في حالها ومستقبلها
لا يظهر الاهتمام بأمر الدولة العثمانية في قطر من الأقطار الإسلامية
كما يظهر في الهند ومصر؛ لما امتازا به في الحرية وانتشار العلم، وإننا نرى
في هذا الأيام في مطبوعات الهند ما لا نراه في المطبوعات العربية ولا
التركية من اللهج بالخلافة، والخوف على دولة الخلافة، والتألم من الحرب
البلقانية، وتمني العود إليها بعد الهدنة رجاء النصر للدولة العثمانية.
ومن موجبات الأسف أن هؤلاء المسلمين لا يعرفون حقيقة حال الدولة
ولا حقيقة مصلحتها ومصلحة المسلمين المرتبطة بها، ويترتب على هذا أنهم
لا يعرفون كيف ينفعونها ولا كيف يدفعون الضرر عنها، بل كانوا ولا يزالون
يظنون أن الانتصار والتحزب لكل من يتولى أمر هذه الدولة في الآستانة هو
الذي يقويها ويحفظ استقلالها، ويحفظ بحفظه الإسلام ويقام شرعه ويحمي
الحرمان الشريفان.
على هذه القاعدة كانوا يتشيعون للسلطان عبد الحميد المخرب لبنيان
الدولة من الداخل، ثم صاروا ينتصرون لمن خلفوه من المخربين من الداخل
والخارج، وكانت جرائدهم مظهر هذا الانتصار، وكان من تأثيرها إضعاف
سعي طلاب الإصلاح من العثمانيين في مصر مدة زمن السلطان عبد الحميد،
وقد استطاع الاتحاديون أعداء عبد الحميد أن يستخدموا كثيرًا ممن كان
يستخدمهم الحزب الوطني في مصر، ولكن كان من شؤمهم أن سقط هذا
الحزب ولم يبق له من الأثر إلا سفاهة بعض الشبان الحمقى تظهر في بعض
الجرائد التي لا يأبه لها أحد يؤبه له في مصر.
ولم يستطع المصريون والهنديون أن ينفعوا الآستانة بشيء إلا ما جمعوه
من المال للإعانة على الحرب وبعثات الهلال الأحمر، ولم يكن للحزب
الوطني تأثير في جمع مئات الألوف من الدنانير التي جمعت من مصر، ولكن
كان للمؤيد ولمؤسس المؤيد يد بيضاء وتأثير عظيم في ذلك وهما اللذان
يتهمهما الحزب الوطني بعداوة الدولة العثمانية.
ثم إن مسلمي الهند ومصر صاروا يبحثون في سياسة الدولة الداخلية
والحربية وإنني أعتقد أن جميع الهنديين وأكثر المصريين مخلصون في ذلك
تدفعهم الغيرة الدينية إلى هذا البحث، ولا يشذ إلا أفراد من المنتمين إلى
الحزب الوطني هنا فإنهم مستأجرون، ولا تنفع الكتابة في هذا الموضوع وإن
كانت عن إخلاص إلا إذا كانت عن معرفة صحيحة بحقيقة الحال ورأي
صحيح فيما تقتضيه.
***
(نشرة صحيفة بريس من حيدر آباد)
جاءتنا نسخ من هذه النشرة التي طبعت باللغة العربية لإيقاف العرب في
مصر والشام والآستانة على رغائب إخوانهم المسلمين في الهند في الأزمة
الحاضرة، وعهد إليهم الكاتب أن ينقلوها إلى جرائدهم العربية ويترجموها
بالتركية، وقد وزعنا النسخ التي وصلت إلينا ورأينا من حق الكاتب الغيور أن
نشير إلى ما كتبه في المنار أيضًا وإن كنا لا نوافقه على كل ما ارتآه.
في النشرة مسائل مهمة نلخصها فيما يأتي:
(1)
وصف الكاتب شدة تعلق مسلمي الهند بالدولة العثمانية، وأن الدولة
البريطانية تعرف هذا جيدًا فاستفادت بالخلافة الإسلامية ما استفادت، وذكر
من ذلك أن السلطان تيبواك بطل الإسلام في الهند كان في القرن الثامن عشر
أرسل سفارة سياسية إلى سدة الخلافة ولكن رجال الدولة العلية أصدروا
الفرمان الشاهاني بوجوب مودته للدولة البريطانية. وأن السلطان عبد الحميد
أصدر فرمانا في عهد الثورة الهندية الكبرى سنة 1857 بوجوب طاعة
مسلمي الهند للدولة البريطانية كما طلب منه الإنكليز، وهكذا أصدر الفرمان
للأمير شير علي خان أمير الأفغان بوجوب الاعتصام بحبل مودة الإنكليز.
ونحن نقول للكاتب: صدقت، ونزيده أن الدولة لجهلها بقيمة منصب
الخلافة لم تعمل عملاً ما تستفيد به منه، ولكن الإنكليز هم الذين أحيوا اسم
الخلافة واستخدموه حتى في عهد سلطة الاتحاد والترقي، فقد حملت الوزارة
الاتحادية السلطان محمد رشاد في العام الماضي على إرسال أحد أنجاله بكتاب
خاص من خط يده إلى توديع ملك الإنكليز في مياه ثغر بورسعيد عند سفره
إلى الهند، لأجل الاحتفال بإلباسه تاج الإمبراطورية الهندية، وإعلان مودته
له ولدولته.
ولكن ما يدرينا الآن أن إظهار المسلمين لشدة تعلقهم بالدولة العثمانية
صار يخيف الإنكليز من عاقبته، فحملهم هذا على الرضا بإزالة سلطانها، وهل
ينفع الدولة حينئذ شدة حزن الهنود على ما أصابها، وترك طلبة العلم هنالك أكل
اللحم لتوفير المال لها؟
(2)
أشار الكاتب إلى أقوال ظن أن أهل هذه البلاد اطلعوا عليها، كبيان
جريدة كامريد الدهلوية لحال المسلمين الآن، وقول الخواجة مظهر الحق
(بيرسترات لا) في محاضر ضجت بها أرجاء الهند: إن هذه الحرب أريد بها
إخراج الترك والمسلمين من أوربة، أو حرب بين الإسلام والنصرانية. وما
قاله السير جيمس مستن لفتننت غورنر في خطابه لطلبة كلية عليكرة، ونحن
نخبره أن أهل البلاد العربية لم يطلعوا على ما ذكره ولكني أظن أنه لم يُقل
عندهم شيء إلا وقيل عندنا مثله أو أشد.
(3)
قال: بل الخطر ظهر جليًّا لآسية الصغرى والشام والعراق، بل
العرب نفسها مركز قلوب المسلمين؛ فإن نفوذ أوربة في هذه البلاد أنتم أعلم به
منا، ولا شك أنكم تعرفون كيف يزداد نفوذ ألمانية كل يوم في العراق
والأناضول. وذكر طمع هذه الدولة هناك وطمع فرنسة في سورية، ونسي أو
تناسى أن طمع إنكلترة في بلاد العرب أشد وأوسع، وأن دولة أوربة أنشأت
تبحث في تقسيم أملاك الدولة في القرنين الأخيرين بتدخل أوربة وأنه لا فائدة في
إبقاء سيادة الخلافة اسمًا بلا مسمى.
ونقول إن خواصنا أعلم من خواصكم بكل ما قال - كما قال - ويرون
أن الذنب على الدولة لا على دول أوربة، فإن أوربة قد وصلت إلى درجة عالية
في فتح الممالك وهي ما تسميه الفتح السلمي، ومن المحال أن تبقى الدولة العثمانية
بجانبها وهي على جهلها وخللها وكسلها وعدم اهتمام رجالها بشيء غير سلب مال
الأمة لأجل التمتع به، ولو جارت الدولة تلك الدول في العلم والعمل والعدل
في أمتها والنظام والقوة، لتنافسْنَ في التقرب إليها وتسابقن محالفتها للانتفاع من
قوتها، أوتركْنَها وشأنها خوفاً من شدة بأسها، فهي قد تركت كل عمل نافع
واتكلت على تنازع الدول عليها، توهمًا أنهن لن يتفقن عليها، فخاب ظنها
وبطل وهمها.
(4)
نتيجة ما تقدم والمقصد من النشرة أن إخواننا مسلمي الهند يرون
أنه يجب أن لا ترضى الدولة باستقلال ألبانية بلاد الأرنؤوط، ولا بالتنازل عن
شيء من مكدونية لأن ذلك يسقط مقام الخلافة وهيبتها ويغري الدول بالجري
على هذه الخطة في ولايات آسية، فيجب أن لا تقبل الدولة الصلح بحال من
الأحوال، وأن لا تبالي سيلان أضعاف ما سال من أنهار الدماء، فالخطر على
الدولة مترتب على الصلح، وإذًا يصير الحرمان الشريفان على خطر، وقد بالغ
الكاتب في التحريض على مداومة القتال، وأتى بما أتى به من العبر والأمثال،
فعلم أنه هو وجمهور إخواننا المسلمين هناك يعتقدون أن بالعود إلى الحرب
تحفظ عظمة الخلافة ويصان الحرمان وتعلو كلمة التوحيد.
ونحن هنا نرى جمهور المصريين موافقين لإخوانهم الهنديين في رأيهم
وشعورهم، ومن يعلم هذا منهم يزداد استمساكًا برأيه واطمئنانًا به. وما هذا
منهم بعجيب فإنهم لا يعرفون حقيقة حال الدولة، وإنما العجيب أن يضرب
بعض الكتاب العثمانيين بهذا الدف ويردد نغمات الحرب، ويقول: إما صلح
شريف تحفظ به أدرنة أو نصف أدرنة وإما موت شريف، وذلك أن الدولة
يئست من البلقان كله إلا أدرنة التي ثبتت على الحصار.
إني ليعز علي أن تؤخذ مدينة أدرنة غنيمة باردة بترك الدولة لها صلحًا،
كما عز علي أضعاف ذلك تركها مملكة طرابلس الغرب وبرقة صلحًا،
ولكنني لا أفهم معنى معقولاً لتعريض الدولة للموت في الحرب، ولا كيف
يكون هذا الموت شريفًا في سبيل المحافظة على مدينة أدرنة كلها كما يقترح
بعض الكتاب، أو على نصفها كما تقترح وزارة محمود شوكت باشا الاتحادية.
إن موت الدولة ليس كموت رجل واحد يهان فيبارز من يهينه، وإن كان
أقوى منه لينتقم منه، أو يموت فلا يرى نفسه مهينًا بين الناس، فإن الدولة
شخص معنوي وموتها عبارة عن خروج الحكم فيها من أيدي أهلها إلى أيدي
الأجانب، وأهلها الذين يعزون بحياتها ويشرفون، ويذلون بموتها ويهانون،
لا يموتون بذهاب الحكم منها ولا ينقرضون، فهم إذًا يطلبون الوقوع فيما
يحذرون.
ألا إن من كتم داءه قتله، ألا إننا قد سئمنا الغرور والتغرير، ألا إننا قد
أصبحنا على شفا جرف، وسقوطنا في هاوية العدم منتظر في كل يوم، فلم
يبق عندنا شيء نخاف عليه من إظهار حقيقة حالنا لمن لا يعرفها منا. ألا إن
الحقيقة المجردة من لباس الزور والغرور هي أن هذه الدولة قد أمست بجهلها
وسرفها وغرورها وفقرها، ودهاء أوربة وعلومها وثروتها لا تستطيع أن
تعيش مستقلة عزيزة في عاصمتها بقوانينها وأنظمتها وتقاليدها، وبرجالها
الذين ربتهم أوربة لها، لأنها تربية مذبذبة لا هي إسلامية ولا أوربية، وإنما
تعيش في تلك العاصمة كما تريد أوربة، فلا هي قادرة أن تحفظ عاصمتها من
أوربة ولا الحرمين الشريفين ولا غيرهما من البلاد، ولا يمنع أوربة أن
تتصرف فيها، وهذه حالها، كما تريد إلا تنازع الدول الكبرى واختلافهن،
فمتى اتفقن على شيء أردنه كان الأمر مفعولاً.
ألا إنني قد فطنت لهذا الأمر من قبل وقتلته بحثًا وتفكيرًا، ثم اقترحت
على الدولة من بضع عشرة سنة أن تجعل الآستانة مركزًا حربيًّا وتجعل
عاصمتها دمشق الشام، فإن لم يقبل متعصبو الترك فقونية، وأن تتركهذا
التفرنج كله وتؤسس لها قوة آسيوية حربية أهلية من العرب والترك فتجعل
جميع أفراد الأمة مستعدين للحرب والكفاح للدفاع عن بلادهم وقت الحاجة.
ولكن افتتانها بعظمة اسم القسطنطينية وموقع القسطنطينية وتسمية نفسها دولة
أوربية، وما يتبع ذلك من لذات هذه المدنية، قد حال دون التفكر في هذا
الاقتراح وتنفيذه. وقد علمت في هذه الأيام أن بعض كبراء رجال الدولة اقترح
على السلطان عبد الحميد نقل العاصمة إلى الأناضول قبل الانقلاب الأخير بعدة
سنين وأن أحد كبار ضباط ألمانية الذين تولوا تعليم الجيش العثماني وتنظيمه قد
اقترح مثل هذه الاقتراح في الزمن الأخير، وأخشى أن يصدق عليه المثل: بعد
خراب البصرة، وجميع من أعرف من أهل الرأي العثمانية سيما الترك يرون
أن استمرار الحرب خطر، وليس له فائدة تنتظر، وسيظهر الصواب لجميع
البشر.
***
(حال الدولة ومستقبلها)
فاجأنا هذه الأيام نبأ مفزع وهو أن أنور بك الضابط الاتحادي هجم على
الباب العالي مع فتية من رجال جمعيته الفدائيين في حال انعقاد مجلس الوزراء
وقتلوا ناظم باشا ناظر الحربية والقائد العام وبعض الحاشية وأكرهوا كامل
باشا على الاستقالة فذهب بها أنور إلى قصر السلطان وعاد يحمل فرمان
تعيين محمود شوكت باشا [1] صدرًا أعظم وناظرًا للحربية، فكيف حال
دولة هكذا تسقط وزارتها وهكذا تنصب؟.
سنشرح في آخر هذا الجزء أخبار هذا الانقلاب، ونقول هنا: إن الخطر
على الدولة قد اشتد، وسواء عادت الحرب أو لم تعد، فإن الأمر بيد الدول
ولن تستطيع الدولة أن تعمل بقوتها شيئا، ولكن تبذل دماء ألوف كثيرة
وملايين من النقد بغير عوض ولا فائدة فتزداد ضعفًا على ضعف، ويخشى أن
تستتبع فتنة أنور فتنة داخلية أكبر منها، واللعنة مسجلة من الله ورسوله على
موقظها، ثم ماذا؟
تمتص الآستانة في هذه الفرصة ما يمكن امتصاصه من وشل ثروة
الأمة العثمانية المسكينة، وما يمكن من أموال المسلمين المتمتعين بالثروة
والحرية وهم أهل مصر والهند، فلا يكون ذلك كله إلا كنقطة قليلة من الماء
تقع على خزفة أو آجرة سخنة. ثم لا مندوحة للدولة عن الركوع بين يدي
أوربة والتماس مساعدتها بالمال والحال لإدارة حركة الدولة الداخلية،
ويخشى أن تتوسل الدولة بذلك إلى جعل مالية الدولة وإدارتها تحت مراقبتها،
وذلك منتهى ما تبغيه أوربة من إزالة هذه الدولة بالفتح السلمي.
إن ظني وظن من أعرفهم من العثمانيين المخلصين في زعماء جمعية الاتحاد
والترقي سيئ جدًّا، فنحن لا نستبعد أن يعطوا الدول فوق ما تطلب من ذلك كبيع
الأراضي الأميرية والامتيازات وتقوية النفوذ وهو بيع البلاد الذي يسمونه الفتح
السلمي، فإذا واتاهم محمود شوكت باشا الذي نال الوزارة بمسدساتهم وخناجرهم
فهي القاضية، ويجب على جميع الولايات العثمانية بالفعل أو الاسم أن تقبل
بيع شيء من بلادها بأي اسم كان، فمن يبلغهم بيع شيء من بلادهم للأجانب فليعلنوا
استقلالهم وعدم اعترافهم بهذا البيع كيفما كانت صورته، ولا بالبائع مهما كانت
صفته، وليستعد كل قطر ليكون مثل طرابلس الغرب.
لا أريد تثبيط العثمانيين وسائر المسلمين عن مساعدة الدولة بالمال، فأنا قد
ساعدت بحسب استطاعتي وإنما أقول إن هذه الحرب إن عادت لا تطول، وينبغي
أن يعلم المساعدون أين يضعون أموالهم، فيحبسها أهل الأقطار على صلاح بلادهم،
ويخصها سائر المسلمين بحرم ربهم وحرم نبيهم، فإن ما يتسرب إلى الآستانة لا
يفيد الحرمين ولا غيرهما شيئا، وأن لا يأمنوا جمعية الاتحاد والترقي على شيء
من المال، وإلا ندموا بعد أيام أو شهور حيث لا ينفع الندم.
بذلت هذه النصيحة وأنا موطن نفسي على احتمال إيذاء أشد مما
آذتني به الحكومة الحميدية، وعلى احتمال تخطئة وذم ولعن من الجاهلين
والمنافقين، كما احتملت مثل ذلك قبل من أنصار عبد الحميد، ولكن إذا
كان حقنا في مقاومة عبد الحميد لم يظهر إلا بعد جهاد عدة سنين، فإن حقنا
في الأزمة الحاضرة سيظهر بعد أسابيع أو شهور، وقد كنا نبين سيئات
الجمعية ونسكت عن الحكومة، فإذا رأينا هذه الوزارة آلة بيد الجمعية كوزارة
حقي باشا فإننا لا مندوحة لنا عن الوقوف لها بالمرصاد، وقد انتهينا إلى وقت لا
يمكن السكوت معه والانتظار.
إن الدولة على خطر لا يمكن لعاصمة البيزنطيين الخروج منه ولا
يرجى للإسلام خير منها، فإذا كان محمود شوكت باشا رجلاً فليكسر
جميع تلك القيود والمقاطر، ويقطع جميع هاتيك الأغلال والسلاسل، وليخرج
الدولة من ذلك السجن الذي يتحكم بها فيه الأوربيون واليهود الصهيونيون
كما شاءوا وهو عنوان الإسلام والخلافة. ولينشئ في قلب آسية عاصمة جديدة لا
إسراف فيها ولا تبذير، ولا فخفخة فيها ولا غرور، ولا مكر يهودي،
ولا كيد اتحادي، ولا ضغط أوربي، وليقم الحكومة الجديدة على أساس
اللامركزية، ويجعلها شق الأبلمة بن الأمتين العربية والتركية، بحيث
يكونان أمة واحدة قوية، وينفذ ذلك بهمة تجمع بين العدل والاستبداد، بعد أن
ينظف الجيش مما طرأ عليه من الفساد، ويقتل القتلة الأوغاد. ولا يضيعن
الفرصة التي أضاع مثلها من قبل، وبذلك ينقذ نفسه والدولة من الخطر، وإلا
ندم حيث لا ينفعه الندم، وأسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة فرجًا ومخرجًا، وإننا
لا ندخر في خدمة من يعمل لإنقاذها وسعًا.
_________
(1)
محمود شوكت باشا، شركسي الأصل بغدادي المنشأ وليس فاروقيًّا ولا عربي
النسب كما شاع عقب الانقلاب ووقعنا يومئذ في الخطأ الذي وقع فيه غيرنا، وقد أخبرني أخوه الفاضل مراد بك بأصلهم وسبب وجودهم في العراق وكان رفيقًا لي في سفري من بغداد إلى حلب.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
نظريتي في قصة صلب المسيح
وقيامته من الأموات [*]
ذهب علماء الإفرنج المحققون في تعليل منشأ هذه المسألة مذاهب شتى
لأنهم لا يعتقدون حصول هذه القيامة الموهومة. ولسنا في حاجة إلى نقل
آرائهم في مثل هذه المقالة، ومن شاء الاطلاع على شيء من ذلك فليقرأ مؤلفات
رينان وإدوارد كلود، ودائرة المعارف المتعلقة بالتوراة، وكتاب دين
الخوارق وغير ذلك. وإنما نريد الآن أن نقول كلمة في هذا الموضوع لنزيل
الغشاوة عن أعين هؤلاء الناس الملقبين بالمبشرين وهي نظريتي [1] في هذه
المسألة فنقول:
كان بين تلاميذ المسيح رجل يدعى يهوذا، وهو من قرية تسمى خريوت
في أرض يهوذا فلذا عرف بالأسخريوطي، وكان يشبه المسيح في خلقته شبهًا
تامًّا [2] ومن المعلوم أن المسيح كان يدعو الناس إلى دينه في الجليل ولكنه كان
يذهب إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح كما هي عادة اليهود فزارها في
السنة الأولى من بعثته وكان هو وأتباعه القليلون محتقرين فيها لأن اليهود
كانوا يحتقرون أهل الجليل وخصوصًا سكان الناصرة [3] فما كان أحد يبالي بهم
أو يلتفت إليهم، وفي السنة الثالثة من بعثته لما زارها في المرة الأخيرة من
حياته كان شأنه قد ارتفع عن ذي قبل وكثرت أتباعه فحقد عليه رؤساء اليهود
الذين استاءوا من أقواله وأعماله وتعاليمه فصمموا على الفتك به واتفقوا مع
يهوذا الإسخريوطي على أن يدل مبعوثيهم عليه ليقبضوا عليه فذهب يهوذا
معهم ودلهم عليه فإنهم ما كانوا يعرفونه (مرقس 14: 43 - 46) فأمسكوه
وكان ذلك ليلاً وساقوه إلى بيت رئيس الكهنة فتركه جميع التلاميذ وهربوا
(مر 14: 50) ولكن تبعه بطرس من بعيد ثم أنكر علاقته به وفر هو أيضًا
هاربًا، وأما دعوى صاحب الإنجيل الرابع أن يوحنا تبعه أيضًا (يو 18:
15 -
18) فالظاهر أنها مخترعة من واضعه لمدح يوحنا كما سيأتي بيانه
وإلا لذكرها الثلاثة الإنجيليون الآخرون.
ولما كان الصباح ساقوه إلى بيلاطس الذي كان يود إنقاذه منهم ولكن
الظاهر من الأناجيل أنه لم يفلح فحكم بصلبه فأخذه العسكر إلى السجن حتى
يستعدوا للصلب، ففر من السجن هاربًا إما بمعجزة أو بغير معجزة كما فر
بعض أتباعه بعده من السجون أيضًا (راجع أع 12: 6-10 و16: 25
و26) وربما ذهب إلى جبل الزيتون ليختفي (انظر مثلاً يو 8: 1 و59 و10:
39 و11: 53 - 57) وهناك توفاه الله أو رفعه إليه بجسمه أو بروحه فقط
فخرج الحراس للبحث عنه، وكان يهوذا مسلمه قد صمم على الانتحار
وخارجًا ليشنق نفسه في بعض الجبال (متى 27: 3-10) ندمًا وأسفًا على
ما فعل فلقيه الحراس، ونظرًا لما بينه وبين المسيح من الشبه التام فرحوا
وظنوه هو وساقوه إلى السجن [4][5] متكتمين خبر هروبه خوفًا من العقاب
ولمَّا وجد يهوذا أن المقاومة لا تجدي نفعًا ولِما طرأ عليه من التهيج العصبي
والاضطراب النفساني الشديد الذي يصيب عادة المنتحرين قبل
الشروع في الانتحار، ولاعتقاده أنه بقتل نفسه يكفر عما ارتكب من الإثم
العظيم ولعلمه أن قتله بيد غيره أهون عليه من قتل نفسه بيده، لهذه الأسباب
كلها استسلم للموت استسلامًا ولم يفُه ببنت شفة رغبةً منه في تكفير ذنبه
وإراحة ضميره بتحمله العذاب الذي كان سلم سيده لأجله [6] ولما جاءت ساعة
الصلب أخرجوه وساروا به وهو صامت ساكت راضٍ بقضاء الله وقدره
ونظرًا لما أصابه من التعب الشديد والسهر في ليلة تسليمه للمسيح وحزنه
واضطرابه لم يقو على حمله صليبه أو أنه رفض ذلك فحملوه لشخص آخر
يسمى سمعان القيرواني وذهبوا إلى مكان يسمى الجمجمة خارج أورشليم
وهناك صلبوه مع مجرمين آخرين فلم يكن هو وحده موضع تأمل الناس
وإمعانهم ولم يكن أحد من تلاميذ المسيح حاضرًا وقت الصلب إلا بعض نساء
كن واقفات من بعيد ينظرن الصلب مت 27: 55 ولا يخفى أن قلب النساء
لا يمكِّنهن من الإمعان والتحديق إلى المصلوب في مثل هذا الموقف وكذلك
بُعد موقفهن عنه، فلذا اعتقدن أنه هو المسيح، وأما دعوى الإنجيل الرابع
19: 26 أن مريم أم عيسى ويوحنا كانا واقفين عند الصليب فالظاهر أنها
مخترعة كالدعوى السابقة لمدح يوحنا أيضًا إذ يبعد كل البعد كما قال رينان أن
تذكر الأناجيل الثلاثة الأول أسماء نساء أخريات وتترك ذكر مريم أمه
وتلميذه المحبوب يوحنا، كما يسمي نفسه بذلك في أغلب المواضع، إذا صح أنه
هو مؤلف الإنجيل الرابع.انظر إصحاح 13: 3 و21: 20 وغير ذلك كثير.
هذا وقلة معرفة الواقفين للمسيح لأنه كان من مدينة غير مدينتهم (راجع
يوحنا ص7) وشدة شبه يهوذا به وعدم طروء أي شيء في ذلك الوقت
يشككهم فيه - كل ذلك جعلهم يوقنون أن المصلوب هو المسيح، حتى إذا شاهد
القريبون منه تفاوتًا قليلاً في خلقته حملوه على تغير السحنة الذي يحدث في مثل
هذه الحالة ومن مثل هذا العذاب. وكم في علم الطب الشرعي من حوادث ثابتة
اشتبه فيها بعض الناس بغيرهم حتى كان منهم من عاشر امرأة غيره الغائب
بدعوى أنه هو وجازت الحيلة على الزوجة والأهل والأقارب والمعارف
وغيرهم ثم عرفت الحقيقة بعد ذلك، وأمثال هذه الحوادث مدونة في كتب هذا
العلم في باب تحقيق الشخصية: (Identification)
فليراجعها من شاء.
ومنهم من شابه غيره حتى في آثار الجروح والعلامات الأخرى واللهجة
في الكلام (راجع الفصل الأول من كتاب أصول الطب الشرعي لمؤلفيه جاي
وفرير الإنكليزيين) .
فلا عجب إذن إذا خفيت حقيقة المصلوب عن رؤساء الكهنة والعسكر
وغيرهم وخصوصًا لأنهم ما كانوا يعرفونه حق المعرفة ولذلك أخذوا يهوذا
ليدلهم عليه كما سبق فاشتبه عليهم الأمر كما بيَّنَّا وكان المصلوب هو يهوذا
نفسه الذي دلهم عليه فوقع كما كان دبره لسيده (انظر مز 6: 8-10 و7: 5
ومز37 وأمثال 11: 8 و21: 18) .
ولما كان المساء جاء رجل يسمى يوسف فأخذ بجسد المصلوب ووضعه
في قبر جديد وقريب ودحرج عليه حجرًا وكان هذا الرجل يؤمن بالمسيح ولكن
سرًّا (يو 19: 38) ومن ذلك يعلم أنه ما كان يعرف المسيح معرفة جيدة
تمكنه من اكتشاف الحقيقة وخصوصًا بعد الموت، فإن هيئة الميت تختلف قليلاً
عما كانت وقت الحياة لا سيما بعد عذاب الصلب، وروى الإنجيل الرابع وحده
أن رجلاً آخر يدعى نيقوديموس ساعد يوسف في الدفن أيضًا (19: 39)
وكان هذا الرجل عرف يسوع من قبل وقابله مرة واحدة في الليل (يو 3:
1-
13) فمعرفته به قليلة جدًّا وكانت ليلاً منذ ثلاث سنين تقريبًا أي في أوائل
نبوته، وفي كتب الطب الشرعي والمجلات الطبية عدة حوادث خدع فيها
الإخوان والأقارب بجثث موتى آخرين (راجع كتاب الطب الشرعي المذكور
صفحة 32 منه) فما بالك إذا لم يكن الشخصان الدافنان للمصلوب يعرفانه حق
المعرفة كما بينا.
لذلك اعتقد جمهور الناس وقتئذ أن المسيح صلب ومات ودفن فحزن
تلاميذه وأتباعه حزنًا شديدًا وفرحت اليهود وشمتوا بهم ولو أمكن التلاميذ
إحياءه من الموت لفعلوا ففكر منهم واحد أو اثنان في إزالة هذا الغم الذي حاق
بهم وما لحقهم من اليهود من الشماتة والاحتقار والذل فوجد أن أحسن طريقة
لإزالة كل ذلك ولإغاظة اليهود أن يسرق جثة المصلوب من القبر ويخفيها في
مكان آخر ليقال إنه قام من الأموات ولم تفلح اليهود في إعدامه إلا زمنًا قليلاً
وهكذا فعل وأخفى الجثة.
فلما مضى السبت الذي لا يحل فيه العمل لليهود جاءت مريم المجدلية إلى
القبر فجر يوم الأحد فلم تجد الجثة فدهشت وتعجبت وأسرعت إلى بطرس
(ويقول الإنجيل الرابع كما هي عادته: إلى يوحنا، أيضًا) وأخبرتهما أن الجسد
فُقد من القبر فذهبا معها ووجدا كلامها صحيحًا فقالا: لا بد أنه قام من الموت،
وهذا القول هو أقرب تفسير يقال من تلاميذ المسيح المحبين له المؤمنين به
وربما كانا هما المُخفين للجثة أو أحدهما (بطرس) ولذلك نجده في سفر
الأعمال وفي الرسائل يتكلم أكثر من يوحنا عن قيامة المسيح بل أكثر من
جميع التلاميذ الآخرين.
أما مريم المجدلية فمكثت تبكي لعدم وجود الجثة وعدم معرفتها الحقيقة
وكانت عصبية هستيرية، وبتعبيرهم: كان بها سبعة شياطين (مرقص 16-
9) فخيل لها أنها رأت المسيح ففرحت وأسرعت وأخبرت التلاميذ (يو 20:
18) أنها رأته وأما النساء الأخريات اللاتي ذهبن إلى القبر فلم يرينه كما يفهم
من أنجيل مرقص ولوقا، وغاية الأمر أنهن رأين القبر فارغًا وبعض الكفن
الأبيض باقيًا فخيل لبعضهن - وكلهن عصبيات - أن ملكًا كان واقفًا في القبر
وأمثال هذه التخيلات الخادعة كثيرة الحصول للناس وخصوصًا للنساء عند
القبور وفي وقت الظلام (يو 20: 1) وما حادثة قيام المتبولي من قبره عند
عامة أهل القاهرة ببعيدة. ويجوز أنهن رأين رجلين من أتباع المسيح ممن لا
يعرفنهم وكانا هما السارقين للجثة ففزعن منهما وغشاهن حتى ظنن أنهما
ملكان بثياب بيض (انظر لو24: 4) فكثرت أحاديث هؤلاء النسوة كل منهن
عمَّا رأته ومنها نشأت قصص الأناجيل في قيامة المسيح كما نشأت الحكايات
الكثيرة المتنوعة عن قيامة المتبولي في هذه الأيام في مصر [7] ولذلك اختلفت
قصة القيامة في الأناجيل اختلافًا عجيبًا يدل على أن كل كاتب أخذ ما كتب عما
حوله من الإشاعات والروايات المختلفة التي لم تكن وقتئذ مرتبةً ولا منظمةً.
ويظهر من هذه الأناجيل أن التلاميذ بعد ذلك صاروا محاطين بالوساوس
والأوهام من كل جانب حتى إنهم كانوا كلما لاقاهم شخص في الطريق واختلى
بهم أو أكل معهم ظنوه المسيح ولو لم يكن يشبهه في شيء ظنًّا منهم أن هيئته
تغيرت (مر16: 12 ولوقا 24: 16 ويو21: 4-7) فكانت حالهم أشبه
بحال العامة من سكان القاهرة الذين التفوا منذ زمن قريب حول رجل سائر في
الطريق في صبيحة إشاعة انتقال المتبولي من قبره يصيحون: سرك يا
متبولي، كما نقلناه هنا عن بعض جرائد العاصمة التي ذكرت تلك الحادثة في
ذلك الحين لاعتقاد الناس أنه هو المتبولي الذي قام من قبره وكانوا يعدون
بالمئات إن لم يبلغوا الألوف ولا يبعد أن بعض أولئك الناس الذين لاقاهم
التلاميذ كان بلغهم الإشاعات عن قيامة المسيح فكانوا يضحكون من التلاميذ
ويسخرون بهم ويأتون من الأعمال والحركات ما يوهم التلاميذ أن ظنهم فيهم
هو صحيح كما كان ذلك الرجل السابق ذكره يقول للناس لما رآهم التفوا حوله:
أنا المتبولي أنا المتبولي.
وروى الدكتور كاربنتر في كتابه (أصول الفسيولوجيا العقلية) ص 207 أن
السير والترسكوت (Walter Scott Sir) رأى في غرفته وهو يقرأ صديقه
اللورد بيرون (Byron Lord) بعد وفاته واقفًا أمام عينيه فلما ذهب إليه لم يجد
شيئًا سوى بعض ملابس وهي التي أحدثت هذا التخيل الكاذب (IIIusion) وفي
حريق قصر البلور (Crystal Palace) في سنة 1866 خيل لكثير من الناس
أن قردًا يريد الفرار من النار بتسلقه على قطع حديدية كانت في سقف هناك والناس
وقوف يشاهدون هذا المنظر متألمين، ثم اتضح أنه لم يكن ثم قرد مطلقًا وإنما هو
منظر كاذب كما حكاه الدكتور تيوك (Dr.Tuke) وذكر الدكتور هبرت
(Hibbert Dr.) في مقال أن جماعة كانوا في مركب فشاهدوا أمامهم طباخًا لهم
يمشي
وكان مات منذ بضعة أيام فلما وصلوا إليه وجدوا قطعةً من خشب طافية على سطح
الماء، وهناك أمثلة أخرى عديدة كهذه يعرفها المطلعون على علوم الفسيولوجيا
والسيكولوجيا والأمراض العقلية وكان المخدوعون فيها عدة أشخاص.
ويدخل في هذا الباب (باب الخيالات الكاذبة والأوهام) دعوى القبط في
مصر أنهم في ثاني يوم لعيد النيروز (أي 2 توت من السنة القبطية) إذا
نظروا إلى جهة الشرق بعد طلوع الشمس بقليل رأوا رأس يوحنا المعمدان كأنه
في طبق والدم يسيل من جوانبه وقد أكد لي بعضهم، وهو من الصادقين عندي،
أنه رأى ذلك المنظر بعيني رأسه في الأفق وكثير من نسائهم يقلن أنهن رأينه
أيضًا.
ومن ذلك أيضًا ما كان يراه القدماء وخصوصًا النصارى في أوروبا في
القرون الوسطى وقت ظهور ذوات الأذناب في السماء كالذي ظهر عندهم سنة
1556 ميلادية فإنها رأوا فيه وفي غيره سيوفًا من نار وصلبان وفرسان على
الخيل وغزلان وجماجم قتلى إلخ إلخ، وكانوا يتشائمو من هذه المناظر
وينزعجون منها، وقد رسم بعضهم صور ما كانوا يرونه من ذلك ونشر في
كتبهم راجع كتاب (الفلك للعاشقين) تأليف كاميل فلامريون ص 187 و189.
ورأى اليهود قبل خراب أورشليم نحو ذلك أيضًا في السماء كمركبات
وجيوش بأسلحتها تركض بين الغيوم حتى تشائموا منها كثيرًا، وفي عيد
الخمسين لما كان الكهنة داخلين ليلاً في دار الهيكل الداخلي سمعوا صوتًا كأنه
صوت جمع عظيم يقول: دعنا نذهب من هنا. إلى غير ذلك من الأوهام
والخيالات التي وصفها مؤرخهم الشهير يوسيفوس في بعض كتبه وذكرها
أيضًا تاسيتوس مؤرخ الرومان وهي أوهام لم تخل أمة من مثلها في كل زمان
ومكان، وقد تظهر أيضًا مناظر عجيبة كهذه في الأفق من انكسار أشعة
الشمس في طبقات الهواء (Mirage) راجع كتاب (الرسل) لرينان ص
42 في رؤية المسيح في الجليل بعد صلبه.
أما دعوى الإنجيل الأول (متى) أن حراسًا ضبطوا القبر وختموا عليه
(27: 66) فهي كما قال العلامة (أرنست رينان) اختراع يراد به الرد
على اليهود الذين ذهبوا إلى القول بسرقة الجثة حينما أكثر النصارى من القول
بالقيامة بعد المسيح بمدة (انظر مت 28: 15) ولذلك لم ترد قصة حراسة
القبر في الأناجيل الأخرى، ولو كانت حقيقية لما تركوها فهي الرد الوحيد الذي
أمكن لكاتب الإنجيل الأول أن يبتكره لدفع ما ذهب إليه اليهود في ذلك الزمان.
وزد على ذلك أن هذا الإصحاح (27) من إنجيل متى قد اشتمل على غرائب
أخرى كانفتاح القبور وقيام الراقدين من الموت ودخولهم المدينة، إلخ إلخ
(27: 51 - 54) وكل هذه أشياء يراد بها التهويل والمبالغة، ولا يخفى على
عاقل مكانها من الصحة ولذلك رفضها المحققون من علماء أوروبا اليوم. ولو
وقعت لكانت أغرب ما رأى الناس ولتوفرت الدواعي على نقلها فنقلها كتبة
الأناجيل كلهم ممن اعتمدت الكنيسة أناجيلهم ومن غيرهم ولاشتهرت فنقلها
المؤرخون كيوسيفوس وغيره.
ولا ندري متى قال المسيح لليهود أنه سيقوم في اليوم الثالث؟ ولماذا
يظهر نفسه لهم؟ وما فائدة هذا الجسد المادي الذي كان يحتاج للأكل والشرب
بعد القيامة (لو 24: 41 و42) حتى يحيا بعد الموت ويبقى إله العالمين
مقيدًا به إلى الأبد؟ نعم ورد في إنجيل يوحنا أنه قال لليهود (2: 19) :
انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه. ولكن نصت هذه الأناجيل على أن
اليهود لم يفهموا هذا القول بل ولا تلاميذ المسيح أنفسهم (انظر لوقا: 18:
34، ويو 2: 21 و22 و20: 9 ومر 9: 32) وقد كذب هذه العبارة متى
نفسه فقال: إنها شهادة زور (26: 60 و61) فكيف إذًا أرسل اليهود كما
قال متى حراسًا ليضبطوا القبر خوفًا من ضياع الجثة؟ وأي شيء نبههم إلى
ذلك العمل مع أن أقوال المسيح لم يفهمها نفس تلاميذه إذا صح أنه قال هذه
العبارة أو غيرها؟ أما قوله لليهود (متى 12: 40: لأنه كما كان يونان
في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض
ثلاثة أيام وثلاث ليال) قد قال فيه بعض محققيهم مثل بالس وشاتر إنه زيادة من
كاتب الإنجيل للتفسير. وهي زيادة خطأ فلم يمكث إلا يومًا وليلتين ولذلك لم ترو
هذه الزيادة في إنجيل من الأناجيل الأخرى، وقول متى 12: 39: ولا تعطى له
آية إلا آية يونان النبي. يريد به أنه كما آمن أهل نينوى بيونان (يونس) من
غير أن يروا منه آية كذلك كان الواجب أن تؤمنوا بي بدون اقتراح آيات وبدون
عناد، ولذلك قال بعد ذلك 41: رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل
ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان هنا. وفي القرآن
الشريف نحو ذلك أيضًا {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا
آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:
98) وعلى كل حال، إذا كان نفس تلاميذه لم يفهموا ذلك إلا بعد قيامته
(يو 20: 9) مع أنه كان أخبرهم به أيضًا على انفراد (مت 20: 17) فكيف
فهمه اليهود قبلهم؟ وكيف لم يصدق التلاميذ قيامته حينما أُخبروا بها؟
(مر 16: 11) إذا صح أن المسيح أنبأهم بها من قبل؟ وكيف يعقل أن رؤساء
الكهنة والفريسيين يذهبون إلى بيلاطس في يوم السبت كما قال متى (27:
62) وينجسون أنفسهم بالدخول إليه وبالعمل في السبت كضبط القبر بالحراس
وختم الحجر (مت 27: 66) مع أنهم هم الذين لم يقبلوا الدخول إلى بيلاطس
يوم محاكمة المسيح خوفًا من أن ينجسوا أنفسهم فخرج هو إليهم كما قال يوحنا
(18: 28) وهم الذين سألوه إكرامًا للسبت أن لا تبقى المصلوبون على الصليب
فيه (يو 19: 31) فما هذا التناقض وما هذه الحال؟
ولنرجع إلى ما كنا فيه: وقد اعتقد جمهور الناس في ذلك الوقت أن
المصلوب هو المسيح وأنه قام من الموت ولما لم يجدوا يهوذا الإسخريوطي
قالوا: إنه انتحر بشنق نفسه. وربما أنهم بعد بعض الأيام وجدوا خارج أورشليم
في بعض الجبال جثة مشقوقة البطن من التعفن الرمي فظنوها جثته (ع 1: 18)
ويجوز أنها كانت جثة المسيح نفسه على القول بأنه مات بعد هروبه من
السجن كباقي الناس، ولم يرفع إلى الله تعالى إلا رفعًا روحانيًّا معنويًّا كقوله
تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} (الأعراف: 176)
وكقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) وقوله:
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) وفي معنى ذلك أيضًا قوله تعالى:
{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الصافات: 99) وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) وقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (آل عمران:
169) وغير ذلك كثير.
ولما كان بعض التلاميذ يستبعدون الموت على المسيح لشدة حبهم
وتعظيمهم له، كما فعل بعض الصحابة عقب موت رسول الله - ذهب بعضهم
بالرأي والاجتهاد إلى أن المصلوب لا بد أن يكون غير المسيح وقالوا إنه إما
يهوذا أو واحد آخر وخصوصًا لأنهم لم يعلموا أين ذهب يهوذا.
ومن ذلك نشأت مذاهب مختلفة بين النصارى الأولين في مسألة الصلب
والقيامة، كانت أساسًا لفرق كثيرة ظهرت بعدهم ذكرناها مرارًا سابقًا في المنار
وغيره مما كتبنا. لذلك قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم
بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} (النساء: 157) .
فساد مذهب القائلين بالصلب لأنه هو الظاهر مما شوهد إذ ذاك وساعد على
نشره القول بالقيامة ودعمه بولس ومن وافقه بنظرياتهم في الخلاص [8] والفداء
وببعض نصوص من العهد القديم لووها وأولوها
بحسب أوهامهم وأفكارهم وقد بينا بطلانها في كتاب (دين الله) وقد رفض بولس
هذا وجميع رسائله أقدم فرقهم القديمة كالبيونيين (Ebionites) وكانوا أقرب
الناس إلى تعاليم المسيح الحقيقية وغاية في الزهد والتقوى وكان عندهم إنجيل
متى العبراني الأصلي المفقود الآن.
ومن الجائز أن يوسف ونيقوديموس (إذا صح أنه حضر معه) كانا يخافان على
الجثة من اليهود أن يهينوها أو يمثلوا بها أو يتركوها للحيوانات المفترسة
كالمعتاد أو نحو ذلك زيادة في النكاية بالمسيح وأتباعه وكما كان يعمل في
المصلوبين بحسب عادة الرومان، فتظاهرا بأنهما قد أتما دفن الجثة ومضيا. فلما
تحققا أنه لم يبق عند القبر أحد مطلقًا خوفًا من أن يطلع على ما يفعلان رجعا
ونقلاها إلى موضع آخر لا يعلمه أحد، وتعاهدا على أن لا يبوح أحد بسرهما، ثم
ذهب يوسف إلى بلدته الرامة على بعد 6 أميال إلى الشمال من أورشليم ورجع
نيقوديموس إلى بيته وكلاهما كان عضوًا في السنهدريم مجمع اليهود وكانا
يؤمنان بالمسيح ولكن سرًّا لخوفهما من اليهود (يو 19: 38 و7: 50) وربما
أنهما لم يجاهرا اليهود بشيء حتى ولا بأنهما هما اللذان دفنا الجثة وخصوصًا
نيقوديموس، ولذلك لم تذكره الأناجيل الثلاثة الأول، وربما قال يوسف
لليهود تعميةً لهم: إني بعد أن استلمت الجثة وكفنتها سلمتها لغيري ممن حضر
ليدفنها وتركته ولا أعلم باليقين أين وضعها ولا أعرف اسمه. وخصوصًا
لأن كل الجموع الذين كانوا حاضرين الصلب كانوا قد رجعوا إلى منازلهم كما
قال لوقا (23: 48) ولم يبق وقت الدفن أحد يشاهدهما إلا مريم المجدلية ومريم
أم يوسي (مر 15: 47 ومت 27: 61) ولا ندري إذ صح ذلك كيف أرادتا
العودة إلى القبر لتحنيط الجثة مع أنهما شاهدتا يوسف ونيقوديموس يحنطانها كما
تقول الأناجيل؟ (يو 19: 39 و40) وقال كيم أحد علماء الإفرنج في كتابه
(يسوع الناصري) مجلد 3 ص 552: إنه لا يحرم على أحد من اليهود في
يوم السبت أن يقوم بالواجب نحو جثة الميت كالتحنيط والتكفين ونحوهما. فلا
يفهم أحد ما الذي أخر هؤلاء النسوة عن الذهاب إلى القبر يوم السبت والقيام بما
يردن عمله للمسيح فيها. انظر كتاب دين الخوارق ص 826 وهل لم يكفهن
الحنوط العظيم الذي أحضره نيقوديموس (يو 19: 39) حتى اشترين غيره
(م16: 1) ولكن لنتغاض.
وبعد السبت في فجر يوم الأحد جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى إلى
القبر الذي كانتا شاهدتا الجثة وضعت فيه أولاً (متى 28: 1) فلم تجداها
فكان ما كان من إشاعة قيامة المصلوب من الموت، هذا إذا لم نقل إنهما ضلتا
عن القبر بسبب شدة الحزن والبكاء والتعب والظلام، وكثيرًا ما تضل نساء
مصر مثلاً ورجالها عن معرفة قبورهم حتى بعد التردد عليها مرةً أو مرتين
كما هو مشاهد معروف ولذلك لم يعرف علماؤهم موضع هذا القبر باليقين إلى
اليوم.
ولما انتشرت إشاعة القيامة كانت قاصرةً على التلاميذ وأتباع المسيح فقط
في أورشليم (لو 24: 33) ولم يقدروا على التجاهر بها أمام اليهود في أول
الأمر ولذلك كانوا يجتمعون والأبواب مغلقة لئلا يسمع كلامهم اليهود خوفًا
منهم كما قال يوحنا (20: 19) وكانوا على هذه الحالة إلى ثمانية أيام (يو
20: 26) ثم لم يجسروا على المجاهرة بالدعوة إلى دينهم إلا بعد نحو
خمسين يومًا كما في سفر الأعمال (2: 1) وفي هذه المدة على فرض عثور
أحد على الجثة لا يمكن تمييزها عن غيرها بسبب التعفن الرمي.
ودعوى إيمان ثلاثة آلاف نفس من اليهود في يوم الخمسين يكذبها عدم
وجود بيت للتلاميذ يسع كل هذا العدد فإنهم كانوا نحو 12 رجلاً (أع 1:
15) واليهود الذين تنصروا نحو ثلاثة آلاف (أع 2: 41) ولا ندري عدد
الذين لم يتنصروا من اليهود الذين حضروا الاجتماع في أورشليم من كل أمة
تحت قبة السماء كما قال سفر الأعمال (2: 6 - 13) الذي قال أيضًا إن هذا
الاجتماع العظيم كان في بيت (2: 2) فأين هذا البيت وملك مَن مِن التلاميذ
وكلهم من الجليل (أع 2: 7) ؟
ومن الذي أخبر كل هذه الجماهير من جميع الأمم المتنوعة بما هو
حاصل في بيت التلاميذ الخاص من نزول روح القدس عليهم وتكلمهم بألسنة
مختلفة حتى هرعوا إليه صنفًا صنفًا؟ ولماذا لم يكتب التلاميذ الأناجيل والرسائل
بلغات العالم هذه التي عرفوها ليتيسر للناس قبولها بدون ترجمة؟ وتكون معجزة
باقية إلى الأبد؟ ولماذا كان بطرس محتاجًا لمترجمه مرقس إذًا؟ كما رواه بايباس
وصدقه جميع آباء الكنيسة القدماء، ولكن لنرجع إلى ما كنا فيه.
وذهب جماعة من علماء النقد في أوربا وكثير ما هم إلى أن القبر الذي
وضع فيه المصلوب وكان منحوتًا في الصخر أصابه ما أصاب غيره من
الزلزلة التي حدثت في ذلك الوقت وذكرها متى في إنجيله (28: 2) فتفتحت
بعض القبور وزالت بعض الصخور وتشققت (راجع أيضًا مت 27: 51 و 52)
فضاع بسبب ذلك الجسد المدفون في شق من الشقوق، ثم انطبق وانهال عليه شيء
من التراب والحجارة حتى انسد الشق ولم يقف أحد للجثة على أثر.
وكان ذلك قبيل وصول المرأتين إلى القبر فلما وصلتا إلى هنالك ولم تجدا
الجثة ورأتا آثار الزلزلة أو شعرتا بشيء منها فزعتا وظنتا أن ذلك بسبب نزول
الملائكة وقيام المسيح من القبر (مت 28: 2) وقد أخذت الرعدة والحيرة منهما
كل مأخذ حتى لم تقدرا على الكلام (مر 16: 8) ولا يستغربن القارئ ما ذكر ففي
وقت الزلازل كثيرًا ما تنفتح الأرض وتبتلع بعض أشياء ثم تنطبق عليها.
ووقوع هذه الزلزلة قبيل وصول المرأتين إلى القبر من المصادفات التي
حدثت في التاريخ أعجب منها فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنت الصحابة أن ذلك معجزة للنبي صلى الله
عليه وسلم فقال عليه السلام لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا
يخسفان لموت أحد ولا لحياته) الحديث، يعني أن نظام هذا الكون العظيم لا
يتغير لموت أي أحد في هذه الأرض الصغيرة الحقيرة، فيالله ما أصدقه من
رسول، ولو كان كغيره من الكذابين لفرح بما قاله أصحابه وثبت اعتقادهم فيه.
ومن أعجب المصادفات التاريخية أن قمبيز ملك الفرس طعن العجل أبيس
في فخذه فقتله استهزاءً بالمصريين وإلههم وبينما هو سائر في طريقه سقط
سيفه على فخذه أيضًا فجرحه جرحًا بليغًا ساقه في الحال إلى الموت فظن
المصريون أن ذلك بسبب فعل آلهتهم به، فما أعجب عقل الإنسان وما أغرب
كثرة ميله إلى الأوهام والخرافات.
وإذا تذكرنا أن ذلك القبر كان منحوتًا في الجبل في مكان خراج أورشليم
بقرب الموضع المسمى بالجمجمة وكان مدخل مثل هذا القبر أو الكهف من
الجهة السفلى كما كانت عادة الناس في ذلك الوقت في نحت القبور على ما
ذكره رينان وغيره، فمن الجائز أن الزلزلة أزالت الحجر الذي سد به هذا
القبر فدخلت بعض الحيوانات المفترسة كالسبع أو الضبع ونحوهما وأخذت
الجثة وفرت بها، وهو تعليل آخر معقول.
وقال بعض علماء الإفرنج: إن من عادة اليهود أن لا يضعوا هذا الحجر
على باب القبر إلا بعد مضي ثلاثة أيام من الدفن، فإن صح ذلك فلا داعي للقول
بهذه الزلزلة هنا في هذا الوجه.
والخلاصة أن ضياع الجثة لا دليل فيه على هذه القيامة وخصوصًا لأن
المسيح لم يظهر لأحد من المنكرين له مع أنه كان وعدهم بذلك حسب إنجيل
متى (12: 39 و40) وفضلاً عن ذلك فليس بين تلاميذه وأتباعه من رآه في
وقت عودة الحياة إليه وقيامه من القبر؛ فإن ذلك كان أولى بإقناع الناس وإقناع
تلاميذه الذين بقي بعضهم شاكًّا حتى بعد ظهوره لهم (مت 28: 17 ولو24:
38 ت41 ويو20: 27) مع أن اتباع هذه الطريقة كان أقرب وأسهل في
الإقناع وأبعد عن مثل الشبهات التي ذكرناها.
فإن قيل إن ذلك سيكون ملجئًا للإيمان وهو ينافي الحكمة الإلهية، قلت:
وهل إحياء المسيح للموتى أمام الناس ما كان ملجئًا ولا منافيًا للحكمة الإلهية؟!
وكذلك قيام أجساد القديسين الراقدين ودخولهم المدينة المقدسة على ما ذكره
متى؟ (27: 52 و53) فأي فرق بين هذه الآيات البينات والمعجزات
القاطعة، وبين قيامته هو من الموت؟ فكيف يجب على البشر الإيمان بها
وهي قابلة للشك والطعن؟ حتى من أتباعه الذين ملأوا الدنيا بكتبهم المشككة
في هذا الدين وعقائده ، وحتى شك فيها التلاميذ أنفسهم (متى 28: 17) من
قديم الزمان.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) من قلم الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(1)
حاشية: النظرية هي الرأي الذي يقال لتفسير بعض المسائل وتعليل بعض الحقائق تعليلاً عقليًّا
مقبولاً، فنحن في هذه المقالة قد فرضنا جدلاً صحة أكثر ما في هذه الأناجيل من الحكايات وسلمنا أن
لبعضها الآخر أصلاً صحيحًا، وما رفضناه منها إنما هو لسبب معقول ولكن علمنا بما فعل منتحلو
النصرانية الأقدمون من التلاعب والتحريف والغش والتزوير فيما وصل إلى أيديهم من الكتب سواء كانت لهم أو لغيرهم من الأمم وافتجارهم الرسائل الكثيرة والكتب العديدة ونسبتها إلى غير مؤلفيها - كل ذلك يحملنا على الشك في جميع ما نقلوه ورووه. ولذلك نرى علماء النقد الآن في أوربة يشككون في جميع هذه الكتب المقدسة عندهم ويرفضونها بالبراهين العلمية العقلية التاريخية الصحيحة ومنهم من تغالى حتى أنكر وجود المسيح نفسه في العالم لكثرة ما علمه عن القوم من الأباطيل والاختراعات والأكاذيب والمفتريات (راجع دائرة معارف التوراة مجلد 3 ص 3620 وكتابات المستر ج م
روبرتسن) .
(2)
حاشية: ذكر العلامة جورج سيسيل الإنكليزي في ترجمته للقرآن الشريف في سورة آل عمران ص38 أن السيرنثيين Cerinthians والكربوكراتيين Carpocratians وغيرهم من أقدم فرق النصارى قالوا إن المسيح نفسه لم يصلب وإنما صلب واحد آخر من تلاميذه يشبهه شبهًا تامًّا، وفي إنجيل برنابا صرح بأن هذا التلميذ الذي صلب بدل المسيح هو يهوذا الأسخريوطي وهو الذي قالت عنه كتبهم أنه انتحر يوم الصلب (مت 27: 3-8) لأنهم لم يجدوه، والظاهر أنهم لم يعرفوا ما حدث له ولذلك اختلفت تفاصيل قصته في سفر الأعمال (1: 18 -20) عما في إنجيل متى فلهذا كله ذهبنا إلى أنه كان يشبه المسيح وأنه هو الذي صلب بدله كما في المتن.
(3)
حاشية: دعوى ولادة المسيح في (بيت لحم) قد كذَّبها علماء النقد في أوربة وبينوا أن الإحصاء الذي يقول لوقا أنه حمل مريم أم عيسى ويوسف على السفر إلى بيت لحم للاكتتاب هناك لو (2: 1-7) لم يحدث إلا في مدة ولاية كيرينيوس الثانية أي بعد ولادة عيسى بنحو 10 سنين على الأقل والذي حمل النصارى على هذا التلفيق رغبتهم في تطبيق نبوات اليهود وأفكارهم على المسيح كما في ميخا (5: 2-9) فإن اليهود كانت تعتقد أن المسيح لا بد أن يكون من نسل داود ومولودًا في مدينته التي ولد فيها (بيت لحم) مع أن نسل داود كان قد انقرض قبل زمن المكابيين، ولم يقف أحد له على أثر. راجع الفصل الثاني والخامس عشر من كتاب (رينان) في حياة المسيح.
(4)
حاشية: فإن قيل: إن الذي يفهم من هذه الأناجيل أن الصلب كان عقب صدور أمر بيلاطس مباشرة فلم يكن ثم وقت لهروبه من السجن ولا للقبض على غيره كما تقول، قلت: وهل يوثق بما في هذه الأناجيل من التفاصيل المتضاربة المتناقضة في كل جزئية من جزئيات حياة المسيح كما بينه بالتفصيل التام كثير من علماء الإفرنج أنفسهم كصاحب كتاب دين الخوارق Superatuarl Religion وغيره؟ ألا ترى أن هذه الأناجيل اختلفت حتى في نفس يوم الصلب وساعته وفي يوم صعود المسيح إلى السماء ومكانه؟ فقد نصت الثلاثة الأول منها على أن المسيح أكل الفصح مع تلاميذه كعادة اليهود أي في يوم 14 نيسان (راجع متى 26: 17 و 19 36 47 ومر 14: 12 16 ولو 22: 7 3) وأن عشاءه الأخير كان في يوم الفصح المذكور ولذلك اتخذه النصارى خصوصًا في آسيا الصغرى عيدًا من قديم الزمان، ثم صلب في اليوم الثاني للفصح أي في 15 نيسان ولكن الإنجيل الأخير جعل هذا العشاء ليس في يوم الفصح بل عشاء آخر عاديًا قبل الفصح - كما في الإصحاح 13 منه - أي في يوم 13 نيسان فيكون الصلب وقع في يوم 14 منه أي يوم عيد الفصح نفسه والذي حمل مؤلفه على ذلك أنه أراد أن يجعل هذا العيد اليهودي رمزًا إلى المسيح كأنه هو خروف الفصح الذي يذبح في هذا اليوم بخلاف الأناجيل الأخرى فإنها نصت على أن الخروف كان ذبح قبل يوم الصلب وأكله المسيح نفسه مع تلاميذه وسنَّ فريضة العشاء الرباني في هذا اليوم لذكراه لأنه كان يوم وداعه وأعظم أعياد الشريعة الموسوية ولكن الإنجيل الرابع يتجاهل هذه الفريضة كما يفهم من الإصحاح 13 المذكور ويقول بعد ذلك أن محاكمة المسيح أمام بيلاطس كانت وقت استعداد اليهود للفصح في الساعة السادسة وأن اليوم التالي لهذا الاستعداد كان يوم السبت وكان عظيما عند اليهود، أي لأنه أول أيام الفطير، راجع (يو 19: 14 و31) وهو صريح في أن الصلب وقع في يوم الاستعداد الذي يذبح في مساءه خروف الفصح أي يوم 14 نيسان، وعليه فلم يجعل المسيح هذا اليوم عيدًا بحسب الإنجيل الرابع! ولذلك تركت كنيسة رومة وأكثر النصارى عيد الفصح هذا واستبدلوا به عيد القيامة وقد وقعت بينهم وبين نصارى آسيا الصغرى مناقشة عنيفة في هذا الموضوع في أوخر القرن الثاني وأصر أهل آسيا على جعل يوم عيد الفصح اليهودي (14 نيسان) عيدًا لهم أيضًا لأنهم يقولون أن يوحنا الذي كان مقيمًا في وسطهم وغيره من تلاميذ المسيح كانوا يحتفلون بهذا العيد كما رواه يوسيبيوس في القرن الثالث عن بوليكارب تلميذ يوحنا، وروى بوليقراط أسقف أفسس في أواخر القرن الثاني عن يوحنا مثل هذا أيضًا، فكيف إذًا اتخذ يوحنا هذا اليوم - يوم الفصح اليهودي- عيدًا مع أنه لم يَذكر في إنجيله - إذا صح أنه هو الكاتب له - أن المسيح جعله عيدًا كما قالت الأناجيل الثلاثة الأخرى، بل وصلب فيه فلم يسن فيه فريضة العشاء الرباني ولا أكل الفصح في هذه السنة؟ .
(5)
راجع كتاب دين الخوارق (ص552، 553، 563، 564) وقد نص يوحنا على أن المسيح كان مقبوضًا عليه قبل أن يأكلوا الفصح 18: 28 مع أن الأناجيل الأخرى نصت على أن القبض عليه كان بعد أكل الفصح، فهل بعد ذلك يقال أنهم متفقون؟ وهل هذه العبارة تقبل أيضًا التأويل؟ أما ساعة الصلب فهي أيضًا مختلفة في الأناجيل كما قلنا، ففي إنجيل مرقص أنه صلب في الساعة الثالثة مر (15: 25) وفي إنجيل يوحنا (19: 14) أنه لم يصلب إلا بعد الساعة السادسة، فإن قيل: إن ما ذكره يوحنا هو بحسب اصطلاح الرومان، قلت: وكيف يجري يوحنا على هذا الاصطلاح مع أنه كتب إنجيله في آسيا الصغرى، ولا يجري على هذه الاصطلاح مرقص الذي كتب إنجيله في رومة نفسها بناء على طلب الرومان منه ذلك كما رواه كليمندس الإسكندري ويوسيبيوس وجيروم وغيرهم؟ على أننا إذا راجعنا إنجيل يوحنا نفسه ظهر لنا نقض هذه الدعوى، فإنه قال يو (18: 28) أنهم جاءوا بيسوع من عند قيانا إلى بيلاطس في الصباح فخرج إليهم بيلاطس لمحاكمته ثم أخذ يسوع إلى إدارة الولاية عدد (33) وناقشه مدة ثم خرج إلى اليهود 38 ثم أخذ يسوع وجلده (19: 1) واستهزأت به العسكر ثم أخرجه إليهم (19: 4) وناقش اليهود في أمره ثم دخل إلى دار الولاية (19: 9) وتكلم مع المسيح ثم أخرجه وجلس على كرسي الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جبانا (19: 13) فكانت الساعة السادسة يو (19: 14) فإذا كان المراد بهذه الساعة الساعة الرومانية أي في الصباح - كما يقولون - فكم كانت الساعة إذًا حينما أتوا بالمسيح إلى بيلاطس وقت الصبح كما قال يوحنا نفسه؟ يو (18: 28) أفلم تستغرق كل هذه المحاكمة والدخول والخروج بالمسيح والتكلم معه ومع اليهود زمنًا ما؟ وهل عُملت كلها في لحظة واحدة في الصباح نحو الساعة السادسة؟ وكم كانت الساعة إذا حينما أيقظوا بيلاطس في الصبح من نومه لمحاكمته، ومتى أرسل إلى هيردوس؟ كما يقول لوقا (23: 7-11) فالحق أن المراد بالساعة هنا الاصطلاح العبراني الذي جرى عليه مرقس وغيره لا الاصطلاح الروماني كما يزعمون ولذلك حرفوا هذه العبارة في بعض نسخهم وكتبوها الثالثة بدل السادسة يو (19: 14) لرفع هذه الإشكال. أما اختلافهم في يوم صعود المسيح إلى السماء ومكانه فبيانه أن المسيح بحسب إنجيل متى وفي إنجيل لوقا أنه صعد في يوم قيامته من مدينته أورشليم نفسها (لو 24: 1، 13،21،29،33،36،49،50 -53) وفي إنجيل يوحنا (20: 26) أنه ظهر لهم بعد ثمانية أيام من قيامته أي أن الصعود لم يكن في يوم قيامته كما في إنجيل لوقا! ومن العجيب أنهم يقولون أن لوقا هو مؤلف سفر الأعمال أيضًا وتراه في هذا السفر يقول: إنه صعد من أورشليم بعد أربعين يوما (أع 1: 3-9) وهو خلاف ما في إنجيله! ويخالف أيضًا إنجيل متى ومرقس (مر 16 - 7) اللذين جعلا الصعود من الخليل لا من أورشليم! فانظر إلى مقدار اختلافهم وتضاربهم حتى في هذه المسألة الهامة، فهل بعد ذلك نُلام لأنَّا لم نُعول على كل عبارة من عبارات أناجيلهم في هذه المقالة؟ .
(6)
حاشية: يقول النصارى: إن يهوذا هذا مطرود من رحمة الله مع أنه ندم ندمًا شديدًا وتاب توبة نصوحًا، ولم يكفه ذلك حتى انتحر كما يقولون (متى 27: 3-10) وكان من ضمن الاثني عشر رجلاً الذين بشرهم عيسى بالجنة (متى 19: 28) فلم لم يغفر ذنبه كما غفر ذنب التلاميذ الذين فروا وتركوا المسيح؟! وكما غفر ذنب بطرس الذي أنكر سيده وتبرأ منه وأقسم أنه لا يعرفه، مع أن توبته كانت قاصرة على البكاء؟! فلم لا يكون بطرس من الناس الذين تبرأ منهم المسيح بقوله متى (7: 22) (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذٍ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا أفاعي الإثم) وخصوصًا لأن المسيح قد سماه شيطانا (مت 16: 23) .
(7)
حاشية: جاء في العدد 7174 من جريدة المقطم الصادرة في يوم الخميس 31 أكتوبر سنة 1912 - 20 ذي القعدة سنة 1331 ما يأتي بالحرف الواحد (ورد على محافظة العاصمة اليوم إشارة تليفونية بحدوث تجمهر كبير وهياج عظيم أمام الكنيسة الجديدة التي ينشئها النزلاء اليونانيون في هذه العاصمة وأن أكثر المجتمعين يرمون بالحجارة العساكر الاحتياطية الذين أرسلهم قسم بولاق لحفظ النظام وأن بعضهم أصيب بجراح. فذهب في الحال سعادة هارفي باشا ومعه قسم من بلوك الخفر وقسم كبير من بلوك السواري وجناب البكباشي آرثر المفتش ببوليس العاصمة وحضرة عبد الرحمن أفندي أحمد المفتشين بالحكمدارية إلى مكان الحادثة ولما رأى كثرة الجموع المتألبة في ذلك المكان أمر بإحضار وابور المطافي ثم أطلقت المياة منه عليهم فتشتتوا ووقفوا جماعات جماعات رجالاً ونساء في أماكن بعيدة وجعلوا يصيحون (يا متبولي يا متبولي) ثم حضر إلى مكان الحادثة سعادة إبراهيم باشا نجيب محافظ العاصمة وعزتلو على بك وكيلها وشهد الإجراءات التي اتخذها البوليس لتشتيت المجتمعين. وكان السبب في هذا التجمهر والهياج أن بعض الموسوسين من سكان جهة المتبولي أشاع أمس الساعة الثامنة مساء أنه رأى الشيخ المتبولي المدفون في ضريحه المعروف أمام محطة مصر قد قام من ضريحه ووقف على قبته ثم طار في الفضاء ونزل على الكنيسة اليونانية التي تقدم ذكرها فتناقل الناس هذه الإشاعة واجتمع خلق كثير في نحو الساعة العاشرة مساء أمام الكنيسة وجعلوا يصيحون (سرك يا متبولي) فحضر حضرة مأمور القسم وبعض العساكر وفرقوهم ثم حدث في الساعة الثامنة من صباح اليوم أن مجذوبًا من سكان قسم بولاق وهو رجل في السبعين من عمره يدعى فارس إسماعيل وأصله من أسيوط وقد حضر إلى مصر منذ خمسين سنة - خرج من منزله لابسًا عمامة وملابس خضراء وأخذ يركض في الشوارع ويصيح فيها: أنا المتبولي أنا المتبولي، فاجتمع خلفه خلق كثير وساروا في موكب من بولاق إلى شارع الدواوين وكانوا جميعًا يصيحون: يا متبولي، ويلثمون يده وملابسه وما زالوا سائرين كذلك إلى المسجد الزينبي حيث دخل الرجل فتبعه الناس وازدحم الميدان بالمتجمهرين فقام حضرة الصاغ على شكري أفندي مأمور القسم وقبض على الرجل وأحضره إلى الحكمدارية، أما الجماهير التي كانت تسير معه فقصدت الكنيسة اليونانية وأفضى ذلك إلى تلك المظاهرة التي فرقها رجال البوليس) ذكرنا هذه الحادثة المضحكة ليعلم القارئ مبلغ تأثير الوهم والإشاعات الكاذبة في عقول العامة والجهلة من الناس وخصوصًا النساء، بل قد يتسلط الوهم على بعض العقلاء حتى يروا ما لا حقيقة له، فاقرأ بعد ذلك قصة قيامة المسيح من الموت وما حدث للنساء اللاتي ذهبن إلى قبره. هذا إذا صح أن هذه القصة ليست ملفقة من أولها إلى آخرها وأنها في الأصل كانت كما رويت في هذه الأناجيل الحالية، على أن التلفيق ثابت عليهم فيها راجع (ص76) من كتاب (دين الله) .
(8)
حاشية: إذا صحت عقيدة النصارى في الصلب والخلاص المبشر به فلماذا لم يقتل المسيح نفسه أو يطلب من تلاميذه أن يقتلوه قربانًا لله بدلاً من أن يوقع اليهود في هذا الإثم العظيم؟ فكأن الله تعالى بعد أن دبر هذه الوسيلة لخلاص الناس من سلطة الشيطان لم يقدر أن يخلص بها أحب الشعوب إليه المفضلين على العالمين الذين - خصهم كما يقولون - بالوحي والنبوة والمعجزات العظيمة من قديم الزمان ولم يعتنِ بأحد غيرهم اعتناءه بهم حتى جعلهم الواسطة الوحيدة لهداية البشر أجمعين إلى دينه الحق؟! أما كان هؤلاء الناس أولى بالخلاص دون سواهم؟ فلماذا إذًا أوقعهم في هذا الذنب العظيم بصلبهم المسيح بدون إرادته، مع أنه كان يمكنه أن يقدم ابنه هذا البريء بدون إيقاعهم في هذا الإثم الكبير؟! ألا يدل ذلك - لو صح - على أن الشيطان قد نجح في إهلاك أحباب إلههم وشعبه المختار وعجز هذا الإله عن تخليصهم من مخالبه بعد أن فكر في ذلك مدة طويلة، ثم صلب نفسه، ومع ذلك لم تنجح حيلته!! فوا أسفا على هذا الإله الضعيف الذي غلبه الشيطان وجعله يندم على خلقه الإنسان ويحزن (تك 6: 6 و7) وأوقعه في الحيرة والارتباك من قبل ومن بعد الطوفان تك (8: 21 و22 و11: 6 و7) إلخ إلخ وما أغناه عن هذا كله لولا حُبه في سفك الدماء كثيرًا (قض 11: 29 -40) حتى سفك دم نفسه وقاده الشيطان إلى هذا الانتحار (تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا) وجاءه من قبل ذلك مجربًا وممتحنًا ليسجد له ليكفر (مت 41: 10) ولم يكتف بذلك - على حسب زعمهم -
بل أصاب ويصيب عباده بالصرع وأنواع الشلل والبكم والصمم والجنون والعتاهة وغير ذلك من الأمراض التي تنسبها إليهم كتبهم إلى تأثير الشيطان ولا يقدرون للآن على تخليص الناس من شره وسلطانه، فما أعظمه عندهم من لعين قادر حتى قهر العالمين وإلههم!! فمن منهما سحق الآخر على ما يقول سفر التكوين (3: 15) (سبحان الله رب العزة عما يصفون) وإذا صح أن المسيح ادعى الألوهية بين اليهود (يو 8: 58 و10: 30 و33) فأي ذنب عليهم في قتله وهم لم يفعلوا شيئا سوى تنفيذ ما أمرهم الله تعالى به على لسان موسى؟! قال في سفر التثنية (13: 1) إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة 2ولوحدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً: لنذهب وراء آلهة أخرى لم نعرفها ونعبدها، إلى قوله: وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يُقتل) فإذا كان الله يعلم أن المسيح سيدَّعى الألوهية ويدعو الناس لعبادته، فلماذا وضع هذا الحكم في الشريعة الموسوية؟ ولمَّا أنفذه اليهود إطاعة له كرههم وغضب عليهم!! فلمَ هذا التضليل ولمَ هذا الظلم؟ فمقتضى عقيدة النصارى أن الله تعالى عاجز جاهل، ولذلك ما كان يعلم المستقبل، وكان كما يقول سفر التكوين: يضطر للنزول ليشاهد بنفسه أعمال البشر (تك 11: 5 و6 و18: 21) التي أغضبته وجعلته يندم ويحزن. فكأنه ما كان يعلم ماذا يصير إليه أمر الإنسان، ولذلك ترى أنه بعد أن دبر طريقه الخلاص ومات صلبًا لم يُخلِّص من البشر إلا قليل بالنسبة لمجموعهم، وأَهْلَكَ بسبب ذلك أفضل أمة عنده (تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلوًّا كَبِيرًا) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية
(3)
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
محاربة الاتحاديين للدين
من المسلمات التي لا يختلف فيها عاقلان، ولا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزَان أن
القوة المعنوية هي الأصل الباعث على الأعمال المادية، وأن الدين هو أعظم
القوى المعنوية أثرًا، وأشدها على المخالف خطرًا، وأن الفريقين المتحاربين
إذا تساويا في جميع ما ينبغي للقتال من علم ومعرفة، وذخيرة وعدة، وتفاوتا
في قوة الإيمان بالله عز وجل والرجاء في الحياة الآخرة، فإن أقواهما إيمانًا
وأعظمهما رجاء هو الجدير بأن يكون له الفلج ويتيسر له النصر. وقد صرحت
الجرائد الأوربية بهذه الحقيقة في سياق البحث في أسباب رجحان البوير على
الإنكليز في حرب الترنسفال، كما بيناه في المجلد الثاني من المنار.
وقد نشرنا في المجلد الأول من المنار نبذة في هذه المسألة ترجمها الأستاذ رحمه
الله تعالى من (وقائع بسمارك) التي نشرها بعد موته أمين سره مسيو
(بوش) قال: غطاء المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا
فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق
قلوب الشعب ولو لم يكن هنالك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لما استكن
في الضمائر من بقايا الإيمان. ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحداً مهيمنًا يراه
وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه.
فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم
تلك الملاحظة؟ فأجابه البرنس: ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور
ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس، وهوًى فيها كأنه غريزة
لها، ولو أنهم لاحظوا لفقهوا ذلك الميل، وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني
لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من
الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم إن لم يكن لهم
إيمان بدين جاء به وحي سماوي. واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه
الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة؟
بعد هذا تكلم ذلك الرجل العظيم عن نفسه فأكد القول بأنه لولا إيمانه
بالعناية الإلهية ويقينه بحياة بعد الموت وشعوره بأنه يرضي الله بخدمته للأمة
الألمانية وسعيه لوحدتها وإعلاء شأنها - لما رضي لنفسه أن يكون من حزب
الملكية وأن يخدم الملك لأنه هو جمهوري بالطبع. والوظائف والرتب
والألقاب لا بهاء لها في نظره. وإنه لا يحب إلا العيشة الخلوية في المزارع،
ومما قاله: (اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني) ومنه: إن لم
أكن خاضعًا لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه الأسرة المالكة مع أنها
تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالنبيل من الأصل الذي تنصل به عشيرتي؟
ومن أراد ترجمة نص قوله برمته فليرجع إلى المنار (ص 846 م1 من
الطبعة الثانية) .
وقد قال الأستاذ في مقدمة هذه الترجمة أنه ترجمه ليطلع عليه من لم يُعن
بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعدون النسبة إلى دينهم سبة، والظهور
بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه
ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرئاسة، ولا
ضعفًا في السياسة.
وقال بعده: هذا كلام بسمارك وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان
يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الإيمان بالله
والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه
مُفَاخِر، ولم يكثره مكاثر.
أقول بعد هذا التمهيد: ولكن زعماء الاتحاديين قد فخروه وكثروه في
السياسة، فكان اتحادهم العثماني أقوى وأعلى وأثبت من اتحاده الألماني؛ لأنه
بني على صخر الإيمان، وبنوا على رمل الإلحاد.
لقيت في الآستانة الدكتور ناظم بك الزعيم الأكبر للاتحاديين الذي خلف
صادق بك أمير الألاي بعد أن تبرأ من الجمعية فصار هو المرخص المسئول
لها. لقيته يتحدث مع فطين أفندي المدرس في دار الشفقة والمدير للمرصد
الفلكي الجديد في ضواحي العاصمة وكان يومئذ من صميم الاتحاديين، على
حين تركهم أكثر أمثاله من المعممين، حتى كان يشك في تدينه رجال الدين،
فقال لي: تعال احكم بيني وبين البك. قلت: ما خطبكما؟ قال: إن البك يقول:
إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا
وعصرنا العلماء عصرًا، نمحقهم به محقًا، وسِرنا وراء فرنسة خطوة خطوة.
وأما أنا فقلت له: إننا يجب أن نأخذ من أوربة لا من فرنسة خاصة، الفنون
الصناعية والزراعية وكل ما نحتاج إليه للترقي العملي في دنيانا. وأما الأمور
المعنوية والأدبية فنرجع فيها إلى أصول ديننا ونستمدها منه. فقال: يجب أن
نأخذ عن فرنسة كل شيء فإن جميع ما عندنا فاسد وموجب للتدلي.
لا يحتاج القارئ إلى القول بأن رأي فطين أفندي هو الموافق لرأيي في
هذه المسألة وقلما رأيت أحدًا أوجز وأفاد في تحرير هذه المسألة الكبيرة مثل
هذا الرجل، ولكنني سلكت في تأييده مسلك بيان السبب في هذه التفرقة
والخلاف بين المتعلمين، وتطرف بعضهم في التفرنج وبعضهم في الجمود
على القديم، وشدة الحاجة إلى المعتدلين الذين يعرفون القديم والحديث، أي
كفطين أفندي، وانتقلت من هذا إلى مشروع العلم والإرشاد الذي كنت أسعى له
هنالك وليس هذا المقال بمحل تفصيل القول فيه.
جميع زعماء الجمعية على رأي ناظم بك الذي ذكرناه آنفا، ولكن قلما
يوجد فيهم من يتجرأ على التصريح بمثله. وقد سمعت منه ومن غيره منهم
وعنهم غير ذلك ولولا ظهور قوة تأثير الدين لهم في الجيش يوم 31 مارس أو
13 أبريل لظهر من تهتكهم والجهر بمقاومتهم للدين أضعاف ما ظهر للناس
وما الذي ظهر بقليل، ونكتفي من ذلك بشيء مما يتعلق بالجند حذرًا من
التطويل.
كانت الصلاة في العسكر أمرًا إجباريًّا يتساهل فيه الضباط المارقون
والمرتابون في خاصة أنفسهم، وقد يتعدى ذلك إلى الجنود التابعين لهم. فإذا
جاء متدين منهم وشدد فيه لا يستطيع معارضته أحد لأنه رسمي. فلما دالت
الدولة للاتحاديين جعلوا الصلاة أمرًا اختياريًّا وصاروا يوعزون إلى حزبهم
من الضباط بمنعها وإشغال العسكر عنها بالتمرين أو غيره من العمل في
أوقاتها، حتى في المدرسة الحربية العليا نفسها.
أخبرني من أثق بهم في الآستانة بهذا، وآخرون بخبر آخر أضر منه في
الجيش، وهو أنهم كانوا عند التنسيق العسكري يعنون بإخراج الضباط المتدينين
من الجيش وأكثر هؤلاء المتدينين من الذين ارتقوا إلى رتبة الضباط بالعمل
والتمرن في الجيش في إبان السلم والحرب سنين كثيرة ويسمونهم الألايلية
نسبة تركية إلى ألاي وكان عذرهم في إخراجهم أنهم غير متخرجين في
المكتب الحربي فمعارفهم غير قانونية. وقد أخرجوا بعض المتخرجين في
المكتب الحربي بعلل أخرى، كما أبقوا بعض الألايلية الذين اتبعوا هوى
الجمعية ولو كان عدد الضباط المكتبيين كافيًا لعسكر الدولة لكان لهم في
إخراج من أخرجوا وجهًا للاعتذار وإن أضر ذلك بمالية الدولة وخسر به
جيشها طائفة من الضباط، يفضلون كثيرًا من متخرجي المكتب الأحداث
والأغرار، أي الذين لا تجربة لهم.
وقد كان غرض الاتحاديين من تنسيق عمال الحكومة في جميع النظارات
والمصالح أن يخرجوا منها من شاءوا، ويبقوا من أحبوا، ليعلم كل فرد من
أفراد هذه الدولة أن جمعية الاتحاد والترقي هي ولية أمره وصاحبة السلطان
عليه، فيكون طوع يدها، ويؤدي لها ما عدا الضريبة الأولى ما فرضه
قانونها على كل منتمٍ إليها، وهو اثنان في المائة من جميع دخله (إيراده) وقد
كانت خسارة الدولة بهذا التنسيق أكثر من ثلاثة ملايين جنيه في كل سنة
تُعطى رواتب للمعزولين والمنسقين. وما كان الذين استحدثوهم خيرًا من
الذين أخرجوهم، ولولا هذا التنسيق لكان للدولة في المال الذي خسرته به ما
يمكِّنها من شراء مدرعة وطرادة من الدرجة الأولى في كل سنة.
إن أكثر الضباط الذين تعول عليهم الجمعية في نصرها من الملحدين أو
المرتشين في دينهم، ومنهم الذين يصرحون بالكفر تصريح الحقود المنتقم من
الدين، ومن ذلك ما حدثني به بعض الثقات في الآستانة عن بعض الباشوات
أنه قال: لو كان في بدني شعرة تؤمن بفلان - وذكر خاتم الرسل وسيد العرب
والعجم صلى الله عليه وسلم لقلعتها مع اللحم الذي حولها وألقيتها. ومن لم
يجدوه على مثل هذا الفساد من قبل حاولوا إفساده بالسياسة، فكانوا لا يقبلون
ضابطًا في الجمعية إلا إذا دخل الماسونية، وهذا وذاك أهم الأسباب التي
حملت أمير الألاي صادق بك الشهير على محادة الجمعية ومقاومتها، بعد أن
عجز عن إقناع زعمائها بترك هذه المفاسد. وكان محمود شوكت باشا جاراه
بإظهاره له أنه مجتهد في منع الضباط من الاشتغال بالسياسة وجهر بذلك في
خطبة له في نظارة الحربية، وخطبة أخرى في أدرنة، كنت من المعجبين
بهما وبه يومئذ وأنا في الآستانة، ثم ظهر لصادق بك أن ذلك خداع، ثم ظهر
لسائر الناس أيضًا في العريضة التي استقال بها محمود شوكت باشا من نظارة
الحربية، فإنه صرح فيها بأنه يترك تنفيذ قانون منع الضباط من السياسة لخلفه،
أي أنه لا يمكنه تنفيذ هذا القانون وهو الذي أسلس العنان للضباط حتى
توغلوا في السياسة أن يمنعهم منها عند ما قامت ثورة طائفة كبيرة منهم في
بلاد الأرنؤوط طالبين إسقاطه وإسقاط جمعيته.
مثل جمعية الاتحاد والترقي في إضعاف الدين في الجيش وإخراج عدد كثير من
الضباط المتدينين من صفوفه كمثل من كان له بيت يؤويه ويقيه فواعل الجو
فهدمه لأنه صار يراه غير لائق بمقامه، ولكن قبل أن يبني له بيتًا آخر على
النحو الذي يحب، فبينا هو في العراء يفكر ويقدر ويجلب بعض الحجارة لبناء بيت
آخر عصفت الريح فأثارت السحاب فاعتلجت فيه البروق، وقصفت الرعود،
وانهمر الصيب الهتون، فجرفه هو وما كان جلبه لبناء البيت.
إنهم أرادوا أن يستبدلوا الوطنية العثمانية والجنسية التركية، بما يهدمون
من الرابطة الإسلامية والنزعة الدينية، التي لولاها لم يكن الجيش العثماني
مضرب المثل في شجاعته وبأسه وثباته في مواقف النزال، وبلائه في معارك
القتال، فأنشأوا أناشيد وأغاني باسم الوطن التركي والجيش العثماني، ليخلقوا بها
شعورًا جديدًا للجند يقوم مقام الشعور الديني، ولعل هذا من أقوى الجوامع التي
جمعت بينهم وبين زعماء الحزب الوطني المصري، فإن هذا الحزب يفخر
دائمًا - وليس له أثر صالح في البلاد - بأنه أوجد الشعور الوطني، وهذا الشعور
هو الذي يخرج الإنكليز من القطر، ومن حسن حظ مصر أن هؤلاء المغرورين لم
يتولوا أمرًا من أمور البلاد، وأما الاتحاديون فمن سوء حظنا أنهم تولوا أمر المملكة
ثلاث سنين أفسدوا فيها ما لم يستطع عبد الحميد مثله في ثلاثين سنة.
شهد العلماء الذين أرسلتهم الحكومة لوعظ الجيش في شتالجة بأنه تبين
لهم بعد الاختبار أن أهم أسباب انكساره في هذه الحرب قد كان مما أودعه
الاتحاديون في نفوسهم من أن وظيفة الجيش الدفاع عن الوطن بعد أن نزعوا
منها الاعتقاد بأن هذا الدفاع مشروع دينًا وأن الذي يقتل فيه شهيد له عند الله
حياة خير من هذه الحياة ذات نعيم دائم ورضوان من الله أكبر.
وشهد عظماء الألمانيين الذين يتلقى الجيش العثماني عنهم فنون القتال أن
أهم أسباب انكساره هي إفساد الاتحاديين له بإشغاله بالسياسة، وقد بينا أن
هاتين المفسدتين متلازمتان، فإنهم ما اجتهدوا في إضعاف الدين إلا لغرضهم
السياسي، وما أدخلوا الضباط في السياسة إلا للاستعانة على مقاصدهم بالقوة؛
لعلمهم بأنهم عاجزون عن الوصول إليها بإقناع الأمة. وقد كانوا يظنون
عقب الانقلاب أنه يتسنى لهم أن يقودوا جميع علماء الآستانة وعلماء الولايات
بزمام المنافع والمناصب والرتب والرواتب، غرورًا بما كان من خضوعهم
لعبد الحميد، وببعض المنافقين الذين رأوهم مستعدين لخدمتهم في كل شيء
باسم الدين، ثم بدا لهم من علماء الآستانة ما لم يكونوا يحتسبون، كانوا قد
استمالوا إليهم جمهور العلماء فلما خبرهم الأذكياء من هؤلاء العلماء وبلوهم،
قلوهم وهجروهم، وأسسوا الجمعية العلمية لوقاية الإسلام والمسلمين من
كيدهم، وبقي يدهن لهم أكثر موظفي المشيخة الإسلامية الذين عرفوا حقيقة
حالهم، والتبس الأمر على بعضهم فكانوا يحسنون الظن فيهم، لأنهم لم يعرفوا
أحدًا منهم إلا بعد حادثة (31 مارس - 13 أبريل) التي صاروا بعدها
يحسبون للدين ورجاله حسابًا، وناهيك بعلماء الآستانة ونفوذهم الروحي في
الشعب التركي، فقد أخبرني محمود شوكت باشا في أول اجتماع كان لي معه أن
الحكومة لا تستطيع أن تعمل عملاً إذا كان العلماء كارهين له يأبون وجوده،
قال هذا عندما بينت له مشروع الدعوة والإرشاد وبين لي رأيه فيه. وأنه لابد
أن يكون بصفة لا يستنكرها العلماء، قلت له: أنا أضمن استحسان جميع
العلماء له وتمنيهم تنفيذه.
