الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السادسة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فقد جرت عادتنا أن نشير في فواتح
سني المنار إلى شيء من تاريخه أو تاريخ الإصلاح، أو حال سيره في عالم
الإسلام، ونقول الآن على رأس السنة السادسة عشرة: إن صوت الإصلاح الديني
قد علا كل صوت في الأقطار الإسلامية التي بلغتها دعوته وهزتها صيحته،
فخفتت دونه أصوات الحشوية الجامدين، والدجاجلة المخرفين، وقد خذل الله
ببيروت في العام الماضي أشدهم إفكًا وتخريفًا، فيما يسميه نظمًا وتأليفًا، فخذلته
الخاصة ولم تنصره العامة، وعورض ما يفتريه من الرؤى والأحلام بشيوع خبر
رؤيين رآهما بعض الصالحين من الحجاج، فقد حدثني الثقة المتفق على توثيقه
في بيروت قال: لما عاد والدي من الحجاز عام حجه جاء (الشيخ فلان) للسلام عليه،
وكان يُعد من أصدقائه وأقبل بلهف ودهشة ليعانقه، فصاح به والدي: يا شيخ فلان -
وذكر اسمه - إن النبي صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنك، فقد رأيته عند
زيارته في المدينة المنورة في الرؤيا، وأمرني أن أبلغك أنه غير راضٍ عنك.
وأما الرؤيا الأخرى فقد رُويت لي عن رجل من الحجاج أعطاه ذلك الدجال
نسخًا من كتبه ليوزعها في المدينة المنورة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في
نومه قبل دخول المدينة بليلة واحدة يقول له: إن هذه الكتب غير مقبولة، فلما
استيقظ ألقى تلك الكتب أو دفنها في جانب الطريق.
فمثل هاتين الرؤيين من ذينك الحاجين الصالحين نقض ما يدعيه ذلك الدجال
من الرؤى التي هو متهم فيها بتعظيم شأن نفسه، والتمهيد لدعوى الولاية له ولولده
وتحقير من اتخذهم أعداء له؛ لأنهم ينيرون عقول الأمة حتى لا تغتر بمثله.
هذا إيماء إلى عاقبة دجال القطر السوري المجاهر بعداوة الإصلاح وأهله،
ولا نكبر شأنه بالرد عليه أو التصريح باسمه.
وقد خفت أيضًا صوت دجال (جاوه) وظهر جهله، وما أبقى عليه تكريم
حكومة هولندة بل نسبه وسنه، ودجال تونس المقيم معدود عند عقلاء بلده من
المجاذيب أو المجانين، ولو كان في تونس حرية لحزب الإصلاح كالحرية الشاملة
لأهل الجمود والفساد؛ لرأى العالم الإسلامي من تونس ما لم يَرَه من سائر الأقطار.
وأما دجالها المتقلب في البلاد كتقلبه في الآراء والأفكار فهو يتتبع
مواقع الصيت والاشتهار، ويتأيّا مساقط الدرهم والدينار، فيدور مع من يملك ذلك
حيثما دار، حتى إنه أفتى بجواز بناء الكنائس للروم والبلغار، والإنفاق على ذلك
من بيت المال، فنال الحظوى بمثل هذه الفتوى عند زعماء جمعية الاتحاد والترقي،
واصطنعوه لكل ما يبغون من الخداع الديني، وقد خذلهم الله ولم يعتبر المسكين
{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 183) .
هذه حال المجاهرين بمقاومة الإصلاح الديني وأهله، لا صوت لأحد منهم
يُسمع، ولا رأي لهم يُتبع، وإنما يغترون بكثرة من يصدق الخرافات، ويسلِّم كل
ما يُعزى إلى الأموات تقليدًا للآباء والأمهات، ومواتاةً للأتراب واللدات، ويحسبون
هذا اتباعًا لهم، ويعدون أهله من أشياعهم، فيفتنون بكثرتهم، ويهونون من أمر
المصلحين لقلتهم، وقلة من يهتدي بهم، ولو فكروا وقدروا وتدبروا واعتبروا،
لرأوا أن هذه القلة هي محل الرجاء، وتلك الكثرة كالغثاء أو الهباء، وأنها تتفلت كل
يوم من أيديهم كما تتفلت الإبل من عقلها، بل من جامعة الإسلام التي عرفوا اسمها
وجهلوا حدها وفصلها، فكثرة أشياع الخرافات إلى قلة، وقلة حزب المصلحين إلى
كثرة، وقد فطن هرقل ملك الروم لهذا الأمر الذي جهله المغرورون، فسأل عن
أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ فلما علم أنهم على قلتهم في
ازدياد، وأن من دخل فيهم لا يخرج منهم، علم أنهم حزب الله الغالبون.
