المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تركيا في بلاد العرب - مجلة المنار - جـ ١٦

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (16)

- ‌المحرم - 1331ه

- ‌فاتحة السنة السادسة عشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الجهاد أو القتال في الإسلام

- ‌فتاوى المنار

- ‌عبر الحرب البلقانيةوخطر المسألة الشرقية [*](1)

- ‌أحوال مسلمي الصين

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌أبو سعيد العربي الهندي

- ‌صفر - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدولة العثمانيةتعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيهاونظرة في حالها ومستقبلها

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الانقلاب الخطروجمعية الأحمرين الدم والذهب

- ‌ربيع أول - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌عبر الحرب البلقانيةوخطر المسألة الشرقية(5)

- ‌نظريتي في قصة صلب المسيحوقيامته من الأموات(2)

- ‌خطبة لرأس هذه السنة الجديدةسنة 1331 هجرية [

- ‌الفهم والتفاهم

- ‌بيان حزب اللامركزية الإدارية العثماني [*]

- ‌حديث كامل باشامع مؤسس المؤيد

- ‌اللامركزية الإداريةحياة البلاد العثمانية

- ‌ربيع الآخر - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌إذن سلطانيعن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي

- ‌لائحة الإصلاح لولاية بيروت

- ‌كتاب سياسيللعبرة والتاريخ

- ‌انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية

- ‌المسألة العربية عند الاتحاديين

- ‌الصلح بعد سوء العاقبة

- ‌مستقبل الدولة العثمانية

- ‌جمادى الأولى - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌محاورة بين عالم سياسي وتاجر ذكيفي المركزية واللامركزية

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(2)

- ‌دعاة النصرانيةفي البحرين وبلاد العرب

- ‌جمعية خدام الكعبة [*]

- ‌كتاب متصرف عسيروقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي [*](يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح)

- ‌الكتاب الذي أرسل إلى السيد الإدريسيمن مأمور مفرزة (ميدي)

- ‌المؤتمر العربي بباريسوحزب اللامركزية بمصر

- ‌أخبار مختصرة مفيدة

- ‌جمادى الآخر - 1331ه

- ‌إشكالان في حديث وآيتين

- ‌ما الحكمة في الذبح

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(3)

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌قانون جماعة خدام الكعبة

- ‌السيد الإدريسيوالحكومة العثمانية

- ‌تفريط الاتحاديين بحقوق الدولةفي خليج فارس والعراق والطرف الشرقي من جزيرة العرب

- ‌الأخبار والآراء

- ‌رجب - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(4)

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌نظرة في الحرمين الشريفينومشروع جماعة خدام الكعبة

- ‌احتفال لتكريمأحمد فتحي باشا زغلول

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌قتل محمود شوكت باشا

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌فرنسا الإسلامية

- ‌المجلة المصرية الفرنسيةورأيها في المنار

- ‌الاتفاق الإنكليزي التركيعلى خليج فارس وشط العرب

- ‌مذهب الإباضيةفي صلاة المسافر والاستفتاح والتأمين

- ‌إحراق الكتب الضارة والفرق بينها

- ‌الإصلاح والاتفاقبين الاتحاديين والعرب

- ‌أهم الأنباء والحوادث

- ‌رمضان - 1331ه

- ‌أسئلة من البحرين

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة

- ‌نموذجمن إنشاء طلبة السَّنة التمهيديةلمدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌قرارات المؤتمر السوري العربي

- ‌شوال - 1331ه

- ‌وجود الله ووحدانيتهوالقضاء والقدر

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة

- ‌العرب والعربيةبهما صلاح الأمة الإسلامية

- ‌نزوح العرب عن أسبانيا

- ‌تركيا في بلاد العرب

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌حركة الأمة الهندية الشرقيةوالحكومة الهولندية

- ‌الإصلاح اللامركزي في البلاد العربيةواتفاق الترك مع العرب

- ‌ذو القعدة - 1331ه

- ‌صرف الزكاةللإعانة على تعليم القرآن والكتابةوغيرهما من العمل النافع

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌بيان للأمة العربية من حزب اللامركزية [*]

- ‌الجنسية واللغة

- ‌صحيفةالتيمس الأفريقية ومجلة الشرق

- ‌مصاب مصر والصحافة العربية الإسلاميةبالشيخ علي يوسف رحمه الله تعالى

- ‌الأزهر ودعاة النصرانية

- ‌بيان حزب اللامركزية والإصلاح في الولايات

- ‌عناية نظارة المعارف المصرية باللغة العربية

- ‌ذو الحجة - 1331ه

- ‌أنا عربي وليس العرب مني

- ‌تحويل مصلحة الأوقاف العمومية بمصر إلى نظارة

- ‌الإصلاح في نظارة المعارففي عهد أحمد حشمت باشا

- ‌الإسلام وحرية العقيدةوكتاب الدعوة الإسلامية

- ‌المرأة قبل الإسلام وبعده

- ‌سقوط مسقط [*]

- ‌الشيخ علي يوسف(2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة السادسة عشرة

الفصل: ‌تركيا في بلاد العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تركيا في بلاد العرب

عقد محرر جريدة التيمس الإنكليزية الشهيرة مقالة في مسألة شبه جزيرة

العرب، ترجمتها بالعربية جريدتا الهدى ومرآة الغرب الشهيرتين في نيويورك

فأحببنا أن ننشر ترجمتها في المنار وهي:

اهتم الناس كل الاهتمام بالمأساة العظيمة التي تمثلت في شبه جزيرة البلقان

حتى إنهم لم يكترثوا كثيرًا للمعارك الصغيرة التي نشبت من مضي شهرين أو ثلاثة

أشهر في بلاد العرب.

وقد كانت العرب من مضي عدة قرون أرضًا مجهولة مهجورة مرت حولها

مجاري التاريخ البشري دون أن تتوغل فيها. وهي شبه جزيرة كبرى واقعة بين

ثلاث قارات كبرى تتكسر أمواج البحار العظمى على شواطئها من ثلاث جهات،

وكل سنة يسير على سواحلها العارية الجرداء عشرات الألوف من الناس، ولكنها

بالرغم من ذلك لا يعرف الناس عنها أكثر مما عرفوه عن آشور في أيام آشور

بانيبال.

ولكننا نسمع بعض الأحيان من وراء كثبانها المحرقة أصداء ضعيفة عن قتال

شديد ناشب هناك، وترد على أسواق بومباي والقاهرة أخبار معارك شديدة بين

محاربين مدرعين وجيوش تتماصع بالسيوف وتتطاعن بالذوابل، وتتراشق بالسهام،

وتتقاتل في الليل ويقع بينها حصار وخروج وهجوم ومباغتة.