بل رأيت الدكتور ناظمًا على صلابته في مقاصد الجمعية وما علمته عنه
من العزم على تجريد الحكومة العثمانية من الدين يدهن لعلماء الآستانة
ويوهمهم أنه هو وجمعيته يودون خدمة الدين. فقد دعيت إلى الحفلة التي
كرمت الجمعية بها الحاج عمر الياباني الذي أسلم وحج وزار الآستانة بعد
حجه، وكانت تلك الحفلة في نادي نور عثمانية أشهر أندية الجمعية في
الآستانة وكان من المدعوين بعض كبار العلماء، وخطب منهم محمود أسعد
أفندي ناظر الدفتر الخاقاني بالتركية، وخطب كاتب هذه السطور بالعربية، وقام
الدكتور ناظم فتكلم كلامًا قال فيه إن الإسلام محتاج إلى خدمة عظيمة من العلماء
وهم مقصرون لا يقومون بالواجب عليهم، وأهم هذه الخدمة الدعوة إلى الإسلام
وتعميم الإرشاد الإسلامي، فعندئذ قال له مصطفى أفندي أوده مشلي مستشار شيخ
الإسلام، وكان جالسًا بجانبي: إن القيام بهذا الواجب لم يكن متيسرًا في زمن
الاستبداد، والآن اقترح رشيد أفندي مشروعًا يكفل القيام به على أكمل وجه
وننتظر مساعدة الحكومة عليه، أو قال: مساعدتكم، أي مساعدة الجمعية، الشك
مني، وقد استبشرت حين سمعت هذه الكلمة من الدكتور ناظم لأنني كنت أسمع أنه
رجل الجد وأنه ليس كثير الكذب والنفاق كطلعت بك، فجئته وقلت له إذا كان هذا
رأيكم فالمرجو منكم أن تكلموا طلعت بك بإنجاز وعده لنا وتنفيذ المشروع. فقال لي
ما معناه: ليس هذا بالوقت المناسب لهذا العمل فلا بد من انتظار سنة أو سنتين.
فتأمل.
ومما عملته الجمعية لإبطال نشر هداية الدين:إصدار أوامر عامة لجميع
رؤساء الإدارة في الولايات العثمانية بمنع الاجتماع في المساجد لإلقاء الخطب
ونحوها وتصريحها بأن المساجد للصلاة دون غيرها. وهذا من جهلهم
بالإسلام وتاريخه فإن المساجد كانت في الصدر الأول لجميع مصالح المسلمين
كالمشاورة في الأمور العامة والوعظ والقضاء وتوزيع الصدقات وغير ذلك.
وجملة القول: أن جمعية الاتحاد والترقي كانت عازمة على إزالة نفوذ
العلماء من الأمة وكل تأثير للدين فيها إلا التأثير السياسي الذي يوافق مقاصد
الجمعية تستخدم له من أرباب العمائم من يميل مع القوة والمنفعة حيث تميل
كالشيخ صالح التونسي والشيخ عبد العزيز شاويش وأضرابهما، وكان
زعماؤها يعتقدون بأنه لم يبق للدين تأثير يؤبه له. ولكنهم بعد مسألة طرابلس
الغرب غيروا رأيهم وعزموا على الجد في الاستفادة من فكرة الجامعة
الإسلامية وهو ما نبينه في النبذة التالية:
(4)
عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية
لي كلمة في زعماء جمعية الاتحاد والترقي كادت تكون مثلاً في سورية
وهي: إن هؤلاء الاتحاديين قد توسلوا إلى مقصدهم بكل شيء إلا الحق. ولكنهم
فشلوا في كل عمل إلا جمع المال، ولا سيما عقب الانقلاب، فلولا المال لكانوا
الآن في عداد الموتى.
وقد سلكوا طرق النفاق فهم دائمًا يظهرون غير ما يبطنون كما صرح لي
بذلك رجل في الآستانة من أعظم أنصارهم. فإنه سألني مرة: إلى أين وصلت
في تشبثك؟ أي مشروع الدعوة والإرشاد، قلت: وعدني طلعت بك بكذا وكذا
من المساعدة، وحقي باشا قال: إنه طالما فكر في هذا المشروع، وهو يبذل
الجهد في تنفيذه. فقال: أو صدقت أقوالهم؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم.
وأنا أكشف لك الغطاء عن هذا الأمر فأمهلني إلى يوم كذا.. . وبعد مراجعة
حقي باشا ثم طلعت بك ظن أنه جاءني بالنبأ اليقين وما هو إلا أن طلعت بك
كذب عليه أيضًا.
نعم إنهم كانوا يظهرون غير ما يبطنون، ويُسرُّونَ ضد ما يعلنون، لا
في مشروعي الذي غذوني فيه بالوعود سنة كاملة فقط بل في كل مقاصدهم،
فمن أوائل مقاصدهم تتريك العناصر العثمانية وكانوا يعاقبون من يحث
عنصره على الارتقاء من غيرهم بدعوى أنه يفرق عناصر الدولة، ومن
مقاصدهم إزالة سلطة الدين وقوته من الدولة، ولكنهم يظهرون للمسلمين أنهم
يريدون القيام بالجامعة الإسلامية، على أن سيرتهم وأعمالهم تكذب هذه
الدعوى، وحسبك أن جميع زعماء الجمعية من الماسون، وأصول الماسونية
تنافي الجامعة الدينية، وهم لا يخالفون الماسونية إلا في العصبية التركية، فهم
يخادعون المسلمين في شيء والماسون في شيء آخر.
سيقول بعض الغارين والمغرورين بزعماء هذه الجمعية من مسلمي
سورية وغيرها: إننا قد علمنا ما أسره إلينا بعض رجال الجمعية ومن بعض
أعمالها أنها لا تريد إحياء الجامعة الإسلامية، وأن هذا هو غرضها الباطن
وإنما لاذت بالماسونية وأحيت كلمة الوطنية؛ لأجل مخادعة الشعوب المسيحية
والدول الأوروبية.
لا أقول أنهم سيقولون هذا، إلا لأنني سمعتهم قد قالوه من قبل، وأعلم أن
بعض قائليه مأجورون، وبعضهم مخدوعون، وأنا أعرف سبب هذا ومنشأه،
ولا أعجب من تصديق بعض أغرار المسلمين كلام هؤلاء الذين يظهرون لكل
قوم بوجهه، ويخاطبون كل أناس بلسان، فقد خدع هؤلاء الاتحاديون قبلهم
دهاة السياسة ورجال الخبرة من إخوانهم النصارى السوريين في سورية
ومصر جميعًا. إذ أوهموهم أن ميلهم إليهم واتحادهم بهم خير لهم من اتحادهم
بأهل وطنهم من المسلمين وأن مسلمي العرب يغلب عليهم التعصب الديني فلا
يمكن أن يعترفوا أو يرضوا بمساواة إخوانهم في الجنس والوطن لهم. وأما
الاتحاديون الترك فإنه لا يقيمون للدين وزنًا ويرون من المصلحة التركية
ترجيح نصارى العرب ليضعف مسلموهم فلا يكون لهم مجال للمطالبة
بالخلافة التي هي أكبر خطر على نصارى العرب ثم على غيرهم لأنها تكون
دينية محضة.
وسوس دعاة الجمعية آذان كتاب النصارى ووجهائهم بمثل هذا الكلام
فصدقوه وانخدعوا به، وظهر أثر ذلك في جرائدهم في كل مكان، وفي
مساعدتهم للاتحاديين في انتخاب المبعوثين، ولا بدع في ذلك فقد انخدع كتاب
أوربة وساستها من جميع الدول بنفاق هؤلاء الاتحاديين في القول والفعل.
حتى إن جريدة الطان الفرنسية الشهيرة نشرت مرة لأحد مكاتبيها تفضيلاً لهم
على الحزب الوطني المصري بأنهم يصرحون بانتقاد دين الإسلام ولا يبالون بأمر
المسلمين من غير أبناء جنسهم الترك، خلافًا للمصريين الذين تغلب عليهم النزعة
الإسلامية، فيبحثون عن مسلمي تونس، والجزائر ومراكش ويهتمون
بأحوالهم.
ثم ما عتم أن إن انكشف الغطاء للأوربيين عن نفاق زعماء الاتحاديين
وجهلهم وغرورهم، فسبق إلى بيانه الفرنسيون والإنكليز، ولم يصرح به
الألمانيون كغيرهم إلا بعد هذه الحرب، فقد نقل لنا المقطم منذ أيام أن كثيرًا
من أولئك الزعماء يقيمون الآن في بروكسل عاصمة البلجيك وفي مقدمتهم
حقي بك وطلعت بك وجاويد بك. وذكر أن جاويد بك قال لمكاتب جريدة
فرنكفور زيتونج الألمانية في سياق حديثه له: إن أعمال الحكومة العثمانية هي
التي كانت السبب في فشل الجيش الذي كان متأهبًا أتم التأهب ومجهزًا أحسن
التجهيز ولم يكن ينقصه إلا حكومة منظمة - أي اتحادية - لتنتصر به على
البلقانيين كما انتصرت على الأرنؤوط، كما قال في جوابه لمكاتب جريدة
أوربية أخرى الذي بينته في المقالة الأولى، وطعن في كامل باشا فوصفه
بالغرور وحب الانتقام، رمتني بدائها وانسلت.
ثم نقل المقطم بعد ذلك أن مكاتب التيمس في برلين قال تعليقًا على هذا
الحديث: لم تعد الدوائر السياسية في ألمانية تعير ما يتشدق به الاتحاديون أذنًا
صاغية، حتى أن الذين كانوا يعجبون بجاويد بك وزملائه صاروا أشد الناس
انتقادًا لهم، وأكثرهم سخرية بهم ويذهب أولو الرأي في ألمانية الآن إلى أن
السياسة التي بثَّها الاتحاديون في الجيش كانت السبب الأكبر في فشله وانكساره.
ثم تنبَّه نصارى سوريا في مصر وفيها إلى نفاقهم، وبقي أفراد منهم في
البرازيل على انخداعهم، وظل بعد هذا كله بعض مسلمي السوريين يغرون
الناس بهم، إما بأجر قليل، وإما اتباعًا للوهم، وكان يجب أن يجمع العرب
على مقتهم ومحادتهم؛ لأن العرب أبغض الناس إليهم، وإنني أعتقد أن أكثر
الذين يتحيزون إليهم منا منافقون وطلاب مال وجاه، وأقلهم مخدوعون
مصدقون أنهم يعملون للجامعة الإسلامية، وإنني أذكر مثالا من مخادعتهم
للمسلمين بهذه المسألة:
لما ألممت ببيروت في رمضان الماضي وأنا عائد من رحلتي الهندية
زارني ليلة مع الزائرين بعض رجال الحكومة في الدار التي كنت نازلاً فيها
وكان فيهم رجل من رجال القضاء (العدلية) من إخواننا الترك فنقل الحديث إلى
الجامعة الإسلامية وفوائدها للدولة، وادعى أن جمعية الاتحاد والترقي ترمي
إلى إحياء هذه الجمعية فقلت له: إنما ترمي إلى إحياء الجامعة التركية،
وتتجر باسم الجامعة الإسلامية، تجذب بهذا الاسم المسلمين الغافلين، وتخيف
الأوربيين المستعمرين، وإنني أدرى الناس بمكانها من الدين فقد جئت الآستانة
بإذن الجمعية لأجل مشروع الدعوة والإرشاد الذي شهد العقلاء من الاتحاديين
وغيرهم أنه أنفع ما يخدم به الدين، وكنت موعودًا من الجمعية بالمساعدة
عليه، ثم لما عرف زعماء الجمعية حقيقة المشروع وأنه خدمة حقيقية للدين
قاوموه ولم ينفذوه؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكانوا يظنون أن إسلامي
سياسيّ فيسهل جعلي آلة سياسية، فلما تبين لهم أن إسلامي إيمان ونية وعمل،
ظهر لهم أن مشربي يخالف مشربهم، وعملي يناقض عملهم، وقد كان
بعض علماء الآستانة يحذرني منهم ويقول: لا يغرنك منهم إظهار الميل إلى
مساعدة مشروعك (وهم يقولون) تشبثك فإنهم يريدون أن يستفيدوا من
اسمك وشهرتك ليظن المسلمون أنهم يريدون الخير للإسلام، وكان هؤلاء
العلماء يرون أن عدم تنفيذهم للمشروع خير من تنفيذهم إياه مخادعة ورياء
لأن الأمور بمقاصدها.
وكان هنالك علماء ونبهاء آخرون يرون أن الرياء قنطرة الإخلاص،
وأنهم إذا نفذوا المشروع يربحه المسلمون ولا يضره رياء مساعديه، إذا
صحت نية القائمين به، وكان من رأي هؤلاء أن أكتم عن الجمعية حقيقة
مرادي، وأوهمها أنني أريد أن أربي أناسًا يكونون دعاة للدين في الظاهر
ولسياسة الجمعية في الباطن، وأن أطلب جعل تعليم الفنون في هذه المدرسة
الإسلامية العامة باللغة التركية لا العربية ليقبلوا المشروع، وبعض أصحاب
هذا الرأي من الذين انتموا إلى الجمعية ليتمكنوا بنفوذها مما يريدون من الخير
لأنفسهم ولأمتهم، ولكنني لم أقبل نصحهم وقلت: إنني لا أجعل الباطل وسيلة
إلى الحق، فأنا أبين لهم كل مرادي، وإنني لا أريد ولا أقبل أن يكون المشروع
آلة سياسية بل دينيًّا خالصًا؛ لأن السياسة تفسده باختلاف الأحزاب والحكام
من الداخل، وبمقاومة أوربة من الخارج، ومن الجهل والغرور أن نظن أننا
نستطيع أن نخدع أوربة، فإن الجاهل القاصرلا يستطيع أن يخدع العالم
الراشد.
ذكرت شيئًا من سيرتي هذه للزائر التركي الذكي، ثم قلت له: أليس
الدكتور ناظم صاحب النفوذ الأعلى في هذه الجمعية يصرح بأن الدولة لا
يمكن أن ترتقي ما دامت متمسكة بالإسلام؟ أليس جميع إخوانه الزعماء
وأنصاره فيها على هذا الرأي؟ أليسوا يرون أن فشو الإلحاد في متخرجي
مكاتب العاصمة هو العون لهم على ما يريدون؟ فكيف يرجى منهم مع هذا
تأييد الجامعة الإسلامية؟
قال الزائر ويا لله العجب مما قال: إن الدكتور ناظمًا وكثيرًا من
زعماء الجمعية كذلك ولكن أكثر المنتمين إلى الجمعية متدينون ولعل غير
المتدينين منهم لا يزيدون على ثلاثين في المائة.
قلت: إنني لم أكن أظن أنهم يبلغون هذه الدرجة من الكثرة، وهب أن
المتدينين منهم تسعون في المائة والملاحدة عشرة في المائة، أليست الزعامة
والسلطة في يد الأقلين؟ قال: نعم، ولكن هذا لا يدوم. ثم قلت: إذا كانت
جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا تحاول إماتة اللغة
العربية وتطهير التركية منها، فهل يمكن للشعوب الإسلامية أن تتعارف
وتتعاون من غير أن يكون لها لغة مشتركة؟ وهل يمكن أن تتوجه كلها إلى
تعلم لغة عامة غير لغة دينها؟
إذا كانت جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا نرى
جرائدها ودعاتها وأساتذتها في جميع مكاتب الحكومة قد جعلوا شعارهم
وهجيراهم (الملة التركية) والقومية التركية ومحاولة تعميم اللغة التركية فقط،
أليست الأمة الإسلامية أمة واحدة ملتها واحدة وأفرادها إخوة كما يؤخذ من
نص القرآن المجيد، فتقسيمها إلى ملل وأجناس كما يفعلون هو الهدم لا البناء
للجامعة الإسلامية؟
قال الزائر التركي الذكي ويا لله العجب مما قال: إن اللهج بالملية التركية
والعناية بإحياء العنصرية التركية ونشر اللغة التركية، يريدون به الجامعة
الإسلامية، فإن المقصود منه استمالة مسلمي تركستان والتتار والروسيين إلى
الدولة واتحادهم بالترك العثمانيين وبذلك تقوى الجامعة الإسلامية، وليس
المراد به ألبتة تقوية الترك على العرب.
قلت له: أو يقال لمثلي هذا؟ هل الإسلام محصور في الترك والتتار حتى
لا تتكون الجامعة الإسلامية إلا منهم؟ أم يرون لغرورهم أن دولة روسية هي
أضعف الدول فيبتزونها عشرين مليونًا من الترك والتتار يكونون به الجامعة
التركية؟ إنني واقف على دسائس الجمعية في هذه المسألة، ونشرت في المنار
ترجمة مقالات لجريدة (نوفي فريمية) الروسية تنحي فيها باللائمة على حكومتهم
في تركستان لغفلتها عن المدارس التي ينشئها التتار هناك زاعمة أن هؤلاء
التتار مرسلون من الآستانة أو مُوعَز إليهم منها ليبثوا فكرة الجامعة الإسلامية
في تركستان، ويستميلوا أهلها البسطاء إلى إخوانهم الترك العثمانيين بدسائس
ألمانية والنمسة. وقد نصحت لإخواني التتار بعد نشر ما ذكرت بأن ينزهوا
سعيهم لنشر العلم بينهم وبين سائر إخوانهم عن شوائب السياسة الاتحادية
ودسائسها؛ لأن صلة بعضهم بأهلها تضرهم وتضر الدولة العثمانية؛ لأنها
تغري حكومتهم بالتشديد في منعهم من نشر العلم الذي يحيي المسلمين في
بلادها وبالتصدي لعداوة الدولة العثمانية من جهة أخرى، وكذلك كان فإنها
هي التي كونت الاتحاد البلقاني ودفعته إلى هذه الحرب.
ثم قلت للزائر التركي الذكي: إن ما وافقتنا عليه من مناداة الاتحاديين
بالملية التركية والقومية التركية واللغة التركية وبث ذلك في مدارس الدولة هو
من أقوى الأدلة على ضد ما استدللت به عليه؛ إذ جعلته عملاً للجامعة
الإسلامية، فإن كانت الجمعية تريد الجامعة الإسلامية الصحيحة كما تقول
فلماذا اهتمت بأمر مسلمي تركستان الذين دون وصولها إليهم خرط القتاد دون
مسلمي العرب في الحجاز مهد الإسلام ومهبط الوحي، وفي سياجه جزيرة
العرب وسائر العرب الذين لا يحيا الإسلام إلا بحياة بلادهم ولغتهم، ولا يعز
إلا بعزهم؟ فقد قال نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل
الإسلام) رواه أبو يعلى في مسنده بسند صحيح.
ولماذا لم تهتم بأمر مسلمي أفريقية العثمانية فعرضت عرب طرابلس
الغرب وبرقة لنيران مدافع إيطالية؟ ولماذا لم تهتم بأمر أربعين مليونًا من
المسلمين في جزائر جاوة والملايو وثمانين مليونًا من المسلمين في الهند؟
فهل انحصر الإسلام في الترك والتتار؟ لو كان الاتحاديون يريدون خدمة
الإسلام لنفذوا مشروع الدعوة والإرشاد، واجتهدوا في إحياء اللغة العربية
وعمران الحجاز وجزيرة العرب قبل كل شيء. هذا ما خطر في بالي من
حديثنا مع ذلك الزائر، وربما كان فيه زيادة إيضاح لبعض المسائل واختصار
في بعضها، وقد كان معنا جماعة من أدباء بيروت وطرابلس يستمعون.
فهذا مَثل من أمثال مخادعة الاتحاديين لمسلمي سورية وأمثالهم، وما كل
من يسمع مثل ما سمعت يجيب بمثل ما أجبت، وإنني أرى أن زعماء الجمعية
ما أيقنوا بأنه يمكنهم الانتفاع من الجامعة الإسلامية إذا استخدموها باسم
حكومة الخلافة ونفوذها إلا بعد حادثة طرابلس الغرب، فقد سمعت ورويت
عنهم وأنا في الآستانة أنهم يقولون: لا ينفعنا مسلمو بلادها ولا غيرهم وإذا
حاربنا إنكلترة _ أي في مصر طبعًا _ فلا يفيدنا مسلمو الهند شيئًا. وكانوا هم
وغيرهم من رجال الدولة يعتقدون قبل حادثة طرابلس الغرب أن العرب فيها لا
يبالون بصلتهم بالدولة وربما فضلوا إيطالية عليها تفضيلاً، وسلموا تسليمًا،
وإن سائر المسلمين لا يشعرون بألم انفصال هذه المملكة من ممالك الدولة.
يدل على هذا ما رواه بعض فضلاء العثمانيين عن رأي سفارة الدولة في
باريس حين أنذرت إيطالية الدولة ذلك الإنذار وأتبعته بضرب أسطولها
لطرابلس فذهبت إلى السفارة العثمانية لأتعرف رأيها وأعرض لها رأيي فقيل
لي: إنه لا شك في أن أهل طرابلس لا يأسفون ولا يأسون على زوال سلطتنا
عنهم؛ لأنهم ما رأوا منا خيرًا قط. وقد تألفتهم إيطالية منذ سنين فهم يفضلونهاعلينا.
بل نقلت البرقيات والصحف عن محمود شوكت باشا وكذا عن أحمد مختار
باشا أنهما قالا: إن الدفاع عن طرابلس الغرب جناية؛ لأننا لا نجد طريقًا لذلك.
هبَّ عرب طرابلس للدفاع عن بلادهم والمحافظة على عثمانيتهم، وهبَّ
العالم الإسلامي لمساعدتهم، فبدا لجمعية الاتحاد والترقي ما لم تكن تحتسب،
وأحبت أن تستفيد من هذه الأريحية الإسلامية. وكانت باعت طرابلس وبرقة
لإيطالية على شرط أن تأخذها بالفتح السلمي بعد أن تخرج منها العسكر
العثماني والسلاح، أي أن تترك الاسم والعلم للدولة العثمانية وتفعل في البلاد
ما تشاء. فغدرت إيطالية وتصدت لأخذها صورة وحقيقة بالقوة القاهرة؛ إذ
خلا لها الجو بإخراج العسكر والسلاح منها، فلما هب العرب للقتال، وهب
المسلمون كافة للمساعدة بالمال، وقام المبعوثون المعارضون للجمعية يتهمون
الوزارة الاتحادية بالخيانة ويطلبون محاكمة الصدر الأعظم حقي باشا وناظر
الحربية محمود شوكت باشا، وفي ذلك هتك الستر وانكشاف السر، ورأى
زعماء الجمعية أن الأمة العثمانية يوشك أن تثور عليهم إذا لم يبرئوا أنفسهم،
لما كان ذلك كله أرسلت الحكومة بعض الضباط وأمدتهم بأموال الإعانة وبما
يمكن من السلاح، وظهر للجمعية أن في الجامعة الإسلامية حياة يمكن
الاستفادة منها.
ومن العجائب أن الدكتور ناظم بك لم يقنعه ما سمع وما قرأ عن استبسال
عرب طرابلس وبرقة، وأريحية أهل مصر والشام وغيرهم من المسلمين،
واندفاع الجميع إلى السعي لإبقاء راية الهلال فوق تلك البلاد، بل أرسل زميله
رحمي بك إلى طرابلس ليختبر الحال، فلما عاد منها كان هو الذي أقنعه بأن
للجامعة الإسلامية وجودًا وتأثيرًا حقيقيًّا، فصرَّح الدكتور بذلك في خطبة له
رأيت ترجمتها في بعض الجرائد السورية، وأنا في البصرة عائد من الهند،
فهممت أن أكتب إليه كتابًا أذكره بما أعرف من آرائه وآراء رفاقه في الجمعية
وأبني على ذلك بعض الأسئلة والحجج.
نعم إن الجمعية بعد ذلك كله أرادت الاستفادة من الجامعة الإسلامية
واستثمار هذه القوة من وجوه منها استدرار المال من المسلمين كافة باسم
الخلافة ودولة الخلافة وحماية الإسلام، والمال هو المعبود الأول للجمعية كما
عرف ذلك من سيرتهم منذ الانقلاب إلى اليوم، ومنها تخدير أعصاب مسلمي
العرب العثمانيين حتى لا يطالبوا بحق لهم في دولتهم، ولا يعارضوا
الاتحاديين بشيء من مقاصدهم، ومنها استمالة مسلمي الترك والتتار
الروسيين بالدسائس العملية وسائر مسلمي المستعمرات الأوربية بالجرائد
وبعض المعممين الذين يسخرونهم لهذه الخدمة. ولأجل هذا أسسوا
جريدة الهلال العثماني لما رأوا الشيخ عبد العزيز شاويش مواتيًا لهم في كل
ما يستخدمونه به. وأمدوا جريدة العلم المصرية وبعض الجرائد السورية بقليل
من المال ووسعوا للهلال وأمثاله الحرية في تحريك العصبية الدينية والتنويه
بالجامعة الإسلامية، على تضييقهم على علماء الآستانة وسائر رجال الدين
بقدر الإمكان، ومنها غير ذلك مما لا يتسع هذا المقام لشرحه.
وجملة القول أن عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية واستخدام مثل
الشيخ شاويش في ذلك، كان أكبر الأسباب التي زادت حَنَق دول الاتفاق الثلاثي
عليهم ظنًّا منها أنهم ما تجرأوا على ذلك إلا بإغراء ألمانية والنمسة لضعفهم
وعجزهم، فتصدت هذه الدول للتنكيل بالدولة وأسست روسية الاتفاق البلقاني
وأغرت دول البلقان بهذه الحرب وأمدتهن بالنفوذ حتى إن جرائد هذه الدول
كانت أقوى عضد للبلقانيين، فما جنينا من هذه المخادعة بالجامعة الإسلامية
إلا الزقوم واليحموم، وهذه عاقبة النفاق والغرور، والعياذ بالله مما هو أعظم
من ذلك.
…
...
…
...
…
...
…
(نشرت في مؤيد 27 محرم)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: صالح مخلص رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(رسالة عين الميزان)
بقلم صاحبها محمد الحسين النجفي آل الشيخ الكبير الشيخ جعفر نقد بها
مقالة (ميزان الجرح والتعديل) للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي التي
نشرت في المنار، وقد نشر بعض هذه الرسالة في مجلة العرفان في آخر عدد
منها، صفحاتها 26 بالحرف الصغير والقطع المثمن، وقد وعد المؤلف
بإتمامها بعد اطلاعه على تتمة المقال (ميزان الجرح والتعديل) وهذه الرسالة
مطبوعة بمطبعة العرفان في صيدا وثمنها قرش ونصف قرش صحيح، وهي
تطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(أمثال الشرق والغرب)
تأليف يوسف توما أفندي الكُتْبِي بمصر، صفحاته 126 بقطع تفسير
سورة الفاتحة، طبع على ورق متوسط بمطبعة البوسته بمصر سنة 1912
يطلب من مكتبة المنار بمصر، وثمنه 3 قروش.
جمعه مؤلفه من كلام العلماء والحكماء من السابقين والمعاصرين،
ورتبه على 24 فصلاً، جمع فيها من أمثال العرب والعجم والبربر والفرنجة
واليونان والهنود طائفة كبيرة، والكتاب نافع لاشتماله على حِكم رائقة مفيدة.
***
(الأمازون)
جريدة جامعة تصدر صباح كل خميس من الأسبوع ذات ثماني صفحات
على شكل جريدة الأفكار، قيمة اشتراكها في السنة 25 فرنكًا، عنوانها (سان
بولو البرازيل، صندوق البوسته عدد 1343) مديرها ومحررها فارس دبغي.
***
(المصور)
جريدة علمية أسبوعية مصورة، صفحاتها أربع، عنوانها: إدارة جريدة
المصور في المطبعة العثمانية في بيروت، قيمة اشتراكها مجيدي ونصف في
البلاد العثمانية، و 10 فرنكات في الخارج، صاحب امتيازها عبد الوهاب
سليم التنير ومديرها المسئول محمد طاهر أفندي التنير.
***
(الفجر)
جريدة أسبوعية تصدر مؤقتا كل عشرة أيام مرة، صفحاتها ثمان وقيمة
اشتراكها 120 قرشا في الخارج، صاحبها ومحررها ناصر شاتيلا أفندي عنوانها
(AL-Fajr Caixa Postal ، 1595 Rio de janeiro Barzil)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
***
(رائد السودان)
جريدة علمية أدبية إخبارية اقتصادية تصدر يوم السبت من كل أسبوع
بأربع صفحات على شكل جريدة الأهرام، قيمة اشتراكها في مصر والسودان
خمسون قرشًا صحيحًا، وفي الخارج 20 فرنكًا عنوانها (صندوق البوسته
عدد 51 و52 بالخرطوم) .
***
(السهام)
جريدة تبحث في كل موضوع تصدر مرة في الأسبوع، قيمة اشتراكها
200 قرش في البرازيل عن سنة، و35 فرنكًا في الخارج، عنوانها التلغرافي
(السهام مناوس) مديرها ومحررها جورج إسحاق يارد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانقلاب الخطر
وجمعية الأحمرين الدم والذهب
كل من نعرف من العثمانيين المخلصين، والأجانب المستقلين يعتقدون أن
جمعية الاتحاد والترقي هي جمعية الأحمرين: الدم والذهب، أما كونها جمعية دم
وثورة فهو صفتها الرسمية، ولما سقطت وزارتهم السعيدية الشقية جمعوا مؤتمرهم
العام وزعموا أنهم قرروا فيه التحول عن جمعية ثورة إلى حزب سياسي. وكان
هذا خداعًا للأمة الجاهلة المسكينة، كذبته ثورتهم الجديدة لقلب وزارة كامل باشا.
وأما كونها جمعية ذهب، فلا يخفى على أحد، فقد نهبوا أموال عبد الحميد
خان وصادروا أكثر أغنياء الأمة، وباعوا بوسنة وهرسك للنمسة، وطرابلس
الغرب لإيطالية، واتفقوا مع الجمعية الصهيونية على بيعها أراضي السلطان عبد
الحميد الواسعة، وعلى تمهيد الأسباب لامتلاكها البلاد المقدسة لإقامة ملك إسرائيل
فيها، ولهذا قال وزيرهم حقي باشا في خطبة علنية له: إن مستقبل هذه الدولة
العثمانية لليهود. وأخذت وزاراتها من ميزانية الدولة أكثر من 40 مليون جنيه لم
يظهر لها أثر يذكر.
لأجل هذا كله كنا نخشى أن تعود لها الكَرة لامتلاك زمام الدولة فتكون
هي الكَرة الخاسرة، وتقوم بذلك قيامة هذه الأمة البائسة في هذه الأحوال الحرجة،
وزاد هذا الخوف في قلوبنا إخراج الجمعية لبطلها أنور بك من دَرَنَة الذي وضعته
هناك وجعلت في يده جميع الإعانات الحربية؛ لتوهم العالم الإسلامي أنها هي التي
تدافع عن طرابلس وبرقة، وما هي إلا البائعة لهما على الوجه الذي بيَّناه من قبل،
وإنما أخرجته وجاءت به إلى الآستانة ليعينها باسمه وشهرته الخادعة على الثورة
وسفك الدم. وقد وقع ما كنا نتوقع، وهاك ما ورد علينا وعلى غيرنا من أصحاب
الجرائد المصرية من الآستانة في ذلك:
رسالة إلينا خاصة من الآستانة:
كتب إلينا أحد الأصدقاء من عاصمة الملك ومركز الحوادث يقول:
(أكتب إليكم، وأنا أشهد بعيني، وأسمع بأذني كيف تكون مصارع الدول،
وكيف تخط مضاجع الأمم، وكيف يفتك العلم بالجهل، وتستولي النباهة على
الخمول، وكيف تنشب القوة مخالبها في الضعف فتمزق أشلاءه، وكيف
يتضاءل المقصرون أمام السابقين، ويتضاغر المهملون لصولة العاملين، هذا
وهؤلاء المتأخرون في كل شيء، والمتقدمون إلى شفير كل هلكة، كأنهم لا
يألمون لما يألم له الأحياء، فنراهم في غمرتهم ساهين، وعلى ما ألفوا من
الحرص والطمع عاكفين، وعلى هذا الذماء الحقير من السلطة متهالكين، كأن
الآلام تقع على غيرهم، وكأن من يقصد بهذا الشر المستطير سواهم، فكل ما
حل بهم وما سيحل بمن يتصل بهم لم يظهر له ولا أثر ضعيف في أعمالهم
وحالهم، أو كما يقول شاعرهم التركي:
عالم ينه أول عالم
…
دوران ينه أول دوران
بل أشهد كيف يحتفر الجاهل قبره بيده، ويهدم قصره بفأسه ومعوله،
حتى لا يترك للعدو سبيلاً إلى العناء، فلقد اختلس الطامعون فرصة اشتغال
العسكر في المرابطة على الحدود، واشتغال الوزارة بالجواب على مخطرة
الدول، فخرجوا من زقاق شرف، مع رئيس من رؤسائهم المعروفين بعدد من
الزعانف لا يبلغ المائتين، أعيتهم الحيل في جمعهم، ومنهم قسم عظيم من
جهال مهاجري طرابلس الغرب، أغروهم بالوقوف أمام الباب العالي يطلبون
معاشهم الذي مضى وقت صرفه، ولم تتمكن الوزارة من تدارك قرض لصرفه،
فوقفوا ووقف أولئك معهم يصيحون ويصخبون، وجاء رئيسهم أنور فدخل على
كامل باشا ورفاقه وطلب إليهم الاستعفاء بحجة أنهم ضعفوا أمام الأعداء وأطمعوهم،
وأشار إليهم بأن ممثلي الأمة وراءه وهم الواقفون أمام الباب، وكان ذلك بعد
أن اغتيل ذلك القائد العظيم ناظم باشا وضابطان آخران، فاضطرت الوزارة
إلى الاستقالة وخرج أنور وهو يكاد يسامق الفَلَك غرورًا، وتوجه توًّا لسفارة
ألمانية حيث مكث هناك برهة ثم صعد إلى سراي طولمه باغجه، حيث أخبر
السلطان بعمله، وأشار عليه بنصب محمود شوكت باشا، وإعادة الوزارة
الاتحادية، فأجابه إلى طلبه طبعًا، وعاد فأعلن ذلك إلى ممثلي الأمة الواقفين
في ساحة الباب العالي! فهتفوا باسم الاتحاد والترقي، وكان ذلك وقت
الغروب أو بُعيده.
ثم قُبض على علي كمال وأُحيط بإدارة جريدة أقدام وعلى محرر يكي غزته
وأحيط بإداراتها، وبناظري المالية والداخلية، وبكثير من رجال العلمية
والملكية، وفر كثيرون مما لم نقف بعد على تفصيله، وتوجه في تلك الليلة
رجلان إلى إدارة صباح، حيث كان محررها فأمروه بكتابة ما يريدون، وهددوه
إن لم يفعل بالقتل، فخرجت صباح ثاني يوم تمجد هذا العمل وتقدسه وتلبسه
لباس الحق، وإن للأمة أن تخرج عن الطاعة وتنبذ طاعة حكومتها إذا عملت على
غير مصلحتها.
وكان قد أصيب في تلك المظاهرة مرخص الاتحاديين مصطفى نجيب
فهلك فأخرجوا جنازته في اليوم التالي بين التهليل والتكبير، والبكاء والعويل،
والتآبين المطولة، والمراثي المطنطنة، وفي جملة من أبَّنَه عبد العزيز
شاويش، أبَّنه بالإنكليزية! ثم مشوا به ومعه ألوف مؤلفة فيهم قسم عظيم من
الحمالين (الشيالين) وقسم عظيم من شيوخ الطرق، وآخر من رجال العلمية
والطلبة، والباقون من شبان المأمورين، ومشت أمامه فرقة من العساكر، وأخرى
من النوَّاحين يرثونه، ويذكرون بلاءه في سبيل الوطن وتعريضه بنفسه
إلى الموت لتخليص وطنه من الذين يريدون بيعه وتسليمه للأعداء، ويتباكون
كأن المصاب بهذا المجاهد أعظم من المصاب بكل من مات في ميدان الحرب،
وأعظم من الهزيمة التي أسقطت الجيش والعثمانية كلها من مرتبة الوجود.
كل هذا على حين أن جنازة ناظم باشا كانت تمشي من طريق آخر وليس
معها سوى بعض الجند، وبعض ضباط الأجانب والمأمورين العسكريين،
والناس يتناجون فيما بينهم ولا يجسر أحد منهم أن ينبس ببنت شفة.
جرت كل هذه المضحكات المبكيات، ثم عادت الوزارة الجديدة لمباشرة
العمل والقيام بما ملأت به ماضغيْها من التحريض على الحرب ورد مخطرة
الدول، وراجعت الأساس الذي كانت الوزارة السابقة تريد بناء الجواب عليه
فإذا هو عبارة عن تسليم بعض الحدود الخارجية عن منطقة أدرنة وتسليم
بعض الجزر، والرجاء من الدول بالاكتفاء بهذا وصرف النظر عن مطالبهن،
فجعلت الوزارة اللاحقة تحاول تعديل جزء يسير من هذا فلم تجد إليه سبيلاً،
ولا عليه معينًا، فاضطرت فيما سمعناه إلى تقريره بعينه، وستقدم الجواب اليوم أو
غدًا [1] .
أما صدى هذه الحركة في الجيش فالمسموع أنه صدى سيئ، وأن
العسكر في جتالجه منقسمون، وبعضهم يريد الزحف على الآستانة لتأديب
القائمين بها، وبعضهم يطالب بدم ناظم باشا، وبعضهم فر من الجيش إلى
جيش البلغار، وأما الولايات فلم يرد منها إلا التقبيح لهذا العمل ورفض
الاعتراف بالوزارة الجديدة فيما سمعنا، حتى قيل: إن ولاية البصرة عازمة
على طرد الأتراك من بلادها وإعلان الاستقلال، وعلمت أن تلغرافًا ورد
طالب بك يتضمن هذا أو نحوه، وأن تلغرافات وردت من بيروت والقدس
بالرفض أيضًا [2] .
أما التهاني التي وردت من بعض أقضية الأناضول ونشرتها الجرائد فهي
خافتة الصوت ظاهر عليها أثر التصنيع، وأول ما درج منها تلغراف من
رئيس الحمالين في أزمير يهنئ الوزارة، ويذكر أن لديه عددًا كبيرًا من
عربات النقل مستعدة لخدمة الحكومة في الحرب التي تنوي استئنافها لتخليص
الوطن! وعلمت من ثقة أن أول عمل قررته الوزارة: إعادة المجلس المنحل
ودعوة المبعوثين؛ لأنها لا تعتبر ذلك الفسخ قانونيًّا؛ ولم ينشر في الجرائد
تصريح بذلك، أما تلميحًا فقد نشر، والجرائد لا تذكر واحدًا من هؤلاء
المبعوثين باسم مبعوث سابق، بل تطلق كلمة مبعوث إطلاقًا، وبالجملة فكل
ما نراه ونسمعه هو من آيات الانتحار والانقراض، ولا ندري ماذا يكون شأن
بلادنا، وماذا يعمل زعماؤها وكيف السبيل إلى النجاة. انتهى بنصه.
ونشر المؤيد في العدد الصادر أمس (يوم الأربعاء 28 صفر سنة
1331 و5 فبراير سنة 1913) رسالة قال: إنه تلقاها عن أوثق المصادر
جاء فيها ما نصه:
بينما كانت الوزارة الكاملية مجتمعة في الباب العالي بعد ظهر أول أمس
(أي: يوم الخميس 23 يناير) للمداولة في الجواب المزمع إرساله إلى سفراء
الدول بشأن مسألة أدرنة والجزر؛ إذ أقبل نحو الباب العالي زمرة من
الاتحاديين وأتباعهم يحملون أعلام الجمعية، وكانت الساعة الثالثة زوالية، وفي
مقدمة الجميع القائمقام أنور بك، والميرالاي جمال بك وهو والي بغداد السابق،
والبكباشي إسماعيل حقي بك وهو والي بتليس السابق، وعمر ناجي بك مبعوث
قرق كليسا السابق وممتاز المتهم بقتل المرحوم زكي بك وتحسين بك صاحب
جريدة سلاح، ومصطفى نجيب الذي لقي حتفه في هذه الفتنة، وبعض المنتمين
للهلال الأحمر الهندي والهلال المصري من الهنود والمصريين (وهؤلاء انضموا إلى
المتظاهرين في الآخر) وقسم كبير من المشايخ صنائع الاتحاديين يهللون
ويكبرون.
ثم دخل أنور بك ورفقاؤه المذكورون إلى رحبة الصدارة وحاولوا الولوج
إلى الغرفة التي يجتمع فيها الوكلاء فعارضهم نافذ بك ياور الصدر الأعظم،
وتوفيق بك ياور ناظم باشا، وجلال أفندي البوليس الملكي الذي يمشي بمعية
سماحة جمال أفندي شيخ الإسلام، وكان هؤلاء الحجاب محقين بمنع هؤلاء
الجماعة من الدخول على مجلس الوكلاء في ساعة انعقاده؛ لأنهم مأمورون
بذلك قانونًا، وهم قاموا بوظيفتهم التي ينبغي أن تكون محترمة عند الجميع.
ولكن أنور بك وجماعته هجموا بالقوة وقتلوا برصاص المسدس المرحومَ
نافذ بك ياور الصدارة، فأصيب في جنبه وهجموا على الحاجبين الآخرين
بالمُدى والخناجر التي كانوا خبأوها تحت ثيابهم، وكان الحاجبان يدافعان عن
حياتهما، وعن باب مجلس الوكلاء بمسدسين كانا معهما.
أما ناظم باشا فقد أقلقه انطلاق الرصاص داخل الباب العالي، وعلى باب
مجلس الوكلاء، وكذلك قلق سائر الوزراء فخرج ناظم باشا من الباب وقبل أن
يسمعوا كلامه أو يفهم مرادهم أطلق عليه مصطفى نجيب رصاصة، وقيل بل
الذي بدأ بإطلاق الرصاص عليه هو أنور بك ونسب ذلك إلى مصطفى نجيب
لأنه مات فيما بعد، ثم انهمر الرصاص على ناظر الحربية من الآخرين
فأصيب برصاصة في صدغه وأخرى تحت عينه اليسرى ومات فأقبلوا على
جثته يطعنونها بالخناجر والمُدى.
وكان الياور توفيق بك إلى ذلك الحين يطلق الرصاص في الفضاء إرهابًا
لهؤلاء الجماعة، فلما رأى جثة وزير الحربية ملقاة على الأرض ملطخة
بالدماء لم يملك عواطفه، مع ما أصابه من جروح، فقتل مصطفى نجيب
بالرصاص.
وبعد قتل ناظم باشا تحول رصاص القوم على توفيق بك وبوليس شيخ
الإسلام، وعلى اثنين من خدمة الباب العالي فقتلوا جميعًا.
وبعد هذه المعركة دخل أنور بك وجمال بك على الصدر الأعظم وطلب
منه الأول أن يستقيل فأجابه إلى ما أراد وكتب كتاب الاستقالة، وسلمه إلى
أنور بك فخرج هذا بها إلى جماعته الذين ينتظرونه في الخارج أمام الباب
العالي، وكان عددهم إلى تلك الساعة لم يزد على مائة شخص فبشرهم
باستقالة كامل باشا، وقال لهم: لا تفارقوا باب الباب العالي حتى أعود إليكم
من القصر السلطاني بتعيين وزارة أخرى.
وذهب إلى سراي طولمه بغجه راكبًا أوتومبيلاً فقابل جلالة السلطان
وأخذ منه الإرادة السنية في الحال بتعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم،
وطلعت بك وكيلاً لنظارة الداخلية إلى أن تتألف الوزارة الجديدة، وكان هذان
ينتظران مع آخرين عند سراي طولمه بغجه، ثم صحب أنور بك محمود
شوكت باشا وطلعت بك وجاء بهما إلى الباب العالي فاستقبلهم الواقفون هناك
بالتصفيق والهتاف وتلي الفرمان السلطاني على المتجمهرين، وبعد ذلك خطب
محمود شوكت باشا فقال:
(إني قبلت هذا المنصب وأنا على علم بحرج الموقف، وإني واثق بالله
أن يوفقني إلى خدمة الوطن) .
ثم طلب من المتظاهرين أن يتفرقوا فذهبوا من الباب العالي إلى حزب
الحرية والائتلاف فنهبوه، وأخذوا أوراقه ودفاتره وحطموا زجاج كل نوافذه.
ومن الغريب في هذا الحادث أن الجنود الذين من وظيفتهم أن يوجدوا في
الباب العالي أرادوا أن يمنعوا أنور بك وجماعته من الدخول فسألهم أنور بك:
ألستم تعرفونني؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تثقون بي؟ قالوا: بلى. قال: إذن
فأفسحوا لي الطريق؛ فإني ما جئت إلا لأنقذ الوطن؛ وعقولكم لا تدرك مثل
هذه الأمور. نعم عقولهم لا تدرك مثل هذه الأمور، ولكن الذي كان يجب عليهم أن
يدركوه هو اتباع أوامر ضباطهم فلم يفعلوا. وهكذا تركوا رجال المظاهرة يفعلون ما
سبقت الإشارة إليه.
وعند دخول أنور بك كان منتبهًا إلى أنه ربما استدعيت الجنود بواسطة
أسلاك التلفون والتلغراف فقطعها كلها.
ومما انتبه الاتحاديون له قبل وقوع الحادث أنهم أمروا الضًّباط المنتسبين
إلى جمعيتهم فأخذوا الألايات الحميدية إلى الجسر الجديد الذي بين السركه جي
وغلطه فقطعوا الصلة بين شطري العاصمة.
وكانوا قد طبعوا من قبل منشورًا يتقربون به إلى الأمة بما آنسوه من
شعورها بعواطف الاستياء من التنازل عن بعض أدرنة والجزر مع أنه لو
كشف الله للناس عن قلوب بعضهم في هذه الأزمة لعلموا من هو المسيء أكثر
ومن هو المخلص أكثر، ومن الذي يتخذ العواطف ذريعة لأغراضه.
وأغرب ما في الأمر أن هذا المنشور الذي طبع من قبل جاء فيه أن
الوزارة استقالت، مع أنه كتب وطبع قبل حدوث كل شيء، وقبل أن يخطر
على بال الوزارة أن تستقيل بهذه الصورة. ولكنها فتنة دبرت بليل.
في اليوم الثاني كانت قد أقفلت جريدة أقدام وجريدة علمدار وجريدة بني
غزته، وقام أمامها من رجال البوليس، وقبل ذلك - أي في الليل - ألقي القبض
في مطعم طوقاتليان على علي كمال بك رئيس تحرير أقدام، وإسماعيل حقي
بك مبعوث كوملجنة السابق، ونور الدين بك المدير المسئول لجريدة أقدام،
والدكتور رضا نور بك والدكتور رضا توفيق بك وغيرهم فسجنوا جميعًا.
أما رشيد بك ناظر الداخلية السابق وعبد الرحمن بك ناظر المالية
السابق فقد سجنا في دائرة برنجي قول أوردو ولا يزال البحث جاريًا عن
المعارضين.
والاعتقاد سائد هنا (أي في الآستانة) أنه لولا طيب قلب ناظم باشا
ورشيد بك لما حصل شيء من هذه الفتنة.
ويقال: إنه مما قرر أثناء ترتيب الفتنة أن يعين نسيم ماصلياح اليهودي
وكيل الجمعية الصهيونية ناظرًا للتجارة بدلا من جلال بك ويرسل جلال بك
واليا على أزمير، وجاويد بك يعين وزيرًا للمالية.
أما باتزاريا الذي عين ناظرا للنافعة (الأشغال) فهو فلاخي، وكان
رئيسًا لتحرير (جون ترك) التي تصدر بأموال اليهود الصهيونيين اهـ.
***
الانقلاب الخامس
…
مقدماته، تفاصيله، نتائجه
ونشرت جريدة الأهرام تحت هذا العنوان (في عدد 10618) رسالة
من الآستانة هذا نصها:
برح مراسلكم الخصوصي فروق إلى مكان أجهله فسألني قبل سفره
مراسلة الأهرام في مدة غيابه نظرًا لما بيننا من صلات المحبة والوداد فوعدته
خيرًا، ولقد كنت أود لو أن لي قلمًا كقلمه يصف لكم الحوادث والأشياء، إلا
أن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، فأنا أصف لكم ما رأيناه ومر أمام ناظرنا
ببساطة العامي؛ لعلمي أن الحقيقة جميلة بنفسها لا تحتاج إلى بلاغة إنشاء. ففي
جمالها ما يغني عن البلاغة.
إذا كان في العالم كله شعب يصح به قول الشاعر:
وصرت إذا أصابتني سهام
…
تكسرت االنصال على النصال
…
فهذا الشعب هو ولا شك الشعب العثماني الساكت النائم على الضيم المغلوب
على أمره، فلقد أخذت النوائب ترشقه بسهامها منذ عامين أو أكثر فقتلت أولاده في
حروب طرابلس الغرب والروملى، ورملت نساءه ويتمت أطفاله، وخربت
تجارته وهدمت دياره وأحرقت مزارعه وأخرجت الحكم من يده إلى يد عدوه،
فبلاد الرومل اليوم ديار خربة لا تصلح لشيء، يحرق العدو فيها ديار المسلمين،
ويحرق المسلمون فيها قرى أعدائهم، وهكذا دواليك.
منذ أربعة أعوم قلب الجيش حكم عبد الحميد، وأنشأوا حكومة دستورية،
ثم قام الجيش فقلب تلك الحكومة، ثم قام رجال تلك الحكومة فقلبوا بعض توابير
ذاك الجيش، ثم عاد ضباط الجيش الكرة الرابعة منذ شهور وقلبوا ذاك
الحكم. فقام الاتحاديون اليوم وقلبوا حكومة ذاك الجيش وهي خامس ثورة
حدثت في أربعة أعوام في سبيل القبض على الحكومة ليس غير.
(قبل الانقلاب)
برح أنور بك بنغازي بطلب من جمعية الاتحاد والترقي، فلما وصل
الآستانة قابله رجاله طبعًا ولم يجر له استقبال فخيم كما عوده ذووه فساءه ذلك،
وزاد في استيائه أنه بعد أن وصل قصد نظارة الحربية فدخل على ناظم باشا
فلم يقف له ناظر الحربية بل قابله بصفة عسكرية كفريق وقائمقام عسكري،
وقال له ما خلاصته:
أنا مسرور منك لما بذلته من الهمة والنشاط في بنغازي وأُسَرُّ بوجود
ضابط نشيط مثلك في الجيش؛ غير أنني أفيدك أنني لا أحب أبدًا مداخلة
الضباط في السياسة، ولا أسمح لهم بذلك، فإذا أقسمت لي بأنك لا تتدخل فيها
أبدًا أقسم لك بشرفي أننا نقدر أن نقضي العمر معًا. فأقسم له أنور بك بشرفه
العسكري أنه لا يتداخل في السياسة وخرج من حضرته وفي الصدر ما فيه.
كان بين عزت باشا رئيس الأركان وأنور بك صداقة ووداد من قبل، ويظهر
أن عزت باشا لا يميل قلبًا إلى ناظم باشا فعقد مع أنور بك عهدًاٍ، وأخذ الاثنان في
ملاطفة ناظم باشا وإظهار الود له، ومما كانا يقولانه له: اليوم لا توجد جمعيات أبدًا
فلا اتحاد ولا ائتلاف، بل يوجد شرف الجيش العثماني، وإن شاء الله بهمتك يا باشتنا
نعيد هذا الشرف إلى ما كان عليه.
وبرهانا على هذا القول دعوه مرتين إلى تناول الطعام في دار البرنس
سعيد باشا حليم مع رهط الاتحاديين، وتناول الطعام معهم مرة في فندق
توقتليان حتى قال بعضهم: إن ناظم باشا اتفق مع الاتحاديين والتحق بهم.
ولقد بلغ وثوقه حدًّا ما كان يجب له أن يبلغه، فترك أمور الحل والربط في
الجيش لعزت باشا، وأخذ يشتغل هو بأمور الدفاع وغيرها، ولقد كانت هذه
السياسة التي بسطتها توطئة لدور الانقلاب.
(قبل الانقلاب بأيام)
اتصل برشيد بك ناظر الداخلية السابق قبل الانقلاب بأيام خبر ما يهيئه
الاتحاديون من المؤامرات، فأراد أن يقبض على زعمائهم فمنعه ناظم باشا من ذلك
فألح فجاءوا بنصف تابور وأسكنوه في الباب العالي.
(من هم ضباطه)
إن رجال هذه البلوكات الأربعة التي جاءوا بها هي من تابور عشاق. وقد
انتخبوه دون غيره؛ لأن جميع ضباطه من الاتحاديين يقبضون رواتبهم شهريًّا
من صندوق جمعية الاتحاد والترقي، وما خلا هذا فقد أبعدوا جميع الجنود
التي كانت في الآستانة إلى الثكنات البعيدة، فلم يبق في ثكنات الآستانة ذاتها إلا
تابور واحد، نصفه في الباب العالي، والنصف الآخر مستمال بمعدات
الاستمالة، على هذا الشكل تمت مهيئات المؤامرة.
(يوم الانقلاب بالذات)
أعد الاتحاديون أسباب الانقلاب بتمامها، فبعد أن أتموا تهيئة الوسائل
العسكرية التي تقدمت الإشارة إليها هيأوا الأسباب الملكية أيضا فجاءوا بنحو
مائتي شخص من أنديتهم المختلفة ووزعوهم في القهوات الواقعة أمام الباب
العالي التي ظلوا فيها إلى نحو الساعة الثانية بعد الظهر.
وكان طلعت بك يقوم بدور التفتيش بين كل ساعة وأخرى، فيجيء هذه
القهوات مضطربًا ويكلم هذا الشخص أو ذاك، ويهمس لهذا وذاك كلمة في أذنه
ثم يرجع ثم يعود إلى القهوة، ويقول الذين شاهدوه: إنه ذهب ورجع عشر
مرات، وهو على مثل هذا الحال.
وفي الوقت المعين هبَّ هؤلاء الناس من قهوتهم وأخذوا ينسلون عشرات
عشرات ويقفون أمام الباب العالي فلما اجتمع قدر مائة منهم قدم أنور بك على
جواده يحيط به أربعة من الفدائيين وضعوا مسدساتهم تحت ستراتهم إلا أنها
كانت ظاهرة لكبر حجمها.
وكان في هذه الأثناء قد بلغ الوزارة خبر هذا التجمع فخرج ناظم باشا
ليعطي الأمر إلى الجنود الموجودة بتفريق المجتمعين، وقد جاءه ياوره نافذ
بك وأمرهم بذلك.
وبعد دقائق قليلة قدم أنور بك يحيط به جماعته فتظاهر ضباط تابور عشاق
برغبتهم في مخالفته فخطب فيهم قائلا: ألست قائدكم؟ أمَا أنا مسلم مثلكم؟ أمَا أنا
عثماني؟ لماذا تضربون هؤلاء القوم دعوهم وشأنهم.
(دور المشايخ)
وفي هذه الأثناء وقف الشيخ أحمد ماهر وشيخ آخر - في رواية أخرى أنه
موسى كاظم - واعظين في الجند والقوم وأخذا يصيحان: أيها المسلمون استغفروا الله
أيها المسلمون استغفروا الله، الله أكبر، الله أكبر. فيجيبهما الجميع:
أستغفر الله، أستغفر الله.
غرضهم من ذلك كان أنور بك يعلم هو وجماعته أنه لا بد لهم من
إطلاق النار لدخول غرفة اجتماع الوكلاء، فأرادوا بوجود هذه الضوضاء
العلوية أن يُخفوا صوت إطلاق النار عن الواقفين خارجًا، ثانيًا أن يحركوا
العواطف الدينية.
بعد أن دخل أنور بك وفدائيته الباب الخارجي الكبير، وتبعهم بعض
رجال الأندية الاتحادية أقفلوا الباب وراءهم ومنعوا غيرهم من الدخول.
ولما وصلوا إلى الداخل، وطلبوا الدخول إلى غرفة مجلس الوكلاء منعهم
نافذ بك ياور ناظم باشا، فأطلق مصطفى نجيب بك أحد ملازمي الجيش، وكان بثوب
ملكي النار على نافذ بك فلم يُرْدِهِ لأول طلق فأجابه نافذ بك بالمثل فأرداه، وسقط
الاثنان تضرجان بدمائهما فتصدى توفيق بك ياور الصدر وشقيق حرم أدهم بك
والى بيروت لممانعتهم فأردوه على الفور.
فلما سمع ناظم باشا إطلاق النار خرج ليرى الأمر فما فتح الباب حتى
كان قد عاجله أحد الفدائية برصاصتين ذهبتا بحياته حالاً فوقع إلى الأرض يتضرج
بدمه الذي ذهب ثمن غفلته وإهماله [3] .
وعلى هذه الصورة، وفي هذا الشكل دخل هذا الجمع مجلس الوكلاء وكانت
في يد أنور بك عريضة الاستقالة، فقبض على المسدس بيد وبسط العريضة
بالأخرى لكامل باشا قائلاً: وقع على هذه العريضة حالاً فالأمة لا ترضى بوزارتكم.
ثم أشار إلى بعض رجاله بعدم السماح لأحد بالخروج ولا لأحد من الخارج بالدخول.
جرى كل ذلك، والناس في الخارج يهللون ويكبرون وهم لا يعلمون ما
جرى داخلاً فركب أنور بك سيارة كانت معدة له، وقصد السراي السلطانية -
وكان قد احتاط بها مئات من الناس أيضا - يحمل الأمر بتعيين محمود شوكت
باشا صدرًا أعظم.
(في السراي)
لا يعلم الناس ما الذي جرى في السراي إلا أنهم يعلمون أن أنور بك دخل
وخرج بالأمر موقعًا عليه، وقد اختلفوا كثيرًا في الرواية، فلندع للتاريخ التمحيص.
وعاد أنور بك بأمر تعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم، فاستلم على
الفور طلعت بك نظارة الداخلية.
ووقف الخطباء يعددون مساوئ كامل باشا وخيانته ويقولون عنه: إنه
باع طرابلس الغرب والروملي [4] . أما الخطباء فبعض مشايخ الدين وأفراد من
مهاجري الروملي.
(شكل موظفي الدولة)
قبل أن خرج أنور بك من مكانه الذي كان فيه إلى الباب العالي أعطى
أمرًا إلى أحد أنفار البوليس من الاتحاديين إلى جعفر إلهامي بك مدير البوليس
العام بوجوب تسليم الإدارة إلى عزمي بك المدير السابق؛ فلما أخذ جعفر
إلهامي بك الأمر قبله ووضعه على رأسه، وسلم الإدارة إلى عزمي بك،
ووقف أمامه يسأله ما يريده، فأمر البوليس بأن يقبضوا عليه ويوقفوه ففعلوا.
(التوقيفات)
قبل أن يتلى الأمر بصدارة محمود شوكت باشا كانت التوقيفات قد بدأت
فقبض على أصحاب جريدة علمدار ومحرريها وعلى علي كمال بك المحرر
المعروف وإسماعيل بك مبعوث كوملجنه وعلى نور الدين بك مدير أقدام وغيرهم.
وفي الوقت الذي ذهب فيه أناس إلى الباب العالي وآخرون إلى نظارة
البوليس، ذهب فريق إلى مكان المحكمة العرفية، فأفهموا ضابطها أن الأمة في
غير حاجة إليهم وطردوهم من الدار التي كانوا فيها وأخذوا مفتاحها، فخرجوا
لا يبدون مقاومة ولا يفوهون بكلمة.
(الخط الهمايوني)
قلت لكم: إن أنور بك ذهب إلى السراي مساء يوم الخميس، ورجع
بالخط السلطاني القاضي بإسناد منصب الصدارة إلى محمود شوكت باشا
وإليكم تعريبه:
وزيري سمير المعالي محمود شوكت باشا:
بناء على استعفاء كامل باشا ولأهمية الموقع التي تستغني عن الإيضاح
رأينا توجيه مسند الصدارة إلى رجل مجرب الاقتدار؛ ولما كان اقتداركم
وكفاءتكم معلومين ومجربين لدينا؛ وجهنا إليكم منصب الصدارة مع رتبة
الوزارة والمشيرية السامية، ونحن متفكرون في انتخاب ذات لمسند المشيخة
الإسلامية، وقد صدرت لكم الإرادة بتشكيل الوزارة وعرضها علينا لتصديقها،
وفقكم الله للخير، آمين بحرمة سيد المرسلين.
15 صفر 331 و 10 كانون ثاني 328
…
...
…
محمد رشاد
(نشرة الداخلية)
وما كاد يستلم طلعت بك نظارة الداخلية بالوكالة حتى طير النشرة الآتية
إلى الولايات والملحقات، وإليكم تعريبها:
(لما كانت وزارة كامل باشا قد تجاوزت على حقوق الأمة فتركت
للأعداء ولاية أدرنة كلها، وجزر بحر سفيد، وجمعت في السراي السلطانية
مجلس مشورة من أعضاء مجلس شورى الدولة ورؤساء الموظفين دعته
المجلس الملي - ثار الشعب وأصبح في حال الغليان فقام بمظاهرة أمام الباب
العالي أدت إلى استعفاء الوزارة، فصدرت إليَّ الإدارة السنية بإدارة أمور
نظارة الداخلية بالوكالة إلى أن تعين الوزارة، وباشرت الأمر مستعينًا بقوته
تعالى، ولما كنا سندافع بكمال العزم عن حقوق السلطنة المقدسة، وبناء على
احتمال رجوع الحرب نوصيكم بتشويق الأهالي بمساعدة الحكومة ماديًّا
ومعنويًّا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الإمضاء
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... طلعت
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
(المنشورات الأخرى)
ولقد نشرت الجمعية منشورات أخرى وزعتها على أفراد الشعب يضيق
نطاق هذه الرسالة عن تعريبها؛ سأعود إليها في رسالة أخرى بإذن الله.
(العزل والنصب)
ما كادت الوزارة الجديدة تصل إلى مقام السلطة حتى أخذت في عزل بعض
القواد كمحافظ موقع الآستانة وغيره ومتصرف بك أوغلي واستخلافهم بغيرهم.
(الضباط)
حالة الضباط اليوم غير معلومة، في الآستانة ثلاثة أحزاب: حزب
محمود شوكت، وحزب ناظم باشا، وحزب الخلاصكاران الذي عمل الانقلاب
السابق، ويقولون: إن الخلاصكاريين وجماعة ناظم باشا اتفقوا على الاتحاديين،
فحال الجيش المعنوية الآن ضعيفة جدًّا، وانظر بمزيد الخوف والقلق إلى المستقبل.
(عدد القتلى)
يبلغ عدد القتلى المعروفين أربعة: هم ناظر باشا، ونافذ بك، وتوفيق
بك، ومصطفى نجيب بك، ويوجد عدد من القتلى والجرحى من أنفار الجند لم
تعلم أسماؤهم إلى الآن.
(جنازة ناظم باشا)
حمل رفات ناظم باشا إلى مستشفى كلخانه فبقيت فيها إلى يوم الجمعة
حيث خرجت جنازتها ودفنت في تربة السليمانية، وقد مشى في الجنازة بلوك
من الجند احترامًا لملحقي الدول العسكريين الذين خفروا الجنازة، ومشى
وراءها محمود شوكت وهادي باشا باكيًا يمسح دموعه وعزت باشا وأنور
بك.
(مصطفى نجيب بك)
خرجت جنازته من كلوب نور عثمانية الاتحادي ودفن بإرادة سنية في
الفاتح إلى جانب السلطان محمد الفاتح وجرى له احتفال عظيم جدًّا.
***
الوزارة الجديدة وصفات رجالها [5]
محمود شوكت باشا الصدر الأعظم وناظر الحربية، معروف
شيخ الإسلام محمد أسعد أفندي - كان أمينًا للفتوى، وهو من أعظم رهطهم.
الحاج عادل بك ناظر الداخلية - معروف.
بساريا أفندي ناظر النافعة - فلاخي من الأعيان كان رئيس تحرير
جون تورك، ومراقبًا على ما يكتب فيها من قبل الجمعية، وجون تورك
جريدة صهيونية. وقد ذهب كل الفلاخ من يد الدولة مع ولاية يانبا والروملي
وإنما بقي لنا منهم بحمد الله هذا الناظر.
رفعت بك ناظر المالية - منتظر قدوم جاويد بك يوم الإثنين؛ ليفرغ له
المنصب فهو وكيل مسخر.
شكري بك ناظر المعارف - فدائي للجمعية وهو المتهم بقتل أول قتيل قتل
بأمرها في سرس.
البرنس سعيد حليم باشا ناظر الخارجية - معروف [6] .
إبراهيم بك ناظر العدلية - والي الآستانة سابقًا.
نسيم مازلياح ناظر التجارة والزراعة - مبعوث أزمير الإسرائيلي
سابقًا، ومفوض الجمعية الصهيونية.
محمود جوروك صول ناظر البحرية - من أركانهم، يقال: إنه كان خلف
عبد الله باشا في قيادة الجيش.
أوسقان أفندي - كان منذ 5 سنوات كاتبًا في البالفخانة دار بيع السمك
من قِبل نظارة الديون العمومية، براتب 1400 قرش، ثم أرسل مفتشًا ماليًّا
إلى الروملي، وأصبح ناظر البوسته اليوم.
ففي الوزارة 3 وكلاء من قبل الجمعية الصهيونية: نسيم مازلياح، وجاويد
بك، وبساريا أفندي؛ أما العرب فلا يوجد لهم فيها ولا رجل واحد. وهذا
معقول مفهوم؛ لأنه لا يوجد عرب في البلاد العثمانية.
في سوريا عين علي ضيف بك واليًا لحلب وعارف بك المارديني واليًا
لسوريا، وستعلن الأحكام العرفية في كل البلاد السورية؛ وسيقال عند سفرهما:
إنهما مأموران بإجراء الإصلاح كي لا يلقيا مقاومة عند وصولهما وسيسافران يوم
الجمعة القادم في الفرنسوي إلى بيروت.
(رأي المنار في هذه الكارثة)
يرى القراء أن رواية رسالتنا وروايتي المؤيد والأهرام يؤيد بعضها
بعضًا.
وكتب إلى المقطم من لندن ومن الآستانة ما يؤيد ذلك كما أيدته الجرائد
الأوربية في جملته، ولا خلاف إلا في بعض التفصيلات الجزئية كالخلاف في
قاتل ناظم باشا، وسمعنا من بعض من غادروا الآستانة بعد الانقلاب أن الذي
قتل ناظم باشا هو أنور نفسه، وهو لم ينكث عهد العرب في درنه ويجيء
الآستانة إلا لأجل هذه المكيدة، وكنا سمعنا من أهل الخبرة بدخائل السياسة أن
الاتحاديين لا يرون لهم خصمًا قويًّا يعارضهم في جعل الضباط آلة سياسية
ثوروية بأيديهم إلا ناظم باشا وصادق بك (أمير الألاي الذي قام بالانقلاب
الأول) وأن قتل هذين الرجلين مقرر عندهم.
وقد حاولوا قتل صادق بك عقب هذه الثورة فتوارى، وكانوا يريدون قتل
جميع خصومهم المشهورين؛ فلما علم سفراء الدول بعزمهم هددوا وزارتهم
هذه بأنهم ينزلون جيشًا أجنبيًّا يتولى حفظ الأمن في العاصمة؛ فكفوا عما
كانوا شرعوا فيه.
وزارة كامل باشا:
أما كامل باشا وهو الرجل السياسي المحنك المنفرد بخبرته وقدرته
ونزاهته وشجاعته فكان من رأيه أولاً عدم الحرب، وكان رأي الاتحاديين
وجوب الحرب؛ ثم لما وقع الخذلان والانكسار في الجيش، واستقالت وزارة
أحمد مختار باشا قَبِلَ الوزارة مروءة منه في ذلك الوقت الحرج، وأي حرج
وخطر أكبر من انكسار الجيش ووصول العدو إلى ضواحي العاصمة في وقت
فرغت فيه الخزينة من المال وأعرضت عنها جميع الدول، بل صارت تتحدث
بقسمة سائر بلادها، وهل كان يمكن إنقاذ الدولة من السقوط في الهاوية في
هذه الحال إلا اقتراح الهدنة لأجل الصلح، واستمالة الدول لكف عدوانها
والتماس مساعدتها المالية والأدبية بقدر الإمكان، كلا إن هذا هو أقصى ما
كان يمكن أن يناله الحاذق الماهر في السياسة، وهو ما عني بالوصول إليه
كامل باشا، على أنه لم يقصر في أثناء الهدنة فيما يجب من الاستعداد الحربي
فهو قد فوَّض ذلك إلى ناظم باشا الذي هو أعلم قواد الدولة بالفنون العسكرية
وأقدرهم على العمل، نعم إن هذه الوزارة قد قصرت تقصيرًا داخليًّا صدق
عليها قول خصومها: إنها ضعيفة، وكذب قولهم: إنها منتقمة، وهو التقصير
في تربية زعماء الثورات والفتن والقتلة، وقد لقيت جزاءها على ذلك، والظالم
سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه.
لما بيَّن البلقانيون مطالبهم، وكان منها أدرنة وجزائر البحر الأبيض
قاوم كامل باشا في ذلك، وكبَّر أمر أدرنة وعظَّمه حتى جعلها كأنها حياة
الدولة الصورية والمعنوية وسياج المملكة كلها؛ لعلها تسلم للدولة. فلما قدمت
له الدول الكبرى ذلك الإنذار بوجوب جعلها للبلغار لم يقبل أن يستقل بذلك دون
استشارة أهل الحل والعقد في العاصمة فجمع الجمعية الملية في حضرة
السلطان، فكانت مؤلفة من أفراد الأسرة المالكة ووزراء الدولة الحاليين
والسابقين وأعضاء مجلس الأعيان وكبار العلماء وأمراء العسكرية، وهذه هي
الاستشارة الشرعية التي يوجبها الشرع الإسلامي، ويهزأ بها الاتحاديون
ويعدونها من الجرائم.
ولما قررت هذه الجمعية في القصر السلطاني ترجيح الصلح وتفويض
الأمر فيه إلى الوزارة، ولم تبالِ بالإصرار على أدرنة في سبيل مغاضبة
الدول الكبرى في هذه الأزمة السياسية والعسرة المالية، اجتمعت وزارة كامل
باشا لوضع جواب للدول تشترط فيه شروطًا تتعلق بأمن الدولة على باقي
بلادها ومساعدة الدول الملية والأدبية لها لتلم شعثها. وهذا كل ما يدخل في
الإمكان، ولكن عاجلها الاتحاديون بالثورة لإسقاطها بشبهة واهية كما ظهر
ذلك للعيان.
(مخادعة الاتحاديين للأمة)
لا يزال الاتحاديون وكتابهم الأجراء والمنافقون يوهمون الأمة العثمانية
بل الإسلامية أن الاتحاديين لم يقوموا بهذه الثورة إلا لأجل إعادة الحرب؛ لإعادة
شرف الجيش وإظهار قوته واستعادة أدرنة، سياج الدولة والحافظة لها من
الزوال.
كذب المنافقون؛ فإن سادتهم زعماء جمعية الأحمرين ومدبري الثورات
والفتن قد صرحوا في أوربة بأنهم يريدون السلم لا الحرب، وصرح محمود
شوكت باشا بمثل ذلك رسميًّا، ولم يستطع أن يبرر الثورة التي جاءت
بوزارته إلا بطلب شِق من مدينة أدرنة لدولته وإعطاء الشق الآخر للبلغار،
وهو خير الشقين عمرانًا، فهل هذا هو الذي يعود به شرف الجيش ومجده
وتحفظ به المملكة من الزوال؟
إن وجود أدرنة بحصونها التي عني بها السلطان عبد الحميد وزادها ناظم
باشا تحصينًا، لم يدفع جيش البلغار عن الوصول إلى ضواحي الآستانة، فهل يحفظ
لنا نصفها الآهل بالقبور ولايات الأناضول والعراق وسورية وجزيرة العرب بعد
أن ذهبت ولايات أوربة كلها من أيدينا، بجهل المفتاتين على الدولة وخيانتهم
وفسادهم؟
(مقصد الاتحاديين من الثورة)
قد عرف الخاص والعام أن الاتحاديين قد دبروا ثورتهم لأجل أن
يستعيدوا السلطة لأنفسهم، فكان من دسائسهم التحريض على الحرب قبل
وقوعها، والدولة غير مستعدة لها، ليجدوا من ذلك منفذًا لاستعادة السلطة،
ثم إن بعض زعمائهم كطلعت بك وجاويد بك نظموا أنفسهم في سلك
المتطوعين؛ ليبثوا دسائسهم في الجيش ويخذلوه وقد فعلوا، ثم لما عقدت
الهدنة صاروا يظهرون المعارضة في الصلح ويهيجوا الناس لطلب ذلك، فلما
صار الأمر إليهم صرحوا بأنهم يريدون الصلح والسلم دون القتال، فما هو
غرضهم إذًا؟ إن اعتقادنا الذي ما كاشفنا به عثمانيًّا عارفًا إلا ووافقنا فيه هو
أنهم لم يفعلوا فعلتهم ويكيدوا مكيدتهم إلا لأجل الذهب، وكنت منذ شهور
أصرح بتوقع ذلك، وأقول: إنهم إذا عادوا يبيعون بلادنا، ويسلبوننا هذه البقية
التي في أيدينا بتدبير اليهود الصهيونيين الذين يدبرون جمعيتهم كما يريدون،
وكيف ذلك؟
طرق استنزاف المال من الدولة لا تزال كثيرة، فمنها الإعانات
والضرائب الحربية والملية سواء سميت اختيارية أو إجبارية، ومنها
القرض الداخلي وهو من الضرائب، ولكن تختلف الأسماء، ومنها القراطيس
المالية يسلبون بها الذهب والفضة من البلاد، فلا يبقى في أيدي الناس إلا
أوراق لا يمكن أن ينال أحد رغيفًا واحدًا بورقة منها، وإن كان ثمنها مائة
ليرة، ومنها ذخائر السلاطين وجواريهم، وقد بلغنا أنهم مدوا أيديهم إليها
عندما هاجمت إيطالية الدردنيل فوضعوها في صناديق لأجل تهريبها:
وكان ما كان مما لست أذكره
…
فظن خيًرا ولا تسأل عن الخبر
ومنها بيع مزارع السلطان عبد الحميد لليهود الصهيونيين، ومنها
الامتيازات الزراعية والصناعية والتجارية، وما فيها من السمسرة وغير
السمسرة.
ولم تكد الوزارة الجديدة تتبوأ مقعدها من الباب العالي حتى أعطت شركة
ألمانية امتيازًا بخط ترام واسع من الآستانة إلى البوسفور.
ومما جاء مصدقا لسوء ظننا في الجمعية أنها جعلت في وزارتها الجديدة
ثلاثة وزراء من حزب اليهود الصهيونيين، وجعلت في أيديهم نظارة النافعة
ونظارة الزراعة والتجارة أي ينابيع الثروة في البلاد، وسيكون هذا مبدأ
عداوة بين اليهود والعرب، ربما أدى إلى سفك الدماء وتخريب كل ما يملك
اليهود بهذه الوسائل الاتحادية غير الشرعية.
فالواجب على الأمة أن تتفكر وتتدبر في الهاوية التي أمامها، وأن تحافظ
على هذا الذماء القليل الذي بقي لها من ثروتها، وأن تعلم أن النقدين الذهب
والفضة إن ذهبا من يدها فإنها ستقع في مجاعة عامة، تفضي إلى ثورة طامة،
تهلك الحرث والنسل، فلا تخدعنها وعود المحتالين، ولا زخرف كتابها
المنافقين، التي يموهونها باسم الدولة والدين، وليعلم أهل كل ولاية أنهم على
خطر احتلال الأجانب لبلادهم، وأن أدرنة إن بقيت للاتحاديين - وهي وطن
زعيمهم الثوري طلعت - فإنها لا تغني في الدفاع عن بلادنا شيئًا، وإذا أصبحت
البلاد خاوية من المال، فلا تقدر على الدفاع بالرجال، بل تقع في خزي ونكال
وسوء مآل، لا ينفع معهما احتيال، والعياذ بالله.
_________
(1)
المنار: قدمتها فإذا هي تطلب قسمة مدينة أدرنة بينها وبين البلغار.
(2)
أخبار الولايات لم تصح.
(3)
أثبتت هذه الرواية أن ناظم باشا قتل بعد قتل مصطفى نجيب الذي أراد الاتحاديون أن ينسبوا إليه قتله ليبرئوا أنور بك من اتهامه بمباشرته، على أنه يسهل عليهم إصدار أمر من السلطان بالعفو عن هذه الجنايات وإن كان لا يجوز شرعًا.
(4)
أما كامل باشا فيجيب الجمعية بقول المثل: (رمتني بدائها وانسلت) .
(5)
ذكر في الأصل أسماء الوزراء ثم أوصافهم فاختصرناها ببعض تصرف.
(6)
هو أمين صندوق الجمعية، وقد قبل هذه النظارة بعد أن أباها عثمان نظامي باشا، وحقي باشا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
اللعب بالنرد والشطرنج والورق
وحضور دور اللعب ومجاملة أهل الكتاب
(س 7) من صاحبي التوقيع بالمطرية (في الدقهلية) :
حضرة مرشد الأمة ورشيدها صاحب المنار المنير فضيلتلو أفندم: السلام
عليكم ورحمة الله، وبعد، ألتمس من فضيلتكم إجابتنا عن السؤال الآتي عسى
بجواب فضيلتكم تمنع الحيرة ونهتدي إلى سبيل الرشاد.
أسس بالمطرية دقهلية نادٍ باسم نادي الموظفين، الغرض منه نشر الفضيلة
ومدارسة العلم، وتوثيق عرى المحبة والإخاء والإنسانية، وأعضاء النادي المذكور
تتألف من محمديين وعيسويين وموسويين، وأعمال النادي على مقتضى قانون قد
جاء فيه: (منع الخمر والميسر منعًا باتًّا) ولكن بالنادي المذكور حجرة للهو
واللعب بالنردشير (الطاولة) والشطرنج والورق (أي الكتشينة) ترتب على
وجودها بالنادي منع بعض أعضائه المسلمين من الحضور فيه وحرمانه من سماع
ما يلقى من المحاضرات النافعة؛ لعلمه أن هذه الألعاب حرام لكونها ميسر كما
نص عليه الشافعي وجرى عليه أكثر أصحابه، واعتمده الشيخان وغيرهما مستدلاًّ
على تحريمه وتغليظ العقوبة فيه بأحاديث كثيرة وأقوال شهيرة مذكورة في كتاب
(كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع) وكتب غيره، ولمَّا بيَّن الممتنعُ عن
الحضور هذا المانعَ إلى بعض مؤسسي النادي، أجابه بعدم أحقيته في الامتناع حيث
هذه الألعاب لم تكن من الميسر في شيء، ولم تكن حرامًا ولا مكروهة، وأنها نافعة
لما فيها من مجاملة أهل الكتاب باللعب معهم، وتشحيذ الخواطر وتزكية الأفهام
وراحة القلوب من عناء الأفكار، وترويح النفوس من شاق الأعمال، وغير ذلك
مستشهدًا بأقوال كثيرين وببعض فتاوى المرحوم الإمام مفتي الديار (قياسًا) وقد
كثر الأخذ والرد بينهما، وانتهى الموضوع إلى رفع الأمر إليكم رجاء الجواب عما
إذا كانت الألعاب المذكورة حرامًا أو مباحة، والأكمل حضور الممتنع بالنادي لإعادة
النفع العلمي أو امتناعه عن الحضور مع وجود حجرات بالنادي خلاف المختصة
باللعب أفندم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسن حسن عزام
…
...
…
...
…
...
…
...
…
بالمطرية - دقهلية
…
ملحوظة:
غرفة الألعاب مفصولة عن غرفة المطالعة والمحادثة بصالة عرضها 4 أمتار
تقريبًا، وحضرات أعضاء النادي الأقباط يلعبون، وإذا كان كل مسلم يبتعد عن
ذلك فسينمو الجفاء طبعًا، ومن جهة أخرى فإن النادي تلقى به محاضرات علمية
وأدبية وفنية كل ليلة جمعة، فإذا ابتعد المسلم خسر هذه الفوائد التي لا تخفى على
فضيلتكم، فأفتونا بما يقرب الناس ويزيل سوء التفاهم، ويكون سببًا لرقينا بعد
ذلك النوم الطويل، أدامكم الله للمخلص
…
...
…
...
…
...
…
... سكرتير النادي
…
...
…
...
…
...
…
عبد الحميد حسن محجوب
(ج) من اعتقد أن عملاً من الأعمال حرام وجب عليه تركه ألبتة إلا
لعذر شرعي كالضرورة التي تبيح المحرم لذاته كأكل الميتة، والحاجة التي
تبيح المحرم لعارض كرؤية الطبيب ما تحرم رؤيته من بدن المرأة أو الرجل،
وإذا زال العذر عاد حكم التحريم كما كان. وليست مجاملة أهل الكتاب ولا
المسلمين من الأعذار التي تبيح المحرمات، ومن توهم أن التهاون بأحكام
الدين من أسباب الترقي فقد انقلبت الحقيقة في نظره إلى ضدها، بل الإسراع
إلى تغيير شعائر الأمة وآدابها وعاداتها التي تعد من مقوماتها أو مشخصاتها
هو الذي يحل روابطها، ويمزق نسيج وحدتها، فلا ينبغي لعاقل أن يتهاون
في المحافظة على ما ذكر، بل ينبغي مراعاة التدريج في ترك العادات الضارة
إذا فشت في الأمة وصارت تعد من مميزاتها، فهذا أول ما يجب التفكر فيه
والاعتبار به في هذا المقام وهو مما يغفل عنه الناس.
على أن المجاملة لا تنحصر في اللعب بما هو محرم، ولا بما هو مباح
أيضا. ثم إن في مسألة اللعب بحثين، أحدهما: هل الألعاب المذكورة في
السؤال محرمة قطعًا وهي من الميسر أم لا؟ وثانيهما: هل الدخول إلى حجرة
الخطابة من النادي لسماع شيء من العلم النافع يعد محرمًا لوجود حجرة تلعب فيها
تلك الألعاب عند من يرى تحريمها؟
أما اللعب بالنرد، فالجمهور على تحريمه إلا أبا إسحاق المروزي قال:
يكره ولا يحرم، وهو محجوج بحديث أبي موسى مرفوعًا في صحيح مسلم
وسنن أبي داود وابن ماجه: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) .
وعللوا ذلك بأنه كالأزلام يعول فيه على ترك الأسباب والاعتماد على الحظ
والبخت فهو يضر بذلك ويغري بالكسل، والاتكال على ما يجيء به القدر،
أي فيه معنى الميسر المبني على الكسب بالحظ والنصيب دون العمل والجهد،
وما أشد إفساد هذا في الأمم، وما أبعده عن الإسلام الذي يهدي أهله إلى الجد
والسعي والعمل، ولا يمكن التفصِّي من تحريم لعب النرد إلا إذا ثبت أن سبب
النهي عنه أنهم كانوا يلعبون به على مال؛ وأنه حرم لذلك، وليس عندنا نص
في ذلك، وهو لا يكون من الميسر حقيقة إلا إذا كان اللعب على مال.
وأما الشطرنج فالأكثرون على أنه غير محرم ومنهم الشافعية، قال
الشافعي: إنه لهو يشبه الباطل، أكرهه ولا يتبين لي تحريمه، وقال النووي:
إن أكثر العلماء على تحريمه وإنه مكروه عند الشافعي أي تنزيهًا، واشترط لتحريمه
أن يكون على عوض، أو يفوت على اللاعب الصلاة اشتغالاً به عنها.
ولا يوجد حديث يحتج به ناطق بتحريمه، وكل ما لا نص من الشارع
على تحريمه فهو مباح لذاته؛ إذا لم يكن ضارًّا واستعمل فيما يضر، فإن
ترتب على فعل مباحٍ حرامٌ حُرِّم لهذا العارض لا مطلقًا، كأن يترك اللاعب
بالشطرنج ما يجب عليه لله أو لعياله مثلاً، ويدخل في ذلك: اللعب بالورق، فإنه
لا نص فيه من الشارع، ولكن قال بحرمته بعض الشافعية، وهؤلاء قد جعلوا
للعب قاعدة فقالوا: إنه يحل منها ما فيه حساب وتفكر يشحذ الذهن كالشطرنج
دون ما كان كالنرد أو كان من العبث، والحق أنه لا يحرم إلا ما كان ضارًّا
كما تقدم آنفًا.
ولا شك في كراهة الانهماك في اللعب والإسراف فيه، ولنا في النرد
والشطرنج فتوى مطولة في المجلد السادس من المنار، فليراجعها من شاء
(ص 373 - 376) .
وأما حضور الخطب والمحاضرات العلمية والأدبية في النادي فلا وجه
لتحريمها بحجة أن في النادي حجرة يلعب فيها لعب محرم؛ لأن الحرمة إنما
هي على اللاعب وعلى من يراه ولا ينكر عليه، وكذا يباح دخول أي مكان
من النادي ليس فيه منكر، وقد يستحب إذا كان فيه فائدة كموادة الأصدقاء
ومجاملتهم.
***
أحاديث تقويم ديوان الأوقاف
(س 8) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية:
صاحب الفضيلة العلامة منشئ المنار الأغر:
ما قول سيدي الأستاذ - وهو المحقق الأوحد في فن الحديث الشريف - فيما
تذيل به صحائف التقويم الذي يصدره ديوان عموم الأوقاف عن حساب
الأيام والشهور ومواقيت الصلاة إلخ إلخ، من الجمل الحكمية التي اختيرت على
أنها أحاديث صحيحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس على كثير
منها صبغة ذلك الكلام البليغ الذي عهدناه في كتب الحديث الصحيح وأمهات
كتب الشريعة الإسلامية.
وإذا صح أن متخير هذه الحكم لم يحتط في بحثه ولم يرجع في مثل هذا العمل
الخطير إلى الإخصائيين الراسخين في علم الحديث والسنة، وهو أول وأحق ما
يجب اتباع قول الله فيه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل:
43) فما عذر علماء مصر ورجال الدين فيها؟ وهذه الحكم تنتشر على صحائف
جريدة المؤيد، وتعلق عليها الشروح الضافية على أنها أحاديث صحيحة.
وكان يجوز أن نلتمس لهم بعض العذر لو بقيت هذه الأحاديث على صحائف
التقويم بين جدران الغرف، ولكن الأمر قد شاع وذاع وكثر اللغط فيه.
فهل لسيدي الأستاذ أن يتصدى للموضوع بباعه الطويل، وقلمه البليغ،
لتنجاب عنا هذه الغيوم، وتبيد تلك الهموم؟.
ابن منصور
(ج) إنني لم أنظر تقويم الأوقاف إلا معلقًا على بعض الجُدُر من بعيد
فلم أَرَ فيه شيئا من هذه الأحاديث، ولكني رأيت بعض ذلك في المؤيد، وقلت
لأحد محرريه: إن كثيرًا منها لم يروهِ أحد من المحدثين عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وبعضها مروي فيجب
على شارحها تمييز الحديث من غيره منها.
وإطلاق اسم الأحاديث عليها غير جائز؛ إذ ليس لمسلم أن يعتد بعزو
أحد حديثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عزاه إلى بعض أئمة
المحدثين أصحاب الدواوين المعروفة في تخريج الأحاديث أو وثق بعلمه
بالحديث، سواء رأى هذا الحديث في جريدة أو كتاب أو سمعه من متكلم أو
خطيب، فإننا كثيرًا ما نسمع من خطباء الجمعة الأحاديث الضعيفة
والموضوعة والمحرفة حتى صار يضيق صدري من دخول المسجد لصلاة
الجمعة قبل الخطبة الأولى أو في أثنائها، فمن سمع الخطيب يعزو إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قولا يعلم أنه موضوع، يحار في أمره لأنه إذا سكت
على هذا المنكر يكون آثمًا، وإذا أنكر على الخطيب جهرًا يخاف الفتنة على
العامة، والواجب على مدير الأوقاف منع الخطباء من الخطابة بهذه الدواوين
المشتملة على هذه الأحاديث أو تخريج أحاديثها إذا كانت الخطب نفسها خالية
من المنكرات والخرافات والأباطيل وما أكثر ذلك فيها.
وفي ص32 من فتاوى ابن حجر الحديثية أنه سئل عن خطيب يرقى
المنبر كل جمعة، ويذكر أحاديث لا يبين مخرجيها ولا رواتها، وذكر السائل
بعضها، وقال في ذلك الخطيب: إنه مع ذلك يدعي رفعة في العلم وسموًّا في
الدين، فما الذي يجب عليه وما الذي يلزمه؟
فأجاب بما حاصله أنه لا يجوز له أن يروي الحديث من غير أن يذكر
الرواة أو المخرجين إلا إذا كان من أهل المعرفة بالحديث أو بنقلها من كتبه
قال: وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس
مؤلفه من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك - فلا يحل ذلك، ومن فعله
عزر عليه التعزير الشديد.
وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث، حفظوها
وخطبوا بها، كذا من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلاً أم لا. فيجب
على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك. ويجب على حكام بلد هذا
الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه. إلخ.