ولو رجَّع أولئك الدجالون البصر وكرروا التأمل والنظر، لرأوا أن هؤلاء
العوام الذين لم تبلغهم حقيقة دعوة الإصلاح، أو صدهم عن النظر فيها سدنة القبور
المعبودة وتجار الولاية والصلاح، هم الذين يتسللون يومًا بعد يوم مما يسمى
الإسلام التقليدي، ولا يهتدون السبيل إلى حقيقة الإسلام البرهاني، فأكثرهم يفتنون
بالشبهات المادية التي يبثها فيهم حملة قشور العلوم العصرية، ومنهم من يشُكُّون
في الإسلام بمطاعن دعاة النصرانية، فما بال زعماء الدجل والخرافات لا يتصدون
للرد على تلك الشبهات، وأنى لهم الرد عليها وهم لا يعرفون مواردها ومصادرها،
ولا يقفون على شيء من العلوم المتولدة هي منها، ولا يميزون بين أصول الإسلام
التي يجب الدفاع عنها، والخرافات والأوهام الملصقة بها، وإنما قصارى ما عندهم
أن يقولوا للعوام: إن جميع العلوم الطبيعية باطلة، وإن تعلمها كفر، ومتعلميها
زنادقة، ويريدون أن يتلقى الناس قولهم هذا بالقبول والتسليم، كما يوجبون عليهم
قبول جميع ما يقولون: إنه من الدين، على أنهم يعظمون الحكام والأغنياء
المتعلمين لتلك العلوم، فهل يرضى أحد بأن يكون من هؤلاء في مكان المقلد من
الإمام المعصوم؟ كلا إننا نرى كثيرًا من المتعلمين في المدارس العصرية يعدون
خرافات أمثال هؤلاء الدجالين حجة على جميع العلوم الإسلامية، فهم لذلك يصدون
عنها، ويعدون من إضاعة الوقت النظر في شيء منها.
يزعم هؤلاء الدجالون أن الضلال كل الضلال هو ما يدعو إليه المصلحون
من هدي الكتاب والسنة، على النحو الذي كان عليه الصدر الأول من الأمة، ونبذ
كل ما استحدثه الخلف، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة.
وقد جعلوا همهم الطعن في دعاة هذا الإصلاح، ورميهم بحجارة الزور
والبهتان، وأكبر شبهتهم أن هذا من الاجتهاد الذي انقطع فضل الله به عن العباد،
وأن كتاب الله الذي أنزله هدى للعالمين، ووصفه بالتبيان والمبين، لم يتبين معناه
إلا للأفراد القليلين، الذين وصفوا بالأئمة المجتهدين، حتى إنهم لو لم يوجدوا لما
أمكن لأحد أن يكون من المسلمين، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكفي
في بيان كتاب الله من دون علمهم، وإن قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) فإن لم يكن قد بيَّنه كما أمر الله، فكيف
يكون قد بلَّغ رسالة الله؟ وهل يُعقل أن يكون عجز عن ذلك وقدر عليه سواه؟ معاذ
الله، وحاش لله.
ألا إن هؤلاء ليسوا من أهل البصيرة والاستدلال، فنجذبهم بالحجة أو ندمغهم
بالبرهان، وإنما نريد بمثل هذا الكلام أن نُذكِّر من لهم نصيب من الاستقلال بأن
مقلدة أمثال هؤلاء المساكين كلهم عرضة للمروق من الدين، وأنهم لو كانوا يغارون
عليهم وعلى دينهم لجعلوا همهم في وقايتهم من الكفر والإلحاد، لا في وقايتهم من
هدي السنة وهدي القرآن، وحصروا عنايتهم في كشف الشبهات التي تخرجهم من
حظيرة الإسلام، لا في نشر الخرافات التي تحصرهم في زريبة الأوهام، ولكن
يظهر أن ترك الإسلام ألبتة أهون عليهم من ترك التقليد الأعمى إلى هداية الكتاب
والسنة؛ ولذلك نراهم يدهنون للمارقين من أصحاب المال والجاه، ويثنون عليهم
بالألسنة والأقلام، ولا تظهر غيرتهم على الدين إلا في تضليل حماة الدين، ونحمده
تعالى أن خذلهم وكبتهم، وصرف قلوب الناس عما تزوّر أقلامهم، وتفتري ألسنتهم.