وهؤلاء الناس بالرغم من أنهم لا يزالون على بداوتهم يتأثرون بمجرى

الشئون الحديثة كما أثبتت الحوادث الأخيرة، فلما انتصر البلغاريون على العثمانيين

في تراقية وأرجعوهم إلى خطوط شتالجه قال الناس: إن تركيا تقدر أن تنشئ مملكة

عثمانية مجددة في آسيا الصغرى، وقد وافقهم على قولهم هذا القليلون الذين عرفوا

الحقيقة، ولكنهم ارتابوا في ما إذا كان الأتراك يقدرون أن يؤيدوا سلطتهم المتداعية

في أطراف بلاد العرب، فلم تكد معاهدة الصلح توقع في لندن حتى ثار العرب في

أواسط شبه جزيرة العرب، ولكن ثورتهم لم تكن منظمة؛ إذ لم تسر كتائب من

الجنود المنظمة على الطرق الصحراوية بل وقع القتال بين ثلات قليلة من

فرسان العرب غير المدربين على أساليب القتال الحديث، وشراذم من الجنود

العثمانيين ذوي الملابس الرثة، وقد انتصر العرب في الشهر الماضي على الجنود

العثمانيين وأخرجوهم من شرقي بلاد العرب وبذلك ذهبت فتوحات مدحت باشا

المتقلقلة في بلاد العرب، وأصبحت الطرق الشرقية إلى مدينتي الإسلام المقدستين

مكة والمدينة تحت رحمة زعماء العرب المنتصرين.

ولا يمكن القول بأن اندحار الأتراك في الحرب البلقانية أحدث هذه الحركة في

بلاد العرب فإنها بدون تلك الحرب ممكن حوثها لأن سيطرة الأتراك على بلاد

العرب لم تكن قط قائمة على ركن منيع، فمن مضي مائة سنة قامت الحركة

الوهابية في بلاد العرب واستولى الوهابيون الخارجون على الدين الإسلامي (؟)

والخلافة الإسلامية على أكثر جهات شبه جزيرة العرب، ونهبوا مكة: مقدس

المسلمين السنيين، وكربلاء: محجة الشيعيين، وهددوا مدينة دمشق، فعجز

الأتراك عن إخماد ثورتهم فاستعانوا بمحمد علي باشا خديوي مصر فقمع من نخوتهم،

وأخمد الحركة الوهابية، ومنذ الغارة المصرية الكبرى على بلاد العرب نال

الهلال انتصارات قليلة في تلك البلاد حتى إن الخط الحجازي لم تستطع الحكومة

تأمينه إلا برشوة القبائل العربية، فالخط الحديدي الممتد إلى المدينة هو دائما تحت

خطر.

وقد نشبت بالأمس ثورة طال عهدها في ولاية العسير جنوبي مكة، وثورة

أخرى أعظم منها في ولاية اليمن، ولا تزال نيران هاتين الثورتين كامنة تحت

الرماد، أنفق الأتراك كثيرًا من المال والرجال على إخمادها فما نجحوا، ولذلك أخذ

مركز الأتراك في تلك البلاد يتداعى يومًا بعد آخر، ورؤية جنودهم المغلوبة

المنطرحة على متن باخرة إنكليزية في خليج بلاد فارس هي من الأدلة الكثيرة

الراهنة على تداعي مكانتهم في شبه جزيرة العرب.

هذا، وإن تجدد القوة العربية في شكلها الحاضر يرجع إلى عهد يزيد قليلا

عن عشر سنين، أما منشئها الحقيقي فهو مبارك بن الصباح أمير الكويت ذلك

السياسي الشيخ، والمحارب المنيع الجانب الذي ينبسط نفوذه على أكثر جهات بلاد

العرب مع أنه لم يطمع بأرض خارجة عن حدود مسقط رأسه.

وبيان الأمر أن المصريين بعد أن أخمدوا الحركة الوهابية وأسقطوا أمراءها

بني السعود، انتقلت السيطرة على أواسط بلاد العرب إلى أيدي أمراء بني الرشيد

الذين جعلوا عاصمتهم بلدة حائل في قلب شبه الجزيرة العربية وحكموا هناك سبعين

سنة، وقد كانوا أقوياء الجانب أجرياء.

وفي أوائل القرن الحاضر كان أميرهم المقيم في حائل ذا مطامع تتجاوز قوته

فدعا نفسه ملك بلاد العرب وباشر الزحف على خليج فارس وهدد الكويت فخرج

الأمير مبارك بن الصباح من عاصمة إمارته الصغيرة لملاقاته وقتاله فقاتله وانتصر

عليه، وتعقب رجاله المغلوبين حتى منتصف الطريق عبر بلاد العرب واستولى

على حائل عاصمة ولايته وكان غرض الأمير مبارك من هذه الغارة تأديب ابن

الرشيد فقط لا بسط حكمه على نجد ولذلك قفل راجعًا، وعند رجوعه إلى الكويت

أخذه ابن الرشيد على غرة فإنه جمع جموعه وباغت رجال الأمير مبارك ليلاً وهم

يعبرون معبرًا صخريًّا وضربهم ضربة قاضية فقتل منهم خلقًا كثيرًا، والذين نجوا

من الموت في هذه المعركة ترادف كل ثلاثة منهم على متن جواد ووصلوا سالمين

إلى الكويت.

غير أن الأمير مباركا كان شجاعًا جريئًا فأضمر الشر لابن الرشيد ودعا أبناء

أسرة السعود الوهابية التي أسقطها المصريون وعالهم وآواهم وأعطاهم مالاً وسلاحًا

وأرسلهم إلى الصحراء العربية لاسترجاع مملكتهم المفقودة.

وكانت لابن رشيد عاصمتان الحائل في الشمال والرياض في الجنوب فزحف

أحد شبان أسرة ابن السعود على الرياض وكان يجمع الرجال في مسيره حتى بلغ

عددهم ثلاثة آلاف وقد توقف بهم سرًّا في إحدى القرى القريبة من الرياض، وهجم

تحت ظلام الليل على المدينة بخمسين فارسًا باسلاً لا يهاب الموت.

وقد وقعت هذه الحادثة من مضي عشر سنين وبهؤلاء الفرسان الخمسين

تجددت ولاية ابن سعود، فإنهم عند وصولهم إلى باب المدينة جعلوا رئيس الحراس

يفتحها لهم بخدعة حربية ولما دخلوا أعملوا المهاميز في شواكل خيولهم، واجتازوا

أسواق المدينة بسرعة البرق، وهجموا على قصر الحاكم ابن الرشيد وذبحوه،

وعند انشقاق عمود الفجر دخل بقية رجالهم وجددوا الولاية الوهابية في تلك الجهة.

وقد حصر ابن الرشيد ثلاث سنين في مدينة حائل، ولكن ابن السعود انتصر عليه

في آخر الأمر وقهره في إقليم قاسم على منتصف الطريق بين المدينتين.

أما المعركة الأخيرة التي نشبت بين رجال ابن السعود من جهة ورجال ابن

الرشيد وبعض الجنود العثمانية من جهة أخرى، فقد أسفرت عن انتصار الأولين،

وقتل ابن الرشيد بثلاثة سهام أصابه أحدها في فخذه فسمره بسرج جواده، وقد أبلى

رجال ابن السعود في هذه المعركة بلاء حسنًا فكانوا لا يرمون سهمًا إلا بعد معرفتهم

أنهم سيصمون به رجلاً من أعدائهم.

وكانت نتيجة المعركة أن ابن السعود صار مسيطرًا على كل نجد، وتم له ما

أراد من مضي عهد طويل من إخراج الأتراك من بلاد العرب وإرجاعهم إلى خليج

العجم، ولكن انتصاره هذا لا يدل على تجدد الحركة الوهابية الحقيقية، بل هو

تجدد مؤقت لها، كما أنه لا ينوي إعلان جهاد جديد؛ لأن العالم لم يعد يرى بعد

تيارًا سريعًا من القوات الإسلامية متدفقًا من رمال بلاد العرب.