وحاصل الجواب: أن ما طبع في تقويم الأوقاف من الأحاديث بعضها له
أصل صحيح أو غير صحيح، وبعضها لا أصل له، بل هو حكم منثورة
لبعض الحكماء والعلماء، وأنه لا ينبغي لمسلم أن يروي شيئا منه مسميًا إياه
حديثًا نبويًّا إلا إذا علم ذلك بالرواية عن الثقات في علم الحديث أو برؤيته في
بعض دواوين الحديث المشهورة كالصحيحين وكتب السنن، أو معزوًّا إلى هذه
الكتب وأمثالها في مثل الجامع الصغير، وليعلم أنه ليس كل ما في كتب السنن
وأمثالها كمسند الإمام أحمد من الأحاديث يصل إلى درجة الصحيح في
اصطلاحهم، بل فيها الصحيح والحسن والضعيف، وفيها ما عده بعض
المحدثين موضوعًا، فليس لمن رأى فيها أو فيما نقل عنها حديثًا لم يصرحوا
بقولهم: إنه صحيح، أن يقول: هو حديث صحيح، وكذا ما يراه في كتب الفقه
والأدب والمواعظ، فإن هذه الكتب يكثر فيها إطلاق الأحاديث بغير تخريج
وكثير منها واهٍ وموضوع لا تحل روايته إلا للتحذير منه.
ومن الكتب المتداولة التي تكثر فيها الأحاديث الموضوعة والشديدة
الضعف كتاب (خريدة العجائب) وكتاب (نزهة المجالس) بل يوجد مثل
ذلك في بعض الكتب الجليلة كإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وأكثر كتب
التصوف لا يوثق بما فيها من الأحاديث.
والعمدة: التخريج والتصريح بالتصحيح أو التحسين، فالمناوي يعزو
الأحاديث في مسند الفردوس مثلاً ولا يشير إلى صحتها أو ضعفها، فليس لك
أن تصحح شيئًا منها بغير علم، فإذا وضع بجانب الحديث (خ) أو (م) كان
صحيحًا لعزوه إلى الصحيحين، وإذا وضع بجانبه (فر) أو (حل) كان في
الغالب ضعيفًا وربما كان أقل من ذلك رتبة.
هذا وإننا قبل طبع ما تقدم رأينا المؤيد يعبر عما ينقله عن تقويم الأوقاف
بلفظ الحكم والحكمة، ولا يسميها كلها نبوية، فالظاهر أن الشارح لها في المؤيد
صار يراجع ويميز بين الأحاديث المأثورة والحكم المنثورة، فنقترح عليه أن لا
يذكر حديثًا مرفوعًا إلا معزوًّا إلى مخرِّجه، كما جرينا على ذلك في المنار منذ
إنشائه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية
(5)
قد وصلنا إلى الخطر فإلى متى نغش أنفسنا؟
كتبت في شهر المحرم فاتحة هذا العام أربع مقالات في هذا الموضوع،
ثم شغلت عن إتمام ما بدأت به من أسباب خذلان دولتنا في هذه الحرب حتى
حدثت فتنة جمعية الاتحاد والترقي الأخيرة بزعامة أنور بك، فأسقطت وزارة
كامل باشا وقتلت ناظر الحربية ناظم باشا في الباب العالي، ونصَّبت وزارة
اتحادية جديدة صدرها وناظر حربيتها محمود شوكت باشا، فتعجل البلقانيون
على إثر ذلك بقطع الهدنة، وأعيدت الحرب جذعة.
كنت عازمًا على أن أبين في سلسلة هذه المقالات جميع الأسباب التي
فتحت علينا باب المسألة الشرقية، بحرب طرابلس الغرب فالحرب البلقانية،
وأن لا أدع من تلك الأسباب مسألة واحدة أومئ إليها ولا أبينها، وهي عبث
جمعية الاتحاد والترقي بالعرش السلطاني ومقام الخلافة، تكريمًا لهذا المقام،
واحترامًا للجالس على ذلك العرش.
فلما حدثت الثورة الاتحادية وظن الناس - ولم أظن - أن ألمانية ستؤيد
تلاميذها الاتحاديين، والنمسة وإيطالية معها ظهير، وأن دهاقين السياسة
المحنكين سيعرضون عمران أوربة كله للتدمير، انتصارًا لهؤلاء الأحداث
المخربين، ولما رأيت أوربة قابلت هذه الفتنة بهدوئها المعتاد، ورأيت
جماهير المسلمين لم يقدروا ضررها حق التقدير، ولم يفكروا في عاقبة
الحرب حق التفكير، بل ألقوا السمع إلى سماسرة التغرير، وحسبوا أن ما
يرجون من النصر يدفع عن الدولة ما كان يخشى من الخطر - لما كان ذلك
كله كما ذكرت، ورأيت أن التمادي في السكوت أولى فتماديت، إلى أن قرأت
في جرائد مساء أمس ومؤيد صباح هذا اليوم (السبت 9 ربيع الأول) هذه
البرقية الرسمية الواردة من عاصمة النمسة، فكانت هي الباعثة على العود إلى
الكتابة في ذلك الموضوع مكتفيًا منه بالبحث في النتيجة والعاقبة، وهذه ترجمتها:
نشرت الحكومة بلاغًا رسميًّا أزالت به المخاوف التي تسربت إلى الأفكار
بشأن مهمة البرنس (هوهنلوه) حاجب عاهل النمسة، وقد جاء في البلاغ أن
البرنس لقي في روسية مقابلة في منتهى المودة والصداقة، وأن الأسباب
القديمة التي أسفرت عن حصول نزاع في روسية قد زالت، وأن الشعوب
البلقانية صارت الآن عضوًا من أعضاء الأسرة الأوربية الغربية، وستهتم
حكومة النمسة والمجر اهتمامًا خاصًّا بترقية هذه الشعوب وإعلاء شأنها.
تفكرت في هذه البرقية مليًّا، وقارنت بينها وبين ما ورد قبلها من نبأ
الوفاق والتواد بين إنكلترة وألمانية، وقلت في نفسي: إن هذا الاتفاق بين هذه
الدول لا يكون في هذا الوقت إلا علينا، ولا بد أن يكونوا به قد صاروا إلبًا
واحدًا على الدولة العثمانية التي كان أساس سياستها الخارجية، أنه لا بقاء لها
إلا بتنازع الدول عليها، وسواء صح اتفاقهم النهائي علينا الآن، أم أخروه إلى
أعوام، فالنتيجة واحدة، وهي أنه يجب أن تكون حياتنا ذاتية لنا، لا بتنازع
الدول علينا، وأن نفكر في طريق اتفاق الدول وكيفية حلهم للمسألة الشرقية،
التي كانت عضلة العقد وأم المشاكل، هل يقسمون ما بقي بأيدينا فيحتل كل
منهم حصته احتلالاً عسكريًّا؛ لأن الدولة لا تستطيع مقاومتهم فتنتهي بالفتح
الحربي أم اختاروا لها صورة من صور الفتح السلمي؟ وقد تفكرت فكان
الثاني هو المرجح عندي، فإن هذه الدول العاقلة الرشيدة تأبى الاستيلاء على
سائر بلاد الدولة الغالب عليها الخراب والجهل بالاحتلال العسكري لأسباب
متعددة:
منها: أن ذلك يقتضي نفقات كثيرة هم في غنى عنها. ومنها أنه لا بد
أن يفضي إلى ثورات وفتن داخلية في البلاد التي يغلب على أهلها البداوة
كالبلاد العربية والكردية وما يجاورها، وهم في غنى عن سفك الدم الأوربي
المقدس! في أرض الهمجية في عرفهم، وفي إنفاق المال على ذلك.
ومنها: أنه يترتب على ذلك وقوع العداوات والأحقاد بين المحتلين،
وأهالي البلاد المسلمين، فيكون ذلك مؤخِرًا للاستفادة من استعمارها.
ومنها: أن ما تطمع فيه كل دولة منها وتعده من منطقة نفوذها ليس بينه
وبين ما تطمع فيه الأخرى حدود طبيعية يُؤمَنُ بها التنازع بين المحتلين مع ما
بينهم من المناظرة والمباراة، بل الشقاق والمعاداة، ولا يتيسر الآن إقامة
معاقل تتكافأ بها القوى فيخشى أن تقع بينهم الحروب لأجل ذلك.
ومنها: أنه لا يوجد في أكثر هذه البلاد ثكنات ولا قلاع ولا حصون
للجيش ولا مباني تليق بالأوربيين الذين يتولون الإدارة والأعمال، ولا طرق
حديدية لنقل العسكر عند الحاجة ولسهولة المعيشة، فلهذا يتعذر اتقاء خطر
التنازع الذي أشرنا إليه في الوجه الذي قبل هذا ويتعذر تلافي خطر الثورات
والفتن الداخلية.
ومنها: أنه لا يوجد عندهم العدد الكافي من الرجال، الذين يصلحون
لتولي الأعمال، ويرجى أن تصلح بهم الحال، ومنها أن ذلك أشد ما يوقظ به
استعداد مسلمي الأرض كافة، ويوجه قلوبهم إلى وجوب السعي للانتقام ممن
أزالوا ملكهم، وهدموا سلطان دينهم.
تلك هي الأسباب المانعة من الفتح الحربي، وأما الفتح السلمي فهو إدارة
البلاد وحكمها بواسطة أشباح من العثمانيين تحسبهم عامة الأمة رجالاً منها،
فلا يؤدي إلى هذا المحظور.
يا سبحان الله! إن ساسة أوربة ينشرون في رسائلهم وجرائدهم الآراء
في كيفية إزالة هذه الدولة كما أزالوا دولة مراكش ودولة إيران ولا نرى أحدًا
من المسلمين يعتبر أو يفكر، ولا نقول يسعى أو يعمل.
وما هو رأيهم في كيفية إزالتها؟
نشر مدير مجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية رسالة في أوائل العهد بهذه
الحرب سماها (المسألة الشرقية) أشار فيها إلى أن أمثل الطرق في حل هذه
المسألة أن تجعل الدولة العثمانية تحت مراقبة الدول كما تجعل حكومة ألبانية
الجديدة.
وبيَّن أن من مسهلات ذلك: سبق الدولة إلى جعل جميع مقومات حياتها
في أيدي الأوربيين كمجلس الديون العمومية، وشركة احتكار الدخان، والبنك
العثماني، والسكك الحديدية، والمستشارين الماليين، والمعلمين العسكريين،
والمدارس والصناعات والملاحة، فلم يبق إلا تحويل نفوذ السفراء في الآستانة
إلى سلطة شوروية مختلطة تكون هي المشرفة على حكومة العاصمة والمديرة
لها، ويجعل وكلاء الدول في الولايات والمتصرفيات مسيطرين على الحكام
فيها، ويكون من أهم عملهم تحديد النفقات العسكرية؛ لأن العسكر لا يبقى من
الحاجة إليه إلا حفظ الأمن (كالعسكر المصري) وأما الخلافة فتظل محترمة
بصفة كونها إمامة دينية فيكون السلطان محصورًا في قصره لا سلطة له ولا قوة.
ويقول الكاتب: إن هذا يثقل على أصحاب المناصب والأهالي، ولكن
الدولة في حالة إفلاس، وسيعلم رجالها أنه لا يمكن بقاؤها إلا بهذه الطريقة،
وسيتعود الأهالي الخضوع لسلطة وكلاء الدول كما خضعوا لرجال الانقلاب
العثماني أي: وهم أخلاط وأوشاب لا يعرف لهم عرق راسخ في الأمة كما
بيَّنه الكاتب في موضع آخر من رسالته.
وقد قرأنا في مؤيد هذا اليوم ترجمة برقية أرسلها صاحب جريدة أقدام
التركية من فينة إلى جريدته بالآستانة يؤيد هذا الرأي، وهي هذه:
عقد مندوبو البنك الشرقي الألماني والبنك الأهلي والعثماني جلسة في
باريس تداولوا يها بمسألة القرض الذي تطلبه الوزارة العثمانية وقرروا أن
يقرضوا الحكومة ما يكفيها لدفع رواتب الموظفين والضباط والجنود فقط.
وطلبوا في مقابل ذلك أن يمنح لشركة إنكليزية امتياز ري أراضي
الجزيرة. وأن تمنح إلى شركات فرنسوية امتيازات إنشاء الخطوط الحديدية
في الأناضول، وأن تمنح إلى شركات ألمانية امتيازات إنشاء خطوط حديدية
تتفرع عن الخط الأصلي لسكة حديد بغداد.
وأن تصدق الحكومة على تمديد امتياز احتكار الدخان في المملكة
العثمانية لشركة الريجي.
وإجراء إصلاح في ميزانية نظارة الحربية.
وأن يكون لهذه البنوك حق المراقبة على النفقات العمومية للحكومة.
وأخيرًا أن تفوض إلى مصلحة الديون العمومية مسألة عقد القروض. اهـ.
يقرأ المسلمون مثل هذا في الجرائد وتراهم وادعين ساكنين لا يهتمون
بها ثم تراهم يهيجون لذكر أخذ أدرنة أو نصف أدرنة، ويشيد بعضهم بإطراء
جمعية الأحمرين التي تجدّ ببيع ما بقي من هذه الدولة لأوربة بالرهون
والامتيازات، فما هذا الجهل والغرور؟
نعم إن أمتنا الإسلامية قد استحوذ عليها الجهل والغرور معًا، وصار رؤساؤها
وكبراؤها شرارها، فمن ذا الذي يعلمها ويهديها رشدها؟ إن السيادة والسلطة
أعلى وأغلى شيء في نفسها، وقد كان لها ممالك كثيرة فكانت تزول بالتدريج
وهي لا تعقل سبب زوالها، ولا تعتبر اللاحقة بما حل بالسابقة منها.
تألفت الدولة العثمانية من عدة من هذه الممالك فكانت أكبرها وأقواها،
ولكنها منذ صارت القوة تُبنى على أسس العلم والنظام صارت هي ترجع
القهقرى في كل شيء، فهي منذ أزال السلطان محمود منها قوة الإنكشارية
الهمجية إلى هذا اليوم، لم تقدر أن تؤسس قوة نظامية تحفظ بها ملكها الواسع،
ولو بحيث تنجو من طمع الطامع، وإنما اكتفت من القوة المنظمة في الجملة
بالقدر الذي يُمكِّن العاصمة البيزنطية من تذليل جميع الشعوب العثمانية،
وجباية الضرائب والمكوس منها؛ ليتمتع أهل تلك العاصمة ومن حولهم بها،
وكانوا يرون أن ذلك لا يدوم لهم إلا ببقاء الأمة على جهلها، فكان مصير
ثروة الدولة والأمة كلها إلى أوربة، ولكن المسلمين راضون لجهلهم بسوء
حالهم، ومقتنعون بأن لهم دولة قوية تحمي حماهم وحرمهم، فهذا الجهل
والغرور هو الذي انتهى بالدولة إلى هذا المصير، ولا يزال المسلمون على
غرورهم يحثون الدولة على الحرب، رجاء أن يكون لها الغلب فيعود إليهم
التلذذ بالطمأنينة على ملك الإسلام، الذي تمثله لهم الأماني والأوهام، وإن
زالت اللذة بعد شهور وأيام:
أماني من سعدى عذاب كأنما
…
سقتنا بها سعدى على ظمأ بردا
مُنًى إن لم تكن حقًّا تكن أحسن المنى
…
وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا
أيها الإخوة المخلصون في الغيرة على الملة والدولة، إن الرائد لا يكذب
أهله، اعلموا أن الدولة على شفا جرف من الخطر، وأن استيلاء أوربة عليها
بالفتح السلمي أقرب غائب ينتظر، ومن مقدماته الفتنة الثورية التي حدثت في
الآستانة وما سيعقبها من الفتن، ولا منجاة للدولة ولا لمثيري الفتنة بنصر
يرجى لأخذ نصف مدينة أدرنة، ولا أخذ كل تلك المدينة، ولا بلجنة الدفاع
الملية، ولا بالإعانات والضرائب الحربية، وقد كنتم مغرورين بجيش عبد
الحميد، وسررتم بظفره باليونان، ثم أنفق الاتحاديون باسم هذا الجيش
خمسين مليونًا من الليرات، ولم يمنع البلقانيين أن يسلخوا من الدولة بضع
ولايات تضاهي جميع ممالكهم، فهل يمنع الدول الكبرى من أخذ الباقي إذا هي
اتفقت على ذلك؟.
أيها الإخوة المخلصون للدولة والإسلام، إنني أنا النذير العريان، الذي
حمله الإخلاص في النصح على تعريض عرضه للسب والشتم، بل تعريض
ماله للسلب ونفسه للقتل، اعلموا أن الدولة على خطر الزوال، فيجب على
العقلاء منكم أن يفكروا أولاً في عاقبة سلطة الإسلام، وحفظ حرم الله تعالى
وحرم رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن أدرنة التي خدعتم بتعظيم أمرها، لا
تغني فتيلاً في الدفاع عنهما، وإنما حفظهما بحفظ سياجهما والبلاد والسواحل
المحيطة بهما، ثم أن يفكروا ثانيًا بحفظ سائر بلاد الدولة ووقايتها من امتلاك
الأجانب لها، وحفظ استقلال الدولة فيها.
سمعتم أن جمعية الاتحاد والترقي قد أسست في الآستانة لجنة باسم الدفاع
الملي، أي الوطني أو الجنسي، وأنها كتبت إلى جميع البلاد العثمانية تطلب
الإعانة المالية على ذلك، وكتبت إلى غير البلاد العثمانية في هذا الأمر كما
كتبت في غيره، وقد كنت أول من اقترح على الدولة الاستعداد للدفاع الوطني
العام، وأكدت وجوبه في العام الماضي بما كتبت في المنار، ولكن لا على
الوجه الذي تدعو إليه الجمعية الآن، فإن فائدة هذا محصورة في الاتحاديين
يبغون به الدفاع عن أنفسهم وتوسيع موارد ثروتهم، وسيظهر هذا لجميع
الناس، وأما هذه الحرب فستحكم في صلحها أوربة حكمها النافذ الذي لا مرد
له.
ما كل ما يعلم وما يجب أن يعمل يجوز أن يكتب وينشر، وإنما أقول:
إن استبقاء السلطة الإسلامية وحفظ الحرمين لا يزال ممكنًا، ولا ينفذ إلا بجمع
المال، فيجب الآن على جميع أهل الغيرة والبصيرة من مسلمي الأرض أن
يجمعوا المال لذلك، ويحفظوه حفظًا إلى أن يتبين لهم العمل الذي لا شك فيه
بواسطة مؤتمر يعقد لذلك من أهل الغيرة والبصيرة في العالم الإسلامي كالأمير
عمر باشا طوسون من مصر والنواب وقار الملك من الهند، فهذا كل ما يجب
الآن، والسلام (وسنعود إلى هذه البحث في الجزء الآتي، إن شاء الله تعالى) .
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
نظريتي في قصة صلب المسيح
وقيامته من الأموات
(2)
(تابع ما قبله)
ولنا أن نسأل هنا الأسئلة الآتية:
(1)
إذا كان المسيح أخبر تلاميذه بأنه بعد قيامته سيسبقهم إلى الجليل
وأمرهم بالذهاب إلى هناك لكي يروه (مت 26: 32 و28: 10 ومر 16:
7) فلماذا إذًا ظهر لهم في أورشليم كما يقول لوقا ويوحنا في نفس اليوم الذي
قام فيه؟ (لو 24: 36 و37 ويو20: 19) .
(2)
ما الحكمة في إرسالهم إلى الجليل ليروه هناك مع أنه ظهر لهم
مرارًا في أورشليم (أع 1: 3) وما الداعي إلى ذلك، وهو الذي أمرهم أن لا
يبرحوا أورشليم حتى يحل عليهم روح القدس؟ (لو 24: 49 وأع 1: 4) .
(3)
هل ظهوره لهم في الجليل كان بعد ظهوره لهم في أورشليم أم قبله؟
فإن كان بعده فلماذا شكُّوا فيه؟ (مت 28: 17) بعد أن كان أقنعهم بذلك في
أورشليم (لو 24: 39 - 49 ويو 20: 20 و27) وإن كان قبله، فمتى
ذهبوا إلى الجليل إذًا مع العلم بأن الجليل يبعد عن أورشليم مسيرة ثلاثة أيام
على الأقل، وقد نصت الأناجيل على أنهم رأوه في أورشليم في نفس يوم
قيامته من القبر، فهل يعقل أنهم ذهبوا إلى الجليل ورأوه هناك ثم رجعوا في
نفس ذلك اليوم؟ وإن كان السبب في الشك أن هيئته كانت تتغير بعد القيامة
مرارًا، فلماذا كان ذلك؟ وما الحكمة في هذا التضليل؟ وإذا كانت هيئته قابلة
للتغيير والتبديل بعد القيامة وقبلها كما يفهم من الأناجيل (راجع متى 17:
1 -
7 ومر 9: 2 - 8 ولو 9: 28 - 36) وكان له القدرة على الاختفاء
عن أعين الناس، والمرور في وسطهم بدون أن يروه والإفلات من أيديهم (يو
8: 59 و10: 39 ولو 4: 30) فكيف إذًا يجزمون بأن اليهود صلبوه
وأنهم عرفوه حقيقة وأمسكوه مع أن نفس تلاميذه كانوا يشكون فيه لكثرة تغير
هيئته وتبدلها؟ (يو 21: 4) فأيّ غرابة إذا قلنا: إن اليهود لم يعرفوه
وأخطأوه كما أخطأته مرة مريم المجدلية وظنته البستاني؟ (يو 20: 15) .
(4)
إذا كان المسيح ظهر لهم في أورشليم يوم قيامته، فلماذا لم
يأمرهم بنفسه وقتئذ بالذهاب إلى الجليل بدلاً من أن يرسل إليهم هذا الأمر
بواسطة النساء؟ (متى 28: 10 ومر 16: 7) ولماذا لم يذكر مَتَّى هذا
الظهور، ويذكر ما ينافيه مما سبق بيانه؟ ألا يدل ذلك على أنه ما ظهر لهم
في أورشليم، وإلا لَمَا احتاج لتوسيط النساء بينه وبين تلاميذه؟ ولم ترك متَّى
ذكر ذلك، وهو من الأهمية والبعد عن الشك كما يقول الآخرون بمكان عظيم؟
(لو 24: 45 ويو 20: 25) .
بقي علينا أن نناقش قصة الصلب هذه من وجوه أخرى:
(1)
أن الشريعة الموسوية في مثل حالة المسيح كانت توجب الرجم،
وليس فيها صلب لأحد وهو حي، وإنما يعلق المقتول على خشبة (تثنية 21:
22) .
أما الشريعة الرومانية فكان الصلب فيها للعبيد ولقطاع الطريق ونحوهم
من أرباب الجرائم الدنيئة، فكيف إذًا صلب المسيح، وعلى أيِّ شريعة كان
ذلك؟ وكيف طلب اليهود صلبه وأنفذه الرومان لهم، وهو ليس موجودًا في
شرائعهم لمثله؟ وكيف صلب معه لصان كما يسميهما متَّى ومرقس وليس في
شريعة الرومان، ولا شريعة اليهود صلب اللصوص؟ لذلك شك بعض العلماء
حتى في أصل هذه القصة، ومنهم أيضًا من أظهر بالدلائل التاريخية المعقولة
الكذب أو المبالغة في بعض قصص اضطهاد النصارى؛ واستشهادهم الكثير
في القرون الأولى كما يحكون في تواريخهم.
(2)
جاء في إنجيل لوقا أن المسيح قبيل القبض عليه قال لتلاميذه (22:
36) : الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه
ويشترِ سيفًا 38 فقالوا: يا رب هو ذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي 39 وخرج
ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضًا تلاميذه 40 ولما صار إلى
المكان قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة 41 وانفصل عنهم نحو رمية
حجر وجثا على ركبتيه وصلى 42 قائلاً: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه
الكأس ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك 43 وظهر له ملاك من السماء يقويه
44 وإذا كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة
على الأرض 49 إلى قوله: فلما رأى الذين حوله ما يكون قالوا: يا رب
أنضرب بالسيف 50 وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى،
وعلى هذه العبارة ترد عدة مسائل:
أولا: إن المسيح أمر تلاميذه بشراء السيوف وحملها للدفاع عنه، وأراد
واحد منهم أن يقتل عبد رئيس الكهنة، ولكن أصابت الضربة أذنه فقطعتها ولم
ينهه المسيح عن ذلك إلا بعد أن أخطأت الضربة الرجل كما يفهم من متَّى
(26: 51 و52) فكيف يتفق هذا مع قول الأناجيل عنه أنه أمر تلاميذه
بمحبة الأعداء (مت 5: 44) وأنه قال (مت 5: 39) : (من لطمك على
خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا) . فلماذا لم يعمل هو نفسه بأقواله هذه،
وأراد تلاميذه على حمل السيوف للدفاع عنه؟ أم كانت هذه الأقوال السلمية في
مبدأ أمره كما يفهم من إنجيل متَّى قبل أن يقوى، فلما قوي قليلاً تركها؟ فماذا
كان يفعل لو بلغ من القوة مبلغًا يستطيع معه أن يقهر دولة الرومان؟ وبم
يفتخر المسيحيون علينا إذًا، ونحن نرى أن المسيح ما دعا إلى السلم إلا وقت
ضعفه الشديد؟ ولم يعيبون محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه حارب أعداءه،
وقد كان حينئذ قويًّا شديدًا؟ أو لا يُفهم من عبارة لوقا هذه أن المسيح هو الذي
أشار عليهم بالضرب بالسيف حينئذ، فإنه هو الذي أمرهم بشرائها وحملها معهم؟
نعم إنه لم يصرح بذلك حينما سألوه (أنضرب بالسيف) ؟ ولكن كان سكوته
إيعازًا خفيًّا خوفًا من اليهود ومن الدولة الرومانية؛ لأن الظاهر أنه كان عنده
أمل في النجاة منهم؛ ولذلك لما تم صلبه على زعمهم يئس وقال: (إلهي إلهي
لم تركتني؟) (مت 37: 46) .
ثانيًا: إذا كان المسيح ابن الله الذي نزل من السماء للموت ليرفع خطيئة
العالم، فلماذا أراد الدفاع عن نفسه، ولماذا لم يسلم نفسه لهم طائعًا مختارًا؟
وما معنى هذه الصلاة الطويلة العريضة والإلحاح بطلب النجاة، وما حكمة
ذلك يا ترى؟ وهو يعلم أنه لا فائدة من هذا كله ولا بد من صلبه الذي جاء
لأجله.
ثالثًا: إذا كان عبيد الله يقدمون أنفسهم للشهادة في سبيله بكل شجاعة
وثبات وإقدام، فكيف يمكن أن يجبن (ابن الله) عن مساواتهم في ذلك حتى
يتصبب عرقه من شدة الخوف من الموت، وليس في الموت إلا أنه يعود ثانية
إلى أبيه، فَلِمَ كَرِهَ ذلك يا ترى؟ ولِمَ هذا الحزن الشديد كما ذكر متى (26:
37 و38) ؟
رابعًا: كيف يحتاج ابن الله الممتلئ من روح القدس إلى ملاك من السماء
ليقويه مع أنه في ناسوته يوجد أقنومين إلهيين (الابن، وروح القدس يو1:
32) وهما متَّحِدان به، فهل هذا الملَك عندهم أقوى من الله؟
خامسًا: هل من العدل عند النصارى أن ينقذ الله المذنبين - آدم وبنيه
ويصلب ابنه البريء رغم إرادته وهو يستغيث به فلا يغيثه؟ فأين عدله
ورحمته؟ وإذا لم يكن عادلاً رحيمًا بابنه، فهل مثل هذا الإله يرحم عبيده
ويعدل فيهم؟ ولِمَ هذا الحب الكثير من إلههم لسفك دم الأبرياء من قديم الزمان؟
راجع قصة يفتاح الممتلئ من روح الله الذي قتل ابنته الوحيدة البريئة قربانًا
لله وذكر الله قصته هذه في بعض كتبه ولم يزجر أباها ولم يعاقبه على ما فعل،
كأن قتلها كان مرضيًّا عنده تعالى (قضاة 11: 29 - 40) لأن أباها
أصعدها بعد قتلها محرقة له، فلعله سُرَّ من رائحتها والنيران تأكل جثتها
فلذلك ذكر هذه القصة ولم يذكر ما ينفر منها ليقتدي الناس بيفتاح هذا. راجع
أيضًا مقالة القرابين والضحايا في كتابنا (دين الله) .
(3)
يقول إنجيل يوحنا 19: 31 (ثم إذا كان استعداد فلكي لا تبقى
الأجساد على الصليب في السبت؛ لأن يوم ذلك السبت كان عظيمًا، سأل
اليهود بيلاطس أن تكسر سيقانهم ويرفعوا 32 فأتى العسكر وكسروا ساقي
الأول والآخر المصلوب معه 33 وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه؛
لأنهم رأوه قد مات 34 لكن واحدًا من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت
خرج دم وماء 36 لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم لا يكسر منه 37) .
وأيضا يقول كتاب آخر: (سينظرون إلى الذي طعنوه) . فإذا كانت هذه
القصة حقيقية ووقعت لتتميم نبوات قديمة، فكيف لم يشر إليها الثلاثة
الإنجيليون الآخرون؟ وليس هذا فقط بل إن عبارة مرقس (15: 42 -
46) تنافي هذه القصة؛ لأن يوحنا (19: 38) يقول: إن يوسف أتى إلى
بيلاطس بعد أن أمر بكسر سيقان المصلوبين وبعد أن ماتوا؛ فأذن له بأخذ
الجثة؛ فكيف إذًا تعجب بيلاطس (حسب رواية مرقس) من موت المسيح
بسرعة حينما جاءه يوسف طالبًا الجسد؟ ولماذا سأل قائد المائة قائلا: (هل
له زمان قد مات؟) (مر 15: 44) إذا كان حقيقة أصدر أمره بكسر سيقان
المصلوبين ورفعهم كما قال يوحنا؟ فهل بعد هذا الكسر يبقى موضع للعجب؟
ولا يخفى أن المسيح صلب بين اللصين (يو19: 18) فكيف تخطاه العسكر،
وكسروا ساقي الأول والآخر ولم يكسروا ساقيه بل كسروا الثالث قبله؟
فإن قيل: لأنهم رأوه قد مات. قلت: إذا كانوا متحققين من الموت فلماذا
طعنه أحدهم بالحربة في جنبه؟ وإن لم يكونوا متحققين فما الذي أخرهم عن
كسر ساقيه بعد صدور الأمر لهم بذلك؟ ولماذا ترددوا في إطاعة الأمر حتى
تخطوه إلى الثالث، وهل من شأن العسكر التردد والتوقف والبحث في مثل
ذلك؟ مع أن الأمر صدر لهم صريحًا بكسر سيقان الجميع والتعجيل بموتهم
ورفعهم عن الصلبان إجابة لطلب اليهود من بيلاطس فما الذي أخرهم عن تنفيذ
الأمر في الحال؟ ألا يدل ذلك على أن هذه القصة مصطنعة لتطبيق نبوات
قديمة على المسيح كما هي عادة كتبة الأناجيل؟ (راجع كتاب دين الخوارق
في الإنكليزية صفحة 837 و 838) .
وكيف يفسرون خروج الدم منه بعد الموت من الوجهة الطبية، وما هذا
الماء الذي رآه يوحنا خارجًا من جنبه كما يقول إنجيله (19: 34 و35) .
(4)
ذهب بعض علماء الإفرنج إلى أن المصلوب لم يمت؛ لأن مدة
الصلب كانت ست ساعات على الأكثر (راجع مرقس 15: 25 - 37)
وهي غير كافية للموت بالصلب، فإن المصلوب يموت عادة من يوم إلى ثلاثة
أيام؛ ولذلك تعجب بيلاطس من هذه السرعة (مر 15: 44) وقال بسبب
ذلك أوريجانوس وغيره من آباء الكنيسة القدماء: إن موته كان من خوارق
العادات؛ وأيضا فإنه لم تسمر إلا يديه فقط وربطت رجلاه؛ ولذلك لم يذكر
يوحنا إلا أثر المسامير في يديه ولم يذكر رجليه (يو20: 20 و25 و27)
ولم يُرِهما المسيح لتلاميذه بحسب هذا الإنجيل. وأما عبارة لوقا (24: 39
و40) فإنها تحتمل أن المراد بها أنه أراهم يديه ورجليه ليجسوهما؛ ليعلموا
أنه جسم حقيقي له لحم وعظم، كما قال؛ ليقنعهم أنه ليس روحًا، وإنما أراهم
يديه ورجليه دون سائر جسمه؛ لأنه يسهل كشفهما دون باقي الأعضاء
الأخرى، على أن هذه القصة قد ردَّها علماء النقد المحققون (راجع كتاب دين
الخوارق في الإنكليزية صفحة 837 و838) .
هذا ولم يكن ربط رجلي المصلوب عند الرومانيين وغيرهم بأقل من
تسميرهما، إن لم نقل: إنه كان الغالب في الصلب، وفوق ذلك فإن عظامه لم
تكسر كما قال يوحنا (19: 36) وأما طعنه بالحربة فلم تذكرها الأناجيل
الأخرى، وقصتها مشكوك فيها كما بيَّنا، وإذا صحت فيجوز أن الحربة لم
تنفذ إلى داخل الجسم، وتكون فقط قد قطعت الجلد والشحم وبعض العضلات
على أن الفعل اليوناني المترجم في الإنجيل بطعن (يو 19: 34) لا يفيد أن
الجرح كان غائرًا كما يقول علماء هذه اللغة. ثم إن هذه الحادثة تدل على
الحياة أكثر من دلالتها على الموت، فإنه لو كان المصلوب ميتًا لَمَا سال منه
دم، فسيلان الدم منه هو أحد الدلائل على أنه كان حيًّا، فبعد أن سال منه جزء
من الدم بطل النزف كالمعتاد.
والظاهر أن هذه القصة اخترعت قديمًا لإثبات الموت؛ لجهلهم بعلم الطب
إذ ذاك. فلهذه الأسباب كلها قال العلماء: إن المصلوب لم يمت حقيقة وإنما
أغمى عليه إغماء شديدًا كما حصل لبولس بعد أن رجم (أع 14: 19 و20)
فلما أنزل عن الصليب ودفئ بالكفن والكتان (مت27: 59) واستراح في
القبر وانتعشت روحه بالأطياب الكثيرة التي وضعها له نيقوديموس (يو 19:
40) أمكنه أن يقوم ويخرج من القبر، والذي أزال الحجر عن هذا القبر هي
الزلزلة التي ذكرت سابقا؛ أو أن مسألة الحجر هذه مخترعة؛ لأن العادة
كانت أن لا يوضع هذا الحجر إلا بعد مضي ثلاثة أيام (راجع كتاب دين
الخوارق ص 832) .
فلما قام المصلوب ومشى قليلاً سقط ميتًا بسبب ما تحمَّله من العذاب
وانهماك قواه، والجوع والعطش مدة طويلة وآلام الجروح والتهابها أو تعفنها
وربما ساعد على ذلك وجود بعض أمراض في أحشائه لم تعلم أو أنه أصابه
ذهول فألقى بنفسه من مكان عالٍ أو زلت قدمه فهوى، إلى غير ذلك من
الأسباب المحتملة المتنوعة التي تسبب الوفاة في مثل هذه الحالة، ولم يعلم
المكان الذي مات فيه؛ فإن القبر كان خارج مدينة أورشليم في بعض جبالها،
وبسبب عدم وجود الجثة في القبر نشأت هذه القصص المختلفة عن القيامة.
هذا شيء مما يقال في هذه المسألة، وهو قليل من كثير مما يقوله علماء
أوربا الآن في الدين المسيحي حتى إنه ليخيل للإنسان أنه لا يمضي زمن
طويل حتى تخرج أوربا كلها عن النصرانية، وليس ذلك بعجيب عند من يعلم
أن أكبر العلماء والمفكرين هناك قد خرجوا الآن فعلاً عن هذا الدين ونبذوه
وراءهم ظهريًّا، وألفوا المجلدات الضخمة في إثبات بطلانه وفساد عقائده كلها
كما يقولون.
ولا أدري لماذا يفتخر المبشرون بأوروبا وعلمها بين المسلمين مع أنه قل أن يوجد
بين الإفرنج عالم مستقل الفهم والعقل يعتقد بشيء من عقائد النصرانية، فالأولى
بجماعة المبشرين بدل نشر دينهم خارج أوربا أن يحصنوه في داخلها ضد
غارات هؤلاء العلماء المحققين، وإلا خرجت أوربا كلها عن المسيحية يومًا ما،
وحينئذ لا يُجديهم افتخارهم بها وبعلمها ومدنيتها نفعًا.
هذا وإذا وجد في بعض كتابات مؤرخي الوثنيين الأقدمين أن المسيح
صلب كما في تاريخ تاسيتوس (Tacitus) المؤلَّف نحو سنة 117
ميلادية، فلا يعتد بقوله لوجوه:
(1)
أن يكون تاسيتوس أخذ ذلك من الإشاعات الحاصلة في ذلك الوقت
وجمهورها يؤيذ ذلك كما قلنا، ولو لاحظنا احتقار تاسيتوس للنصارى في ذلك
الوقت لما استغربنا منه هذا القول الذي صدر منه بدون تحقيق ولا تمحيص
لعدم عنايته بهم، فهو كأقوال نصارى أوربا في القرون الوسطى في محمد
صلى الله عليه وسلم ودينه، فقد كانت كلها مبنية على الإشاعات الكاذبة
والاختلاقات.
ومما يدل على صحة قولنا في تاسيتوس هذا وغيره من مؤرخي الوثنيين
أنهم كانوا يأخذون بالإشاعات والأكاذيب المنتشرة حولهم ويحشرونها في
تواريخهم بدون تحرٍّ ولا بحث - أنه دَوَّنَ في تاريخ اليهود خرافات عديدة
مضحكة ظنها حقائق ثابتة، كما قالت دائرة المعارف الإنكليزية (مجلد 13
صفحة 658) والحق يقال: إن الرومانيين لم يهتموا بالمسيح أدنى اهتمام؛
لأنه لم يفُه ببنت شفة يفهم منها أنه يريد الخروج عليهم، وكانت كل أعماله
قاصرة على إصلاح حال أمته دينيًّا وأدبيًّا ولم يتبعه إلا بعض فقراء اليهود
وأصاغرهم؛ فلذلك لم يلتفت إليه أحد من غير اليهود؛ فحادثة الصلب كانت
من المسائل المحلية الداخلية لهم لم يهتم بها أحد من حكام الرومان خارج
أورشليم؛ ولذلك صدر أمر بيلاطس فيها بدون استئذان رومية كما يفهم من
جميع الأناجيل [1] .
والراجح عند العلماء أن بيلاطس لم يبلغها رسميًّا للإمبراطور طيباريوس
في رومية (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص23) لأنها كانت من المسائل
الصغيرة القاصرة على اليهود، وكانوا غير خاضعين لشرائع الرومان في
مسائلهم الدينية.
فغاية الأمر أن عيسى وهو أحدهم حكم عليه مجمع السنهدريم اليهودي
بالموت، وهو لم يكن رومانيًّا حتى تهتم به الرومان، وكان لا بد لهذا المجمع
أن يحصل على تصديق الحاكم الروماني في بلادهم لكي يقدر على تنفيذ ما
حكم به رسميًّا، نعم وكان الرومان على الحياد بالنسبة لمسائل اليهود الدينية
الداخلية إلا أنه كان لا بد من تصديقهم على مثل هذه العقوبات التي يريد اليهود
تنفيذها في شئونهم الدينية شأن الأمم الغالبة مع الأمم المغلوبة كما هو مشاهد
في هذا العصر (راجع كتاب رينان في حياة المسيح ص 134) .
فلم يكن ثَمَّ باعث لاهتمام الرومانيين بهذه المسألة حتى لو بلغ الحكومة
خبرها رسميًّا بعد وقوعها؛ ولذلك كان مؤرخوهم يجهلون تاريخ المسيح ولم
يذكره إلا قليل منهم عرضًا في كتبهم، والغالب أن أهل رومة لم يسمعوا به إلا
بعد أن دخلت النصرانية إيطاليا وكانوا يحتقرون النصارى احتقارًا شديدًا ولا
يهتمون بهم ولا يعرفون الفرق بينهم وبين اليهود ولا شيئًا من أخبارهم
الصحيحة؛ ولذلك يقول تاسيتوس: إن لليهود والنصارى إلهًا له رأس حمار،
ويقول سويتونيوس المؤرخ الروماني (Suetonius) في أوائل القرن
الثاني: إن اليهود (يريد النصارى) طردَهم كلوديوس من رومة؛ لأنهم
كانوا يحدثون شغبًا وقلاقل فيها، يحرضهم عليها دائما السامي أو الحسن
(chrestus) يريد المسيح. اهـ.
وكان يظن أيضًا أن المسيح عليه السلام كان مقيمًا في رومية في ذلك
الزمن، فإذا كان هؤلاء المؤرخون إلى أوائل القرن الثاني لم يعلموا إن كان
المسيح وجد في رومية أو لم يوجد ولا حقيقة عقيدة أهل الكتاب في الله، فكيف
يعول النصارى على شهادتهم؟
فقيمة هذه التواريخ الوثنية عن مؤسس النصرانية عليه السلام هي كقيمة
كتابات بعض مؤلفي الإفرنج في القرون الوسطى الذين كانوا يكتبون عن
المسلمين أنهم يعبدون (ماهوم) أو غير ذلك من الأسماء، وأن له صنمًا
عندهم من ذهب في مكة أو أورشليم. ومنهم من زعم أنه رأى هذا الصنم
بعينيه إلخ ما نشر من خرافاتهم وهذياناتهم؛ فكذلك كانت كتابة الوثنيين عن
المسيح والمسيحيين.
فهي لا قيمة لها، ولا يجوز أن يعتبر شيء منها تاريخًا صحيحًا، فإنها
كلها مبنية على الإشاعات والاختلاقات والأوهام والأكاذيب بدون أن يكلفوا
أنفسهم أقل عناء في معرفة الحقيقة. ولم يكن للنصارى إذ ذاك شأن عندهم
حتى يلتفتوا للبحث في تاريخهم؛ ولذلك جهلوا حتى اسمهم واسم رئيسهم
يسوع [2] عليه السلام؛ فإذا قالوا: إنه صلب، أو: عبده جميع النصارى من
دون الله أو غير ذلك؛ فهي أقوال لا يهتم به أحد من المسلمين؛ فإنها صادرة
عن قوم لا يفهمون من أمر النصارى شيئًا، وربما قاسوا بعض معتقداتهم
على معتقدات أنفسهم، ونظروا إليها بهذا المنظار وفهموها خطأ؛ فظنوا أنها
إما خرافات وخزعبلات كما قالوا في كتبهم عنها؛ أو أنها تحوير لعبادتهم
للآلهة الرومانية قام به المتنصرون منهم، أي أنهم ألَّهوا رئيسهم وعبدوه بدل
تلك الآلهة الرومانية [3] وما كانوا ليفهموا من النصرانية أكثر من هذا أو نحوه
كما كان يظن الأوروبيون أن المسلمين يعبدون محمدًا عليه السلام وجهلوا
اسمه كما جهل الرومان اسم يسوع، وجعلوا له ثلاثة آلهة أو ثالوثًا قياسًا
على ثالوثهم [4] .
والخلاصة أن أمثال هذه التواريخ المبنية على مثل هذه الأوهام والجهل
لا تفيد النصارى شيئًا؛ وهي لا قيمة لها بالمرة فلا يصح الاحتجاج بها على
المسلمين؛ هذا إذا كانت خالية من التحريف، فكيف وما خلت منه كما في
الوجه الآتي:
(2)
إن هذه العبارة المذكورة في تاريخ تاسيتوس قال فيها كبار العلماء
من المحققين في أوربا: إنها إما أن تكون مدسوسة عليه أو محرفة بالزيادة
(راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص 20 -56) وكتاب (ملخص تاريخ الدين)
لمؤلفه جولد (Gould) ص22 مجلد 3.
وقد بين هؤلاء العلماء دلائلهم على صحة دعواهم هذه، ولكن يطول بنا
إيرادها في مثل هذه المقالة، والحق أن المؤلفات التي وصلتنا من طريق
النصارى لا يوثق بها؛ لكثرة تعودهم على تحريف جميع ما نقلوه من الكتب
التي وصلت إلى أيديهم سواء كانت دينية أو تاريخية أو غير ذلك، كما يعترف
بذلك علماء النقد منهم الآن، فكم من عبارة أظهروا تحريفها أو دسها! وكم
من كتب أظهروا وضعها واختلاقها ونسبتها إلى غير كاتبيها حتى لم يسلم من
عملهم هذا الكتب التي توجد عند غيرهم من الأمم كتاريخ يوسيفوس الموجود
عند اليهود أيضا؛ وقد بينا ذلك في كتاب دين الله (ص79 و80 منه) فمنذ
القرن الرابع حينما صارت دولة الرمان إليهم تصرفوا في كتبهم وفيما وصلهم
من كتب غيرهم بما شاءوا وشاءت أهواؤهم؛ ولم يخشوا حسيبًا ولا رقيبًا.
وقد بيَّن العلامة أندريس (Andresen) أن أصل عبارة تاسيتوس
هذه في أقدم النسخ المخطوطة باليد مغاير للموجود في النسخ المتأخرة
في كلمة (Chrestianos) التي حرفوها إلى (Christianos)
والفرق بين الكلمتين عظيم، فإن الأولى بمعنى الطيبين والثانية بمعنى
المسيحيين وكانت الكلمة الأولى (Chrestianos) تطلق على عُباد الإله
المصري (Chrestus) المسمى أيضًا (Osiris) وكان عُبَّاده في
رومية إذ ذاك كثيرين من عامة الرومان ومن مهاجري المصريين، وهم
الذين كان يمقتهم الرومانيون الآخرون، واضطهدوهم كثيرا لأسباب دينية
وسياسية؛ ولشدة كرههم لأولئك المصريين واحتقارهم لهم لم يمكنهم أن
يميزوا بينهم وبين اليهود المصريين المهاجرين إليهم من الإسكندرية وغيرهم،
واعتبروهم كلهم سواء في الجنس والدين، فلما احترقت رومية نسبوا الحريق
إليهم فحل بهم ما حل من اضطهاد نيرون قيصر الرومان (Nero) كما
فصله تاسيتوس في تاريخه.
فالظاهر أن بعض النصارى ظن أن تاسيتوس يريد بقوله (Chrestianos)
المسيحيين أي (Christianos) فأضاف إلى تاريخه هذه العبارة للتفسير، أي:
هذا الاسم: أي (Chrestianos) منسموب إلى المسيح (Christ)
الذي صلب بأمر الوالي بيلاطس في عهد الإمبراطور طيباريوس
(Tiberius) مع أنه نسبة إلى (Chrestus) إله المصريين
ولما لاحظ النصارى هذا الخطأ حرفوا اللفظ الوارد في كتابة تاسيتوس
من (Chrestianos) إلى (Christianos) لتصح النسبة إلى
المسيح (Christ) ولذلك اختلفت النسخ الحديثة عن النسخ القديمة في هذا
اللفظ، كما حقَّقه أندريس على ما سبق، وعليه فتاسيتوس لم يذكر
المسيح في كتابه مطلقًا، و (Chrestus) المذكور هنا هو اسم آخر
لأوزيريس كما تقدم؛ وكان يطلق أيضا على رئيس كهنة هذا المعبود بل وعلى
بعض موالي الرومانيين، وهذا يفهمنا
المعنى الحقيقي لقول سوتيونيوس (Suetonius) السابق: إن اليهود
طردهم كلوديوس (Claudius) من رومية بسبب ما يحدثونه من الفتن
بتحريض الحسن أو السامي (Chrestus) وهو على هذا أحد رؤساء الكهنة
أو شخص آخر سمي بهذا الاسم.
وهو تفسير معقول، ولولاه لكان سويتونيوس لا يعرف الفرق بين اليهود
والنصارى، ويزعم أن المسيح وجد في رومية وهو خطأ يبعد جدًّا أن يقع فيه
مؤرخ مثله. فالحق أنه لم يذكر عيسى عليه السلام كما لم يذكره تاستيتوس
على ما بينا، ولولا تحريف النصارى لكتبهما لفظًا ومعنى لَما فهم منهما غير
ما قررناه ولَما توهم أحد وقوع سويتونيوس في هذا الخطأ الفظيع والجهل
الفاضح الذي ينسبونه إليه.
ولما انتشرت المسيحية في رومة بقي الرومان مدة لا يفرقون بين كلمة
(Chrestians) و (Christians) وكلمة (Chrestus) و
(Christus) وظنوا أن المسيح هو معبود المصريين (Osiris)
القديم. فحصل بسبب ذلك هذا الخلط والخبط حتى توهم أيضا يوستينوس
(Justin) الشهيد النصراني الشهير المتوفى في القرن الثاني أن
هناك علاقة بين اسم المسيحيين (Christians) وكلمة (Creston) أي
حسن أو طيب كما في كتاب جولد المذكور (ص19 من المجلد 3) .
(3)
إذا سلم أن تاسيتوس أخذ خبر الصلب من مصدر رسمي في
رومية كما يدَّعون فنحن لا نقول: إن بيلاطس ورؤساء اليهود كانوا يعرفون
الحقيقة بل نقول: إنهم كانوا مخدوعين، بل ربما كان العسكر الذين قبضوا
على يهوذا بعد فرار المسيح أيضا مخدوعين؛ إذ يجوز أنهم أخذوه إلى السجن
لا لمجرد تخليص أنفسهم من العقاب باتهامهم أي شخص كان؛ بل لاعتقادهم
أنه هو عيسى وساعدهم على هذا الظن شدة شبه يهوذا به وجهلهم بطرق
تحقيق الشخصية (وهو العلم الذي تُوسع فيه الآن) وكذا عدم شدة مقاومة
يهوذا لهم لتصميمه على قتل نفسه من قبل القبض عليه كما بينا، فإذا قال لهم
مرة أو مرتين حينما قبضوا عليه: إنه ليس هو عيسى، ظنوا أنه كاذب، وأنه
يريد الفرار منهم مرة أخرى، فلم يلتفتوا إلى قوله.
ومما ساعد على جهل الناس حقيقة المصلوب حتى انخدعوا أن هيردوس
غيَّر ملابس المسيح وألبسه لباسًا أبيض لامعًا استهزاء به (لو 23: 10)
ورده إلى بيلاطس، فوضع بيلاطس أيضًا إكليلاً من شوك فوق رأسه وألبسه
ثوب أرجوان، وخرج به هكذا، وحاكمه أمام اليهود (يو 19: 2-16) ولما
حكم عليه بالصلب أخذه العسكر إلى داخل دار الولاية، وألبسوه رداء قرمزيًّا
ووضعوا إكليلاً من شوك على رأسه (مت 27: 28 و29) وكل هذه
المظاهر المختلفة تغير هيئته أمام من رآه خصوصًا من لم يعرفوه معرفة جيدة
وتساعد على الوقوع في الخطأ.
وفي وقت الصلب جردوا المصلوب عن ثيابه كلها وبقي عريانًا ولا يخفى
أن من لم يتعود رؤية شخص وهو عريان لا يسهل عليه معرفته بعد تجريده
من ملابسه. (انظر مر15: 24 -27 ومتى 27: 35 و36) .
وكيف يعجبون من قولنا: إن النساء اللاتي كن واقفات بعيدًا عنه وقت
الصلب لم تعرف الحقيقة، ولا اللذين دفناه، وهما ما كانا يعرفانه حق المعرفة
كما بينا كيف يعجبون من ذلك ولا يعجبون من أن مريم المجدلية التي كانت
تعرفه حق المعرفة ومختلطة به أتم الاختلاط، لم تعرفه وقت القيامة مع أنها
كانت واقفة بالقرب منه وكان يكلمها (يو 20: 15) وكذلك بعض التلاميذ
الآخرين ما عرفوه مع أنه كان يمشي معهم ويحادثهم ويأكل معهم (لو 24:
13 -
34) .
وكان الشك فيه ملازمًا لهم كلما رأوه (مت 28: 17، ولو 24: 37 -42
ويو20: 27) .
ولماذا تغير شكله؟ وما هو السبب في ذلك؟ ولماذا لم يَبقَ على صورته
الأصلية حتى يقنع تلاميذه بدل الشك فيه مرارًا؟ . أما يكفي أنه لم يره أحد غير
تلاميذه؟ فهل بعد ذلك يشككهم مرارًا في نفسه بسبب تغير هيئته (مر 16: 12)
؟ ثم يحاول إقناعهم بصعوبة زائدة حتى بقي بعضهم شاكًّا في الجليل بعد أن رأوه
في أورشليم. انظر (متى 28: 17) .
ولا تنس أن القبض على المسيح ومحاكمته أمام مجمع اليهود ورؤسائهم
كانا ليلاً، ولا يخفى على أحد مبلغ طرق الإضاءة في تلك البلاد وتلك الأزمنة
وكان ذلك أكبر وقت قضاه المسيح أمام أولئك الرؤساء. أما محاكمته في
النهار فكان وقتها قليلاً جدًّا، وكان يختلي به بيلاطس فيها مرات (انظر يوحنا
18: 33 - 19: 16) فضاع بذلك أكثر هذا الوقت القصير أيضًا، وكان
المسيح كلما خرج أمام اليهود في وقت هذه المحاكمة، لابسًا ملابس السخرية
والاستهزاء (يو19: 5) كما بيَّنا وهي طبعًا غير ملابسه العادية ولا بد أنها
تغير شكله، وعليه فكل هذه الظروف تساعد على وقوع الخطأ والاشتباه.
ومما يؤيد قولنا بهروب المسيح من السجن، ويقرب ذلك من عقول
النصارى: ما جاء في إنجيل يوحنا وهو يدل على قدرته على الاختفاء والإفلات
من أيدي الناس بطرق عجيبة جدًّا خارقة للعادة، قال 8: 59 (فرفعوا
حجارة ليرجموه، أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم
ومضى هكذا. أي: بدون أن يروه، وقال 10: 39 (فطلبوا أن يمسكوه
فخرج من أيديهم) فلِمَ لا يجوز أن يكون خرج من أيدي الحراس كما كان
يخرج من أيدي اليهود على ما قال الإنجيل ولم يره أحد؟ (راجع أيضا لوقا
4: 29 و30) .
ومن الجائز أنهم لما لم يجدوه وخرج من أيديهم واختفى بهذه الكيفية التي
ذكرتها الأناجيل وتحققوا من عدم وجوده بالمدينة، خاف الحراس من العقاب
وارتبكوا وخاف اليهود أن يؤمن به كثير من الناس فأخذوا عمدًا واحدًا غيره
من المسجونين يشبهه أو لا يشبهه باتفاقهم مع العسكر، وربما رشوهم بمال
كثير حتى لا يبوحوا لأحد بالسر مطلقًا (انظر مت 28: 12) وصلبوا هذا
الرجل خارج المدينة، وأفهموا الناس أنهم صلبوا المسيح، وكان المسيح في ذلك
الوقت قد ذهب إلى الجليل أو غيره هربًا منهم وخوفًا (انظر يو 7) ومن هناك
رُفع إلى السماء فلم يعثر عليه أحد كما رُفع أخنوخ (تك 5: 24) وإيليا (2
مل 2: 11: 17) وقد منع اليهود الناس من الاقتراب من المصلوب؛ لئلا
يعرفوا الحقيقة، وأيضا كان من رأيهم أن هلاك واحد من الشعب خير من
هلاك الأمة كلها على حسب زعمهم (يو 11: 50) فلا يبعد أن واحدًا من
رؤساء الكهنة قدم نفسه لذلك العمل كما يفعل بعض الناس للآن في زمن
الحروب وغيرها.
ويحتمل أيضا أن هذا الذي أخذوه كان أحد المحكوم عليهم بالإعدام
كباراباس (لو 23: 19) الذي قال علماؤهم: إنه كان يسمى يسوع أيضًا في
أقدم تراجم المسيح، فحذف النصارى هذا الاسم منها (راجع دائرة المعارف
الإنكليزية مجلد 13 صفحة 656) ونظرًا لأن هذا الرجل كان محكومًا عليه
بالإعدام على ما يظهر، وكان اسمه يسوع، فلما صلبوه ظن أنه صلب لأجل
ما حدث منه من القتل والفتنة، وكلما نادوه باسمه لم يخطر على باله أنهم
أقاموه مقام يسوع المسيح الذي ظنه الناس أنه هو المصلوب، وبذلك تحقق
قول المسيح لليهود (يو 7: 33) (أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد ثم أمضي إلى
الذي أرسلني 34 ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن
تأتوا) .
واستجاب الله دعاءه برفع كأس الموت عنه (مر 14: 35 - 42) وإلا
فكيف يعقل أن الله يرد دعاء مثله؟ (راجع أيضًا يوحنا 16: 32 و33) .
وعلى هذا الوجه يكون الذين كتبوا الأناجيل أناسًا لم يعرفوا حقيقة المسألة
فكتبوها كما شاع في ذلك الوقت واشتهر عند أكثر الناس.
وبعد الصلب جاء يوسف ونيقوديموس وهما يهوديان من أعضاء مجلس
السنهدريم وأخذا الجثة بأمر رؤساء الكهنة وأخفياها عن أعين أتباع المسيح
خوفًا من أن يعرفوا الحقيقة، فتظاهرا بأنهما من أتباع المسيح في السر (يو 19:
38 و39) ليمنعاهم من دفنه بأنفسهم وأخذا الجثة ووضعاها أولا في قبر
ولما ذهب كل من كان واقفًا من الناس نقلاها إلى موضع آخر لم يعلمه أحد.
ولما شاعت إشاعة القيامة واعتقدها بعض الناس كانت أولاً قاصرة على
التلاميذ كما سبق، ولم يجاهروا بها أمام اليهود خوفًا منهم (يو 20: 19 و 26)
وبعد نحو خمسين يومًا كما في سفر الأعمال (2: 1 و14) بدءوا يخبرون
اليهود باعتقادهم هذا. ولكن في ذلك الوقت كانت جثة المصلوب قد تغيرت جميع
معالمها بسبب التعفن الرمي، ولا يمكن لليهود أن يحضروها بعد إخفائهم لها، وإذا
أحضروها فلا يقتنع بها أحد ولا يمكن أن يعرفها، فكان من العبث أن يحاول أحد
إقناعهم بذلك [5] .
ولذلك سكت رؤساء اليهود عن مثل هذه الحجة التي تظهرهم بمظهر
العاجز المتحير، وظنوا أن أحسن طريقة لإسكات النصارى هي استعمال
القسوة والاضطهاد لا مثل هذه المناقشة التي لا طائل تحتها. وربما أشاع
بعض عامة اليهود في ذلك الوقت فكرة سرقة تلاميذ المسيح الجثة من القبر
لأنهم لم يعرفوا الحقيقة، ولا يبعد أن بيلاطس نفسه دخلت عليه الغفلة من
رؤساء الكهنة والعسكر ولم يعرف هو أيضا الحقيقة، فإنه كان يحب المسيح
كثيرًا هو وامرأته (متى 27: 19 و24) فكان هؤلاء الرؤساء يخافون أن
يؤمن به وخصوصًا إذا تحقق أن المسيح أفلت من أيديهم واجتاز في وسطهم
بدون أن يروه كما يقول الإنجيل بعد أن كان بيلاطس يسعى في خلاصه منهم
بنفسه فلم يقدر (مت 27: 17 - 25) .
ولنا أن نسترسل في هذا الوجه ونقول كما قال متى: إن المسيح بعد ذلك
عاد إلى بعض تلاميذه لما ذهبوا إلى الجليل وأخبرهم بحقيقة المسألة، فبعضهم
صدق كلامه وأنه هو، وبقي البعض الآخر شاكًّا (مت 28: 17) متمسكًا
بما ذهب إليه أولاً من حصول الصلب له والقيامة من القبر.
أما الذين صدقوا فمن شدة حيرتهم ودهشتهم لم يفهموا منه جميع تفاصيل
القصة كما لم يفهموا كلامه في أثناء حياته عن موته وقيامته على ما سبق بيانه
مع أنهم لم يكونوا إذ ذاك في حالة من الحيرة والدهشة كهذه، ولذلك فاتهم
بعض أشياء من هذه القصة فاختلفوا في تصويرها للناس، ومن ذلك نشأت
فرق النصارى القديمة التي أنكرت الصلب، وقالت: إن المصلوب واحد آخر
غير المسيح لم يتفقوا على تعيينه، وقال بعضهم: إنه سمعان القيرواني الذي
تقول الأناجيل: إنه حمل الصليب (مت 27:32) وذلك مثل طائفة
الباسيليديين (BASILIDIANS) كما ذكره جورج سيل الإنكليزي
في ترجمته للقرآن الشريف في سورة آل عمران صفحة 38.
فإن قيل: ولماذا لم يُظهر المسيح نفسه لليهود حينئذ ويُكذبهم في قولهم
بصلبه؟ قلت: لعله خاف منهم (يو 7: 1 و10 و11: 54 و12: 36) على
أن هذا السؤال وارد على النصارى بالأولى، بأن يقال: لماذا لم يُظهر نفسه
كما وعد المنكرين له بعد قيامته؛ حتى يؤمنوا به، وحتى لا يشك فيه نفس
تلاميذه؟ فما يقولونه في الجواب عن ذلك هو عين جوابنا نحن أيضًا.
هذا وإذا لم يثبت أن المسيح عاد للتلاميذ وأخبرهم بالحقيقة فلا غرابة في
ذلك؛ لأنه كان قد لمَّح لهم بها من قبل حادثة الصلب؛ فقال لهم (يو 16:
32) (هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته
وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي 33 قد كلمتكم بهذا ليكون
لكم فيَّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم) وقال
أيضًا (يو 13: 33) : ستطلبونني، وكما قلت لليهود (ص 7: 34) حيث
أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقل لكم أنتم الآن. ولكن الناس قد نسوا ذلك
أو شكوا فيه أو لم يفهموه كما لم يفهموا كثيرًا ومن كلامه الآخر (يو 21: 22
و23 و2: 19 - 22) ولو18: 34) إلخ.
وكيف يتفق قوله: إن الآب معي، مع قول المصلوب: مت 27: 46:
إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فالحق أن الله ما تركه بل رفعه إليه ونجاه من أيدي
اليهود. (راجع أيضا كتاب دين الله ص 100 - 103) وربما أنه بعد
فراره منهم ذهب إلى الهند كما كان يهرب من أورشليم مرارًا خوفًا من اليهود
(انظر مثلاً يو 10: 39 - 42 و11: 53 - 57) وقد بيَّن ذلك الأستاذ صاحب
المنار في تفسيره، واستدل على ذلك بروايات الهنود؛ وبوجود قبر لشخص جاءهم
منذ التاريخ المسيحيى واسمه يوزاسف، وهو يقرب من اسم المسيح يسوع، تعريب
ييزس (Iesous) اليوناني، ومنه ييسس الإنكليزي (Jesus) إلخ، ويقال
هناك: إن اسمه الأصلي: عيسى صاحب.
وعليه يكون المسيح مات هناك بعد أن عاش مدة قليلة في راحة وهناء
ودفن ولم يرفع بجسمه إلى السماء حيًّا كما يقول كثير من المسلمين والنصارى
الآن، ويكون المراد بالرفع في القرآن الرفع المعنوى أو الروحاني. وربما أنه
هناك لم يؤمن به أحد أو آمن به قليلون انقرضوا واندمجوا في باقي أهل الهند
وتلاشت عقائدهم في عقائد أولئك.
ومما يؤيد القول بعدم إيمان أحد به أنه لم يرسل إلا إلى بني إسرائيل ولم
يدعُ أحدًا إلى دينه سواهم (مت 10: 5 و6 و15: 24) وإلى هذه الهجرة
الهندية قد أشار القرآن الشريف كما قال الأستاذ السيد صاحب المنار بقوله:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (المؤمنون:
50) فأمه هاجرت معه؛ ولذلك لم يقف النصارى على شيء يعتد به من
تاريخها بعد حادثة الصلب باليقين.
ومما يزيدك وقوفًا على اضطراب الأناجيل وخطأها في هذه المسألة
وغيرها أكثر مما تقدم أن إنجيل يوحنا (وهو متأخر عنها فلذا نمت فيها العقائد
أكثر) يقول: إن يحيى بن زكريا كان يعتقد أن عيسى هو حمل الله الذي
يرفع الخطية عن العالم (يو 1: 29 -35) مع أن الأناجيل الأخرى قالت:
إنه وهو في السجن في آخر حياته لما سمع من تلاميذه عن أعمال المسيح
أرسل إليه اثنين منهم يسألانه: هل هو المسيح المنتظر أم ينتظر غيره؟ (راجع لوقا
7: 18 - 23 ومتى 11: 2 - 6) ولا أدري كيف يتفق هذا مع اختراعات
إنجيل يوحنا فانظر وتعجب.
ومن خطأ الأناجيل قول متى (23: 23) إن الكتبة والفريسيين كانوا
يدفعون العشر عن النعنع والشبث والكمون، مع أن مثل هذه الأشياء ما كان
يدفع عنها شيء (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص 238) وقال هذا
الإنجيل أيضًا عن المسيح إنه قال إن اليهود قتلوا زكريا بن برخيا بين الهيكل
والمذبح (مت 23: 35) مع أن الذي قتلوه هو زكريا بن يهويا داع كما في
سفر أخبار الأيام الثاني (24: 20 و21) وأما ابن برخيا أو باروخ، فهذا
قتل بعد المسيح حينما حاصر الرومانيون أورشليم كما ذكره يوسيفوس في
كتابه (تاريخ حرب اليهود) وهذا مما يدل على خبط الأناجيل وخلطها في
حوادث تاريخ المسيح، فكيف يطمئن الإنسان إلى روايتها أو يثق بشيء منها مع
امتلائها بالغلط والتناقض الذي بيناه مرارًا؟.
وسنكتب إن شاء الله قريبًا شيئًا عن تاريخ هذه الأناجيل وعن بولس
مؤسس المسيحية الحالية الحقيقي.
فإن قيل: ألا ترى أن وقوع الصلب بهذه الكيفية التي شرحتها يشكك الناس
في صدق عيسى أنه هو المسيح المنتظر، فإنهم كانوا يتوهمون أنه يُردّ المُلك
إلى إسرائيل (أع 1: 6) ؟ قلت: إذا كان الاعتقاد بصلبه لم يشككهم جميعًا
في ألوهيته فكيف إذاً يشككهم في صحة مسيحيته؟ وأي ضرر إذا شككهم
في أوهامهم التي كانوا بالغوا فيها بشأن مسيحهم الذي كانوا ينتظرونه؟
وهل نسيت أن باب التأويل عند الناس في مثل هذه المسائل واسع، فإنهم يرجعون
إلى أوهامهم فيحورونها وإلى نبواتهم فيؤلونها؟ ولذلك تراهم أولوا صلبه بأن
ذلك إنما فعله بإرادته رغبة منه في خلاص البشر، مع أن المسيح كان يلح في
طلب النجاة من الله (متى 26: 38 - 44 ولو 22: 41 - 45) وقالت
أناجيلهم أنه قال: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ وهو يدل على اليأس والقنوط من
استجابة دعائه (راجع أيضا مزمور 22 خصوصًا عدد 14 و15 منه)
وأولوا فقدان جثة المصلوب بأنه قام من الموت. وأولوا ملك المسيح الذي
كانوا ينتظرونه بأنه سيأتي قريبًا (رؤ22: 7 و10 و12 و20 ومت 16:
27 و28 و10: 23 ورؤيا 3: 11 ويع 5: 8 وبط 4: 7 ويو2: 18 وتسا
4: 15 - 17 وكو 10: 11 و15: 51 52 إلخ) ويرد الملك لهم ويحكم
في الأرض ألف سنة كما في سفر الرؤيا (20: 4 و7) وأن يوحنا لا يموت
حتى يجيء المسيح (يو 21: 22) فلما مات يوحنا ومضت القرون ولم
يجئ رجعوا إلى عبارته في يوحنا فوجدوها لا تفيد ما توهموه، وأولوا
جميع عباراته المزعومة وعبارات غيره الدالة على قرب مجيئه (حتى ما
في متى 24: 3 و29 - 41) وقالوا: إن ملكوته روحاني لا دنيوي إلخ إلخ.
وقد بين علماء الإفرنج في كثير من كتبهم أن اليهود لكثرة اختلاطهم
بالأمم الوثنية وتسلطها عليهم ورؤية اليهود ما لهم من عز ومجد ومدنية
ولطول زمن خضوعهم لهم يئس كثير من خواصهم أن يكون مسيحهم المنتظر
سلطانًا دنيويًّا مخلصًا لهم من تسلط هؤلاء الأمم الأجنبية القوية، وتأثروا بما
عندهم فاقتبسوا بعض أفكارهم الوثنية في آلهتهم التي قالوا: إنها نزلت بإرادتها
إلى الأرض لخلاص البشر بالخضوع للموت والصلب، وطبقوا هم أيضًا هذه
الأفكار على مسيحهم، فقالوا: إنه سيكون شخصًا إلهيًّا أو ابنًا لله تعالى
وسيرسله لتخليص الناس بالموت والصلب طائعًا مختارًا. كما قال الوثنيون في
آلهتهم، فإن ميل اليهود للوثنية متأصل فيهم من قديم الزمان ولذلك كثيرًا ما
عبدوا آلهة الأمم وكفروا مرارًا بربهم وكانت نساء أورشليم يبكين على تموز
إله البابليين الذي قتل لأجل خلاص البشر ثم قام من الموت أيضا (حز 8:
14) وهذا هو سبب ورود بعض ما يشبه هذه الأفكار الوثنية في بعض كتب
العهد القديم كما في إشعيا (53) وميخا (5: 2-9) فلما جاء عيسى اخترع له
مؤلفو العهد الجديد بعد زمنه من الحوادث والصفات والأقوال ما يجعلهم قادرين
على تطبيق أوهام اليهود القديمة عليه (راجع مثلا ع 8: 26 - 40) هذا إذا
صح أن ما في تلك الكتب هو حقيقة إشارة إلى المسيح وصلبه وقِدمه كما يزعمون،
على أن أكثر اليهود كان يرى فيها خلاف ذلك ويعتقد أن المسيح لا بد أن يكون
ظافرًا منصورًا لا مغلوبًا مقهورًا كما هو صريح أكثر النبوات الواردة في شأنه
في العهد القديم (راجع مثلاً ميخا إصحاح 5 وزكريا 9: 9 - 17 وملاخي 3:
1 -
6 و4: 5 وإشعيا 11: 1 - 6 وأيضا إصحاح 42 منه إذا صح زعمهم أنه
في المسيح هو وما في حجي 2: 6-9) ولذلك كانوا يعدون الصلب أكبر
عثرة في سبيل إيمانهم به كما قال بولس (1 كو 1: 23) ولكن الآخرين منهم
اعتقدوا فيه كما اعتقد بولس، وكان توهمهم صلبه مما يؤيد اعتقادهم أنه هو
المسيح المنتظر لا يزعزعه؛ فلذا كان وقوع حادثة الصلب بالكيفية التي
شرحناها أولاً مما يؤيد قول فريق منهم بصحة مسيحية عيسى ويناقض
قول الآخرين. ولو وقع عكس ذلك بأن نجا المسيح ولم يشتبهوا في غيره لاعتقد
كونه هو المسيح كثيرون وخالفهم أيضًا آخرون مما يعتقدون وجوب تألم المسيح؛
فلذا كان وقوع حادثة الصلب وعدمها على حد سواء بالنسبة لهذه المسألة. على
أن من الأوجه التي سبقت أن رؤساء اليهود صلبوا عمدًا واحدًا غيره حينما نجا منهم
فلم يكونوا مخدوعين بل كانوا هم الخادعين للناس، وبسبب غشهم هذا انقسم الناس
في أمر المسيح إلى طوائف عديدة يعرفها المطلعون على تاريخ الكنيسة
المسيحية، فمنهم من جوز الصلب والعذاب على المسيح كبولس وأتباعه ووافقهم
على ذلك تلمود اليهود أيضا في القرن الثاني، ومنهم من لم يجوزه وهم جمهور
اليهود الآخرين للآن، ومنهم من اعتقد أن المصلوب هو عيسى وأنه إنسان وإله
أو كاذب، ومنهم من قال: إن المصلوب شخص آخر، ومنهم من يرى أن نبوات
التألم والعذاب تمت أو ستتم في المسيح المنتظر، ومنهم من يرى أنها ليست في
حقه بالمرة بل في موضوعات أخرى، ولله في خلقه شئون.
هذا وقد أفاد وقوع الصلب بهذه الصورة التي شرحناها فوائد:
(1)
أن المسيح نجا من أذاهم.
(2)
أن يهوذا على الوجه الأول وقع في الحفرة التي حفرها للمسيح
عقابا له على خيانته.
(3)
عرف الناس خطأهم في الاعتقاد بأن المسيح لا يموت (يو 12:
34) وبأنه يكون حاكمًا دنيويًّا يرد الملك لإسرائيل، وأن الله لم يجعله فوق
نواميس الوجود كما كانوا يتوهمون (أفسس 1: 20 و21) .
(4)
عرف بعض طوائفهم قديمًا وحديثًا بأنه ليس إلهًا وإلا لما صُلب،
على زعمهم رغم أنفه، ولما دعا الله طلبًا للنجاة وَلَما يئس المصلوب من
رحمة الله، ولولا ذلك لكان اعتقاد ألوهيته عامًّا بين أتباعه جميعًا في كل
زمان ومكان، ولما قال جمهورهم: إن فيه جزءًا ناسوتيًّا حادثًا [5] ولأجمعوا
على اعتباره كله لاهوتًا محضًا؛ لقرب عهد الأمم بالوثنية وشدة ميلهم إليها في
زمانه. راجع ما يقرب من ذلك المعنى في إنجيل برنابا (220: 14 - 21) .
فإن قيل: ولماذا لم يرسل الله نبيًّا بعد موته مباشرة ليخبر الناس بحقيقة
المسألة حتى لا يذهبوا إلى ما ذهبوا إليه في أمر خلاص البشر بصلبه، قلت:
إن هذه العقيدة وحدها بدون دعوى الألوهية لا ضرر فيها كبيرًا سوى أنها
خطأ نظري عقلي، ولم يكن اعتقاد الصلب هو الحامل لهم على دعوى
الألوهية له في مبدأ الأمر بل لم تحملهم حادثة الصلب نفسها وضياع الجثة
على القول بأكثر من أنه قام من الموت كما يعتقد المسلمون قيام الذي مر على
القرية (قر 2: 259) وكانت الدعوة الأولى إلى المسيحية كما في كتبهم
قاصرة على أن عيسى هو إنسان وأنه هو المسيح المنتظر وأنه صلب ولكنه
قام من الموت وجعله الله ربًّا وسيدًا كما جعل موسى (خر 7: 1) رغمًا عن
صلب اليهود للميسح راجع خطاب بطرس لليهود في سفر الأعمال أع 2:
22 -
36) ولما جاء بولس نبههم أو اخترع لهم [6] حكمة للصلب وهي
تخليص البشر بعد أن فكر في ذلك مدة طويلة منها ثلاث سنين تقريبًا اعتزل
فيها الناس في بلاد العرب وفي آخرها ذهب إلى دمشق (غل 1: 17 و18)
وربما وافقه بعض التلاميذ على هذه الحكمة التي أرشدهم إليها، والظاهر أنهم
خالفوه في غيرها من أفكاره كقوله بعدم وجوب الختان وجواز أكل ما ذبح
للأوثان (راجع غل 5: 2 و1 كو 6 و8 ورومية 14 وكو 2: 16 ثم اقرأ
رؤيا 2: 2 و9 و14 و3: 6) ولذلك ذمه يوحنا بعد موته في رؤياه هذه،
وقد سمى بولس إنجيله (إنجيل الغرلة للأمم غير اليهودية) (غل 2: 7-
10) وإنجيل تلاميذ المسيح (بإنجيل الختان) وكانت دعوتهم قاصرة على
اليهود فقط كدعوة المسيح عليه السلام نفسه (راجع كتاب دين الخوارق
Supernatural Religion فصل 3-7 من الجزء الرابع) .
(2)
إن اختلاف البشر أمر طبيعي أراده الله ولا بد منه، ولو أرسل الله
رسولاً لبيان ذلك عقب المسيح مباشرة لآمن به بعض الناس، وكفر به
الآخرون ولما زال الخلاف من بينهم.
(3)
لما كثر الفساد في عقائد الأمم قاطبة وفي مذاهبهم وعم جميع
شؤونهم الدينية والدنيوية وكثر سفك الدماء وظلم الأبرياء وخصوصًا عند
النصارى - أرسل الله محمدًا على فترة من الرسل فبين لهم الحق من الباطل.
(4)
إن النصارى تقول: إن روح القدس نزل على تلاميذ المسيح بعده
وأرشدهم إلى الحق في كل شيء، فهل زال الخلاف من بين النصارى بسبب ذلك؟
لا إننا لا نرى أمة من الأمم اشتد اقتتالها واختلافها في كل جزئية من جزئيات الدين
والدنيا أكثر من النصارى، وخصوصًا بعد نزول هذا الروح المزعوم. فلهذا كله
اقتضت الحكمة الإلهية تأخير البيان حتى اشتدت حاجة الأمم كافة، واستعدت نفوس
البشر لقبول الإصلاح بعد أن عم الفساد الأرض، فجاء محمد على حين فترة من
الرسل كما قال القرآن الشريف (5: 19) بالإصلاح الذي ينشدونه وبيان الحق
الذي يتطلبونه؛ فلذا دخل الناس في دينه أفواجًا أفواجًا، وعم سلطانه الأرض في
وقت قصير لم يعهد له مثيل في تاريخ البشر، كما بينه الأستاذ الإمام في رسالة علم
التوحيد، وإلى الآن نرى الناس يقتربون من الإسلام شيئًا فشيئًا، حتى أوشك
حكماء أوروبا وعلماؤها أن يدخلوا فيه من حيث لا يشعرون؛ وسيكون - إن شاء
الله - هو دين الإنسانية العام في الأرض كما تدل عليه بوادر الأمور، ولا يهولنك
ضعف دوله الآن، فإن ذلك لا يعد شيئًا في جانب ما نراه من اقتراب جميع العقلاء
والمفكرين من عقائده اقترابًا كليًّا أو جزئيًّا حتى سادت العقائد الإسلامية على أذهان
كبار الناس اليوم في كل مكان (راجع ما تنشره جمعية العقليين (rationalists)
كالكتب التي تصدر من مطبعة Co Walts. شركة واطس بلندرة، ومن هذه
الكتب يتضح لك صدق قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
* * *
(استطراد لا بأس به)
بمناسبة ذكر جبل الزيتون كثيرًا في هذه المقالة نقول ما يأتي:
سمي هذا الجبل بذلك لكثرة ما كان به من شجر الزيتون، ولهذا الجبل
شهرة عظيمة في تاريخ المسيح يعرفها المطلعون على الأناجيل، والأرجح أنه
أول ما نزل عليه الوحي كان عليه السلام هناك (راجع مثلا لو 4: 1 و5 و 9)
لذلك أقسم الله تعالى به في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ *
وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ} (التين: 1-3) أما التين فهو شجرة بوذا مؤسس الديانة
البوذية التي تحرفت كثيرًا عن أصلها الحقيقي؛ لأن تعاليم بوذا لم تكتب في
زمانه، وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما
ارتقى أتباعها. والراجح عندنا بل المحقق - إذا صح تفسيرنا لهذه الآية - أنه
كان نبيًّا صادقًا ويسمى سكياموني أو جوتاما، وكان في أول أمره يأوي إلى
شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي وأرسله الله رسولاً فجاءه الشيطان
ليجربه هناك فلم ينجح معه كما حدث للمسيح في أول نبوته (راجع لو 4:
1 -
13) ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين تسمى عندهم التينة المقدسة،
وبلغتهم (أجابالا)(Ajapala) .
ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه
تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده:
{َلقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4) إلى آخر السورة، ولا يزال
أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عددًا وأرقاهم.
والترتيب في ذكرها في الآية هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها
الأولى فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية؛ لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان
تحريفًا عن أصلها كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير ثم يرتقي للتأكيد إلى
ما هو أعلى.
ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفًا، ثم اليهودية وهي أصح من
النصرانية ثم الإسلامية وهي أصحها جميعًا [7] ، وأبعدها عن التحريف
والتبديل بل إن أصولها (الكتاب والسنة العملية المتواترة) لم يقع فيها
تحريف مطلقًا.
ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك ذكر ديني الفضل (البوذية
والمسيحية) أولاً ثم ديني العدل (اليهودية والإسلام) ثانيًا للإشارة إلى
الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولاً ثم تربية الشدة والعدل، وكذلك
بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب، ولا يخفى على الباحثين التشابه
العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما، وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما
فلذا جُمع الأولان معًا والآخران كذلك.
وقدم البوذية على المسيحية؛ لقدم الأولى كما قدم الموسوية على
المحمدية لهذا السبب بعينه، ومن محاسن الآية أيضًا: الرمز والإشارة إلى ديني
الرحمة بالفاكهة والثمرة، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية: مكة،
وهي البلد الأمين، ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون
ينبتان كثيرًا في أودية الجبال كما في جبل الزيتون بالشام، وطور سيناء
وهما مشهوران بهما، فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي، وأكرم أماكن
التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة الذين بقيت شرائعهم للآن، وأرسلهم الله
لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم.
(استدراك)
نص كتاب صدق المسيحية The Truth Of Christianity في ص 560
على أن المسيحية انتشرت قديمًا في بلاد الهند، فلعل ذلك مما يساعد على
القول بالهجرة الهندية السابقة.
_________
(1)
جاء في كتاب حكايات من العهد الجديد لمؤلفه جولد الإنجليزي ص 126 أن رؤساء مدينة أورشليم لو كانوا اهتموا بأمر المسيح إذ ذاك، لأرسلوه إلى رومية أو لأنفذوا فيه العقوبة وحده اهـ فإذا كانوا عاملوه معاملة اللصوص وصلبوه بينهم فهل أبلغ بيلاطس اللصين أيضا إلى رومية؟ إذا كان ذلك فأين ما يؤيده من تواريخ الرومان القديمة التي ذكرت حادثة الصلب لتعيير النصارى وتحقيرهم كما يقولون؟ فأي تحقير أبلغ من ذكر صلب إلههم بين اللصوص إذا كانوا سمعوا به؟ وإن لم يكن بيلاطس بلغ خبر اللصين إلى رومية فلماذا إذًا أبلغ خبر المسيح إليها مع أنه بإجماع المؤرخين
لم ينظر إليه بأكثر مما ينظر به إلى آحاد اليهود وضعفائهم؟؛ إذ لم يأت المسيح بأقل شيء يمس الرومان ودولتهم مطلقا، فإن قيل: إذا كانت معجزات المسيح التي ذكرها القرآن حقيقية، فلماذا لم يذكرها مؤرخو اليهود والرومان فيما ثبت أنهم كتبوه من التاريخ؟ قلت: لأن جل هذه المعجزات وأعظمها كان يعملها عليه السلام بعيدًا من أورشليم في بعض القرى الصغيرة أو الخلوات بين تلاميذه وبعض عامة اليهود، وما كان يجيب أحدًا منهم عن طلبه حينما يقترحون عليه عمل المعجزات (راجع مثلاً يو 2: 18-20 و6: 30-40 ومر 8: 11 و12 ولو 22: 64) وغير ذلك، فلم يَرَ الرؤساء من اليهود والرومان آياته، وإنما كانوا يسمعون عنها من عامتهم، حتى إن أكبر معجزاته وهي إحياء لعازر بعد دفنه بأربعة أيام لم يروها بأنفسهم، وإن سمعوا عنها ممن آمن به لأجلها من عامة اليهود (يو 11: 45 -47) وكذلك هيردوس كان يسمع عن آياته وما رأى شيئا منها بنفسه حتى لم يجبه المسيح عما طلب منه (لو 23: 8 و9)(وما راءٍ كمن سمع ولو كان مؤمنًا فما بالك إذا كان السامع كافرًا به فيذهب في تأويل ما سمع مذاهب شتى ولا يصدق) وهؤلاء المؤرخون كانوا من خواص اليهود والرومان ولم يروا شيئًا بأنفسهم، فما كانوا يصدقون ما يسمعون، ولا ينتظر منهم أن يدونوا في تواريخهم ما لا يعتقدون. أما معجزة خلق (أي تقدير وترتيب) قطعة من الطين كهيئة الطير وصيرورتها طيرًا بإذن الله، والكلام في المهد، فوقعتا في صِغَره وفي مدينة الناصرة وهي قرية في الخليل صغيرة حقيرة عند اليهود ولم يكن فيها أحد من كبار الرجال ومشاهير الكُتاب، فلذلك لم يروهما أحد غير بعض أتباعه الجليليين، فذكرتا في إنجيل توما وإنجيل الطفولية وغيرهما من الأناجيل غير القانونية عند النصارى الآن، ونسيها الآخرون منهم لبعد زمنها ولوقوعها قبل أن يشتهر أمر عيسى بين الناس. وأما قصة تفتح القبور وقيام كثير من أجساد الراقدين ودخولهم مدينة أورشليم وظهورهم للناس كما قال متى (27: 51 - 54) فإنما أنكرناها؛ لأنهم ادعوا أنها وقعت في أعظم مدن اليهود حيث يوجد كبار الرجال منهم ومن الرومان، ومع ذلك لم يروها أحد غير متى، ولم يروها إنجيل آخر مما كتبه نفس أتباع المسيح مع القول بأنها وقعت بعد أن ذاع صيته وكان له أتباع كثيرون.
(2)
حاشية: إذا سلم أن بيلاطس أرسل عن صلب المسيح تقريرًا إلى رومة اطَّلع عليه تاسيتوس كما يدعون، فلا يُعقل أن بيلاطس لا يذكر في هذا التقرير اسمه يسوع، فكيف إذًا جهل تاسيتوس وغيره هذا الاسم كأنه ما سمع به أفلم يره في هذا التقرير المزعوم! ! .
(3)
لما دخل الرومان وغيرهم في المسيحية جعلوا يوم الأحد - وهو يوم عبادة الشمس أعظم آلهتهم- العيد الأسبوعي لهم بدل سبت التوراة؛ وجعلوا يوم 25 ديسمبر (وهو يوم ميلاد الشمس أيضا) يوم الميلاد للمسيح عليه السلام، فحملوا بذلك وبغيره وثنيتهم إلى النصرانية (راجع تاريخ جولد مجلد 1 ص54) .
(4)
راجع كتاب (الإسلام) تعريب فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية بمصر.
(5)
حاشية: هذا إذا سلمنا صحة ما جاء في سفر الأعمال، ولكن الأظهر عندنا أن النصارى لم تجاهر بدعوى القيامة أمام المخالفين لهم، ولم يدعوهم إليها علانية إلا في القرن الثاني للمسيح؛ ولذلك لم يرد في تاريخ من التواريخ القديمة لليهود أو الرومان أو غيرهم أن النصارى كانت تقول بتلك العقيدة أو تدعو الناس إليها جهرًا في تلك الأزمنة الأولى، فكيف لم تذكر التواريخ ذلك، ولو على سبيل الاستهزاء والسخرية؟ وقد كان عدد المسيحيين إذ ذاك في العالم مما يستحق الذكر كما يقولون.
(6)
حاشية: إذا صح أن هذه العقائد كانت عند بعض خواص اليهود من قبل عيسى بسنين عديدة أخذًا عن الوثنيين، كما يقول علماء الإفرنج الآن - كان بولس هو فقط أعظم من أرشد عامة اليهود إليها وتوسع فيها وأتقن تطبيقها على المسيح ودعا بعض الأمم الأجنبية إليها، ولكنه مع ذلك ما كان يعتقد في عيسى الألوهية الحقيقية الكاملة، بل اعترف كثيرًا في رسائله أنه فقط رب - أي سيد - وخلقه الله قبل جميع الخلائق (كو 1: 15) وأخضع الله له كل شيء، وبه خلق كل شيء (1 كو 8: 6) فهو عنده ليس قديمًا كالإله تعالى، بل منه استمد وجوده وقدرته، راجع أيضا أمثال 8: 22 - 31 وهو أقل منه درجة وخاضعًا له (1 كو 15: 27 و28 و11: 3) وأما مساواة عيسى بالله تعالى في كل شيء وخصوصًا في الجوهر والمقام والأزلية، فبولس لم يعرفها كما هو صريح جميع رسائله، وإنما هي مسألة سَرَتْ إلى النصرانية بعد بولس من فلسفة الرواقيين في الكلمة، وفلسفة يهود الإسكندرية فيها، وخصوصًا فيلو Philo الذي كان معاصرا للمسيح، والظاهر أنها لم تصل إلى كتب العهدين التي بقيت إلى الآن خالية من كل نص صريح قاطع يدل على الألوهية الحقيقية للمسيح ومساواته للأب المساواة التامة في كل شيء، بل جميع عباراتها تنافي هذه العقيدة (راجع أيضًا كتابنا (دين الله) فصل 2 صفحة 67 و77) .