هذا، وإن الإسلام ليشكو اليوم من شيطان الإفساد السياسي، ما لا يشكو من
شيطان الإفساد الديني، فقد غلب على مقام أولي الأمر زعنفة من عبدة الطاغوت
والشر جعلوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وأرهقوا الأمة قتلاً وحبسًا ومصادرةً
وتخويفًا، يأكلون تراث الأمة أكلاً لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا، إذا دعوتهم إلى
الحق وَلَّوْا منك فرارًا، وجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا
واستكبروا استكبارًا، وقد مكروا بأناس استخدموهم لغش المسلمين مكرًا كبارًا،
فاتبعوا من لم يزده ماله وجاهه إلا خسارًا، وكان من كيدهم ومكرهم - وعند الله
عاقبة مكرهم - أنهم عجزوا عن إسكان حركة الإصلاح، وإسكات نداء دعاته: حَيَّ
على الفلاح، أرادوا إفساد أمرها بتوسيدها إلى غير أهلها من المنافقين المتزلفين
إليهم، الراضين أن يكونوا آلات في أيديهم، فنصروا هؤلاء على أبناء بجدتها،
وآباء عذرتها، كما وسدت صروف الزمان إليهم من الأمر ما ليسوا له بأهل، فدنت
بذلك ساعة الأمة، وقد جاء أشراطها ، ولا تلبث أن تأتي بغتة، قال الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)
رواه البخاري في صحيحه.
هذا هو السر في تناقض بعض الصحف التي ظهرت بعد ظهور الفئة الباغية،
والجمعية الطاغية الإسلامية في الظاهر الاتحادية في الباطن؛ إذ تمدح الإسلام
وتنفِّر عن الأعمال التي تحييه وتطعن في القائمين بها، وتدعو إلى الجامعة
الإسلامية، وتلقي الشقاق بين العاملين لها، ويزاحم أهلها المصلحين، وهم أعوان
المفسدين، ومنهم مَن تخدع رؤيته وتفتن خلابته ويغر ببكائه أو تباكيه، والمنافق
يملك عينيه فيبكي بهما متى شاء.
فكم أذرى الدموع لنهب مال
…
وكم أبدى الخشوع لنيل جاه
ومنهم من لو علم المغرورون برقته، حقيقةَ حاله في علمه وعمله وعقيدته،
لولَّوْا منه فرارًا، وأعرضوا عنه ازورارًا، واستصغروا أنفسهم استصغارًا،
لتعجلهم باتباع كل ناعق، وعدم التزييل بين الصادق والمنافق، وستظهر للجميع
الحقائق، فحبل الكذب وإن طال قصير، ومصير المنافقين شر مصير. وإنما
نخشى أن لا تظهر العبرة إلا بعد خراب البصرة، وأن يأخذ الله المسلمين كافةً بما
جنته تلك الفئة الباغية {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة} (الأنفال:
25) .
ذلك بأن الأمة تحتاج إلى ضروب من الإصلاح يمد بعضها بعضًا، وأصولها
خمسة: الديني، والعلمي، والاجتماعي، والسياسي، والمالي، وقد تداعت هذه
الأصول كلها في العالم الإسلامي، ولا يسهل إقامة بعضها إلا بإقامة باقيها؛ لهذا
أردنا عندما لاحت لنا من الآستانة بارقة الأمل في الإصلاح السياسي أن ننشئ فيها
عملاً كبيرًا من الإصلاح الديني والعلمي، الذي هو أكبر عون على غيره، ولا
سيما الإصلاح الاجتماعي، فعلمنا أن ما لاح لنا كان برقًا خلبًا، وسرابًا بقيعة
يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل تبين لنا أن مثل ذلك البلاء
النازل، الذي تراءى بصورة الإصلاح الخادع، كمثل ذلك العذاب الذي نزل
بصورة العارض {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا
يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24-25) .