نعم إن عرب البادية هناك يتضامون، ولكنهم غير متحدين اتحادًا يستطيعون

به إيقاد حروب وفتوحات، ولا تجول في صدورهم حمية دينية كافية لأن تمكنهم

من إعلان جهاد جديد أو إرغام غير المسلمين بالقوة، ولكن تجدد قوتهم يبطن خطرًا

على الأتراك، ولذلك ترى أصدقاء تركيا المخلصين لها ينصحون لها بنية صافية

أن تصالح ابن السعود الذي يعتقد أنه يميل إلى مفاوضة السلطان بطاعة واحترام،

فواحات الأحساء قليلة غير مفيدة لتركيا، في حين أن علائقها الولائية بحاكم نجد

تنفعها كثيرًا، والأمر الذي يهم تركيا أكثر من غيره في بلاد العرب هو أن تبقى لها

السيطرة على مدينتي الإسلام المقدستين لتحفظ اعتبارها وهي صاحبة الخلافة

الإسلامية في عيون المسلمين، وخير ما يساعدها على إدراك غايتها هذه هو اتفاقها

مع ابن السعود.

وكان من الواجب عليها أن تكف عن إرسال الجنود إلى اليمن، وتنشئ لها

علائق ولائية مع إمام صنعاء على قاعدة تسلطه على تلك الولاية تحت سيادتها

وكذلك يجب عليها أن تنهي ثورة العسير بهذه الصورة فتسلط الإدريسي على تلك

الولاية تحت سيادتها أيضا.

وبهذه الطريقة تكتفي مؤونة إرسال كثير من المال والرجال إلى تلك البلاد

على غير فائدة، ولا تخسر حقوقًا أرضية لا ينازعها إياها منازع في الوقت

الحاضر، وتستطيع بعد أن يهدأ بالها من جهة العرب أن تنصرف كل الانصراف

إلى المهام الحيوية التي لا تزال تنتظرها في آسيا الصغرى. اهـ.

(المنار)

خير ما في هذه المقالة خاتمتها، فهو النصح الخالص للدولة العثمانية الذي

سَبَقْنا إليه غير مرّة (وقد يستفيد الظنة المتنصح) والقسم التاريخي منها يشوبه شيء

من الخطأ كقوله: إن الوهابيين كانوا خارجين على الدين الإسلامي والخلافة، فهذا

خطأ فهم مسلمون متشددون في التمسك بالإسلام، وجلُّ ما عُزِيَ إليهم من الشذوذ

كذب افترته السياسة، وبعضه من الخطأ الذي اقتضته طبيعة القتال لا تعاليم

المذهب، وكقوله: إن مكة مقدس أهل السنة ومحجهم، وكربلاء محج الشيعة.

والصواب أن مكة هي محج جميع المسلمين، وأما كربلاء فليست محجا واجبا لأحد

ولكن يزورها الشيعة كثيرًا وغيرهم قليلا، وما ذكره الكاتب من أن ابن سعود وإمام

اليمن والإدريسي كلهم يودون الاستقلال في بلادهم تحت سيادة الدولة صحيح،

وأصح منه قولاً ونصحًا قوله: إن الواجب على الدولة أن تترك قتالهم، وتعطيهم

استقلالهم ولكن هل يعقل هذا رجال الآستانة، ويعملون به؟ الله أعلم.

_________

ص: 773

الكاتب: محمد توفيق صدقي

نظرة

في كتب العهد الجديد

وفي عقائد النصرانية

تابع ما قبله

لهذا كله كان اليهود معاصروه يرون أنفسهم أرقى منه علمًا ونفسًا وأخلاقًا

وتدينًا [1] وما كانت تعجبهم أحواله وأعماله حتى كانوا يعيرونه بكثرة شرب الخمر

وحب الخطاة كما سبق (لو 7: 34) وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم ير فيه

معاصروه أدنى عيب ولم يطمع أحد منهم في مسابقته في العلم والفضل، والكمال

والعقل والصدق والإخلاص، والصلاح والتقوى، حتى عرف بين مشركيهم من

صغره بالأمين المأمون، وكان لهم نبراس الهدى ومثال الكمال بينهم في كل شيء

ففاقهم بمراحل واسعة، وأما المسيح بحسب هذه الأناجيل فلم يفق الوسط الذي كان

فيه.

هذا مع ملاحظة أنه لم ينقل لنا عنه إلا القليل من أخبار حياته، وأن مدة بعثته

كانت قصيرة جدًّا، وأن الناقلين لأخباره هذه هم صفوة أتباعه وأخلص تلاميذه الذين

كانوا كما تقول النصارى ملهمين من الله، معصومين من الكذب والخطأ والنسيان

في كل ما كتبوه عنه. فكيف بعد ذلك يليق بعاقل منصف أن يفضل عيسى على

محمد وآداب المسيحية وتعاليمها على آداب الإسلام وتعاليمه؟ وهو الذي لم ينشر

إلا التقوى والفضيلة بين الناس، ونص كتابه صريحًا ببراءة بعض أنبيائهم مما

رموهم به من الكبائر (راجع القرآن 2: 102و 20: 87 - 93) ولم يذكر من

تاريخ الآخرين إلا ما فيه عبرة وما به تغذية النفوس بالصلاح والاستقامة وتحصين

الأخلاق والآداب بسياج الفضائل، فلم ينسب لهم شرب الخمر ولا السكر به، ولا

الخيانة ولا الزنا ولا الغش ولا الكذب، ولا التعدي على بناتهم بالفسق فيهن، ولا

عمل الأصنام لأممهم ولا الشرك بالله وعبادة غيره، إلى غير ذلك مما لا فائدة في

نشره عن الأنبياء إلا إشاعة الفاحشة بين الناس والاستخفاف بالدين ومخالفة أوامره

ونواهيه والكفر بالله أو الشرك به؛ وخصوصا لأن كتبهم ذكرت بعض هذه الجرائم

ولم تذكر معها ما يُنَفِّر منها كما ترى في سفر التكوين مثلا، فللناس أن يقولوا: إذا

كانت الأنبياء لم تقو على الاستقامة فكيف نقوى عليها، ونحن أقل منهم في كل

شيء، وإذا كان الله لم ينبذهم مع أننا نرى أن بعضهم لم يتب من ذنبه أو كفره فَلِمَ

نخافه أو نخشاه؟ ومن ذلك يعلم أن القرآن قد امتاز عن كتبهم بالفضائل وبالآداب

العالية وبالحث الكثير على الصلاح والتقوى والتوبة حتى إنه لم يذكر عنهم مثل ما

ذكرته كتبهم عن نوح مثلا (تك 9: 20 27)[2] ولوط (تك19: 30 - 38)[3]

وإسحاق (تك 26: 7)، ويعقوب (تك 27: 19) ، وهارون (خر32:

16 [4] ) [5] وداود (2 صم: 2 27) وسليمان (امل 11: 5 و6) وغيرهم من

أنبياء الله الأمناء الطاهرين أقامهم الله ليكونوا قدوة حسنة ومثالاً صالحًا للناس، فهل