(7)
قال العلامة أرثر دروز (Arthur drews) في كتابه (شهود تاريخ يسوع ص 295) : إن الإسلام هو الدين العظيم الوحيد الذي نعرف عنه باليقين أن مؤسسه كان شخصًا له وجود حقيقي تاريخي. اهـ وقد ذكر هذه العبارة بعد أن أظهر شكه من الوجهة التاريحية في سائر مؤسسي الأديان الأخرى.
الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي
خطبة لرأس هذه السنة الجديدة
سنة 1331 هجرية [
1]
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ
مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الإسراء: 111) {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن
تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ} (الملك: 1-2) {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً
بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: 18) {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ
اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144) {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَأَصْلَحَ بَالَهُم} (محمد: 2) {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ
وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما} (الأحزاب: 40) {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:
56) .
اللهم صلِّ على نبيك رسول الرحمة، وكاشف الغمة، ومزيل النقمة،
وعلى آله وأصحابه أجميعن، ومن اهتدى بهديهم في الأولين والآخرين،
واجعلنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ *
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ
القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ
شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ
كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} (آل عمران:
138 -
143) {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ
وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126){إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزمل: 19) .
أيها المسلمون، مرت الليالي والأيام وتعاقبت الشهور والأعوام،
والأمة الإسلامية في كل موضع ومقام، تُظلم وتُضام، وتُداس بالأقدام، عند
جميع الأقوام وهم {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ} (التوبة: 10) ولا ينظرون إلى مسلم بعين إنصاف أو رحمة، وإن من شهد
هاتيك الأعوام الماضية، وتلك الأيام النحسة الخالية، هذا العام الذي طويت
صحيفته من الوجود، ومحيت أيامه ولياليه من الخافقين فلا تعود {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ
المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا} (الأحزاب: 11) وعم الويل والثبور القريب
منهم والبعيد، فقد انتابتهم النوائب الماحقة، وصبت عليهم المصائب الساحقة،
وألمت بهم الرزايا العديدة، ونزلت بساحتهم البلايا المبيدة، وأحاطت بهم
المهالك، فجعلت أيامهم البيض سودًا حوالك، وها هي ذي الأمة الإسلامية تردد
النفس الأخير، وسيقضى عليها - لا قدر الله - إن لم يتداركها برحمته العزيز
القدير] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [
الأعراف: 34) .
انظروا بعيني البصر والبصيرة إلى هذه الأمة الكبيرة، ذات العزة
والسطوة، والمنعة والقوة، والأيام المشهورة والآثار المسطورة، تروها على
وجه هذا الصحصحان ككرة الصولجان، تتقاذفها الفرسان، وتطاردها
الفتيان، وتقلبها في الميدان، وهي لضعفها طوع صوالجهم، ولعجزها تبع
إرادتهم، لا ترد ضربة ضارب، ولا تكف يد لاعب {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى: 30) {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (يونس: 44) .
تأملوا رحمكم الله وأصلح بالكم، في هذه الأمة الكريمة، ذات الشهرة
العظيمة، والرعب والرهبة، والفتح والغلبة، تجدوها بين الأمم، كقطيع من
الغنم، غاب عنها راعيها وقد خيمت عليها الظلم، فانقضَّت عليها ذئاب الغرب
المتمدنة، وثعالب تمدن هذه الأزمنة، تنهشها بالأنياب والحراب، وتمزق
منها الجلباب والإهاب، وتسومها سوء الهوان والعذاب، تقطع أوصالها،
وتستلب أموالها، تقتطع ممالكها مملكة فمملكة وتجرها من مهلكة إلى مهلكة،
تغتصب بلدانها وتختطف تيجانها، تستنزف دماءها، وتمزق أشلاءها،
مرتكنة في استباحة أفعالها على حجج لا مبرر لها، ودعاوي أوهن من بيت
العنكبوت، وإنه لأوهن البيوت، وأمتكم تستغيث بالإنسانية ولا إنسانية لدى
القوم، وتستجهر بالمروءة وقد ماتت ومات أهلها من بينهم اليوم، تناشدهم
شفقة الأخوة الآدمية، وتذكرهم بالحقوق الملية، والمعاهدات الدولية، وهم
يتصاممون عن سماعها، ويُنغضون إليها رءوسهم استهزاءً بها، تخوفهم
عاقبة هذه الدار، وعقاب القوي الجبار، لكل ظالم ختار، وهم لا يرهبهم إلا
الحديد، والعدد العديد من الأبطال الصناديد، أولي الأيد والبطش الشديد،
ولا تخيفهم إلا الجماعة المتساندة، والعصبة المتحدة، والفئة المتعاضدة ذات
القلوب المتوادة والأهواء الواحدة، والمقاصد المتماثلة والأعمال المتواصلة،
والآراء السديدة والمساعي الحميدة، والهممم العالية والمطالب السامية، ولا
ترعبهم السيوف البتارة والجيوش الجرارة والخيل والعدة والبأس والشدة،
والشهامة والنجدة ولا تفزعهم إلا البواخر الماخرة والقلاع الزاخرة، والمدافع
المزمجرة، والقذائف المدمرة ولا تردعهم إلا الرعاة الساهرة والقواد الماهرة،
والذخائر الوافرة، والنيران الملتهبة والليوث المتأهبة ولا يردهم عنكم أيها
المسلمون الساهون اللاهون، إلا الاهتداء بتعليم القرآن والامتثال لأوامر
الرحمن والمبادرة إلى العمل بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ
وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُون} (الأنفال:
60) .
وأنى للأمة الجاهلة اللاهية الغافلة بمثل هذه الصفات الفاضلة؟ وأين
منها هذه المزايا الفضلى والمعاني الجلى، وقد اشتغل سادتها وكبراؤها، وأمراؤها
وزعماؤها بالألقاب العاطلة، والفخفخة الباطلة عن إعداد القوة المرهوبة، وتهيئة
العُدد المطلوبة، وبفتح زجاجات الخمور عن تحصين الثغور، وبتشييد القصور
والتفاخر بالرياش والملابس عن تشييد القلاع والحصون وإنشاء المدارس، وبنصب
مراسح التمثيل، ورفع منصات السفه والأباطيل عن تأسيس المعامل لبناء
الأساطيل والبواخر، وعمل الخراطيش والأسلحة والذخائر، وبالخرافات
والترهات عن إقامة المصانع لإبراز المصنوعات، وبالركون إلى البطالة
اعتمادًا على موهوم الإمارة، عن تعميم الزراعة وتنشيط التجارة حتى
تكثر الثروة وتعز القوة، وبالتخيلات الشعرية والشهوت البهيمية عن العلوم والفنون
والمعارف العصرية، وبمطالعة روايات الفحش والفجور عن تواريخ الأمم
ووقائع الدهور، وبسير الفجار والأشرار عن سير القواد الكبار والأسلاف
الأخيار، وبتلقف أخبار زمرة الفسق والدعارة عن النظر في أحوال الأمة
والمملكة أو الإمارة، وبمعاقرة بنات الدنان، ومعانقة الغيد الحسان، عن تلاوة
القرآن لمعرفة أوامر الرحمن، وبالانهماك في قصص البغايا والبغاء، عن
الالتفات إلى أحاديث خاتم الأنبياء، وبالاعتناء الشديد بقول الخناس الوسواس، عن
الاهتداء بقول ذي العرش المجيد: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: 25) وبالتفاني في طاعة النفس والهوى، في كل ما يضرهم ولا
ينفعهم، ويفسدهم ولا يصلحهم، وهم غافلون لاهون، لا يحسون ولا
يشعرون، عن امتثال أوامر فالق الحب والنوى، مما به يعلون ويعتزون، ولا
يهِنون ولا يُحزنون، ويُحترمون ويُهابون، ولا يُهانون ولا يُظلمون، يبيتون
لياليهم سجدًا ولكن في المراقص والحانات. وركعًا ولكن على مناضد
الخمور والمغيِّبات، وخُشَّعًا ولكن لأصوات المغنيات، ووسواس حلي
الراقصات، ويقضون نهارهم في سررهم نائمين، لا يهمهم من أمري الدنيا والدين،
إلا تناول المساحيق وابتلاع المعاجين {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} (المؤمنون: 106) {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ
} (الأحزاب: 67)، {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} (الأعراف: 38) {رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8)
فهل - والحال هذه - يفرح ذو شعور باختتام عام وافتتاح عام؟ أو تنشط نفس
مسلم غيور إلى السرور بتجدد الشهور والأيام؟ وهل يستلذ بمنام أو يهنأ بطعام
من يشاهد حال هذه الأمة، التي تراكمت عليها الخطوب المدلهمة، ويرى غفلة
رعاتها عن الواجبات الجمة، وتقاعدهم عن الأمور المهمة؟ ألا يليق بذي الإحساس
أن يبكي بدل الدمع دمًا؟ ألا يجدر به أن يلبس حدادًا على هذه الأمة ثوبًا أقتمًا
ألا يجب على كل مسلم أن يقبل على رب العالمين ويتضرع إليه بقلب خاشع
حزين، ولسان صادق مبين، قائلاً في كل وقت وحين {أَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) ألا يجب على المسلمين أن يسارعوا إلى
التوبة من كل باب، ويقلعوا عن المعاصي التي جلبت عليهم أنواع الهلاك
والخراب، وينيبوا إلى الرءوف الرحيم، ويستغفروه قائلين: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً
لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (يونس: 85) {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ
أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم} (الممتحنة: 5) ألا يجب عليهم أن يجددوا الإيمان،
ويوقنوا بوعد وعهد الواحد الديان، فيعملوا بتعليم القرآن، ويهتدوا بهدي أكمل
وأشرف بني الإنسان، ويقتدوا به صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه أصحاب العزم
والحزم، ويقبلوا على إصلاح الحال، بتطهير النفوس والعقول من الغي
والضلال، والزيغ في الأقوال والأفعال، والانحراف عن الجادة المثلى في
النيات والأعمال، فيبادروا إلى تدارك ما فات عاملين مجدين، وعلى ربهم
متوكلين، وإليه لاجئين، وله خاضعين، ومنه مؤملين، وبحبله معتصمين،
متضرعين إليه مبتهلين، ولعفوه ونصره ومدده ومعونته طالبين، قائلين: {رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِين} (آل
عمران: 147) {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} (البقرة: 286) .
فاليقظة اليقظة أيها النائمون، والانتباه الانتباه أيها الغافلون، والعمل
العمل أيها المقصرون، والوجل الوجل أيها المفرطون، والحذر الحذر أيها
المتكاسلون، قبل حلول القضاء المبرم، ووقوع البلاء المحتم، من القوي
الجبار، المنتقم القهار، على من عصى وتجبر، وعرف الحق ثم أنكر،
وزاغ بعد الهداية، ولم يتعظ بما مضى في البداية، ولا تَفَكَّرَ في العاقبة
والنهاية {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً
وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} (الطلاق:
8-
9) {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ
لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} (هود: 8) فالفرار الفرار
من موجبات العذاب النكر والحساب الشديد، والبدار البدار إلى امتثال أوامر
العلي المجيد، الفعال لما يريد {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (التوبة: 70) - {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا
المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (التوبة: 16)
أيها المسلمون - جربتم العصيان فجربوا الطاعة، وعملتم للباطل
فاعملوا للحق من هذه الساعة، وذقتم مرارة الإفراط والتفريط والإسراف
فذوقوا حلاوة القصد والعدل والثبات والاستقامة فإنها أربح بضاعة. وسعيتم
للخزي والعار وتمسكتم بالموصلات إلى النار، وغضب الجبار، فاسعوا للعز
والشرف والفخار، وتمسكوا بالمدخلات في رضوان الله وجنته دار القرار،
فالله الله في أنفسكم أيها المسلمون والتوبة مقبولة والرحمة مبسوطة والطريق
ممهد لا يخيب فيه السالكون، والسرعة السرعة يا خير الأمم. قبل أن يؤخذ
بالكظم، وتندموا فلا ينفعكم الندم، واذكروا قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ
الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا
تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً
وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (الزمر: 53-55) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (المائدة: 11) - {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي
وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (المائدة:
7) {َاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} (الأعراف: 86) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُم مِّن
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا} (الأحزاب: 9-10) {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ
تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26){فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69) .
_________
(1)
ألقاها السيد عبد الحق حقي الأعظمي البغدادي الأزهري نائب أستاذ الشعبة العربية في الكليات الإسلامية الكبرى في عليكره بالهند، وطبعت على حدتها بالعربية مع ترجمتها بالأوردية على نفقة الشاب النجيب المهذب الشيخ عبد الرحمن الذكير نجل التقي الصالح الشيخ مقبل بن عبد الرحمن الذكير التاجر الشهير في البحرين.
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
الفهم والتفاهم
كنا نود أن لا يأتي الزمان شاهدًا بليغًا بصحة ما كنا نقول ونصف من
مضارِّ الابتعاد عن الفهم والتفاهم، أمَا وقد أتى الزمان بهذه الشهادة التي
سمعتها كل أذن، فنحن غير ضانِّين بإعادة التذكير علَّ الحياة التي يرجى
شيء منها لقومنا في الأيام الآتية تكون في تقويم أحسن وشكل أمتن.
عهِدنا القومَ يقولون: نحن نؤمن أن البارئ عز وجل قد أكرمنا بهداية
عظيمة، ولكنا لا نفهمها إلا بواسطة فلان وفلان، ولتعدد الذين هم أئمة
ومقتدَون لهم رأيناهم متباغضين أشد التباغض، ومتنافرين أشد التنافر، وما
ذلك إلا لأن فهم الإمام فلان قد خالف فهم الإمام فلان؛ ولكل منهم إمام معلوم،
وأعظم هذا الافتراق قد وقع بين الذين يسمون الشيعة وبين الذين يسمون
السُّنية، ولم ينمُ ويترعرع ذلك بين هاتين الفئتين الكبيرتين إلا بسبب عدم
التفاهم، ولم يبعدهم عن التفاهم إلا قول كل واحد من كل فريق منهم: نحن لا
نفهم. فلست أدري اليوم - من بعد أن رأوا ما نزل بساحتهم - أيبقى باب
الفهم والتفاهم مسدودًا فيما بينهم، أم يتشاءمون بذلك السد ويرجون ما ترجوه
الأمم الفاهمة من فوائد الفهم والتفاهم.
نعم لست أدري أيبقون مصرين على سد ذلك الباب، وإن أصبح البيت
خرابًا أم يلهمهم الله معرفة أن الفهم والتفاهم ليسا بمحالين كما ظنوا؟ وكذلك
لست أدري ما هي الفوائد التي ينتظرونها من ذلك السد بعد أن أدى الافتراق
والابتعاد عن الفهم إلى ما صار إليه هؤلاء المفترقون الذين يقولون: نحن أهل
ملة واحدة؛ وما أدراك ما صار إليه هؤلاء أجمعون؟ إنهم صاروا إلى أسوأ
ما تصير إليه الأمم.
نحن لا نقصد بهذا تقريعًا، ولا نرمي به إلى وقيعة، غفرانك اللهم إن
علق شيء من هذا بنيتنا، أو مر بخاطرنا، كلا بل ليس قصدنا إلا التذكير وما
نحن بناسين ولله الحمد ما للناس من العذر في ذلك الموقف الذي وقفوه قرونًا
متطاولة، نعني به موقف الاقتداء بالآباء والجدود فيما تعلقوا به من تقديس
فُهُومِ بعض المتقدمين، والتبرؤ من فهومهم أنفسهم، فإن استعداد أكثر الناس
آخِذٌ بهم إلى مثل هذا.
إي والله إنما نقصد التذكير لا التقريع، ولكي نزيد هذا تأكيدًا نصف ههنا
كيف يخلص التقليد إلى أكثر النفوس، وكيف يخلص منه بعضها، فاقرأه أيها
الأخ وأنت ذاكر سنن ربك عز وجل، تخرج منه إلى ثمرة عظيمة النفع إن شاء
الله تعالى.
كان الناس أمة واحدة في أوائل أمرهم فما لبثوا أن أتت عليهم المفرقات
فأصبحوا أممًا في الأوطار والأفكار، كما صاروا أمما في الأوطان والديار،
وأعظم ما طرأ عليهم من المفرقات هو الفضل الذي يوجد في علوم بعضهم
على علوم الآخرين، ولو شاء الله تعالى أن يكونوا جماعة واحدة فحسب
لفطرهم على نحو ما فطر سائر أنواع الحيوان من تساوي أفراد كل نوع منها
في المدارك تقريبًا، أمَا وقد جعل الفاطر عز وجل بين أفراد النوع الإنساني
هذا التباين العظيم في الإدراك والإجادة؛ فإننا نفهم حينئذ أنه سبحانه قد قضى
أن لا يكون الناس أمة واحدة، فكانوا على ما نراهم عليه أممًا وجماعات؛ ولله
سبحانه الحكمة البالغة، على أنه قد لطف بعباده فخلق لهم مع أسباب التفريق
أسباب الجمع، وكما جعل في تفاوت الإدراك شيئًا من الضرر قد جعل فيه
ذروا من النفع، فمن كانت شهوته من فلاسفة الإنسانية أن يكون البشر على
عقل واحد فإنما يتيسر له ذلك بإعدام كل من يخلق في مداركه شيء من
الفضل على مدارك غيره.
أما الذين عافاهم الله تعالى من تلك الشهوة فأولئك يعلمون أن هذا النوع
لم تتمزق أوصاله بتفرعه إلى أمم معدودة محدودة معهودة، كلا، بل بسقت
بذلك دوحته وعظم أصلها، وازدادت قوتها، وأصبحت بحيث لا يضيرها أن
تذبل بعض فروعها.
نعم نعم، قد خلق الفاطر سبحانه أسباب الجمع كما خلق أسباب التفريق
ومن جملة أسباب الاثنين معًا ذلك الاقتداء الذي جعله غريزة في البشر عامة
شديدة الالتصاق، فبما توحيه هذه الغريزة يمشي الملايين من الأبناء والبنات،
على ما عليه مشت الملايين من الآباء والأمهات، ويظلون على ذلك عصورًا
كثيرة من غير ما تغيير ولا تبديل إلا قليلاً لا يكاد يعد مفرقا لشمل هذا الجمع
العظيم، وهكذا يكون شأن سائر الجموع والأمم كما هو مشاهد، وبما خص
به العقل الإنساني الذي جعله الله جوّالاً ولم يوزعه على الأفراد بالسوية، نرى
أنه مهما وقف الاقتداء بملايين من بني آدم عند الحد الذي وقف فيه آباؤهم
يقوم أحيانًا فرد من بين تلك الملايين تتقد فيه جذوة من ذلك المشرق العقلي
وتدفعه إلى التماس ما هو أحسن مما وقفت عنده أمته، وحينئذ يجدهم
معارضين له، فإن نجحوا أخمدوا جذوته، وإن نجح دخل بأمته في خلق
جديد، أو خرج منها بأمة حديثة في الوجود، ولذا لا يمدح الاقتداء من حيث
هو مطلقًا؛ لأنه قد يوقف الأمم وقفة واحدة، ولا يذم مطلقًا؛ لأنه به تتكون
أمم وبه تنتقل في أطوارها، وأنت تراه تارة صديق النوابغ؛ إذ لولاه لما
وجدوا تابعًا ومُظاهرًا، ولولاه لما ظهرت مقادير هممهم عند مقاومة الأجيال
لهم، وطورًا تراه عدوهم؛ إذ لولاه لما وجدوا تلك العقبات الهائلة في سبيل
الإصلاح؛ ولأجل هذا ترى الذين ينظرون إلى الأمور من جهة واحدة منهم
من يحسب فيه كل الفوائد ومنهم من يخال كل المضار فيه.
أما الذين يمعنون النظر في الأشياء ويسلم نظرهم من شوائب الهوى
الخاص، فأولئك يعرفون انقسام أكثر الأشياء إلى أجزاء أو جهات بعضها نافع
وبعضها ضار، ويعرفون المقادير والحدود التي بينها فيعطون كل شيء حقه،
ويذكرون له حدَّه، فإذا مر هؤلاء باقتداء ضارّ ذكّروا بالعقل، وقالوا: إن
الإنسان لا يليق به الجمود، وإذا مروا باقتداء نافع ذكّروا بالفضل الذي جرت
سنة الفاطر أن يمنحه بعض الأفراد ونفّروا من الجحود، ألا ترى القرآن
المجيد كيف يقص من مناقب الأنبياء لأكرم رسله محمد صلى الله عليه وسلم
ثم يقول له: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90) أََوَلا تراه
كيف عاب على الذين صدفهم اقتداؤهم بآبائهم عن الإيمان بفضل الله تعالى
الذي خص به الأنبياء عليهم السلام؟ وكيف هزَّ عقولهم هزة قوية بقوله:
{َأَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) ؟
هذا وإذ كان المقتدَى الأعظم في الملة الإسلامية هو ذلك الوحي الذي
نزل على محمد الأمين صلى الله عليه وسلم، كان من شأن الذين يتخذون
مقتدَين آخرين سواه أن يكون ضرر اقتدائهم ذلك أكثر من نفعه؛ لأن
المتمذهب بمذهب رجل من الذين يقال لهم أئمة السنة، إن قال: إن مقتداي رجل
من علماء السلف الأبرار، يجد تجاهه مخالفًا من الذين يقال لهم الشيعة يقول
له: إن مقتداي أيضًا رجل من علماء السلف الأبرار، ولا يستطيع الذي يسمي
نفسه سنيًّا مثلاً أن يقول: إن الإمام جعفر أو الإمام زيدًا رضي الله تعالى
عنهما ليسا من علماء السلف الأبرار، وإنما قصاراه أن يقول: إن هؤلاء
الذين يقال لهم الشيعة ليسوا في الحقيقة على مذهب جعفر أو زيد، وهذا لا
يلتفت إليه الجعفري أو الزيدي، وليس هو من المناظرة القانونية في شيء.
ومن أعجب ما في مضار هذا الافتراق الذي جاء به هذا التقليد أنك
أصبحت ترى جميع أقطاب الأمة وكبار علمائها مرنوا بسببه على اليأس من
الصلح بين هاتين الفئتين الكبيرتين في الأمة حتى كأن هذا الأمر - أي الصلح
بينهما - ليس مما يعني الأمة وليت شعري كيف يتيسر الصلح ما دام باب
التفاهم مسدوداً، وكيف يفتح باب التفاهم ما دام الجماهير جيلاً خلف جيل لا
تجول أفكارهم في مسألة من المسائل ولا يقولون فيها بقول من الأقوال إلا
قول رجل من أولئك الرجال القليلين الذين اتخذوهم مقتدَين، هذا على تسليم
بأن فلانًا وفلانًا الذين يعنونهم لم يُحصِّلوا في فهومهم تلك إلا ظنًّا، وعلى
تسليمهم أن الحق ليس في ظنونهم تلك على وجه اليقين والجزم والتعيين، فإلى
متى يا قوم هذا؟ ومتى تأذنون بفتح باب الفهم والتفاهم؟
عبد الحميد الزهراوي
حاشية للكاتب: إني ألهمت تحرير هذه المقالة على إثر اطلاعي على
كتاب (العلم الشامخ) الذي نشر في هذه الأيام، وإني رأيت أن مطالعته تفيد
كثيرًا في زحزحة مُطَالِعه عما ألفه من التقليد الضار الذي يحول بينه وبين
الفهم والتفاهم ويشوش عليه الإخاء الذي يوجبه الدين، فمن أحب أن ينال حظًّا
من العلم الصحيح فليمر به مرور تدبر واستقلال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
بيان حزب اللامركزية الإدارية العثماني [*]
إن غرض الأمم الذي ترمي إليه في هذا الوجود إنما هو الحياة: الحياة
الاجتماعية والحياة السياسية، أي أن يكون لها وجود اجتماعي راقٍ، ووجود
سياسي ثابت.
ومن الضروري أن تسعى الأمة لكلا الوجودين في منهجهما القويم
الموصل إلى الغاية، وتُعنى بهما جميعًا، ولا تقصر مجهوداتها على بلوغ
غاية أحدهما دون الآخر؛ لئلا يكون مثلها كمثل من علم بركاز من الذهب في
مكان، فأسرع إليه بكل ما تصل إليه قوته وجهده، فلما بلغه لم يجد معه أداة
لاستخراج ذلك الركاز، فرجع القهقرى من حيث جاء واهي القوى خائب الأمل
والرجاء.
فالقوانين الاجتماعية مهما كانت راقية قل أن تضمن الحياة لأمة إذا لم
تكن قائمة على أساس متين هو القوانين السياسية. ومهما عنيت الحكومة بتنظيم
قوانين الحياة الاجتماعية للأمة وأكثرت من مشروعات الإصلاح في المملكة في
التعليم والاقتصاد والإدارة والقضاء ونحو ذلك - فإنها لا تخرج في هذا كله عن
معنى الوصاية على محجور عليه لا يملك التصرف بشئون حياته الخصوصية
ليثبت لنفسه وجودًا صحيحًا بين الناس، ويعمل لسعادته جهد العامل المجد.
ولذا أصبح لهذا العهد شكل الحكومات التي تقوم به الحياة السياسية، لكل
أمة همُّ جميع الأمم، وصار من المسلَّم بالبداهة أن وجود الأمة السياسي
والاجتماعي بين مجاميع الإنسان الحية متوقف على شكل الحكومة؛ فكلما
كانت مشاركة الشعب للحكومات أكثر، كان ذلك لدوام وجوده أضمن.
لهذا السبب تكاد تكون سائر الحكومات التي للأمم المستقلة اليوم دستورية
شعبية لا شأن فيها لسلطة الأفراد، بل الشأن لعامة الأمة ومشاركتها للحكومة
في كل جليل وحقير من الشئون العامة، إلا أنها تتفاوت في ذلك منازل
ودرجات وتختلف في الشكل اختلافًا روعي فيه الاجتهاد والنظر إلى حالة
الشعوب الاجتماعية والعرفية والقابلية والاستعداد.
ومما يثبت بالتجارب لهذا العهد أن أفضل شكل من أشكال الحكومات هو
الدستوري، وأفضل أشكال الدستوري هو اللامركزية خصوصًا في الممالك
التي تعددت فيها الفروق والمذاهب واللغات، واختلفت العوائد والتقاليد
والأخلاق، فكان من المتعذر أن تساس بقانون واحد لم تراعَ فيه تلك الأحوال،
ولم ينظر معه في الحاجة والزمان والمكان.
ثبت ذلك بالتجارب كما ثبت أن اللامركزية هي أفضل مربٍّ لأفراد الأمة
على الاستقلال الذاتي الذي هو خير وسيلة لترقي الأمم؛ لأنها - أي اللامركزية -
تأبى بطبيعتها أن تكون تبعة الحكم مقصورة على أفراد قليلين تصدر عنهم
القوة والعمل إلى كل ناحية من أنحاء المملكة فيكونوا كالمحرك في آلة كبيرة
جدًّا إذا أصابه عطب أو ضعف تعطلت أجزاء سائر الآلة عن العمل دون أن
يكون لأي جزء من هذه الأجزاء قوة ذاتية يعمل بها بنفسه ودون أن يكون مسئولاً
عن نتيجة وقوفه عن العمل.
ومن البديهي أن الشعب غير المسئول عن أي خطأ يصدر عن حكومته
لا يشعر كل فرد منه بالتبعة، فلا يهتم بنتائج خطأ الحكومة إلا بعد الوقوع فيه،
ذلك لأنه مُسَيَّر بإرادة غيره، لا سلطة له حتى ولا على نفسه؛ لأنها محكوم
عليها أن تسير في السبيل الذي يريده غيره، وإن خالف رغبته ومصلحته
وهواه.
فاللامركزية توزع التبعة على أفراد الأمة بمقدار ما تعطيهم من السيطرة
على مصالح الوطن، وبسبب ذلك تنزع عنهم ثوب الحياة الاتكالية الخَلِق
الممقوت، حياة الاعتماد على غير النفس، وتفسح أمام كل فرد مجال العمل
الواسع في جهاد الحياة، وتمهد للشعب بلوغ غايات المدنية والترقي والعمران
من أقرب سبيل في وقت قصير، والعكس بالعكس.
مثاله ما نراه لهذا العهد من الفرق بين السلطنة العثمانية التي تحكم
بالمركزية وبين سويسرا التي تحكم باللامركزية، ففي هذه يرى من آثار
العمران والمدنية والحياة العالية الصحيحة والوفاق الشامل لكل العناصر التي
تقطن هذه المملكة الصغيرة ما لا يُرى مثله حتى في كثير من الممالك المتمدنة
الراقية بفضل توزيع السلطة على أقسامها الثلاثة العنصرية وإطلاق حرية
التعليم لكل عنصر من العناصر الثلاثة المؤلفة للأمة السويسرية بلسانه وبما يوافق
رغباته، وإطلاق حرية العمل لكل ولاية منها فيما ينمي عمرانها ويرقي سكانها
على الوجه الذي يناسب مركزهم الاقتصادي والاجتماعي بحيث صار يضرب المثل
بترقي هذه البلاد الجميلة وترقي أهلها البالغين منتهى ما يريده قوم من السعادة
والرفاه.
أما السلطنة العثمانية التي تحكم بالمركزية فعلى نقيض ذلك؛ إذ نرى
المعارف فيها منحطة والعمران قليلاً في بعض جهاتها مفقودًا في بعض آخر،
ووسائل الترقي الصحيح معدومة ألبتة؛ لأن حياة الاتكال على المركز في كل
شيء مستحوذة على الشعوب العثمانية كافة، والمركز مقيد لكل ولاية بقيود
تمنعها عن الحركة نحو الإصلاح المطلوب إلا ببطء وبما يوافق الحال
والحاجة في الغالب.
والمثال على ذلك قوانين التعليم مثلاً فإنها على نقصها وعدم وفائها
بالحاجة تحتم أن يكون التعليم في عدة أقطار بغير لسان أهلها، وعلى برنامج
واحد غير مُراعًى فيه حاجة كل ولاية واستعداد أهلها، ثم إن المركز لا
يعطي المال اللازم للتعليم لكل ولاية إلا بقدر محدود هو دون الحاجة، فينشأ
عن هذا وذاك نقص في التعليم وضعف في العلم وتضييق على الراغبين فيه
فتعم الجهالة، وتحرم البلاد من المعارف العالية التي هي أهم أسباب الترقي
والحياة والسؤدد في كل أمة من الأمم الحية المتمدنة لهذا العهد.
وعلى هذا فقس سائر الأعمال النافعة التي يتوفر بها العمران في الولايات
العثمانية، فإنها لتوقف صدورها على المركز بطيئة ضعيفة بل تكاد بعض الولايات
تحرم منها ألبتة.
زد على ذلك أننا نرى هذه الحكومة المركزية قد أعجزها تنائي أطراف
المملكة واختلاف لغات وأجناس ومشارب أهلها على أن تنفذ قوانينها في كل
ولاياتها؛ فإن كثيرًا من الأقطار العثمانية ليس فيها للدولة ديوان إداري ولا
محكمة ولا مدرسة ولا ثكنة ولا قلعة ولا حصن، ومنها ما لا يؤخذ منه
الجنود، فبعض هذه الأقطار عالة في حمايته من المغيرين عليه على الولايات
الأخرى، عملاً بمبدأ الاتكالية الممقوت، واعتمادًا على المركز.
ولذا نرى هذه الحكومة المركزية لا تقدر على الدفاع عن أكثر البلاد
العثمانية إذا هاجمها عدو أجنبي كما ظهر ذلك في مسألة طرابلس الغرب
ومثلها كثير، ناهيك بتوالي الفتن والثورات في أنحاء السلطنة وعجزها عن
إخمادها وبالأحرى عجزها عن تلافيها قبل ظهورها بما يمنع حدوثها أو
امتدادها حتى إن قطرًا من الأقطار وهو اليمن لا يزال مع الدولة في حرب
مستمرة منذ دخل أول عثماني فيه إلى عهد قريب.
وقد ظهر للعيان أن المملكة كلها عرضة لخطر الزوال بهذه الحكومة
المركزية، مهددة بفقد الاستقلال الذي يفديه كل عثماني بأعز شيء لديه وهو النفس،
ويتمنى كل شعب تظله راية الهلال بقاءه ليبقى عزيزًا في وطنه أمينًا من تسلط
المغيرين عليه.
إذا تمهد هذا فقد علمنا أن المركزية أصبحت في مثل هذا العصر عصر
التنازع الشديد في ميدان الحياة لا تصلح لترقي الأمة العثمانية المرغوب، ولا
تضمن لها الحياة السياسية والاجتماعية ولا البقاء لا سيما إذا أضفنا إلى هذا
حاجة الشعوب العثمانية إلى الراحة من الغوائل السياسية والفتن الداخلية، التي
توالت على الدولة في العهدين: عهد الحكومة المطلقة وعهد الحكومة
الدستورية، وأصيبت بسببها الدولة بغائلة الحرب البلقانية، وانفكاك أعز ولاياتها
عن جسم السلطنة العثمانية، بفساد سياسة المركزية، وسياسة مزج العناصر التي
ذهب إليها فريق من المتهوسين بالسيادة فَجَرُّوا على المملكة من المصائب ما لا
يحتاج إلى برهان، بعد الذي حدث وكان.
ولكي تأمن الأمة العثمانية على حياتها السياسية في المستقبل وعلى
سلامة الدولة من غوائل الفتن والمشاغبات الداخلية والصدمات الخارجية التي
يسببها عدم رضاء العناصر العثمانية والتفافها بإخلاص حول النقطة الجامعة
وهي العرش العثماني الرفيع الذي أصبح وجود الأمة السياسي لازمًا لوجوده
مرتبطًا به لكي تأمن الأمة على ذلك صار من المحتم على كل عثماني صادق
الوطنية النظر في الأسباب التي تتماسك بها أعضاء هذا الجسم الذي تفكك بقوتي
الجذب والدفع بين المركز والأطراف، ودخله الوهن والضعف المؤديان إلى
الانحلال، وهذا ما دعا فريقًا من العثمانيين إلى تأليف حزب اللامركزية الإدارية
بعد البحث والتروي الكثيرين فيما يضمن سلامة هذه المملكة وتضامّ كلمة
شعوبها واتحادهم على العمل الأنفع لعمران البلاد وسعادتها وقوة الدولة وبقائها.
فهذا الحزب يعرض على أنظار جمهور العثمانيين من إخوانه في
الجامعة والوطنية برنامجه ليكون موضع النظر والبحث من سائر العثمانيين
وهو يرجو أن يجد منهم أنصارًا كثيرين وأعوانًا غيورين على تنفيذ قواعد
اللامركزية الإدارية في الأقطار العثمانية، والله الموفق والمعين.
***
برنامج حزب اللامركزية الإدارية العثماني
المادة الأولى:
الدولة العلية العثمانية دولة دستورية نيابية، وكل ولاية من ولاياتها تعد
جزءًا من السلطنة لا ينفك عنها بحال من الأحوال، وإنما تبنى إدارة هذه
الولايات على أساس اللامركزية الإدارية، والسلطان الأعظم هو الذي يعين
الوالي وقاضي القضاة.
المادة الثانية:
قاضي القضاة يعين القضاة الشرعيين والوالي يعين سائر الموظفين بعد
اختيار مجلس الإدارة لهم (وفاقًا للمادة السابعة) ولا يجوز عزل موظف إلا
بحكم من مجلس تأديب، ومن عُزل لا يجوز استخدامه ولا يعطى معاش
معزولية.
المادة الثالثة:
يوضع نظام خاص لترقية عمال الحكومة وتأديبهم وتقاعسهم وما يتعلق
بذلك.
المادة الرابعة:
يكون في مركز كل ولاية مجلس عمومي ومجلس إداري ومجلس
معارف ومجلس أوقاف.
المادة الخامسة:
جميع قرارات المجلس العمومي تكون نافذة.
المادة السادسة:
من حقوق المجلس العمومي للولاية المراقبة على حكومتها والنظر في
جميع شئون الإدارة المحلية من: تقرير ميزانية الولاية، وأمور الأمن العام
والمعارف النافعة، والأوقاف، والبلدية، وتقرير ما يراه فيها، وسن
النظامات لها. وأما ما كان من أمور النافعة يتعلق من بعض الوجود بالأمور
العسكرية، أو السياسة الخارجية كسكك الحديد، فيرفعه بعد إبداء رأيه فيه إلى
العاصمة.
المادة السابعة:
من حقوق مجلس إدارة الولاية وضع ميزانيتها وانتخاب جميع موظفيها.
المادة الثامنة:
من حقوق مجلس المعارف وضع برنامج التعليم والنظر في جميع شئونها
ووضع ميزانية خاصة لها يراعى فيها حصة المعارف التي تضاف على
الأعشار والويركو، وما يقرره المجلس العمومي من الضرائب لها وما لها من
الأملاك والأوقاف.
المادة التاسعة:
من حقوق مجلس أوقاف الولاية وضع ميزانية خاصة لها والنظر في
جميع شئونها فما كان منها له شروط تجب مراعاتها يكون العمل فيها بحسب
شروطه، وما كان من غير ذلك يصرف فاضل ريعه على إقامة الشعائر ثم
على التعليم الإسلامي.
المادة العاشرة:
جميع أعضاء هذه المجالس تكون بالانتخاب إلا مجلس الإدارة فإن نصف
أعضائه ينتخبهم الشعب والنصف الآخر من رؤساء المصالح.
المادة الحادية عشرة:
تعدل طريقة الانتخاب لهذه المجالس ولمجلس المبعوثين وللمجالس البلدية
بحيث تكون حرة وممثلة لجميع عناصر الشعب.
المادة الثانية عشرة:
ما جرى عليه العرف في بعض البلاد والأقاليم التي لا تنفذ فيها قوانين
الحكومة وأحكامها يبقى على ما كان عليه الآن، ويراعى في تغيير الإدارة في
كل بلاد رضاء أهلها به.
المادة الثالثة عشرة:
ينظر الحزب في قانون تعديل الأراضي على الوجه الذي ينمي الثروة
العامة، وفي تحضير القبائل البدوية لأجل تنمية الثروة وترقية الأمة.
المادة الرابعة عشرة:
يكون في كل ولاية لغتان رسميتان: التركية، واللغة المحلية.
المادة الخامسة عشرة:
يجب تعميم التعليم في كل ولاية بلغة أهلها.
المادة السادسة عشرة:
أهل كل ولاية يؤدون الخدمة العسكرية في ولايتهم ويكون عسكرها على
قدم الاستعداد للدفاع عنها زمن السلم، وأما سوق الجنود في زمن الحرب فهو
منوط بنظارة الحربية، وحينئذ يجب على المجلس العمومي أن يتخذ الوسائل
للدفاع عن الولاية.
_________
(*) تألف في مصر حزب سياسي بهذا الاسم، وهذا بيانه الذي نشرته لجنته العليا مقدمة لبرنامجه السياسي، ويتلوه البرنامج.
الكاتب: محمد رشيد رضا
حديث كامل باشا
مع مؤسس المؤيد
تلقى السيد علي يوسف مؤسس المؤيد حديثًا سياسيًّا عن كامل باشا في
حالة الدولة في وزارته الأخيرة، وما بعدها فنشرها في مؤيد اليوم (سلخ
ربيع الأول) فرأينا أن ننقل معظمه؛ لأنه في معنى الرسمي القطعي،
والعنوانات لمؤسس المؤيد، قال:
تشرفت بمقابلة شيخ السياسة العثمانية أول أمس بأوتيل سميراميس، وهذه
سلسلة الحديث:
(1)
هل هناك غرامة حربية؟
س: مولاي، إن الأخبار التي تحملها إلينا الشركات البرقية عن الصلح
سيئة جدًّا، فقد كانت المشكلة في السابق منحصرة في مسألة ترك أدرنة
لحكومات البلقان، ونراها الآن قد انتقلت إلى طور آخر، وصارت تظهر لنا
أمور جديدة مثل مسألة الغرامة الحربية، فما هي يا ترى نتائج هذه الأحوال؟
ج - ماذا أقول يا سيدي، الحكم لمن غلب، أما من جهة الغرامة الحربية
فالذي أظنه أن الدول العظمى التي تعرف حالتنا المالية لا توافق البلقانيين
الحريصين على مطامعهم من هذه الجهة؛ لأن إجابتهن البلقانيين إلى هذا
الطلب يؤدي إلى انحطاط الثقة المالية في الدولة فتسقط بذلك أسعار سندات
الديون العثمانية التي كل حامليها من الأوربيين فيلحقهم من وراء ذلك ضرر
عظيم، وبديهي أن الدول العظمى لا تتوسط لفائدة البلقانيين فيما فيه ضرر
الأوربيين، وأنا أعتقد أن هذه الدول تلاحظ أن أقساط هذه الغرامة إذا دفعت
للبلقانيين عاما بعد عام ستستهلك كل فائدة تأتي من وراء ما وعدتنا به دول
أوروبا من المساعدات المادية والأدبية للاطمئنان على مستقبلنا؛ وحينئذ لا
يبقى لنا ما ننفقه على عمار بلادنا وإصلاحها، فتكون مساعدات الدول التي
وعدتنا بها من قبيل المساعدة للبلقانيين لا لنا. وعلى كل حال فإن حاجتنا إلى
الصلح ظاهرة كالشمس في رابعة النهار.
(2)
ما هو الباعث على ذلك الانقلاب؟
س: إذا كان هذا مبلغ حاجتنا إلى عقد الصلح، فأي فائدة كانت جمعية
الاتحاد والترقي تؤمل أن تحصل عليها من وراء الثورة التي أثارتها ضد
الصلح؟
ج - الغاية الأولى لجمعية الاتحاد والترقي من ذلك هو التربع في دست
السلطة. أما فائدة أو ضرر استمرار الحرب فتلك مسألة ثانوية في نظر
الجمعية، ولو كان هنالك أقل عمل في الفوز والفائدة لكانت وزارتنا تستمر في
الحرب إلى النهاية.
ولعمري إن حسابنا لم يخطئ قطعًا، وكيف يجوز لنا ترجيح الاستمرار
في الحرب والتقارير العسكرية التي كانت تعرض من قواد الجيش على مجلس
الوكلاء بواسطة وكيل جلالة السلطان في القيادة العامة كانت - مع التصريح
باستعداد الضباط والجنود للموت في سبيل الوطن - خالية من كلمة واحدة
تشف عن الأمل في النجاح، بل القواد يصرحون على العكس بترجيح جانب
الصلح على الاستمرار في الحرب.
وإذا كانت وزارتنا قد خدعت في فهم حقيقة ما، فذلك في شيء واحد هو
تقدير شكري باشا للمؤن، وكم تكفي لتقاوم حامية أدرنة الأعداء المحاصرين
لها، فإنه حدد الوقت الذي سيضطره فيه نفاذ الأرزاق لتسليم أدرنة بأقصر مما
ظهر بعد ذلك [1] .
ولو كنا علمنا هذه الحقيقة كما هي لما عجلنا بالموافقة على اقتراح الدول
العظمى، ولكانت وزارتنا صححت اعتقادهن في هذا الباب؛ ولطلبت منهن أن
يدخلن تعديلاً جديدًا على اقتراحهن.
(3)
أدرنة قطب رحى المخابرات:
س - هل لكم يا مولاي أن تتفضلوا ببيان الحوادث التي تعد تتمة لهذه
الحرب صونًا للحقيقة أن يتناولها التاريخ على غير وجهها؟
ج - أجل، إن هذا الأمر مهم جدًّا في الحقيقة، معلوم أن أدرنة لم يكن
في الإمكان إنقاذها من حصارها بالقوة العسكرية، وكانت الدول العظمى ترى
أنه قد قُضي على المدينة بالسقوط لنفاد أرزاقها؛ ولذلك أرسلت إلينا مذكرة
إجماعية تنصح لنا فيها بلهجة حازمة أن نترك أدرنة للمتحالفين؛ وأن نفوض
أمر الجزر لإنصافها.
أما مجلس الوكلاء فقد رأى بعد التفكير في كل الطرق أنه لا مندوحة عن
قبول طريق الصلح حيث لم يكن ثمة تدبير آخر، وقبل يوم واحد من حدوث
تلك الجناية عقد في السراي السلطانية مجلس عمومي صدق على ضرورة
الصلح بعد أن اطلع على حقيقة موقفنا، ومع ذلك فإنه لما كان لأدرنة شأن
عند عموم الأهالي؛ ومن المنتظر أن تركها للأعداء صلحًا يستلزم هياج
الأفكار والخواطر، ولا يخفى أن العامة التي لا تطلع على حقائق الأحوال عن
قرب ربما تتهيج على الحكومة، لذلك لم تقدم هيئة الوزارة على تحمل هذه
المسئولية وقررت أن توضح لأوربة هذه المحذورات في جوابها، وبما أن
السير إدوارد غراي ناظر خارجية إنكلترا كان قد اقترح على مندوبي الباب
العالي أن تكون أدرنة في منطقة على الحياد وأن تكون معفاة من الرسوم
الجمركية، فنحن قد وافقنا على جعل أدرنة على الحياد، وعلى إعفائها من
رسوم الجمرك، ولكننا اشترطنا أن تبقى تابعة للدولة العلية، فرفض مندوبو
البلغار قبول ذلك، وأحيلت المسألة على مؤتمر السفراء فلم تنتج مذكرات
المؤتمر شيئًا.
(4)
جواب الباب العالي يومئذ على مذكرة الدول:
ثم قال فخامته: ولما أردنا أن نجيب على مذكرة الدول قررنا أن نوافق على
جعل أدرنة بلدًا إسلاميًّا كما كانت، وأن تكون هي وضواحيها مستقلة وعلى الحياد
بشرط أن لا تطالبنا الدول البلقانية بعد ذلك بشيء جديد، أما حاكم أدرنة فطلبنا أن
يكون مسلمًا مهما كانت جنسيته، وأن تنتخبه الدول الموقعة على معاهدة برلين
والدولة العلية إحدى هذه الدول بالطبع، وحينئذ فإن الباب العالي مستعد لتجريد أدرنة
من حاميتها وذخائرها الحربية، وإنما رجحنا هذا الحل لما كنا لاحظناه من المحاذير
من وراء استمرار الحرب، وقد تركنا للدول العظمى أمر تعيين حدود الأراضي
التي ستتبع المتحالفين.
أما مسألة الجزر فقد قلنا في الجواب عنها: إننا واثقون من إنصاف
الدول العظمى وأنها ترى لزوم بقاء هذه الجزر تابعة للدولة العلية؛ لقربها من
سواحل الأناضول العثمانية، وحيث إن بلاغ الدول كان يحتوي على وعود،
منها معاونة الدولة ماديًا ومعنويًا لرقي وعمران الممالك العثمانية وزيادة قوتها
فقد قرر مجلس الوكلاء أن يذكر في جوابه على مذكرة الدول كيف هو يتلقى
تلك الوعود الحسنة التي تعوض علينا خسائرنا. ثم استحسنا أيضا أن يدرج
في ذلك الجواب أننا نعتمد كل الاعتماد على الدول العظمى في أن ترفع - بعد
زوال الروم إيلي تقريبا من يدنا - كل القيود التي قيدتنا بها المعاهدات القديمة
التي كانت أمضيت في تركية أوربة، وأن يسمح للدولة بإطلاق الحرية في
معاملاتها الاقتصادية وفقًا لما هو جارٍ بين الدول العظمى نفسها.
(5)
لم يبلغ الجواب رسميًّا:
على هذا النمط حررت صيغة جواب الباب العالي باللغة الفرنسوية على
أن يبلغ في مساء ذلك اليوم 23 يناير إلى سفراء الدول.
(6)
هجوم جماعة الاتحاديين والترقي على الباب العالي:
وبينما كان مجلس الوكلاء يمعن النظر في ترجمة مسودة الجواب هجمت
شرذمة قليلة اختلالية من جمعية الاتحاد والترقي بصورة وحشية على الباب
العالي، وحاولت أن تدخل غرفة مجلس الوكلاء فبادرهم ناظم باشا ليمنعهم ويسكن
جأشهم، فقتلوه في الحال واضطر حينئذ بقية الوكلاء أن يدخلوا غرفًا أخرى
ينتظرون فيها ماذا يكون.
أما أنا فقد لبثت في غرفة الصدارة ومعي حضرة فؤاد باشا كاتب المابين
الذي جاءني حاملاً بعض إرادات ملوكانية وعلمت حينئذ أن الثائرين ملأوا
الباب العالي اعتداءً، وأنهم قتلوا أيضًا ستةً من الياورية والحجاب الذين قاموا
بواجب المحافظة على الوكلاء والدفاع عنهم، وعلمت كذلك أن اثنين من
الثائرين قد قتلا في الحادثة.
وفي خلال هذه الفاجعة قفل فؤاد بك راجعًا من حيث أتى ثم دخل على
شرذمة من الضباط لا أعرفهم ومعهم أشخاص آخرون بألبسة ملكية فتقرب
مني جسور منهم، وقال: إن الخواطر خارج الباب العالي متهيجة تهيجًا
عظيمًا.
وطلب مني أن أكتب استقالتي فتحققت وقتئذ أن جميع تلك الفعال الجنائية
إنما كانت وسيلة فقط ليحصل الاتحاديون على أزِمة السلطة. وأنهم لا قصد
لهم في الثأر من أحد.
(7)
استقالة فخامته:
وقد خطر ببالي أنني لو ترددت في أمر الاستقالة لتجرأ الثائرون على
الإيقاع بي حتى يتسنى لهم انحلال مقام الصدارة، فبناء على إصرار الضباط
استقلت وكتبت عريضة للحضرة السنية الملوكانية التمست فيها بلا تردد
إعفائي من منصب الصدارة، ولم يمض ساعة إلا وجاءني رئيس قرناء
الحضرة السلطانية مُبَلِّغًا عن لسان مولانا السلطان الأعظم كدره من هذه
الواقعة وراجيًا أن لا أترك الباب العالي خلوًّا من الحكومة ريثما تظهر نتيجة
الحال. فامتثالاً لأمر جلالته وانتظارًا للنتائج بقيت على كرسي الصدارة
منتظرًا.
وفي خلال ذلك كان يدخل ويخرج أناس كثيرون ومنهم طلعت بك
وأنور بك ثم عمر ناجي بك مبعوث قرق كليسا سابقًا المعدود من أركان
الجمعية فتقرب هذا مني قائلاً: مولاي إن شاء الله أنتم تنفعون الدولة في هذا
المقام كثيرًا، ونحن جميعًا محتاجون إليكم، وسنكون مطيعين لأوامركم. وقد
أراد بهذا الكلام مداهنتي، فقلت له: لا حاجة لي بالصدارة فقد سبرت طالع
الدولة وحسبي ما مضى. وبهذا الكلمة صرفته عني.
(8)
ألاعيب أنور بك:
ثم جاءني أنور بك متظاهرًا بحيرة واندهاش وقال: إنني كنت في تمرين
عسكري وفي أثناء الطريق أُخبرت بالواقعة، هذا ما قاله لي في حين أنه كان
قد تواتر ساعتئذ في الباب العالي أنه من جملة الذين قتلوا ناظم باشا.
وبعد ساعة من الزمان اجتمع عليَّ شيخ الإسلام وآخرون من الوكلاء
واحدًا بعد آخر.
تعيين الصدر الجديد:
وعقب ذلك نصب محمود شوكت باشا صدرًا أعظم وجاء إلى الباب
العالي مع شيخ الإسلام الجديد، وبعد أن تلي الخط العثماني على رأس السلم
جاء محمود شوكت باشا إلى الغرفة العمومية مستقبلاً تبريكات المهنئين؛ ثم
شرع في الترتيبات اللازمة.
وبعد نصف الليل اجتمع بي خلفي في غرفة أخرى، فتفاوضنا هنيهة في
الأحوال الحاضرة، وعلى هذه الصورة بقيت هزيعًا من الليل؛ ولكثرة الزحام
لم يمكن إيقاد مدافئ الغرف مع شدة البرد وكثرة الأمطار. وظلت جثث القتلى
هناك ولذلك لم أتمكن من مغادرة الباب العالي إلا بعد الساعة الثالثة بعد نصف
الليل؛ فأثر البرد ليلتئذ في جسمي حتى أصابتني حمى ارتفعت درجتها إلى
39 درجة، وقد زارني سفراء الدول العظمى في منزلي فشكرت مسعاهم
واعتذرت لهم بالواسطة عن قبولهم. وبعد معالجة دامت عشرة أيام عادت إليَّ
صحتي فأشار عليَّ الأطباء بتبديل الهواء، وفي الحقيقة كنت قد تعبت
لملازمتي الباب العالي ليل نهار مدة ثلاثة أشهر تقريبًا، أي منذ شبت الحرب،
فكنت مستمرًّا طول هذه المدة على الاشتغال بمهام الأمور فأنهك العمل
جسمي ولذلك وافقت رأي الأطباء، وجئت إلى القطر المصري على إحدى
بواخر الشركة الخديوية.
دخول سعيد باشا في الوزارة الجديدة:
أما محمود شوكت باشا فإنه في اليوم الثاني من صدارته شكل وزارته،
ولما جاءه سعيد باشا مهرولاً ومباركًا له فوزه، انتخبه محمود شوكت باشا
رئيسًا لشورى الدولة، وباشر العمل بوظائفه.
سقوط الوزارة الجديدة في الشَّرَك:
ومن الاتفاقات الغريبة أن الوزارة الجديدة كانت تحسب أن الوزارة
السابقة قد أبلغت جوابها إلى الدول موافقة على طلبهن مذعنة لشروط الصلح
كما طلبتها الدول. ولكن لما رأت الوزارة الجديدة أوراق مجلس الوكلاء
علمت أن كل ذلك لم يكن وأن اللائحة الجوابية لم تعط، وأنه لم يكن ثمة
مندوحة لسلامة الدولة غير طريق الصلح فأسقط في يدها، وبعد مفاوضة دامت
يومين رأت أن تقسم مدينة أدرنة إلى شطرين بينهما نهر مريج اعتبرته حدًّا
فاصلاً، فالشطر الذي فيه الطوابي والاستحكامات أرادت أن تعطيه للبلغار،
والشطر الثاني طلبت أن يبقى للدولة العلية، ثم طلبوا في مبحث التعويضات
إلغاء العهود القديمة ومكاتب البريد الأجنبية إلى غير ذلك من الشروط
مظهرين بذلك ميلهم إلى الصلح.
كيف عادت الحرب:
فلما علم هذا في لوندرة اتبع البلغار - على ما جاء في الصحف - خطةً
أخرى، فقالوا: لا سبيل للمذاكرة مع هيئة ثورية؛ إذ يعد ذلك ذلاًّ لهم، أي
البلغار، وأمروا القائد الأول للجيش البلغاري باستئناف الحرب وفقًا لما قرر
في صوفيا، وعليه اضطر العسكر العثماني للمقابلة.
على هذا استمر الحرب الذي كان قد انقطع (كذا) في اليوم الرابع عشر من
شهر كانون الأول (27 ديسمبر سنة 1912) فاستشهد في هذه المدة ألوف
ومئات ألوف من شدة القرّ، وفتحت أبواب جديدة للنفقات فصرف حتى الآن
بضعة ملايين من الجنيهات، واشتدت الأزمة المالية حتى وصلت غايتها،
وظل المأمورون والمستخدمون والمردودون إلى المعاش والأرامل والأيتام،
بل جميع المحتاجين بغير معاش، فأصبح هؤلاء المساكين على شفا جرف
الهلاك.
الصيد في الماء العكر:
وقد بيعت أملاك أميرية بأثمان بخسة، ثم أعطي زيد وعمرو - خلافًا
لكل قانون ولكل قاعدة - كثيرًا من الامتيازات، ولم يمكن مع هذا كله سد
الرمق.
فهذا أيها الأستاذ نتيجة ما جناه الاتحاديون بوضع أيديهم على أزِمة
الحكومة بسائق طمعهم فيها، ولا أدري ماذا يكون مجرى الحال في المستقبل
مع فقد الأمن.
على أن العناصر العثمانية أخذت تنتبه إلى انتهاج المناهج التي تأمن بها
على مستقبلها.
أما الأمم ذات العلاقات الاقتصادية والتجارية ببلادنا فهي لا تألو جهدًا
للذب عن منافعها، والله أسأل أن يحسن العاقبة. اهـ. المراد من الحديث
وله في المؤيد تتمة في مشروعية الحكومة الحاضرة، وعدم رغبة كامل باشا
في العود إلى الوزارة.
_________
(1)
المنار: يرجح كامل باشا أن سبب غلط شكري باشا في تقديره هو أنه أخبر الحكومة أولاً بما عنده ثم ظهر له مخازن للمؤنة والذخيرة لم يكن رآها ولا علم بها، فإن أدرنة قد حصنت من عهد السلطان عبد الحميد، وجاء في بعض الجرائد أنه وصل إليها ذخائر بمساعدة النمسة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اللامركزية الإدارية
حياة البلاد العثمانية
جربت الحكومة المركزية العثمانية عدة قرون بالحكم المطلق وخمس
سنين بالحكم الدستوري النيابي فلم تفلح، وكانت خمس سنين منها دستورية،
أسرع إلى التخريب من خمس مئة سنة استبدادية، فظهر لكل ذي بصيرة أن
هذه المملكة المؤلفة من أقطار متنائية الأرجاء مختلفة العناصر في اللغات
والعادات والتقاليد والأخلاق، لا يمكن أن يحسن إدارتها الداخلية أفراد من
عنصر واحد من عناصرها يتربون ويتعلمون في عاصمتها من علوم الإفرنج
ولغاتهم وقوانينهم ما يريدون الاستعانة به على إدارتها مع جهلهم بلغاتها
وسائر شئونها، ويجعلون جميع مصالحها مرتبطةً بالعاصمة البعيدة عن
أكثرها، والتي يجهل لغتها التركية السواد الأعظم من أهلها، بحيث إذا أراد
رجل عربي أن يفتح مكتبًا أهليًّا في ذروة جبل من اليمن لا يبيح له نظامها
فتحه إلا إذا كتب إلى العاصمة باللغة التركية يستأذن بذلك وجاءه الإذن؛ ولن
يجيئه إلا إذا كان يُعلم بالتركية، ولن يجد من يُعلِّم بها، وإذا هُدم مكان
للحكومة في أبعد أرجائها لا يجوز بناؤه ولا ترميمه إلا بعد استئذان العاصمة
وورود الإذن، ولن يرد إذا اهتموا به إلا بعد عدة شهور وإلا فعدة سنين.
أكبر ما استفاده العثمانيون من إعلان الدستور جواز إبداء آرائهم في
حكومتهم ومصالحهم، وقد صرح بعضهم في السنة الأولى للدستور بأنه لا
يستقيم أمر هذه المملكة إلا بالإدارة اللامركزية، ولكن الجمهور صبروا على
حكم المركز مع اشتداد وطأته بغلوّ الاتحاديين وإسرافهم فيه، فرأوا من بوادر
نتيجته أن الاتحاديين وجهوا قوة الدولة كلها لقتال عناصرها وتذليلهم فنكلوا
بالأرنؤوط وعرب اليمن وعسير والكرك وحوران، وأضاعوا طرابلس
الغرب، فالولايات الأوروبية العثمانية كلها، واضطروا إلى الاعتراف
باستقلال إمام اليمن في بلاده وعرضوا مثل ذلك على السيد الإدريسي في
عسير، فكان كلما حدثت حادثة من هذه الحوادث يقتنع كثيرون من أهل
البصيرة والرأي بأن عدم المركزية خير وأبقى لهذه الدولة؛ فإن لم تبادر إليه
اضمحلت اضمحلالاً، وانحلت انحلالاً.
وقد كان أكبر الشبهات التي يغالط بها المتمتعون بالمركزية العامة
وأشياعهم، أن اللامركزية تمزق الدولة فيسهل على الأجانب ابتلاعها، ولكن
أهل المعرفة والحجة قد بينوا الحقائق للجمهور، فلم يعد يهذي بهذه المغالطة
مع المتمتعين بلذة السلطة المركزية وعظمتها وأموالها إلا منافق متملق لهم؛
ليشاركهم في بعض ما يتمتعون به، أو جاهل غملاج، يتابع كل أحد على
رأيه.
تُكشف هذه الشبهة بكلمة واحدة، وهي: أن المطلوب هو اللامركزية الإدارية
وهو لا دخل له في السياسة الخارجية ولا في الحربية، وحفظ البلاد من
استيلاء الأجانب عليها إنما يكون بالقوة الحربية أو الوسائط السياسية، ولا نعلم أن
أحدًا ينازع العاصمة فيهما، على أن مسألة طرابلس الغرب وحرب البلقان قد
أثبتا لكل ذي عقل وفهم أن حكومة الآستانة لا تقدر أن تصد أية دولة من الدول
الكبرى عن امتلاك ما تطمع فيه من بلادها، فعلم من لم يكن يعلم أن بقاء ما
بقي للدولة منوط أمره بالدول الكبرى إن شاءت أن تقسمه بينها فعلت، وإن
شاءت أن تتركه فعلت، والثاني هو المرجح عندنا الآن لما بيَّناه في موضع آخر
من هذا الجزء، ولا دخل فيه لشكل إدارة الولايات ألبتة. بل نقول: إن جعل ما
بقي تحت نفوذهن بالوسائل المالية أو السياسية وهو الخطر المنتظر لا يتم لهن
بسهولة إلا مع بقاء الحكومة المركزية؛ إذ يكفي إرضاء اثنين أو ثلاثة من أصحاب
النفوذ في مجلس الوكلاء لأخذ كل ما تريده أوربة من الامتيازات والأراضي
العثمانية، ورهن موارد الدولة، ولا يسهل هذا مع اللامركزية؛ لأنه يتوقف على
إقناع مجالس الولايات ثم العاصمة، فالخطر كل الخطر على البلاد إنما هو
من الحكومة المركزية، ولا سيما إذا كانت السلطة بيد جمعية الاتحاد
والترقي.
* * *
حزب اللامركزية ولجان الإصلاح السورية
نشرنا في هذا الجزء بيان هذا الحزب وبرنامجه السياسي، وهو مؤلَّف
من طائفة من أولي البصيرة والرأي وحملة الأقلام من العثمانيين المقيمين في
مصر، وقد تألفت في سورية عدة لجان للتشاور في طلب الإصلاح على
أصول اللامركزية الإدارية؛ وإن لم يذكر هذا الاسم فيها، وكانت حكومة
العاصمة على عهد وزارة كامل باشا راضيةً عن هذه الحركة ومؤيدةً لها،
وكان أمثل تلك اللجان لجنة بيروت فإنها انتخبت انتخابًا قانونيًّا، فكانت مؤلفة من
86 عضوًا من خواص الطوائف كلها وستنشر لائحتها في الجزء الآتي.
والذي يسر في مجموع هذه المطالب وهذه الحركة المباركة، إن شاء الله، هو
أنها صادرة عن الشعور بالحاجة إليها المشترك بين المسلمين وغيرهم، وأنها
كانت أفضل مجلى من مجالي الاتفاق والألفة بين الجميع، وقد ظهر ذلك في
بيروت بصفة لم يسبق لها نظير، ولا أستثني ما كان عقب إعلان الدستور، فإن
تلك نشوة عارضة لا يعتد بمثلها، ولا يوثق بدوامه.
وقد توهم بعض الناس أن هذه الحركة كانت بتحريض أفراد من الأذكياء
يمكن استمالتهم بالمناصب والوظائف والوعود، فاغترت بذلك جمعية الاتحاد
والترقي، ووجهت همتها إلى استمالة هؤلاء الأفراد، أو استمالة من تظن أن
تركهم لطلب الإصلاح يتبعه ترك غيرهم، وسترى الجمعية أنها مخطئة وأن
كل من تستطيع استمالته يسقط من نظر إخوانه، فلا يبقى له عندهم قيمة ولا
تأثير، كما ظهر مثل ذلك لعبد الحميد الذي اتبع هذه السياسة من قبل.
وكتب إلينا وإلى أناس آخرين أن الجمعية تريد إرسال وفد إلى سورية
لأجل التفريق بين طلاب الإصلاح وإيقاع الشقاق بين المسلمين والنصارى،
وربما تستعين على ذلك ببعض جرائد المنافقين التي تمدها بمالها ونفوذها، فإن
الجمعية على محاربتها لكل ما يفيد الإسلام صارت تستخدم اسم الإسلام لتأييد
نفوذها، والمرجو من عقلاء إخواننا البيروتيين عامة وأصحاب الجرائد الرشيدة
منهم خاصة، أن يكونوا إلبًا واحدًا على من يسعى للتفريق بينهم بقول أو عمل، وأن
يحذروا من كل جريدة عرفت بالانتصار للاتحاديين أو تنشأ لترويج سياستهم،
وإذا ظهرت لهم جريدة عربية في الآستانة فليكونوا منها على حذر، ولا سيما
إذا استخدم لها قلم شيطان التفريق السفيه المشهور.
وقد جاء في بعض جرائد أمريكة أن لعزت باشا العابد يدًا في هذه
الحركة، وإنني أجزم - على علم - بأنه لم يكن له ولا لغيره من المقيمين في
خارج البلاد السورية والمصرية يد في ذلك ولا رأي ألبتة، ويتبع ذلك أنه ليس
لأحد منهم نفوذ ولا تأثير في ذلك.
* * *
تمليك الشخص المعنوي في الدولة العلية
جاء في البرقيات العامة من الآستانة أنه قد صدرت الإرادة السنية بجواز
تمليك الشخص المعنوي. قال المؤيد في تعليقه على هذه البرقية: وكان
السلطان السابق ممتنعًا كل الامتناع من أن يفعل هذا، فمثلاً كان لا يجوز لشركة
عثمانية أو أجنبية أن تمتلك، وإذا كان لا بد من هذا فكان التمليك باسم رئيس
الشركة؛ والملك لا ينتقل للشركة ذاتها في سجلات الحكومة، فكانت الشركات تأبى
أن تأخذ ملكًا بأسماء رؤسائها خوفًا من انحلال الملك عنهم إلى الحكومة متى توفوا ولا
وارث لهم.
وكان هذا المنع حتى لا تصبح الشركات مستعمراتٍ أجنبيةً ذات ملك
واسع في البلاد ينتهي أمرها إلى مثل ما انتهت إليه الشركات الإنكليزية في
الهند أو الهولاندية في الترنسفال أو البلجيكية في الكونغو.
أما الآن فقد أجيز تملك الشخص المعنوي، ويخشى أن لا يكون هذا
الشخص المعنوي مقيدًا بقيد العثمانية؛ لأنه إذا لم يكن كذلك أمكن لمثل شركة
حديد الأناضول الألمانية مثلاً أن تملك الأراضي الواسعة حولها فتصبح مستعمرات
ألمانية، ومثل ذلك يقال في الشركات الإنكليزية والفرنساوية في بغداد والبصرة
وسوريا وفي الشركات التي تنشأ من كل دولة أخرى.
ولهذا هرع إلى الآستانة منذ أسبوعين ماليون كثيرون كانوا يتطلعون إلى
أراضٍ واسعة في البلاد العثمانية، ولا يستطيعون شراءها بواسطة الشركات؛
لأنهم رأوا الفرصة سانحةً لهم، وبعض هؤلاء يؤملون أن جمعية الاتحاد
والترقي تأخذ أملاكًا واسعةً باسم شخصها المعنوي وتبيعها لهم سريعًا بثمن
موافق.
ولكنا مع هذا كله نؤمل أن نرى في نص الإرادة السنية ما يقيد الشخص
المعنوي بقيد العثمانية، حتى يزول الخطر الذي كان يخشاه السلطان
عبد الحميد. اهـ.
(المنار)
هذا الخبر يدل على ما أثبتنا عن مقاصد الاتحاديين المالية من قبل، وهو
أخوف ما نخافه من سياستهم المالية، فنسأل الله السلامة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
سبب نقل الروايات الموضوعة
(س9) من صاحب الإمضاء:
حضرة إمام المرشدين، وقدوة العلماء العاملين، من يتلقى سؤال كل سائل
بالقبول والرضا، الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا، أبقاه الله للمسلمين
يداوي كل مرض كان عارضًا، آمين.
ذكرتم في الجزء الثاني من منار هذه السنة تفسير قوله تعالى: {لَكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) إلخ، ورأيتكم ذكرتم كما
ذكر غالب المفسرين بإزاء تفسير: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} (النساء: 162)
الرواية الموضوعة المنسوبة لعثمان من أن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب
بألسنتها، وذكرتم أيضا أنها موضوعة، وأن السابقين الأولين بعيدون عن ذلك
إلخ. فإذا كانت الآية بريئةً من نسبة هذه الرواية الموضوعة، وكذلك باقي آيات
القرآن قطعًا، فما الداعي لذكر غالب المفسرين لهذه الرواية مع أن القرآن جميعه
بريءٌ منها، فهلا تركوا ذكرها بإزاء تفسير الآية حتى لا يتأتى تشويش فكر
لضعيف.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إبراهيم محمد عريقات
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... من برنبال غربية
(ج) ما من أمة من الأمم إلا وفيها الصادقون والكاذبون، وما من دين
من الأديان إلا وينتمي إليه المخلصون والمنافقون، وقد كذب الزنادقة وأهل الأهواء
على نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كما كذب أمثالهم على
المسيح وحوراييه وغيرهم من الأنبياء في الأمم السابقة، ولكن المسلمين
امتازوا على جميع الأمم بتمحيص كل ما روي عن نبيهم وعن أصحابه،
وإن لم يكن قول الصحابي برأيه حجة شرعية عندهم، ومن أظهر آيات صدق
أئمة المحدثين أصحاب الجرح والتعديل، وبيان علل الحديث أنهم لم يكتموا شيئًا
مما روي، ولم يُحكِّموا مذاهبهم وآراءهم وأهواءهم في ذلك، بل نظروا في
الرواية نظر المؤرخ العادل، فما ظهر لهم قوة سنده منها صحَّحوه أو حسَّنوه، وما
كان غير ذلك ضعَّفوه أو كذَّبوه، ولم تحملهم صحة المعنى على تصحيح الرواية، ولا
مجرد كون المتن موضعًا للطعن والنقد، على الحكم على سنده بالوضع، بل فصَّلوا
بين نقد المتون ونقد الأسانيد، فعني بهذا أناس وبذاك آخرون، ويقل من جمع
بينهما، فجمعوا لنا كل ما روي وقيل فينا، سواء كانت لنا أو علينا، فأما
المفسرون فمنهم من لا هم له إلا نقل ما يراه في كتب مَن قبله من غير بحث ولا
نقد، ولا تمييز بين ما يصح وما لا يصح لأجل نقده وبيان الحق، ومن هذا
الباب نقلهم لما روي عن عثمان، ومن كان همه النقل فقط لا يخطر بباله ما
يثيره نقله في نفوس القارئين ولا يحفل بذلك.
***
اختلاج الأعضاء
(س10) ومنه: ذكر الخوارزمي في كتاب (مفيد العلوم ومبيد الهموم)
بابًا لاختلاج الأعضاء جميعها، وقال بأنه إذا اختلج عضو كذا يحصل من الخير
كذا، وإذا اختلج عضو كذا يحصل من الشر كذا، وهكذا إلى آخر الأعضاء ما بين
خير وشر، فهل لهذا الاختلاج من حكم وأصل؟ وإذا قيل بأنه لا أصل له نقول:
قد وجدنا غالب ما ذكره الخوارزمي في باب الاختلاج عند التجارب صحيحًا، فهل
ذلك من الأسباب العادية أم كيف؟ أفيدونا.
(ج) مسألة اختلاج الأعضاء وكونها سببًا للخير والشر ليست دينية ولا
عقلية، وأما التجربة فلا يثبت بها مثل هذا إلا بالاستقراء المطرد، وأنتم تنفون
ذلك بقولكم أنكم وجدتم غالب ما ذكره الخوارزمي في باب اختلاج الأعضاء صحيحًا،
وهذا إثبات لعدم صحة مقابل الغالب، ولا يكفي في الاستقراء تجربة واحد؛ إذ
يتفق أن يحدث له بعد الاختلاج ما لا يحدث لغيره، وما يدريكم لعل غيركم رأى
أكثر ما يقوله أهل هذا الزعم أو كله غير صحيح، ها أنا ذا رأيت في صغري
أرجوزة في دلالة اختلاج أعضاء البدن علق بذهني أبيات منها طالما خطرت
في بالي عند الاختلاج فظهر لي كذب الناظم، منها:
وجفنه الأعلى يرى ما يؤثر
…
وفي شماله بكاء يكثر
وجفنه الأسفل صحة الجسد
…
وفي شماله بكاء لا يحد
على أن رؤية ما يؤثر أو البكاء بعد الاختلاج قد يكون كثيرًا أو يقع نادرًا
ولا صلة بينه وبين الاختلاج بسببية ولا علية، وصفوة القول في الجواب أن
هذه المسألة وهمية، ومن ظهر له صدق شيء مما قيل كان واهمًا، وكثيرًا ما
يؤثر الاعتقاد في الإنسان تأثيرًا يكون سببًا في حدوث ما يعتقده، فإذا اعتقد
عقب اختلاج جفنه الأيسر أنه لا بد أن يحدث له ما يبكيه لا يلبث أن يبكي مما
لا يبكي منه لولا وهمه هذا.
وكثيرًا ما يرى الإنسان أمرًا حدث عقب أمر فيتوهم أنه سبب له وما هو
في الحقيقة بسبب طبيعي، ومن هنا نشأ التشاؤم والتطير؛ ولذلك جعل علماء
المنطق القضية الشرطية قسمين: حقيقية واتفاقية، فالحقيقية ما كان فيها
المقدم سببًا وعلة للتالي مثل: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.
والاتفاقية مثل قولهم: إن كان الإنسان ناطقًا فالحمار ناهق. ومن البديهي أن
نطق الإنسان ليس سببًا لنهيق الحمار. فعليكم أن تتدبروا ذلك.
***
استحلال حكم المَحاكم المُخالف للشرع
والمانع من الحكم بالشرع
(س 11 و12) ومنه: ما حكم المستحل لحكم المَحاكم المخالفة للشرع
المنزَّل، وذلك كمحاكم مصر الأهلية، وهل من مانع من رجوع جميع محاكم
الحكومات الإسلامية للحكم بالشريعة الحنيفية وإقامة الحدود خصوصًا الحكومة
المصرية؟ وإذا لم تتمكن الحكومة المصرية مثلاً من إقامة الحدود وغيرها من
الأحكام الشرعية المعطلة لأسباب ظاهرية أو وهمية، أفلا يمكنها وهي حكومة
إسلامية رسميًّا أن تمنع ولو أربعة أمور فقط، وأن تعكس قضاياها في قوانينها
من إيجاب إلى سلب؛ لأنها من أكبر أمهات فساد الأحوال وضياع الأموال في
هذا القطر الإسلامي ألا وهي: (الزنا والربا والخمر والقمار) .
(ج) الأحكام الشرعية منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة كالحدود
الثابتة بنص القرآن، وفي معناها كل ما هو مُجمَع عليه معلوم من الدين
بالضرورة فمن استحل حرامًا من هذا النوع كان كافرًا، ولا يعذر بجهله إلا
من كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ بعيدًا عن المسلمين منفردًا عنهم. وما
كان غير قطعي لا يكفر مستحله إلا إذا ثبت عنده وكان غير متأول في
استحلاله، وإنما يكفر جاحد هذا النوع بنحو استحلال حرامه؛ لأنه يكون
مكذبًا للشرع رادًّا له، فمن استحل حكم المحكمة المخالف للشرع المنزل أي
في القرآن يكفر إذا كانت الآية التي خالفها الحكم قطعية الدلالة، أي نصًّا لا
يحتمل التأويل، ومثله ما إذا كانت دلالتها ظنيةً، وكان المستحل يعتقد أن ذلك
هو المراد منها، وأما إذا اعتقد أن ما خالفه الحكم من ظاهرها ليس هو المراد
منها فلا يكفر، فالكفر يناط بتكذيب القرآن أو استحلال مخالفته، فمن خالف
غير مكذب ولا مستحل، ولو لما ترجح عنده أنه حكم الله من غير قطع - كان
عاصيًا يجب عليه التوبة والعمل الصالح الذي يُرجى أن يكون كفارةً لذنبه،
فإن أصر يخشى أن تحيط به خطيئته، ويرين عصيانه على قلبه فيكون من
الخاطئين؛ وأما مخالفة الناس أو المحاكم لآراء الفقهاء الاجتهادية، فالأمر فيه
أهون والعبرة باعتقاد المخالف، فإن كان يعتقد أنه من شرع الله كان عاصيًا.
وأما مسألة الحكم بالشرع فأئمة اليمن الزيدية لا يحكمون إلا بفقه الزيدية،
وأهل نجد لا يحكمون إلا بفقه الحنابلة، ولكن ترْك الحكم بالشرع في
الجنايات وبعض القضايا المدنية طرأ على البلاد الإسلامية التي قلدت المدنية
الأوروبية، وإنما يسأل السائل عنها، وإذا أردنا أن نشرح جواب هذا السؤال
شرحًا تامًّا لا يتم لنا ذلك إلا بتأليف كتاب يكون من أبوابه: استبداد ملوك المسلمين
وأمرائهم بالأحكام وأسباب ذلك، وباب خضوع الأمة لأحكامهم، وأسبابه التي
سهلت عليها قبول أحكامهم المخالفة للشرع، وباب فقه المسلمين ومآخذه، وكون
الفقيه عند سلف المسلمين هو المجتهد، وأسباب ترك الاجتهاد، ومقتضاه: فقدُ
الفقهاء العارفين بأحكام الشرع معرفةً صحيحةً، أي بالدليل، وسبب امتلاء كتب
الفقه بالخلاف والاضطراب في تصحيح الأقوال المنقولة عن أئمة الفقهاء،
وسبب جعل أقوالهم أصولاً للدين يستنبط منها المقلدون الذين ليسوا أهلاً للاستنباط،
وسبب ما فيها من التشديد وسوء التأليف والتعقيد اللفظي والمعنوي، وغير
ذلك من الأمور التي جعلت فهمها واستخراج الحكم الصحيح منها عسرًا.
وباب ما حدث للناس من شئون المعاش والاجتماع والفنون والأحوال
والعادات والعرف التي ترتبت عليها قضايا كثيرة لا نص عليها في أصل
الشريعة ولا تقبل الأمة ولا حكوماتها أن يكون فيها مجتهدون يضعون لها
أحكامًا تتفق مع الأصول المقررة، وباب تغلب الإفرنج على المسلمين
واستيلائهم على أكثر بلادهم استيلاءً رسميًّا تامًّا، ووضعهم الباقي تحت
نفوذهم واضطرارهم حكامه إلى الخضوع لهم فيما يريدونه منهم، ثم ضعف
العلم والدين في الحاكمين والمحكومين وافتتانهم بتقليد الإفرنج في قوانينهم.
واستخراج الجواب من مجموع تلك الأبواب.
فإذا تأمل السائل عناوين هذه الأبواب ولمح بعض ما يدخل فيها من
المسائل علم أن ترك الحكم بالشريعة له أسباب كثيرة، إثمها الأكبر على
الملوك والأمراء والعلماء، وسببها الأكبر: جهل الأمة وتركها لحقوقها بغش
رؤساء الدين والدنيا لها؛ ليتسنى لهم استخدامها واستغلالها، فمتى أرادت
الأمة أن تحكم بشريعتها التي تؤمن بها حكمت بها دون غيرها؛ لأن إرادة الأمة لا
ترد، ولكن متى تريد؟ إن من لا وجود له لا حياة له، ومن لا حياة له لا إرادة له،
فالمسلمون الآن ليسوا أمة فنطالبهم بالأعمال الإرادية التي هي من شأن الأمم
الحية، وإنما هم أفراد متفرقون {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر:
14) لهذا كنا نقول منذ أنشأنا المنار: إن الواجب قبل كل شيء هو تكوين
الأمة.
بل أقول: إن حكم مَحاكم البلاد الإسلامية بالعقاب على الزنا والسكر
والقمار وامتناعها من الحكم بالربا، لا يتوقف على جمع كلمة الأمة الإسلامية
ومطالبتها بذلك بلسان القال والحال، بل يمكن بما هو دون ذلك، أما في البلاد
العثمانية فلو طلب ذلك أكثر المبعوثين لكان قانونًا نافذًا، ولكن كان أكثر
المبعوثين ممن لا يرى ذلك، والذنب على الأمة التي تنتخب من لا تثق بدينه،
وأما في مصر فلو انتدب علماء مصر للمطالبة بذلك يتبعهم السواد الأعظم من
المسلمين، ولا يبقى للحكومة مندوحة من إجابتهم متى قاموا يطالبونها مع علمائهم في
كل مكان، ولكن النفوس ماتت فلا يتجرأ أحد على طلب شيء باسم الدين،
نعم إن الحكومة المصرية لا تقدر على منع الأجانب من بيع الخمر وشرائها،
ولا بغايا الأجانب من فتح مواخير الزنا ولا مصارفهم من الدين بالربا، ولا
المحكمة المختلطة من الحكم به، ومن ذا الذي يطالبها بذلك، وهي تقصر في تنفيذ
مواد القانون المصري التي وضعت للتشديد في أمور الفسق والقمار؛ لأن
الكثيرين من رجال القانون يحبون التساهل في ذلك، بل الأمر أعظم من ذلك،
وكأن السائل لا يعرف من أمر بلاده شيئًا وإلا فسؤاله على غير ظاهره.
وإذا أراد العبرة بمسألة من المسائل المتعلقة بصعوبة الفقه الإسلامي
وجمود التقليد اللذين أشرنا إليهما فليقرأ الرسالة الآتية وتعليقنا عليها، ولو كان
ممن يقرأ المنار من أول صدوره لما احتاج إلى السؤال عن مثل هذا فما من
مسألة من المسائل التي يتوقف عليها فهم جواب هذا السؤال بالتفصيل إلا قد
كتبنا فيها مرارًا، ولكن الناس اتخذوا رؤساء جهالاً مفسدين فصار السواد
الأعظم من المسلمين في حيرة بين ألوف من دعاة الفتنة باسم المدنية أو
الوطنية أو التقاليد الخرافية، وما عساه يوجد من داعٍ إلى الهدى يُنفِّر الناسَ
عنه المضلون بالكذب والبهتان، ويعارضونه بإغراء بعض المنافقين بمثل
دعوته كالذين اتخذوا مسجد الضرار، فالنتيجة لهذه المقدمات أنه لا طمع في
الحكم بالشريعة إلا بتكوين أمة إسلامية تنصب لنفسها حكومة إسلامية، وكم
بيَّنا الوسيلة لهذا التكوين، وجاهدنا الذين لا يزالون يمزقون شمل المسلمين ويحاولون
تكوين أمم منهم، جامعتها الوطن، أو لغة غير لغة الإسلام كأحداث الوطنية بمصر،
والاتحاديين في المملكة العثمانية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إذن سلطاني
عن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي
أو أوامر مهمة في إصلاح القضاء الشرعي [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفى أن محاسن الشريعة المحمدية يسرها وسماحتها ومشيها مع
المصالح في كل شئونها، ولذا كان من أوائل أصولها ودعائم قواعدها أن لا
ضرر ولا ضرار، واتساع الأمر إذا ضاق، ورفع الحرج والعسر، ونحو ذلك من
قوانينها المقرَّرة، ونواميسها المحرَّرة، فاليسر ورفع العسر لازمٌ من لوازمها،
وخاصَّة من خصائصها، كما أن من مَزاياها وفرة المآخذ لأحكامها، وتنوع
المدارك لفروعها، فقد فتح بفضل ذلك أبواب لمخارج لولاها لضاقت الصدور.
وقد رحم الله سبحانه - وله الحمد - هذه الأمة بكثرة مجتهديها وانتشار
فقه أئمتها، وتلقي ذلك خلفًا عن سلف حتى سهل الانتفاع بعلومهم وفروع أصولهم،
والاستمداد من مدوناتهم وفتاويهم، وحتى أصبح أسلوب التفريع في كتب الفقه
والفتاوى خير رائد لتعلم الحكم والقضاء وتوليد الفروع من الأصول، وتعرف الأشباه
والنظائر.
أقول: كتب الفقه، وأعني بها كتب عامة الأئمة المجتهدين وأصحابهم
وأتباعهم رضوان الله عليهم، فهي التي تجلى فيها يسر الدين ورحمته، وكاد
أن لا تقع نازلة إلا ويجد المنقِّب لهم كلامًا في أمرها، هذا إذا نظر إلى النوازل
من الوجهة الفقهية؛ وأما إذا نظر إليها من الوجهة الأصولية فلا ريب أن آيات
الأحكام المنزلة، وأحاديثها المصححة والمحسنة كافية وافية كلها بمنطوقها
ومفهومها، عامة لكل ما جَدَّ ويَجِدُّ.
من هنا كان الخلاف رحمة، أي اختلاف المآخذ وتنوع وجوه المَدَارك
وتعدد مناحي المصالح؛ إذ بذلك صار يتسنى تعرف الأقوى فالأقوى من
الأقوال، والأصلح فالأصلح من الأقضية لمراعاة الأحوال، وارتفع الحرج من
التحريج على الأفكار، واستبان الأحق بالقبول، ولم يبق إلا تطبيق العلم على
العمل.
ومن المعلوم أن كثيرًا من مسائل القضاء الشرعية كمسألة فسخ عقد من
يغيبون غيبة منقطعة إنما يتمشى القضاء بها على بعض المذاهب دون البعض،
فكم من أقضية لا يتيسر القضاء بها الآن على مذهب النائب الشرعي الحنفي
لانحصار قضائه في مذهبه الذي أنيب للحكم به؟ وأما على غير مذهبه فيمكن
القضاء بها إلا أن أمر تنفيذ القضاء بها موقوف على توسيع الإذن للنائب
الحنفي بأن يولي القضاء لمن يقضي بتلك النازلة على مذهبه ممن يراه أهلاً
للقضاء والحكم، فإذا قضى هذا نفذ النائب الأصلي قضاءه فينفذ حينئذ.
وأما الوقائع لهذه القضية التي سهل العمل بها الآن، وكان مغلقًا دونها
أبواب التنفيذ فلا تحصى أيضا، فيعلم الناس أن من الرجال من يغيب عن زوجته
غيبة ينقطع بها خبره، أو يكون لا مال له حاضر ينفق عليها منه أو يعسر
بنفقتها المعروفة فيفر من وجهها ويتعذر الإنفاق عليها حينئذ لفقد مال له تعاش
به أو تراش، فكيف المخرج لهذه البائسة أتبقى؟ على هذه الحالة التي سكرات
الموت أهون منها، أم ترجع إلى ما عسى أن يكون لها في الشرع الأنور فرج
ومخرج؟ لا جرم أن لها فرجًا ومخرجًا، والدين ليس بالجافي، وإن ضاق بها
مذهب فقد يتسع لها مذاهب، وأقوال الأئمة اشتملت على كثير مما فيه سعة
ورحمة.
أنا لا أحصي مذاكراتي مع قضاة دمشق وسواها لحل هذه المعضلة، وإزاحة هذه
المشكلة، بل كثيرًا ما فاتحت بها مبعوثي سورية وغيرها ممن رغبت إليهم في
اقتراح توسيع المجلة بأبواب أخر، لا سيما في بابي النكاح والوقف، بل كلمت مرة
في ذلك شقيق أحد الصدور العظام لما قدم دمشق، كل ذلك لما يحمله قلبي من همِّ
تلك النازلة؛ وما يشغل فكري على المدى من تلمس المَخرج لها.
ما اتفق أني تجولت في ضواحي دمشق ومراكز أقضيتها إلا وشكا لي خيار
نوابها ومن نزلت بهم هذه المسألة ضيق صدورهم بمصابها، فكم يشكو آل الزوجة
غيبة الزوج في بلاد أميركا مثلاً وانقطاع خبره وطول مدة غيبته وإهماله إقامة وكيل
عنه ينفق على زوجته، أو فقدان مال له ينفق عليها، وعدم صبرها على ذلك، لا
سيما مع قلة ذات يدها وفقر آلها؟
أحضروا لي مرة امرأة بهذه الحالة معلقة، وذكروا أنه صار لزوجها
بضع سنين في أمريكا ولا كتاب منه ولا خبر، ولا حوالة بمال، ولا صلة
بحال، ولا أهل له ولا وكيل، وأخذوا يبكون على نضوب ماء حسنها، وقرب
الزهادة فيها، ووكس مهرها، ووجودها بين أترابها كالمعلقة، لا مزوجة ولا
مطلقة، وتجرع مرارة الفراق، وهموم تسيل الدم من المآق، وأنهم كانوا كلما
انتجعوا وجهًا لحل عقدتها لا يجدون، وكان يعتذر لهم النواب بأن فسخ هذا
النكاح سُدَّت دونه الأبواب، حتى يصدر الأمر من المشيخة الإسلامية بالعمل
على فسخه، وإبطاله ونسخه.