أجل، إن هذا العذاب ليمثل ذلك الانقلاب، الذي حسبنا أن وراءه ما نرجو
من الإصلاح، فكان بسوء تصرف ذويه عين الإفساد، وقد أنذرنا الأمة سوء عاقبته،
وخطر مغبته، فتماروا بالنذر {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ
جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 3-5)
وقد هُزِمَ الجمع وولوا الدبر، فبأي القول والفعل بعد ذلك يُعْتَبَر، فإن لم يتدارك
الأمر أهل البصيرة والنظر، فلا منجاة بعد ذلك ولا مفر {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 46) لا أريد الإشارة إلى قيامة الناس كافة، بل
أريد قيامة هذه الأمة خاصة، فإذا هي فقدت هذا الرمق من استقلالها، وزال هذا
الذماء الذي تتردد به أنفاسها، فأي نوع تملكه بعده من أنواع إصلاحها.
فليس الخطر الذي نخشاه اليوم على الإسلام هو كيد المفسدين لدعاة الإصلاح
بإغراء غير أهله بالدعوة له؛ لمعارضة المضطلعين بالقيام به، واستئجارهم
المنافقين وتأييدهم على الصادقين، مع عدم تمييز الأكثرين بين المحقين والمبطلين،
ولا نحو ذلك من أعمال هؤلاء الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وإنما
الخطر الأكبر هو إفسادهم السياسي الذي فتح علينا باب المسألة الشرقية، فبدأ
بمملكة طرابلس الغرب الإفريقية، وثنى بولايات الدولة الأوروبية، ويُخشى أن
يثلث بالولايات الآسيوية، ولا ينفعنا يومئذ ظهور صدقنا وكذبهم، ونصحنا وغشهم؛
لأن الأمر يخرج من أيدينا وأيديهم، إلى مَن لا يرحمنا ولا يرحمهم، على أن
زعماء هذه الفتنة، ومبسلي هذه الأمة لا حظ لهم من الحياة إلا الجاه والمال، فإذا
فاتهم الأول بفقد الاستقلال، فإن لهم من الآخر ما يمتعهم بسائر اللذات، ولم يدرء
هذا الخطر مقاومة أهل الإخلاص لهم، وانتزاعهم تلك المقاليد من أيديهم، على أنه
لا يبعد أن تعود إليهم، فتكون الكرة الثانية هي الطامة القاضية، ولا يدرؤها من
بعد، مثل ما كان من قبل، وإنما يرجى أن يدرأه البدار إلى تقوية كل قطر من
المملكة في نفسه، ونوط الدفاع عنه وإقامة العمران فيه بأهله، وهو ما يعبرون عنه
بالمدافعة الملية، والإدارة اللامركزية، ثم بناء المصلحة العامة على قواعد الصدق
والإخلاص، فإذا لم تتفق الأمة والدولة على هذا، فعلى الأمة والدولة السلام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض في الإسلام، هو سياجه وحفاظه
أن تعتدى حدوده بين أهله، كما أن الجهاد سياجه وحفاظه أن يعتدي عليه غير أهله،
وقد قصر المسلمون في الفريضتين فكان عاقبة أمرهم ما نسمعه ونرى ونذوق،
فالمنار يدعو كل من يطلع عليه ويرى فيه خطأً أن يبينه لنا بالمشافهة إن كان ممن
يلقانا ونلقاه، وإلا فبالكتابة، والطريقة المثلى في ذلك أن يقال: إن في صفحة كذا
من جزء كذا خطأً، ويبين ذلك الخطأ وصوابه بالدليل من غير استطراد ولا تطويل،
ونحن نرجع إلى الصواب إن ظهر لنا، أو نبين ما عندنا في المسألة.
هذه هي طريقة الأمر والنهي، والتواصي بالحق والصبر، لا ما يذهب إليه
أهل الأهواء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهو أنهم إذا رأوا أو
سمعوا - ولو كذبًا - أن أخاهم أخطأ في شيء أشاعوا ذلك بين الناس بالقول
والكتابة، فيدري بذلك الخطأ مَن يلقونه دونه، وربما كان ذلك منكرًا أو شبهةً على
الدين تعلق في نفس المستمع، ولا يدري كيف يتفصى منها، وكثيرًا ما يكونون هم
المخطئين، ومنهم من يصدق عليهم قول الشاعر:
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا
…
شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
فمن ابتلي من أهل التقوى والإخلاص من هؤلاء الذين يوسوسون في
صدور الناس يُذم أو يُسب أو يُطعن، مَن يدعى عليه أنه أخطأ، فليقل: إن هذه
غيبة يفسق صاحبها، لا نصيحة يتبع قائلها، فإن كان فلان أخطأ، فذَكِّره بينك
وبينه، فإن لم يرجع فهو شيطان، فأعرض عنه وقل سلام.