قدرة الشيطان عندهم وصلت إلى حد أن قلب على الله غرضه أيضًا في ذلك كما

قلبه عليه مرارًا في غير ذلك مما بينا آنفًا (راجع ص 123 من هذه الرسالة وص

109 و 110 من رسالة الصلب) حتى جعل الذين أراد الله أن يكونوا مثالاً حسنًا

للناس وهداية لهم وقدوة صالحة جعلهم شر الأشرار فأتوا من الشرور ما تنفر منه

طباع أحط البشر أخلاقًا كزنا الإنسان ببناته وكيف يقبل الناس على تعاليمهم بعد

فعالهم هذه؟ وكيف سردت كتبهم أكثرها كما قلنا بطريقة لا تشعر بشناعتها ولا

ببشاعتها ولا بالإنكار على فاعلها، ونبذه كنبذ النواة؟ راجع كتاب دين الله (ص

67 -

71) ثم راجع أيضًا قصة داود وسليمان مع شمعي بن جبرا (في 1مل 2:

8 و 9 و 36 46) وفيها ترى أن داود وهو على سرير الموت يوصي ابنه سليمان

بقتل هذا الرجل (شمعي بن جبرا) بعد أن أقسم له بالله أنه لا يقتله فسلط ابنه عليه

وهو محتضر. وسيرة داود عندهم معروفة مشهورة وقساوته وظلمه لا مثيل لهما

(حاشاه) حتى إنه نشر أسرى بني عمون بالمناشير ونوارج الحديد والفؤوس (2

صم 12: 31 و 1 أي 20: 3) وسيرهم في أتون الآجر أي أحرقهم بالنيران

(راجع كتاب دين الله ص 125 و126) وداود هذا هو الرجل الذي نصت كتبهم

على أنه كان بارًّا ولم يعص الله قط إلا في مسألة أوريا وزناه بزوجته وتعريضه

للقتل بكتاب أرسله معه وهو لا يعلم ما فيه، فقال سفر الملوك الأول (15: 5)

عنه (لأن داود عمل ما هو مستقيم في عيني الرب ولم يحد عن شيء مما أوصاه

به كل أيام حياته إلا في قضية أوريا الحثي [6] ) [7] وهو صريح في أن الله راض عن

داود في كل أعماله السيئة الشنيعة القاسية إلا مسألة أوريا وهم لا يزالون يرتلون

مزاميره ويعبدون الله بها! ! فما بالهم الآن يطعنون على محمد لجهاده الأعداء الذين

آذوه وآذوا أمته وفعلوا بهم من الاضطهاد والقتل ما فعلوا.

أما اغتياله لبعض أعدائه المحاربين له ولأمته فقد تكلمنا عليه في كتاب

(الإسلام) ص 58 60 (راجع أيضا كتاب (صدق المسيحية) في الإنكليزية ص

251 و252 ففيه كلمة في هذا الموضوع دفاعًا عن كتبهم الآمرة بإبادة الكنعانيين [8]

يصح أن تكون أيضا دفاعًا عن الجهاد وقتل الأعداء ولو غيلة) وكان لداود أيضا

نساء عديدة وامتن الله عليه بإعطائهن إياه (2صم 12: 8) فما بال النصارى لا

يرون الخشبة في أعينهم ويرون القذى (إن سلم أنه قذى) في أعين غيرهم؟

فتراهم يستحسنون كل ذلك ويجعلون المسيح المثال الأكمل للبشر على ما وصفته

كتبهم به مما سبق ذكره، وأما محمد فينبذونه ويستقبحون أعماله، وهو الذي أصلح

العالم كله وخلصه من الشرك والوثنية وعبادة البشر والصور والصلبان والأصنام

ودعا بوحي الله إلى كل خير وحرم الخمر بتاتًا وأمر باجتناب كل شر وضرر وأتى

بمكارم الأخلاق الصحيحة قاطبة، وفرض على أتباعه الصلوات الخمس وحث على

قيام الليل وعبادة الرحمن وأوجب الصوم والزكاة وفعل كل خير بالأيتام والفقراء

وأبناء السبيل والأسرى والرقيق وغير ذلك مما فصَّلناه في كتبنا (الدين في نظر

العقل الصحيح) و (الإسلام) و (دين الله في كتب أنبيائه) وغيرها وأصلح حال

المرأة إصلاحًا لم يسبقه به أحد، ودعا للعمل للدنيا والآخرة كقول القرآن:

] وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [وغيره مما ذكرناه سابقًا.

ثم إنك ترى أن جميع تعاليمه عملية وصالحة لخير هذا المجتمع ولا تزيده إلا

عزًّا ورفعة وعلمًا وتقدما ومدنية وهي بعيدة عن كل عيب أو غلو أو استحالة ولا

يرد علينا بحال المسلمين اليوم فإن الإسلام (كما في القرآن والسنة النبوية) غير

مسلمي هذا الزمان وفقهم الله لمعرفة حقيقة دينهم التي أخفاها عنهم الجهل والتقليد.

ومن تمسك بحال مسلمي اليوم فهو كالمتمسك بحال نصارى القرون الوسطى

أو نصارى الحبشة ونحوهم الآن مستدلاًّ على قبح المسيحية وانحطاطها، فهل هذا

من الإنصاف والعقل في شيء؟ !

...

...

...

...

الدكتور

...

...

...

...

محمد توفيق صدقي

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذا الكلام كله مبني على فرض صحة جميع ما في هذه الأناجيل كما قلنا مرارًا، فلا تنس ذلك، والحق أننا لا نؤمن بها ولا نعبأ بروايتها.

(2)

من العجيب أن الله قد أظهر رضاه عن نوح بعد جريمة السكر بأن تقبل دعاءه وأولاده حتى أنه ظلم لأجله حفيده كنعان بن حام وآخذه بذنب أبيه (تك 9: 22 و25) فكيف يطيع الله نوحًا لدرجة أن يعول على دعائه على كنعان البريء مع أن الظاهر من قصته أنه ما دعا على كنعان إلا لأنه لم يفق تمامًا من سكره فلم يميز بين ولده المذنب إليه وحفيده البريء؟ ولم يذكر في كتبهم أن نوحا تاب من ذنبه هذا، فأي عبرة للناس في هذه القصة سوى أنهم يعلمون منها أن الله تقبل دعاء السكران حتى ظلم لأجله حفيده؟ فليكثر الناس إذا من شرب الخمر ليكون دعاؤهم مقبولاً عند إله النصارى هذا المحب للخمر وشاربيها حتى شبهته كتبهم بالسكران (مز 78: 65) وامتلأت بذكر سكر الأنبياء وإسكارهم لغيرهم بإيجاب تقريبها للرب راجع مثلا (تك 9: 21 و19: 32 و35 و27: 25 وخر 29: 40 ولا 23: 13 و2 صم 6: 9 و11: 13 ويو 2: 7-10 ومت 26: 27) .