أما الآن فقل للنواب والقضاة في عامة المراكز والجهات قد صدر الأمر
تلو الأمر من مقام المشيخة الجليلة مؤيدًا بالإرادة السنية بالقيام بفسخ هذا
النكاح، وإليك ما أذنت به المشيخة الإسلامية الجليلة لعام 1293 وأرسلت
أمرها بذلك للولايات ليحفظ في سجلات محاكمها الشرعية مُعَرَّبًا عن الأصل
بالتركية [1] .
عدد (نمرو) 299:
ورد من قِبَل علماء لواء السليمانية كتاب يستفتون فيه عما إذا كان الحكم
العالي الناصّ بأن للقاضي الحنفي أن يأمر وفقًا للمذهب الشافعي بفسخ عقد من
يغيبون غيبة منقطعة وتزويج زوجاتهم من غيرهم، والمرسل [2] سنة 1272
جوابًا على ما ورد من متصرفية الموصل لا يزال إلى اليوم مستمرًّا أم لا؟
ويرجون في كتابهم بعد الآن تعيين نواب عالمين بالمذهبين لينظر في الدعاوى
الواقعة وتفصل على المذهب الشافعي فيما إذا كان الطرفان شافعيين أو على المذهب
الحنفي فيما إذا كان المتخاصمان حنفيين أو أحدهما فقط حنفيًّا بباعث أن كثيرين
من أهالي السليمانية وكركوك وقرى سنجار وأربيل شافعيون كما أن ولاية بغداد
وأهل المغرب يتمذهبون بالمذهب المالكي، وكذلك معظم أهل نجد حنابلة، وقد
حول كتابهم واستفتاؤهم إلى دار الفتوى، وأجيب عنه بأنه لما كان القضاة الكرام
في زماننا مأمورين بأن يحكموا على المذهب الحنفي، وأنهم ممتنعون من تنفيذ
حكم خلاف مذهبهم، وأن قضاء قاضٍ على خلاف رأيه فيما هو مجتهد فيه لا ينفذ
على القول المفتى به - كان جعل النائب مأذونًا له بأن يحكم بأقوال بقية المذاهب
مخالفًا للقول المفتى به ومؤديًا لتشويش أمور العباد.
غير أن الكتب الفقهية المعتبرة صرحت بأنه يصح شرعًا تفويض ذلك
إلى رجل شافعي ليحكم فيها على المذهب الشافعي؛ لذلك وجب في المسائل
المختلف فيها كالطلاق والنكاح إذا كان المتداعيان شافعيين أن ينتخب المفتي
الشافعي أو من كان أعلم وأفقه علماء البلدة، وكان معروفًا بالعقل وموصوفًا
بالدين والاستقامة، ويفوض إليه ويطلب منه الحكم ثم يقوم بتنفيذه القاضي
الحنفي؛ وأن يجري على هذا الوجه أيضا في المالكي والحنبلي. ولما كان
يفهم من مآل مذكرة (؟) أنه يجب على القضاة الشرعيين المعينين في تلك الأنحاء
أن يستحصلوا في ذلك إذنًا من قبل مستجمع الشرف وملجأ الخلافة وكان ذلك
أوفق للمصلحة، فقد استؤذن من حضرة ظل الله في الأرض أن تجري المعاملات
المذكورة بموجب الفتوى المقدمة فصدرت إرادته - التي من شأنها الإصابة -
آذنة بذلك، وقد سطرنا لكم هذا الرقيم لتهتموا بعد الآن بأن تعملوا بمنطوقه الجليل
عندكم.
في 10 صفر سنة 1293 وفي شباط 1291
…
... شيخ الإسلام
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... حسن فهمي
وإليك صورة الفتوتيين الجليلتين من جانب المشيخة الإسلامية لهذا العهد
تعزيزًا للفتوى المتقدمة، أُرسلتا لقضاء المدينة المنورة غب مراسلته لها بذلك:
عدد (نومرو) 47:
جواب الرسالة البرقية المؤرخة في 25 نيسان سنة 1328:
يُفهم من مؤدى التحريرات القديمة المتضمنة فسخ النكاح، والمؤرخة في 10
صفر سنة 93 وذات العدد التاسع والتسعين بعد المائتين أن للقاضي الحنفي الحق
شرعًا أن يعطي إذنًا للأشخاص المسطرين ضمنها بأن يحكموا وفقًا للمذاهب
الأخرى، وقد بودر بإشعار الكيفية إلى جانب فضيلتكم مع نص دار الفتوى في 9
جمادى الأخرى سنة 1330 وفي 30 مارس سنة 1328.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
شيخ الإسلام
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الرحمن نسي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
عدد (نومرو) 91:
لما كان أشعر بمحررات جوابية مؤرخة في 9 جمادى الآخرة سنة
1330، وذات العدد السابع والأربعين بأن للقاضي الحنفي الحق شرعًا أن يعطى إذنًا
للأشخاص المسطرين ضمنها بأن يحكموا وفقًا للمذاهب الأخرى كما يفهم من
مؤدى التحريرات القديمة المتضمنة فسخ النكاح والمؤرخة في 10 صفر سنة
1293، وذات العدد التاسع والتسعين بعد المائتين أرسل لكم ذلك مطويًّا مع
رسالة برقية مقدَّمة بإمضاء السيد محمد، تحتوي بعض الجمل في ذلك الباب. في
29 رمضان سنة 1330 وفي 29 آغستوس سنة 328.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
شيخ الإسلام
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد جمال الدين
وبعد فإن من يتدبر هذه الفتاوى الجليلة يعلم أنه إذا عمل بها قضاتنا
ونوابنا حينما تمس الحاجة إليها فإنها تُزاح بها آصار وغموم، ولا سيما في
بعض مسائل الزوجية التي لا يقضى بها على مذهب الحنفية، ويسهل الحكم
بها على المذاهب الأخرى.
ومن الصور التي يفسخ بها النكاح على غير مذهب الحنفية إعسار الزوج
بالنفقة أو انقطاع خبره ولا مال له، ففي الصورتين لها فسخ النكاح ففي
(المنهاج وحواشيه) من كتب الشافعية: إن من أعسر بأقل نفقة أو كسوة أو مسكن ولم
تصبر فلها الفسخ إن ثبت إعساره عند قاضٍ بإقراره أو بينة وكذا إذا انقطع
خبره، ولا مال له حاضر، فلها الفسخ كما في كتاب النفقات.
وفي (الإقناع وشرحه) من كتب الحنابلة: أنه متى تعذَّر الإنفاق على
الزوجة بأن لم يكن للزوج مال ولا نقد ولا عرض ولا عقار - فلها الفسخ؛ لتعذر
الإنفاق عليها من ماله كحال الإعسار.
وفي (بداية المجتهد) للإمام ابن رشد من أئمة المالكية ما مثاله: وأما
الإعسار بالنفقة فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبوعبيد وجماعة: يفرق
بينهما.
وكذلك يعتبر عند الحنابلة الشروط التي تحصل عند العقد، وهي ما
يقتضيه العقد أو تنتفع به المرأة فكله لازم للزوج بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه
وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (مقاطع الحقوق عند الشروط) . وتفاصيل
الفروع في المطولات.
لهذا كان من الواجب المحتَّم على نواب المراكز والألوية والأقضية أن
يحتفظوا بهذه الأوامر الشرعية والفتاوى الجليلة في باب الزوجية؛ وليقيدوها
في سجلاتهم وليحافظوا عليها؛ وليحفظوها لمحاكماتهم؛ وليقوموا بها في كل
دعوى أقيمت على هذه الحال؛ ولينفذوا حكمها بما أمر به مشايخ الإسلام
الأعلام، بتفويض ذلك إلى من يقضي بها ثم ينفذون الحكم في الحال؛
وليرحموا من تنزل بهم هذه النازلة من البائسات؛ وليوفوا بما عهد إليهم من
ذلك لا سيما وقد صدرت به الإرادة السنية التي طاعتها في الحق من الواجبات،
ومن خالف من القضاة بعد وضوح المحجة، فقد قامت عليه الحجة، والله حسيبه،
وعليه حسابه. اهـ.
(المنار)
إن حل المشيخة الإسلامية لهذا المشكل بهذه الصورة حسن، يحصل به
المقصود ويكفي للخروج من الحرج، وبه تفك قيود المحاكم الشرعية في
القطر المصري وأكثر أهله شافعية فمالكية، بل يجوز لمن يسمون حنفية تبعا
لآبائهم أن يطلبوا الحكم بمذهب الشافعي أو غيره فيها إذا احتاجوا إلى ذلك في
مثل الواقعة التي أشار إليها ناشر هذه الأوامر وفي غيرها من الوقائع،
والعامي لا مذهب له إلا مذهب مفتيه والحكم يرفع الخلاف.
وكان يمكن أن يحل شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي وغيره المشكلة بغير
ما حلها به؛ ولكنه أراد التفصي من الإذن لقضاة الترك الحنفية بالحكم بمذهب
الشافعي أو غيره؛ لجهلهم بهذه المذاهب؛ ولئلا يضطرب أمر القضاء بتوسيع
مجال الأحكام فيه، وتتناوح أهواء القضاة إن أذن لهم بالحكم بما يرونه
الأصلح من هذه المذاهب في كل واقعة، ولا يمكن جعل الإذن خاصًّا بمسألة
أو مسألتين كفسخ النكاح، ولا تحب حكومة الآستانة أن تولي على كل بلاد
قضاة من أهل المذهب الذي عليه جميع أهلها أو أكثرهم؛ لأن من سياستها
جذب الناس إلى مذهب الدولة، أراد الشيخ التفصي من ذلك وتعليل أمر القضاة
بالحكم بالمذهب الحنفي وعدم تنفيذ غيره، فعلله أولاً بقوله: (وإن قضاء قاضٍ
على خلاف رأيه فيما هو مجتهد فيه لا ينفذ على القول المفتى به) فكان هذا
تعليلا في غير محله؛ لأن القاضي المجتهد غير موجود عندهم، فإن كان موجودًا
وجب أن يولَّى على أن يحكم باجتهاده وحينئذ لا ينفذ ما يحكم به على خلاف رأيه،
وإن وافق المذهب الحنفي، فالحق أنه لا فرق في القضاة المقلدين الذين
ليس لهم رأي في المسائل بين حنفي وشافعي، ومسألة التنفيذ تابعة للسلطة فكل
من عيَّنه السلطان القادر على التنفيذ ينفذ حكمه مهما كان المذهب الذي أمره
بالحكم به، وليست المسألة تعبدية.
وقد كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى طاف على المحاكم
الشرعية مفتشًا لها بإذن الحكومة عقب توليه إفتاء الديار المصرية، وكتب تقريرًا
ضافيًا في طريقة إصلاحها، اقترح فيه عدم حصر القضاء في الحنفية توسعة على
الأمة، واقترح أيضا أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، ولا سيما الأحكام التي
هي من خصائص المحاكم الشرعية؛ ونحن لإيضاح المقام الذي نتكلم فيه نذكر
عبارته، ثم ما أيدناها به في مقدمتنا لذلك التقرير عند طبعه، أما عبارته فهذا
نصها:
الأحكام
(ما عليه العمل من أقوال العلماء في الأحكام الشرعية مذكور في الكتب
مخلوطًا بالخلاف والبحث وطرق الترجيح، ومن رفعت إليه واقعة شرعية قد
يصعب عليه الحكم فيها إلا بعد مراجعته بعض المؤلفات الطويلة، وربما
احتاج إلى مراجعة عدة منها في أبواب مختلفة، وكثير من القضاة لا طاقة لهم
باستخراج الأحكام من هذه المطولات، وفي الحق أن ذلك غير ميسور إلا
لقليل ممن يصح توليته القضاء، اللهم إلا بعد إصلاح طريقة تعليم الفقه في
الجامع الأزهر وإعادتها إلى ما كان عليه السلف الصالح، وذلك أمر بعيد المنال
الآن. نعم يجب أن يكون القاضي مقتدرًا على البحث والمراجعة في المشكلات
أما في كل حكم فذلك من العسر بمكان، وقد كثر الخطأ في أحكام الأوقاف والطلاق
والمهور والوصايا ونحو ذلك لهذا السبب.
ثم إنه توجد شئون للمسلمين تقضي الضرورة بالنظر فيها وبيان الأحكام
التي ترفع الضرر وتقرر العدل ولا تخالف الشرع، بل هي من قوامه كأحكام
الغائب والمفقود الذي ترك مالا، وهل يمكن إقامة وصي يخاصم له ويحفظ ماله ويدفع
الخصوم عنه، وتنفذ الأحكام عليه بالنيابة عنه؟ وهي من المسائل الخلافية في
المذاهب والوقائع فيها كثيرة، ورجال المحاكم فيها مضطربون،
وكالزوجة يتركها زوجها بلا منفق، أو يغيب عنها الغيبة الطويلة وتنقطع
أخباره أو يكون غير معروف المقر ولا أمل في الوصول إليه لو حكم عليه
بالنفقة، أو كان من المحكوم عليه بالأشغال الشاقة أو السجن لمدد طويلة
وتخشى على نفسها الفتنة، أو لا تجد ما تنفق منه ولا من تستدين منه على
حساب الزوج، ومثلها التي يكون زوجها حاضرًا ولكنه لا ينفق عليها وهي
مضطرة لما تنفق منه، وكذلك التي يضارها زوجها في العشرة، فجميع ذلك
مما عمت به البلوى وكثرت فيه الشكوى من جميع أنحاء البلاد، وكثير من
النساء يُبحن أنفسهن افتتانًا أو اضطرارًا للقوت؛ لأنهن لم يجدن السبيل إلى
دفع الضرورة، أو المخلص من الفتنة في المحاكم الشرعية على حالتها التي
هي عليها الآن، أليس من الواجب أن نفزع إلى الشريعة الإسلامية المطهرة؛
لنجد فيها الوسيلة إلى وقاية الأعراض والأنفس، مع أن المحافظة عليهما من
أهم مقاصد الدين الإسلامي والشريعة السمحة، ولا نعدم في نصوصها وسيلة
إلى أهم ما جاءت له.
كل ذلك يجب أن يوضع بين يدي لجنة من العلماء ليستخرجوا من
الأحكام الشرعية ما فيه شفاء لعلل الأمة في جميع أبواب المعاملات خصوصًا
ما لا يمكن النظر فيه لغير المحاكم الشرعية من الأحوال الشخصية والأوقاف
ويكون ما يستخرجونه كتابًا شاملاً لكل ما تمس إليه الحاجة في تلك الأبواب
ويضم إلى ما يستخلص في أبواب المرافعات الشرعية، ويصدر الأمر بأن يكون
عمل القضاة عليه، فإذا أغمض عليهم أمر راجعوا فيه من يكون في وظيفة
إفتاء الحقانية أو الديار المصرية، وعليه أن ينظر فيه بنفسه أو مع لجنة
العلماء على حسب الحاجة. اهـ.
(المنار)
ليعلم القارئ أن هذا الاقتراح لم يُقبل ولم تعمل به الحكومة المصرية على
شدة الحاجة إليه، لا لإقامة العدل فقط بل لحفظ الدين أيضًا، وكان من سبب
ذلك جمود قاضي مصر الذي يجيء من الآستانة وتعصبه، وجمود سائر
القضاة والعلماء وعدم اهتمامهم، ولو أنهم اجتمعوا وألفوا الكتاب الذي اقترحه
الأستاذ الإمام وطالبوا الحكومة بتنفيذه لفعلت. فهذا الجمود والإهمال من
العلماء قد كان أكبر أسباب اقتباس الحكومتين العثمانية والمصرية
للقوانين الأوربية، واتسع التشريع الأوربي بمصر أكثر من الآستانة؛
لأن نفوذ العلماء فيها أضعف، وعنايتهم بشئون الحكومة أقل.
ومما جُعل عقبة في طريق تنفيذ اقتراح المفتي زعمهم أن الحكم لا يجوز
أو لا ينفذ إلا بمذهب السلطان مع أن السلطان أمر قضاة البلاد العثمانية بإنابة
من يحكم بغير مذهبه عند الحاجة وتنفيذ ما يحكمون به، وإنني عند طبع
التقرير سنة 1317 ونشره كتبت له مقدمة بحثت فيها في هذه المسألة بحثًا فقهيًّا أزلت
فيها الشبهة، ومهدت السبيل للعمل بالحنيفية السمحة، فقلت في بيان الأمر الثالث من
الأمور الإصلاحية التي اشتمل عليها التقرير وأعدت نشرها هنا آنفا ما نصه:
الأمر الثالث: أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما في
الأحكام التي هي من خصائص المحاكم الشرعية، يكون سهل العبارة لا خلاف فيه
كما عملت الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية. ولا يكون هذا الكتاب وافيًا
بالغرض واقيًا للمصالح إلا إذا أُخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية
المعتبرة ليكون اختلافهم رحمة للأمة، ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور
ببطلانه كما لا يخفى [3] .
وقد أشير في صفحتي 38 و 40 من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي،
وتوهم بعض الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة، وأن الأحكام بغير مذهب
الحنفية لا تصح ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور:
(1)
جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه: فلو شرط المولَّى وهو
حنفي أو شافعي على من ولاّه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي
حنيفة - فهذا على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام، فهذا
شرط باطل سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم
يجعله شرطًا فيها، وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال: قد قلدتك القضاء
فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر، أو: لا تحكم بمذهب أبي حنيفة
على وجه النهي - كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمن أمرًا أو نهيًا،
ويجوز أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط
المولِّي لذلك قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحًا إن جهل، لكن لا
يصح مع الجهل أن يكون موليًا لا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد
الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق:
تصح الولاية ويبطل الشرط. اهـ المراد منه.
(2)
لا يعدل عن مذهب الحنفية إلا في الأحكام التي لا تنطبق على
مصلحة الناس في هذا العصر، إذا حكم فيها بمذهبهم، وهذه حالة ضرورة أو
حاجة تنزل منزلة الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم؛ لأن الحكم
الذي تمس إليه الحاجة أو يضطر إليه يصير متفقًا عليه.
(3)
إن مذهب الحنفية واسع متشعب جدًّا بمعنى أن فيه كثيرًا من
الأقوال في كل مسألة حتى قال كثير من فقهائه: إنه لا يوجد قول لمجتهد في
مسألة إلا وهو موجود في مذهبنا لأحد أئمتنا أو مشايخنا ولو ضعيفًا، ومن المقرر
عندهم أيضًا أن القول الضعيف يقوى بأمر الإمام بالعمل به، وقد ألفت لجنة من
العلماء مجلة الأحكام العدلية، وأخذوا فيها ببعض الأحكام التي لا تصح في مذهب
الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولكنها صحت في مذهب غيره وقالوا: إنها
وافقت أقوالاً ضعيفة لعلماء الحنفية تقوَّت بأمر السلطان ووجب الحكم بها.
وإذا ألف علماء الأزهر الكتاب الذي اقترحه فضيلة مفتي الديار المصرية
في هذا التقرير ولم يجدوا الوجهين اللذين قبل هذا كافيين لجواز الحكم بموجبه
فيمكن طلب صدور الأمر به من السلطان أو نائبه إذا كان له هذا الحق ولا
يمكن أن مولانا السلطان عبد الحميد أو سمو عزيز مصر الحالي يتوقفان في
أمرٍ رأى أكابر علماء الأزهر أن فيه مصالح المسلمين وحفظ حقوقهم. اهـ.
وأقول الآن: إنه كان يمكنني بيان حل آخر لهذا الإشكال يصح شرعًا لا
سياسة، فتركته اتقاء فتن السياسة، وأما الحل الذي جرت عليه المشيخة
الإسلامية، وأذن به السلطان، فتنفيذه في مصر أسهل من تنفيذه في سائر البلاد
العثمانية؛ لكثرة علماء الشافعية والمالكية هنا، فإلى متى هذا التواني والإهمال
الذي ينفر الناس من الشرع؛ لظنهم أنه هو علة التضييق عليهم ويسيء ظنهم
بالحكومة والمسيطرين عليها؟
لو ألف علماء الأزهر اللجنة التي اقترحها الأستاذ الإمام ووضعت الكتاب
الذي أشار به، وطلبت الحكومة المصرية من شيخ الإسلام في الآستانة الفتوى
بالعمل، ثم أذن السلطان الذي يعبر عنه بالإرادة السلطانية - لكان هذا أرجى ما
يرجى للإجابة ولتجرئة الميالين إلى الإصلاح من علماء باب المشيخة في
الآستانة وغيرهم على تعميم ذلك.
جرت بيني وبين شيخ الإسلام موسى كاظم أفندي مذاكرة في داره عندما كنت
في الآستانة سنة 1318 تناسب ما نحن فيه، فقد أخبرني أنهم يشتغلون بوضع كتاب
في الجنايات وغيرها لأجل محاكم اليمن (وكان اليمانيون صرحوا بأنهم لا يقبلون إلا
الحكم بالشرع دون القوانين) قال شيخ الإسلام: لكن لا بد من إنشاء محكمة تجارية،
وأحسب أنه قال في الحديدة وفي صنعاء، لأن هنالك بعض اليهود وهم لا يرضون
بحكم الشرع؛ لأنه لا يجيز شهادتهم. فقلت له: إذا التزمتم مذهب الحنفية فيما
تضعونه من الأحكام المدنية والشخصية والجزائية فإن كثيرًا من المسلمين لا يسهل
عليهم قبولها مختارين، وأما إذا اقتبستم من جميع كتب الشرع ولم تلتزموا كتب
مذهب واحد فإنه يسهل عليكم وضع كتاب موافق لمصلحة الناس لا يشكو منه مسلم
ولا غير مسلم، وشهادة غير المسلم تجدون لها حلاًّ مرضيًا في بعض الكتب المعتبرة،
وأنا زعيم بأنه ما من مشكلة إلا ويوجد لها حل كحل العقال بهذا الشرط، فقال الشيخ:
وأنا أعتقد هذا ولكن من يستطيع إقناع مشايخ الفتوى خانة به، إلخ، ولنا أن نقول:
إن من لم تقنعه الأقوال والأحاديث تقنعه الأحوال والحوادث رغم أنفه.
العبرة في هذه الحادثة:
لولا مطالبة الجمهور من أهل السليمانية والموصل لحكومة الآستانة بما ذكر
في فتوى شيخ الإسلام من الحكم بمذهب الشافعي الذين ينتمون إليه لما خرجت تلك
الفتوى والإرادة السلطانية بالحكم بها، وكنت سمعت من والدي رحمه الله تعالى أن
السلطان ولَّى على أهل السليمانية قاضيًا شافعيًّا لأنهم كتبوا إليه أنهم لا يقبلون قاضيًا
يحكم بغير مذهبهم الذي يدينون الله به، ولا أدري أكان ذلك على ظاهره كما بلغه أم
هو تكبير لصدور الإرادة بفتوى شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي كما هو شأن الناس في
تكبير الأخبار عند ما ينقلونها من قطر إلى قطر.
وكيفما كانت الحال فالعبرة التي يجب أن يفهمها عامة المسلمين من هذه
الواقعة هي أن الجمهور إذا عرف كيف يطالب الحكومة بالإصلاح فإنها لا
تجد لها مندوحة من إجابته إلى طلبه، وأن استمرار الحكام والعلماء على
شيء وإصرارهم على الجمود عليه باسم الشرع أو السياسة، ليس برهانًا قاطعًا
على كونه حتمًا لا مرد له ولا مصرف عنه، وأنه يمكن تقويم العامة للخاصة
كما يمكن العكس، ولكن آفة العامة الجهل، فهي لا تدري ماذا يجب أن تطلب
من إصلاح أمرها، وآفة الخاصة فساد الأخلاق فهو الذي يحول بينها وبين العمل بما
تعلم من إصلاح أمر الأمة.
إلى الله نشكو مرض عامتنا وخاصتنا جميعًا، وعلاج هذا المرض - أو
الأمراض - يتكلم فيه الناس، فيخلطون الخطأ بالصواب ويعز من يعرفه معرفة
تفصيلية تامة ويعرف كيفية تنفيذه، وهذا العارف العزيز يعز عليه أن يفرغ معرفته
في قلب غيره؛ لأن مسائل العلوم الاجتماعية يدعيها جميع الناس، وقلَّ أن يعرف
حقيقتها منهم أحد.
يقولون: التعليم، ويقولون: التربية، ويقولون: الجرائد والمجلات،
ويقولون: الأحزاب والجمعيات، وأكثرهم لا يعرف حق ذلك من باطله، فنحن
نرى فسادًا كبيرًا دخل على الأمة من قِبل هذه الأشياء، فالعبرة بروح التربية
والتعليم والصحف والأحزاب والجمعيات، لا بصورها وأشكالها، وهذه الروح
لا تكون صالحة مُصلحة إلا إذا كان القائمون بهذه الأشياء صالحين مصلحين،
فهل من السهل أن تعرف الأمة مَن عساه يوجد فيها من هؤلاء الرجال فتكل
أمر الإصلاح إليهم؟ أنَّى ذلك وعوامها جاهلون، وخواصها يخافون من كل
مصلح على جاههم الذي يستغلون به جهل العامة، فينفرون وينفرون منه، وينهون
عنه وينئون عنه.
ليس هذا الموضع بالذي يسع الإطناب في هذا البحث - والمغرور بجهله
المركب الذي يَحسبه علمًا لا يفيده إيجاز ولا إطناب - وإنما نريد أن نذكر المستعد
للفهم والاعتبار بأن دون ما يشتهون من حكومة لهم تحكم بينهم بشريعتهم
عقبات أمنعها على المقتحم جمود المتدينين، وأهونها جحود المتفرنجين؛ لأن هؤلاء
لا يزالون هم الأقلين، وإذا دام هذا الجمود فسيكونون الأكثرين، ويعم سلطان ما
ينسخ به الشرع من القوانين، ويتبع ذلك انحلال عقدة الدين، فأما الوسيلة لحياة
الإسلام وحفظ شرعه فهي واحدة لا تعدد فيها، ولا يمكن الجمع بين الدين الحق
والمدنية الصحيحة بدونها، ألا وهي المبادرة إلى تربية طائفة عظيمة من خيار
نابتة المسلمين؛ ليكونوا دعاة ومرشدين، ينهضون بهذه الأمة، ويخرجون بها من
هذه الغمة، وهذا هو الذي تحاوله جماعة الدعوة والإرشاد، فعلى من كان على
رأيها أن يتعاهدها بالإسعاد والإمداد {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .
_________
(*) نشر هذه الرسالة بهذا العنوان في مجلة المقتبس الشهيرة صديقنا علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي نزيل مصر الآن، ورغب إلينا أن ننشرها في المنار لزيادة الفائدة.
(1)
المنار: أي مترجمًا بالعربية عن الأصل الذي هو بالتركية.
(2)
المرسل صفة للحكم معطوفة، ويفهم منه أن أهل الموصل كانوا استأذنوا من المشيخة الإسلامية أن يحكم بينهم بمذهب الشافعي فأذنت لهم.
(3)
بينت في محاورات المصلح والمقلد نقض قولهم ببطلان التلفيق وكون مذهب الحنفية ملفق من ثلاثة مذاهب.
الكاتب: محمد رشيد رضا
لائحة الإصلاح لولاية بيروت
(وهي اللائحة التي صدقت عليها وقررت السعي في إنفاذها)
…
(الجمعية العمومية الإصلاحية في بيروت)
المؤلفة من ستة وثمانين عضوًا منتخبين انتخابًا قانونيًّا من قِبل المجالس
الملية والرؤساء الروحيين لجميع الطوائف في بيروت ليمثلوا طوائفهم وينوبوا
عنها في تقرير الإصلاح اللازم لولايتهم.
وقد تم التصديق لهذه اللائحة وتفويض إنفاذها إلى لجنة الجمعية العمومية
في الجلسة العامة الثالثة المنعقدة في دار المجلس البلدي في يوم الجمعة الواقع
في 23 صفر سنة 1331 و31 كانون الثاني سنة 1913.
***
مادة أساسية
الحكومة العثمانية حكومة دستورية نيابية
(الإدارة)
المادة الأولى: تقسم إدارة الولاية إلى قسمين: القسم الأول هو المشتمل
على الأعمال المتعلقة بكيان السلطنة وشئونها الأساسية، وهي المسائل
الخارجية والعسكرية والجمارك والبوسته والتلغراف وسن القوانين ووضع
المكوس.
والقسم الثاني: هو المشتمل على الأعمال المحلية المتعلقة بشئون الولاية
الداخلية الخاصة، فكل ما يتعلق بالقسم الأول منوط تقريره وإجراؤه بالحكومة
المركزية، وكل ما يتعلق بالقسم الثاني منوط تقريره بمجلس الولاية العمومي.
***
الوالي - حقوقه ووظائفه
المادة الثانية: للوالي صفتان قانونيتان: الأولى تمثيل الحكومة المركزية،
وبهذه الصفة يتولى إجراء جميع الأعمال المتعلقة بالقسم الأول طبقًا لقرارات
الحكومة المركزية.
والثانية تمثيل حكومة الولاية التي يرأسها، وبهذه الصفة يتولى تنفيذ
جميع الأعمال المتعلقة بالقسم الثاني طبقًا لقرارات المجلس العمومي.
أما حقوق الوالي ووظائفه فهي:
أولاً - تنفيذ قرارات المجلس العمومي.
ثانيًا - الاعتراض على قرارات المجلس العمومي على الشروط الآتي بيانها
في باب الوالي والمجلس العمومي.
ثالثًا - الاطلاع على لوائح المشاريع التي تعدها لجنة المجلس العمومي
لإبداء ملحوظاته عليها قبل تقديمها إلى المجلس.
رابعًا - تعيين المتصرفين والقائمقامين والمديرين بعد عرض أسمائهم
على الحكومة المركزية وفقًا لنظام يضعه المجلس العمومي.
خامسًا: تعيين الطلاب الممتحنين الذين تعرض عليه لجنة الامتحان
أسماءهم لأجل التوظيف.
سادسًا: دعوة المجلس العمومي في الميعاد المعين لاجتماعه، ويمكنه
دعوته لاجتماع فوق العادة بمصادقة لجنة المجلس أو مجلس المستشارين.
* * *
المجلس العمومي - حقوقه ووظائفه
المادة الثالثة: يؤلف في الولاية مجلس عمومي من ثلاثين عضوًا ينتخب
نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من غير المسلمين لمدة أربع سنوات، وهم
ينتخبون منهم رئيسًا لهم بالاقتراع السري، أما سائر الانتخابات العمومية فتبنى
على قاعدة التمثيل النسبي العددي في دوائر الانتخابات.
أما حقوق المجلس العمومي ووظائفه فهي:
أولاً: تقرير جميع أعمال الولاية الداخلية والمذاكرة في ما يعرض عليه
من قِبل الوالي أو لجنة المجلس أو عشرة من أعضائه.
ثانيًا: وضع الأنظمة الداخلية، بشرط أن لا تمس شئون السلطنة الأساسية.
ثالثًا: عقد القروض التي لا تتجاوز قيمتها نصف الواردات المختصة بالولاية.
أما القروض التي تتجاوز هذا المبلغ فيلزم لها مصادقة الحكومة المركزية.
رابعًا: إعطاء رخص لتأليف شركات مساهمة (آنونيم) عثمانية
للمشاريع العمومية النافعة للتجارة والصناعة والزراعة وسائر الشئون
العمرانية داخل الولاية على شرط أن لا تتضمن امتيازًا، أما المشاريع التي
تتضمن امتيازًا فيجب مصادقة الحكومة المركزية عليها. وتخول هذه
الشركات الشخصية المعنوية بمعنى أن يكون لها حق التملك.
خامسًا: تقرير الضمائم الكسورية على المكوس المقررة.
سادسًا: تقرير رواتب موظفي ومستشاري الدوائر التي هي بإدارة حكومة
الولاية.
سابعًا: حق استيضاح الوالي وطلب عزله.
لا يتدخل المجلس العمومي في الشئون السياسية العامة مطلقًا.
* * *
الوالي والمجلس العمومي
المادة الرابعة: قرارات المجلس العمومي نافذة ما لم يعترض عليها
الوالي بمصادقة مجلس المستشارين خلال أسبوع من تاريخ تبليغه إياها؛ فيعيد
المجلس النظر في قراره، وإذا أصرَّ عليه بأكثرية ثلثي الأصوات يكتسب
القرار الصفة القانونية القطعية وعلى الوالي تنفيذه.
* * *
لجنة المجلس العمومي
المادة الخامسة: ينتخب المجلس العمومي بالاقتراع السري لجنة من
أعضائه واحد منهم من كل لواء واثنان من مركز الولاية لمدة سنة واحدة
فتجتمع بإدارة مستشار المجلس العمومي.
أما وظائف اللجنة فهي:
أولاً: مراقبة تنفيذ قرارات المجلس.
ثانيًا: درس المشاريع اللازمة للولاية وإعداد لوائحها.
ثالثًا: تعيين مهندسين اختصاصيين للاستعانة بهم في أعمالها.
رابعًا: حق الاعتراض على الممتحنين الذين تقدم إليها لجنة الامتحان أسماءهم
قبل عرضها على الوالي.
خامسًا: دعوة المجلس العمومي، لاجتماع فوق، العادة باتفاق ثلثي أعضائها
ومصادقة مستشار المجلس.
* * *
الموظفون - تعيينهم وعزلهم
المادة السادسة: الوالي وحاكم الشرع في مركز الولاية والدفتردار
وباشمدير الرسومات وباشمدير البوسطة والتلغراف وقومندان الجندرمة
وضباطها - تعينهم الحكومة المركزية على شرط معرفتهم اللغة العربية معرفة
تامة، ويستثنى من هذا الشرط والي الولاية لمدة خمس سنوات من تاريخ
وضع مواد هذه اللائحة موضع الإجراء.
أما بقية الموظفين فينبغي أن يكونوا من أهالي البلاد ويجري تعيينهم على
الوجه الآتي بيانه:
تعيين الموظفين:
يُمتحن طالبو الوظيفة أمام لجنة مؤلفة من مستشار ورئيس الدائرة التي
يطلبون الدخول فيها، فتقدم لجنة الامتحان اسمي الممتازين منهم إلى لجنة
المجلس العمومي، وبعد مصادقتها يعرضان على الوالي فيعين أحدهما. ولدى
تعيينه يبلغ الوالي اسمه للنظارة المنسوب إليها فيقيد في سجلها محافظة على
حقوق ترقيته وتقاعده، وأما رؤساء العدلية فيعينون وفقًا لنظام يضعه المجلس
العمومي.
عزل الموظفين:
الموظفون المعينون من قبل الولاية عدا رؤساء العدلية تكف يدهم بناء
على طلب المستشار ورئيس الدائرة المنسوبين إليها معًا. وأما رؤساء العدلية
فتكف يدهم بناء على طلب المستشار ومصادقة مجلس المستشارين. وقرار كف اليد
في كلا الحالين ينفذه الوالي، وللموظف المكفوفة يده الحق بمراجعة الوالي في
خلال سبعة أيام من تاريخ تبليغه ذلك إذا كان موظفًا في مركز الولاية وخمسة
عشر يومًا إذا كان خارج المركز. فيحيل الوالي دعواه إلى مجلس المستشارين ليحكم
في وجوب العزل أو عدمه، والموظف الذي يحكم مجلس المستشارين بعزله لا
يجوز استخدامه في دوائر الحكومة ولا يعطى معاش معزولية، أما محاكمة المعزول
جزئِيًّا فتجري في المحاكم العدلية بمذكرة خاصة من المستشار المدعي العمومي.
وأما موظفو الحكومة المركزية فتكف يدهم بطلب المستشار ومصادقة
الوالي الذي يطلب عزلهم بعد حكم مجلس المستشاين عليهم من النظارة
المنسوبين إليها، وينبغي أن يعين خلفهم في مدة ثلاثين يومًا.
وأما المفتشون والمستشارون فيكون عزلهم بطلب الوالي من مجلس
المستشارين وبحكم صادر من هذا المجلس.
وأما الوالي فيكون عزله بناء على قرار المجلس العمومي بأكثرية ثلثي
مجموع أعضائه، فتعين الحكومة المركزية خلفه في مدة أربعين يومًا.
* * *
المستشارون والمفتشون
المادة السابعة: تعين الحكومة المركزية مستشارين من الأجانب على
شرط معرفتهم إحدى اللغات الثلاث: العربية أو التركية أو الفرنسوية، وذلك
للدوائر الآتية في مركز الولاية وهي: الجندرمة والمالية وتلحق بها غرفة
التجارة والبوسطة والتلغراف والجمرك. وتعين أيضا مفتشًا أجنبيًّا عامًّا لكل لواء من
الولاية يخول حق تفتيش أية دائرة كانت في اللواء، ويكون مرجعه مستشار مركز
الولاية الداخلة تلك المسألة المراجع فيها ضمن دائرة اختصاصه.
ويعين المجلس العمومي من الدول التي ترضاها الحكومة المركزية
مستشارين للداوئر الآتية: وهي مجلس الولاية العمومي والعدلية والنافعة
والمعارف والبلدية والبوليس، ويلبس هؤلاء المستشارون الشعار العثماني في
أوقات العمل، أما مدة الاستشارة والتفتيش فخمس عشرة سنة، ويمكن
تجديدها.
* * *
مالية الولاية
المادة الثامنة: وإدارات الولاية على نوعين: أحدهما يعود برمته إلى
مركز السلطنة، وهو حاصلات الجمارك والبوسطة والتلغراف والبدلات
العسكرية، والآخر وهو عدا ما ذكر من الواردات يعود برمته إلى الولاية.
* * *
رواتب الموظفين
المادة التاسعة: ينظم المجلس العمومي ميزانية الولاية السنوية فيدخل فيها
رواتب جميع الموظفين والمستشارين عدا موظفي ومستشاري الجمارك والبوستة
والتلغراف.
* * *
الأراضي المحلولة
المادة العاشرة: تسلم الأراضي المحلولة والأملاك الأميرية الداخلة
ضمن الولاية إلى المجلس العمومي، وتكون برمتها ملكًا للولاية.
* * *
الأوقاف
المادة الحادية عشرة: لا علاقة للإدارة ولا للمجلس العمومي في
الأوقاف، بل يسلم كل وقف إلى مجلس الملة المنسوب إليها؛ لاستخدامه بموجب
قانونها (بناء عليه، جميع أوقاف المسلمين في الولاية تسلم إلى مجلس ملتهم أسوة
بباقي الطوائف) .
* * *
البلديات
المادة الثانية عشرة: البلديات مستقلة بجميع أعمالها، ولها الحق
بوضع الرسوم البلدية بمصادقة المجلس العمومي دون مراجعة الحكومة
المركزية.
* * *
مجلس المستشارين
المادة الثالثة عشرة: يؤلف مجلس يسمى مجلس المستشارين ويكون
أعضاؤه رئيس المجلس العمومي، أو من ينيبه عنه من أعضاء لجنة المجلس،
وجميع مستشاري الدوائر في مركز الولاية.
أما وظائف هذا المجلس فهي:
أولاً: تفسير النظام الذي تضعه الحكومة المركزية بناء على هذه اللائحة
كدستور لحكومة الولاية ومجلسها العمومي.
ثانيًا: تفسير القرارات والأنظمة التي يضعها المجلس العمومي.
ثالثًا: النظر والحكم بناء على طلب الوالي أو أحد المستشارين في كل
خلاف في الرأي يقع بين أحد المستشارين والمجلس العمومي أو إحدى لجانه
أو أية دائرة كانت ويكون حكمه مبرمًا ويرأس هذا المجلس والي الولاية
وينوب عنه في غيابه رئيس المجلس العمومي أو مستشار هذا المجلس.
* * *
اللغة المحلية
المادة الرابعة عشرة: إن اللغة العربية تعتبر اللغة الرسمية في جميع
المعاملات داخل الولاية، وتعتبر أيضًا لغة رسمية كاللغة التركية في مجلسي
النواب والأعيان.
* * *
الخدمة العسكرية
المادة الخامسة عشرة: تخفض الخدمة العسكرية إلى سنتين وتقضى
الخدمة أيام السلم في الولاية، وتنزل قيمة البدل النقدي للنظامية إلى ثلاثين
ليرة عثمانية، وللرديف والاحتياط إلى عشرين ليرة.
…
...
…
... (الجمعية العمومية الإصلاحية في بيروت)
(المنار)
إنني أشكر لإخواني أهل بيروت هذا العمل الإصلاحي الذي أقيم
على أساس الاتفاق بين مسلميهم ونصاراهم، وإن بذل الأولون في استمالة
الآخرين ما لم يبذله غيرهم من الناس؛ وهو أنهم راضون أن تكون قلة
النصارى في الولاية مساوية لكثرة المسلمين في الاشتراك بإدارة حكومتهم، فهذا
برهان عملي قاطع على تساهل من يعدون أشد المسلمين عصبية في سورية، وقد
صدَّق الله، ولله الحمد، حسن ظني في أهل بيروت؛ إذ فضَّلتهم على جميع أهل
بلادنا فيما كتبته عنها عند زيارتي لها بعد إعلان الدستور.
وإذا كنا نعد لهؤلاء المسلمين من المزية سماحهم ببعض حقوقهم لأبناء وطنهم
ونشكر للجميع الوحدة الوطنية والاتفاق؛ فإننا نعد على الجميع سماحهم بأقدس
حقوقهم للمستشارين من الأجانب، فقد منحوهم من الحقوق ما لا يطلب من مثلهم،
وما هو خطر عظيم على مستقبل البلاد، ولم يجعلوا لأنفسهم عليهم سلطة تبيح لهم
مؤاخذتهم إذا أخطأوا ومعاقبتهم إذا أذنبوا، على أن مؤاخذة الضعيف للقوي بالحق
والقانون تكاد تكون متعذرة؛ فكيف إذا كان القوي صاحب سلطة مطلقة لا توجب عليه
للضعيف حقًّا، ولا تفرض عليه مؤاخذة؟
وإنني أشير إلى أهم ما أنكرته من حقوق هؤلاء المستشارين في اللائحة،
لعل إخواننا يتدبرون ذلك فينقحون لائحتهم تنقيحًا يتقون به الخطر ويقطعون
ألسنة المعترضين والمقاومين لهم اتباعًا لأهواء السياسة المركزية العنصرية،
ويقنعون المخالفين لهم بحسن النية؛ لئلا يكون هؤلاء من حزب المقاومين
بالهوى فتقوى بهم مقاومتهم؛ فإن لحسن النية تأثيرًا وإن كان صاحبه مخطئًا،
والحكومة بين الفريقين ترجِّح ما تراه أولى لها، ويرون انتقادي لما أنكرته في
موضع آخر مِن هذا الجزء.
وكنت أودُّ أن لو جروا على طريقة حزب اللامركزية بمصر فلم يقيدوا
أنفسهم بهذه القيود الثقيلة في مسألة المستشارين من الأجانب؛ ولكن يظهر أن
المقترحين لتلك المواد لم يصادفوا من المخالفين لهم فيها من محَّص المسألة وقدر على
الإقناع، ولعمري إن ذلك ليس بالأمر اليسير، والصواب أن يكون طلاب الإصلاح
كافة على رأي واحد في القواعد الإجمالية التي تطلب من الحكومة المركزية؛
لأن التفرق ضعف والاجتماع قوة، وحزب اللامركزية الإدارية في مصر لم يتعرض
في برنامجه للتفصيل؛ لأن الاتفاق عليه متعذر؛ فعسى أن يكون هو الجامع
للجميع.
أنا أقر بأنه لولا وجودي بمصر ووقوفي على دخائل السياسة والإدارة فيها لما
كان هذا القليل الذي أعرفه من تاريخها وتاريخ تونس كان كافيًا للحكم
في هذه المسألة التي عرضت لإخواننا أهل بيروت فكان رأيهم فيها محتاجًا لزيادة
المراجعة والتمحيص.
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1-4)
وبعد، فقد كتبت هذه المقالة، وهي بحث تاريخي عقلي في العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية، تتميمًا للبحث السابق في مسألة الصلب والفداء، راجيًا
من الله أن يوقظ بها الغافلين، ويهدي بها الضالين، وما توفيقي إلا بالله عليه
توكلت وهو رب العرش العظيم، فأقول وبه تعالى وحده أستعين، إنه حسبي
ونعم الوكيل:
اتفقت شهادة علماء النصارى الأقدمين على أن متَّى لم يكتب إنجيله
اليوناني الحالي، وإنما الذي فعله، كما سيتضح لك، هو أنه جمع بعض أقوال
المسيح عليه السلام باللغة العبرية، وأقدم شهادة وصلت إلى النصارى في هذا
الموضوع هي شهادة بابياس (Papias) أسقف هيرابوليس الذي
استشهد في سنة 164 أو 167 ميلادية، فإنه كتب في منتصف القرن الثاني
كتابًا ضخمًا في خمسة مجلدات، فُقِدَ ولم يبقَ منه سوى جمل قليلة نقلها عنه
أوسابيوس (Eusebius) وإيريناوس (Irenaeus) فمن
هذه الجمل التي نقلها أوسابيوس (مات سنة 340 م) قوله: (إن متَّى كتب
مجموعة من الجمل (Logia) باللغة العبرية) يعني بعض كلمات
المسيح باللغة الآرامية (وقد ترجمها كل بحسب طاقته) . اهـ. ومع أن
أوسابيوس المؤرخ وغيره وصفوا بابياس هذا بسخافة العقل وضعف الإدراك؛
فإنه لا يوجد عند النصارى شهادة لكتبهم أقدم وأعظم من شهادته هذه على
ضعفها؛ فهي سندهم الوحيد من عصر المسيح إلى منتصف القرن الثاني.
وفي سنة 180 ميلادية، ذكر إيريناوس الذي مات سنة 202 م أن متى
كتب إنجيلاً باللغة العبرية أو الآرامية ولا ندري لماذا فقدت كتابات متى
العبرية ومن ترجمها ومتى ترجمت؟ وإذا لاحظنا أن الأصل الذي كتبه متى
كان عبارة عن بعض عبارات المسيح وكلماته (Logia) كما هو صريح شهادة
بابياس المذكورة - ظهر لنا أن واحدًا مجهول الاسم أخذ هذه المجموعة وترجمها
وهذَّبها ورتَّبها وأضاف إليها ما شاء من الحوادث وغيرها لربط الجمل بعضها
ببعض حتى صارت هي الإنجيل اليوناني الذي سمي باسم متى فيما بعد، فهل
بمثل هذا الإنجيل يمكننا أن نثق ونحن لا نعلم من ترجمه؟ ومن الذيتوسع فيها؟
وهل الترجمة صحيحة أم محرَّفة؟ وهل الزيادات التاريخية التي فيه صادقة أم كاذبة؟
وأين هو الأصل الذي ترجمه هذا المترجم؟ واعلم أنه لم يروِ أحد من قدمائهم
أن متى كتب إنجيلاً يونانيًّا كما يدّعون الآن بلا برهان.
فهذا هو حال إنجيلهم الأول، ومنه يُعلم أن أول من نص على أن متَّى
كتب إنجيلاً عبرانيًا هو إيريناوس سنة 180 ميلادية أي في أواخر القرن
الثاني، ولا نعلم إن كان الإنجيل اليوناني الحالي مترجمًا عن هذا الذي ذكره
إيريناوس أم لا؟
أما مرقس فإنه جمع بعض أخبار المسيح وأقواله غير مرتبة كما هي
الآن على ما صرح به بابياس المذكور، وعليه فَيَدٌ أخرى رتبت هذا الإنجيل
وزادت فيه، ثم زيد فيه شيئًا فشيئًا حتى صار كما هو الآن، ومن أحدث الزيادات فيه
العبارات المذكورة في آخره (16: 9-20) ولذلك لم توجد في بعض نسخهم
القديمة التي عثروا عليها؛ لأن زيادتها إذ ذاك لم تعم جميع النسخ، ولكنها عمتها
فيما بعد كما هو الحال الآن؛ وهذه العبارات المشار إليها تتضمن ظهور المسيح
لتلاميذه، ودعوة العالم كله للنصرانية، ورفعه إلى السماء ودعوى إعطاء
المؤمنين بالمسيح القدرة على خوارق العادات والمعجزات (عدد 17 و18)
وهي دعوى يردها الحس والعيان وسيأتي البحث فيها.
هذا وقد كتب مرقس ما كتب بعد موت بطرس وبولس كما صرح بذلك
إيريناوس (Irenaeus) فلم يطلع إذًا بطرس على ما كتبه مرقس
بالرواية عنه. ومرقس لم يجتمع بالمسيح ولم يره قط. فأي ثقة لنا بمثل هذا
الإنجيل؟ وهو لم يذكر إلا في أواخر القرن الثاني كإنجيل متى. وأما ما ذكره
بابياس في منتصف هذا القرن فعن مجموعة أخرى من أقوال المسيح وأخباره
غير مرتبة بحسب زمن وقوعها بخلاف هذا الإنجيل فإنه مرتب.
وأما لوقا فإنه أيضًا ليس تلميذًا للمسيح ولم يره وكذلك بولس أستاذه [1] ،
ولا يوجد دليل على أنه كتب إنجيله بالوحي، بل الظاهر من مقدمته أنه كتبه
بالاجتهاد (1: 1-3) ولم يذكر أيضًا هذا الإنجيل صريحًا في القرن الأول
والثاني إلى سنة 180 ميلادية، وقد اعترف مؤلفه أنه وجد قبله أناجيل أخرى
كثيرة، وهو يدل على تأخر زمنه.
وأما إنجيل يوحنا فلم يذكره أحد إلا في أواخر القرن الثاني، وفيه من
الأقوال والآراء ما لم يروِه أحد غيره. مثال ذلك دعواه أن المسيح قال: 8:
58 (قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن) . ولا ندري لماذا لم تذكر أمثال هذه
العبارة في الأناجيل الثلاثة الأخرى؟ فهل كان العالم غير مستعد لهذه التعاليم
قبل كتابة إنجيل يوحنا كما يزعمون؟ مع أن بحث الناس في الكلمة
(Logos) بدأ قبل المسيح بقرون عديدة، فكان الفيلسوف اليوناني زينو
(Zeno) أستاذ الرواقيين من سنة 340 - 260 قبل الميلاد يعتقد أن الكلمة هي
الشيء العامل في الكون والخالق له والكائن فيه، وكان الناس في زمن المسيح
كثيري البحث في مثل هذه المسألة وغيرها، شديدي الشغف بأمثال هذه
الفلسفات اليونانية اليهودية التي نشأت عنها بعض العقائد المسيحية. ولذلك نجد
بحثًا طويلاً في هذه المسألة في كتابات فيلو (Philo) الفيلسوف
اليهودي الإسكندري الذي كان معاصرًا للمسيح، وفي الترجوم الكلداني، وأيضًا في
كتاب الحكمة (Wisdon) المنسوب لسليمان عليه السلام.
فلماذا إذًا لم يذكر بحث الكلمة إلا في مؤلفات يوحنا دون سائر التلاميذ
الآخرين مع أن البحث كان شاغلاً لأذهان الناس قبل المسيح وفي زمنه وبعده؟
فإن كان المسيح حقيقة قال تلك الجملة السابقة أو نحوها، فلماذا تركها
الإنجيليون الآخرون؟ ولماذا لم يرشدهم روح القدس بعد حلوله عليهم إلى جميع
الحق أو أهمه ليدونوه كما دونه يوحنا؟ أم كان الخوف من اليهود هو الذي
منعهم من ذلك كما يزعمون؟ ولماذا لم يمنع هذا الخوف النصارى الأولين من
المهاجرة بعقائدهم حتى نالهم من الاضطهاد والأذى والقتل ما نالهم على ما
يقولون؟ فكيف يمنع الخوف الرسل من بيان الحق للناس ولا يمنع من هم أقل
منهم من المجاهرة به في كل مكان وزمان؟ .
وهناك مسائل أخرى كثيرة مذكورة في هذا الإنجيل الرابع ذكرنا بعضها
سابقًا في مقالة الصلب، ولا أثر لها في الثلاثة الأولى، كدعواه أن يوحنا ذهب
مع بطرس إلى دار رئيس الكهنة وقت محاكمة المسيح ودخوله وحده قبل
بطرس ثم استئذانه له (18: 15 و16) وأنه دون سائر التلاميذ كان واقفًا
عند الصليب مع مريم أم عيسى (19: 26) وذهابه مع بطرس إلى القبر بعد
قيامة المسيح منه (20: 2 و3) وتسميته نفسه في أغلب الأوقات بالتلميذ
الذي يحبه يسوع (21: 20 و13 و13: 23 - 26) إلى غير ذلك مما لم
يرد في الأناجيل الأخرى، وهي كلها مسائل موضوعة من مؤلف هذا الإنجيل
للمبالغة في مدح يوحنا، وتعظيمه وتفضيله عن باقي التلاميذ، ولذلك لم
يروها إنجيل من الأناجيل الأخرى وهي من الأهمية بمكان عظيم لو صحت.
ومما يلاحظه الإنسان أن يوحنا يتكلم في رسائله بصيغة المتكلم، وأما
في هذا الإنجيل فيتكلم دائمًا عن نفسه بصيغة الغيبة. وورد في آخر هذا
الإنجيل (21: 24) هذه العبارة: هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا
ونعلم أن شهادته حق. وهي تشعر بأن بعض أتباع يوحنا في أفسس أخذوا ما
كتبه يوحنا وتوسعوا فيه ومنه ألفوا هذا الإنجيل ونسبوه إليه وعظموه فيه كثيرًا،
واخترعوا له من الحوادث ما لم يذكره غيرهم، ثم قالوا: ونعلم أن شهادته
حق، ولذلك ترى هذا الإنجيل أصح عبارة في اللغة اليونانية من سفر الرؤيا
لمهارة كاتبيه فيها.
ومن غرائب استدلال النصارى على أن لبطرس يدًا في تأليف إنجيل
مرقس، أنه خالٍ من مدح بطرس مع أنه قد خص بطرس بالذكر في أعظم
المقامات (مر 16: 7) وهو إنجيل مختصر وترك تفصيل كثير من المسائل.
وفي مقابلة هذا النقص والاختصار لم يذكر تفاصيل أخرى من الخالية عن
المدح تكون مكتسبة من معلومات بطرس.
ومع ذلك فإذا صح استدلال النصارى هذا في بطرس فكيف ساغ ليوحنا
مدح نفسه كل هذا المدح حتى خص نفسه بحب المسيح أكثر من كل أحد سواه
وذكر لنفسه من الحوادث ما لم يروه أحد غيره.
فالحق أن هذا الإنجيل هو من وضع بعض أتباع يوحنا المتأخرين في
أفسس، كما قلنا؛ ولذلك نجد أن بوليكارب (Polycarp) تلميذ يوحنا
الخصيص لم يشر إلى هذا الإنجيل بكلمة واحدة مع أنه ذكر كثيرًا من العبارات
عن المسيح توجد في الأناجيل الأخرى وكذلك بابياس (Papias) لم
يذكره، وإن كان في يوستينوس (Justin) الشهيد المتوفى نحو سنة
166 ميلادية، يقول: إن سفر الرؤيا هو ليوحنا. لكنه لم يذكر أن يوحنا كتب
هذا الإنجيل مطلقًا وهو ينقل كل ما يكتبه من حياة المسيح عن الكتاب المسمى
(Memoris Of The Apostles)(مذكرات الرسل) تاركًا ذكر جميع هذه
الأناجيل الحالية، وما في كتاباته عن حياة المسيح يختلف كثيرًا في بعض المسائل
عما في إنجيل يوحنا، فلو كانت هذه الأناجيل معروفة في زمنه لنقل عنها
وخصوصًا إنجيل يوحنا فإنه يناسب آراءه، ومع ذلك لم يشر إليه بكلمة
واحدة. وفي هذه المذكرات أشياء لا توجد في الأناجيل الحالية أو تناقضها.
وقد صورت الأناجيل الثلاثة الأول المسيح بأنه ما كان يعلم أن يهوذا
الإسخريوطي سيسلمه (متى 19: 28 ولو22: 30) إلا في آخر حياته،
وأنه ما كان يعلم متى تقوم القيامة [2](مر 13: 32) وأنه كان حزينًا جدًّا؛
ويستغيث بالله مرارًا لينجيه من الصلب (مت 26: 38 - 44 ومر 14:
34 -
41) حتى صار يتصبب عرقًا من كثرة الإلحاح في الدعاء فنزل عليه
ملك من السماء ليقويه (لو 22: 43 و44) وأما الإنجيل الرابع فصوَّره بأنه كان
من أول الأمر يعلم أن يهوذا سيخونه (بو 6: 70 و71) وأنه يعلم كل شيء
(6: 64 و2: 25 و16: 30) وأنه ما كان حزينًا لأجل الصلب (إصحاح
14 -
17) غير أنه اضطرب قليلاً (يو 12: 27) وأنه أسلم نفسه لليهود
طائعًا مختارًا (يو 10: 18) حتى كانوا يسقطون على الأرض من هيبته (18
: 1 - 11) .
وقد ترك أيضًا هذا الإنجيل ذكر تجارب الشيطان له [3] وصيامه أربعين يومًا
وليلة لله تعالى (مت 4: 1-11) وصلواته الكثيرة (لوقا 6: 12 و 11: 1
و9: 18 ومر 6: 46 ومت 14: 23) وصراخه وقت الصلب من الألم (مت 27
: 46) وكذلك ترك قصة شجرة التين [4](مت 21: 18 - 22) ومر 11:
12 -
14) لأنها تؤدي إلى نسبة الجوع والجهل والظلم والعجز للمسيح؛ حيث
إنه لم يعرف إن كان بالشجرة تين أم لا مع أنه لم يكن وقت التين كما ذكر مرقس
(11 - 13) ثم إنه ظلمها وظلم صاحبها أو كل من كان ينتفع بها من السابلة بدعائه
عليها حتى يبست، وكان الأولى به أن يُوجِد التين فيها في غير وقته بقدرته!!
فإن ذلك يكون أفيد وأحكم وأدل على القدرة، أو يشفيها إن كان عدم ثمرها لمرضها!!
لذلك ترك يوحنا هذه القصة كما ترك كل أمثالها خوفًا مما تؤدي إليه، فكل ذلك يدل
على أن هذا الإنجيل كتب في زمن كان فيه الناس قد تغالوا في المسيح ورفعوه لدرجة
تقرب من درجة الأب (الله)[5] فهو مظهر من مظاهر ترقيهم في هذه العقيدة
تدريجيًّا؛ ولذلك اختلف هذا الإنجيل المتأخر عن الأناجيل الثلاثة الأول في هذه
وغيرها وتركها عمدًا لغاية له علمها العلماء من الناس الآن.
فإن قيل: لعل يوحنا أراد أن يكون إنجيله مكملاً للأناجيل الثلاثة الأولى
فلذا لم يذكر ما ذكرته منعًا للتكرار. قلت: إن ما سبق بيانه لا يصلح أن يعتبر
تكميلاً بل هو تناقض بيِّنٌ كما لا يخفى على المتأمل، والظاهر من الأناجيل أن
كُلاًّ منها كتب ليكون كاملاً بنفسه لا مكملاً لغيره، وإلا إذا صح قولكم هذا فكيف ذكر
يوحنا كثيرًا من الحوادث التي ذكرتها الأناجيل الثلاثة مع أنها ليست من الأهمية
بمنزلة الأشياء التي تركها؟ مثال ذلك معجزة إطعام خمسة آلاف رجل قد ذكرها متى
(14: 21) ومرقس (6: 44) ولوقا (9: 14) فكيف بعد ذلك ذكرها يوحنا؟
(6: 10) وكذلك دخول المسيح أورشليم راكبًا حمارًا [6][7] قد ذكروه كلهم (انظر
مت 21: 2 ومر 11: 2 ولو 19: 30 ويو12:14) فإن قيل: إن ذكرهم
لركوب الحمار هو لأنه كان تتميمًا لنبوة زكريا (9: 9) قلت: كذلك كان صراخ
المصلوب: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ تتميمًا للمزمور (22: 1) فلِمَ لم يذكره
يوحنا؟ ألا يدل ذلك على أنه تحاشى ذكر كل ما من شأنه أن يقلل من درجة
المسيح التي يريد رفعه إليها؛ ليجعله كلمة الله القديمة التي وُجدت قبل جميع
المخلوقات، وبها كانت المخلوقات ثم تجسدت وقبلت الصلب بإرادتها لا رغمًا عنها كما يفهم من الأناجيل الأخرى؟ راجع رسالة الصلب (ص 124 و156 و161)
فالحق أن كلاًّ منهم كتب إنجيله على استقلال، وتوخى فيه غاية مخصوصة فذكر
من الحوادث والأقوال ما يلائم غرضه؛ ولو كان مكررًا في الأناجيل الأخرى
فتجدها تتفق في بعض المسائل حتى في لفظها؛ ثم تختلف في الأخرى، حتى
يتعسر أو يتعذر الجمع بينها وما دام هذا حال الأناجيل فهي من الوجهة التاريخية لا
قيمة لها؛ لأنها تابعة للأغراض تدور معها حيث دارت.
وقد ذكرت الأناجيل الثلاثة الأول (مت 19: 17 ومر 10: 18 ولو 18:
19) أن رجلاً نادى عيسى صلى الله عليه وسلم بقوله: أيها المعلم الصالح، فأنكر
المسيح عليه ذلك تواضعًا، وقال له: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا
واحد وهو الله. وأما يوحنا فلم يذكر هذه القصة مطلقًا كعادته، وروى عن المسيح أنه
كان يقول مرارًا (يو 10: 11 و14) أنا هو الراعي الصالح، وأنه قال:
(يو10: 30) أنا والأب واحد، وغير ذلك كثير مما لم تروِه الأناجيل الأخرى،
وإن كانت العبارة الأخيرة التي رواها يوحنا ليست نصًّا في ألوهيته؛ إذ حملها على
المجاز سهل كما هو ظاهر وقد قال المسيح أيضًا نحوها في تلاميذه (يو 17: 14 -
26) إلا أن روح العظمة والكبرياء التي في رواية يوحنا هذه لا تتفق مع روح
التواضع التي تُرى في رواية الآخرين عن المسيح، فإن كان ما رواه يوحنا
عنه (مثل 3: 13 و8 و12: 45: 10 و16: 28 و17: 5) صحيحًا، فمن
أقبح النقص ومن أعظم أسباب تضليل الناس في أمر المسيح أن يترك ذلك الإنجيليون
الثلاثة، وخصوصًا لوقا الذي تعمد أن يكون إنجيله كاملاً وجامعًا لجميع أخبار المسيح
وأقواله المهمة؛ إذ قد تتبع كما يقول عن نفسه (1-3) كل شيء من الأول بتدقيق.
فلا يعقل أن مثل هذا الكاتب المدقق يترك كل أقوال المسيح المهمة في مبحث
ألوهيته؛ ليكملها له يوحنا أو غيره كما يدَّعون، وإن خالفوا قول لوقا نفسه، وهو
عندهم موحى إليه، وكتب إنجيله بالإلهام الإلهي بعد نزول روح القدس عليهم
جميعًا!! فلم إذًا لم يوحَ إليه ما أوحى إلى يوحنا مع أن يوحنا لم يُرد أن يكون إنجيله
كاملاً كلوقا؟ (يو 21: 25) أم نسي الله أن يلهمه هذا المبحث العظيم ولم يعلم أن
ذلك سيكون سببًا في إنكار كثير من الناس ألوهية عيسى في كل زمان ومكان وتكذيبهم
يوحنا فيما رواه وانفرد به دون جميع زملائه الآخرين حتى إن تسمية المسيح
(بالابن الوحيد) و (بالكلمة) بالمعنى الذي أراده يوحنا لم ترد في كتاب من كتب
العهد القديم أو الجديد إلا في المؤلفات المنسوبة إلى هذا الرجل؟! وما هي إلا فلسفة
يهود الإسكندرية وغيرهم سرت إلى المؤلف فطبقها على المسيح، والمسيح براء مما
ينسبه إليه، أو يرويه عنه، كما هو ظاهر من الأناجيل الأخرى.
فإن قيل: لعل لوقا أراد أن يكون إنجيله شخصيًّا؛ لأنه قدمه لثاوفيلس،
وربما أن هذا الرجل كان يعرف ألوهية المسيح وأقواله في هذه المسألة وما كان
يشك فيها؛ فلذا تحاشى لوقا ذكر كل ما يثبتها له من أقوال المسيح؟ قلت: إن الذي
يفهم من إنجيل لوقا نفسه (1: 4) أن ثاوفليس ما كان يجهل شيئًا مما جاء
في هذا الإنجيل، وإنما كان الغرض من كتابته له تثبيته، فلماذا لم يُثَبِّتْهُ لوقا
في عقيدته في لاهوت المسيح، ولم يروِ له ما قاله المسيح نفسه في ذلك كما
ثَبَّته في غيرها من الحوادث؛ وإن كان يعرفها من قبل؟ وأيُّ ضرر إذا ذكر
لوقا أقوال المسيح في ألوهيته؟ حتى إنه تجنب ذكرها [8] في إنجيله بالمرة؟
وسماه إنسانًا ونبيًّا (لو 24: 19) .
ولو فرض أن لوقا لم يذكر إلا ما جهله ثاوفيلس، فهل يُعقل أن هذا
الصديق العزيز للوقا (1: 3) والذي يعلم النصرانية من قبل (لو 1: 4)
كان يجهل أو يشك في وجود عيسى وفي جميع تفاصيل حياته وولادته من العذراء
وفي صلبه وقيامته وصعوده إلى السماء، حتى فصَّل له لوقا كل ذلك تفصيلاً؟
وإذا كان يجهل هذه المسائل أو يشك فيها فكيف لم يشُك في ألوهية المسيح؟
وكيف علم ثاوفيلس أقوال المسيح في ألوهيته ولم يعلم باقي تفاصيل قصته التي
فصَّلها له لوقا، مع أن هذه الأقوال ما كانت منفصلة عن حوادث حياته كما يفهم
من إنجيل يوحنا، ومن علم هذه علم، تلك فلمَ فصَلها لوقا عنها وتركها؟
وإذا كان هذا الإنجيل شخصيًّا فلمَ لم يكتب تلميذ من تلاميذ المسيح إنجيلاً عموميًّا
يكون وافيًا بجميع المسائل؟ ولم إذًا جعلتم إنجيل لوقا عموميًّا ونشرتموه بين
الناس في كل زمان ومكان وهو غير وافٍ بالغرض؟ وأي إنجيل عندكم أوفى
منه؟ وكيف يجب على البشر الإيمان بأكبر معضلة في العالم مخالفة للعقل ولما
نُقل عن جميع أنبياء بني إسرائيل، وهي مسألة ألوهية المسيح - كيف يجب
الإيمان بها لمجرد رواية شخص واحد خالف فيها جميع التلاميذ الآخرين، وأتى بما
لم يأتوا به؟ وهل نسيتم أن من دعا لعبادة غير الله يجب قتله كما في سفر
التثنية (13: 1-5) ولو كان مؤيدًا بالآيات والمعجزات؟ فكيف إذًا يصدق
يوحنا هذا، وهو لم تتواتر عنه أيّ معجزة؟ ولو تواترت لما عافته من
استحقاق القتل بنص التوراة. على أن جميع عباراته في هذه المسألة ليست نصًّا
قاطعًا كما بُين في إحدى الحواشي الماضية، وفي كتابنا (دين الله) ص 76 و77
وهي كلها مما يمكن تأويله.
ولا أدري لِمَ لم يأولوها وباعهم في التأويل أطول من جميع العالمين، ولهم
في التعسف والتكلف آراء تعجز عنها الجن والشياطين؟! فالحق أن لوقا إنما لم
يرو ما رواه يوحنا؛ لأن كاتب إنجيل يوحنا افتجره من عند نفسه افتجارًا وليس
هناك من سبب آخر غير ذلك؛ فلا تجهدوا أنفسكم في انتحال الأعذار والأسباب
ولا تكونوا في كل شيء مكابرين، وعن الحق دائما معرضين.
وهناك مسائل أخرى كثيرة ذكرها علماء النقد تدل على أن كاتب هذا
الإنجيل ليس يوحنا تلميذ المسيح بل ولا يهوديًّا ممن يعرفون أرض فلسطين
ولا هيكل أورشليم ولذلك وقع في الغلط في أثناء وصف تلك البلاد ومعبدها.
فمن ذلك قوله (1: 28) (هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان
يوحنا يُعمِّد) . كما في جميع النسخ القديمة، وهي مدينة لا وجود لها في هذا
المكان، ولم يعرفها أحد حتى ولا أوريجانوس المتوفى نحو سنة 254 ولذلك
أبدلوها في نسخهم الحالية (ببيت عبرة) وقوله (3: 23) (وكان يعمد في عين
نون بقرب ساليم؛ لأنه كان هناك مياه كثيرة) ، وهذا الموضع أيضًا ما عُرف قط
حتى ولا في القرن الثالث، وأقرب مكان يمكن أن يقال: إنه هو المراد، موضع
في شمال السامرة، ولكن الذي يُفهم من إنجيل يوحنا أنه في اليهودية (3: 22
و4: 3) وقوله (4: 5)(فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار) وهي غير
معروفة ويظن بعضهم أنها (شكيم) ويرُد هذا الظن أن بئر يعقوب عند مدخل
الوادي تبعد ميلا ونصف ميل عن شكيم، ولا يعقل أن المرأة السامرية كانت تذهب
هذه المسافة البعيدة لجلب الماء مع أن الماء غزير بالقرب من المدينة (راجع
قاموس بوست مجلد 1ص 592) .
ومن ذلك أيضا قوله: (يو2: 14 و15) (إن البقر والغنم كانت تباع في
هيكل أورشليم) وقد حقق العلماء أنه لم يكن لها موضع هناك بل كانت تباع
في سوق بعيدة عنه خارج أورشليم (راجع كتاب دين الخوارق ص 550)
على أن هذه القصة ذكرت في الأناجيل الأخرى متأخرة عن الزمن الذي ذكره
يوحنا (انظر متى 21: 12 ومر 11: 15 ولو 19: 45) والظاهر أن
الحق معها، فإن المسيح ما كان ليقدم على طرد الباعة وكب الدراهم وقلب
الموائد وضرب الناس بالسوط (يو 2: 15) وهو لا يزال في أول أمره في
السنة الأولى من بعثته قبل أن يعرفه الناس مع أنه كان بعد ذلك يذهب إلى
أورشليم مختفيًا خوفًا من اليهود كما قال يوحنا نفسه (7: 10 - 13 و11:
53 -
57) ثم قصة بِركة بيت حسدا (5: 2 - 9) ومع أن هذه البِركة
الآن غير معروفة مطلقًا، فمن العجيب أن يكون لها هذه الخاصية العظمى
التي ذكرها يوحنا في شفائها للمرضى الذين كانوا ينزلون أولاً فيها بعد
تحريك المَلَك ماءها مباشرة، ولا يذكرها يوسيفوس ولا غيره من المؤرخين في
ذلك العصر؟! فهي قصة كاذبة ولذلك حاول النصارى حذفها من الإنجيل من
قديم الزمان وهذا هو سبب حذفها في كثير من نسخهم القديمة كالسينائية
والفاتيكانية ولكنها موجودة في الإسكندرية وغيرها، فانظر إلى مقدار تصرف
هؤلاء الناس في كتبهم المقدسة.
والخلاصة أن هذه الأناجيل الأربعة ما كانت معروفة إلا في أواخر القرن
الثاني، وكان هناك كتب أخرى كثيرة يستشهد بها المؤلفون غير هذه الأناجيل
كمذكرات الرسل [9] المذكورة سابقًا وإنجيل العبرانيين وإنجيل الأبيونيين
والأناجيل المنسوبة إلى بطرس وتوما والاثني عشر وبرنابا ونيقوديموس
وغيرها كثير، وبعد ذلك صارت تشتهر الأناجيل الأربعة شيئًا فشيئًا حتى جُعلت
هي القانونية ورُفض غيرها الذي ضاع أكثره أوأعدموه تدريجيًّا. ولعل السبب
في بقائها دون غيرها هو أنها أصح عبارة في اللغة اليونانية وأقرب إلى
غرض النصارى في تلك الأزمنة وأقل تناقضًا وخطأً من غيرها، وربما كان
مروجوها بينهم أكثر وأمهر من مروجي تلك وأبرع منهم في حسن السبك.
هذا، وقد امتدت فلسفة اليهود في الكلمة (Logos) أو الحكمة كما
يسميها سفر الأمثال (8: 12) وكتاب الحكمة ليشوع بن سيراخ (24: 9)
امتدت من الإسكندرية إلى آسية الصغرى، وهناك وجدت وسطًا صالحًا
لنموها فامتزجت بآراء بولس وغيره في المسيح في الفداء والخلاص وهي
الآراء التي فشت في النصارى وقتئذ، ومن مجموع ذلك صدرت الكتب
المنسوبة إلى يوحنا من كنيسة أفسس، وهي المدينة التي كان يوحنا مقيمًا فيها؛
ولذلك لم تعرف هذه الكتب (الأناجيل والرسائل) المنسوبة إليه بين
النصارى الأقدمين إلا في آخر القرن الثاني كما سبق.
فإن قيل: إذا كانت الأناجيل الحالية مما كُتب في القرن الثاني، فكيف لم
يحذف النصارى منها أقوال المسيح الدالة على قرب مجيئه وعلى أن ذلك
يكون عقب خراب أورشليم مباشرة (راجع مثلا مت 10: 23 و16: 28
و24: 3 و29 -34 ومر13: 24 - 30) مع أن ذلك لم يتحقق؟ قلت: إن
هذه الأقوال كانت تعزية المسيحيين الكبرى على مصائبهم في هذه الدنيا
(1 تس 4: 18) من عهد المسيح إلى أوائل القرن الثاني بعد موت يوحنا الذي
كانوا يظنون أنه يبقى حيًّا إلى مجيء المسيح عليه السلام (يو 21: 23) فإذا
صح أن عيسى قال شيئًا منها فلا بد أنهم لم يفهموا مراده الحقيقي فنقلوا عبارته
محرفة حتى خرجت عن معناها الأصلي وشاعت بينهم على غير حقيقتها.
والأرجح عندي أن اليهود الذين دخلوا في المسيحية استنتجوا من كتبهم
أن زمن عيسى هو آخر الزمان وأن القيامة قريبة جدًّا منهم كما يفهم من سفر
أشعيا (2: 2) وأرمياء (23: 20) والتكوين (49: 1) ويوثيل 2: 28 -
32) فانتشرت هذه الأقوال بين النصارى الأولين (راجع أيضا أع 2: 16 -
21) وفشت فيهم حتى نسبوها إلى المسيح نفسه، وزعموا أنه قال: إن القيامة
ستقوم عند خراب أورشليم مباشرة (مت 24: 3 و29 - 35) ولذلك قال سفر
الأعمال أيضًا نقلاً عن يوئيل ما يفهم منه أنها ستقوم عقب نزول الروح على
التلاميذ يوم الخمسين (2: 1 - 21) فكان النصارى في القرن الأول وفي
أوائل الثاني يظنون قرب مجيء القيامة فدخلت هذه الأقوال فيما كتب من الأناجيل
إذ ذاك (كأصل إنجيليْ متى ومرقس القديم) وتداولها الناس بينهم واشتهرت عندهم
هذه النبوات وصاروا يرتقبون تحققها يومًا بعد يوم، فلا يُمكن بعد أن كُتبت
وشاعت أن يتلاعبوا فيها؛ وأعين الناس متجهة إليها في ذلك الزمن.
أما كاتب الإنجيل الثالث، وفالظاهر أنه كان في زمن يئس فيه الناس من
تحقق هذه النبوات وأمثالها في القرن الثاني أو الجيل الثاني كما يفهم من مقدمة
إنجيله، فلذا شك في رواية ألفاظها الواردة في أصل الإنجيل الأول والثاني
وحور عباراتها تحويلاً يجعلها أصلح للتأويل مما في الإنجيلين الأولين، ولم
يذكر الأقوال الأخرى الواردة في إنجيل متى التي أشرنا إليها هنا (راجع لو
21: 7 و25 - 32) تجد عبارته مخففة في هذا الموضع عن سابقيه ولم
يمنعه اشتهار ألفاظها الواردة في الأناجيل التي قبله وشيوعها بين الناس
واعتقادهم لها من هذا التحوير؛ لجزمه بخطأ روايتها، وإلا لكان المسيح نفسه
هو المخطئ فيها، وهو غير جائز طبعًا.
وأما الإنجيل الرابع، فتركها بالمرة وهو مما يدل على شدة تأخر زمنه
وتحقق الناس من عدم صحتها ويأسهم منها يأسًا تامًّا [10] .
ولا يلزم من اشتهار هذه الأفكار والنبوات بين النصارى في القرن الأول
كله والثاني أن غيرها مما في الإنجيل المنسوب لمتى ومرقس كان شهيرًا
شهرتها ومعروفًا بينهم مثلها. فكاتباهما وإن تحاشيا تحريفها أو تحويرها
لشهرتها، إلا أن ذلك لا يضمن لنا صحة رواية الأشياء الأخرى التي ليست
شهيرة بين الناس شهرة هذه النبوات. وهذا وعدم علم بابياس المتوفى نحو
سنة 164 - 167 ميلادية بهذين الإنجيلين (متى ومرقس) بحالتهما الحالية - كما
بيَّنا - يدل على أنهما لم يكونا بهذه الحالة في زمنه أو لم يشتهرا بها إذ ذاك، بل
كان إنجيل متى عبارة عن بعض أقوال عن المسيح باللغة العبرية وإنجيل
مرقس عبارة عن مجموعة من أخبار المسيح وأقواله باللغة اليونانية إلا أنها
غير مرتبة كما سبق بيانه؛ وربما كان الذي منع التلاميذ من الاعتناء بكتابة
الإنجيل هو توهمهم قرب انتهاء العالم، فإذا صح أن نبوات يوم القيامة كانت
في أصل هذين الإنجيلين فمترجم الأول ومرتب الثاني لم يجسرا على تحويرها
أو تحريفها نظرًا لشهرتها بين الناس أو لظنهما أنها ربما تحققت عن قريب ولكن
هذا السبب لم يكن عند كاتب الإنجيل الثالث كافيًا لمنعه من إصلاح ما اعتقد
خطأه لتأخر زمنه ويأسه، وخصوصًا لأنه كان كثير الاجتهاد والتدقيق كما هو
صريح مقدمته ولم يقصد بكتابة إنجيله أن يكون لجميع الناس بل لشخص
صديق له يسمى ثاوفيلس فلا يهمه إن قبله الناس منه أو لم يقبلوه ما دام مقتنعًا
بصحة ما استنتجه وكتبه وصدقه فيه صاحبه.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الدكتور
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد توفيق صدقي
البقية تأتي
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هذا إذا صح أن كاتب الإنجيل هو لوقا تلميذ بولس (فل 24) لا واحدًا آخر غيره.
(2)
حاشية: إذا كان المسيح بمقتضى هذه العبارة لا يعلم متى تقوم الساعة باعترافه هذا، فكيف يكون هو ديَّان الخلائق يوم القيامة؟ وقوله فيها: إن الابن لا يعلمها، نص على أنه ليس بإله، فإن قيل: لعله يريد الإنسان يسوع، قلت: ولِمَ لَمْ يُعبِّر بذلك ليكون قوله خاليًا من اللبس والتضليل؟ وإذا كان أقنوم الابن متحدًا بناسوته فكيف لم يعلم الناسوت ما يعلمه اللاهوت، وإلا فما معنى هذا الاتحاد؟ وجاء أيضًا في إنجيل يوحنا أن المسيح لما أشار عليه إخوته بالذهاب إلى أورشليم لأجل العيد قال لهم (يو 7: 8) أنا لست أصعد بعدُ إلى هذا العيد، ولكن لما مضى إخوته إلى العيد مضى هو أيضًا بعدهم متخفيًا (يو 7: 10) فعبارته هذه لهم إما أنها كذب وغش؛ ولذلك ذهب بعدها متخفيًا؛ وإما كان قالها باعتبار الناسوت، (وهو الجواب الذي صدعوا آذاننا به) قلت: وكيف لم يهدِه اللاهوت المتحد به إلى البت في عمل صغير كهذا وتركه يبدي كل هذا التردد والجهل؟ وما فائدة اللاهوت له
إذًا؟ وفي أي شيء أفاد؟ ولم اتحد به الله وهو لم يصلب معه بل تركه، ولذلك قال: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ ولم تعبدون هذا الناسوت العاجز الجاهل مع اللاهوت ولم تفرقوا بينهما؟ فإن قيل: ولماذا ذكر يوحنا هذه القصة وهي منافية لمبدئه في كتابه تاريخ المسيح كما تدَّعي؟ قلت: لعله لم يدرك ما تؤدي إليه أو ربما أنه كان يستحسن مثل هذا التضليل ويُعجب بحيلة المسيح هذه وتَخفِّيه حتى عن أهله، ويرى أن ذلك مهارة منه وسياسة عالية، وما درى أنها كذب مذموم ولا مسوغ له
مطلقًا، ولا يصح صدوره من ابن الله! ! .
(3)
قصة تجارب الشيطان هذه للمسيح تشبه قصة قديمة للهنود في (بوذا) شبهًا يبعد أن يكون منشأه الصدفة والاتفاق لا القياس والنسج عليها ومما تمتاز به قصة الأناجيل قولها (مت: 4: 8 ولو4:5) إن الشيطان بعد أن أخذه إلى أورشليم (كما في متى عدد 5 و8) أو قبل ذلك 0 كما في لوقا عدد 5 و9) أرى المسيح العالم كله من جبل عال جدًّا، فكيف يمكن ذلك والأرض كروية، وأين هذا الجبل الذي يرى منه العالم كله؟ فالحق أن كتبة الإنجيل كباقي أهل زمنهم كانوا يتوهمون أن العالم عبارة عن القطعة المحدودة التي عرفوها إذ ذاك من الأرض (راجع أيضًا لوقا 2: 1) وملكها الرومان، ولما تنبه بعض النصارى إلى ذلك الغلط حذفوا من إنجيل لوقا قوله (في عدد 5)(إلى جبل عال) فلم يوجد في بعض النسخ القديمة، وربما كان هذا الإنجيل عند المحرفين له أكثر استعمالاً من غيره أو كان تداوله قليلاً عند غيرهم فلذا أقدموا على تحريفه في ذلك دون إنجيل متى، ولا ندري كيف تجاسر الشيطان على مثل هذا العمل مع الهه حتى صار يحمله من مكان إلى مكان طائرًا به في الهواء ويمتحنه مرات ويعده بإعطائه جميع ممالك المسكونة إذا هو سجد له، فهل نسي الشيطان أن هذا الذي يجربه هو الذي أعطاه كل هذه السلطة (لو 4: 6) وأنه هو خالق السموات والأرضين ورب العالمين؟ فكيف نسي الشيطان ذلك؟ وما الحكمة في رضوخ إلههم للشيطان إلى هذا الحد، وتجرئه عليه في كل ذلك؟ (راجع أيضا ص109 و110) من رسالة الصلب والفداء.
(4)
قد ناقض مرقس متى في وقت ملاحظة التلاميذ يبس هذه الشجرة، فجعله متى في الحال (21: 19 و20) وجعله مرقس في صباح اليوم التالي (11: 20) فيجوز أن الشجرة كانت مريضة من قبل وآخذة في الذبول وتم ذلك أو كاد بعد مضي 24 ساعة (مت عدد 18 ومر عدد 20) فتبين لهم حينئذ يبسها جليًّا. فكان الواجب أن يذكر يوحنا وهو - كما يقولون - المكمل لنقص الأناجيل التي قبله هذه القصة من جديد لرفع تناقضها، وبيان إن كان فيها شيء من الإعجاز أم لا، ولكن كيف يفعل ذلك وفائدتها لا تذكر في جانب ما تجلبه عليه من الضرر العظيم كما بُين في المتن.
(5)
حاشية: مع ذلك ترى أن إنجيل يوحنا لا يزال ينص على أن الابن أقل من الأب ولذلك يقول عن لسان الابن (عيسى)(5: 30) : (أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا كما أسمع أدين ودينونتي عادلة؛ لأني لا أصلب في مشيئتي بل مشيئة الأب الذي أرسلني) وقال (5: 22)(لأن الأب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن) وقال (8: 28)(ولست أفعل شيئًا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي) وقال (14: 24) و (الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني)، وقال (14: 28) (لأن أبي أعظم مني) وقال (12: 49)(لأني لم أتكلم من نفسي لكن الأب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم) وهي كلها نصوص صريحة على عدم مساواته تمامًا لله تعالى، وأن الله تعالى هو الذي أعطاه القدرة على كل شيء والكلام والعلم
والدينونة، وأنه أعظم منه، وأن المسيح إنما يعمل مشيئته تعالى وأن الله هو إلهه أيضًا كما هو إله للناس (يو 20: 17) أما قول هذا الإنجيل (1: 1)(والكلمة عند الله، وكان الكلمة الله) فهو صريح في أن الكلمة غير الله، وإنما صارت إلهًا للعالم كما صار موسى إلهًا لفرعون على ما يقول سفر الخروج (7: 1) راجع أيضًا قول بطرس في سفر الأعمال بعد نزول روح القدس عليهم (إن الله جعل يسوع ربًا ومسيحًا (أع 2: 36) فلفظ (كان) في الإنجيل بمعنى (صار) كقول القرآن الشريف {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران: 49) أى: يصير، فإنجيل يوحنا كباقي أسفار العهد الجديد بجعل الابن مخلوقًا قبل كل شيء (رؤ 3: 14 وكو 1: 15 وقارنهما بيع 1: 18) ولا يساويه بالله تعالى رومية (1: 4) أما هذه المساواة فقال بها النصارى بعد زمن تأليف العهد الجديد في وقت كثرت فيه فرقهم ومذاهبهم واختلفت في هذه المسألة؛ فلذا لم يمكنهم حذف هذه الأقوال المنافية للمساواة التامة من العهد الجديد لوجوده إذ ذاك عند طوائف أخرى تعرف هذه الأقوال فيه وتتمسك بها ضد الآخرين المخالفين لهم، ولكن بعد انعقاد المجميع النيقاوي 325 ميلادية وحكمه على أتباع أريوس الموحدين بالكفر وبالزندقة فشت بين جمهورهم عقيدة مساواة الابن بالأب في كل شيء وأولوا هذه الأقوال وغيرها. إذ بعد عدم إمكانهم حذفها كلها لا مناص لهم من تأويلها؛ وذلك كله لميل الجمهور في ذلك الزمن للشرك والوثنية والعقائد الرومانية والفلسفة اليونانية واليهودية وغيرها، ومع ذلك فقد أجروا بعض التحريفات راجت في نسخهم لإثبات ألوهية المسيح ومساواته بالله ولم يدركها أحد في تلك الأزمنة لعدم حفظهم لكتبهم في صدورهم ولانتشار الجهل بينهم إذ ذاك وقلة نسخهم ووجودها عند رؤسائهم فقط، وقد عُرفت بعض هذه الأشياء الآن بالمراجعة والبحث في النسخ القديمة والحديثة، فمن ذلك إبدال لفظ (الرب) بالمسيح في (1 كو 10: 9) وزيادة قولهم (بيسوع المسيح) في (أف 3: 9) وزيادة كلمتي البداية والنهاية في (رؤ 1: 8) وكلمات أنا هو الألف والياء الأول والآخر في (رؤ 1: 11) وزيادة عقيدة التثليث في (1 يو 5: 7 و8) وزيادة لفظ الله في (يه 4 و1 تي 3: 16 وأع 20: 28) إلخ إلخ، فكيف بمثل نقل هؤلاء الناس يثق الإنسان؟ وتلاعبهم بكتبهم أصبح محققًا معروفًا؟ راجع أيضا كتاب (دين الله) ص 76 و77 ورسالة الصلب ص 162.