محمد رشيد رضا الحسيني
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجهاد أو القتال في الإسلام
(س1) من صاحب الإمضاء في فاينات (خراسان) .
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العلامة السعيد المرتضى، السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار
الغراء، بعد إهداء شكري إليه مما أنعمت به من فيض دجلة تلك المجلة، إني قرأت
في مجلتكم الغراء، ما يشعر بتنزيل ما ورد في الجهاد من الآيات الكريمة على الجهاد
الدفاعي فحسب؛ دفعًا لما أورده الإفرنج على دين الإسلام، وما نقموا من نكير
سيفه وتنمره في ذات الله، وهذا وإن كان له وجه وجيه بالنظر الفلسفي، حيث إن
العلة التي أوجبت الدعوة إلى دين يراد به ترقية الإنسان إلى كافة السعادات الدنيوية
والأخروية، وإخراج الناس كافة من الظلمات إلى النور، ومن الوحشية الموحشة
إلى المدنية المؤنسة، ومن الشقاوة الكبرى إلى السعادة العظمى، هي التي أوجب
إبرامها، والتي أوجب إبرامها هي التي أوجب إعلاءها، بحيث يصلح للبقاء إلى
قيام الساعة، والعقل السليم يفرق بين موجبات نشر دينٍ من شأنه دفع ظلمة
التوحش وطردها، وبين ما لا يراد به إلا التجافي عن الدنيا والفراغ للعبادة، ولو
في شعب الجبال، ويلزم على الصادع بمثل هذا الدين الدفاع عن علوه وبقائه، كما
يلزم عليه الدفاع عن إبلاغه وإسماعه، فمثله في عالم التشريع كمثل النور في عالم
التكوين، وكما أن النور يطرد الظلمة بسنا برقه، فكذلك ذاك الدين طارد للوحشة
بسنا بريقه، فهو من بدء ظهوره ظهر دافعًا، وهو كذلك إلى الأبد.
هذا هو الحق الحقيق بالتصديق لكنه لا يلائم ظاهر معنى الدفاع، ولا تقسيمهم
الجهاد إلى دفاعي وابتدائي، ولا يزيح علة الخصم في لجاجه وإيقاعه ولا يوافقه
شواهد التاريخ وأدلة الأحكام وعناوين الفقهاء التي كلها منك بمسمع ومرأى، ولو
تركناها على ظاهرها فإن تحقق معنى الدفاع بظاهره يتوقف على سبق الخصم
بالمزاحمة، وعليه فكيف يمكننا أن نقول: إن الفرس والروم زاحموا محمدًا
وصحبه الكرام، عليه وعليهم السلام، وهم في بحبوحة الحجاز حتى أوجب عليه
وعليهم دفعهم إلى حد الصين شرقًا وأفريقية غربًا.
فيا عجبًا من الإفرنج كيف يعدّ احتلال بلاد الإسلام وصلب رجالها واستحياء
نسائها أو ذبح أطفالها لأدنى فائدة اقتصادية ترجع إليهم من دون حق لهم عليه
مشروعًا تمدنيًّا بل دينيًّا، ولا يعدّ ضرب السيف بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة
وتخيير المكلف بين الإسلام ونيل سعادته الأبدية في أعقابه، أو قبول أدنى جزية
وصون حقوقه البشرية في إنجاده مشروعًا دينيًّا إسلاميًّا، مع أن ما هو عليه الآن
من الترقي والتمدن صدقة من صدقات الإسلام عليه بعد ما كان عليه من أخس
مراتب التوحش، أرجو من فضيلتكم السامية بعد تجديد شكري إليكم بسط الكلام في
هذا الموضوع بحيث تزيح علة الخصم مع موافقته لظواهر الآثار.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
خادم الإسلام
…
...
…
...
…
...