(3)

يقول بعض المعتذرين عن سيئات كتبهم وأنبيائهم: إن جريمة لوط سكره وزناه بابنتيه (تك 19: 30 - 38) هي منحصرة في السكر فقط؛ لأنه ارتكب ما ارتكب وهو لا يعي شيئا والحكمة عندهم في ذكر هذه القصة هي إظهار درجة قبح شرب الخمر وبيان ما تؤدي إليه، مع أن القصة ذكرت في كتبهم كأنها أمر عادي، وكأن لوطًا لم يرتكب منكرًا حتى لم يذكر أن الله وبخه أو عاقبه على ذلك أو أنه تاب من ذنبه، بل قال: إن ابنتيه حملتا من هذا الزنا ومنهما تناسل بعض الأمم الموآبيين وبني عمون، وبعد ذلك سماه الكتاب المقدس بارًّا (2 بط 2: 7-9) فأي عبارة أتى بها الكاتب في قصته هذه لبيان شناعة هذا العمل الفظيع واستقباحه له أو وجوب التوبة منه؟ ومَنْ من الناس يجهل مضار الخمر، وهي عند السكيرين أنفسهم أم الخبائث وكلهم يعرفون ذلك ويعترفون به وبضعف إرادتهم عن تجنبها فما فائدة هذه القصة إذًا؟ ولماذا لم ينتخب الكاتب حادثة أخرى من التي وقعت على أيدي الأشرار السكيرين وهي كثيرة في كل زمان ومكان، بحيث تكون العبرة فيها أظهر وأوضح لبيان شناعة الخمر وقبحها وضررها إذا صح أن هذا هو حقيقة غرض الكاتب من ذكر هذه القصة؟ أما كان الأَوْلَى بكتبهم أن لا تبيح لهم الخمر ولا تأمرهم بشربها بدلا من ذكر هذه القصص الساقطة؟ أو لا يشعر الإنسان عند قراءتها أنها تهيئ الأشرار الأدنياء لارتكاب أفظع المنكرات أكثر مما تزجرهم عنها؛ لأنه إذا كان لوط نبي الله الذي اختاره الله لوحيه وكلامه ولإرشاد الناس لم يقدر على منع نفسه عن السكر وأقبح الفسق فكيف بهم وهم من أضعف المخلوقين؟ وكيف يقدرون على ما لم يقدر عليه الأنبياء المختارون المؤيدون بعناية الله ورعايته؟ وإذا صح أن لوطا كان لا يعي شيئًا حتى لم يقدر أن يميز بناته من غيرهن فكيف أمكنه مجامعتهن، والحالة هذه مع العلم بأن الإنسان إذا اشتد سكره إلى درجة عدم تمييز بناته ومعرفتهن وفقد شعوره حتى لم يعلم باضطجاعهن ولا بقيامهن كما قال سفر التكوين (19: 33 و35) فلا يقوى على أي عمل أو أي حركة مقصودة، إذًا لوط ما زنى إلا بعلمه وإرادته وإنما كان تأثير الخمر عليه كعادتها، أنها جرأته على ارتكاب أكبر جريمة وأضعفت قوته على مقاومة شهوته هذه البهيمية بل الأحط، وإذًا فهو مسئول عما اقترف كما في قوانين الأمم الراقية، ومن أعجب العجائب أنه مع علمه بذنبه هذا ومعرفته لابنته، كما بينا، وزناه بها في أول ليلة وشعوره بأنه لم يقدر على مقاومة نفسه بسبب تأثير الخمر عليه عاد في الليلة الثانية فسكر مع ابنته الأخرى وزنى بها أيضًا وافتضها كالأولى، فلم كال الله له بغير ما كال به لقومه، ولم يخسف به الأرض مثلهم مع أن إثمه أكبر وجرمه أفظع؟ أفلا تنفر النفوس من مثل هؤلاء الأنبياء وهم أنفسهم لم يعملوا بما يعظون به غيرهم؟ ثم ألا تضيع بذلك الفائدة من بعثتهم؟ فالحق أن هذه القصص مستحيلة على أنبياء الله بل على فضلاء البشر، ولولا ذلك ما سمى كتابهم لوطا بارًّا تقيًّا كما سبق، وإنما افتجر اليهود هذه القصص تبريرًا لشرورهم الكثيرة وعصيانهم لله مرات عديدة واعتذارا بها عن جرائمهم وآثامهم المتكررة فكأن كاتبها يقول: إذا كان أنبياء الله لم يقووا على الاستقامة فكيف يقوى أمثالنا عليها ونحن أضعف منهم، وكيف بعد ذلك يطالبوننا بالصلاح والتقوى أو يلوموننا على العصيان والفسوق؟ وإذا كان الله غفر للأنبياء هذه الجرائم كلها، ولم يغضب عليهم ولم ينبذهم نبذ النواة بل رضي عنهم فلِمَ لا يرضى كذلك عن اليهود ويغفر لهم كل ما اقترفوه؟ هذا وغيره كما يأتي، ربما كان هو الحامل لكُتَّاب اليهود على افتجار هذه الأقاصيص واختراع هذه الأكاذيب لإرضاء أمتهم وملوكهم الفاسقين، ومكانها من الصحة لا يخفى إلا على من فقد كل تمييز فكاتبها إنما هو دساس فاسق يريد بها غالبًا ترويج الفسق والفجور وإشاعة الفاحشة في الصالحين وستر قبائحه وقبائح قومه وإسكات اللائمين، فهذه يا قوم إحدى قصص هذه الكتب التي يقولون: إنها لا تنشر إلا الفضيلة بين الناس، وقال العلامة لينج في كتابه الأصول البشرية صفحة 87 ما مضمونه: إن السبب الذي حمل اليهود على افتجار قصة لوط هذه هو بغضهم الشديد لنسله الموآبيين والعمونيين مع أنهم أقاربهم، فقد كانت العداوة بين الفريقين شديدة جدًّا ومتأصلة فيهم من قديم الزمان كما لا يخفى على المطلعين على كتب اليهود (انظر مثلا تث 23: 2-6) .

(4)

إذا أردت الاطلاع على الجواب تفصيلاً عن شبهتهم في لفظ السامري الوارد في القرآن أنه هو الذي صنع العجل، فاقرأ مقالات القرآن والعلم في المنار (مجلد 11 جز 4 صفحة 286) وكذلك كتاب الدين في نظر العقل الصحيح (صفحة 114 - 116، وص 98 و99) من الجزء الأول من كتاب الهدى إلى دين المصطفى لأحد علماء الشيعة المحققين، وملخص الجواب وأحسنه أن تعريب لفظ شمرون العبري بكسر الشين وبضمها كما في (ش 11: 1 و1 مل 16: 24 و1 أي 7: 1) هو سامر أو سامرة، فالسامري وبالعبرية شمروني بكسر الشين هو أحد الشمرونيين (عد 26: 24) أولاد شمرون بن يساكر بن يعقوب (تك 46: 13) وكانوا من عشائر بني إسرائيل المعدودين في الجند على عهد موسى عليه السلام، وخرجوا معه من أرض مصر (انظر تك 46: 8 و13 وعد 26: 4 و24) فالسامريون الذين منهم سامري القرآن هم أولئك الشمرونيون لا السامريون الحاضرون الذين وجدوا بعد موسى بقرون واعلم أن لفظ شمرون بكسر الشين ورد في كتبهم علمًا لشخص كما في (1 أي 7: 1) كما في (يش 11: 1 و19: 15) وشمرون بضم الشين وردت اسمًا لجبل ولمدينة كما في (1 مل 16: 24) وكلا اللفظين من مادة واحدة في العبرية ومعناها الحفظ وربما كان ضبطهما في الأصل واحدًا فأخطأوا فيه على ممر الأزمان وخصوصًا لأن جمهورهم كان قد نسي اللغة العبرية القديمة بعد سبي بابل (انظر نح 8: 8) وهذا الضبط (الشكل) الحالي لم يكن عندهم قديمًا بل أحدثوه بعد المسيح بقرون، وإذا صح فلا يمنع مما ذكرنا.