(6)
من المضحكات المخجلات المتعلقة بمسألة ركوب الحمار هذه ما يأتي: قال زكريا في كتابه (9: 9 و10) ابتهجي يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هو ذا مَلِكك يأتي إليك وهو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان وأقطع المركبة من أفرايم، والفرس من أورشليم، وتقطع قوس الحرب، ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض) إلخ، وعدم انطباق هذه النبوة على المسيح ظاهر؛ فإنه لم يكن مَلِكًا لأورشليم ولا هو منصور ولم يمتد ملكه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، ومنذ وجوده إلى الآن استعرت نيران الحروب ولم تقطع قوس الحرب، وتشتت اليهود بعده بقليل وخربت أورشليم ولم يتكلم بالسلام بل قال (مت 10: 34) (ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا) وعقب دخوله أورشليم أخذه اليهود وأهانوه وصلبوه وقتلوه كما زعموا، فكيف تنطبق هذه النبوة عليه؟ ولكن أبي الإنجيليون الأربعة إلا تطبيقها عليه؛ لأنهم إن لم يفعلوا ذلك لَما انطبقت على أحد مطلقًا؛ لأنه على زعمهم بعد عيسى مباشرة لم يبق إلا مجيء القيامة في عصرهم!! فانظر الآن كيف طبقوها عليه: قول زكريا وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان) مفهومه أن الحمار هو عين الجحش ابن الأتان على طريق البدل المطابق، وكذلك فهم مرقس ولوقا ويوحنا (مر 11: 7 ولو 19: 35 ويو 12: 15) ولكن متى فهم أن الحمار غير الجحش ابن الأتان فقال (21: 2) أن المسيح قال لاثنين من تلاميذه:
(اذهبا إلى القرية التي أمامكما فللوقت تجدان أتانًا مربوطة وجحشًا معها فحلاهما وائتياني بهما؛ وإن قال لكما أحد شيئا فقولا الرب محتاج إليهما!! فللوقت يرسلهما) ثم ذكر متى هنا عبارة زكريا السابقة، فذهب التلميذان وفعلا كما أمرهما يسوع وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما وفي بعض النسخ (أجلسوه عليهما) ولا ندري كيف جلس يسوع أو جلس على الأتان والجحش معا!! وما الحكمة في ذلك؟ وكيف لم يخف أن يقع من فوقهما مع أن ركوب واحد منهما سهل وهو المعتاد؟ ولكن عدم فهم كاتب إنجيل متى أوقعه في هذا الهذيان، ولم يُبالِ بمخالفة العقل والعادة في سبيل تطبيق هذه النبوة على المسيح كما هي عادتهم فاخترع قصة وجود الأتان والجحش معها وأَرَكَب المسيح عليهما معًا، وكيف سَكَتَ أصحاب الأتان والجحش (مر 11: 5 ولو 19: 33) عن منع التلميذين من حَلِّهما وأخذهما وهم لا يعرفونهما، بل ربما لا يعرفون سيدهما المسيح نفسه؟ وكيف تأكد أنهما رسولاه حقيقة لا لصان؟ وكيف يركب المسيح على جحش لم يجلس عليه أحد من الناس قط، كما قال مرقس ولوقا؟ فلعلَّه فعل ذلك بمعجزة!!!
فمن هذه القصة الصغيرة يتضح لك صدق قولنا مرارًا في كتبة الأناجيل أنه يعرفون نبوات العهد القديم أولاً ثم يصطنعون منها حوادث للمسيح ويدَّعون أنها وقعت فعلاً تتميمًا لتلك النبوات القديمة، ولا يبالون مهما أوقعهم ذلك في الغلط ومخالفة العقل والعادة، فهل يصح اعتبار هذه الأناجيل تواريخ صحيحة حرة وهي في كل ما كتب فيها متأثرة بنبوات اليهود عن مسيحهم الذي كانوا ينتظرونه؟ وإذا سلم أن المسيح فعل ما حكاه متى وركب الأتان والجحش معًا فما الذي يمنع مُنكري نبوته من القول بأنه إنما أجهد نفسه وخالف العادة رغبة منه في تطبيق نبوة زكريا عليه لتصح دعواه بأنه هو المسيح المنتظر، وإن لم يقدر على تطبيق باقي النبوة عليه لخروجها عن استطاعته؛ إذ ليس في وسعه أن يكون مَلِكا ولا منصورًا ولا قاطعًا لقوس الحروب، ولا له مُلْك يمتد من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، فما قدر عليه وهو ركوب الأتان والجحش معًا فعله وما لم يقدر عليه سلم الأمر لأتباعه ليقولوا فيه ما شاءوا والسلام.
هذا شيء مما يقوله ملحدوالنصارى في أوربة الآن وغيره كثير جدًّا جدًّا لا يحصى ولولا القرآن ومحمد الذي يكرهه النصارى ويحاربونه لقال (300000000) من البشر في المسيح أضعاف أضعاف ما يقوله ملحدو أتباعه واليهود وغيرهم فشكرًا لله ولرسوله على أدبه العالي في المسيح الذي أدّب به المسلمين، والحمد لله رب العالمين!!! .
(7)
لاحظ أن إنجيل لوقا مع أنه أوفى الأناجيل وأدقها وأصحها هو أيضًا أبعدها عن عقيدة النصارى في ألوهية المسيح، حيث إنه اعتبره إنسانًا من أول الأمر إلى آخره، انظر مثلا (لو 22: 43 و 24: 19) ولم يطلق عليه لفظ الرب، وهو في جميع اللغات لقب تعظيم بمعنى السيد والمُعلِّم ونحو
ذلك، كما في (يو 1: 38 ومت 23: 7 و8) لم يطلقه عليه إلا مرات قليلة وظهر لهم أن بعضها زيد فيه تحريفًا في الأزمنة الأولى كما في إصحاح (7: 31 و22: 31) منه وليس هذا فقط بل لم يجعل هذا الإنجيل المسيح ديانًا للخلائق جميعًا مُجازيًا لهم بحسب أعمالهم، كما فعل متى وغيره، ولم يقل إن الملائكة هي ملائكة المسيح (قارن متى 16: 27 و28 و25: 32 و33 و24: 31) بلوقا 9: 26: 27 و21: 27) ولم يذكر عبارة متى (28: 19) التي اتخذها النصارى إشارة إلى ثالوثهم، قارن أيضًا كلمات الوداع في إنجيل (متى 28: 18-20) بها في لوقا (24: 46 - 53) فأقرب الأناجيل لعقيدة النصارى هو إنجيل يوحنا ويليه متى ثم مرقس ثم لوقا، قارن أيضا قول (متى 13: 41) (يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم) قارنه بقول لوقا (12: 8 و9)(وأقول لكم: كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله، ومن أنكرني قدام الناس ينكر قدام ملائكة الله)، ثم راجع سفر الأعمال وهو من تأليف لوقا أيضًا عندهم تَرَه يقول فيه عن لسان بولس أستاذه:(إن المسيح إنسان وإن الله هو الذي أقامه من الأموات)(أع 17: 31) انظر أيضا (أع 2: 24) وأما قول بولس في سفر الأعمال هذا (17: 31)(إن الله سيدين المسكونة بهذا الرجل) يعني المسيح، فهو لا يدل على أنه كان يعتقد ألوهيته لأنه سماه في هذه العبارة نفسها رجلاً، وقال:(إن الله هو الذي أقامه من الأموات) راجع أقواله في المسيح في (1 تي 2: 5 وأف 1: 17 ورو 5: 15 و1 كو 3: 23 وغل 4: 14) وأيضًا فإن تلاميذ المسيح أنفسهم سيدينون بحسب هذه الأناجيل أسباط إسرائيل الاثني عشر انظر مثلاً (مت 19: 28) وقال عيسى لتلاميذه (مت 18: 18)(الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء) ولم يقل أحد من النصارى بألوهيتهم، ولو أنهم كثيرًا ما سجدوا لصورهم ولصور غيرهم من القديسين والقديسات في كنائسهم. وهذه العبارة الأخيرة ونحوها كانت منشأ سلطة الباباوات العظيمة، وربما أنهم هم الذين اخترعوها ونسبوها لعيسى، وهو منها ومن أمثالها بريء. ومما يُشعر بأن هذه العبارة هي من اختراع رؤساء النصرانية القدماء قولهم عن لسان المسيح قبلها (مت 18: 17)
(وإن لم يسمع (أي من أخطأ إلى أخيه) منهم أي من الشهود) فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار) فأي كنيسة كانت في ذلك الوقت يتحاكم إليها تلاميذ المسيح وهو لا يزال بينهم؟ فالحق أن هذه العبارة مما أُضيف إلى الإنجيل بعد المسيح بمدة، ويؤيد ذلك جواب المسيح الوارد في إنجيل متى (20: 23) لأم ابني زبدي بأنه لا يقدر أن يعطي شيئًا إلا لمن أراده الله، فكيف إذًا يتصرف تلاميذه في الكون كما أرادوا؟ وقال بولس: إنه هو والقديسين وسائر النصارى سيدينون العالم والملائكة، فهل هؤلاء كلهم آلهة؟ انظر (1 كو 6: 2 و3) .
(8)
ومن ذلك يعلم أن المسيح ليس وحده عندهم ديانًا للخلائق بل هو أكبرهم وأعظمهم فهو كقاضي القضاة يوم القيامة، وإذا لاحظت أن اليهود كانوا يسمون قضاة الدنيا (آلهة) وبالعبرية (ألوهيم) وهذه اللفظة تطلق على المفرد وعلى الجمع، فلذا كانت تطلق على الله تعالى وعلى عظماء البشر أو قضاتهم كما يفهم من (مز 82: 6 صمو 28: 13 ويو 10: 34 - 37) راجع أيضا (خر 21: 6 و22: 8 و9) وربما كان إطلاقها على الله - وهي جمع - من بقايا أثر الشرك القديم والوثنية في اللغة العبرية، إذا لاحظت ذلك وتذكرت أن بولس ويوحنا كانا يهوديين صميمين لم تستغرب تسميتهما المسيح، وهو عندهم ديان القيامة الأعظم بإذن الله (يو 5: 27) مرة أو مرتين (إلهًا) كما في
(رومية 9: 5 و1 يو 5: 20) بعد أن وصفاه بصفات الحوادث مرارًا ونصَّا على أنه أول مخلوقات الله تعالى (كو 1: 15 ورؤ 3: 14) على أن عبارة بولس الواردة في (رومية 9: 5) اختلف فيها المفسرون والمترجمون، فيرى بعضهم أن ما بعد قوله (حسب الجسد) جملة مستأنفة ومعناها هكذا - ومن على الكل هو الله مبارك إلى الأبد) أو (ومن هو الله على الكل يبارك إلى الأبد) راجع الترجمة الانكليزية المنقحة Revised version ومما تقدم يعلم أن إدانة الخلائق والتصرف في الكون ليس عندهم قاصرًا على الله تعالى وحده كما هي العقيدة الصحيحة في دين التوحيد الحقيقي القائل كتابه:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19){مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ] مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا [ (الكهف: 26) وقال مخاطبًا محمدًا صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) وقال:
…
] فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [فأين هذه العقائد العالية من عقائد الشرك والتشبيه والتجسيم؟ وجاء في سفر التثنية وأوامر التوحيد والتنزيه فيه وفي غيره من كتب العهد القديم كثيرة جدًّا قوله (32: 21) هم أغاروني بما ليس إلهًا، أغاظوني بأباطيلهم فأنا أغيرهم بما ليس شعبًا، بأمة غبية أغيظهم، وهي الأمة الإسلامية الناشئة بين الأميين الجاهلين) مصداقًا لقوله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} (الأعراف: 156-157) إلى آخر الآيات ثم قال سفر التثنية (32: 34) أليس ذلك مكنونًا عندي مختومًا عليه في خزائني 35 لي النقمة والجزاء في وقت تزل فيه أقدامهم. إن يوم هلاكهم قريب والمهيآت لهم مسرعة 36 لأن الرب يدين شعبه، وعلى عبيده يشفق حين يرى أن اليد قد مضت ولم يبق محجوز ولا مطلق 37 يقول: أين آلهتهم الصخرة 38 التي التجأوا إليها التي كانت تأكل شحم ذبائحهم وتشرب خمر سكائبهم. لتقمْ وتساعدكم وتكن عليكم حماية 39 انظروا الآن أنا أنا هو، وليس إله معي، أنا أُميت وأُحيي، سحقت، وإني أشفي وليس من يدي مخلص 40 إني أرفع إلى السماء يدي، وأقول: حيّ أنا إلى الأبد، إذا سننت سيفي البارق وأمسَكتْ بالقضاء يدي، أرد نقمة على أضدادي وأجازي مبغضيَّ) فقارن هذه العبارات السامية الجليلة بأوهام النصارى ف العهد الجديد، هداهم الله إلى سواء السبيل.
(9)
قد بين كثير من علماء الإفرنج المحقيقين أن هذا الكتاب الذي كان ينقل عنه يوستينوس لا يمكن أن يكون هو هذه الأناجيل الأربعة بالمرة، كما يدعي المبشرون الآن، وقد أثبتوا ذلك بعدة براهين يطول بنا إيرادها، هنا فمن شاء الاطلاع على شيء من ذلك فليقرأ كتاب (دين الخوارق) Supernatural Religion ص 181 - 267.
(10)
حاشية: لما كان النصارى في القرن الأول يعتقدون قرب انتهاء العالم) كما بينا هنا وفي مقالة الصلب ص 157) وأنهم آخر الأمم وآخر الدهور وأن الساعة قريبة جدًّا منهم (رؤ 22: 10 ويو
2: 18 و 1 كو 10: 11) وأن بعضهم يبقى حيًّا إلى مجيء القيامة (1 كو 15: 51 و52 و1 تس 4: 15 - 18) لما كان هذا اعتقادهم كان هناك مسوغ زمني للقول بحصول التجسد والصلب والخلاص في زمن المسيح - آخر الأزمان كما يزعمون - ولكن الآن وقد مضى على البشر عشرون قرنًا، ولا ندري كم بقي من عمر العالم لا أفهم لم حصل الصلب وجاء المسيح في ذلك الزمن ولم يجئ في نهاية العالم أو في أول الأمر بعد عصيان آدم مباشرة؟ وحيث قد ظهر أن العالم لم ينته عقب المسيح مباشرة كما توهموا وقد وصل الرقي البشري إلى درجة لم يصل إليها قبل المسيح ظهر لنا عدم التناسب بين حصول الصلب والزمن الذي حصل فيه! فكان الأولى عقلاً والأنسب أن يحصل قرب نهاية العالم حتى تختم جميع القرابين والضحايا به ويختم به الزمان أيضًا! فإن قيل: كلامك هذا صحيح إذا كان المسيح مجرد ذبيحة فقط، ولكنه هو ذبيحة ومثال للبشر في تقديم أنفسهم ضحية لأجل إخوانهم الآخرين، فلذا جاء في ذلك الزمن ليقتدي به الناس بعده في أرقى العصور. قلت: الظاهر من صلوات المسيح ودعائه وحزنه وتقوية المَلَك له وطلبه النجاة من الله ومحاولته الدفاع عن نفسه وتصببه عرقًا وصراخه إلخ الظاهر من هذا كله (كما بينا في مقالة الصلب صفحة 122 - 125 وص 161 وأيضا 109) أنه لم يقدم نفسه باختياره، بل أكره على ذلك إكراهًا وبذله الله بدل الناس ولم يشفق عليه كما قال بولس رومية (8: 32) فهو ليس مثالاً حسنًا لتضحية الذات في سبيل نفع الناس بإرادته رغبة منه واختيارًا راجع أيضا كتاب (دين الله ص 80) وعليه يكون صلب المسيح مجرد ذبيحة بشرية لإرضاء هذا الإله المحب لسفك الدماء البريئة، وليس فيه شيء آخر يستفيد منه الناس، فكان الأنسب أن يحصل صلبه في نهاية العالم أو في أوله، وأما حصوله في ذلك الزمن من زهاء عشرين قرنًا فلا أفهم له حكمة ولا أعرف له مناسبة، فلعل المعجبين بعقيدتهم هذه من النصارى يهدوننا إليه، وفوق كل ذي علم عليم.
الكاتب: محمد بن علي الإدريسي
كتاب سياسي
للعبرة والتاريخ
عثرنا على صورة هذا الكتاب الذي أرسله السيد محمد الإدريسي إلى الإمام
يحيى حميد الدين بتاريخ 16 ربيع الأول الأنور سنة 1330.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن علي الإدريسي إلى جناب المولى، الذي هو بالمحامد أولى [1] ،
الإمام يحيى حميد الدين أشرق الله شموس سعده، وأعلى مراتبه على سنن جده،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد تقديم تحيات بين يدي نجوى هذه السطور،
تهديها إليكم نسمات الوداد ونفحات الإخلاص على أطباق النور، فقد وردت كتبكم
الكرام، آخرها ما هو بصحبة السادة الأجلاء العلماء الأعلام، السيد العلامة صفي
الإسلام الصنو أحمد بن يحيى بن قاسم عامر، والصنو العلامة العزي محمد بن
علي بن أحمد بن حسين الذاري، والصنو العلامة الوجيه عبد العزيز بن يحيى بن
المتوكل، والصنو العلامة العزي محمد بن محمد الشرعي الحولي، وقد سرَّنا
وصولهم وشريف قدومهم، وانشرح البال من لطائف علومهم، وظرائف فهومهم،
وتذاكرنا في أبحاث شتى.
أما مادة الصلح بيننا وبين الحكومة، فمن أول يوم وما ندعو إليه هو الوفاق،
وكلما أرادوا عقد ذلك نقضوه، وكفى بما كان في هذه المدة الأخيرة فإن المذاكرة
حصلت بيننا وبينهم في هذا الموضوع ثلاث مرات، بل أربع مرات بعد وصول
رسلهم إلينا، فإذا أجبنا بما فيه الوفاق أعرضوا تيهًا وكبرًا واحتقارًا لنا.
فأولى المرات بواسطة محمد توفيق [2] في مجيئه الأخير فأجبناهم ذاكرين مواد
بسيطة؛ لأن في ذلك الوقت لم يكن قد وقع بيننا وبينهم سفك دماء.
وتلك المواد هي أن نكون في جهاتنا آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر،
ضابطين للبلاد من الفساد، مع بقاء مراكزهم، وإليهم تساق الحاصلات، وعليهم
القيام بما يلزم من معاش القضاة والمترددين في مصالح البريات، وأن يبقوا
(جازان) برتبة المعتاد، وأن لا يحدثوا زيادة من القوة في البلاد، وأن يفك أمير
مكة صالح ابن حسن وصاحبه من الحجاج، وأن نتوسط بينكم وبينهم من الصلح.
وهذه المواد مما يضحك منها؛ لأنها لبساطتها لا تكاد أن تكون مطالب، ولكن أدَّانا
إلى ذلك حب الراحة للبلاد والعباد.
فما كان الجواب إلا بنقيض ذلك فساقوا تلك القوة التي يقدمها محمد راغب بك
ومحمد علي باشا في جازان، وملأوه بالآلاف، وازدادوا عدوانًا على طلب
الحجاج لحبسهم كما وقع في حبس بعض رجال (المعّ) في حج هذا العام.
وأشعروا أن العسيري تابع لإمارة حسين بن عون [3] وأرسلوا إلينا بطريق مصر
في حين وصول القوة العامة برفق عزت [4] ، إني إن أردت السلامة أفتح لهم
الطريق إلى الإمام التي تمر على طرف البلاد التي بيدنا، ففوضنا الأمور إلى الله،
واستعنا به في مدافعتهم، وبحمد الله قد كان ما كان.
ثاني المرات بواسطتكم عندما وصل إليكم عزيز [5] ووافقناكم فكان منهم
الجواب بالتعليق على ما هو في حكم المستحيل، وهو إجابتنا لحضور الآستانة.
وقد تحقق لكم من هذا نهاية الإعراض، مع أنكم قد بذلتم الجهد كما أخبر عزيز عند
وصوله مصر لبعض أصدقائنا بذلك، وبما كررتموه من المراجعة فيما هنالك،
ومنع عزت وأخذ في تجهيز نحو تسعة وثلاثين طابورًا إلى أن حال بيننا وبينهم الله
بما تداركنا به من رحمته فكشف عنا الغمة ونجانا، كما هو سنته مع عباده
المؤمنين، وعكس عليهم القضية وسلط عليهم عبادًا له أولي بأس شديد فجاسوا
خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً.
ثالثها: كان بواسطة السيد الشراعي مع بعض إخواننا فأجبنا، فكان الجواب
منهم بالسكوت.
رابعها: مع سليمان متصرف عسير؛ لما أتانا جوابه [6]- بعد أن قامت عليهم
فتنة الطليان - يدعونا فيه إلى الوفاق، وأن نكون إخوانًا ونهجر الشقاق، فأجبنا عليه
بالترحيب والتسهيل، فأرسلنا بعض خُلَّص أصحابنا إلى أن وصل بقرب معسكرهم
وخاطبه بحضوره لأجل المذاكرة فيما يجمع الشأن فكان يساجل إلى أن تمكن من
أرزاق ومعاش؛ لأنه في ذلك الوقت كان عادمًا فلما رأى أنه استغنى تكبر، وأجاب
بالغلظة وإعداد الطوابير الجملة للمخالفين فرجع صاحبنا بذلك.
ثم في هذه المدة مع ما رأيناه من فتك الطليان بهم أخذنا العطف فأمسكنا كل
حركة، وكتبنا لمن في مفرزة ميدي [7] : إن دهمكم شيء فلكم مانعون، فكان منهم
أن محمد علي [8] مر بطريق القنفدة وليته لما مر قصر اشتغاله بمصلحة العسكر؛
بل أخذ يحرق ما وجد في طريقه من بيوت السادات العلماء؛ لأن هذا الرجل أكبر
عداوته لأهل الدين؛ لأن ما ناله من الشرف في الآستانة كان بأسباب شنقه لعالم في
أطنه أيام تنازع وقع بين المسلمين والنصارى هناك. ولما قدم جازان بالعساكر لم
يختر لهم (خسته خانه) إلا جامع تلك البلدة، ولا يهمه أن تلوث بالنجاسة وتعطلت
إقامة الجمعة فيه.
وكأنه يظن أن هذه هي الأسباب في ارتزاقه النياشين والرتب من باب: (من
رزق من شيء فليلزمه) وهذا هو السبب في تجهيز ما وجهناه من الجند إلى جهة
الشام [9] لأجل مدافعة هذا الطغيان والمحافظة على مراكز أهل الدين والإيمان.
وقد حصلت المذاكرة بيننا وبين هؤلاء الإخوان في هذه الأحوال إلى أن ساق
بنا الكلام إلى مفرزة ميدي، وأخبرناهم أن الطليان قد ضربوا قلاع الدولة ومراكزها
من باب المندب إلى جدة، وهد تلك الحصون بمدافعه المسلطة، ولم يبق إلا هذه
القلعة مع أن شيخ البلدة التي فيها قد سبقت له جناية مع الطليان بواسطة شهادة
سبنوك، طال الخلاف بين الترك والطليان فيه، وتوقف الأمر على شهادة هذا الشيخ،
وتهددته الدولة بالشهادة لها فشهد، فإذا قصد الطليان هذه المفرزة لا يقتصر عليها،
بل يتعداها إلى تلك البلد، لما جناه شيخها عليهم، وسابقًا قد ضربوا هذه البلد كما
قد عرفته.
ومن المشاهد أن هذه العساكر كجملة من في كل موضع إذا ضرب الطليان
المواقع هربوا من مواقعهم تلك إلى محلات العامة ولم يدافعوا ولا يضرب مدفع
واحد، وقد ضربت هذه القلعة من نحو شهر، وخرجوا منها كما ذكرنا، وهذا مما
أوقع الناس في العجب، فإن الدولة لما عجزت عن إصلاح الداخلية كان يرجى منها
حفظ الخارجية والقيام بالمدافعة عن الرعايا ممن قصدهم بسوء، فعجزت الدولة
الآن عن هذا وهذا، فما بقي لهم إلا أن يسعوا الناس بحسن الخلق؛ لو كانوا
يعقلون.
ثم إنه قد اشتد الخطب من الطليان بمحاصرتهم للحديدة إلى حالة يخشى معها
أن تحتل الحديدة، فتكلمنا مع العسكر الذين في القلعة بأن بقاءهم بها ضرره على
الإسلام والمسلمين؛ لأن الحديدة إذا احتلت يتبعها ملحقاتها ومن ذلك هذه القلعة،
ومن المعلوم حسب أصولهم أنه إذا احتلت الحديدة، وجاء المحتلون ببوابيرهم
لاستلام هذه النقطة تبعًا للمركز، ومعهم الإذن بالتسليم من كبراء الترك، فإن من
هذه النقطة لا يلتفت إلى الإسلام ولا إلى المسلمين ولا يهتمون بأمر الوطن بل حالاً
يعملون الترتيب اللازم في التسليم إلى المحتلين، ولو بطريق الحرب مع أهل
الوطن بأن يضربوا من القلاع وتضرب البوابير من الساحل حتى يتصلوا بالمحتلين،
ويدفعوا لهم موقع الحرب، ويسلموا أهل الوطن إلى الأسر، كما فعلوا في بني
غازي إحدى متصرفيات طرابلس، فإن أهلها عشية احتلال الطليان؛ لما رأوا
بوابير الطليان بالساحل أسرعوا إلى مركز الحكومة ليستعدوا للقتال ويودعوا أهاليهم
وأموالهم في محل مكين، فمنعهم الأتراك وألزموهم الطمأنينة فرجعوا إلى بيوتهم،
فلما جن الليل لم يشعروا إلا والمتصرفية بأجمعها صارت عساكر طليانية فقاموا
للدفاع ولم يمكن الخروج من المنازل إلا للرجال دون النساء والذرية، وهم الآن
تحت قبضة الطليان، واشتهر أن هذه المعاملة من العساكر بأسباب ما أخذه كبراؤهم
من الطليان خفية. وبأسباب ذلك استقال الصدر فتبين أن بقاءهم حينئذ في المواقع
الحربية لا للدفاع وحماية الثغور كما هو اللازم لمن يتولى إمارة المسلمين بل
للأغراض الفانية، وبيع البلاد للمصلحة الشخصية، فمن ينعَ الإسلام فلينعه من
الترك، ومن يندب الدين فليندبه مما لهم من اختلاق الإفك، فلما خاطبناهم في
النزول معنا ليبقوا مع العساكر العربية جنبًا بجنب حتى إذا احتلت الحديدة يكون
موقع المفرزة الميدية بأيدي المسلمين يؤدون فيه ما أوجب الله عليهم، وإن امتنعوا
فلا إلزام. وإن أرادوا اللحاق بكبرائهم فلهم ذلك، فأبوا هذا وهذا، ولا يحيق المكر
السييء إلا بأهله.
والعجب من هؤلاء الناس يذكرون أننا السبب في تركهم للمدافعة كما روى
عنهم السادة الواصلون! فليت شعري من أي وجه؟ وأيّ قرب بيننا وبينهم في المسافة
أن يقولوا نخشى أن نصلى بنارين؛ إذ في الأقل بيننا وبين الحديدة ثمانية أيام؛ ولو
سلم هذا فما يكون جوابهم في احتلال الطليان لطرابلس؟ وما المانع من المدافعة
هناك مع أن أهل تلك الجهة من المخلصين للحكومة بل هم قائمون بالقتال للمحتلين
من الآن، ومن العجاب أن الحكومة قبل أن يحتل المحتلون رفعت الأسلحة والوالي
والعسكر إلا شيئًا قليلاً، وبعد ذلك لم تمد المجاهدين ولا بدرهم أو نفر.
وفي عهدي أنا عرَّفناكم سابقًا أن في صبح ليلة خروج الأتراك من جازان وفي
اليوم الذي بعده جاءت بوسطة بطريق البحر فوقعت بيد المجاهدين، فإذا بعض
رسائلها يحتوي ترجمتها على إعلان حرب إيطاليا لهم وأنه يلزم مآميرهم هنا العناية
برعايا الإيطاليين وحفظهم، فتعجبنا من حسن معاملتهم، هذا لمن ناوأوهم بالعداء
الأكبر، وإذا حصل منا معاشر المسلمين أدنى شيء معهم قامت القيامة. وبينما نحن
في هذا الموضوع إذ ورد منكم كتاب كريم، فتلقيناه بالترحيب والتكريم، وسنوفي
كل بحث مما أشرتم إليه حقه، إن شاء الله.
فأما ما أشرتم إليه من قولكم: والدولة العثمانية، وإن كان أمراؤها كما عرفتم
فإنه عند الشدائد تذهب الأحقاد - إلى أن قلتم: أما ما كان سابقًا مما ذكرتم من
تباعد العثمانية عن الصلاح فإنه لا يغرنا الآن الإنصاف.
وقد أنصف الغارات من راماها. فلا يخفاكم أي حقد عندنا! ولما جاءني
كتاب سليمان باشا يجنح إلى السلم في وقت قيام الطليان وافقت، وأجبت بما
صدرت إليكم صورته، وأرسلتُ مِن أخِصاء إخواننا مَن يقوم بحل هذه المشاكل كما
قد أشرنا لكم في أول الجواب، ولم نلتفت إلى ما سبق منهم من الإيعاد بأنواع
المهالك حتى بشق بطون الحوامل، فلما جاء جواب سليمان لذلك الأخ يعني مندوبه
بالتهديد وإعداد الطوابير للتربية تعجبنا من ذلك، وما زلنا نتوقف عن عمل أي
حركة رجاء أن يهتدوا إلى الصواب، فما كان بعد ذلك إلا مرور محمد علي باشا
في شهر ذي الحجة يحرق بيوت السادات والعلماء وأفاضل الناس، كما قد ذكرنا
لكم أول الكتاب.
فيا ليت شعري ما نصنع بعد هذا؟ وهل فيه إنصاف أعظم من هذا الإنصاف
حتى من كان لنا بالأمس عدوًّا لدودًا أصبحنا نتقرب إليه بالمودة لا لشيء بل كان
حبًّا للصلاح مزيدًا، وهل من العقل بعد ذلك لنا أن نرمي بأنفسنا إليه ولو على
المهالك؟ وهل هذا من الدين؟ كلا، وأصدق القائلين يقول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139) .
ثم إن ما أشرتم إليه هو لم يزد عن كونه من قبلكم، ولم ندر ما هم عليه؛ إذ
لم يرد من كبرائهم وأعيانهم من تحسن المخاطبة معه في ذلك وفي كيفية مواصلة
الخطاب إلى الآستانة؛ لأن ولاية اليمن صارت الآن منقطعة عن الولاية العثمانية
للحيلولة بالقوة الإيطالية.
وأما ما أشرتم إليه أن لو اقترن ما بيننا وبينهم بصلح ما بينكم وبينهم. فاعلم
أيها الإمام أني عندما أتلو ذلك، أجد خاطري ينكسر مما هنالك؛ لأنه حين أرادوا
أن يغتنموا الفرصة فيَّ، وإن كنتم - جزاكم الله خيرا - كررتم التوسط في الصلح
لكن لا على طريق الشرطية؛ بخلاف الآن لما كان الصلح لمصلحتهم أوفق فآثرتموهم
عليَّ مع أني الصاحب القديم، والخل الذي هو على العهد إلى الممات مقيم:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأول
ومنازل في الأرض يألفها الفتى
…
وحنينه أبدًا لأول منزل
وأما ما ذكرتموه (أن الملل الكفرية كما عرفنا فوقت سهام انتقامها على الدين
القويم وفعلت بالمسلمين أقبح الأفاعيل إلى آخر ما شرحتموه) . فلا يَخْفَاكم أن هذه
الأمة قد أخذت هذه الأزمان الطويلة وهي في اطمئنان بال وسكون الأحوال، لما
كان سلاطين آل عثمان قائمين بحماية الشرع الشريف، ولا مظهر لهم إلا أنهم
نواب الأمة الإسلامية في حقوق دينهم الحنيف، ولا شك أن أهل الملل المختلفة لا
يتجاسرون على هدم هذه السياسة؛ لأنها تستدعي الثورة العامة بين المسلمين
وغيرهم في جميع الأقطار الشاسعة، ولا أضر على الأجانب من هذه الحرب الدينية،
وبها كان يتهددهم السلطان السابق عند المشاكل الدولية، فيجنحون إلى الموافقة،
فلهذا عشنا وعشتم طول النشأة لم نسمع في الخارج بمشاقة، بل كان في آخر المدة
الأخيرة ما رفع الدولة لأعلى مكان حيث ظفرت باليونان واحتلت عاصمة ملكهم
بقوة عظيمة القدر والشان، فلما جاءت هذه النشأة الأخيرة من الأتراك تظاهروا
بالحرية ليرضوا أهل الملل الأخرى وأن الاختصاص بدين الإسلام هم منه على
فكاكٍ؛ ولهذا سموا أنفسهم بالجامعة العثمانية، ليوحدوا الملل؛ هربًا من الجامعة
الإسلامية، وقد أرسل جنابكم إلينا تلك الرسالة المؤلفة لشيخ الإسلام سري زاده
محمد صاحب ونبهتم - عافاكم الله - وعلى ما فيها من الإلحاد، وجزاكم الله خيرا
بتلك الإفادة.
فحينئذ حدث أمران: ضج أهل الإسلام من رغبة الأتراك عنهم، وطمع أهل
الملل في الأتراك لنفور الجمعية الإسلامية منهم، فأخذوا في انتهاب البلاد منهم،
فاستقلت ولاية البلغار، بعد أن كان ملكهم في زمن السلطان السابق برتبة ياوران،
وبيعت ولايتا البوسنة والهرسك علنًا، وطرابلس خفية، وصدق لفرنسا على تبعية
تونس، وحينئذ قامت الأجانب يغار بعضهم على بعض فمدوا أيديهم إلى احتلال
البلاد العثمانية - لهذه الأسباب - ولغير العثمانية بطريق أولى، كتبريز وفاس كما
ذكرتم، مع أن فاس هذه من أعوام قريبة سعى السلطان السابق في استقلالها
بواسطة ملك ألمانيا لتحفظ من غوائل الأجانب، فتغيرت في هذه الأيام السياسة
الإسلامية من أهلها، فكان ما كان في مسافة ثلاث سنوات، وهذه الرابعة أقبلت فيها
تتداعى الشدائد من كل الجهات، وكل فريق يمد يده إلى ما شاء من النواحي
المختلفات.
وقد عرفناكم بمنشأ هذه الأحوال؛ لتعرفوا من هم السبب في محاق البلاد
الإسلامية والاضمحلال، فهم الأحق بالملامة والتقريع والتوبيخ وسلب الكرامة،
ويا ليت شعري ما المراد منا في الرابطة التي أشرتم إليها؟ فإن كان لقصد التسكين
المجرد إلى أن توافق معهم الأمور ثم يثبوا كأن لم يكن بيننا وبينهم صداقة كما كان
بالعام الماضي؛ إذ قدمنا لهم عشرة آلاف عود للسلك، وأمنَّا لهم الطرق، وتعهدنا
لهم بالإصلاح حتى صاروا دولة حقيقة يروحون ويغدون بكل شرف، فما كان منهم
إلا تدبير الحيلة في الهجوم للقبض علينا؛ فنجانا الله وآل الأمر إلى ما هم فيه من
الإهانة والحيرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أولا، توافق الأمور - كما هو المنتظر - إن لم يستعطفوا خواطر المؤمنين،
واشتد الحال أن آل إلى سقوط البلاد بأيدي الغير يسلمها الأتراك لهم، ولا يلزمنا إلا
قبول ما حلوه، وأبرموه فما في هذه إلا إقامة الحجة علينا من الله، وما المعذرة في
ذلك المقام الإلهي؟ . وإن كان القصد أن نكون نحن وهم شركاء في المواقع بدون
خداع في الحال والاستقبال: شركاء في الدفاع عن الدين، شركاء في الرأي حتى
نعلم ما يراد بنا، ونؤدي ما أوجب علينا ربنا، ولا نكون ألعوبة للأتراك يسلموننا إلى
الغير متى شاءوا، والعياذ بوجه الله، بل نكون على أمن من ذلك كله - فأهلاً بالوفاق
وسهلاً.
وفي الحقيقة إن هو إلا رجل قام بتأييد الله في هذه البرية القفراء للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإقامة الشريعة التي لا حرز لنا دونها ولا عصمة،
إن كنا ممن يحتفلون بتعاليمها الإلهية ويخدمونها.
فقامت هذه النشأة الجديدة من الأتراك وحشدوا العساكر المصحوبة بالمدمرات
والسيوف البواتر، وشاع وذاع أنه صدرت إرادة سلطانية، وإشارة من لدن الجمعية
باستئصالنا، ولا يعلمون أن الأمر بيد الله، وهو أكرم الأكرمين، لا يضيع مَن مَنَّ
عليه من بريته، وكساه من الإيمان بحلل كرامته، بل ينصره وينتقم ممن عاداه كما
وعد في كتابه العزيز: {وَعْدَ اللَّهِ حَقاًّ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (النساء:
122) . فقال عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) وقال عز وجل: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) وإني والله عند هذه الآيات أعلم
من أين أخذت هذه الدولة فتداعت عليها الأهوال من كل جانب جملة واحدة على
غير أسلوب معروف، ولا تقدير في الحساب مألوف {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا
مَرَدَّ لَهُ} (الرعد: 11) .
فاجأها القهر الإلهي بغتة، وانقطعت في مدافعته كل حيلة فسبحان القائل
{وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) وإني والله لأعلم بدواء تلك العلة فهل
من سبيل إلى أن أكون الطبيب الرباني؟ ولا تكاد تلبث هذه الدولة ساعة حتى
يشفيها الله في جميع الأنحاء ولكن إن رجعت سياستها إلى الصراط المستقيم
الرحماني. وقد ذكرنا للسادة الواصلين تفاصيل الأمور وأبدينا لهم ما يصلح في
المقام، واكتفينا ببيانهم عن شرح ذلك هنا؛ لأن للكلام مقامات طويلة ومباحث
مختلفة، كما سيوضحون لكم، وهم من أفضل عباد الله، وله الحمد أن جعل بيننا
وبينهم التآلف وخالص الوداد في الله، ومثلهم يقوم بالبيان وكونوا على يقين أن ما
فيه صلاح المسلمين والإسلام وحفظ البلاد بدون خداع فإنا فيه على وفاق، وكذلك
اكتفينا ببيانهم في مادة الحدود من الشرف إلى بني جماعة وقد تحررت بذلك ورقة
بخط العلامة المفضال بدر اللآلي السيد أحمد بن يحيى عامر، هذا، وشريف السلام
وأسناه يعمكم ومن بالمقام ورحمة الله وبركاته.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الإمضاء
_________
(1)
حذف من هذا المكان ما اعتيد من الألقاب والسجع.
(2)
هو الشيخ محمد توفيق الأرنؤوطي الأصل، المعدود من علماء الترك، جاور في الأزهر وعرف السيد الإدريسي فيه وقد أرسله إليه الاتحاديون بعد الدستور غير مرة ليكشف لهم حقيقة أمره، وقد كنت مرة في ناديهم الشهير (بنور عثمانية في الآستانة) حين جاءهم أول كتاب منه فأخبروني أنه أثنى عليه فيما كتبه ووصفه بالإخلاص للدولة ولمقام الخلافة، وأنه لا يريد إلا إرشاد الناس لما فيه صلاحهم في دينهم وطاعتهم للدولة، فذكرت هذا الكلام للصدر الأعظم حسين حلمي باشا، فقال: الشيخ توفيق رجل بسيط ساذج إلخ، ولم أسمع يومئذ من رجال الجمعية مثلما سمعت من الصدر من الارتياب وسوء الظن، وقد اجتمعت بعد ذلك بالشيخ توفيق في الآستانة ثم في مصر بعد عودته المرة الثانية من اليمن وكانت الحكومة قد أظهرت العداوة للإدريسي وآذنته بالحرب فسألته عنه فقال: إنه على ما عهدت من قبل من الاستقامة والإخلاص، ولكن الحكومة أعرف بسياستها، أو ما هذا معناه، وقد رأيت بعض إخواننا العرب في بمبي يطعنون في الإدريسي فعارضتهم وذكرت لهم ما سمعته وما رأيته من بعض كتبه لأهله في السودان الناطقة بإخلاصه للدولة حتى اضطره الاتحاديون بضغطهم إلى ما كان من المقاومة، فاقتنعوا.
(3)
أي جعلوا بلاد عسير تابعة لأمير مكة الشريف حسن بن عون.
(4)
هو عزت باشا القائد الأخير لحملة اليمن وهو الآن القائد العام لجيش الدولة في شطلجة بجوار الآستانة لمدافعة البلقانيين عنها.
(5)
هو عزيز بك علي المصري الذي كان واسطة الصلح بين الإمام وعزت باشا في اليمن وهو الآن أمير العرب وقائدهم في قُطر بنغازي يجاهد إيطالية.
(6)
قد وقفنا على كتاب سليمان باشا هذا للسيد وجواب السيد له وسننشرهما بعد.
(7)
ميدي: ثغر من ثغور عسير بين الحديدة وجيزان - أو جازان - وفيه قلعة عسكرية، وهو الآن من الثغور التي بيد السيد، وقد عثرنا على كتاب من القومندان التركي الذي عرض السيد عليه المساعدة على إيطالية.
(8)
هو محمد علي باشا الذي كان والي اليمن وقائدها العام.
(9)
هي الحدود الشمالية لعسير يسمونها جهة الشام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية
الحقوق التي أعطتها اللائحة للمستشارين الأجانب
(1)
جاء في المادة الرابعة أن اعتراض الوالي على قرارات المجلس
العمومي مقيد بمصادقة مجلس المستشارين، وهو قيد لا حاجة إليه؛ لأن مجرد
اعتراض الوالي على قرار ما لا يقتضي إلغاءه حتى يقيد فيه بما يمنع استبداده به،
ومن شأن الاعتراض أن يبنى على أحد أمرين: إما مخالفة القوانين، أو مخالفة
المصلحة، ولو قيدوه بهما لكان أولى حتى لا يكثر الاعتراض من الولاة البلداء
فيضيع بها الوقت، وما دام القول الفصل في الاعتراض للمجلس، فالاعتراض إما
أن ينفع وإما ألا يضر.
(2)
في المادة الخامسة أن لجنة المجلس العمومي تجتمع بإرادة مستشار هذا
المجلس، ومن حقوقها دعوة المجلس لاجتماع فوق العادة باتفاق ثلثي أعضائها
ومصادقة مستشار المجلس. فهذا القيد لا حاجة إليه أيضًا، وفيه هضم لحقوق
اللجنة عظيم، فإذا سوغنا أن يكون اجتماعها بإرادة المستشار لاتخاذه إمامًا ومرشدًا
لها فيما هو أعلم به منها من وظائفها كلها أو بعضها، فلمَ يجوز لها الاستقلال بطلب
عقد المجلس إذا رأى ثلثا أعضائها الحاجة إلى ذلك لأمور تتعلق بمصلحة بلادهم
يجوز أن لا يعرفها المستشار؟ ألا يجوز أن تكون المسألة التي يدعونه لأجلها مهمة
جدًّا في نظرهم وأن يكون للمستشار هوًى في عدم اجتماع المجلس لها؛ لأن فيها
تعارضًا بين مصلحة الوطن ومصلحة أبناء جنسه الأوربيين؟ بلى فالمصلحة أن لا
نجعل له حقًّا يمكن أن يضر؛ ولا حاجة تدعو إليه، أي ليس لنا فيه نفع. على أن
القاعدة الأصولية أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
(3)
في الكلام على تعيين الموظفين من المادة السادسة: أن طالب الوظيفة
يمتحن أمام لجنة مؤلفة من مستشار ورئيس الدائرة التي يطلب الدخول لها.
والظاهر أن الامتحان يكون باللغة العربية ولا تشترط اللائحة أن يكون المستشار
عارفًا بها؛ لأنه معرفته للتركية أو الفرنسية تقوم مقامها، ثم ما هي مواد الامتحان؟
ولم يشترط في كل مستشار أن يعرف قوانين الدولة، فنقول: إن الامتحان يكون
بموادها.
(4)
في الكلام على عزل الموظفين من المادة السادسة أيضا: أن رؤساء
العدلية تكف أيديهم عن العمل بناء على طلب المستشار ومصادقة مجلس
المستشارين، وأن سائر الموظفين المعينين من قِبل الولاية تكف أيديهم بناء على
طلب المستشار ورئيس الدائرة المنسوبين إليها فقط، وأن موظفي الحكومة المركزية
يكون عزلهم بطلب من مجلس المستشارين وبحكم من هذا المجلس. وقد جعلت
اللائحة للقسمين الأولين من الموظفين الذين تكف يدهم حق مراجعة الوالي في مدة
معينة؛ ولكنها أوجبت على الوالي أن يحيل دعوى من يراجعه إلى مجلس
المستشارين الذين كان كف اليد من قبلهم ليحكم فيها، فهذه حقوق تجعل أمر العزل
كله بأيدي المستشارين الذين لا يعرفون لغة البلاد ولا قوانينها ولا يشترط فيهم
ذلك، ولم يقيدوا بقانون آخر يحكمون به في العزل والإيقاف، وهذه سلطة
استبدادية خطرة قد تقع على بعض الناس بالقوة القاهرة، وأغرب الغرائب أن
يطلبها بعض الناس لأنفسهم ويسمونها إصلاحًا؛ وإنما طلبها مبني على قاعدة عدم
وجود الأكفاء لإدارة الحكومة في البلاد، فكيف يكون حال هؤلاء الموظفين الذين
يقل فيهم الكفؤ مع المستشارين الذين بأيديهم أمر رزقهم؛ وهم يذلون الآن لرؤسائهم
من الترك؛ خوفًا من العزل الذي لا يقطع الأمل من العودة إلى الوظيفة، أو نيل
خير منها، فكيف يكون ذلهم لمن إذا عزلوهم يحرمون بعزلهم من خدمة حكومتهم
طول حياتهم؟
(5)
أغرب كل ما في هذه اللائحة على الإطلاق أنها بعد أن جعلت أمر
عزل الوطنيين في أيدي الأجانب ناطت بهم عزل أنفسهم أيضًا، كأن واضعيها
يحسبون أنهم سيجدون في أوربة من المستشارين والمفتشين، من يجري على سنة
الخلفاء الراشدين، ونسوا أنه لا يُعرف في أوربة كلها رجل سياسي رفع صوته
بالرضاء بإلغاء امتياز الأوربي على الشرقي في الحقوق والعقوبات، بل المعروف
عن الكثيرين منهم أنهم لا يرون أمة من أمم الشرق توازي صعلوكًا أوربيًّا، والذي
يزيد هذا الأمر غرابة أن هؤلاء المستشارين الذين يعدون في تكافلهم واتحادهم في
الشرق، كأنهم رجل واحد قد جعلت اللائحة أمر مذنبهم مفوضًا إلى آرائهم وأهوائهم
لا إلى قانون يوجب عليهم الحكم بمواد معينة في كل ذنب، على حين أنهم إذا قيدوا
بقانون ونيط أمرهم بمجلس تأديب وطني أو مختلط لا تسهل معاقبتهم بما يوجبه ذلك
القانون. (هذا وما فكيف لو) .
* * *
اقترحت اللائحة في المادة السابعة أن تعين الحكومة المركزية المستشارين من
الأجانب للشرطة (الجندرمه) والمالية والبوسطة والتلغراف والجمرك في مركز
الولاية ومفتشًا عامًّا منهم لكل لواء، وأن يعين المجلس العمومي من الدول التي
ترضاها الحكومة المركزية مستشارين للمجلس العمومي والعدلية والنافعة والمعارف
والبلدية والبوليس؛ ولكنها لم تبين أعمالهم ووظائفهم في هذه المصالح، وإنما بينت
في المادة الثالثة عشرة فنذكرها واحدة واحدة في سلسلة انتقادنا هذا وهي أربعة.
(6)
أول وظائف هذا المجلس تفسير مواد النظام الذي تضعه الحكومة
المركزية على أن يكون دستورًا لحكومة الولاية ومجلسها العمومي، ولست أرى
لإعطاء المستشارين هذا الحق وجهًا إلا أنه حكم بين الولاية والعاصمة وإلا فمجلس
إدارة الولاية أجدر من المستشارين بفهم هذه القوانين، ولعل حكومة العاصمة ترى
حكمه أقرب إلى مصلحتها إذا كان مؤلفًا من الأعضاء المنتخبين ورؤساء المصالح
الذين يعين بعضهم من قبلها، وبعضهم من قبل الولاية، على أن إعطاءهم حق هذا
التفسير مطلق عام؛ ولهم بذلك مجال واسع للحكم بالرأي والهوى.
(7)
الوظيفة الثانية لهذا المجلس تفسير القرارات والأنظمة التي يضعها
المجلس العمومي، ولست أرى لهذه الوظيفة وجهًا ألبتة، فإذا اشتبه الوالي أو غيره
فيما يضعه المجلس فينبغي أن يراجع المجلس فيه؛ لأنه أعلم بما يضع، ويترتب
على إعطاء المستشارين هذا الحق: وجوب نقل كل ما يضعه المجلس بلغة البلاد
إلى اللغة الفرنسية؛ لأنها ستكون هي اللغة التي يعرفها جميع المستشارين حتمًا،
وقد يكون هذا من مقدمات احتلال فرنسة للبلاد.
(8)
الوظيفة الثالثة له النظر والحكم في وجوب عزل الموظف أو عدمه،
وقد أشرنا إلى انتقاده من قبل ونقول هنا: إن الواجب المتعين أن يكون لكل مصلحة
مجلس تأديب يتألف من رئيسها وبعض كبار الموظفين فيها، ويجوز أن يكون
مستشارها عضوًا فيه.
(9)
الوظيفة الرابعة: له النظر والحكم بناء على طلب الوالي أو أحد
المستشارين في كل خلاف يقع بين أحد المستشارين والمجلس العمومي أو إحدى
لجانه أو أي دائرة مصلحة كانت، ويكون حكمه مبرمًا، وقد انتقدنا مثل هذه الوظيفة
من قبل؛ ونريد هنا انتقاد جعل حكمه مبرمًا انتقادًا شديدًا مؤكدًا، فإن هذا الحكم
المبرم الذي لا يقبل النقض ولا المعارضة، ولا يجوز فيه الاستئناف لا يصح أن
يعطى إلا للمعصوم من الخطأ والمنزه عن الهوى، ولا يعقل أحد وجه الحاجة إليه،
ولا كيف يمنحه الناس للحاكم من تلقاء أنفسهم.
تلك إشارة وجيزة إلى ما رأيناه من خطأ هذه اللائحة في موضوع المستشارين؛
ولنا عليها انتقادات أخرى لا حاجة إلى بسطها، ولما كنا جازمين بأن الحكومة
المركزية يستحيل أن تقبل هذه اللائحة، ولا سيما الوزارة الاتحادية منها التي لا
يرضيها إلا استبداد العاصمة في المملكة - فالواجب على طلاب الإصلاح المخلصين
من أهل بيروت أن ينضموا إلى حزب اللامركزية الإدارية؛ لتكون يد الجميع
واحدة ويد الله على الجماعة - كما ورد - والله الموفق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسألة العربية عند الاتحاديين
من لم تفده عِبرًا أيامُه
…
كان العمى أولى به من الهدى
كنا نقول: إن مصيبتنا بهؤلاء الاتحاديين الذين ورثوا ملك عبد الحميد أنهم
أصحاب نظريات في السياسة والإدارة يجربونها في هذه الدولة التي يجب الجري
فيها على قواعد ثابتة؛ لأنها لم تعد تحتمل التجارب، وكنا نظن أنها إذا لم تفاجئها
الدواهي الخارجية في أثناء هذه التجارب فربما ظهر لهؤلاء العاملين خطأهم فرجعوا
عنه، وقد رأينا القوم خابوا وفشلوا في كل شيء، واعترف بعضهم ببعض خطأهم
وادعوا أنهم رجعوا عن بعضه، وأنهم سيرجعون عن بعض آخر، ولكنهم لم يفوا
بوعد، ولا رجعوا عن سوء قصد، ولا اعتبروا بالحوادث، ولا تأدبوا بالكوارث،
بل ازدادوا كذبًا وخداعًا، وهذا من الغرور الذي قلما يوجد في البشر له نظير،
والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، بل أعمالهم اليوم هي عنوان أعمالهم بالأمس، لا
فرق بين ما كنت تراه منها في أول عهد وزارتهم (الحقية) إذ كانوا يدلون ببأسهم
وقوتهم وجيوشهم، وبين ما تراه على عهد وزارتهم (الشوكية) بعد أن أضاعوا ثلثي
المملكة بإضاعة طرابلس الغرب وبرقة وجميع الولايات الأوربية، ومعظم الجزر
البحرية، وبعد إفساد الجيش والتفريق بين العناصر وإضاعة الأموال، فهم بعد هذا
كله لم يتحولوا عن سياستهم السوءى في المسألة العربية التي أحدثوها في هذه
المملكة وقطبها عندهم الضغط والإرهاب بالقوة من جهة والغش والمخادعة من جهة
أخرى، وغرضنا من هذا أن نقول كلمة في هذه المخادعة:
زرت الآستانة في أوخر سنة 1327 وبقيت فيها إلى آخر ما بعدها وكان
مما اجتهدت في تلافيه سد ثغرة التنافر بين الترك والعرب. ولما حدثت طلعت بك
الزعيم الاتحادي في ذلك وكان ناظرًا للداخلية وقابضًا على زمام الإدارة والسياسة
في الدولة - أظهر لي قبول رأيي وكان مما قاله: إنهم عازمون على إنشاء جريدة
عربية في الآستانة؛ لأجل استمالة العرب ومودتهم، فسألته عمن يقوم بإدارة هذه
الجريدة وتحريرها فقال: عبيد الله أفندي مبعوث آيدين.
قلت: إن الرجل معروف ببغض العرب والعربية، فلا أراه يزيد مسافة الخلف
إلا انفراجًا أو اتساعًا إلخ ما دار بيننا في ذلك، ثم ظهرت جريدة باسم العرب؛
وكان ما كان من أمر قيامة الجرائد العربية عليها في سورية والعراق ومصر
وأمريكة وغيرها من البلاد، واشتهر عند الخاص والعام في هذه الأقطار أن هذه
الجريدة أسست للتفريق بين العرب وغشهم ومخادعتهم وتحقير مصلحيهم، وإيقاع
الشقاق بين مسلمي سورية ونصاراهم منهم، وبهذا بطل الغرض من إنشائها
فاضطروا إلى إبطالها.
شاويش خلف عبيد الله:
ثم بدا لهم أن ينيطوا هذه المفسدة برجل يعده بعض العرب منهم؛ فلم يروا
أحدًا أهلاً لذلك إلا الشيخ عبد العزيز شاويش؛ لأنه كان قد مهَّد السبيل إلى ثقتهم بما
كان ينصر جمعيتهم ويطري زعماءهم في جريدة العلم، وبمقاومته لمشروع الدعوة
والإرشاد ثم بطعنه في مسلمي العرب وزعمه أنهم أضر على الدولة من نصارى
البلغار والروم وغيرهم.
بمثل هذا تقرب شاويش إلى جمعية الاتحاد والترقي عدوة العرب والإسلام
ونال الحظوة عندها؛ فأسست له جريدة في الآستانة كانت تنشرها في البلاد العربية
بقوة الحكومة، وهي الهلال العثماني، ولكن نفوذ الحكومة قد عجز عن جعل الناس
يتلقونها بالقبول، ثم سقطت هذه الجريدة المنافقة بسقوط وزارتهم (السعيدية) فلما
عادت لهم الكَرة بفتنة أنور بك وألفوا الوزارة (الشوكية) أنشأوا لشاويش جريدة
أخرى باسم (الحق يعلو) وسمي أحد شبان المصريين المتصلين به مديرًا لها؛ ليكون
مدح شاويش وإطراؤه فيها لنفسه سائغًا مقبولاً؛ ولئلا يكون إذا حالت الأحوال
مسئولاً.
لم أقرأ في هذه الجريدة إلا عددًا واحدًا وجدت فيه دسيسة من شر دسائسهم في
التفريق بين العرب وإغراء العداوة والبغضاء بينهم الذي يراه الاتحاديون الوسيلة
إلى إضعافهم وأخذ منافذ الترقي والإصلاح عليه في سورية، وهو أنه زعم أن أهل
الذمة الذين بيننا يتربصون بنا الدوائر فإذا أمكنتهم الفرصة منا فعلوا بنا أقبح مما
فعل البلقانيون بمسلمي بلادهم من القتل والسلب والنهب والفضائح. . . فما الذي
حمل الاتحاديين على دفع الشيخ عبد العزيز شاويش على كتابة مثل هذا الكلام في
مثل هذا الوقت؟ أليس المعقول أن مصلحة الدولة الآن تقتضي الألفة أو السكون في
الولايات الآسيوية، وهي مرتبكة في الحرب البلقانية؛ لئلا تفتح على نفسها أبوابًا
جديدة من المشاكل؟ ألم يكن الواجب على الشيخ عبد العزيز شاويش أن يكتم علمه
بما قاله، إن كان في ذلك على علم، وما هو علم ولا ظن بل هي فتنة؛ لئلا يكون
سببًا لثورة في سورية تفضي إلى خروجها من ملك الدولة كما خرج غيرها؟ بلى،
ولكن الاتحاديين علموا أن أواخي الوفاق قد شدت بين المسلمين والنصارى في
بيروت، وأجمعوا على أن يكونوا يدًا واحدة في طلب الإصلاح لبلادهم، وهذا ما
لا يطيقه الاتحاديون.
والظاهر أن تعريض البلاد العربية لاستيلاء أوربة عليها أخف على قلوبهم
وأدنى إلي سياستهم من اتفاق أهلها وإصلاح حالهم؛ فلهذا أوعزوا إلى محضاء
مفاسدهم بهذا من غير أن يحسبوا لعاقبته حسابًا، وربما كان هذا الغلو في الإفساد
إلى هذه الدرجة من سوء اجتهاد الشيخ شاويش وجريًا منه على ما تعود بمصر من
إطلاق العنان لقلمه في مثل هذا حتى زجَّه في السجن غير مرة ثم أخرجه من القطر
المصري كله، وإذا كان شأنه في التفريق بين المسلمين والقبط ما علمه الناس،
وفيها حكومة منظمة ومحاكم تقيم القانون، فكيف لا يكون شأنه في ذلك ما رأينا وأشد
مما رأينا منه في الآستانة؟ وهو يرمي عن قوس جمعية الاتحاد والترقي صاحبة
السلطة في المملكة العثمانية، وينضح بسهامها ويكافَأ على ذلك بمال العثمانيين
المنكوبين بجميع أنواع المصائب بشؤم هذه الجمعية.
الشيخ عبد العزيز شاويش مفتون بحب الشهرة والزعامة، وهو يحاول أن
ينال بجاه الاتحاديين ما أعياه نيله بغلوه في الحزب الوطني المصري، والاتحاديون
يرون من مصلحتهم إيجاد زعيم عربي يخدعون به العرب، وليس الشيخ شاويش
بأهل لهذه الزعامة ولا الاتحاديون قادرين على ما يبغون منه، حتى إنهم لو قربوا
منهم بعض الأفراد الذين نالوا الثقة بحق بين العرب لكان قربه منهم وثقتهم به مما
يسرع بالتهمة إليه ويفيده الظنة، فإذا بدرت منه بادرة تنافي مصلحة قومه عدت
دليلاً قاطعًا على نفاقه وبيع ذمته للاتحاديين، فكيف إذًا يستطيعون جعل الشيخ
شاويش زعيمًا عربيًّا ويرجون أن يؤثر كلامه في السوريين؛ وهو قد اشتهر بالنفاق
للترك والحط على العرب وفَاقَ زعماء الحزب الوطني وكُتَّابه في بغض السوريين
منهم خاصة، وهل ينسى السوريون - من هؤلاء - مطاعن جريدتهم اللواء فيهم،
وقولها في طائفة من جنودهم ما قاله مالك في الخمر؛ إذ كانت باخرة تحمل بعض
العسكر العثماني إلى اليمن ففر بعضهم من بورسعيد أو السويس وقيل: إنهم من
السوريين، فافترصت ذلك جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني وعدوة السوريين
كافة، وشنَّعت على السوريين وعللت هربهم بخسة منبتهم، ثم تبين أنهم غير
سوريين.
سيعلم الاتحاديون أنهم مخطئون في نظريتهم هذه كما ظهر لهم مثل ذلك في
استخدام عبيد الله بمثل ما يستخدمون له شاويشًا، وفي غير ذلك من أعمالهم المبنية
على نظرياتهم الباطلة، بل سيعلمون أن خداعهم هذا سيعود عليهم بضد ما يرون
كما وقع لهم غير مرة ولم يعتبروا.
ألا فليعلموا أن جميع من يفهم ويعقل من العرب يعتقد أن جمعية الاتحاد
والترقي لا تريد بالعرب إلا شرًّا، ولا تستخدم لشيء يتعلق بمصالحهم إلا من يكون
عونًا لها عليهم، والسوريون منهم خاصة يعرفون أن كتاب الحزب الوطني كفريد
وشاويش كانوا يبغضون جميع السوريين قبل أن يستخدمهم الاتحاديون في أهوائهم
وأن شاويشا قد غلا في ذلك وأفرط، فلا قيمة لكلامه عند أحد منهم إلا قيمة العدو
المستأجَر لإيذاء عدوه، فإذا كانوا يريدون إرضاء العرب فلا طريقة لذلك إلا ترك
الجمعية لمقصدها الأول، وهو العصبية التركية، وجعل العرب والترك كالأخوين
الشقيقين لا ترجيح لأحدهما على الآخر في شيء؛ وإلا خسروا العرب أو خسروا
أنفسهم، وإنه ليستحيل في اعتقادي الجمع بين بقاء الدولة وبقاء سلطة الجمعية فيها
وهي على طريقتها الأولى.
لولا أن هذه الجريدة مُنْشَأة بأموالنا لإفساد ذات بيننا بإغواء المفتاتين على
حكومتنا لما كتبت في شأنها كلمة واحدة؛ إذ ليس الشيخ عبد العزيز شاويش أحق
بأن يُلتفت إلى قوله من صبية الحزب الوطني الذين يخلقون كل يوم من الكذب
والبهتان ويخترعون من الغش والتمويه ما نعرض عنه ونمر به كرامًا كما أرشدنا
الله تعالى في كتابه، فنحن نحذر قومنا من دسائس جمعية الاتحاد والترقي لا من
شاويش.
فالذي ينبغي لكل محب لقومه محترم لنفسه من العرب أن لا يُعنى بقراءة هذه
الجريدة المستأجَرة بمال السحت، ولا يبالي بما يسمعه عنها، وعلى أصحاب
الجرائد العربية الصادقة المحترمة أن لا تردد صوتها، ولا تنقل عنها ولا ترد عليها،
ولكن يجب عليهم أن يحيطوا بكل ما فيها، فإن رأوا فيها مفسدة لا بد من درئها
وتفنيد باطلها؛ فليكن ردهم على المستأجِرين دون الأجير، وعلى الكلام دون
المتكلِّم؛ ولا يغتروا بما عساه يكتب فيها من مدح العرب أو دعوى السعي لخيرهم،
فقد رأوا مثل ذلك في جريدة العرب وعلموا أنه خداع وتغرير؛ ولا يلدغ المؤمن
من جحر مرتين وهل رأوا شرًّا من أفاعي جحر الاتحاديين؟ فجريدة (الباطل
يسفل) التي سميت بضد معناها شرّ خلف للجريدة التي سميت العرب.
الوفاق بين المسلمين والنصارى:
وعلى عقلاء البلاد السورية أن يعتبروا بهذا الإفساد فيزدادوا استمساكًا بحبل
الوفاق والتآلف الذي وفقهم الله له، وأن يُعنى كُتَّاب المسلمين منهم خاصة برد كل
كلام يكتب لإفساد ذات بينهم باسم الإسلام وبتحريك نعرة العصبية الدينية؛ فإن هذا
الإفساد مخالف لهدي الإسلام، ولا تغرنهم سفسطة بعض أجراء الاتحاديين وزعمهم
أنه يجب احترام شاويش بكونه من علماء الدين، لا لأن شاويشًا ليس من صنف
علماء الدين ولا زيه زيهم، ولا سمته سمتهم؛ إذ هو يحلق لحيته ويعفي شاربه
خلافًا للسنة؛ بل لأن كلامه باطل يراد به ما هو شر منه؛ والعبرة عندنا بالحقائق
والمقاصد، لا بالرسوم والظواهر، وحسب العامي الذي يشتبه عليه الكلام، أن يعلم
أنه صادر عمن جاهروا بعداوة العرب بالقول والعمل، فهذه آية لا تخفى على أحد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الصلح بعد سوء العاقبة
بسقوط يانية وأدرنة
كان زعماء الاتحاديين يزعمون أن سبب خذلان الجيش العثماني وانكساره في
حرب البلقانيين هو أن وزارة مختار ووزارة كامل لم تحسنا إدارته، ولم تكلا قيادته
إلى القادرين عليها، وأنه لو تعين محمود شوكت باشا مفتشًا للجيش؛ لتحولت
الحال، وكان الظفر للعثمانيين مضمونًا، ثم عمدوا إلى إسقاط وزارة كامل باشا
لرضائها بالصلح، وزعموا أنهم لا يصالحون إلا بعد أن ينقذوا أدرنة ويعيدوا شرف
الجيش إليه بالظهور على البلقانيين، وأن قوته ومعداته كافية لذلك لا ينقصها إلا أن
تكون الإدارة والقيادة في أيدي الاتحاديين، وقد نقلنا بعض مزاعمهم هذه وبيَّنا أنهم
لا غرض لهم إلا الاستيلاء على الدولة بهذه الفرصة وأنهم لا يستطيعون أن يصلوا
إلى صلح شريف كالصلح الذي كان يريده كامل باشا، وهو به زعيم: بأن يجعل
أدرنة ولاية إسلامية مستقلة فاصلة بين البلقان والآستانة، ثم صدقت الحوادث
آراءنا ففتحت اليونان يانيا عنوة وفتحت البلغار أدرنة عنوة، وفقدنا كل ما فيهما من
السلاح والذخائر؛ وهو معظم ما بقي عند الدولة، وأخذ منا عشرات الألوف أسرى؛
فهل هذا هو الشرف العسكري الذي أرجعوه بجعل الصدارة مع الحربية بيد محمود
شوكت باشا؟
كان المنافقون للاتحاديين يعظمون أمر أدرنة على عهد الوزارة السابقة
ويزعمون أنها إذا سقطت في أيدي البلغار حربًا أو صلحًا فقد سقطت الآستانة
وسقطت وراءهما الدولة والإسلام.
فلما أُخذت أدرنة عنوة وحصونها أمنع من جميع حصون البلاد المحصَّنة في
الدولة، وعلم جميع الناس أنه لا يوجد في هذه المملكة حصن يمتنع على حكومة
صغيرة كالبلغار - قام هؤلاء المنافقون يجعلون سقوط أدرنة وأخذها عنوة من قبيل
الظفر للدولة؛ لأن الأعداء علموا أن أخذ بلادها لا يمكن إلا بخسارة كبيرة! !
وأين البلاد المحصنة كأدرنة في الدولة؟ ومثل هؤلاء المنافقين لا يُكَلَّمُون ولا
يُخَاطَبُون، وإنما يُتمثل عند ذكر تهافتهم هذا بالحديث الصحيح المتفق عليه: إن مما
أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت.
ومنهم من يقول: إن أخذها عنوة أقل ذلاًّ من أخذها صلحًا بالنزول على حكم
الدول الكبرى؛ لأن الرضاء بما تقترحه الدول يطمعها فينا ويجعلنا تحت سيطرتها.
وكان يمكن تسليم هذا الكلام على علاته لو أن الدولة سَلِمَتْ بعد أخذ أدرنة من
سيطرة الدول وتحكيمهن في أمر الصلح وأمر الجزر، ولكنها لم تسلم بعد ذلك؛ بل
عادت بعد أخذ أعظم بلادها وأكثر ذخائرها بالقوة القاهرة إلى تفويض أمر الصلح
إلى أولئك الدول بلا شرط ولا قيد؛ وذلك شر ما وصلنا إليه من تسليم الأمر إلى
الدول وقبول سيطرتها، وما بعده أعظم منه، وسيرى القراء صدق رأينا في هذا
كما رأوا مثله كثيرًا.
وجملة القول أن هؤلاء الاتحاديين قد عجلوا على هذه الدولة ما لم يعجل
عبد الحميد، فهم الذين استبدوا بالأمر كل هذه المدة لم يخرج الأمر من أيديهم إلا شهورًا لم يتجدد فيها شيء لم يكن من آثارهم وعمل أيديهم، ولا يزالون يمنون علينا
بكلمة الدستور أو (مشروطيت) فلا كانوا، ولا كان دستورهم الخادع، ولا
مشروطيتهم الخاطئة الكاذبة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مستقبل الدولة العثمانية
قد عرف القراء قبل هذه الحرب رأينا في الدولة، وأنه يُخشى عليها سرعة
الزوال إذا ظل أمرها في يد جمعية الاتحاد والترقي، وأما بعد هذه الحرب فقد صار
يخاف عليها الزوال كل أحد حتى عوام العثمانيين. وقد كنت أعتقد وأقول منذ بدأت
هذه الحرب البلقانية: إذا ذهبت ولايات أوربة من الدولة فلا يمكن أن يُبقي التركُ
حكومة الدولة نيابيةً بقانونها الأساسي الحاضر، وناهيك بها إذا ظل أمرها في أيدي
الاتحاديين غلاة النعرة التركية. وإن من مقاصد صلحهم مع إمام اليمن والسيد
الإدريسي أن يقل عدد العرب الذين لهم حقوق في إدارة الدولة، وقد قامت الشعوب
العثمانية تطلب الاستقلال الإداري الداخلي المعبر عنه باللامركزية الإدارية، وتريد
الحكومة أن تلهيهم عن ذلك بقانون جديد وضعته للولايات لا ترضى به ولاية
باختيارها.
وجملة القول في الدولة أنه لا بد من انقلاب عظيم في شكلها العام
الدستوري، وفي إدارتها الداخلية.
وأما حالتها الخارجية فالظاهر لنا أن دول أوربة المسيطرة عليها لا تريد الآن
أن تحدث في ولاياتها الآسيوية تقسيمًا. وقد بلغنا أن بريطانيا العظمى - وهي
صاحبة النفوذ الأعلى في السياسة الأوربية العامة تريد - وتقنع الدول بما تريد -
أن تمهل الدولة خمس سنين لإصلاح بلاد الأناضول وتساعدها على ذلك بمساعدتها
على عقد قرض لا يقل عن عشرين مليونًا من الجنيهات.
ونحن نعلم أن إنكلترة لا بد أن تختم هذه الحرب بإظهار مساعدة للدولة،
ترمي به إلى عدة أغراض، منها: إرضاء مسلمي الهند الذين اشتد سخطهم عليها،
وسنبين سائر هذه الأغراض إذا صار ما بلغنا أمرًا مفعولاً.
***
حكمت علينا كثرة المواد الضرورية أن نؤخر شكرنا لأهل عمان والعراق
على إكرامهم إيانا في رحلتنا الأخيرة، كما أخرنا كثيرًا من التقاريظ والأخبار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
(أسئلة من صاحب الإمضاء في دربند بوسنة وهرسك)
إلى جناب الأستاذ الأكبر، والمصلح الغيور الأفخم، الإمام العلامة الأجل،
والهمام الفهامة الأكمل، حكيم الإسلام، وفيلسوف الأنام، قدوة العلماء الأعلام،
سيد المحققين وسند المدققين، مقتدَى الأمة، وعمدة أهل السنة، ناصر السنة وقامع
البدعة، فريد العصر ووحيد الدهر، البحر النحرير، والعلم الشهير، صاحب
المنار المنير، السيد الشريف السيد محمد رشيد رضا حفظه الله عز وجل وحيَّاه
وشكر سعيه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(س11) ما قولكم في رجل مسافر يريد إقامة مدة أربعة أيام في بلد فأكثر
على اختلاف الأئمة، هل يسوغ له أن يؤم المقيمين في الرباعية من غير قصر؛
وهل يعد مقيمًا أم لا؟
(س12) ما قولكم في قوم مسافرين في البحر أو سكة الحديد هل يتوجهون
عند إقامة الصلاة جماعة أو أفرادًا حيث يتوجه المركب ويسير من غير تَحَرٍّ للقبلة
ولا اعتناء بها، أم يتحرون القبلة ويتوجهون إليها من غير استدارة في الصلاة
واعتناء بحفظها عند تحول المركب عنها، أم يفعلون غير ذلك؟
(س13) ما قولكم في رجل يبدأ في الصلاة بأم الكتاب غير أنه يأتي
بالاستعاذة والبسملة بعد التكبير، ولا يقرأ شيئًا سوى ذلك لا نحو (سبحانك اللهم)
إلخ، ولا نحو: وجهت وجهي إلخ، وإذا سئل عن سبب ذلك أجاب: قراءة سبحانك
لم يرد فيه حديث صحيح مرفوع يصلح للاحتجاج به، وقراءة وجهت، لم يرو إلا
في النوافل، بل الذي صح قراءته عنه عليه الصلاة والسلام في الفرائض هو
قوله: (اللهم باعد) إلخ مع أنه لم يأخذ بما ورد في هذا عن أحد من الأئمة.
وعلى كل حال فأم الكتاب أحوى وأشمل للثناء والتحميد والتمجيد من غيرها،
فهو إذًا مستغن عنه وأحب إليه من جميع ما سواه، هل يكون فعله مخالفًا للسنة أم
لا؟
(س14) ما قولكم في رجل لا يأتي بـ (آمين) في شيء من الصلاة إلا في
حال الاقتداء وإذا سئل عن ذلك أجاب: لم يرد فيه حديث صحيح صريح يقتضي ذلك
إلا في هذه الحال، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الإمام: ولا
الضالين، فقولوا: آمين) .
ومع ذلك فإني عند الإتيان به في غير حال الاقتداء أخاف الالتباس بالقرآن
والزيادة عليه بما ليس منه، فحينئذ لا أحب الإتيان به إلا في ذلك الحال. هل
يكون تاركًا للسنة أم لا؟
(س15) ما قولكم فيما نقل عن الطحاوي من أن من توضأ ولبس الخفين
على طهارة كاملة فسبقه الحدث قبل أن يمسح عليهما لا يجوز المسح عليهما أبدًا،
هل هو صواب وموافق لأصول الشريعة أم لا؟
(س16) ما قولكم فيما قاله من قال من العلماء - أظنه صاحب تاج
العروس - من أن الإمام أبا حنيفة أعظم اعتناء في الحديث واشتراط شروطه من
الشيخين: الإمام البخاري والإمام مسلم، مع قلة اشتهار أبي حنيفة برواية الحديث
فضلاً عن الاعتناء به وبوضع شروطه، هل قوله صواب أم لا؟
فأرجو من أمواج علومكم الجواب الشافي عن هذه الأسئلة مع الأدلة الشرعية
والبراهين الواضحة حتى يبين الحق ويظهر اليقين. ولكم الشكر الجميل والحمد
الجليل على ممر الدهور والأوان.
…
...
…
...
…
...
…
... أحد قراء المنار المنير
…
...
…
...
…
... ع. ظ. م. ر. ر. ت. ر. ب. ر
أجوبة المنار
عن هذه الأسئلة بالترتيب
(صلاة المسافر ينوي أن يقيم أربعة أيام فأكثر)
إن السائل الفاضل يعرف خلاف العلماء في هذه المسألة، وإنما يسألنا عن
الراجح المختار عندنا فيها، فنحن نصرِّح له به تصريحًا، مع بيان أننا لا نجيز
لأحد أن يقلدنا فيه تقليدًا، وهو أن المسافر الذي يمكث في بلد أربعة أيام أو أكثر،
وهو ينوي أن يسافر بعد ذلك منها لا يعد مقيمًا منتفيًا عنه وصف السفر لا لغة ولا
عرفًا، وإنما يُعد مقيمًا من نوى قطع السفر واتخاذ سكن له في ذلك البلد، وإن لم
يتم له فيه إلا يوم أو بعض يوم، إننا نرى المسافر يخرج من بلده، وقد قدر لسفره
تقديرًا منه أنه يقيم في بلد كذا ثلاثة أيام؛ وفي بلد كذا عشرة أيام، وفي بلد كذا
عشرين يومًا إلخ، وهو إذا سئل في أي بلد أو سئل عنه هل هو من المسافرين
السائحين؟ أم من المقيمين الوطنيين أو المستوطنين؟ لم يكن الجواب إلا أنه من
المسافرين السائحين؛ فالمكث المؤقت لا يسمى إقامة إلا بقيد التوقيت، بحيث لو
سئل صاحبه هل أنت مقيم في هذا البلد؟ يقول: لا وإنما أنا مسافر بعد كذا يومًا،
أو أمكث أيامًا معدودة ثم أسافر إلى بلد كذا، أو أعود إلى بلدي، وقد يعبر عن هذا
المكث بلفظ الإقامة، وذلك لا ينافي أنه مسافر، ولا فرق في التوقيت بين اليوم
الواحد والأيام، بل يصح أن يقول المسافر: إنني أقيم في هذا البلد ساعة أو
ساعتين أو ساعات، ولا تخرجه هذه التسمية عن كونه مسافرًا، ولذلك ترى
الشافعية الذين يشترطون في الجمعة أن تقام بأربعين فأكثر مقيمين في البلد لا يعدون
من المقيمين فيه من ينوي المكث فيه أربعة أيام أو ثمانية عشر يومًا أو أكثر ثم
يسافر، بل يعدونه مسافرًا لا يحسب من الأربعين. ولكنهم يناقضون أنفسهم
ويعدونه مقيمًا بالنسبة إلى صلاة المسافر. وإني لم أعجب لغلط أحد في هذه المسألة
كما عجبت لغلط الشوكاني فيها؛ إذ قال: إنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير
مسافر حال الإقامة، فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما
سيكون عليه. اهـ.
وإنما المعلوم بالضرورة ما ذكرناه آنفًا من عرف الناس قديمًا وحديثًا، وهذا
المجاز الذي ذكره إنما يصح فيمن كان مسافرًا وعاد إلى بلده، فقال الناس المسلِّمون
عليه: كنا نسلم على فلان المسافر، أو هيا بنا نزور فلان المسافر. فهذا هو
المجاز باعتبار ما كان عليه، وأما المجاز الآخر فمثاله قول من تجهز لسفر من بلده
وعزم عليه، وقد طلب منه أن يعمل عملاً لا يعمله إلا المقيم: إنني مسافر فلا
أستطيع أن أعمل بهذا العمل. ولم يقل أحد: إن السفر عبارة عن الحركة والانتقال
بين البلاد، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عام حجة الوداع عشرًا وهو
يقصر. رواه الشيخان وغيرهما، وأقام فيها عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة
ويأمر أهلها بالإتمام ويقول: (يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإننا قوم سفر) رواه
مالك في الموطأ. وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر أيضًا، رواه أحمد وأبو داود.
فكان غير مسافر حقيقة على رأي الشوكاني بل مجازًا، وإذًا يثبت القصر في السفر
المجازي فلمَ لم يقل به؟ وليراجع السائل تتمة هذا البحث في تفسيرنا لقوله تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء:
101) الآية، فإننا حررناه هناك تحريرًا، ومنه يعلم أن صلاة السفر ركعتيتن
ركعتين إلا المغرب عزيمة لا رخصة؛ خلافًا لعائشة إن صح عنها الإتمام والتأول
بأنها تطيقه، وجزم بعضهم بعدم صحته؛ لمخالفته عمل النبي صلى الله عليه وسلم
المطرد في القصر ولروايتها، فهي قد روت أن الصلاة شرعت ركعتين ركعتين
ثم زيد في صلاة الحضر كما مر مفصلاً، ولولا أن جعل الرباعية في السفر ثنائية
عزيمة لكان الخطب فيما سأل عنه السائل سهلاً، فملخص السؤال هل يتم المسافر
الذي ينوي الإقامة أربعة أيام إذا أم المقيمين؟ وملخص الجواب أنه لا يتم في هذه
الحالة كما لا يتم في غيرها على المختار من كون القصر عزيمة، وإلا فهو مخير،
والله أعلم.
استقبال المصلي في المراكب والقطارات الحديدية:
استقبال القبلة في الصلاة فرض وشرط لصحتها يسقط بتعذره، والميسور لا
يسقط بالمعسور، فعلى المسافر في البر أو البحر أن يتحرى القبلة ويستقبلها إذا
أمكن؛ هذا متيسر في سفن البحر الكبيرة المعدة للسفر في هذا العصر؛ وقلما
تتحول السفينة تحولاً سريعًا ينحرف به المصلي عن القبلة في أثناء الصلاة، بل هذا
شيء كأنه لا يحصل، فإذا فرضنا أنها تحولت وعلم بتحولها يتحول هو إلى القبلة
أيضا، وأما القطارات الحديدية فلا يتيسر فيها استقبال القبلة كما يتيسر في البواخر
والسفن الشراعية الكبيرة، فالأولى للمسافر فيها أن ينتظر وقوفها ويصلي صلاته
تامة، ولو بالجمع بين الصلاتين، فإن خاف أن تفوته صلاة تحرى القبلة وصلى
كيفما تيسر له كما يصلي في السفينة الصغيرة قائمًا أو قاعدًا مستقبلاً يتحول بتحولها
ويستدير باستدارتها إذا أمكن، وإلا بقي على حاله، والصلاة في السفينة معروفة في
الفقه وهي محل الإجماع.
الاستفتاح في الصلاة بين التكبير والقراءة:
حديث الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا
إله غيرك. لا يصح كما قال الرجل، وأما قوله: إن حديث (وجهت وجهي) لم
يرو إلا في النوافل دون الفرائض، فغير صحيح، فإن حديث علي كرم الله وجهه
فيه - وإن قيده مسلم بصلاة الليل - قد قيده الشافعي في سننه وابن حبان في
صحيحه بالصلاة المكتوبة، ولا منافاة بين القيدين فإنه كان يستفتح بذلك في المكتوبة
وفي صلاة الليل، وأما حديث (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) إلخ فلا يمنع العمل
به عدمُ أخذِ أحدٍ من الأئمة به إن صح هذا، وعدم العلم بأخذهم به لا يقتضي عدمه،
ولم يؤثَر عن أحد منهم الطعن فيه، فذلك الرجل الذي يبدأ بعد تكبيرة الإحرام
بالاستعاذة والبسملة وأم الكتاب يعد مخالفًا للسنة فيما ثبت وصح عن النبي صلى الله
عليه وسلم عنده، ثم رغب عن العمل به؛ لأنه لم يعرف عن أحد من الأئمة أنه أخذ
به، كحديث:(اللهم باعد....) وكذا حديث علي إذا علم به ولم يكن له مطعن في
تقييد الشافعي وابن حبان إياه بالصلاة المكتوبة، فينبغي له أن يأتي بما صح ولو لم
يواظب عليه.
التأمين بعد الفاتحة في الجماعة وغيرها:
ثبتت مشروعية تأمين الإمام والمأمومين بأحاديث متفق على صحتها، وروى
أبو داود وابن ماجه والدارقطني وقال: إسناده حسن، والحاكم وقال: صحيح على
شرطهما، والبيهقي وقال: صحيح - عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا تلى {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 7) قال:
(آمين) حتى يسمع من يليه في الصف الأول.
وروى مثله أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والدارقطني وصححه، وابن
حبان من حديث وائل بن حُجر، قال الحافظ ابن حَجر: وسنده صحيح، وخطّأ ابنَ
القطان في إعلاله، وقد ورد من طرق ينتفي بها إعلاله. وقال ابن سيد الناس: ينبغي
أن يكون صحيحًا. فيدل هذا وما قبله على مشروعية التأمين مطلقًا، فلا حاجة إلى
نص في تأمين الذي يصلي منفردًا، لهذا نرى أن اجتهاد من يترك التأمين في غير
حالة الاقتداء خطأ.
المسح على الخفين بعد الحدث واشتراط الطهارة قبل لبسهما:
الأصل في اشتراط طهارة الرِّجلين قبل لبس الخفين لجواز المسح عليهما:
حديث المغيرة بن شعبة المتفق عليه وما في معناه، قال: كنت مع النبي صلى الله
عليه وسلم ذات ليلة في مسير له فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وغسل
ذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: (دعهما فإني أدخلتهما
طاهرتين) فمسح عليهما. اهـ.
وورد هذا الحديث بألفاظ أخرى في الصحيحين وغيرهما، وكان ما ذكر فيه
في وقعة تبوك وهي بعد نزول سورة المائدة التي فيها آية الوضوء.
واختلف فقهاء الأمصار من سلف الأمة في المراد بطهارة القدمين، فذهب
الجمهور إلى أنها الطهارة الشرعية، وذهب بعضهم إلى أنها الطهارة الحسية التي
تستفاد من إطلاق اللغة، أي أدخلهما نظيفتين ليس عليها خبث، وهذا مذهب الإمام
داود. وفي حديث عمرو بن أمية الضمري عند أحمد والبخاري وغيرهما وحديث
بلال عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا أبا داود، وحديث المغيرة عند مسلم
والترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة، وفي بعض
الروايات: الخمار والخفين) .
وروي العمل بحديث المسح على العمامة عن جماعة من الصحابة والتابعين
وأئمة الأمصار كالأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود. ولم يُروَ اشتراط
وضع العمامة أو الخمار على طهارة إلا عن أبي ثور، وهذا يرجح قول داود بن علي
في طهارة القدمين؛ لأن من شأنهما أن يصيبهما الخبث.
وهذا المسح لا ينافي حكمة الوضوء؛ وهي تعهد أطراف البدن بالنظافة لكثرة
طروء الوسخ عليها وما في غسلها من التنشيط على العبادة مع سهولة ذلك وعدم
الحرج والمشقة فيه إلا في نزع العمامة والخفين، وأعني العمامة التي كانوا
يتعممون بها في عهد التشريع، فقد كانت تدار على الرأس مباشرة في الغالب ويحتنك
بها فتشبه الخمار؛ ولهذا ورد المسح بلفظ العمامة وبلفظ الخمار.
وإزالة مثل هذه العمامة لمسح الرأس وإعادتها لا يخلو من مشقة كنزع الخفين
وغسل الرجلين، فلما كان الأمر كذلك، وكان الله عز وجل يقول في آية الوضوء
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (المائدة: 6) وليس
عندنا نص نقيد به المسح بما اشترطه الطحاوي - فظهر أن قول الطحاوي بوجوب
الوضوء والمسح عليهما قبل أن يحدث بعد لبسهما على طهارة لا يقتضيه نص
الأحاديث الواردة في مشروعية المسح ولا حكمة الوضوء والمسح؛ ولذلك كان
الجمهور على خلافه.
تفضيل الإمام أبي حنيفة بالاعتناء بالحديث وشروطه على الشيخين:
لا ينبغي إبداء الرأي في عبارة من فضل أبا حنيفة في الحديث على الشيخين
رحمهم الله أجمعين، إلا بعد الاطلاع عليها، وما نقله السائل عنه أراه غير صواب،
ولا أحب الخوض في هذه المسألة؛ لأنني لا أرى له فائدة بل ربما كان ضارًّا؛
لأن الناس يتبعون الهوى في الكلام على الأئمة المتبوعين، ولا يقبلون إلا ما وافق
أهواءهم، وليس لأبي حنيفة كتب في الحديث كالصحيحين حتى تكون فائدة
التفاضل الاعتماد على كتبه وما اعتمده في أسانيدها وترجيحها على الصحيحين أو
ترجيح الصحيحين عليها عند الاحتجاج.
والمحدثون الذين تكلموا في الإمام أبي حنيفة قد اعترف جمهورهم بأنه سمع
الحديث من عدة رجال وسمع منه تلاميذه، ولكنهم لم يعدوه من رجال الجرح
والتعديل الذين يعتمد على كلامهم في نقد الحديث كالشيخين، ومَن قبلهما ومن
بعدهما، فلا تكاد ترى اسمه في كتب هذا العلم، وما يعزى إليه من الحديث
كاستدلاله به في كتب الفقه مثلاً يحكِّم المحدثون فيه رواية الحفاظ ويرجعون إليه في
كتبهم كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم ويعتمدون على أسانيدها وعلى كلام أئمة
الجرح والتعديل في رجالها كابن القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والشيخين
وأصحاب السنن الأربع، ويعتمدون فيما اختُلف فيه منها على تحقيق حفاظ القرون
الوسطى كالذهبي وابن حجر، ولا يعدون استدلال الإمام وأصحابه بحديث كافيًا في
الحكم بصحته، وإن صرحوا بأنه صحيح، بل نراهم يحكمون بضعف كثير من
الأحاديث التي استدل بها الحنفية على قول الإمام وأصحابه، بل جزموا بأن كتبهم
فيها أحاديث موضوعة.