(5)

وليس هذا التعريب المذكور هنا ببدع في اللغات، ألا ترى أن الإفرنج تسمي جبل طارق مثلا في لغاتهم جبرولتار Gibraltar وكان العرب يستبدلون في لغاتهم شين العبرية المعجمة بالسين المهملة، حتى إن أهل الكتاب اليهود يعربون شين العبرية سينا فشمرون بضم الشين كما في (1 مل 16: 24) يسمونها السامرة، وكذلك موشى بالشين موسى ويشوع يسوع أو عيسى كما سماه القرآن الشريف، وكما هو في اللغة اليونانية وغيرها أبيس Iesous وفي الإنكليزية جيسس Jesus ويسمي الإفرنج أيضًا شمرون هذه ساميريا Samaria فكل اللغات تتصرف بالأسماء المنقولة، فلم يستبيحون لأنفسهم وللناس ذلك ولا يبيحون للقرآن أن يسمي أحد الشمرونيين بالسامري، وهو من التعريب المعروف في لغته، فإن قيل: إذا كان هذا الرجل معروفًا شهيرًا بين بني إسرائيل حتى إذا أطلق لفظ السامري في زمنه فلا ينصرف إلا إليه، فلماذا لم تذكره كتبهم؟ قلت: الظاهر أن كتبهم - مع طولها ولغوها - لم تستقص كل شيء فكم من أشياء ترك ذكرها فيها لسبب ولغير سبب، ألا ترى أن بولس ذكر في إحدى رسائله أن ينبس ويمبريس قاوما موسى (2 تي 3: 7) ولا وجود لهذين الاسمين في الأسفار الموسوية أو غيرها مطلقًا ولا تعرفهما اليهود، وكذلك ذكر يهوذا في رسالته أن ميخائيل خاصم إبليس بخصوص جسد موسى (عدد: 9) وأن أخنوخ تنبأ عن مجيء الرب مع قديسه (عدد ع 14) ولا وجود لشيء من ذلك في باقي أسفار كتابهم المقدس فهل يدل هذا على كذب بولس ويهوذا؟ فالحق أن اليهود لم تخص السامري هذا بالذكر؛ لأنهم أرادوا أن ينسبوا لهارون عمل العجل كما نسبوا لسليمان الكفر، وكما نسبوا لغيرهما ما نسبوا، ولم يعمل السامري شيئا آخر بينهم قبل ذلك أو بعده حتى يذكروه في غير هذا المقام، فلما طال عليهم الأمد نسوا قصته إلا قليلاً منهم، فإن الظاهر أن القرآن لم يخالف في ذلك بعض روايات أهل الكتاب من العرب وهي التي كان يرويها عنهم ابن عباس وغيره كما في التفاسير ولذا لم يسمع أنهم انتقدوا عليه هذه القصة، ولو خالفهم لانتقدوها عليه كما انتقدوا عليه قوله عن مريم إنها أخت هارون وغير ذلك راجع كتاب الجواب الصحيح لابن تيمية (جزء 1 ص 70 - 73) على أن من راجع ما يكتبه الآن علماء الإفرنج في كتبهم المقدسة علم أن هذه الكتب أصبحت مشكوكًا فيها لدرجة أن الإنسان لا يصح له أن يجزم بأي خبر فيها ولو كان مما يتوهمه متواترًا بين أهل الكتاب إذ لا شيء متواتر بينهم، ولا مقطوع بصحته، ولا مجزوم بأصله وحقيقته إلا القليل فذكرها للشيء وعدمه عندنا سيان.

(6)

حاشية: بمقتضى هذه العبارة تكون جميع أفعال داود الآتية وغيرها مرضية عند الله، وكلها مستقيمة في عيني الرب وطبق وصاياه، فمن ذلك ما فعله ببني عمون كما ذكر في المتن وقتله 200 من الفلسطينيين ليتزوج ابنة شاول مع أن شاول طلب منه قتل 100 فقط (1 صم 18: 25 و 27) وتعليمه يونان أن يكذب على شاول (1 صم 20: 6) وكذبه على أخيمالك الكاهن (1 صم 21: 2) وشكره لله على موت نابال لكي يتمكن من زواج امرأته المسماة أيجايل لأنها جميلة الصورة (1 صم 25: 30 و39) وكذبه على أخيش بعد قتله الرجال والنساء (1 صم 27: 9 - 11) ووصيته وهو محتضر لابنه بقتل رجل أقسم له بالله أن لا يعاقبه على ما فعل (1 مل 2: 1 و9) وزواجه بنساء كثيرة وأخذه سراري عديدة (2 صم 5: 13) وحزنه على أمنون ابنه حينما قتل وبكاؤه من أجله بكاء مرًّا كل يوم مع أنه فسق بأخته ابنة داود أيضًا وافتضها كرهًا وهي عذراء بعد أن خدعها خدعة دنيئة (2 صم 13) فخالف داود بذلك أمر الله القاضي بقتله (لا 20: 17) حتى إنه لم يرد أن يحزنه؛ لأنه بكره كما في الترجمة السبعينية (2 صم 13: 21) وحقد على ابنه أبشالوم الذي قتل أمنون هذا انتقامًا لأختهما حتى طرده داود بعد رضاه بعودته إليه ولم ير وجهه مدة سنتين.

(7)

(2 صم 14: 24 و28) قارن ذلك بفعل عمر بن الخطاب الذي جلد ابنه حتى مات لزناه وهو غير محصن بامرأة، فلم يشفق عليه ولم يرحمه حتى أنفذ فيه حكم الله (راجع أيضًا كتاب (التوراة غير موثوق بها) في الإنكليزية ص 102 و103) فكيف رضي إلههم لداود عن كل ذلك وغيره ولا يرضى الله تعالى لمحمد تعدد الزوجات القليل وغيره مما ينتقدونه عليه؟ ولِمَ يريدون أن يكيل الله تعالى لعباده بمكيالين؟ ولو فرض جدلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاطئًا في شيء ما؛ فالله تعالى قد طالبه مرارًا في القرآن بالتوبة والاستغفار لذنبه ولم يقره على خطأ ما، فأي الإلهين أطهر وأقدس؟ إذا صح أن الهنا غير إلههم كما يتبجح بذلك الآن متعصبو المبشرين منهم، على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما ارتكب صغيرة ولا كبيرة قط إلا هفوات بسيطة لا يخلو منها بشر وهي المسماة بالذنوب في القرآن على حد قول القائل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وعدم ذكر مثلها لغيره من الأنبياء كشعيب وهود وصالح وعيسى ويحيى وزكريا وغيرهم سببه أنه لا فائدة من ذكرها بالنسبة لهم بعد أن انقضى زمنهم؛ ولأن القرآن لم يأت بدقائق تواريخهم كلها إلا ما كان فيه عبرة لنا ولا يخفى أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول، أما ذكرها بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو لإرشاده وتأديبه وتكميله ولتعليم أمته وهدايتها لما فيه الخير والصلاح؛ ولولا هداية الله لضل محمد كغيره من قومه ولضلت أمته معه، فله الحمد هادي الضالين، رب العالمين.