ولو كان لأبي حنيفة كتب في الجرح والتعديل أو رويت عنه أقوال في ذلك
لأحَلَّها هؤلاء محلها من الاعتبار؛ لأنهم ترجموه بالورع والتقوى، وصرح بعض
المتأخرين بأنه لا يخل بمقامه تضعيف بعض الحفاظ له من جهة حفظه كالنسائي
وابن عدي، وجملة القول أن أبا حنيفة يعد عندهم من أئمة الفقه لا من رجال نقد
الحديث فلا وجه للمفاضلة بينه وبين الشيخين في الحديث، ونسأل الله أن ينفعنا
بعلوم الجميع ويحفظنا من العصبية الجاهلية لأحد منهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
محاورة بين عالم سياسي وتاجر ذكي
في المركزية واللامركزية
التقى أحد التجار الأذكياء بصديق له من أهل العلم والوقوف على السياسة
وأحوال الزمان؛ وكلاهما من العثمانيين، ودار بينهما الحديث الآتي:
التاجر: نرى الجرائد وقد شغلت الناس بكلمتين ما كنا نسمعهما قبل هذا العهد،
وهما: كلمة المركزية وكلمة اللامركزية، ونرى الناس قد اختلفوا فيهما اختلافًا
كبيرًا؛ فمنهم من يقول: سعادة الأمة وحياة الدولة لا يسلمان إلا بالمركزية، ومنهم
من يقول بالعكس، ولما كنت واثقًا بمعرفتك وصدقك أيها الأستاذ وبإخلاصك للدولة
عولت عليك في كشف الحقيقة، فأسألك أولاً: ما هي المركزية واللامركزية؟
الأستاذ: المركزية عبارة عن كون رجال الحكومة العليا في عاصمة المملكة
يتولون بأنفسهم أمر سياستها الخارجية وإدارتها الداخلية، فيكون بيدهم الحل والعقد،
والدخل والخرج، والنصب والعزل. وعدم المركزية عبارة عن جعل الإدارة
الداخلية لكل ولاية أو قطر من المملكة الواحدة في أيدي أهل تلك الولاية، وتكون
رابطتهم بمركز الحكومة العام في الأمور العامة كلها كالسياسة الخارجية والحربية
ومصلحتي البريد والبرق.
التاجر: هل الممالك الأوربية والأمريكية من نوع المركزية أم من نوع
اللامركزية؟
الأستاذ: بعضها من هذا النوع وبعضها من النوع الآخر؛ فجمهورية فرنسة
مركزية وجمهوريتا سويسرة والولايات المتحدة لا مركزية، وكذلك إمبراطوريتا
ألمانية والنمسة.
التاجر: ما هو سبب الاختلاف في نوع إدارة هذه الممالك مع كونها كلها
مرتقية في العلم والقوة والسياسة.
الأستاذ: أما فرنسة فترى أن الإدارة المركزية تناسبها؛ لأن مملكتها كدار
واحدة تسكنها أسرة واحدة. فهي ضيقة المساحة ومتصلة الأرجاء كلها بالسكك
الحديدية وأهلها من جنس واحد ودين واحد وينطقون بلغة واحدة، وبقية الممالك
المرتقية ليس لها كل هذه الصفات؛ فكان الأصلح لها والأدعى إلى عمرانها ورضاء
أهلها واتحادهم وارتباط بعضهم ببعض أن تكون حكومتها من نوع اللامركزية.
التاجر: ما هو الأصلح لدولتنا العلية؟ المركزية أم اللامركزية؟
الأستاذ: إن اللامركزية أصلح لها، بل لا صلاح لها بغيرها؛ لأسباب كثيرة
إذا أمكن الجدال والمراء في بعضها، فلا يمكن في سائرها، إلا لمن أراد أن يسمي
الضلالة هداية والباطل حقًّا.
التاجر: تكرم عليَّ ببيان هذه الأسباب أو المهم منها.
الأستاذ: إن هذه الأسباب قسمان: قسم منها لبيان كون اللامركزية أسهل
طرق العمران وأقوى وسائل الترقي، والقسم الآخر لبيان كونها ضرورية للدولة؛
لا يمكن عمرانها ولا حفظها بدونه، وبحثنا الآن في الأول يعد من ترك الضروري
للاشتغال بالكمالي، فيجب أن نبحث أولاً عما يقي بلادنا من الخراب والدمار
المشرفة عليهما؛ لا أننا في عمران نبحث عما هو أكمل منه، فالولايات المتحدة
الأمريكية كانت باللامركزية في مقدمة ممالك الأرض عمرانًا، ولو اختارت لنفسها
الحكومة المركزية لأمكنها بها أيضًا أن تكون عامرة؛ لأنها على سعتها متصلة
الأرجاء بالسكك الحديدية، ولها لغة واحدة، وتربى أهلها تربية واحدة أو متشابهة،
فأين نحن منها ومن التشبه بها؟
أما الأسباب التي تجعل اللامركزية ضرورية للمملكة العثمانية فأهمها ما يأتي:
(1)
أن هذه المملكة واسعة المساحة بعيدة الأرجاء، نائية الأنحاء، حتى
إن مساحة آسية الصغرى والبلاد العربية تضاهي بمساحتها ممالك الهند التي يعيش
فيها أكثر من ثلاثمائة مليون، وهي على سعتها ليس فيها سكك حديدية تربط
ولاياتها بالعاصمة التي صارت في الطرف منها، ولا بعضها ببعض، فتوقف
أمورها الإدارية والقضائية وغيرها على أمر المركز ونهيه مفسد لها لبطئه،
ولأسباب أخرى تعلم مما يأتي، فقد تحدث الحادثة المهمة كالثورة الأهلية
والخروج على الحكومة في بعض البلاد، فلا يستطيع المركز العام أن يبدأ بتدارك
ذلك إلا بعد عدة شهور، ولا أن ينتهي منه إلا بعد سنين، فأي فساد أشدّ من جعل
أمور الأمن والعدل والتعليم والعمران مقيدة بهذا المركز السحيق.
(2)
أن أهل هذه المملكة مختلفو اللغات، وأكثرهم لا يعرف لغة أهل
المركز العام، ولا أهله يعرفون لغاتهم، وكذا سائر الشعب التركي الحريص على
الاستئثار بجميع أنواع السلطة والحكم وإدارة جميع المصالح في جميع هذه البلاد،
فإقامة العدل الذي هو الشرط الأول للعمران متعذر من حكام لا يعرفون لغة الذين
يحكمون بينهم، وكذلك سائر المصالح؛ لأنها تتوقف على فهم كل فريق من الآخر،
ودع عصبية الأجناس التي أثارها الاتحاديون فيهم.
(3)
أن أهل هذه المملكة مختلفون في الأديان والمذاهب والعادات والأخلاق
اختلافًا كبيرًا بحيث إن أكثر مسلمي العرب كأهل الحجاز واليمن ونجد لا يقبلون
أن يُحكم بينهم بالقوانين التي يرضى بها مسلمو الترك، بل يعدون الحكم بها كفرًا
يجب قتال الحكومة التي تقرره عند القدرة على ذلك، فإذًا لا يستقيم الأمر بجعل
الإدارة والقضاء والتعليم في كل بلاد موافقًا لحالها، وهذا هو أساس اللامركزية.
(4)
أن المتخرجين في مدارس عاصمة دولتنا الرسمية الذين هم أصحاب
التقدم في وظائفها الشرعية والإدارية والقضائية العدلية - لا يكاد يوجد فيهم أحد يعرف
تاريخ جميع شعوب الدولة وأحوالهم الروحية والاجتماعية، فتوسيد الأمر إليهم
مدعاة الخلل في الإدارة والظلم في القضاء، زد على هذا أن أكثرهم لا يعرف من
لغات هذه الشعوب إلا لغة شعب واحد وهي التركية كما قلنا في بيان السبب الثاني.
(5)
أن أكثر المتخرجين في هذه المدارس الرسمية متفرنجون، حتى إنه يقل
فيمن ينتسبون إلى الإسلام منهم من يؤدي الفرائض ويجتنب كبائر المعاصي،
وأمثال هؤلاء لا يصلحون لتولي الأحكام بين من يمقتون التفرنج والفسق، وإن
كان من المعاصي الشخصية كشرب الخمر، فكيف إذا اقترن - كما هو الغالب
بالمعاصي التي يتعدى ضررها كالرشوة.
(6)
أن مركز دولتنا شر من مركز كل حكومة مركزية في الدنيا، فإن
رجالها لا همَّ لهم إلا جباية المال بالحق وبالباطل والتمتع به وعدم وضعه في
مواضعه؛ فأموال الأوقاف والطرق ومخصصات المعارف للولايات لا تصرف في
مصارفها، بل يجرف أكثرها إلى المركز العام (الآستانة) وهناك يذوب ويضمحل،
والبلاد كلها خراب حتى الآستانة، فلو كانت المركزية تصلح لهذه المملكة لكان ما
علمنا من حال القائمين بها كافيًا وحده لتركها وجعل اللامركزية بدلها.
وإنني أعلم علم اليقين أن الناس ما صبروا على أمثال هؤلاء الحكام في مثل
بلادنا إلا كارهين مكرهين، وها نحن أولاء نرى أهل بلادنا السورية وهم أحسن
البلاد العثمانية عمرانًا بنشاطهم قد يئسوا، فهم يهاجرون منها أفواجًا، فإذا استمرت
هذه الهجرة بضع سنين تصبح البلاد خرابًا يبابًا، وأنت تعلم أن البلاد التي
يهاجرون إليها ليست أشد قابلية للعمران من بلادهم، ولكن العمران محال في ظل
حكومة مركزية بينها وبين أهل البلاد من الفروق ما أشرنا إليه.
فهذه أهم الأسباب التي تعرف بها أن هذه المملكة لا يصلح أمرها إلا
باللامركزية الإدارية الواسعة أو الاستقلال الإداري التام، وإلا فهي سائرة إلى
الخراب وصائرة إلى الزوال، أعني استيلاء الأجانب عليها بالفتح السلمي أو
الحربي.
التاجر: يا لله العجب! إنني سمعت بعض المعترضين على طلاب اللامركزية،
يقولون: إن حسنها من جهة العمران لا ينكر إلا أنها تكون وسيلة إلى استيلاء
الأجانب على كل ولاية تدار باللامركزية؛ لأنها تنفصل من مركز السلطنة فتكون
ضعيفة لا تقدر على حفظ نفسها كما وقع في تونس ومصر.
الأستاذ: يمكنني أن أكتفي من معارضة هذا القول بالسؤال عن ولاية طرابلس
الغرب وولايات الدولة الأوربية التي انقدَّتْ منها أولا فتألفت منها عدة ممالك،
والولايات التي انفصلت منها في هذا العام أو هذه الأيام بقوة تلك الولايات التي
صارت ممالك قوية بعد استقلالها، هل كانت هذه الولايات الزائلة وأمثالها مما
أخذته روسية والنمسة تدار على قطب اللامركزية، أم كانت - ما عدا طرابلس - أشد
الولايات اتصالاً بالمركز ومعهدًا ومقرًّا لكل ما فيه من القوة؟ فإذا كانت الحكومة
المركزية الشديدة لم تمنع أقرب الولايات إلى المركز العام وأشدها اتصالاً به من
استيلاء أضعف الأجانب عليها، فكيف تقدر أن تمنع الولايات البعيدة عن المركز
كالعراق وسورية أن تستولي عليها الدول الكبرى كإنكلترة وفرنسة؟ .
كان يمكنني أن أكتفي بهذا، ولكنني أفرض أن الدولة - أعزها الله وأصلحها -
يمكنها أن تحمي سورية من فرنسة والعراق من إنكلترة بأساطيلها وجيوشها البرية
التي تتدفق من المركز العام في طرف المملكة الأقصى، أفرض هذا فأقول: ما الذي
يمنعها من هذه الحماية إذا كانت إدارة البلاد بأيدي أهلها وهم عثمانيون تابعون لها
على كل حال؟ ، وما يطلبونه من اللامركزية الإدارية لا يخرج قوة البلاد العسكرية
من سلطة المركز العام، ولا يبيح للولايات أن تعقد مع الأجانب معاهدات سياسية،
ولا أن تعطيهم شيئًا من الامتيازات التي تنافي مصلحة المركز السياسية أو الحربية.
كما كانت عليه تونس ومصر بالفعل قبل حماية فرنسة للأولى واحتلال إنكلترة
للثانية، على أن حكومة الآستانة المركزية لو كانت ذات قوة حربية وسياسية لما
حل بهذين القطرين ما حل بهما، فهذه إنكلترة لم تحتل مصر إلا بعد أن طالبت
حكومة الباب العالي بإرسال جيش عثماني لقمع الثورة العرابية فلم تفعل بل أذنت
لها بأن ترسل الجيش الإنكليزي للقيام بذلك وأصدرت إرادة سلطانية بناء على طلب
إنكلترة بعصيان عرابي ومن معه للخليفة أو لدولة الخلافة بقيامهم على الخديو
وقتالهم لإنكلترة.
فلو أن طلاب اللامركزية طلبوا الاستقلال الإداري والسياسي والعسكري لكان
اعتراض أولئك المعترضين موضع النظر والبحث، ولكنهم لم يطلبوا ذلك كله،
وإنما طلبوا القسم الإداري منه المتعلق بالمصالح الداخلية المحضة كالإدارة والقضاء
والتعليم والزراعة والصناعة، ولا يقصد من هذا إلا عمران الولايات وترقي أهلها
بحيث تكون كل ولاية عضوًا قويًّا في بنية الدولة.
التاجر: إن للمعترضين اعتراضًا أقوى من الاعتراض الأول، وهو أن أهل
الولايات يغلب عليهم الجهل وفساد الأخلاق والعجز عن القيام بأعمال الحكومة؛
لأنهم لم يتمرنوا عليها، وإنما المتمرن على ذلك والمستعد له هم إخواننا الترك.
وقد سمعت قولك في ضعف الترك وجهلهم، فما قولك في غيرهم من العثمانيين
ونسبتهم إليهم؟
الأستاذ: إنني لا أجهل ما عليه أهل بلادنا العربية من الجهل وضعف
الأخلاق ولا أنكر ذلك، وأنا أعلمه وأعلم أن سببه الأكبر ما كان من سوء إدارة
حكومتهم المركزية واستبداد رجالها وظلمهم، ولكنني أقول: إن إخوانهم الترك
ليسوا خيرًا منهم في شيء قط، لأنهم ليسوا أزكى فطرة ولا أذكى قريحة ولا أفضل
وراثة لسلف صالح، ولا كان الاستبداد الذي يفسد البشر أخف وطأة عليهم، بل
ربما كان أشد؛ لأن نفوذ الحكومة الاستبدادية كان عامًّا فيهم شاملاً لهم، ولم يعم
البلاد العربية كلها، فلا يزال فيها ملايين عجز الظلم عن التسلق إليهم، وتضاءل
الاستبداد أن ينال منهم، ومن دونهم ملايين آخرون (أهل اليمن) وقفوا في وجوه
جيشه وقفة القرن للقرن، وكانت الحرب بينهما سجالاً مدة أربعة قرون.
ثم إن للتاريخ سريانه فيها قريب، وهو في الولايات التركية أصيل قديم.
نعم إن العاصمة البزنطية التي كانت تكتفي في الأجيال الخالية بأن يكون لها
في كل قطر رجل أو رجلان لتمثيل قوتها وعظمتها، وجباية المال لها - قد وسعت
نفوذها في عهد السلطان عبد المجيد بعض التوسع ولم تستطع أن تبث رجالها في
كل مدينة من مدن البلاد إلا في عهد نيرونها عبد الحميد خان، الذي يلعنه أهلها
وغيرهم بكل شفة ولسان، فإذا كان عبد الحميد ورجاله وخلفهم الاتحاديون، وهم
شر منهم، هم الذين يفضلهم الجاهلون والمنافقون على سائر أهل المملكة من جميع
الشعوب بدعوى أنهم تمرنوا على الإدارة والأحكام، فحسبنا في الرد عليهم أن
السماء والأرض قد استغاثتا من ظلمهم وسوء إدارتها، وحسبك من الشواهد العيانية
ما جرَّته إدارتهم وسياستهم على المملكة من إضاعة ثلثها الإفريقي وثلثها الأوربي،
وبعض الثلث الثالث الآسيوي، وجعل الباقي على خطر، وإنه لم يوجد أحد منهم له
في المملكة أثر من آثار العمران، إلا أن يكون مدحت باشا على ضعف فيه، فإننا
لا ننسى له مثل تأسيس شعبة المعارف في سورية وخط الترام بين طرابلس
ومينائها، وأمثال ذلك من الأعمال الصغيرة فيها نفسها، التي نستكبرها لأنه لم
يخرج من الآستانة أحد له عمل عمراني مثلها، فالبزنطيون قوم متمرنون على
التخريب كما ثبت بالمشاهدة والتجريب، فهل نجعل هذا دليلاً على استعدادهم
للتعمير؟
إذا أردنا أن ننصف التاريخ في وصف الشعوب العثمانية فلا مندوحة لنا عن
القول بأن الشعب الأرمني هو الآن أكثرها تعلمًا وتربية مدنية ونشاطًا في الكسب
والعمل، ويليه الشعب السوري، وإنما ينقص عنه في نسبة التعليم والتفرق، فإن
تساهلنا وتنازلنا قلنا: (كلنا في الهوى سوى) فلماذا تُجعل الأحكام والمصالح كلها في
أيدي البزنطيين دون غيرهم؟ فإن فرضنا أنهم يمتازون بشيء من قشور العلوم
والفنون الأوربية التي تقرأ في مدارسهم، فأي حاجة لنا بهذه القشور في بلادنا التي لا
تعرف لغتهم لتستفيد شيئًا منها، إن كانت محتاجة إليها، على أن كثيرًا من أبنائنا
المتعلمين في تلك العاصمة والمتعلمين في بلادهم وفي مصر وأوربة هم خير منهم،
فنستغني بهم عنهم.
إننا قد جربنا حكمهم وعرفنا ثمرته، فلنجرب استعدادنا أيضًا عسى أن تكون
غيرة أهل كل قطر على بلادهم أشد من غيرة البيزنطيين على ما كان من سلب
أموالهم، فتقع المباراة في وسائل العمران بين الشعوب العثمانية كلها، ويعتمد كل
منهم على ما آتاه الله من المواهب فتعمر البلاد ويكون بعضها لبعض عونًا وظهيرًا.
التاجر: أليس طلب العرب للإدارة اللامركزية مشعرًا بكراهة إخوانهم الترك
ومشاقتهم؟
الأستاذ: إن الأعمال العامة من سياسية وإدارية تبنى على المصلحة لا على
عاطفة الحب أو عاطفة البغض، وإن ما جرى عليه حكم عاصمة هذه الدولة باسم
الحاكمية التركية كان وما زال ضارًّا بالترك والعرب وسائر الشعوب التي تغلبت
عليها تلك العاصمة الظالمة، وإنما يتلذذ الجاهلون من إخواننا الترك بنسبة الدولة
إليهم وتكلُّم رجال الحكومة البيزنطية بلغتهم، بلغة تسمى التركية، وإن كان حظها
من التركية الأصلية لا يزيد على حظها من غيرها كثيرًا. ولا شك أن نسبة هؤلاء
البزنطيين إلى الترك أضعف من نسبة لغتهم إلى التركية، فإنهم أوشاب من شعوب
شتى أكثرهم من الروم الذين انتموا إلى الإسلام. وكيفما كانوا وكانت أنسابهم فإنهم
قد أضاعوا ثلثي ملك بني عثمان وخربوا الثلث الآخر، ولم يبق في الإمكان أن
يطول حكم هذه العاصمة المركزي؛ ولا سيما بأمثال هؤلاء الرجال، فطلبُ تغييره
يُعد خدمة لإخواننا الترك قبل غيرهم من الشعوب العثمانية، وإلا صار الجميع أكلة
للأجانب، ولا يعده كراهة للترك إلا من يود أن تبقى هذه المملكة عرضة للاستبداد
والنهب، والحق أن اللامركزية هي التي تشد أواخي إخاء العرب والترك، وعدمها
هو الذي يخشى أن يؤدي في أقرب وقت إلى شقاق عظيم وفتن خطرة، وأي عاقل
يقول: إن تمييز أحد الأخوين على الآخر وجعله سيدًا له وحاكمًا قاهرًا فوقه، هو
الذي تقوم به حقوق الأخوة وتحفظ به رابطتها؟ لأجل هذا نرى العقلاء المخلصين
من الترك موافقين لأمثالهم من العرب على اللامركزية ومنهم صادق بك رئيس
الائتلافيين وموجد الدستور وأركان حزبه.
التاجر: هذا هو الحق المعقول وإن كان بعض وجهاء بلادنا الذين مردوا على
النفاق وبعض طلاب المال والجاه من فضلات الاتحاديين، يسفهون أنفسهم ويحقرون
شعبهم بتفضيل أولئك المخربين عليهم، ثم إنهم يقولون: إن كل ما يطلب من
الإصلاح باسم اللامركزية يمكن أن يحصل بطريقة أخرى يسمونها توسيع المأذونية
فما رأي الأستاذ في ذلك؟
الأستاذ: إن ما يسمونه توسيع المأذونية ليس إلا توسيعًا لنطاق الاستبداد، فهو
شر من عدمه؛ لأنه عبارة عن إذن المركز العام للولاة وغيرهم من الحكام الإداريين
بأن يتصرفوا في بعض الأمور بدون إذن من نظارة الداخلية، فهو يستلزم قلة
المسئولية والتجرئة على الاستبداد، ونحن في طور يجب أن تكون المسئولية فيه
شديدة على الحكام؛ لأنهم تربوا على الاستبداد والكبر الذي هو غمط الحق
واحتقار الناس؛ وذلك منافٍ لروح الحكومة التي هي شكل حكومتنا الرسمي الآن،
وعشاق الاستبداد يزهقون هذه الروح بمثل توسيع المأذونية؛ لأنه توسيع للسلطة
الشخصية، وكيف يتفق توسيع سلطة الولاة والمتصرفين فمن دونهم في حكومة
ضيق قانونها الأساسي سلطة السلطان الذي أثبت له منصب الخلافة والقيادة العامة؟
وسترى ما يترتب على ذلك من الفساد.
التاجر: بقي عندي سؤال واحد وهو أنني سمعت بعض الناس يقول: إن
اللامركزية ضرورية لا بد منها، ولكن هذا الوقت ليس وقتًا لطلبها لاشتغال الدولة
بالحرب، فما رأيك في ذلك؟
الأستاذ: سمعت مثل هذا الكلام ورأيت أن بعضهم يقوله تزلفًا للحكومة
الاتحادية ونفاقًا؛ لأنه لا يجد كلامًا يشنع به على طلاب اللامركزية أو الإصلاح
على قاعدتها غيره، إما مطلقًا وإما كلامًا مرجو القبول عند العقلاء، ومنهم من
يقوله لاشتباه الأمر عليه وميله إلى قبول كل رأي أو قول في تخطئة من يشغل
الدولة عن الحرب، وشبهة جميع من يقولون هذا القول هي أن الدولة مشغولة
بالحرب وهي أهم الأمور فلا يجوز أن تشغل بغيرها، والواجب أن يؤجل هذا
الطلب إلى أن يجتمع مجلس الأمة.
وجواب هذه الشبهة سهل جدًّا نذكره مختصرا لبيان جهلهم وإن كانت الشبهة
زالت بانقضاء الحرب، وهو من وجوه:
(1)
أنه لا يقول عاقل: إن الحكومات والدول لا تشتغل في أثناء الحرب
إلا بها وبشئونها فتعطل لأجلها سائر مصالحها الإدارية والسياسية والعلمية
والعمرانية، بل يجب أن تشتغل كل نظارة منها بعملها الخاص وتدع أمور الحرب
لنظارة الحربية، وما يتعلق منها بالسياسة لمجلس الوكلاء، ونحن نرى الحرب لم
تمنع نظارة الداخلية من الاشتغال بقانون الولايات ومحاولة تنفيذه قبل جمع مجلس
الأمة وتصديقه عليه، فكان يمكنها أيضًا أن تضع قانونًا للإدارة اللامركزية، وإن
لم تنفذه موقتًا كقانون الولايات.
(2)
أن طلاب اللامركزية الذين جعلوا لجنتهم العليا بمصر قد ألَّفوا لها
حزبًا سياسيًّا طلب من حكومة الآستانة التصديق عليه، وغرضه السعي إلى انتخاب
أعضاء مجلس الأمة المبعوثين من الموافقين لرأيه ليقرروه في المجلس، فأي شاغل
للدولة في هذا عن الحرب؟ وأي مانع فيها يمنع نظارة الحربية من القيام بما يجب
عليها في قتال أعدائها؟ وهل كان تقصيرها فيما يجب عليها ناشئًا عن اشتغالها
بهذا الحزب؟ لا لا وأما طلاب الإصلاح في بيروت والشام والبصرة فقد طلبوا
من الحكومة ما رأوه مرجوًّا لبلادهم ولم يهددوها بثورة ولا عصيان ولا امتنناع
عما أوجبته عليهم من الضرائب والعشور، بل لم يجتمعوا أولاً لطلب الإصلاح إلا
بإذن الحكومة، فهل يقول عاقل: إن هذا يشغل الدولة عن الحرب أو يمنعها
من الاستعداد لها؟
(3)
لو أن اللامركزيين وطلاب الإصلاح ألَّفوا جمعية سياسية فدائية
كجمعية الاتحاد والترقي، وحاولوا أن يتوسلوا إلى نيل مقصدهم الجليل بكل ما تبيح
التوسل به جمعية الاتحاد والترقي الثورية إلى مقاصدها، لما كان لهذه الجمعية
وأنصارها والمنافقين لها أن يكونوا هم الذين يدَّعون الحق في لومهم، فإذا كانت
الجمعية استباحت لنفسها أن تهجم بزعنفة من الأشقياء والجهلة الأغبياء على الباب
العالي وتسقط حكومة الدولة العليا بقوة السيف والنار وتستحل قتل ناظر الحربية
وقائد الجيش العام، واستحلاله كفر بالإجماع، ولم تكن الحرب مانعة لها من هذه
الجريمة التي لها أكبر تعلق بالحرب - فلماذا تزعم أن مثل ذلك بل ما هو دون ذلك
وأبعد منه عن الشغب وعن مخالفة الشرع والقانون جريمة لا تغفر؟
من أمعن النظر ومحَّص الحقيقة ظهر له أن طلاب الإصلاح قصروا؛ لأنهم
لم يغتنموا فرصة اشتداد الحرب لإلزام الدولة بما يطلبون بعد تجربتهم لها في
السنين الطوال وإيقانهم بأنها لم تفعل باختيارها إلا الاستبداد وتخريب البلاد. ولو
فعلوا لنفعوها؛ وكانت كمن يقاد إلى الجنة بالسلاسل (كما ورد) ولسلِمت مما
يُنتظر من سيطرة الأجانب، ولم يكن لعملهم أدنى تأثير ضار لها في الحرب،
ولكنهم بالغوا في الهدوء والسكينة، وهم ينتظرون ما يدعي المعترضون أنه صواب،
وسترى أن الصلح يتم قبل أن يعملوا عملاً ما، ويخشى أن يبادر الاتحاديون
المتفرنجون في أثناء الصلح وعقبه إلى بيع مرافق البلاد العربية وغيرها للدول
الكبرى الطامعة فيها بإعطائهم الحقوق والامتيازات وتوسيع دائرة نفوذهم، بل
وبوضع إدارتها تحت مراقبتهم، وهو ما تطلبه الدول وتسميه الفتح السلمي، وعلى
هذا الوجه باع حقي باشا طرابلس الغرب لإيطالية فاستخفها الغرور قبل التنفيذ وبعد
مقدماته بإخلاء البلاد من العسكر والسلاح إلى محاولة أخذها بالفتح الحربي، وهذا
السمسار يطوف العواصم الآن لأجل البيع، ولو نجح طلاب اللامركزية لامتنع عليه
هذا البيع؛ لأن برنامجهم لا يجيز إعطاء امتياز فيها ولا بيع شيء منها ولا
إنشاء الأعمال العمرانية إلا بقرار مجالس الولايات العمومية، فالآن يسهل
على مندوب من جمعية الاتحاد أن يسمسر ويقرر بيع البلاد، فأي الأمرين يخشى أن تضيع به المملكة ويأخذها الأجانب؟ أليست هي المركزية التي نحن فيها؟
بلى، فهل ترى بعد هذا البيان أن طلاب اللامركزية ملومون، وأن المعترضين
عليهم مصيبون؟
التاجر: لا لا، وإنني أشكر لكم أيها الأستاذ بيانكم، والسلام عليكم.
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
(2)
تابع ما قبله
هذا، واشتهار هذه الأناجيل بعد ذلك في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث لم
يمنع النصارى من محاولة تحريفها هي وغيرها من كتبهم في بعض الأماكن التي لم
ترُق لهم أو التي كثر انتقاد الناس عليها كعبارة لوقا في تقوية الملَك للمسيح (23:
43) (راجع كتابنا دين الله ص 80) وكساعة الصلب في إنجيل يوحنا (19:
14) فجعلوها في بعض النسخ (الثالثة) بدل السادسة [1] وغير ذلك كثير (راجع
أيضًا رسالة الصلب ص 162 وكتاب دين الله ص 76 - 78) وعبارة إنجيل لوقا
المشار إليها هنا تدل على أن كاتبه إما أنه ما كان يعتقد في المسيح الألوهية الحقيقية
كباقي زملائه كُتَّاب العهد الجديد (انظر مثلاً رؤيا 3: 14) أو أنه لم يقدر الله حق
قدره فلذا قال هذه العبارة، والوجه الأول هو الراجح عندنا كما سبق بيانه.
ومن العجيب أن المحرفين قد يضيفون بعض عبارات من عند أنفسهم كما في
إنجيل مرقس (16: 17 و18) وينسبونها للمسيح كذبًا، وإن أوقعهم ذلك في
إشكال عظيم - ما دام في عملهم هذا تطبيق لنبوات قديمة على المسيح وأتباعه، فإن
هذا هو أكبر مقاصدهم بل مقصدهم الوحيد في كل ما يكتبونه عن المسيح حتى
أعماهم عن كل شيء آخر، ألا ترى أن كاتبي إنجيل متى ومرقس زعما أن المسيح
صرخ وهو مصلوب قائلاً: إلهي إلهي لماذا تركتني (مت 27: 46 ومر 15:
34) رغبة منهما في تطبيق المزمور (22: 1) عليه ونسيا أن مثل هذا الصراخ
يدل على العجز والضعف واليأس والقنوط من رحمة الله وعدم الرغبة في تضحية
ذاته في سبيل خلاص الناس. ولكن رغبة الإنجيليين في تطبيق نبوات اليهود على
المسيح أنستهم كل شيء آخر.
وكذلك ادعى متى ركوب المسيح الأتان والجحش معًا حينما دخل أورشليم
تطبيقًا لنبوة زكريا عليه التي لم يفهمها كما سبق بيانه، وتراهم مثلاً يقولون في
إنجيل مرقس وغيره مثل (يو 14: 12) : (إن الذين يؤمنون بالمسيح يخرجون
الشياطين باسمه ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون الحيات ولا تضرهم السموم،
ويشفون المرضى) . مع أن هذه الأشياء لا نرى أحدًا منهم الآن يقدر على فعلها،
وإن زعموا أنها خاصة بتلاميذه مع أن النص عامٌّ، قلنا: ولماذا لا تشاهد هذه
الآيات والمعجزات الآن مع شدة احتياح العالم إليها وامتلاء قلوب العالمين بالشك في
الدين المسيحي على الخصوص وكثرة الطعن فيه وتكذيبه حتى ممن كانوا أتباعه؟
ولو جاز اتخاذ مثل هذه العبارات دليلاً على أن الإنجيليين ومن عاصرهم
كانوا يرون بأعينهم المعجزات تُعمل في زمنهم على يد تلاميذ المسيح؛ لجاز أيضا
أن يقال: إنهم كانوا يرون الجبال تنتقل من مكانها وتنطرح في البحر بل كانوا
يرون ما هو أكبر من ذلك يحصل بكلمة أيِّ رجلٍ منهم ولو كان إيمانه ضعيفًا كحبة
الخردل كما قالوا في أناجيلهم (مت 17: 20 ومر 11: 23 ولو 17: 6) مع
أنه لم يشاهد أحد منهم شيئًا من ذلك قطعًا لا انتقلت الجبال ولن تنتقل بأضعف
الإيمان ولا بأكمله، فلم إذًا نسبوا هذه العبارات للمسيح وخطؤها واضح لا يحتاج
إلى دليل؟ ألا يدل ذلك على أنهم كانوا يخترعون ولا يبالون، والناس لجهلهم
يصدقون؟
وإذا صح قول المسيح: (إن حبة خردل من الإيمان تفعل كل شيء) فكيف
بعد ذلك مباشرة (مت 17: 21) اشترط الصلاة والصوم لإخراج شيطان من
شخص قدم لتلاميذه فلم ينجحوا في إخراجه منه؟ أفلم يكن عندهم قدر حبة خردل
من الإيمان؟ وإن كانت عندهم فلم اشترط إذًا الصلاة والصوم وهو القائل قبل ذلك:
إن حبة الإيمان كافية لكل عمل حتى لا يكون شيء مستحيلاً [2] مع وجودها؟
أما السبب عندنا في نسبة مثل تلك العبارات للمسيح فهو أيضًا ورودها في
النبوات القديمة كعادتهم وتوهم الكاتب بدون بحث ولا تحقيق - لشيوع الجهل إذ
ذاك - قدرة الناس على هذه المعجزات؛ لكثرة ادعائهم لها في تلك الأزمنة بشيء
من الشعوذة أو التأثير العصبي على عامة الناس ليثبتوا صدق النبوات الماضية
القائلة بحصولها في زمن المسيح وزمن أتباعه [3] فامتلاؤهم بروح القدس وتكلمهم
بألسنة جديدة قال عنه يوئيل (2: 28 - 30، راجع أيضًا أع 2: 16 - 19)
وعدم أذية الحيات وغيرها لهم وسلامتهم من كل سوء، ذكره كتاب أشعياء (11:
8 و65: 25) والمزامير (91: 13) وغيرهما، وشفاؤهم المرضى ذكره
أشعياء أيضًا (29: 18 و35: 5 - 10) ولما كانت أغلب هذه الأمراض عندهم
ناشئة عن تأثير الشياطين فلا عجب إذًا إذا جعلهم كُتَّاب الأناجيل قادرين على
إخراج الشياطين أيضًا، والحق أن سفر إشعياء هذا هو أعظم مصدر لقصص
وعبارات العهد الجديد، فجُعل ما حكوه فيه تجد أن الحامل لهم عليه هو تطبيق
عبارات أشعياء على المسيح وعلى أتباعه، ولو لم يقدروا على عمل شيء من ذلك
الآن لإقناع الشاكِّين منهم في دينهم. وزيادة هذه العبارة في مرقس (16: 9:
20) مسلَّمة عند كثير من علمائهم حتى من أشد المدافعين عن المسيحية
المتعصبين لها كترتون (Turton) مؤلف كتاب صدق المسيحية
(Christianity Truth The) ص 382 منه. فرغبة كُتَّاب العهد
الجديد في تطبيق هذه النبوات القديمة كان أعظم سبب لضلالهم ووقوعهم في الغلط
الكثير الذي ملأ أكثر كتبهم.
والذي منع النصارى فيما بعد عن إصلاح هذه الغلطات مع كثرة تلاعبهم في
كتبهم أمران:
(1)
اشتهار هذه الغلطات ومعرفة خصومهم لها من قديم الزمان وتعييرهم
بها، فلا يمكنهم - والحالة هذه - إصلاحها.
(2)
شيوع الجهل بينهم في الأزمنة القديمة، واعتقادهم أن الإيمان بدون
بحث ولا تعقل فضيلة، وقلة عدد نسخ كتبهم، وعدم ضم بعضها إلى بعض كما
هي الآن، وقلة المطلعين عليها حينئذ فلم ينتبهوا لهذه الغلطات إلا بعد أن وقف
عليها الناس فعرفوها وحفظوها عليهم في كتبهم فلا يصح جعل هذه الغلطات - كما
يفعل بعضهم الآن - دليلاً على أمانتهم في النقل، فكم من غلطات غيرها حاولوا
إصلاحها أو أصلحوها فعلاً لعدم شهرتها، وعرف ذلك أخيرًا، كما تبينا بالمراجعة
والبحث في النسخ الحديثة والقديمة والكتب الأخرى غير المقدسة التاريخية
والتفسيرية وغيرها، ولولا خوف الفضيحة والعار لأصلحوا كل غلطات كتبهم الآن؛
ليستريحوا من كثرة القيل والقال، ومع ذلك يتجدد فيها كل حين تنقيح وتصحيح،
وأخذ ورد، وتسليم ورفض، فلم يستقروا في أمرها على حال إلى الآن.
* * *
تلاميذ المسيح المسمون بالرسل [4] وبولس
هؤلاء التلاميذ هم اثنا عشر رجلا: ثمانية منهم لم يكتبوا شيئا كما يقول
النصارى وهم أندراوس ويعقوب وفيلبس وبرتولماوس وتوما [5] وسمعان
القانوني ويعقوب بن حلفي ويهوذا الاسخريوطي، وهاك خبر الأربعة الباقين:
(1)
بطرس لم يكتب سوى رسالتين، وكان ضعيفًا؛ ولذلك أنكر المسيح -
وقت الصلب من شدة الرعب والجبن وسماه المسيح من قبل ذلك شيطانًا (مت 16:
23 ومر 8: 33) وكان يرائي اليهود في أنطاكية حتى زجره بولس (غلاطية
2: 11 - 14) فإذا سلم أنه هو الكاتب للرسالتين المنسوبتين إليه فلا ثقة لنا به،
وخصوصًا لأن بولس كان يؤثِّر عليه كثيرا. وأما تسمية المسيح له ببطرس (أي
الصخرة) فالظاهر أنها كانت في أول الأمر عند ابتداء إيمانه كما في يوحنا (1:
42) أي قبل أن يحصل منه ما حصل، فكان عيسى عليه السلام يحسن به وبغيره
الظن كما هو شأن المخلصين الصالحين، وكما أحسنه بيهوذا حتى وعده بالجنة
(مت 19: 28) هذا إذا صح أن المسيح نفسه هو الذي سماه بطرس.
وأما قصة بناء الكنيسة عليه وإعطائه مفاتيح الملكوت (مت 16: 18
و19) فالأرجح أنها كغيرها من تاريخ بطرس، زيادة من رؤساء الكنيسة الأقدمين في
هذا الإنجيل ليبنوا عليها سلطتهم التي كان منها ما كان مما لا ينساه تاريخ النصرانية
من سفك الدماء وظلم الأبرياء ودعوى القدرة على غفران الذنوب للناس وغير ذلك.
ومع كون هذه القصة لا تتفق مع تسميته بعدها مباشرة بالشيطان ولم تُذكر في
إنجيل آخر غير متى - فالظاهر أن المحرفين خافوا الفضيحة فاقتصروا على
إضافتها في إنجيل واحد لتيسر ذلك عن إضافتها في الكل كما هي عادتهم غالبًا
في التحريف ليقال: (إنهم لم يمسوا الكتب بسوء وإلا لأضافوها في الجميع) . كما
يقول بعض مبشريهم الآن.
(2)
متّى: روي أنه جمع بعض أقوال المسيح بالعبرية، وما جمعه مفقود
الآن كما سبق.
(3)
لباوس المسمى يهوذا: كتب رسالة واحدة ليس فيها شيء يذكر من
عقائدهم، وفيها يستشهد بكتب غير قانونية عندهم (أبو كريفة)(عدد9 و14) .
ومن مضحكات براهين النصارى أنهم إذا وجدوا في بعض الكتب القديمة قولاً
من أقوال المسيح يشبه ما في أناجيلهم الحالية زعموا أن المؤلف اقتبسه من أناجيلهم
واتخذوا ذلك دليلاً على وجود هذه الأناجيل في زمن المؤلف وعلى صحة نسبتها إلى
من نُسبت إليهم، ولا أدري لماذا إذًا رفضوا كتاب أخنوخ وقالوا أنه موضوع
مكذوب، على أن أخنوخ هو القائل للعبارة التي استشهد بها؛ فلماذا إذًا خالفوا
طريقتهم في الاستدلال على صحة هذا الكتاب؟
(4)
يوحنا: وإنجيله مشكوك فيه كما بينا، وقد زادوا في إحدى رسائله
أصرح عبارة عندهم في عقيدة التثليث (1 يو 5: 7) فإذا سلمنا صحة نسبة هذه
الكتب إلى يوحنا، فكيف نأمن أن يكونوا حرفوها كما حرفوا هذه العبارة؟ ومن أين
لنا صدق هذا الرجل وعصمته من الخطأ؟ وما الدليل على أنه موحى إليه؟ وفضلاً
عن ذلك فهو لم ينص على الألوهية الحقيقية للمسيح كما بَيَّنَّاه، ولو سلم أنه دعا
الناس إليها لاستحق القتل بنص التوراة (تث 3: 5) ولو كان مؤيدًا بالمعجزات
فما بالك وهو لم تثبت له ولا واحدة باليقين؟ .
ومما تقدم تعلم أن الرسل لم يكتبوا شيئًا هامًّا عن تاريخ المسيح وتعاليمه فهل
كتبوا شيئًا غير ذلك لم يصل إلينا؟ لا ندري. ولماذا تعرَّض للكتابة سواهم من
تلاميذ بولس ومريديه؟ حتى إنك لترى أن جل العهد الجديد ليس من عمل تلاميذ
المسيح بل هو عمل بولس ومريديه.
وإذا تذكرنا مشاجرة بولس مع برنابا (أع 15: 39) مع أنه هو الذي قدمه
للرسل وجعلهم يثقون به (أع 9: 27) وعدم وصول شيء لنا من برنابا تثق به
النصارى الآن مع أنه كان شريك بولس والمخصص معه لدعوة الأمم غير اليهودية
إلى المسيحية (غل 2: 9) ووصول جميع كتابات بولس وذيوله [6](تلاميذه)
إلينا، وانتهار بولس لبطرس في أنطاكية، وكلام بولس القارص وتحامله وبغضه
لأكثر تلاميذ المسيح كما هو صريح عباراته في رسالته إلى أهل غلاطية (إصحاح
1 و2) وتهكمه بهم وترفعه عنهم (غل 2: 6 كو 11: 5 و6 و23) إذا تذكرنا
كل ذلك تبين لنا كيف كان هذا الرجل مستبدًّا فيهم مسلطًا عليهم غير ميال إليهم
مستأثرًا بهذا الأمر دونهم، مع أنه لم يَرَ المسيح ولم يعرفه ولا آمن به في عهده بل
كان عدوًّا له ولمن اتبعه طول حياته. ثم إنه كان يناقض نفسه بنفسه في قصته كما
في سفر الأعمال حيثما سمع صوت يسوع وراءه كما يزعم (راجع أع 9: 6 - 8
و22: 9 و26: 13 - 18) وكذلك يناقض برسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي
سفر الأعمال (قارن أع 17: 14 - 16 و18: 5 مع 1 تسا 3: 1- 2) وأيضا
فإن عباراته في غلاطية (1 و2) تناقض أخباره الواردة في سفر الأعمال المذكور
كما بينه رينان بالتفصيل في كتابه عن الرسل (صفحة 21 و22 منه) وذلك لتقلُّب
هذا الرجل وتلونه فهو - كما يقول عن نفسه - يهودي لليهود (انظر أع 21:
18 -
26 و16: 1 - 3) ونصراني للنصارى ووثني للوثنيين (انظر 1 كو 9: 19 - 23) ليربح الجميع لمذهبه وتعاليمه التي يسميها الإنجيل، والظاهر من
رسائله أنه كان له إنجيل مخصوص يدعو الناس إليه، ويزعم أن الله سيدين
سرائرهم يوم القيامة بحسب هذا الإنجيل (رو 2: 16 و16: 25 و2 تي2: 8)
ولا ندري ما هو هذا الإنجيل؟ وأين ذهب؟ وقال: إنه كان غير إنجيل تلاميذ
المسيح المسمى بإنجيل الخِتان (غل 2: 7) أي أن تعاليمه كانت خلاف تعاليم
موسى وعيسى وأنه وحده اؤتمن على هذا الإنجيل (1: تي 1: 11) فهو في
الحقيقة الكل في الكل، وجميع العهد الجديد هو مؤلفه إما بنفسه أو بيد تلاميذه
وشيعته كمرقس ولوقا إلا القليل جدًّا منه، وقد قضى على كل عمل لغيره تقريبًا
من أعمال التلاميذ الآخرين إلا اللذين وافقاه على آرائه وشايعاه وهما بطرس ويوحنا،
على أن يوحنا قد ذمه تلميحًا بعد موته في سفر الرؤيا، ولم يجاهر بذلك خوفًا من
أتباعه الكثيرين من الأمم (رؤ 2: 2 و9 و14 و3: 9) هذا إذا صح أن
يوحنا هو الكاتب لسفر الرؤيا.
وأما الذين تجاهروا بمخالفته من الحواريين فكان يمقتهم ويدعي أنهم
يريدون تحريف الإنجيل (غل 1: 7) وأنهم دخلاء في المسيحية (غل 2: 4)
مع أنه هو الدخيل فيهم [7] . ومن شدة تأثيره في الناس في ذلك الوقت ولعبه بعقولهم
أنه لما تشاجر مع برنابا وانفصل عنه مرقص (أع 15: 39) أوصى الكنائس
بعدم قبول مرقس إذا جاءهم واعظًا، ولما صالحه أرسل إليهم بقبوله، فكانوا طوع
أمره دون غيره من الرسل، ومما يدل على ذلك قوله في رسالته إلى أهل كولوسي
4: 10 (ومرقس ابن أخت برنابا الذي أخذتم لأجله وصايا إن أتى إليكم فاقبلوه)
ولولا هذه العبارة لما قبل مرقس أحد وربَّما ما كان يبقى الإنجيل المسمى باسمه إلى
اليوم كما حصل لتلاميذ المسيح الذين أطفأ ذكْرَهم ولم يقف أحد لهم على أثر أو خبر
وخصوصًا المحافظين منهم على تعاليم موسى وعيسى وهم الذين كانوا قدوة لبعض
الفرق القديمة كالأبيونيين والناصريين وغيرهم، ولذلك ذم ذمًّا شنيعًا في الخطب
المنسوبة إلى أكليمندس الروماني.
ومما انفرد به عن سائر الناس قوله (1 كو 15: 6) في قيامة المسيح من
الموت: وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من 500 أخ أكثرهم باقٍ إلى الآن، ولكن
بعضهم قد رقدوا 8 وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا) ولا ندري ولا غيرنا يدري
من أين له هذا الخبر: خبر ظهوره لخمسمائة شخص، ومتى وكيف كان ذلك؟ ومن
هم؟ وأين ظهر لهم المسيح؟ وهل رأوا شخصه أو رأوا نورًا وبرقًا فظنوه المسيح
كما ظنه بولس (قارن أع 9: 3 و4 و7 و22: 9 مع 1 كو 15: 8) .
وما دام بولس لم يعين أسماء هؤلاء الأشخاص الخمسمائة أو بعضهم، فما فائدة
قوله: أكثرهم باقٍ إلى الآن؛ فمن من الناس إذ ذاك يمكنه أن يكذبه وهو لم يذكر
اسم أحد معين، وكيف يتيسر لأهل كورنثوس أن يسألوهم وهم بعيدون عنهم ولا
يعرفونهم على التعيين؟ وإذا سألوا بعض المسيحيين عن ذلك في ذلك الوقت فهل
نضمن أن لا يحملهم حب تأييد دينهم والرغبة في الظهور والتشرف بهذه الرؤية
والإغراب في القول، على الإخبار بما لم يبصروه أو تقرير ما لم يوقنوا به؟
وإذا تذكرنا كثرة الكذب الآن في نقل أخبار البلاد القريبة منا والبعيدة عنا مع
توفر جميع الوسائل عندنا لنقلها إلينا كالجرائد وغيرها ومع سهولة المواصلات
وسرعة نقل الأخبار بطرق مدهشة خارقة لعادة تلك الأزمان وارتقاء الناس في العلم
والعقل، إذا تذكرنا كل ذلك أدركنا كيف تكون حالة الأخبار في ذلك الزمان ومبلغها
من الصدق وخصوصًا أخبار مثل تلك الغرائب والعجائب، وهل يبعد على أهل تلك
الأزمنة أن يكونوا هم الذين افتجروا هذه العبارة ونسبوها إلى بولس بعد زمنه كما
هي عادتهم؛ وإلا: إذا كان هذا الخبر صحيحًا فكيف تركته جميع الأناجيل مع أنه من
الأهمية بمكان عظيم كما لا يخفى؟ وإذا كان هذا الجمّ الغفير كله رأى المسيح،
فكيف لم يروِ هذا الخبر أحد منهم مطلقًا في الأناجيل أو في الرسائل أو غيرها وبقي
سرًّا مكتومًا بينهم حتى أفشته رسالة بولس هذه؟ وإن كان هذا الخبر وصل بولس
بالوحي فلمَ لم يوحَ به إلى غيره ليدونه؟ وما هذا الوحي الذي يكثرون من ادعائه
لكل نصراني في القرن الأول؟ وإذا كانت روح القدس توهب لكل شخص من
المؤمنين (أع 8: 14 - 20 و19: 1-7) بمجرد وضع اليد عليه فما حاجة
الناس إذًا لهؤلاء الرسل الكثيرين وكتاباتهم ولرسائل بولس وغيره الطويلة العريضة
إذا كانوا كلهم أنبياء متمثلين من روح الله؟
وإذا صح قول النصارى في نبوة دانيال (9: 24) أنها في حق المسيح
فلماذا لم تختم الرؤيا والنبوة به كما قال دانيال فيها؟ وكيف يكون جميع تلاميذ
الميسح أنبياء بعده ملهمين من الله؟ وما معنى قول سفر الأعمال نقلاً عن يوئيل 2:
17 (يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر
فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى (جمع رؤيا) ويحلم شيوخكم أحلامًا وعلى
عبيدي أيضًا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون؟ وهو ينافي ختم
الرؤيا والنبوة بالمسيح.
وكيف رأى يوحنا رؤياه المشهورة؟ وكيف صار بولس نبيًّا موحى إليه من
الله بعد المسيح يحل ما يحل ويحرم ما يحرم؟ فهل نسي صاحب كتاب الأعمال
نبوة دانيال؟ أم هذه النبوة في اعتقاده ليست في حق المسيح؟ ففي حق من إذًا؟ [8]
وكيف كثرت الأنبياء إلى هذه الدرجة بعد المسيح كما في كتاب الأعمال حتى كان
منهم أغابوس وغيره (انظر أع 11: 27 - 30 و13: 1- 3 و21: 10 -
12) إلخ إلخ.
فلولا عبارة يوئيل السابقة 2: 28 - 13) في انسكاب روح الله على كل
بشر، وكثرة تنبؤ الناس في آخر الزمان لما جعل كاتب سفر الأعمال جميع
النصارى الأولين أنبياء، ولما صاغ كل هذه القصص في نزول روح القدس عليهم
وتنبئهم، فهو في هذه المسألة أيضًا لم يخرج عما ألِفوه من عادة اختراع الحكايات
لتطبيق النبوات عليهم. فهل مثل هذه الكتب يصح أن تعتبر تاريخية يؤخذ بما فيها
ويعول عليها، وهي كما بينا مرارًا لم تخلُ في كل ما كُتب فيها من الأهواء
والأغراض؟ ولماذا لا تنزل عليهم روح القدس الآن؟ وأين ذهبت معجزاتهم
وآياتهم العديدة وقد امتلأت أوربا وغيرها بالملحدين والمشككين وجماعة
العقليين (Rationalists) وغيرهم؟ ولماذا لا تقدر النصارى على عمل الآيات
والعجائب الآن كما وعدهم المسيح على زعمهم بقوله مثلاً (مر 17: 17) :
(وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يُخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة
18 يحملون حيات وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى،
فيبرأون) وما وجه تخصيصهم الآن هذه العبارات ونحوها كما في (يو 14:
12) بالحواريين وهي عامة في جميع المؤمنين كما هو ظاهر منها؟ أليس لأنها لم
تتحقق؟ وهناك مسألة أخرى تُبطل أيضا دعوى بولس السابقة ظهور
المسيح لخمسمائة شخص، وإليك بيانها: جاء في كتاب صدق المسيحية
(Christianity Of Truth The) في صفحة 385 منه ما مؤداه أن
ظهور المسيح لهؤلاء الخمسمائة كان في الجليل لأنه لم يكن في أورشليم قدر هذا
العدد من التلاميذ كما يفهم من كتاب الأعمال (1: 15) اهـ. وهذا الرأي هو
المعول عليه عند جميع علماء المسيحية، وهو مبني على قول متى (28:
10) أن المسيح أرسل إلى تلاميذه أمرًا بالذهاب إلى الجليل لكي يروه هناك
(راجع أيضًا مرقس 16: 7) وأن بعضهم شكُّوا حينما رأوه (عدد 17) والظاهر
من ذلك أنهم رأوه على بعد في الأفق ولذلك خرجوا إلى الجبل ليرتقبوا ظهوره
هناك. فلم يقل متى ولا غيره: إنهم كانوا خمسمائة. ومع ذلك فرواية الظهور في الجليل هذه منقوضة بقول لوقا: إن المسيح في مساء اليوم الذي قام فيه قابل
تلاميذه، وقال لهم: أقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي
(لو 24: 1 و13 و29 و 33 و44 -49) ثم صعد إلى السماء ورجعوا هم إلى
أورشليم (عدد 51 و52) وبقطع النظر عن مناقضة لوقا نفسه في سفر الأعمال
حيث جعل الصعود بعد أربعين يومًا من أورشليم (أع 1: 3و9) إلا أنه قال: إن
المسيح أوصاهم أيضًا في آخر يوم أن لا يبرحوا أورشليم حتى تحل عليهم روح القدس (عدد 4 و8) فيستفاد من ذلك أن المسيح من أول يوم إلى آخر يوم أوصى
تلاميذه بعدم مبارحة أورشليم إلا بعد حلول روح القدس عليهم. وهذه الروح لم
تحل عليهم إلا يوم الخمسين أي بعد صعوده بنحو عشرة أيام (أع 2: 1-4)
وعليه فهم لم يبرحوا أورشليم إلا بعد الصعود، فكيف إذًا قال متى: إن المسيح
أمرهم بمبارحتها إلى الجليل وأنهم هناك رأوه؟ وكيف يمكن رفع هذا التناقض
البين من بينهما؟ اللهم إلا بالتكلف البارد والتعسف الذي لا مزيد عليه.
وإن كان ظهر لهم في أورشليم فالتلاميذ الذين كانوا فيها وأمروا أن لا
يبرحوها من أول يوم إلى آخر يوم كانوا نحو 120 شخصًا بنص كتاب الأعمال (1:
15) وإن قيل لعلهم كانوا 500 نفرًا، ولما ظهر لهم المسيح سافر أكثرهم
وبقي الأقلون. قلت: وهل يعقل أن تلاميذه هؤلاء الذين رأوه بأعينهم بعد قيامته
من الموت يكونون أول العاصين له المخالفين لأوامره حتى إنهم تركوا أورشليم بعد
أن شدد عليهم ووصاهم مرتين على الأقل بعدم مبارحتها؟ وإن كانوا غير مطيعين
له ولا مبالين بأمره ونهيه بعد كل هذه المعجزات فمن يثق بهم أو يصدق ما يقررونه؟
هذا إذا كانوا شهدوا بأنهم رأوه فما بالك إذا كنا لم نسمع من أي واحد منهم أنه شهد
بأن 500 شخص رأوا المسيح حقيقة؟ بل لم نسمع من أحد من تلاميذ المسيح ولا من
غيرهم - خلاف بولس - أن المسيح ظهر لكل هذا العدد من الناس الذين لم يعرفهم
أحد قط.
فإن قيل: لعل المسيح ظهر لهم في الجليل بدون علم أحد من التلاميذ الأحد
عشر؟ قلت: ومن إذاً الذي جمع كل هذا العدد من الناس في ذلك المكان وعيَّنه لهم
وأخبرهم بأن المسيح سيظهر فيه وبوقت الظهور؟ مع ملاحظة أن مثل هؤلاء الناس
لا بد أن يكونوا من الذين يئسوا منه وتركوه بعد حادثة الصلب ورجعوا إلى بلادهم
شاكِّين فيه حائرين، فكيف إذًا اجتمعوا في ذلك الوقت والمكان المعين، ولو لم يُروَ
عن أحد منهم خبر هذه الرؤية؟ ولم فعلها المسيح بدون علم أعظم تلاميذه؟ ولم لم
يُخبر بها الرسلَ حين ظهوره لهم؟ ولِمَ لم يخبرهم روح القدس بها بعد نزوله عليهم
ليدونوها في الأناجيل؟ وكيف يقول متى (28: 16) إن الذين ذهبوا إلى الجليل
ورأوه هناك كانوا هم الأحد عشر رسولاً ولم يشر إلى غيرهم، بل نص على أن
بعض هؤلاء أيضًا شك في أن الذي رأوه هل هو المسيح أم لا؟ فكل هذه الأسباب
تحملنا قطعًا على رد زعم بولس هذا، وعدم الاعتداد به مطلقًا.
ومن تناقض كتبهم أيضًا في هذه المسألة - غير ما تقدم - قول يوحنا (20:
22 و23) : إن المسيح وهبهم روح القدس في مساء اليوم الذي قام فيه (عدد 19)
مع قول لوقا: إنها لم تنزل عليهم إلا يوم الخمسين (أع 1: 4 و5 و2: 1 - 4
ولو 24: 49) .
ومن التناقض العجيب أن المسيح يطلب ليلاً من تلاميذه بعد قيامته أن يجسوه
كما في لوقا (24: 39) مع أن يوحنا يقول: إنه منع في الصباح مريم المجدلية
من لمسه بعلة أنه لم يصعد بعد إلى أبيه وإلهه (يو 20: 17) وفي إنجيل متى
(28: 9 و10) يقول: إنها هي ومريم الأخرى أمسكتا بقدميه وسجدتا له، فلم
يمنعهما المسيح من ذلك بخلاف ما يقول يوحنا، بل قال لهما:(لا تخافا) .
وجاء في لوقا (24: 33) : أن الأحد عشر تلميذًا كانوا مجتمعين في مساء
يوم قيامة المسيح فظهر لهم ووقف في وسطهم (عدد 36) وفي يوحنا (20:
24) أن توما أحدهم لم يكن موجودًا في هذا الاجتماع حينما جاء المسيح فلم يكونوا
إذًا إلا عشرة لا أحد عشر كما قال لوقا؛ فانظر إلى مقدار تناقضهم في كل شيء
حتى في أبسط المسائل؛ لأنهم أخذوا ما كتبوه عن الإشاعات المتضاربة والروايات
المتناقضة ولم يميزوا بين صحيحها من باطلها؛ فهل مثل هذه الكتب يصح أن يعول
عليها؟ وهي كالثوب الخلِق كلما رقعته من مكان اتسع الخرق أو ظهر لك غيره
حتى أصبحت بالية لا تصلح لشيء؟
ومن كثرة مبالغة بولس وإغراقه قوله أيضا (1 كو 15: 5) : وأنه ظهر
لصفا (بطرس) ثم للاثني عشر وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين مع أن
يهوذا أحدهم كان قد مات في ذلك الوقت، ولم تكن الرسل إلا أحد عشر فقط؛ ولذلك
قال مرقس (16: 14) أخيرًا ظهر للأحد عشر، ولكن رغبة بولس في تكثير
عدد الذين رأوا هذه القيامة المزعومة أنسته موت يهوذا فقال ما قال.
أما بطرس فلم يُروَ عنه في إنجيل من الأناجيل أنه قال: إنه رآه أولاً وحده،
غير أن لوقا (24: 34) قال في إنجيله: إن اثنين من التلاميذ مجهولين يسمى
أحدهما: كليوباس، قالا:(إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان) بطرس،
وصريح القصة أن هذه إشاعة نقلاها ولا ندري عمَّن روياها وكيف سكتت
الأناجيل عن رواية هذه الرؤية الأولى لبطرس حتى نفس إنجيل لوقا الذي روى قصة
كليوباس هذه.
أما ظهور المسيح للأحد عشر، فلا برهان عليه إلا رواية هذه الأناجيل
الأربعة التي أظهرنا لك قيمتها وقيمة سندها على أنها لم تذكر ذلك رواية عن كل
فرد منهم، وقد تضارب الإنجيلان المنسوبان إلى التلاميذ متى ويوحنا في أمر
هذه الرؤية، ففي إنجيل متى أن ملكًا قال للمرأتين 28: 7: اذهبا سريعًا وقولا
لتلاميذه أنه قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه - 16 فانطلق
التلاميذ إلى الجليل إلى الجبل؛ ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكُّوا.
وليس في إنجيل متى رؤية أخرى غير هذه وهي التي شك فيها بعضهم [9] .
أما إنجيل يوحنا فإنه يذكر أنهم رأوه في أورشليم قبل الذهاب إلى الجليل
مرتين وفي المرة الأولى منحهم الروح القدس (يو 20: 22) وفي الثانية أقنع
توما الذي لم يره في المرة الأولى وكان شاكًّا فيه وأراه يده وجنبه حتى صدق كباقي
التلاميذ (يو20: 20 و27) ولا ندري لماذا لم يذكر متى كل ذلك؟ وإذا كان
التلاميذ رأوه في أورشليم المرة بعد المرة، كما قال سفر الأعمال:(1: 3) حتى
اقتنعوا وزال عنهم كل شك وأعطوا الروح القدس - كما قال يوحنا - أي صاروا
أنبياء ملهمين، فكيف بعد ذلك شكوا فيه لما رأوه في الجليل على ما قال متى (28:
17) الذي يفهم منه أنها كانت أول رؤية لهم ولذلك شك بعضهم فيها، وإذا كان
المسيح هو الذي وهبهم روح القدس بنفسه قبل أن فارقهم، فما معنى قول إنجيل لوقا
(24: 49) وقول سفر الأعمال: إن المسيح أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم حتى
تحل عليهم وأنها حلت عليهم بعد صعوده يوم الخمسين، كما هو صريح الإصحاح
الأول والثاني من الأعمال كما سبق بيانه؟
وإذا صح تفسيرهم لعبارة البارقليط التي في إنجيل يوحنا وأن المراد بها روح
القدس هذه كما يزعمون، فما معنى قول المسيح (16: 7) لكني أقول لكم الحق:
إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى (البارقليط) ولكن
إن ذهبت أرسله إليكم. فإذا كانت روح القدس لا تنزل عليهم إلا إذا انطلق ولا
يرسلها إليهم إلا بعد ذهابه، فكيف إذًا أرسلها إليهم قبل صعوده كما قال نفس
إنجيل يوحنا؟ (20: 22) ألا يدل ذلك على صحة قولنا في كتاب (دين الله ص
118 -
120) أن البارقليط هو غير روح القدس [10] وأن المراد به محمد صلى الله
عليه وسلم كما بيناه هناك؟ ولماذا كان انطلاق المسيح ونزول الروح خيرًا للتلاميذ
من بقاء عيسى بينهم مع أنه لو بقي لأمكنه أن يعلمهم كل شيء علمه لهم روح القدس
على حد سواء؛ إذ كل منهما أقنوم إلهي يعلم كل شيء كما يدعون؟ أليس في ذلك
تصريح بأن الرسول الآتي سيكون خيرًا للناس من المسيح، وأنه أفضل منه؟
ولذلك كانوا يرغبون فيه أكثر من رغبتهم في المسيح عليه السلام كما هو ظاهر من
هذه العبارة.
ولنرجع إلى ما كتبنا فيه:
أما قول بولس (كو 15: 7) وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجميعن،
فلا يوجد أيضًا في إنجيل من الأناجيل أنه ظهر ليعقوب هذا، فلا ندري من أين أتى
بذلك بولس؟ وإذا كان حقيقيًّا فلماذا تركته الأناجيل، ولماذا لم يَرْوِهِ متى ولا يوحنا
التلميذان ولا لوقا المدقق الذي تتبَّع كل شيء قبل كتابة إنجيله (1: 3) ؟ .
الظاهر أن بولس إنما ذكر كل هؤلاء التلاميذ وخصوصًا بطرس ويعقوب أخا
يسوع في قائمته هذه أو جدوله تملقًا لهم في أوائل أمره ليرضوا عنه وليعترفوا له
بالرسالة. فإن دعوى الرؤية هذه كانت عندهم كالشهادة العظمى (دبلومًا) لهم
باستحقاق الرسالة [11] فمن (أين) يتبرأ من هذه (الدبلوما) وينكرها أو يردها بعد
أن أعطاها بولس لهم جميعا؟ .
والذي يدلك على أن ظهور المسيح لأي واحد منهم كان يعتبر عندهم شهادة
بالرسالة: قول بولس (1 كو9: 1) : ألست أنا رسولاً.. . أما رأيتُ يسوع المسيح
ربنا. وقوله (1 كو15: 8) : (وآخر الكل للسقط ظهر لي أنا 9 لأني أصغر
الرسل أنا الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً
…
لى قوله: 10 ونعمته المعطاة لي لم
تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم) . وهو صريح في أن المسيح إنما ظهر له
في آخر الكل؛ لأنه أصغر الرسل، وهذا التعليل يفهم منه أن المسيح لا
يظهر إلا للرسل ووقت ظهوره لهم يختلف باختلاف مقامهم عنده؛ فبولس وإن كان
قال ذلك اضطرارًا للتعليل عن ظهور المسيح له في آخر الكل إلا أن نفسه الفخورة
المعجبة المتكبرة عادت فرفضت هذا التواضع الظاهري الذي اضطرت إليه أولاً
وقالت: أنا تعبت أكثر من الرسل جمعيهم. وقال أيضًا عن نفسه (2 كو 11: 2) :
(فإني أغار عليكم غيرة الله 5 لأني أحسب أني لم أنقص شيئًا عن فائقي الرسل 6
إن كنت عاميًّا في الكلام فلست في العلم، بل نحن في كل شيء ظاهرون لكم بين
الجميع 23 أهم خدام المسيح أقول كمختل العقل: فأنا أفضل. في الأتعاب
أكثر في الضربات أوفر في السجون أكثر من الميتات مرارًا كثيرة 26 بأسفار مرارًا
كثيرة، بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من
الأمم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية، بأخطار في البحر، بأخطار من
إخوة كذبة، في تعب وكد، في إسهار مرارًا كثيرة في جوع وعطش، في أصوام
مرارًا كثيرة. في برد وعري 28 التراكم عليّ كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس
29 من يضعف وأنا لا أضعف من يعثر وأنا لا ألتهب 30 إن كان أحد يحب
الافتخار فأفتخر بأمور ضعفي) . إلى غير ذلك من خيلائه وإعجابه بنفسه وافتخاره
بأعماله ومَنِّه على الناس وعلى الله. راجع أيضا (كو 2: 1) .
كأن جميع الرسل الآخرين لم يسافروا ولم يدعوا أحدًا قط إلى المسيحية ولم
ينلهم شيء مما ناله من المتاعب ولم يعملوا عملاً مثله مطلقًا، فهو كما قلنا يعتبر
نفسه أفضل منهم وأنه الكل في الكل. ولا عمل لأحد سواه وقد بلغت به درجة حبه
للظهور والفخر أنه كان يطلب بنفسه من أتباعه أن يمدحوه ولا يستحيي من ذلك كما
في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس (12: 11) .
ومما تقدم تعلم أن ظهور المسيح كانوا يعتبرونه أعظم شهادة لاستحقاق الرسالة
ولذلك كان بولس يذكر مرارًا ظهور المسيح له كما في سفر الأعمال، وفي رسائله
حتى ادعى أنه اختطف إلى السماء الثالثة وإلى الفردوس، ورآه هناك وسمعه (2 كو
12: 1-4) [12] وأي برهان يمكن لمثله ممن لم ير المسيح في حياته أن يقدمه
للناس البسطاء على صحة رسالته سوى مثل هذه الدعاوى؟
وربما كان هو الذي بث في التلاميذ فكرة ادعائهم رؤية المسيح بعد موته
لينالهم شيئ من الشرف الذي ناله بدعواه لها. ولا يبعد على مثل أولئك العامة من
الناس الفقراء الذين لا عمل لهم ولا علم أن يوافقوه على ذلك ويعترفوا له بها كما
اعترف هو لهم جميعا بها حتى ذكر في رسالته ظهور المسيح لخمسمائة شخص
ولجميع الرسل، فكأنه في سياسته اتبع المثل العامي القائل: حملني وأنا أحملك.
ولكنه هو فاقهم في ذلك كثيرًا حتى جعل الظهور لكل فرد من التلاميذ فإن
عددهم لا يمكن أن يزيد عن 500 شخص، ليرضوا عنه جميعًا. وأي خسارة عليه
في ذلك؟ بل أي فائدة له أعظم من مسالمتهم واستجلاب رضاهم كلهم عنه؟ ولو في
أوائل أمره [13] قبل أن يعلم ماذا يكون من شأنه بينهم، ومقامه عندهم، ولو علم
ذلك وعلم أنه سيكون إمامهم وقائدهم الأعظم في كل شيء لما اعترف لهم بشيء
مطلقًا كما تدل عليه سيرته معهم فيما بعد.
هذا؛ ولما كانت رؤية المسيح عندهم أعظم دليل على الرضا والاصطفاء
والرسالة كما قلنا، تحاشوا ادعاءها للكفرة والمعاندين، إذ لا يمكن أن يتشرفوا بها
مثلهم.
ويُثبت ذلك أيضًا قول بطرس منكرًا على بولس: وكيف يظهر لك (يعني
المسيح) مع أن آراءك هي مضادة لتعاليمه. كما في الخطب (Homilies)
المنسوبة إلى كليمندس الروماني وهي مكتوبة في أواخر القرن الثاني أو بعده بقليل.
(راجع كتاب دين الخوارق ص320) وهذه الخطب وإن كانت منسوبة كذبًا
لكليمندس إلا أنها تدل على أن النصارى كانوا في أوائل المسيحية يعتقدون أن
المسيح لا يمكن أن يظهر للمخالفين له المعاندين. وهذا الاعتقاد هو أحد أسباب خلو
كتبهم من هذه الدعوى بل هو أعظم الأسباب. وهناك سبب آخر لذلك وهو تحاشي
النصارى في القرون الأولى إثارة اليهود والرومانيين عليهم لكي لا يزيدوا في
احتقارهم والسخرية بهم وتكذيبهم وإيذائهم واضطهادهم وتنفير الناس منهم ومن
دينهم، فكانوا في ذلك - حقيقة - حكماء، ولعلهم فعلوا ذلك أيضا بإرشاد بولس
وأضرابه من عقلائهم وساستهم.
ولكن من لم يفهم ذلك من النصارى بعدهم ادعى أن المسيح وعد اليهود
بالظهور لهم بعد دفنه في الأرض بثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، فزاد في هذه العبارة في
إنجيل متى (39: 12و40) فإن العدد (40) منها لا وجود لمثله في الأناجيل
الأخرى، وقد تكلمنا على ذلك في رسالة الصلب صفحة 106 و107 و117
و118. راجع أيضًا (لو 11: 29 - 32 ومت 16: 4 ومر8: 12) . وجميع
هذه النصوص المشار إليها هنا صريحة في أن المسيح أجاب المقترحين للآيات مرة
بقوله: (لن يعطى هذه الجيل آية) . كما في مرقس، ومرة بقوله: لن يعطيهم آية
إلا آية يونان لأهل نينوى. كما في لوقا وغيره. ولا يخفى أن يونان لم يعط أهل
نينوى أي آية، فكأن مراد المسيح أنه يجب أن يؤمنوا به بمجرد دعوته لهم كما آمن
أهل نينوى بيونان لمجرد مناداته لهم راجع (لو 10: 32) ولمنكري المعجزات
أن يستدلوا بذلك على صحة دعواهم أنه لم يفعل شيئًا منها. فالمسيح لم يظهر لأحد،
ولا وعد اليهود بذلك كما ادعى المحرف للإنجيل. ولولا أن عدم ظهور المسيح
لأي أحد من اليهود والرومانيين وغيرهم من الكافرين كان معروفًا شائعًا متواترًا بين
النصارى الأولين لزاد المحرفون للإنجيل قولهم: إنه ظهر لفلان وعلان منهم أيضًا،
ولكن مثل هذه الزيادة لا يمكن أن تمر على الناس بسهولة، ولا تدخل عليهم خفية
بدون أن يشعروا بها كما دخلت عليهم الزيادة التي في إنجيل متى (12: 40) لأن
إدراك هذه الزيادة لا يحتاج لشيء من الانتباه والتدبر، ولذلك ترى النصارى يقرأون
هذه العبارة في إنجيل متى صباح مساء ولا يشعرون بأنها كانت وعدًا لليهود
بالظهور لهم، ولا بأنه وعد لم يتحقق، وإذا صح أن المسيح قالها لهم وجب عليه
أن يُري نفسه لهم بمقتضاها كما أرى نفسه لتلاميذه، وإلا لكانوا معذورين في عدم
الإيمان به وتكذيبه، فإن نفس تلاميذه شكوا فيه مرارًا كما بيناه في رسالة الصلب
ولم يقنعهم إلا بمجهود؛ فهل كان ينتظر منهم أن يكونوا أكثر إيمانًا به من نفس
تلاميذه حتى يطالبهم بالإيمان بقيامته من غير أن يروه لمجرد سماع هذا الخبر من
تلاميذه الذين كانوا كثيري الشك عديمي الإيمان بنص الإنجيل؟ متّى (17: 20) .
فكيف أخلف المسيح إذًا وعده لهم؟ وكيف يجب عليهم تصديق عديمي الإيمان؟
ولا يخفى أن من كان كذلك لا يتحاشى الكذب وخصوصًا لمصلحته ولا يخشى الله.
وأي مصلحة أكبر من أن يصبح أولئك الأشخاص الفقراء، المحترقون المستضعفون
بعد موت سيدهم ويأسهم منه وابتداء تلاشيهم - يصبحون رؤساء للناس ورسلاً لهم
يشرعون لهم ما يشاءون، ويأخذون من أموالهم ما يرغبون (أع 2: 44 و45 و4:
32 -
37 و1 كو 16: 1 - 3 و2 كو 11: 8 و9) بل يقتسمون جميع أموالهم
والممتلكات بينهم بلا عمل ولا تعب سوى القول بأنهم رأوا المسيح بعد موته حيًّا
كما علمهم بولس وغيره. وقد عاد إليهم الأمل لما بثه فيهم عقلاؤهم ومفكروهم،
بقرب رجوع مُلك إسرائيل إليهم حينما رأوا إقبال الناس عليهم وخضوعهم لهم،
وهو الأمل الذي طالما خالج نفوسهم، وكانوا يرتقبون كل يوم تحققه من قديم الزمان
(انظر أع 1: 6) حتى إنهم اعتقدوا أنهم سيملكون في الأرض مع المسيح ألف
سنة (رؤ20: 4 و6) وفي ذلك العصر الذهبي الذي كان يتوهمه اليهود وإلى الآن
ينتظرونه، وأنه متى جلس المسيح على كرسي مجده يجلس التلاميذ الاثنا عشر [14]
على الكراسي ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر مت (19: 28) وأن زمن
رجوع المسيح قريب جدًّا وأنهم يبقون أحياء إلى نزوله (اتس 4: 15 - 18)
حتى قال لهم بولس: (عزوا بعضكم بعضًا بهذا الكلام) وليس هذا فقط بل قد
وعدهم المسيح كما في (مر 10: 30) بأن من ترك شيئا لأجله يأخذ مائة ضعف
في هذه الدنيا وله الحياة الأبدية في الآخرة، وأفهمهم بولس أيضا بأنهم جميعًا
سيدينون العالم والملائكة (1 كو 6: 2 و3) وقد بلغ بالرؤساء منهم الغرور
والجهل إلى درجة أن توهموا أو أوهموا الناس أن بيدهم غفران الذنوب [15]
ومفاتيح ملكوت السموات [16] وأن كل ما يربطونه على الأرض يكون مربوطًا في
السماء، وكل ما يحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء (مت 16: 19
و18: 18 ويو 20: 23) إلخ إلخ فمن إذًا لا يقول بقولهم في قيامة عيسى ليدخل
في زمرتهم حتى ينال ما نالوه أو سينالونه في الدنيا والآخرة؟ مهما ناله من الأذى
والاضطهاد المؤقت طمعًا فيما سيحصل له ولأمته من صلاح الحال وحسن المستقبل
والنعيم الدائم في الدارين. ألا ترى أن القاتل يقدم على القتل طمعًا في المال مع
علمه بأنه غالبًا سيقع في القصاص الذي يذهب بحياته كلها، ولكن الأمل في السعادة
والطمع في لذة المال يدفعه لارتكاب هذا الإثم الفظيع مهما كانت نتائجه.
هذا إذا سَلِم أن التلاميذ ومن معهم من النصارى كانوا حقيقة يجاهرون على
رءوس الأشهاد بدعواهم قيامة المسيح (انظر رسالة الصلب ص149) وأنه نالهم
جميع الاضطهادات التي تسمعها من قصاصي النصارى. وإذا سَلِم ذلك فهل كانت
كل هذه الاضطهادات بسبب هذه العقيدة وحدها؟ مع أنهم كانت لهم عقائد أخرى
يخالفون بها غيرهم، وكان أكثر ما يتهمون به هو التهم السياسية لما عند الرومانيين
من الحرية في المسائل الدينية؛ ولعدم وجود سلطة عليهم في أيدي خصومهم اليهود؛
وخصوصًا بعد تشتت هؤلاء وخراب أورشليم سنة 70 م وقد اعترف مؤرخوهم
بأنه لم يمسَّ المسيحيين أذًى في أثناء حرب الرومانيين مع اليهود؛ لأن المسيح كان
أنبأهم بخراب أورشليم ووصاهم بهجرها.
ولا يخفى أن استفانوس أول شهيد في النصرانية، وإنما رجمه اليهود لأنهم
اتهموه بالتجديف على موسى والناموس وعلى الله، راجع (أع 6: 11 - 14)
وكان رجمه بعد أن ألقى عليهم خطابًا طويلاً كما هو مذكور في الإصحاح السابع من
سفر الأعمال وليس في هذا الخطاب ذكر لقيامة المسيح من الموت ولا لرؤية أحد له
بعد هذه القيامة المزعومة، بل قال: إن اليهود قتلوه كما قتلوا قبله أنبياء كثيرين
(أع 7: 52) .
ومن عبارة استفانوس هذه يُفهم أن بعض اليهود المتنصرين في أوائل
المسيحية لم يكونوا يعتبرون الصلب والموت مقللاً من قيمة المسيح عندهم ولا
مزلزلاً لعقيدتهم فيه بل كانوا يعدونه من مصائب الدهر التي أصابت المسيح،
وأصابت غيره من أنبياء الله السابقين، الذين تعوَّد اليهود قتلهم من قديم الزمان.
فقول المبشرين الآن: إنه لولا قيامة المسيح من الموت ما قامت للنصرانية
قائمة؛ لأن صلبه [17] وقتله زلزل عقيدة تلاميذه فيه، وبرؤيتهم له بعد الموت
انتعشت نفوسهم - إنما هو قول باطل؛ لأن التلاميذ ما كانوا يعتقدون استحالة الموت
والقتل عليه ولم يعتبروا حصول ذلك إلا شيئًا معتادًا بين الكثيرين من الأنبياء قبله
فهو ليس بدعًا من الرسل في ذلك. وهذا الاعتقاد هو الذي كان فاشيًا فيهم قبل أن
ينبههم بولس وأضرابه من مفكريهم البصيرين بحال أمتهم ومستقبلها الغيورين عليها،
إلى حكمة حصول الصلب والموت للمسيح، وهي خلاص البشر به، فبعدئذ
أصبحوا ينظرون إلى الصلب بغير نظرهم إليه أولاً، واعتبروه أكبر ما يشرف
المسيح ويرفع منزلته في عيون الناس أجمعين، فصاروا بعد ذلك يدعون إلى عقيدتهم
هذه فرحين مسرورين (1كو 1: 18) نعم يجوز أنه لولا أن تنبهوا إلى هذه
الحكمة لكان يمكن لليهود أن يؤثروا في بعض عامتهم الضعفاء ويزلزلوا عقيدتهم في
المسيح أو يحولوا بعضًا منهم عن الإيمان به. فالذي حمى النصارى من ذلك أولاً
هو علمهم بما حصل للأنبياء قبله من الاضطهاد والأذى والقتل والمرض وغيره من
مصائب هذه الحياة التي يجب ملاقاتها بالسكينة والصبر والرضا بقضاء الله وقدره
انظر (أع 2: 23)
وثانيا: هو الحكمة التي اخترعها لهم بولس وغيره أو نبهوهم إليها، ولو أن
بولس جعل قيامة المسيح من أكبر أسس هذه الحكمة إلا أنه كان لا شك يمكنه
الاستغناء عن القول بها لولا ميله الفطري دائمًا إلى الغلو والإغراق في كل ما
اعتقده وارتآه كما هو ظاهر من رسائله ومن أعماله قبل دخوله في المسيحية وبعده
فقوله بها إنما كان من زيادة غلوه في تكريم المسيح [18] ومَحقًا لشماتة اليهود به
وغيظًا لهم واستمالة للوثنيين بتقليد عقائدهم في مخلصيهم. وهو في تحوله هذا
السريع من بغض المسيحية واضطهاد أتباعها إلى محبتها ونصرتها يشبه عمر بن
الخطاب في تحوله فجأة من عداوة الإسلام وأهله إلى محبته ونصرته، هذا إذا سلمنا
قصة بولس الواردة في كتبهم، وفرضنا أن ما نصره وأحبه هو المسيحية لا ديانة
جديدة هو الواضع لها، ولكننا نرى أن علماء الإفرنج المحققين قد أصبحوا الآن
يشكون في كل ما رووه ونقلوه؛ لما علموه عنهم من كثرة التحريف والاختلاق،
وهو الأمر الذي قرره القرآن منذ نزوله (راجع مثلا 2: 75 و76) ولكنهم كانوا
وقتئذ يكابرون ويكذبون.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الدكتور
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد توفيق صدقي
…
...
…
...
…
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
ذهب بعض مفسريهم الآن لرفع الخلاف بين إنجيل يوحنا ومرقس (15: 25) في ساعة الصلب إلى أن ساعة يوحنا رومانية وساعة مرقص عبرية، وقد رددنا على هذه الدعوى في رسالة الصلب (ص93 و94) ونزيد الآن أن الباحثين في تواريخ الأمم قد عرفوا خطأ هذه الدعوى مطلقًا، فإن الرومانيين لم يكونوا يعدون ساعاتهم كما يعدها الإفرنج الآن، وإنما كانوا يعدونها من شروق الشمس، واليهود من الغروب كالعرب راجع كتاب (التوراة غير موثوق بها، تأليف Walter Jekyll ص86) وعليه فتفسيرهم لهذه المسألة منقوض من أوله إلى آخره ومبني على الخطأ والجهل، وقياس القديم بالحاضر في عادات الأمم، وما دامت كتبهم مملوءة بالخطأ والتناقض والتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في المسائل الطفيفة وغير الطفيفة، وما داموا يسلِّمون بخطأ النساخ الكثير فيها بل بالزيادة عمدًا حتى في بعض العقائد المهمة كما في رسالة يوحنا الأولى (5: 7 و8) فكيف بعد ذلك يمكنا أن نقطع بشيء فيها أو نجزم بأنه من قول المسيح أو تلاميذه وأنه لم يزد خطًأ أو عمدًا وخصوصًا لأن أقدم ما عندهم من النسخ لا يتجاوز - على قولهم - القرن الرابع (راجع كتاب صدق المسيحية لمؤلفه Turton ص 309 و310) ولا أدري إذا كان الله يريد أن تكون هذه الكتب هداية للبشر في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، فلم لم يصُنها عن كل ما حصل لها وما وقع فيها حتى تطمئن نفوس الناس إليها وخصوصًا أهلها الذين أصبحوا أشد الناس محاربة وإنكارًا لها؛ فالحق أن الله لم يرد ذلك، وإنما جعلها درجة تحضيرية تمهيدية للقرآن المصون من التحريف والتبديل كما وعد تعالى (قر 15: 9) والباقي إلى يوم القيامة (انظر كتاب دين الله ص 82 و83) فما حفظه الناس من تلك الكتب إنما كان كافيًا لهم إلى زمن القرآن.
(2)
قارن عبارة المسيح هذه بقول القرآن: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(فاطر: 43) ونحوها كثير في القرآن، أول كتاب نص على أن نواميس الكون لا تتبدل ولا تتغير، فهي ليست خاضعة لصلاة فلان، ولا لدعاء علان، ولا لكلمة مخلوق مهما كان، حتى نفس يسوع ابن الإنسان.
(3)
جاء في تلمود اليهود أن أتباع عيسى كانوا في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني يشفون المرضى باسم يسوع ويبرئون لسع الحيات بها أيضا، ويقول العهد الجديد: إنهم يُخرجون الشياطين أيضًا يخرجونها باسم سليمان وإلى الآن نرى بعض عامة المسلمين يدّعون الكرامات ويفعلونها باسم مشايخهم كالرفاعي وغيره، فيأكلون النار ويضربون أنفسهم بالسيف ويشربون السموم ويحملون الحيات باسمهم إلى غير ذلك من كراماتهم التي تشبه ما ذكر في العهد الجديد عن النصارى، ومع أن النصارى كانوا يستعملون اسم يسوع لإخراج الشياطين على زعمهم، انظر مثلاً (أع 16: 18 و19: 13 - 17) تراه هو نفسه يعترف بأنه إنما يخرجهم بروح الله (مت 12: 28) وأن كل أعماله هي باسم الله (يو 10: 25) وكان اليهود المعاصرون له لشدة جهلهم يقولون: إنه يخرجهم ببعلزبول رئيس الشياطين (مت 12: 24) لأنهم كانوا يظنون أن الأمراض التي كان عليه السلام يشفيها هي ناشئة عن الشياطين، فأمثال هذه الأوهام شائعة بين الناس الجهلة في كل زمان ومكان وخصوصًا في الأزمنة القديمة حتى صدقها بعض الخاصة كيوسيفوس المؤرخ الشهير الذي روى أنه شاهد شخصًا يسمى اليعيزر Eliezar اليهودي يخرج الشياطين بالقسم عليها باسم سليمان في حضرةالإمبراطور فسباسيان الذي توج سنة 69م Vespasian وبحضور أولاده وجيشه، وكان هذا الرجل يضع إناءً مملوءًا بالماء على بعد من المصاب ثم يأمر الشيطان بقلبه بعد خروجه من الإنسان وبذلك كان يظهر كما يقول يوسيفوس براعة سليمان وحكمته، وإلى الآن نرى بعض النساء في مصر حتى المسلمات يزرن صورة ماري جرجس وقبره في الكنيسة والنصرانيات قد يزرن بعض قبور أولياء المسلمين أيضا؛ والكل يزعمن أنهن شفين من أمراضهن وأوجاعهن وخرجت عفاريتهن.
(4)
يرى بعض علماء اللغات أن كلمة (الحواريين) في القرآن هي معربة عن الحبشية ومعناها فيها (الرسل) أو (المرسلون) سماهم بذلك القرآن إما بحسب العرف الجاري في ذلك الزمن بين نصارى العرب كما نسمي الآن دعاة النصرانية (بالمبشرين) ؛ وإما لأن المسيح أرسلهم في حياته لدعوة اليهود إلى المسيحية كما في الأناجيل راجع (متى 10: 1 - 15 ولوقا 9: 1-6 و10: 1-12) وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض أصحابه إلى بعض الجهات لتعليم الناس الدين والحكم بينهم وغير ذلك، كمعاذ بن جبل الذي أرسله إلى اليمن، وكانوا يسمون أيضًا رسل رسول الله والحكمة في اختيار القرآن هذه الكلمة الحبشية دون مرادفها بالعربية هي منع الالتباس لتكون عَلَمًا خاصًّا بهؤلاء التلاميذ الممتازين من أصحاب عيسى، والظاهر من نصوص القرآن أن إيمان بعضهم على الأقل لم يكن كما يجب وخصوصًا بعد عيسى، وأن الخلاف في مسائل الدين نشأ منذ عصرهم (راجع قر 3: 53 - 54 و5: 77 و112 و117 و19: 37 و43: 65 و61: 14) فطباعهم كانت كطباع أسلافهم قوم موسى، بل قد نص المسيح نفسه على أنه لم يكن عندهم إيمان مطلقًا (مت 17: 20) وقال لبطرس أيضًا (مت 14: 31)(يا قليل الإيمان) مع أنه أعظمهم، فما بالك
بغيره؟ ! .