(8)

راجع مثلا سفر التثنية 20: 16 تجد فيه الأمر بإبادة ست أمم حتى نسائهم وأطفالهم فأي الإلهين أطهر وأقدس؟ إذا صح أن الهنا غير إلههم كما يتبجح بذلك الآن متعصبو المبشرين منهم. على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما ارتكب صغير ولا كبيرة قط إلا هفوات بسيطة لا يخلو منها بشر وهي المسماة بالذنوب في القرآن على حد قول القائل: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) وعدم ذكر مثلها لغيره من الأنبياء كشعيب وهود وصالح وعيسى ويحيى وزكريا وغيرهم سببه أنه لا فائدة من ذكرها بالنسبة لهم بعد أن انقضى زمنهم؛ ولأن القرآن لم يأت بدقائق تواريخهم كلها إلا ما كان فيه عبرة لنا ولا يخفى أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول. أما ذكرها بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو لإرشاده وتأديبه وتكميله ولتعليم أمته وهدايتها لما فيه الخير والصلاح ولولا هداية الله لضل محمد كغيره من قومه وضلت أمته معه فله الحمد هادي الضالين، رب العالمين.

ص: 777

الكاتب: محمد توفيق صدقي

تذييل للفصل السابق

في النبيذ عند العرب

ننقل هنا ما يأتي بحروفه عن كتاب (الهدى إلى دين المصطفى) لأحد علماء

الشيعة المحققين بالعراق، قال حفظه الله (في صفحة 68 - 71 من الجزء الأول) :

إن المتكلف (يريد صاحب كتاب الهداية) كان شاعرًا بما في كتب العهدين من

تلويث قدس الأنبياء وخصوصًا المسيح بشرب الخمر فحاول أن يموه على البسطاء

المغفلين ويلوث قدس خاتم المرسلين بشربها فتشبث لذلك بأخبار آحاد لم يتحقق

سندها ولم يفهم مدلولها، ولو أنها صحت وكانت لها مداخلة في أصول الدين لكانت

أجنبية عن مقصوده الممتنع عليه.

فقال في الهداية (1ج ص 13) : إن محمدًا شرب الخمر، وذكر عن ابن

عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى السقاية في مكة وقال اسقوني من هذا

فقال العباس ألا نسقيك مما في بيوتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله: لا ولكن اسقوني

مما يشرب منه الناس، فأُتِيَ بقدح من نبيذ فذاقه فقطب ثم قال هلموا وصبوا فيه

الماء ثم قال زد فيه مرة أو مرتين أو ثلاثا ثم قال: إذا صنع أحد منكم هكذا

فاصنعوا به هكذا.

وذكر ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله عطش وهو يطوف

بالبيت فأتِيَ بنبيذ من السقاية فشمه ثم دعا بذَنُوب (أي: دلو) من ماء زمزم فصب

عليه ثم شربه فقال له رجل: أحرام هذا يا رسول الله؟ فقال: لا.

وقد غفل المتكلف أو تغافل عن أن اسم النبيذ مأخوذ من النبذ وهو الطرح،

وقد كان النبيذ على قسمين:

أحدهما: أن يطرح التمر أو الزبيب في الماء في الأواني التي تصبر على

التمادي إلى أن يبلغ حد الإسكار كأواني الدباء وهو القرع اليابس، والمزفت وهي

أو أن تطلى بالزفت، والحنتمة وهي أوان خزفية تدهن بالقلي ونحوها، فيترك

زمنًا طويلاً إلى أن يبلغ حد الإسكار.

وثانيهما: أن ماء الحجاز كان مرًّا مضرًّا فيطرح فيه لمداواة طعمه وطبعه ما

يتمكن الأعرابي منه في ذلك الزمان وهو قليل من التمر فإن ترقى فالزبيب بمقدار

الكف أو أقل يطرحونه في السقاء غدوة فيشربونه عشيًّا ويطرحونه عشيًّا فيشربونه

غدوة حينما يؤثر طعم التمر أو الزبيب في الماء حلاوة ما.

وقد تضافرت الأخبار الكثيرة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان

ينهى عن نبيذ الدباء والمزفت والحنتمة بسبب أنه يصبر عليه حتى يبلغ حد الإسكار

ويرخص في نبيذ الأسقية وهو أن يطرح في السقاء كف ونحوه من التمر أو الزبيب

فيشرب في يومه أو صبيحة ليلته حينما يطيب طعم الماء بحلاوة التمر أو الزبيب؛

لأن أسقية البيوت لا تحتمل أن تشغل زمنًا طويلا بالنبيذ، ولا تقوى على بقائه [1]

إلى أن يختمر ويتعفن ويبلغ حد الإسكار.

انظر إلى مسند أحمد وغيره من كتب الحديث. فعلى المتكلف في تشبثه بما

ذكر من الحديثين إن صحا في الجامعة الإسلامية (يعني إجماع المسلمين) أن يعين

دلالتهما على أن النبيذ المذكور فيهما كان من القسم المسكر المخمر لا الذي ذكرنا أنه

يطرح فيه قليل من التمر أو الزبيب لمحض تطييب طعم الماء على عادة أهل

الحجاز، ونحن نقول: إن المتعين كون النبيذ فيهما من هذا القسم لا القسم المسكر

لوجوه:

(أولها) أنه لو كانت في مكة مصانع للنبيذ المسكر كمصانع أوربا لما

وسعت كفاية الألوف العديدة من الحجيج في الأيام الكثيرة وهو يُعْطَى مجانًا لهم،

وكيف يقوى العباس على ذلك؟

(وثانيها) أن السقاية في مكة كانت لإرواء الحجيج من العطش لا أنها

حانوت خمار.

(وثالثها) أن هذه الواقعة إن كانت فإنما تكون بعد فتح مكة في أواخر أيام

النبي صلى الله عليه وسلم، ومقتضى الأخبار التي يذكرها المتكلف (الهداية 1 ج

ص 23 و 24) أن الخمر حرمت في أوائل الهجرة. وفي ما ذكره عن ابن مسعود

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما شربه: إنه ليس بحرام، مع أن حرمة

النبيذ المسكر كانت حينئذ مقررة معلومة في الإسلام.

(ورابعها) الذي يكشف الحجاب ما صح نقله عن جعفر الصادق وهو الإمام

السادس من أهل البيت حيث قال في نبيذ السقاية: إن العباس كانت له حبلة وهي

الكرم فكان ينقع الزبيب غدوة فيشربونه بالعشي وينقعه بالعشي ويشربونه غدوة يريد

أن يكسر به غلظ الماء على الناس.

وأما سر تقطيبه صلوات الله عليه في رواية ابن عباس فليس لأن النبيذ الذي

أُعْطِيَ له كان من القسم المسكر، بل لأن حلاوة التمر والزبيب كانت زائدة على

المتعارف من نبيذ الأسقية، فإن الحلاوة إذا ظهر أثرها مع مرارة الماء كانت من

المهوعات، فزاد عليها من الماء إلى أن ردها إلى النحو المتعارف، وأرشدهم إلى

أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه هذا النحو من المشروب لإصلاح طعم الماء.

ولو تنزلنا وفرضنا أن النبيذ المذكور في الروايتين كان من القسم المسكر لكانتا

دليلاً على أنه صلوات الله عليه كان يعاف المسكر ويشمئز ويقطب وجهه الشريف

منه، ولم يشربه حتى أخرجه عن موضوعه وصورته بإراقة الماء الكثير عليه [2]

أفبهذا يتشبث الكاتب ويقول بملء فمه ومهوى قلمه: إن رسول الله صلى الله عليه

وآله وسلم شرب الخمر [3] ؟ ! وقد فات المتكلف المتشبث أن في أخبار الآحاد التي

لا تقيم لها الجامعة الإسلامية وزنًا ما يساعفه على مقصوده بعض المساعفة، فقد

روي في مسند أحمد أن رجلا كان إذا قدم المدينة أهدى لرسول الله صلى الله عليه

وسلم خمرًا فقدم مرة ومعه زق خمر ليهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقيل له: إن الخمر قد حرمت. ولكن ماذا يعمل الوهم من هذا الخبر في مقابلة

متواترات الآثار ومعلومات السير بأن قدس رسول الله لا تحوم حوله هذه الأوهام،

وقد جاء عنه صلوات الله عليه في مستفيض الحديث من طريق أهل البيت قوله

صلى الله عليه وسلم: أول ما نهاني عنه ربي شرب الخمر وعبادة الأوثان،

وكفاك أن مشركي قريش، والعرب قد تمحلوا في تكذيب رسول الله وكابروا

الوجدان وغالطوا العيان بدعواهم أنه صلوات الله عليه مجنون، ولو أنه صلوات الله

عليه كان يمكن أن يُرْمَي بشرب الخمر والمسكر ليتيسر لهم أن يقولوا بلا

مكابرة للوجدان أن ادعائه صلى الله عليه وسلم للرسالة والوحي إنما هو من

صورة الخمر وعربدة السكر وخيالات الخمر. ولكنه كان صلوات الله عليه ولم يكن

لقائل فيه مغمز. فياذا الرشد والفكر الحر الذي لم يستأثر للعصبية والتقليد سألتك

بفضيلة الصدق وشرف النفس هل كان من الرشد وأدب الكاتب أن يتغاضى هذا

المتكلف عما لوثت به الكتب الإلهامية في نحلته قدس الأنبياء، وخصوصا المسيح

بشرب الخمر وحضور مجلس السكر صريحًا، ويتشبث لتلويث قدس رسول الله بهذه

الأوهام. اهـ.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

يعني أنها تنفجر غالبًا من الغاز الذي يتولد من الاختمار كما هي العادة إذا اختمر ما في الزق اختمارًا شديدًا وكان الزق قديمًا مستعملاً من قبل كثيرًا في البيوت كما يعرف ذلك يسوع نفسه ويضرب به المثل لكثرة مشاهدته لصناعة الخمر وممارسته لها حتى لم تغب عن ذهنه ولا في وقت تعليم الناس ولم ينس لذة العتيق منها حاشاه (راجع إنجيل لوقا 5: 37 - 39) وغيره من أناجيلهم.

(2)

يقول مؤلف هذه الرسالة: سلمنا صدق هذه الرواية وأن رسول الله شرب، وهو مسافر في الحج وفي الحر الغالب في بلادهم، من هذا الشراب المخفف المشتمل فرضًا على أثر من الكحول المتولد من قليل من التمر أو الزبيب ما روى به ظمأه حيث لم يجد ماء صالحًا للشرب سواه، وهو - على فرض أنه كان متخمرا - أقل في العادة مما في البيوت؛ لقصر زمن التخمير، ولذلك أبى أن يشرب مما في البيوت وشرب هذا بعد إضعافه بالماء الكثير، ولا يخفى أن تحريم شرب مثل هذا الشراب المخفف جدًّا لإرواء الظمأ في وقت الحر والسفر والتعب هو لسد الذريعة إن كان يوجد غيره صالحًا وخاليًا من كل أثر من الكحول، وقال الفقهاء: إن ما حرم سدًّا للذريعة يباح للمصلحة فما بالك إذا كان ثم ضرورة حيث لا يوجد ماء عذب غيره؟ أما من الوجهة الطبية فشرب ما كان به أثر من الكحول في الحر والسفر وبعد التعب لإرواء الظمأ هو مغذ منبه مزيل للتعب ملطف للحرارة ولا ضرر فيه مطلقًا خصوصًا إذا لم يشربه الإنسان في حياته إلا مرة أو مرات قليلة جدًّا في مثل تلك الظروف ولم يعتده في جميع أوقاته كما يفعل مدمنو الخمر، فترى من هذا أن المصلحة بل الضرورة تبيح ما فعله رسول الله إن صح الحديث، وهو لا ضرر فيه مطلقًا بل هو مما يدل على سماحة الإسلام، وأنه لا يحرم إلا ما كان مضرًّا أو ما يخشى ضرره فشرائعه ليست عبثًا ولا إعناتًا، وإلا فليخبرنا هذا العنيد أي ضرر في ذلك الشراب.

(3)

والنبي لم يرو أنه شربه أو شرب غيره بعد التحريم إلا في هذه المرة حتى في أضعف الأحاديث وأسخفها التي يتمسك بها النصارى عادة في الرد علينا، فأين هذا من سكر أنبيائهم وإسكارهم لغيرهم كما بينا، ومن شرب المسيح مرارًا الخمر بمقتضى قوله (لو 7: 33) لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا فتقولون به شيطان جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة، وهو صريح في اعترافه بشرب الخمر بخلاف يحيى حتى عيَّره معاصروه بذلك، ولو كانوا كاذبين لأنكر عليهم قولهم هذا؛ ولما كانت عبارته كما ترى، وقد ذكرنا أيضًا أنه حول الماء خمرًا للسكارى في العرس، (يو 2: 10) وسقاهم أو أمرهم بشربها عدد (88) وكذلك فرض على أتباعه شربها في العشاء الرباني ولو أنها كانت قليلة إلا أن شربها يتكرر كلما تكرر عمل هذا العشاء لذكراه، وهو يعمل عندهم كثيرًا فيجرهم إلى شربها الكثير وقد كان وجاء في سفر التثنية (14: 6) قوله: وأنفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والخمر والمسكر وكل ما تطلب منك نفسك، وكل هناك أمام الرب إلهكم وافرح أنت وبيتك، وأمرت كتبهم اليهود بتقديمها للرب، وامتنت عليهم بإنعام الله بها عليهم، وقدمتها أنبياؤهم للناس مرات (راجع خر 29: 40 ولا 23: 3 وعد 15: 5 و28: 7) وراجع أيضًا (تث 14: 23 و 33: 28 و2 صم 6: 19) إلخ إلخ، ثم راجع كتاب دين الله صفحة (98) فترى من هذا أن النصارى واليهود بمقتضى كتبهم يجب عليهم صناعة الخمر لاحتياجهم إليها في فرائض دينهم ولهم أن يشربوها قليلاً أو كثيرًا كما شاءوا، فمن يلوم الإفرنج إذًا على انغماسهم في شربها وكثرة صناعتهم لها وتجارتهم حتى وقعوا ويقعون بسببها في كثير من الموبقات المهلكات فلهم العذر في ذلك فإن دينهم هو الذي أداهم إلى ذلك كله، نعم إن كتبهم قد ذمت الخمر والمسكر وشاربهما في بعض المواقع (راجع أمثال 20: 1 و23: 20 و30 وأش 5: 11 و22 ولو 21: 34 وأف 5: 18) ولكنها عادت فأباحتها كما بينا، وهو من عجيب تناقضها واضطرابها بسبب تحريفهم لها في ذلك وغيره اتباعًا لشهواتهم، تعالى الله وحاشا لأنبيائهم أن يبيحوها لهم كما يفترون.

ص: 785