(5)
يقال أن توما هذا سافر إلى جزائر الهند الشرقية ومات هناك (قاموس بوست مجلد اص295) ولعله كان في رحلته هذه مصاحبًا للمسيح عليه السلام في هجرته الهندية التي ذكرناها في مقالة الصلب (153 و154) وتوما هذا هو التلميذ الوحيد بحسب الأناجيل الحالية (يو 20: 25) الذي كان عارض التلاميذ في قولهم بقيامة المسيح، وله إنجيل يوناني ذكر معجزة خلق الطين طيرًا وغيرها مما ذكره القرآن، ولكن النصارى يرفضون هذا الإنجيل.
(6)
حاشية: لا حظ أن هذا الكلام وما يأتي مبني على فرض صحة نسبة هذه الكتب إلى من نسبت إليهم كما فرضنا ذلك في مقالة الصلب ولكن بعض علماء النقد في أوربا يرى الآن أن جلَّ هذه الكتب أو كلها منسوب إلى هؤلاء الناس كذبًا كصاحب كتاب (مصادر النصرانية) المستر توماس ويتاكر وغيره عديدون من محققي الإفرنج.
(7)
قال الأبيونيون (أي الفقراء) وجمهورهم عبرانيون وكانوا هم النصارى الحقيقيين في القرن الأول والثاني (كما قال رينان وغيره)، قالوا: إن بولس هذا لم يكن يهوديًّا وكذبوه في هذه الدعوى التي ادعاها عند من لم يعرفه في رسائله لهم وقالوا: إنه دخل في اليهودية لكي يتزوج ببنت رئيس الكهنة واختتن فلما أبى رئيس الكهنة أن يزوجه ابنته دخل في المسيحية وادعى أنه رسول المسيح إلى النصارى، فلم يُحِب أن يرى في النصرانية أثرًا من آثار الديانة الموسوية؛ ولذلك سعى جهده في إخراج المسيحيين عن الناموس وحنق على كل من قاومه - راجع رسالته إلى أهل غلاطية - وأبطل جميع شرائع موسى وتبعته الأمم الداخلون حديثًا في المسيحية في ذلك؛ لأن ذلك كان أسهل بكثير من عبء الناموس (انظر كتاب دين الخوارق صفحة 748) وبقي تلاميذ المسيح والنصارى الأولون محافظين على تعاليم موسى وعيسى، ولذلك قال يوحنا في رؤياه (2: 2) : وقد جربت القائلين أنهم رسل وليسوا رسلاً فوجدتهم كاذبين 9 - وتجديف القائلين إنهم يهود وليسوا يهودًا بل هم مجمع الشيطان 14 إن عندك هناك قومًا متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالآبق أن يلقي معترة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا والمراد بالزنا هنا عدم مراعاة البوليسيين أحكام الشريعة الموسوية في مسائلهم الزوجية وعدم اعتدادهم بها، والظاهر أيضا أن كاتب رسالة يعقوب كان من اليهود المتنصرين أو بعبارة: أخرى كان من هؤلاء الأبيونيين، ولذلك خالف في رسالته هذه (ص2) بولس في دعواه الخلاص بالإيمان وحده (انظر مثلاً رومية ص3 و4)، (وغلاطية 2: 16 و21 و3: 2- 29) وبين صاحب رسالة يعقوب أن العمل الصالح لا بد منه مع الإيمان (انظر 2: 14 - 26) ولم يذكر في هذه الرسالة شيء من عقائد النصرانية المعروفة، وكون هذا الكاتب من الأبيونيين الفقراء يظهر من عدة مواضع من رسالته هذه، مثل (1: 10 و11 و2: 2 - 7 و5: 1-6) والراجح أن الكنيسة لم تقبلها، كسفر الرؤيا، إلا بعد بولس بمدة، وربما كان قبولها للرغبة في ضم أصحابها إليهم.
(8)
راجع (كتاب دين الله) ص 15 - 28 لتعرف الجواب عن هذا السؤال.
(9)
إنجيل متى هو عند النصارى أقدم أناجيلهم الأربعة وليس فيه غير هذا الخبر عن رؤية المسيح بعد الموت كما قلنا في المتن أما إنجيل مرقس فلم يذكر فيه أي خبر عن ظهور المسيح بالفعل لتلاميذه ورؤيتهم له بعد قيامته، وما فيه من ذلك (16: 9-20) إنما هو - كما قلنا باعتراف علمائهم الآن -زيادة ألحقها به رجل مجهول في بعض القرون الأولى، فهي لا قيمة لها بالمرة من الوجهة
التاريخية، ومن زاد هذه لا يبعد عليه أن يزيد غيرها في الأناجيل الأخرى كعبارة متى المتقدمة، وأما إنجيل لوقا ويوحنا فهما متأخران وما فيهما في هذه المسألة إنما هي أقاصيص راجت بين النصارى في القرون الأولى، وهي لا شك مختلقة بدليل أنها لو كانت موجودة في زمن الكاتب للإنجيل الأول أو الثاني لما تركاها بالمرة مع أنها في غاية الأهمية عند النصارى، بل لا يوجد عندهم أهم ولا أعظم منها لإثبات دعواهم قيامة المسيح من الموت على ما فيها من التناقض والتضارب الذي بيناه مرارًا ونحن وغيرنا من علماء الإفرنج المحققين، فليس عندنا إذًا سوى رواية واحدة قديمة تستحق أن ينظر فيها بشيء من العناية، وهي رواية إنجيل متى، فنقول: إن كانت هذه الرواية ليست مما أضافوه إلى الأناجيل وصادقة، فالذي يُفهم منها أن ظهور المسيح لم يكن جليًّا ولا واضحًا، ولذلك لم تقتنع به نفس تلاميذه، فيجوز أن الذي رأوه كان برقًا أو خيالاً في الأفق كالذي ينشأ مثلاً عن انكسار أشعة النور في تلك الجبال لم يسهل عليهم الوصول إلى مكانه، وكان الرجل قد غاب عن أعينهم فلم يعثروا عليه، ولذا لم يتحققوا إن كان هو المسيح أو غيره، ولذلك أظهر بعضهم شكه فيه، ومن العجيب أن متى مع ذكره ذلك وحده لم يبين لنا صريحًا إن كان التلاميذ الشاكون زال عنهم هذا الشك حينما قرب منهم - كما قال - الشخص الذي نظروه على بعد أم بقوا شاكين بعد ذلك طول حياتهم مُصرين على عدم التصديق؟ وما كان موقفه بالنسبة إليهم، وهل كان واقفًا على الأرض أم معلقًا في الهواء؟ وهل أمْره لهم بتعميد جميع الأمم (28: 19) سمعه جميع الحاضرين أم بعضهم فقط؟ وهل تكلموا معه في غير هذه المسألة؟ وماذا كان موضوع كلامهم الآخر؟ وهل كان صوته عين صوت المسيح الذي يعرفونه وألفاظه مفهومة أو مبهمة؟ وهل سجد الشاكون معهم أم لا؟ إلى غير ذلك من المسائل التي كان يجب على الكاتب تفصيلها حتى لا تبقى النفوس متعطشة للوقوف على الحقيقة، شاكة حائرة في أعظم عقائد دينهم؛ فالظاهر أن الكاتب تجنب مثل هذه التفاصيل لأنه كان قريب العهد بتابعي الحواريين، وربما أنه خاف أن يكذبه أحد، فهو لم يكن عنده من المهارة والجراءة والمعرفة بطباع الناس ما عند غيره وأما الأناجيل الأخرى فلم تخشَ أحدًا؛ لأن زمنها أبعد عن الوقت الذي قيل أن هذه الحوادث حدثت فيه، ولمعرفة كاتبيها بطباع أهل زمنهم أكثر من غيرهم، فقالت ما قالت، فيُرى من ذلك أن أقدم رواية عندهم يحوم حولها شيء كثير من الشك، هذا إذا سلم أنها صحيحة صادقة، وأما إذا كانت مخترعة فقول الكاتب فيها (مت 28: 17) (ولكن بعضهم شكوا) ، يريد به - كعادة المزورين الخادعين - أن يُظهر للناس أنه فيما قصّه عليهم خالٍ من كل غرض ويقول الحق ولو على نفسه، فهي طريقة من طرق حسن السبك معتادة بين القصاصين الأفاكين لإحكام تلفيقهم؛ وإن كان كاتبنا هذا قد فاتته بعض أشياء لازمة لإتمام حسن السبك لبساطته وجهله، وأيضًا فإنه يريد أن يُظهر أن التلاميذ لم يكونوا سريعي التصديق ولا ميالين لاعتقاد هذه المسائل بسهولة، بل كانوا مدققين نقادين حتى لم يبالوا بالشك في هذه المسألة، ولا بإظهار شكهم لإخوانهم الذين يريد الكاتب أن يصورهم بأنهم كانوا أحرار سُمحاء في معتقدهم يتحملون خصومهم بكل أناة وعقل ويقنعونهم بالحسنى والدليل، فمن اقتنع منهم بشيء فهو لم يقتنع به - كما يريد الكاتب أن يقول - إلا بعد التثبت والتحقق منه بالبحث والفحص، فهذه القصة هي كقصة شك توما واقتناعه بعد ذلك المذكورة في إنجيل يوحنا (20: 24 - 29) فإن المراد بهما في الحقيقة المغالاة في بيان تدقيق التلاميذ بطريقة خفية وحيلة تافهة معتادة لا تدخل على البسطاء المغفلين، ولذلك ترى المبشرين الآن وفي كل زمان يتخذون مثل هذه العبارة دليلاً على أن كتبة الأناجيل كانوا مؤرخين صادقين لأنهم ذكروا هذه المسائل التي تدل على شك الحواريين وهي، - كما يتوهم هؤلاء الناس أو يزعمون -، لا تصدر إلا من المجردين عن الأغراض والأهواء الصادقين من المؤرخين.
…
...
(10)
كان أقدم فرق النصارى يعتقدون أن المراد بالبارقليط شخص يظهر بعد عيسى لا روح القدس، (الأقنوم الإلهي عندهم) ومن هذه الفرق القائلة بذلك الغنوسيون Gnostics ومنهم الماركيونيون أتباع ماركيون Marcion من أهل القرن الثاني الذين ادعى بعضهم أن المراد بالبارقليط (بولس) راجع كتاب مصادر النصرانية لتوماس ويتاكر صفحة 144. وفي نحو سنة 156 ميلادية ادعى منتانوس Montanue النبوة في فريجية Phrygia قسم من آسيا الصغرى، وقال أنه هو البارقليط وصدقه في ذلك أناس كثيرون من النصارى وغيرهم إلى القرن الرابع، وفي أيام (ماني) Mani كان النصارى ينتظرون مجيء البارقليط، فلذا ادعى هذا الرجل أنه هو، وكان ذلك في سنة 275 - 276 راجع قاموس تشمبرس Chambers وكتاب (المسحاء الوثنيين) لروبرتسن Robertson صفحة 268 و274 وكتاب (ملخص تاريخ الدين) مجلد 3 ص 236 وقد بين صاحب كتاب (إظهار الحق) أيضا أن النصارى كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون تحقق بشارة عيسى هذه بنبي يظهر بعده، فدعوى النصارى الآن أن المراد بها روح القدس وأنها منذ القدم فهمها الناس بهذا المعنى - هي دعوى كاذبة، وإنما اتفق عليها النصارى بعد محمد صلى الله عليه وسلم الذي تحققت ببعثته هذه النبوة فرارًا من الإيمان به عنادًا وحسدًا (راجع أيضا كتاب دين الله ص118 - 120) ويؤيد ذلك أيضًا أن إنجيل يوحنا صرح أن أهل الكتاب كانوا في زمن عيسى عليه السلام منتظرين ثلاثة أشخاص لا بد من مجيئهم - بحسب الكتب المقدسة - قبل يوم القيامة، وهم إيليا والمسيح والنبي (انظر يو 1: 19 - 26 و7: 40 و41) وصريح عبارات يوحنا المشار إليها هنا أنهم كانوا لا يفهمون من كتبهم أن المسيح غير النبي كما هو ظاهر لمن راجعها، فدعواهم الآن أن المسيح الذي كانوا ينتظرونه هو هو عين النبي، دعوى مردودة بنصوص كتبهم وبالتاريخ أيضًا كما بيناه هنا؛ والظاهر أنهم اتفقوا عليها بعد ظهور محمد صلى الله عليه وسلم كما قلنا، فالنبي المبشر به في العهد القديم، انظر مثلا (تت 18: 15 - 22) هو هو البارقليط في العهد الجديد الذي بشر به عيسى، ولا بد من ظهوره بعده، وقد كان ذلك ولله الحمد، فظهر محمد مصدقًا لما عندهم عنه من التوراة والإنجيل، راجع أيضا فصل (البشائر) في كتابنا (دين الله) .
(11)
مسألة الرؤية هذه تشبه من بعض الوجوه رؤيا النبي (ص) عند المسلمين في المنام، فإنهم أيضا يقولون: إنه لا يظهر إلا للمؤمنين الصالحين، وقد خيل لبعض متصوفيهم أنه رآه وكلمة يقظة أيضًا.
(12)
إذا كان بولس صادقًا في حكاية هذه التخيلات وما ماثلها، فالأرجح أن السبب في حصولها له هو كونه عصبي المزاج كثير التفكير والإجهاد لقواه العقلية والجسمية، مع أنه كان مصابًا بداء الصرع، كما يُفهم من عبارته عن نفسه الواردة في (2 كو 12: 7-9) وأمثال هذه التخيلات معتادة عند أهل الصرع وغيرهم من ذوي الأمراض العصبية، ومن أشهر مشاهير رجال العالم العظام - كنابوليون بونابرت ويوليوس قيصر - من كان مصابًا بالصرع مثله، فإن ذلك لا ينافي كونه عاقلاً ذكيًّا مدبرًا.
(13)
لذلك ذكر رؤيتهم للمسيح في أول رسالة - كتبها كما يقولون - بعد رسالته إلى أهل
تسالونيكي، قال: هذه الرسالة التي لأهل كورنثوس كتبها سنة 57 م حينما بلغه أن بعض الناس أنكروا رسالته، وقالوا: إن تعاليمه تغاير تعاليم بطرس وغيره من التلاميذ، فذكرهم جميعًا فيها تملقًا لهم لئلا يخرجوا عليه ويكذبوه ويؤيدوا كلام الناس فيه، وقد دارى في رسالته هذه أيضًا أيلوس اليهودي السكندري البليغ الذي كان مزاحمًا له (راجع 1 كو 3: 6-9 و16: 12 وأعمال 18: 24 - 28) وأما رسالته إلى أهل غلاطية التي احتد فيها على التلاميذ - كما بينا - فكتبها بعد ذلك سنة 58 م على ما يزعمون ثم عاش بولس بعدها نحو عشر سنين؛ لأنه مات سنة 68 وكان وقتئذ قد طار صيته بينهم حتى ملأ ذكره الآفاق لدهائه وسياسته وعلمه ونشاطه أكثر من سائر رفقائه.
(14)
حاشية: لو جارينا النصارى في طريقتهم لإثبات قدم كتبهم، لقلنا: إن عبارة جلوس التلاميذ على اثني عشر كرسيًّا الواردة في إنجيل متى تدل على أن هذا الإنجيل كتب قبل حادثة الصلب وقبل تسليم يهوذا - وهو أحد الاثني عشر - للمسيح وإلا إذا كان هذا الإنجيل كتب بعد ارتداد يهوذا لما ذكر كاتبه فيه إلا أحد عشر كرسيًّا تفاديًا من نسبة الخطأ إلى المسيح، فلا أدري لِمَ لم يقولوا بذلك وقد كانوا يجدون لهم أنصارًا كثيرين، فهذا مَثَل من أمثلة براهينهم على قِدم كتبهم! فإن قيل: لعل الكاتب أخذ هذه العبارة عن بعض مكتوبات قديمة كتبت قبل حادثة الصلب ولم يصلحها لعدم التفاته، أو لأنها تقبل التأويل حيث قد انتخب متياس بدل يهوذا (أع 1: 26) قلت: كذلك نحن نقول في بعض عبارات كتبهم التي تدل على القدم، فإن مؤلفي الأناجيل أخذوها أحيانًا كما هي عمن قبلهم لعدم التفاتهم أو لأنها تقبل التأويل ولو مع التكلف الزائد كما فعل النصارى فيها بعد ذلك، وأحيانا حوروها لتكون أقرب للتأويل مما كانت أو حرفوها، مثال ما فيها مما أولوه قول متى عن لسان المسيح
…
(24: 34) : (الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله) فإذا صح أن الجيل قد يراد به في لغتهم الصنف من الناس كالأمة اليهودية كلها، فالكاتب إنما استعمله بهذا المعنى، وعليه فهو لا يدل على قِدم الإنجيل، وإذا كان هذا اللفظ لا يراد به إلا الطبقة الموجودة في زمن ما؛ كان هذا القول دليلاً على أن هذا الإنجيل كُتب قبل انقراض جميع معاصري المسيح وحينئذ يكون عيسى نفسه مخطئًا في هذه العبارة، فهي إما أن تكون صحيحة والإنجيل ليس بقديم، وإما أن يكون الإنجيل قديمًا وعيسى مخطئًا، فأيّ الوجهين يختارون؟ وأما القول بأنها صحيحة وأنها تدل على قِدم الإنجيل فهذا مما لا أفهمه، والحق أنه لولا عدم التفات أولئك الكتبة لِما وُجد في كتبهم ما وُجد فيها من التناقض والغلطات التي لا تحتاج لكبير تأمل أو تفكر؛ ولذا كان منهم من ناقض نفسه بنفسه في الكتاب الواحد بل في العبارة الواحدة، راجع صفحة 48.
(15)
إن كان هؤلاء الناس معصومين من الخطايا فكيف راءى بطرس اليهود في أنطاكية حتى قال عنه بولس: (إنه كان ملومًا أو مدانًا وإنه هو ومن معه لا يسلكون باستقامته حسب حق الإنجيل)(غل 2: 11-14) وكيف أنكر المسيحَ وقت أخذه للصلب وأقسم أنه لا يعرفه (مر 14: 71) وإن كانوا غير معصومين فكيف إذًا يغفرون للناس ذنوبهم وهم، فوق ما تقدم، عديمو الإيمان كما قال لهم المسيح (مت 17: 20) أليس اليهود أفضل منهم؛ لأنهم امتنعوا عن إدانة الزانية، حينما ذكّرهم المسيح بخطاياهم، وبكتتهم ضمائرهم (يو 8: 7-11) وأما هؤلاء فيدينون الناس (أع 13: 11) ويمسكون خطاياهم (يو 20: 23) وهم أنفسهم مدينون فلمَ ذلك؟ وما حكمته؟ وهل هو مما تسعه عقول النصارى أيضًا كما وسعت التثليث وغيره؟ وهل لا يزال البروتستنت منهم ينكرون أن مسألة الاعتراف وبيع أوراق الغفران Indulgences والقطع من الكنيسة والسلطة الباباوية وغير ذلك مما تسببت عنه مفاسد عديدة يعرفونها بين جميع النصارى منذ القدم - إنما نشأت كلها من عبارات كتبهم هذه التي - في الحقيقة - ما وضعها الآباء فيها إلا ليبنوا عليها سلطتهم بدعواهم أنهم خلفاء المسيح ورسله ونوابه فيكون لهم من السلطة والحقوق ما لأولئك سواء بسواء، وإذا كان للتلاميذ حق التصرف في ملكوت السموات، فكيف أصبح البروتستنت ينكرون على الرؤساء الروحانيين وهم خلفاء التلاميذ طبعًا حق التصرف في هذه الأرض الصغيرة الحقيرة، وهو الحق الذي يدعونه دائمًا لتبقى الناس في أيديهم كالأنعام كما كانوا منذ القرن الأول؟ أليس إنكارهم هذا أثرًا من آثار العقائد الإسلامية التي وصلت إلى مُصلحيهم من حيث لا يشعرون، أم هم يكابرون؟ وقد جاء بها النبي الأمي في أزمنة الجاهلية والعالم كله في الضلال المبين.
(16)
أي عقل أصغر! وأي إدراك أقصر! وأي علم أقل! وأي عقيدة أسخف! وأي وهم أكبر! وأي غرور أعظم، ممن يعتقد مثل هذه العقائد؟ فإن الأرض ومن عليها ليست إلا ذرة من ذرات هذا الكون الواسع الكبير العظيم كما أثبته علم الفلك الحديث، قارن عبارات كتبهم هذه بقول القرآن الشريف:(وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ)(آل عمران: 135) وقوله: (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(غافر: 57) وقوله: (َوفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا)(الإسراء: 70) فالبشر ليسوا أفضل من جميع مخلوقات الله تعالى كما كان يتوهم أولئك الواهمون المفتونون المغرورون، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام: 91) سبحانه وتعالى عما يتوهمون ويصفون ويشركون، هو الكبير المتعال، ليس لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدًا، لا إله إلا هو الواحد القهار، رب السموات والأرض رب العرش العظيم، فله وحده الحمد والشكر أن طهر عقولنا بعقائد الإسلام، من تلك الأوهام، ورفع نفوسنا بالتوحيد، حتى لا نمتهنها بالذل والجبن والعبادة لأمثالنا من العبيد.
(17)
هذا الكلام كله مبني على تسليم قصة الصلب كما هي في كتبهم.
(18)
كما تغالى بعض اليهود كيوسيفوس وقالوا: إن موسى لم يمت وأنه اختفى عن قومه ولا يزال حيًّا، وكما تغالى النصارى في مريم وقالوا: إنها رفعت بعد الموت إلى السماء بروحها وجسدها ولهم عيد (يوم 15 أغسطس) يحتفلون فيه بذكرى رفعها! ! وكان الوثنيون يقولون برفع بعض آلهتهم إلى السماء (انظر مثلاً كتاب النصرانية والأساطير، لمؤلفه روبرتسن ص 384) ويقول
اليهود، برفع بعض الأنبياء إليها أيضا (راجع عب 11: 5 و 2 مل 2: 11) .
الكاتب: سائح ناصح
دعاة النصرانية
في البحرين وبلاد العرب
سيدي العلامة المشتهر منشئ المنار الأزهر، أيد الله بك الشرع الأغر،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فلم أنس لا أنسى تلاوة أعداد مجلتك المحترمة وما حَوتْْْْه من منشورات
نصارى البروتستان في الغارة على العالم الإسلامي ودسائسهم في إضلال ضعفاء
المسلمين وتهديدهم حياة الأديان - حتى الإسلام - بقواهم ومعداتهم المدهشة وما
كان يشيعه زويمر عن مسلمي البحرين من تأثير عملياته فيهم.
أقرأ تلك المنشورات وأناملي ترتعش وفرائصي ترتعد، ونيران الأحزان
تلتهب في أحشائي وتتقد.. . حتى إني سئمت العيش آنئذ وعفت الأهلين والوطن
وخرجت بوجهي كهائم في فلاة حتى بلغت مجمع البحرين لكي أطلع على حقيقة
الأمر وأتحقق صحة ما أشاعه دعاة البروتستان عن تلك القادة الإسلامية المحضة
فأتدارك الخطب بعدئذ عن بصيرة.
فحللت بلاد البحرين في أول يوم من هذه السنة والتقيت بأميرها وقاضيها
وبالعلماء والأعيان من أهليها. وفتشت عن زويمر فأخبروني بسفره إلى البلاد
المصرية، واتفق نزولي في دار قريبة من مستشفى البروتستان ومن مدرستهم
وبيوتهم، فأرسلت إلى بعض خدمهم من مسلمي الجزيرة، وأخذت منه بعض
المعلومات الضرورية، وظفرت بتصاوير إدارتهم الكائنة في البحرين وفي مسقط
والكويت والبصرة.
إن الخطر مما لا يُستصغر، ولكن مما يهوِّن الخطب أن أكثر ما يشيعونه من
نجاح مسعاهم في هذه البلاد مبالغات أو مفتريات يقصدون من نشرها إغراء
جمعياتهم الكبرى وتشويقها حتى تبذل لهم الأموال الجسيمة.
وها أنا ذا ذاكر لسيادتك بعض ما كشفته عن أمر هؤلاء، وسوف أذكر في
حضرتك البقية بالمشافهة، إن شاء الله تعالى.
أما الدعاة المنتشرة في البحرين فلا يبلغ عددهم العشرين رجالاً ونساء
وأكثرهم لا يحسنون العربية ولا يعرفون شيئا من العلوم الدينية، وهذا بعض ما
يدل على أن هؤلاء يغشون جمعياتهم الكبرى التي تنفق عليهم الأموال الطائلة
لظهور عجزهم وقصورهم في أداء وظيفتهم، فتذهب بهم أموال الجمعية هواء في
شبك.
وقد لقيني معلمهم بعض الأيام وسألني عن قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) إلخ الآية. فقال: إن
المستفاد من الآية هو علم الملائكة بالغيب بل بما لم يعلمه الله تعالى. قلت: يا
سبحان الله كيف تستفيد ذلك من الآية مع تصريح الملائكة في هذا السياق بقولهم:
{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة: 32) وتصريح الباري عز شأنه بقوله:
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ثم إن الملائكة لم تعترض على الله في
خلق آدم وإنما استفهموا منه تعالى عن جواز صيرورة الظالم المفسد - في رأيهم -
خليفة، فقالوا بعد قوله:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) :
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة: 30) إلخ ولم يقولوا: أتخلق
فيها من يفسد.
ومتى كان هذا القول من الملائكة استفهامًا وسؤالاً عن جواز استخلاف الله
تعالى ظالمًا، ولم يكن ذلك منهم اعتراضًا عليه - دل ذلك على عدم علم الملائكة
الغيب، وعلى سعة علم الله تعالى دون العكس كما توهمت.
وتكلمت معهم يومًا في مكتبتهم في مسألة إشباع المسيح عليه السلام خمسة
آلاف نفس بخمسة أرغفة المذكورة في إنجيل متى وغيره، وبرهنت لهم بالأدلة
الواضحة منافاة هذه القضية لحكم العقل والعلم، فاعترفوا بمناقضتها لحكم العقل،
لكنهم اعتذروا بأن الدين لا يضره مناقضة العقل. فبينت لهم في مقالة ضافية الذيل
وجوب معاضدة العقل للدين ومصادقتهما، ويستحيل بدون ذلك إيمان إنسان إيمانًا
صادقًا وذكرت لهم موافقة الدين الإسلامي للأحكام العقلية وتصريح بعض علماء
الإسلام بقضية (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، وكذلك العكس) .
ولدعاة البروتستان في البحرين مدرسة صغيرة مركبة من حجرتين يجلس
الأطفال في التحتانية منهما ويجمع الكبار للصلاة في الفوقانية، ولا يبلغ تلاميذها
عدد الأصابع، وما فيها من المسلمين غير صبيين عربي وفارسي يتعلمان فيها
الإنكليزية، ورأيتهما يستهزآن بصلاة هؤلاء ويقول أحدهما للآخر: كيف يقبل الله
تعالى صلاة يغنون فيها بأدوات اللهو، ويقضون باسم الصلاة شهوات أنفسهم؟
وأما تاريخ زويمر، فالمشهور بين أهالي البحرين أنه في أول مجيئه قبل بضع
عشرة سنة صادف خشونة من الناس فهاجر إلى بلاد الحسا ليستقر فيها فوجد في
أهليها ذكاء وتنبهًا وأن البلاد العثمانية لا يسود فيها حكم لقونسل إنكليزي حتى
يستظهر مثله بكل ما ستسمع، فرجع إلى البحرين بخفي حنين، واستعذب ما يراه
من المهانة، وكان يلقب نفسه ضيف الله، والأهالي يدْعونه ضيف إبليس! كذا ذكر
الناس، وكان قد فتح في مبدأ أمره حانوتًا في السوق لبيع الكتب المختلفة ثم
تخصص بالتدريج لبيع الكتب المسيحية وبعد أعوام عزم على شراء أرض هناك،
فامتنع الحاكم أن يبيعه مع أنه اشترط على نفسه أن لا يضع فيها ناقوسًا ولا غيره
من آثار النصرانية، ولا يدعو فيها إلى دينه، لكن زويمر توسل بقونسلية الإنكليز في
بوشهر والبحرين فألحت القونسلية على الحاكم وأخذت منه قدرًا واسعًا من الأرض
لزويمر بثمن أربعة آلاف روبية تقريبًا وأسسوا فيه مدرسة ومستشفى صغيرًا لنشر
دعوة الإنجيل بتمام حريته، أفلا يدل هذا وأمثاله على تورية في لهجة أوربا وادعاء
اجتناب ساستها الأمور الروحية وتجنب ديانتها الأمور السياسية؟
ولم يظهر خلال هذه الأعوام نجاح لزويمر إلا في أمور أربع، الأول: زيادة
راتبه ومعاشه إلى 150 ربية في الشهر غير ما يتبرع عليه بعض أحبائه
الأمريكانيين.
الثاني: تكثير عدد الدعاة في بلاد البحرين من رجال ونساء أمريكيات
يتطلبون بمسعاهم الارتزاق.
الثالث: استخدامهم لفقراء المسلمين في إدارتهم ثم يأخذون صورهم
ويرسلونها إلى بلاد أخرى يشيعون عنهم أنهم تنصروا، والصحيح أنهم (تبصروا)
في دسائس مخالفيهم، ولقد شاهدت في مستخدميهم الغيرة الإسلامية والشكوى مما هم
فيه حيث إن الفقر ألجأهم إلى خدمة عباد المسيح.
الرابع: توزيعهم نسخ الأناجيل بين المسلمين، ولشد ما أخطأوا في هذا الأمر
وسيندمون حين لا ينفعهم الندم؛ لأن أبناء القرآن إذ اطلعوا على آيات الإنجيل سقط
موقعها من أعينهم. وقد اتسع نطاق فحصي في ذلك فلم أجد مسلمًا يسمع الإنجيل
إلا ويتكلم عليه.
ولقد قال لي بعض البحرانيين: إنني كنت أعتقد قبل أن أرى الإنجيل أنه
كتاب إلهي ولكن يد التحريف مست بعض آياته، وبعد ما وصلتني منه نسخة سقط
من عيني حتى كدت أن أنكر نسبة شيء منه إلى الباري.
ولقيت الشاب الغيور يوسف كانون، أحد أجلاء البحرين، وممن يتحبب إليهم
زويمر وقد أتحفه بنسخة من العهدين، فقال: وقد أعانتني قراءتهما على محاجة
زويمر معي في كثرة أزواج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فقلت: إنها لا تنافي
رسالته من الله تعالى، وهذا سفر صموئيل من التوراة ينطق بأن سليمان النبي عليه
السلام تزوج بمائة من النساء وأن داود عليه السلام تزوج بغير زوجته على وجه
غير وجيه، إلى آخر ما قال.
وكان شبان العرب يذكرون لي ما سنح في خواطرهم من الاعتراضات على
الأناجيل، وجاء بعضهم يومًا بنُسَخ من الإنجيل الموزع عليهم قد كتبوا على
هوامشها اعتراضات جمة. ولقد نهيتهم عن إحراقها إذ بلغني أن أكثر جهالهم
يأخذون نسخ العهود الموزعة عليهم ويحرقونها. أو يلقونها في البحر. ويبيعون
أغلفتها ويستعملون الأوراق لصنعة الكرتون أو سائر حوائجهم.
وبالجملة: إن نشر هؤلاء تلك الكتب بالمجان وشبهه تلقي خسارات باهظة
على كاهل جمعياتهم من دون فائدة، بل المرجح أن ذلك يعود عليهم بمضرة كبيرة
يصعب عليهم ملافاة أخطارها في المستقبل. وهي توجه أفكار المسلمين إلى إشاعة
ما في الأناجيل وإنكاره تمامًا، فهم - ما لم يقرؤوا الأناجيل - مذعنون حسبما
يظهر من قرآنهم المقدس (أن العهود كتب إلهية مسَّت يد التحريف بعضًا من آياتها)
ومتى اطلعوا على خوافيها نفروا من جميع ما فيها، وعرفوا مواضع الطعن منها.
أقول هذا ولا أظن المسيحي يعترف لي أو يصدقني لما ملأ قلبه من الشغف
بالإنجيل، ويزعم أن الناس كلهم يرون إنجيله مثلما يراه، كلا، ومن أنذر فقد
أعذر.
أخذ الإفرنج منذ سنين يوزعون الأسلحة النارية في بلاد العرب بالمجان
بعضًا وبأزهد الأثمان أخرى، يقصدون من ذلك إلقاء الفتن والقلاقل الداخلية فيقع
بأس المسلمين بينهم، ويمزق الإسلام أيدي أبنائه، ولقد تأكد ظنهم من فتنة اليمن
وما أشبه فخسروا في توزيع الأسلحة ثروة عظيمة.
ولما ظهرت صيحة طرابلس ونهض العرب كأسود ضارية يستعملون تلك
الأسلحة والسهام في نحور أعداء الإسلام - خابت ظنون الإفرنج وانتقضت سياستهم
فطفقوا الآن في مواني جزيرة العرب يشترون منهم بأثمان غالية تلك الأسلحة التي
فرقوها بينهم بأبخس الأثمان، فتضاعفت خسارتهم مرة أخرى {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (النازعات: 12) .
وها أنا ذا أنذرهم - ولا يغني الإنذار - وأحذرهم من نشر كتبهم في
المسلمين؛ لأنهم في هذه الفكرة كالباحث عن حتفه بظلفه، يبصرونهم بمواضع
الطعن ويمكنونهم منها، ولسوف تراهم يشترون بأغلى القيم جميع الأناجيل التي
فرقوها فيهم بالمجان أو بقيمة زهيدة ويسعون في جمعها بكل وسيلة وحيلة، وتكون
خساراتها في حال جمعها أكثر من خساراتهم حال تفريقها، وتكون عاقبة أمرهم في
نشر أسلحتهم الدينية كأمرهم وخطأهم في نشر أسلحتهم النارية، ومن أنذر فقد أعذر.
…
من (بطون الفلوات)
…
...
…
... سائح ناصح
(المنار)
إن هؤلاء القوم لا يبالون بزيادة نفور بعض من يرى كتبهم من دينهم ويكتفون
ممن يأخذون هذه الكتب بالأنس بهم واعتياد البحث عنهم والتشوف إلى سائر ما
ينشرونه ولو بقصد الاختبار والسخرية، وحينئذ يفتح لهم باب التشكيك في الإسلام
بنشر الكتب التي تطعن فيه، ولا يذكر فيها شيء من كتبهم، ومتى شك المسلم في
القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كفر وبطلت ثقته بالإسلام، وهذا عند
الدول أول درجات الفتح السلمي بواسطة دعاة النصرانية. فالأولى للمسلمين أن لا
يأخذوا شيئًا من كتبهم ألبتة إلا من كان متصديًا للدفاع عن الإسلام والتفرقة بين
الحق والباطل، ومن أخذ منها شيئًا فلا كفارة لأخذه مثل إحراقه بالنار قبل أن يهوي
به إلى النار، وقد أخطأ السائح الفاضل بنهي الناس عن إحراق تلك الكتب التي
تثير الفتنة وتمزق شمل الأمة وتكون وسيلة للشك في الدين ولإزالة ملك
المسلمين.
وكما ينبغي إحراق تلك الكتب الضارة ينبغي أيضًا نشر الكتب التي تبين
حقيقة هذه النصرانية التي يدعوننا إليها؛ ليعلم المسلمون أنها أبعد الأديان عن دين
المسيح الصحيح، وعن دين بولس الذي ألفه باسم المسيح وأودعه هذه الكتب التي
يسمونها العهد الجديد. وليعلم أهل الصلاح والتقوى والغيرة الدينية من أهل
البحرين والكويت وسائر بلاد الخليج الفارسي وعمان والعراق أن نشر الكتب التي
تشكك الناس في القرآن والإسلام، ستزداد عامًا بعد عام، فعليهم أن يؤلفوا جمعية
للدفاع عن دينهم، يكون أول عملها مجاهدة هؤلاء الدعاة المبشرين بمثل ما
يجاهدون المسلمين به، بأن يكون أول عملها توزيع الكتب التي تبين حقيقة
النصرانية الحاضرة مجانًا في كل مكان وصلت إليه فتنة هؤلاء الدعاة، وأهمها هذه
الرسائل الجديدة التي ننشرها نحن وكتاب (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية)
فهذه أنفع من كتاب الجواب الصحيح وكتاب إظهار الحق وأمثالها من المطولات التي
لا يفهمها حق الفهم إلا العلماء.
وليتذكر الشيخ مقبل الذكير والشيخ قاسم بن ثاني أن الأجر في نشر هذه الكتب
والرسائل صار في مثل تلك البلاد أفضل من طبع كتب الفقه والفتاوى والرد على
المبتدعة المتقدمين الذين انقرضت مذاهبهم وماتت بدعهم؛ لأن هذا يتعلق بحفظ
أصل العقيدة وكنه الإسلام. ثم يجب على الجمعية أن تغني المسلمين عن مدارس
دعاة النصرانية وتمنعهم من الدخول فيها بكل الوسائل الممكنة، وإلا ندموا حيث لا
ينفعهم الندم، ومن أنذر فقد أعذر، والسلام.
_________
الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي
جمعية خدام الكعبة [*]
إن الاتحاديين أضروا بالإسلام والمسلمين أكثر من إضرار الأعداء الحقيقيين،
فقد مزقوا الدولة وأذلوا العثمانيين والمسلمين معًا وفرقوا الكلمة ولعبوا
بالأمة وضيعوا من ممالك الدولة الإسلامية في خمس سنين ما لم يضيع مثله
عبد الحميد وأعوانه في أكثر من ربع قرن، وقد نفروا من هذه الدولة - المصابة
من أيدي أبنائها بأكثر مما أصابها الأغيار- قلوب العالم الإسلامي، وإذا كان
العدو العاقل خيرًا من الصديق الجاهل، فما بالك بهذا الصديق الجاهل إذا كان
زنديقًا ملحدًا لا يعتقد بالله ولا يؤمن بما به تؤمن، ولا يصدق ويوقن بما تصدق به
وتوقن اللهم إلا دعوى لسانية تخالفها الأفكار والأعمال، وتباينها السيرة والحال
وهو مع ذلك قد تطور بأطوار لا تلائم الجنس الذي يدعي الانتساب إليه، وتشكل
بأشكال صارت وبالاً على جنسه وعليه.
لئن كنا نؤاخذ الاتحاديين على السيئات التي اجترحوها، والجرائم التي
ارتكبوها، والأضرار التي جلبوها على الدين والأمة والدولة، وعلى العثمانيين
عامة وعلى أنفسهم خاصة فإنما ذلك لكونهم إخواننا، نحب لهم ما نحب لأنفسنا،
ولا نود لهم الزيغ والضلال ولا نريد لهم الخراب والدمار، ولا نرضى لهم بالذل
والصغار، ونغار عليهم أضعاف غيرتهم على أنفسهم.
ولئن كنا في أسف وحزن وغم على ما أصاب إخواننا الأتراك من أيدي
الاتحاديين الأغرار، وأذنابهم المفسدين الأشرار، وعلى عمل هؤلاء الاتحاديين
بأنفسهم وشعبهم، والجاهل يعمل بنفسه ما لا يعمله العدو به فإنا نشكر من جهة
أخرى لهؤلاء الأغرار أعمالهم الخبيثة وأفعالهم السافلة؛ لأنها نبهت المسلمين إلى
وجوب ترك الاتكال على الغير وإلى السعي والعمل لملتهم وأمتهم وحماية دينهم
والنظر في أمورهم وإصلاح ذات بينهم وترقية أنفسهم، وإن كان ذلك قد جاء بعد
خراب البصرة.
فقد قعدت هذه الملايين العديدة من المسلمين عن العمل من قبل اتكالاً على هذه
الدولة التي يفتخر سلطانها - ويحق له الفخر- بخدمة الحرمين الشريفين: كعبة
المسلمين قاطبة وروضة نبيهم أجمعين، والذي يحترمه المسلمون كل الاحترام
ويغارون عليه أشد الغيرة، ويفدونه بالأرواح والأنفس والأموال بسبب الاتسام بسمة
هذه الخدمة الشريفة، وتوهم أنها هي التي ترفع شأن الإسلام وتحفظ سلطته والحكم
بشريعته، وتحمي أهله وتعزهم وتنهض بهم وترفع رءوسهم، وتفك أغلال
الاستعباد عن المستعبدين، وتذيقهم نعمة الحرية الكاملة التي يتنعم بها بقية العالمين.
ولما ظهر لهم الآن الصواب من الخطأ، وتبين الرشد من الغي، وأزال
الاتحاديون بأيديهم الأثيمة سجوف الشكوك والأوهام، وتجلت حقيقة هذه الدولة
المنكودة للخاص والعام من هذه الملايين المتواكلة - انتبهوا لحالهم - ورجعوا إلى
أنفسهم وثابت إليهم عقولُهم وندموا على انخداعهم كل هذه المدة، ولات ساعة
مندم، فهبوا من نومهم طائشين مدهوشين يتشبثون كالغرقى بكل ما تصل إليه أيديهم،
وينظرون إلى مستقبلهم ومستقبل دينهم وأمتهم ومآل كعبتهم وقبر نبيهم بعيون
ملؤها الخوف والفزع، وقلوب تحيط بها جيوش الاضطراب والهلع، ولا يدرون
أين يسيرون وماذا يفعلون وأي شيء من الأعمال يقدمون.
ولأذكر لكم مثالاً واحدًا من أمثلة رجوع المسلمين إلى أنفسهم، وخلعهم نير
الاتكال على غيرهم عن عاتقهم، ويأسهم من الدولة العثمانية والحكومة الإسلامية
القائمة بها الأمة التركية. وهذا الرجوع والخلع وإن جاءا متأخرين عن وقتهما كثيرًا
وربما لا تثمر المساعي اليوم ولا ينفع العمل - فإن فيهما بشارة عظيمة لأن اعتماد
المسلمين على أنفسهم بعد اتكالهم على الله، واهتمامهم بشئونهم وأمورهم، والسعي
والعمل لملتهم وأمتهم وتوجه أفكارهم وأنظارهم نحو حماية الإسلام ورفعة شأنه،
وصيانة الشرع الشريف من العبث به لا بد أن ينفعهم إما عاجلاً أو آجلاً، وأن
يحفظ لهم البقية الباقية، إن لم يُعد لهم ما كان لهم في الأيام الخالية، وكل من سار
على الدرب وصل، والقنوط ليس من شأن المسلمين الصادقين، كيف وقد أخبرهم
ربهم بأن العاقبة للمتقين، وأن الله ولي المؤمنين؟
تألفت في لكهنؤ من بلاد الهند جمعية نافعة جدًّا ولكنها لا تزال في طور
التكوين اسمها مجلس أو أنجمن (خدام الكعبة) وقد نشر نظامها وبروجرامها بعد بيان
مقاصدها وأغراضها، وكل ذلك بصورة اقتراح لطلب الموافقة عليه حضرة الكاتب
الغيور، والمحامي المسلم الكبير، مستر مشير حسين القدوائي.
ولما كان الوقت ضيقًا وكان النظام والاقتراح طويلاً اكتفيت اليوم بنقل مقدمة
القدوائي وتمهيده الذي مهد به الكلام على اقتراحه مرجئًا نقل الاقتراح وإرساله إلى
البريد التالي إن شاء الله.
وهذا هو التمهيد مترجمًا عن الخلاصة التي نشرت منه في العدد 16 من
المجلد الثاني من جريدة الهلال الأسبوعية الغراء الصادرة يوم 23 إبريل سنة
1913 من كلكته:
مجلس خدام الكعبة
لا شبهة في أن الله جل جلاله هو الحافظ لنوره، ولكن ألا نحب نحن بقاء هذه
الأمانة النورانية لدينا؟ هل يختار الله غيرنا للمحافظة على هذا النور؟ ألا يبقى من
يؤتمن على هذا النور من نسل الأمة المحمدية الموجودة؟
منذ سنتين ونحن في ابتلاء شديد، كم استشهد من المسلمين في طرابلس؟ وكم
ذُبح منهم في البلقان؟ ولم يكتفِ الظالمون بسفك دماء إخواننا بل تعدوا إلى
انتهاك حرمات الأماكن الإسلامية في البلاد التي وقعت في أيديهم فجعلوها
اصطبلات واتخذوها كنائس.
ولا تزال قوات البلقان المتحدة ومعها جميع الدول المسيحية في سعي متواصل
لإخراج أدرنة من أيدي المسلمين، تلك البلدة المحتوية على مساجد خلفاء
الإسلام سلاطين آل عثمان ومقابرهم، ولأجل تمكين الرعب من قلوبنا نحن المسلمين
تطلب بلغاريا الاستيلاء على القسطنطينية التي فيها مسجد أيا صوفيا والمزار
المقدس.
إن ما جرى في المشهد المقدس [1] من قريب غير خافٍ على أحد، وإذا كان
هكذا هيجان المسيحيين ذوي التهذيب المادي في القرن العشرين فمن يضمن لنا
خلاص الكعبة المعظمة والمدينة المنورة من جريان مثل ذلك عليهما، لا قدر الله.
إنا قد استفدنا درسًا وافيًا في عدم الاعتماد على قوة أخرى أو دين آخر، فيجب
علينا أن نفكر ونعمل للمحافظة على مواضعنا المقدسة وخدمتها.
إخواني، لا أريد بهذا القول الدول المسيحية بل أريد أن أنبهكم إلى أن
الواجب عليكم من الآن أن لا تتركوا أمر الأماكن المقدسة لشعب من شعوبكم أو
طائفة من طوائفكم، أتْراكًا كانوا أو إيرانيين، فإن هؤلاء عديمي الحيلة لا يقدرون
على الأعداء الكثيرين، سواء كانوا منفردين أو مجتمعين، ولا يمكن لقوة أن تقابل
عشر قوات، ألا وإن الحق في نظر التهذيب المادي هو الشدة والقوة، إن العثمانيين
يجودون بالأرواح: نساؤهم ترمل وأولادهم تيتم، وديارهم تخرب، ومزروعاتهم
تتلف وتنتهب، فماذا يمكنهم أن يفعلوا وحدهم مع ذلك؟ لقد صار من الصعب
العسير على السلطان صيانة قبور أجداده من أيدي الأعداء وإساءاتهم، وقد وجهت
القوات المسيحية بأجمعها ضغطها عليه، فما الذي يطمئنه على صيانة الكعبة
المعظمة والمدينة المنورة وبيت المقدس وكربلاء إذا اجتمع عليها الأعداء؟ وهل
في قدرته وإمكانه حفظها من أيديهم؟ لا أدري لمَ يترك المسلمون فرض حماية
الأماكن الإسلامية المقدسة واحترامها لذمة الأتراك وحدهم؟
أيها المسلمون، إما أن تتركوا من الآن قولكم: إنا معكم مسلمون، وإما أن
تستعدوا على بكرة أبيكم من الآن لحماية وخدمة أماكن دينكم المقدسة وأن تتخذوا
للوصول إلى ذلك ذرائع نافعة، وتدابير قويمة ثابتة، وأن لا تدَعوا الإسلام ذليلاً
في أعين أحد.
إن المسلمين اليوم مع ما هم عليه من الهيجان لم يقدروا على صيانة مساجد
طرابلس وبرقة وسلانيك من انتهاك حرماتها.
إنا إذا كنا نحترم أماكننا المقدسة حقيقة، وإذا كنا نحب ديننا محبة صادقة،
وإذا كنا نرغب في حفظ الحرم المحترم من القذائف، وإذا كنا نود صيانة قبر
أشرف العالمين نبينا وهادينا من حملة الأعداء، إذا كنا لا نريد أن تكون حال قبر
شهيد كربلاء كحال قبر الإمام الرضا، وإذا كنا لا نتحمل تسليم بيت المقدس إلى
مخالب بلغاريا أو روسيا - فمن الواجب اللازم علينا إذن أن نختط لأنفسنا خطة
ثابتة للمحافظة على الأماكن الإسلامية المقدسة وخدمتها وحمايتها، وذلك يفرض
علينا جميعًا الاعتناء بإبقاء أماكننا المقدسة على حالة جيدة سارة، وأن نيسر سبل
تردد المسلمين إليها، وأن نعتني بالمحافظة على الصحة وغيرها فيها، حتى يستدل
من ذلك على عظمة الدين الإسلامي وقدسيته وعلو شأنه وسيطرته وجلاله، وحتى
لا يتجرأ أحد من الملل الأخرى على النظر إلى تلك الأماكن المقدسة بنظرة الازدراء
أبدًا.
…
...
…
...
…
...
…
عبد الحق البغدادي
…
...
…
...
…
نائب أستاذ العربية في كلية عليكره الإسلامية
(المنار)
إننا ننتظر ترجمة الاقتراح لنبدي فيها رأينا التفصيلي، وأما الرأي
الإجمالي فهو الاستحسان والتحبيذ، فإن هذا في جملته عين ما اقترحناه في آخر
المقالة الخامسة من مقالاتنا: عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية. (راجع
آخر ص192 من هذا المجلد) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) جاءتنا هذه الرسالة من صديقنا صاحب التوقيع ونشرها المؤيد.
(1)
المنار: المشهد المقدس، مزار قبر الإمام علي الرضا، من أئمة آل البيت عليهم السلام والرضوان وهو في (طوس) من بلاد فارس وقد انتهك حرمته عسكر روسية وضربه بالمدافع.
الكاتب: سليمان باشا
كتاب متصرف عسير
وقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي [*]
(يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح)
…
...
…
... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي إلى سبل السلام، والصلاة والسلام على سيد الأنام، وعلى
آله وصحبه الكرام، من سليمان شفيق علي كمال، متصرف وقومندان عسير، إلى السيد محمد علي الإدريسي، أرشدنا الله وإياه لما فيه رضاه وألهمنا تقواه،
وتولى هدانا وهداه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإن الانقطاع الحاصل والتنازع الواقع هو مخالف لما أمر الله تعالى
بقوله: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) ولكن كل هذا
بقضاء الله وقدره، ولسنا الآن بصدد البحث عما مضى، وعسى الله أن يجمع
القلوب ويكون الإسلام يدًا واحدة على أعداء الدين، ونذب عن حقوق المسلمين،
كما قال سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم: (الإسلام كالبنيان يشد بعضه
بعضا [1] ) إلى كثير من الآيات والأحاديث الواردة بوجوب الاتحاد والتناصر بالدين،
ولا نزيدكم علمًا بهذه العجالة فأنتم لستم كغيركم بل أنتم بدرجة من العلم. فهلم يا
أخي في الدين نسعى بما فيه صلاح المسلمين، فهذه دول الأجانب من النصارى
أعداء الدين قد تعاونوا وتناصروا واتفقوا على محو الإسلام وهدم قواعد الإيمان،
وأن يجعلوا البلاد الإسلامية مضغة في أفواههم، وقسمة باردة في أطماعهم، وقد
بلغنا ما حل بإخواننا المسلمين في الجهات فواجب علينا معشر الإسلام الذب عن
الوطن، الذب عن العرض، عن النفس، عن الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(قاتل دون مالك [2] ) فما بالك دون نفسك، دون عرضك، دون دينك. ويعفو
الله عما سلف، فبادر لندفع عن الوطن، عن الدين، عن المسلمين هذه البلية،
ونكون يدًا واحدة على حفظ حقوق المسلمين. هذا زمن الحمية الإسلامية والجهاد،
هذا وقت الإخلاص وأوان الخلاص، إن الأمة الإسلامية في أقطار الدنيا ناظرة إلينا
وعندها الظن الجميل بتعاوننا وتناصرنا، وها أنا أنتظر منك الجواب الشافي الذي
يكون فيه حفظ شرف الإسلام، فإن أجدادك الكرام قد أسسوا مجدًا أخرويًّا فهدوا
وأرشدوا وحفظوا كيان الإسلام، وشادوا أركان الإيمان، وهذه نزغات قلم مسطور
باح لك به النصح الواجب، فإن أجبت فأرسل لنا بسرعة هيئة تعتمدون عليها
لنتخابر معها بما يصلح ويحفظ شأن الإسلام والمسلمين على شرط بالوجه والأمان،
وإن شئت بين لنا معالمكم لدفع أعداء الدين فيجتمع الرأي المصيب بما فيه الصلاح،
إن شاء الله. وإني عازم بحول الله على مدافعة أعداء الدين والجهاد أمام المسلمين،
مع ما لدي من قوة هي تزيد عن عشرين ألفًا، ونحن بهذا العزم، ولو فني منا
الصغير والكبير، وعلى الله توكلنا وإليه المصير، فأسرعوا إلينا بالجواب، وفقنا
الله وإياكم للصواب، والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... في 21 شوال سنة 1329
* * *
…
... كتاب السيد الإدريسي في جواب سليمان باشا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وهو حسبي وكفى، وأتم
الصلاة والسلام المقترنين بالتحيات القدسية على أشرف الخلائق المصطفى،
وصحبه معادن الصدق والوفا.
من محمد بن علي الإدريسي إلى أخينا في الدين صاحب السعادة سليمان
شفيق بن علي كمال متصرف وقمندان لواء عسير، سلك الله بنا وبه مسالك أهل
البصائر المبصرة، وأخذ بيدنا وبيده إلى ما ينفع في الدنيا والآخرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبينما النفس في قلق، والأنفاس تتصاعد
بنيران الأرق، مما فعل المسلمون بأنفسهم، بينما أسلافهم قد رفعوا لهم أعلام العز،
وشادوا على قوائم الدين دعائم العصمة والحرز، أولئك الذين استمسكوا بعروة الله
الوثقى التي ليس لها انفصام، وكان لهم من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} (آل
عمران: 102-103) وغير ذلك من آيات الذكر الحكيم أعظم اعتصام - إذ خلف
من بعدهم خلف أضاعوا الحقوق، واستبدلوا بإخاء الدين - الذي به ملاك الأمر-
القطيعة والعقوق، ليستعد أحدهم لأخيه بالمدمرات، ويعد أعظم المفاخر إذا صرعه
فمات، مع أن مجرد الإشارة بحديدة ورد فيها (من أشار إلى أخيه بحديدة لم تزل
الملائكة تلعنه حتى يشيمها [3] ) هذا، وأعداء الملة من وراء هذه الأستار ينظرون
نظر المفترس إلينا، ويترقبون كلَّ آنٍ الفرصةَ لمحونا، ومن الحمق أن نخرب
بيوتنا بأيدينا، فأعنَّاهم بنا علينا، كأننا لم نتلُ في القول الصحيح أن التنازع يوجب
الفشل ويذهب الريح {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) فلا عجب من هذه الغمة، إذا حلت بنا معاشر هذه
الأمة، وانطوى على الهوان يومهم وأمسهم؛ لأنهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر: 19) {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35) {إنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} (المجادلة: 20) ولو أنهم اعتصموا
بحبل الله مولاهم، لكان لهم نعم المولى ونعم النصير وكفاهم، ولكان لهم ما كان
لأسلافهم؛ إذ دانت لهم المشارق والمغارب، وما قاومهم أحد إلا خذل؛ لأنهم حزب
الله وحزب الله كما كتب على نفسه هو الغالب {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ
* إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: 171-173)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد: 11)
{وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال: 40)
ومهما هال العدو بما في يده من الآلات الشنيعة، فإنه والله ستنكشف عما هو
كسراب بقيعة {فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 81-82) وأعداء الدين في
كل وقت أعظم عددًا، وأكثر استعدادًا وأقوى مددًا وجندًا ليحق الله قوله: {وَلَن
تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 19) {وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} (يوسف: 21) {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} (الجن: 24) ولا يزال الحق هذه صفاته وفي كل آن
ومكان هذه نعوته {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَاّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ} (الأنعام: 115) .
فبينما الخاطر في هذه المهامه، والفكر في هذه المفاوز حيران وواله، وهل
من مستبصر مستهدٍ يأخذ في هذه المضايق بالأيدي - إذ ورد كتابكم الكريم المستحق
للاحترام والتعظيم والتفخيم، مسفرًا عما تحدو إليه الرغائب من الدعوة للاتحاد
ونبذ ما هو بجانب، فانشرح البال وأسرعت إلى داعيك وحمدت الله؛ إذ كانت
نسائم التوفيق تهب بناديك، متوكلين على الملك الجليل، وهو حسبنا ونعم الوكيل،
وهل يرضى الله ورسوله إلا إذا كان المسلمون إخوانًا، يجاهدون في سبيله وعلى
الحق أعوانًا، ولقد أخذنا وأخذتم بذلك، حتى حالت أمور قد ذكرتم لا حاجة إلى
ذكر ما هنالك، وما ذكرتم من الهيئة فقد أرسلنا إليكم أخانا محمد يحيى ومعه جماعة
يتوجهون إلى رجال (المع)[4] ولا تطمئن نفسه بالدخول إلى (أبها) فيتفق
بجانبكم بأطراف (المع) الشام وتحصل المذاكرة، وإن شرفتم بالقدوم فحيهلا
وسهلاً، وغيرنا وغيركم لا يكاد بهذه المقاصد أن يقوم، ولعلنا أن نكون السبب
في كشف هذه المشاكل من جميع الوجوه في أقرب وقت عاجل، فترتاح الدولة في
هذه الديار، بل في جميع الأقطار والأمصار، والأمور وإن تشعبت فإن مرجعها
إلى الله، وبيده الحركة والسكون وهو أهل الكرم، حاشاه أن يخيب من وفقه
للالتجاء إليه ودعاه، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، والسلام عليكم (ورحمة
الله) وعلى من حواه المقام، ورحمة الله وبركاته في البدء والختام.
…
...
…
...
…
... غاية شوال سنة 1329.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) هو الذي أشرنا إليه في الجزء الماضي في هامش كتاب السيد الإدريسي إلى الإمام يحيى.
(1)
لفظ الحديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان) إلخ رواه الشيخان وغيرهما عن أبي موسى.
(2)
رواه أحمد والطبراني وله تتمة.
(3)
المنار: حديث رواه مسلم في صحيحه، والترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه) ورواه الحاكم من حديث عائشة وصححه بلفظ:(من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه) ورواه البزار والطبراني عن أبي بكرة بلفظ (إذا سل - وفي رواية: شهر - المسلم على أخيه سلاحًا فلا تزال ملائكة الله تلعنه حتى يشيمه عنه) أي يغمده.
(4)
اسم موقع.
الكاتب: مأمور مفرزة ميدي
الكتاب الذي أرسل إلى السيد الإدريسي
من مأمور مفرزة (ميدي)
وهو جواب ما أرسله إليه السيد بالمسعدة [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى جناب السيد الجليل، رفيع القدر والمحل، السيد محمد بن علي الإدريسي
سلمه الله، آمين. بعد مزيد شريف السلام مع التحية والإكرام تغشاكم على
الدوام.
اطلعنا على جوابكم المؤرخ في 23 شوال سنة 1329 والجوابات التي بباطنه
نقل (صور) كتاب عزت باشا وكتاب الإمام يحيى الواردة منكم بواسطة السيد يحيى
ابن موسى الرفاعي وقد أسرَّنا ذلك، وقد قرأناهم بين سادة وشرفاء ومأمورين
وأعيان وجملة من الإسلام، وقد أخذنا نقل صور الجميع وعزمنا نرسلهم إلى محل
رجوعنا الآستانة وعند ورود الجواب نعرفكم بكل حقيقة، وربنا يؤلف بين القلوب
ويصلح ذات البين ويعيد الإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والسلام.
26 شوال سنة 1329
…
...
…
...
…
...
…
مأمور مفرزة العسكرية بميدي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إسماعيل
(المنار)
قد رأى القراء كتاب سليمان باشا إلى السيد الإدريسي ورأوا ما فيه من
الاستمالة باسم الإسلام، ورأوا كيف أجابه السيد بالقول والرغبة في الاعتصام،
وقد علموا من كتاب السيد إلى الإمام الذي نشرناه في الجزء الماضي أن كتابة
الباشا كانت خديعة، هكذا فعلوا وهكذا يفعلون: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً
* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:
103-
104)
_________
(*) المسعدة: موضع.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المؤتمر العربي بباريس
وحزب اللامركزية بمصر
يبحث الأوربيون آنا بعد آن في خطرين وهميين يمكن عقلاً وفرضًا أن
ينازعا دولهم في سيادة الأرض، وهما خطر الجامعة الإسلامية والخطر الأصفر.
فرضوا احتمال رجوع المسلمين إلى الاعتصام بحبل الإسلام واسترجاع
سيادته وقوته، ولو في بعض الممالك الإسلامية، واحتمال ارتقاء الأمة الصينية
وقوتها في بلادها، فحملهم هذان الفرضان على أخذ الأهبة والتعاون فيما بينهم على
إزالة ما بقي من ملك هاتين الأمتين واقتسام بلادهم ولو بالفتح السلمي الذي هو
أرقى ما وصل إليه المبشر في الفتح والسيادة، وهو الفتح بالعلم والعقل والحزم
والمال، تؤيدها قوة الأساطيل والجنود عند الحاجة؛ لأجل حمايتها وهيبتها.
أما الشرقيون فتصخ نذر الأخطار آذانهم، وتفقأ أشباحها المزعجة أعينهم،
وهم يتمارون بالنذر، ويتجادلون في مواضع العبر، وقد كانت الحرب البلقانية
العثمانية آخر صدمة صدمت الشرق فأتت على آخر ركن للاستقلال في آخر مملكة
مستقلة فيه أو كادت، وأهل هذه المملكة يتمارون فيما بينهم ويتجادلون ولا يعتبرون
بما حل بهم ولا يزدجرون.
من يحاول من الشرقيين عملاً ما لأمته فإنما يحاوله في آخر الوقت الذي يمكن
فيه العمل أو بعد ذهاب الوقت، وقد كان يجب على الأمة العربية أن تهب من
رقدتها، وتعمل لنفسها ودولتها، وتثبت لنفسها وجودًا تحترم به حقوقها وتعمر
بلادها، إن لم أقل: إن هذا كان يجب عليها منذ تغلغلت السلطة الحميدية التدميرية
في ولاياتها، وأنشأت تجهز الحملات العسكرية على معاهد القوة منها كاليمن،
والحملات الإفسادية على الولايات الضعيفة كسورية. وإذ لم يفعلوا فليكن ذلك العهد
عهد الإيقاظ والتنبيه، وعهد الاتحاديين الذي هو شر منه وأضر عهد الوحدة والعمل.
رأى العرب من الاتحاديين ما رأوا من سفك دماء إخوانهم وتدمير بلادهم في
اليمن والكرك وحوران، وإفساد ذات بينهم ومقاومة لغتهم في سورية والعراق،
ورأوا أن هؤلاء قد أنشأوا يهدمون ما أبقى عليه عبد الحميد من ملك بني عثمان،
ومع ذلك لم يزدادوا إلا أملاً ورجاءً في عاصمتهم البزنطية عاصمة الجهل والغرور،
والخيلاء والإسراف والظلم والخيانة والتدمير، ولم نر العبر والكوارث المحدقة
بهم والمنذرة لدولتهم قد أثرت فيهم تأثيرًا جمع كلمة أهل الرأي والبصيرة إلى
العمل الواجب {كَلَاّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ *
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (القيامة: 26-29) وظفرت جيوش البلقانيين بإخوانهم
وأبناء دولتهم، وصارت مدافع البلغاريين تزلزل بِدَوِيِّهَا منازل تلك العاصمة،
وتقلق بأصواتها سلطانها في مضجعه بقصر، ضولمه بغجه وصارت الأمم
الأوربية، تتحدث بتصفية حساب المسألة الشرقية، وسُمع من باريس صوت
مزعج يدعي لفرنسة حقوقا في سورية، ورؤيت المدرعات الفرنسية وغير
الفرنسية تتهادى في المواني السورية وغير السورية، بعد هذا كله تحرك أهل
الغيرة والإخلاص من العرب، وحاولوا أن يعملوا عملاً يحفظ بلادهم من استيلاء
الأجانب عليها، وأن يصلح حالهم فيها، فكانت حركتهم هذه في آخر الوقت، إن لم
نقل: إنها كانت أو كادت تكون بعد ذهاب الوقت.
ماذا عملوا؟ ألَّف أهل الإخلاص والغيرة من السوريين المقيمين بمصر
حزب اللامركزية الإدارية العثماني، فلم يجعلوه حزبًا سوريًّا ولا عربيًّا بل عثمانيًا
عامًّا، وقام أهل ولايات سورية (بيروت والشام) والعراق يطلبون الإصلاح
لولاياتهم على أساس وقواعد اللامركزية، وفي باريس مئون من العرب
السوريين أهل العلم العصري والأدب والتجارة وطلاب العلوم العالية، أزعجهم
صوت موسيو بوانكاره - رئيس وزارة فرنسة بالأمس ورئيس جمهوريتها اليوم - إذ
قال في مجلس النواب: إن لدولته حقوقًا موروثة في سورية، وهم أول من سمع
هذا الصوت في مركز قوته وعظمته، فأحسوا بالخطر على وطنهم الخاص
وعلى قومهم ودولتهم، فأجمعوا أمرهم على أن يُسمعوا فرنسة وسائر عالم
المدنية صوتهم المعبر عن إحساسهم ورأيهم في أمتهم ودولتهم، وكراهة افتياتها
عليهم ومقاومة احتلالها لبلادهم، وأن يدعوا لمشاركتهم من شاء واستطاع السفر
إليهم من أمتهم العربية، وهم يعلمون - كما يعلم كل عاقل خبير- أنه قلما يرحل
هذه الرحلة إلا من يشتغلون بالمصلحة العامة من حملة الأقلام الأحرار، وأصحاب
الأفكار، فتكون وظيفة المؤتمر الطبيعية أن يطلع العالم الأوربي على رأي جمهور
كبير من العرب يمثل بطبعه نهضتهم، فيعرفوا حقيقة المسألة العربية التي أحدثتها
جمعية الاتحاد والترقي في عالم السياسة، ولم تكن شيئًا مذكورًا إلا على ألسنة
جواسيس عبد الحميد وأقلام مستغلي أوهامه، ولا شيئًا موجودًا إلا في خياله وخيال
مبغضي العرب من ساسة دولته، وأن هذه المسألة لو وجدت في كتاب تاريخ
السياسة قبل الآن لنجت الدولة بقوة العرب مما وقعت فيه من الخذلان والهوان.
وقد رأى الداعون إلى هذا المؤتمر أنه يجب أن يكون لهم حزب يؤيدهم
ويؤيدونه فانتسبوا إلى (حزب اللامركزية الإدارية العثماني) الذي أسس في مصر
وجعلوا مؤتمرهم تابعًا له، وطلبوا منه أن يرسل إليهم وفدًا يكون أحد أعضائه
رئيسًا للمؤتمر، فتلقى الحزب ذلك بالقبول واختار السيد عبد الحميد الزهراوي
وإسكندر بك عمون لذلك، وسيكون أولهما رئيس المؤتمر. وقد تقرر أن تدور مباحث
المؤتمر على المسائل الآتية:
1-
مقاومة الاحتلال الأجنبي للوطن.
2-
حقوق العرب في المملكة العثمانية.
3 -
وجوب تغيير شكل الإدارة العثمانية الحاضر وجعله من نوع اللامركزية
الإدارية؛ إذ لا يرجى صلاح المملكة بدون ذلك، ولا بقاء لها إلا بصلاحها كما
تقتضيه سنة الله تعالى في الخلق، المعبر عنها في لسان العلم بالانتخاب الطبيعي
وبقاء الأمثل.
4-
المهاجرة من سورية وإليها.
هذه المسائل هي أهم المسائل الاجتماعية الحيوية في المملكة العثمانية،
وأكثرها قد صار حديث ساسة الدول وجرائد الأمم، ولو لم يوجد من العرب حزب
ولا مؤتمر يبحث فيها لجاز لجميع الأمم والدول أن تعتقد أنه لا يوجد في المملكة
العثمانية أمة تسمى الأمة العربية، وأن تصدق مغروري جمعية الاتحاد والترقي في
زعمهم أن العرب ليسوا أمة ولا شعبًا فيحسب لهم حساب في إدارة المملكة العثمانية
ومصالحها، وإنما هم قسمان: عرجلة أو عراجل من الوحوش في اليمن وبوادي
الشام والعراق والحجاز ونجد ينكل بهم الجيش العثماني المظفر، وقطعان من
الغنم في سورية ومدن العراق تتصرف بهم الحكومة المركزية بما تشاء من رعي
ومن منع، وذبح وبيع.
سيكون لحزب اللامركزية ولمؤتمره في باريس ولطلاب الإصلاح المبني على
قواعد هذا الحزب في الولايات السورية والعراقية شأن عظيم في الآستانة وأوربة
المسيطرة على الحكومة العثمانية، وإن كابر الحسَّ والنفس في ذلك زعماءُ جمعية
الاتحاد والترقي واستعملوا سلطة الحكومة وألسنة المثقفين المنافقين المتزلفين لها
وأقلامهم لتحقيرهما وتهوين أمرهما، وهي لم تحقر شيئًا إلا وعظم ولم تعظم شيئًا
إلا وحقر؛ لأنها مخذولة من الله المتنكبة لسنته في خلقه وشرعه، كما ثبت
بالتجربة مرارًا، ومن ذلك أنها تلبس الحق بالباطل فتصف الشيء بضد ما هو عليه،
وتسلك إلى كل غاية الطريق الموصل إلى ضدها، فهي تأمر منافقيها بأن يذيعوا
أن المؤتمر وحزب اللامركزية وطلاب الإصلاح يعملون بإيعاز من الأجانب ليمهدوا
لهم طريق احتلال وطنهم، الأمر بالضد كما هو ظاهر وسيكون في المؤتمر أتم
ظهورًا، كما توعز إليهم أن يقولوا: إنها تعمل لإحياء الجامعة الإسلامية، على حين
نرى بعض كتابها ينشر في مجلة الشرق الإنكليزية مقالاً يحاول فيه إقناع الإنكليز
وغيرهم من الأوربيين بأنه لا يوجد في المملكة أحد غير هؤلاء الفتيان من الترك
يتجرأ على كسر القيود الدينية التي تقيدت بها الدولة العثمانية ويطلب إعانة أوربة
لهم على ذلك.
وجملة القول أن الحكومة الاتحادية قد أضاعت بجهلها وغرورها وخبث
طويتها جميع الممالك العثمانية الأوربية والأفريقية، وهي تساوم أوربة على بيع
منافع الممالك الآسيوية، وكل هذا من فساد الحكومة المركزية التي تجعل أمر الأمم
والممالك في يد واحد أو آحاد، إذا فسدوا أفسدوا وأهلكوا الجميع، ولو كان للأمة
صوت مسموع في مصالحها كالصوت الذي نسمعه الآن من حزب اللامركزية
وطلاب الإصلاح لِما أمكن لهؤلاء وأمثالهم إضاعة الدولة. وهذا الصوت على كونه
قد تأخر عن وقته لا بد أن تكون له فائدة ما، وأقلها أن تحسب أوربة له حسابًا فيما
ستقرره في كيفية إدارة هذه الدولة؛ إذ فوضت الحكومة الاتحادية إليها أمر المملكة،
بل ظهرت فوائد ذلك قبل تمام ظهوره، فبدأت الوزارة الاتحادية تستميل العرب
بعض الاستمالة، ولولا أنها وجدت بهم بعض المنافقين يهونون عليها أمر طلاب
الإصلاح لما تلبثت في قبوله إلا قليلاً.
فإذا كان هذا السعي مفيدًا مع كون أمر الدولة في أيدي الاتحاديين أعداء
العرب والإسلام، فكيف يكون نفعه إذا عجل الله انتقامه منهم ودالت الدولة
للائتلافيين [*] والصباحيين دونهم؟ يومئذ يكون العرب شركاء الترك لا عبيدهم
في هذه الدولة، فلا يكون أحدهما مظلومًا مع الآخر فيمقته ويخذله، ويقوم بناء
إدارة المملكة على قواعد اللامركزية الثابتة، يومئذ يعض المنافقون على أيديهم
يقولون: يا ليتنا اتخذنا مع حزب المصلحين سبيلاً، وخفضنا في إسرافنا في
التملق للاتحاديين المفسدين ولو قليلاً.
وجملة القول أنه قد ثبت قطعًا أن الدولة لا تستطيع حماية بلادها من الدول
الكبرى إن أردن اقتسامها، وأن أمر اقتسامها منوط باتفاق الدول بينهن لا بطلب
الأمة للإصلاح وعدمه، وأنه إذا لم يصلح أمر الأمة ويظهر استقلالها بشئونها
الإدارية والاقتصادية، فإن بلادها ستكون غنيمة باردة للأوربيين، سواء احتلوها
بالجند أم لا، وأنها لن تصلح ما دام أمرها كله بأيدي من يتغلب على السلطة في
عاصمتها ولو بالثورة وسفك الدماء، فنسأل الله أن يأخذ بأيدي المصلحين ويكفيهم
شر المستبدين والطامعين، آمين.
_________
(*) يظن كثير من الناس أن وزارتي مختار باشا وكامل باشا كانتا ائتلافيتين، وهذا خطأ، وقد سمعنا من صادق بك رئيس الائتلافيين أنهم لما أسقطوا وزارة سعيد باشا رأوا أن يثبتوا للأمة أنهم يعملون لها لا لأنفسهم فسلموا الوزارة لأشهر رجال الدولة وكان يجب أن يشاركوهم فيها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلتنا الهندية العربية
(شكر علني لأهل عمان والكويت)
شكرنا في الجزئين الأول والثاني لإخواننا مسلمي الهند حفاوتهم بنا وحسن
ضيافتنا، ووعدنا بأن نشكر مثل هذه الحفاوة لإخواننا العرب الكرام في مسقط
والكويت والعراق، وقضت كثرة المواد التي لا يمكن تأخيرها أن نرجئ الوفاء
بهذا الوعد إلى هذا الجزء.
سافرت من بمبي صباح الجمعة لتسعٍ خلون من جمادى الأولى للعام الماضي
في سفينة إنكليزية قاصدًا مسقط عن طريق كراجي، وكنت حريصًا على السفر في
إحدى بواخر الشركة العربية التي يديرها في بمبى مؤسسوها من أصدقائنا تجار
العرب، وكان ذلك يسرهم أيضا، وقد تحدثنا به مع مدير الشركة الهمام الشيخ
محمد المشاري في قصر الزعيم الكبير صديقي ومضيفي الشيخ قاسم إبراهيم فعلمنا
أن انتظار مواعيدها يضيع عليَّ أيامًا كثيرة، وقد انتقلنا في ميناء كراجي إلى سفينة
إنكليزية أخرى حملتنا إلى مسقط فوصلنا إليها ضحوة يوم الاثنين (12ج29 أبريل)
وعندما رست كان قد وصل إليها زورق بخاري من السلطان الكريم السيد فيصل
ملك عمان يحمل بعض رجاله لاستقبالي، وكان كلف من يعتمد عليه في بمبي أن
يخبره عن سفري منها ببرقية يعرف بها موعد وصولي، فصعدوا ومعهم صديقي
الفاضل السيد يوسف الزواوي، أكبر سادات مسقط بعد أسرة السلطان وأكبر تجارها
قدرًا وجاهًا وشهرة، فعفرّف الجماعة بي، وبعد السلام نزلنا إلى الزورق فحملنا
إلى رصيف قصر السلطان فصعدنا القصر وبعد السلام والمكث مع السلطان ساعة
من الزمان ذهبنا إلى دار ضيافته التي أعدها لنا. وكان صديقنا السيد الزواوي أعد
دارًا جديدة له على الطرز الحديث؛ لأكون فيها مدة وجودي في مسقط فنفس
عليه السلطان ولم يسمح له بذلك.
أقمت في مسقط أسبوعًَا كان يختلف إليَّ كل يوم وكل ليلة منه وجهاء البلد
وأذكياؤه ويلقون الأسئلة الدينية والفلسفية والأدبية والاجتماعية، وزارني السلطان
في دار الضيافة أيضًا ومكث معي عدة ساعات، وزرته في مجلس حكمه عدة مرات،
وكان يلقي عليَّ في كل مرة الأسئلة المختلفة، وكان يكون معه في مجلسه أخوه
السيد محمد وهو كثير المطالعة في الكتب، ولكنه لا يحب البحث في المجالس في
كل ما يطلع عليه من المسائل، وقد عهد السلطان إلى كاتبه الخاص من أهل السنة
الزبير بن علي أن يتولى أمر العناية بضيافتي، وإلى كاتبه الشيخ إبراهيم بأن
يتعاهدني معه أيضًا.
وأدَّب لي صديقي السيد الزواوي مأدبتين حافلتين، إحداهما في داره العامرة في
نفس مسقط، دعا إليها علماء ووجهاء البلد، والأخرى في دار له بقرية سداب وهي
على مسافة ميل من مسقط ذهبنا إليها بزورق السلطان في البحر، وعدت أنا ماشيًا
مع بعض المدعوين برًّا؛ لأجل الرياضة ورؤية ثنية الجبل التي يسلك منها إلى
مسقط المطوقة بالجبل. وقد دعا إلى هذه المأدبة مع وجهاء مسقط وجهاء القرى
المجاورة لها، فأجاب الدعوة عشرات منهم، وكان الغرض من ذلك أن يسمعوا
كلامي وتذكيري بآيات الله، وقد فاض معين السخاء العربي الهاشمي في هذه المأدبة
على فقراء القرية الذين اعتادوا أن يعشوا إلى ضوء نار السيد الزواوي الذي هو
مظهر لقول الشاعر:
* ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا *
فتراه بين مظاهر الكرم والنعيم، لا يغفل عن مراعاة ما يمكن تحصيله من
فوائد العلم والدين، بنى لنفسه عدة دور فخمة جميلة في مدخل البلد على البحر وهو
موقع غير واسع، يشارك هو فيه السلطان وقنصل الإنكليز في الملك، ويسكن في
دار له فيه قنصل أمريكة، وبنى لله مسجدًا هو أنظف مساجد البلد وأزهاها، وقد
جر إليه الماء بأنابيب الرصاص (المواسير) وجعل له عدة حنفيات، وعلى
هذه الطريقة اقترح عليَّ يوم المأدبة الأولى وكانت للغداء في يوم الجمعة أن أعظ
الناس في مسجده بعد صلاة الجمعة فأجبت، وكان من تأثير الكلام فيهم أن
ارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب والنشيج، واقترح عليَّ أيضًا أن أتكلم وأذكِّر من
يحضر المأدبة من الوجهاء والخواص فأجبت، ونجله الكبير الشيخ عبد القادر له
ذوق في النظام وميل إلى الصناعة، وقد مد من دارهم في سداب إلى دارهم في
مسقط مسرة تليفون فكانت هي الوحيدة في تلك القرية.
وسافرت من مسقط ضحوة يوم الإثنين لتسع عشرة خلون من الشهر ومكثت
في مجلس السلطان زهاء ثلاث ساعات من أول نهار السفر كان يلقى فيها عليَّ
الأسئلة الكثيرة في العقائد وما يتعلق بها والأحكام الشرعية والاجتماعية والتاريخية،
وتارة يشير إلى رجاله بأن يسألوا، وكانوا جميعًا يُسرون من الأجوبة، ثم نزلنا
إلى البحر فودعني السلطان على رصيف قصره ونزل معي في زورقه البخاري
جميع من كان ثَم من أنجاله الكرام وهم خمسة أكبرهم السيد نادر، ومعهم بعض
كتابه وحاشيته ومن سوء حظي أن كان ولي عهده السيد تيمور مسافرًا فلم أره، وظل
هو واقفًا على الرصيف حتى بعُد الزورق عنه، فودعته الوداع الأخير بالإشارة.
ونزل معنا أيضًا صديقنا الزواوي ونجله السيد علي ابن عم السلطان وصهره وقد
سافر معنا قاصدًا البصرة فرأيت منه رفيقًا تقيًّا نقيًّا صفيًّا.
وقد مكث معنا أولاد السلطان والزواوي ساعة من الزمن في الباخرة ثم
ودعناهم الوداع الأخير، وعادوا إلى مسقط موشحين بجلابيب شكري الخالص
وودي الدائم، إن شاء الله تعالى (وسنصف مسقط ونتكلم عن حالة أهلها الاجتماعية
في الرحلة) .
جرت السفينة بنا من مسقط ظهر يوم الاثنين، وهي إنكليزية تقطع في
الساعة 12 ميلاً فقط، وفي ضحوة اليوم الثاني خرجت بنا عن محاذاة جبال عمان
ودخلت في الخليج الفارسي فصرنا نرى بر فارس عن اليمين وبر العرب عن
اليسار، ووقفت بنا فجر يوم الخميس في موضع من عرض البحر كان ينتظرنا فيها
مركب شراعي كبير أرسله إلينا الشيخ مبارك الصباح صاحب الكويت، وكان علِم
بأننا نصل إليه في هذا الوقت في هذه الباخرة مما كُتِبَ إليه من بُمْبَي ومسقط، فنزلنا
فيه قبل طلوع الشمس فأقلع بنا والريح لينة والبحر رهو، ثم قويت الريح قليلاً في
النهار فبلغ بنا الكويت قبل غروب الشمس، وكان رجال الشيخ مبارك حملوا فيه
خروفين كبيرين وكثيرًا من الحلوى والمشمش والخيار فأفطرنا وتغدينا فيه، وقد
أعجبني جدًّا طبخ الطاهي الذي كان معهم للخروف بالرز الهندي وهو طاهٍ متفنن،
وطبخ للعشاء ألوانًا متعددة لئلا نتأخر إلى الليل فبقيت للبحارة، وقد استقبلنا أولاد
الشيخ مبارك وبعض الوجهاء في زورق صغير خارج الميناء.
أنزلني الشيخ مبارك في قصره الجديد الذي هو قصر الإمارة وتولى مؤانستي
ومجالستي في عامة أوقاته في مدارسة العلم ومراجعة الكتب حتى صار له مشاركة
جيدة في جميع العلوم الإسلامية، وأقمت في الكويت أسبوعًا كنت كل يوم ما عدا
يوم البريد، ألقي فيه خطابًا وعظيًّا في أكبر مساجد البلد فيكتظ الجامع بالناس،
وكان يحضر مجلسي كل يوم وليلة وجهاء البلد من أهل التقوى وحب العلم يسألون
عما يشكل عليهم من أمر دينهم، وأما الشيخ ناصر فكان يسأل عن دقائق العلوم في
العقائد والأصول والفقه وغير ذلك، على أنه لم يتلقَ عن الأساتذة فهو من مظاهر
الذكاء العربي النادر.
ومما أحب أن أذكره هنا، وهو من مباحث الرحلة، مسألة علاقة مبارك
بالدولة العثمانية والإنكليز، كنا نسمع المنافقين لرجال الدولة يصفون صاحب
الكويت بالخيانة للدولة ويعيبونه بطلب حماية الإنكليز له، فسألته عن ذلك
فقص عليَّ قصة سألت عنها بعد ذلك السيد رجبا نقيب البصرة مندوب الحكومة إليه
فيها؛ فكان جوابه موافقًا لجواب الشيخ مبارك، ثم ذكرت ما قاله للشيخ فهد بك
الهزال شيخ قبائل عنزه في العراق؛ إذ كنت في ضيافته على نهر الفرات مع
صديقي مراد بك أخي محمود شوكت باشا فصدق ما قاله الشيخ مبارك، وزادني
فوائد هو أعرف الناس بها.
وملخص ما قاله الشيخ مبارك أنه في أواخر مدة عبد الحميد ساقت الدولة بعض
العسكر مع عربان ابن الرشيد إلى قرب الكويت وأرسل المشير فيضي باشا السيد
رجبا النقيب ومع نجيب بك ابن الوالي إلى الكويت، فبلَّغاه أنه قد صدرت إرادة
سَنية بوجوب خروجه من الكويت إلى الآستانة أو إلى حيث شاء من ولايات الدولة،
والحكومة تعين له راتبًا شهريًّا يعيش به، فإن لم يخرج طائعًا دخل الجند مع
عرب ابن الرشيد وأخرجوه بالقوة، فسألهم ما هو ذنبه الذي استحق به النفي من
بلده وعشيرته؟ وذكر نقيب البصرة بما يعرف من إخلاصه للدولة وإعانته لها
بالمال عند كل حادثة وبما كان من محاربة سلفه وعشيرته لقبائل المنتفك المالكين
للبصرة وإخراجهم منها وجعلها في حكم الدولة كما ملكهم هو وعشيرته بقوتهم
الأحساء وغيرها، وطلب منه أن يعود إلى البصرة فيقنع المشير بمراجعة الآستانة.
فقال: إنما علينا البلاغ وليس في يدنا غيره.
قال: فخرجت من عندهما بقصد مشاورة أهلي، وكانت حكومة الهند الإنكليزية
قد علمت بكل ما دبرته الدولة في ذلك وبمجيء عشيرة ابن الرشيد مع العسكر إلى
جهة الكويت، فأرسلت مدرعتين فوقفتا تجاه البلد، فلما عُدتُ رأيتُ أميرًا إنكليزيًّا
قد نزل من إحدى المدرعتين ومعه بعض الجند فسألني عما جرى فأخبرته الخبر،
فقال: إن حكومتنا متفقة مع حكومة الترك على أن تبقى الكويت على حالها، لا
يتعرضون ولا نتعرض لها؛ وإذ قد غدروا وخالفوا فقد صار لنا حق الدخول في
أمرها، ولا يمكن أن نسمح لجندي عثماني أن يدخلها، وإذا دخلوا برضاكم
دمرناها على رءوسكم ورءوسهم، ثم بلَّغ الأميرال ذلك لنقيب البصرة رسول
الحكومة فقفل راجعًا وبلَّغ المشير ذلك، فأمر المشير بصرف الجنود والعربان،
قال: فما كان من تدخل الإنكليز في أمر الكويت لم يكن بطلب مني بل كان هذا
سببه. وقد عرضوا عليَّ أن أختار لنفسي راية أرفعها على البلد وأعلن الاستقلال
تحت حمايتهم فأبيت ذلك، وهذه الراية العثمانية تراها كل يوم مرفوعة فوق رأسي.
وقد تعجبوا من قولي لهم: إنني أختار أن أكون دائمًا عثمانيًّا، قيل لي:
أتقول هذا بعد أن رأيت منهم ما رأيت؟ قلت: إن الوالد إذا قسا في تربية ولده
أحيانًا لا يخرج بذلك عن كونه والده الذي تجب عليه طاعته. اهـ.
وسأذكر في الرحلة ما أيد به نقيب البصرة وشيخ عنزة هذا الكلام؛ فليعتبر
المعتبرون بإخلاص العرب للدولة على سوء معاملتها لهم.
للكلام بقية
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أخبار مختصرة مفيدة
(الصلح العثماني البلقاني)
كان الاتحاديون هم سبب اتحاد البلقانيين على قتالنا، وهم سبب إقدام الدولة
على قتالهم، وهم المانعون لكامل باشا من عقد صلح شريف في الجملة وزعموا أنهم
لا يذلون لأوربة وأنهم قادرون على الثأر من البلقانيين وحفظ شرف الجيش وإنقاذ
ولاية أدرنة.
وكان الأمر بالضد فذهبت أدرنة ويانية، وكل ما كان للدولة فيهما من السلاح
والذخائر، ورضيت الوزارة الشوكية الاتحادية بعد هذا الذل والخسران بصلح فوضت
فيه الأمر إلى أوربة بلا شرط ولا قيد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(الشيخ قاسم إبراهيم في دار الدعوة والإرشاد)
ألمَّ صديقنا المحسن الشهير الشيخ قاسم إبراهيم في هذا الربيع بمصر فأقام فيها
أسبوعًا كان فيها محل التكريم من سمو أمير البلاد ووجهائها. ولما كان هو عضو
الشرف الأول في جماعة الدعوة والإرشاد دعاه أعضاء مجلس إدارة الجماعة إلى
شرب الشاي وما يتصل به في مدرسة دار الدعوة والإرشاد، وأعدوا لذلك مائدة
حافلة شهدها مع الكثيرين من أعضاء الجمعية بعض كبار رجال العلم الديني
والدنيوي يتقدمهم الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وشيخ مذهب الشافعية وبعض
كبار علماء الأزهر وعلي باشا أبوالفتوح وكيل نظارة المعارف وأحمد زكي باشا
كاتب سر مجلس النظار، وقد سئل الطلبة أمام الحاضرين عدة أسئلة أحسنوا
الجواب عن أكثرها، وطاف الشيخ قاسم مع ناظر المدرسة (صاحب هذه المجلة)
معاهد المدرسة فأعجبه نظامها ونظافتها، وسُرَّ بهذا العمل الشريف الذي كان هو
المتبرع الأول له.
(اقتران صاحب المنار)
في الليلة الثامنة عشرة من هذا الشهر بنى صاحب هذه المجلة على سعاد
كريمة الشيخ حسن الصفدي، وبيت الصفدي في طرابلس الشام من بيوتات العلم
التي امتازت بمكارم الأخلاق وطهارة الأعراق، فأسأل الله تعالى أن يجعله بناءً
مباركًا وقرانًا ميمونًا {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَاماً} (الفرقان: 74) .
_________