…
... محمد حامد البيرجندي
من قطر قاينات من بلاد خراسان
(ج) لا يجهل أحد له نصيب ما من تاريخ الإسلام أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما أظهر دعوته إلى الإسلام عاداه قومه وقاوموه وآذوه هو وكل من آمن به
واتبعه، ولم يعصم دمه ولا دم أحد من أصحابه إلا حماية عشائرهم أو مواليهم لهم
بنعرة النسب أو الولاء وعصبيتهما، وإن تلك الحماية لم تمنع الإيذاء بل اضطرت
قريش أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بأهل بيته مع ابن أخيه من
مكة إلى الشِّعب لإصراره على حمايته وعدم تمكينهم منه، ثم ما زالوا يكيدون
ويمكرون حتى ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه بصفة يضيع بها دمه في
كل القبائل، بأن يختاروا من كل قبيلة رجلاً ليضربوه بسيوفهم في آنٍ واحد،
فأطلعه الله تعالى على كيدهم، وأذن له بالهجرة من بلدهم، راجع تفسير قوله
تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال:
30) هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وهاجر السابقون
الأولون من أصحابه فآواهم إخوانهم الأنصار الذين كانوا أسلموا في موسم الحج
بمكة، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه من كل معتدٍ كما يمنعون
ويحمون أنفسهم وأولادهم، وبذلك صار حربًا للعرب عامة، وأهل مكة خاصة، أي
صاروا يعدونه محاربًا ويعدّهم محاربين بحسب العرف العام في ذلك الزمان، فكان
المؤمنون مع المشركين يومئذ كالعثمانيين مع البلقانيين اليوم، لا يقدر أحد أن ينال
من الآخر نيلاً فيقصر فيه، بل كانت العرب قبل البعثة وفي عهدها في غزو دائم
وقتال مستمر، لا يعصم قبيلة من قبيلة إلا بأسُها وقوتُها، أو المعاهدات التي كانت
تفي بها، فكانت كل قبيلة تتوقع القتال في كل أوان من كل قبيلة ليس بينها وبينها
عهد أو حلاف، فالحرب (معلنة) عرفًا في كل زمان ومكان، إلا ما كان لهم من
التقاليد المتبعة في الأشهر الحرم والبلد الحرام، ومن البين الجليّ أن البدء بالقتال لا
يعدّ من الاعتداء في مثل هذه الحال، ومع ذلك كان المشركون هم الذين يعتدون
على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويحزّبون عليهم الأحزاب، فكان قتاله
صلى الله عليه وسلم كله دفاعًا حتى ما كانت صورته هجومًا، وكانت القاعدة
الأساسية للحرب قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب بالقتال ملكًا، وقد رغبوا إليه في مكة
أن يجعلوه ملكًا عليهم بشرط أن يترك دعوته، وعرضوا عليه كل ما يقدرون عليه
من مال ومتاع، فلم يقبل ذلك وهو في حال الضعف والاحتياج، وكان دفاعه في
أكثر سني الهجرة دفاع الضعف للقوة، إلى أن أظفره الله الظفر الأكبر بفتح مكة،
وأظهر الآيات على حرصه صلى الله عليه وسلم على حقن الدماء وكراهته للقتال،
رضاؤه بصلح الحديبية وهو في قوة ومنعة، على ما في ذلك من الشروط الثقيلة
التي كرهها يومئذ جميع الصحابة، حتى تراءى للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم
خرجوا أو كادوا يخرجون من الطاعة. فالقتال الديني الحقيقي هو ما كان دفاعًا عن
الدعوة وأهلها، أو لحمايتها وحمايتهم في نشرها وتعميمها.
أما غير العرب فلم يتصدَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى قتال الروم منهم
في غزوة تبوك وكان سببها أنه بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام وقدموا
مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين بإغراء متنصرة العرب، ولولا ذلك لما أمر
بالخروج في ذلك الوقت الذي كان المسلمون فيه في عسرة ومجاعة، وقد أدركت
ثمارهم فاضطروا إلى تركها، والحر شديد، والشقة بعيدة، والعدد كثير، ولهذا
كانت هي الغزوة التي ظهر فيها صدق الصادقين ونفاق المنافقين.
على أن نشر الدعوة في ذلك العصر كان متعذرًا بغير قوة يأمن بها الدعاة
على أنفسهم، وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر، والفرس
والعراق قد اعتدوا على بعض أهلها وأخضعوهم لسلطانها، فلما اجتمعت كلمة أكثر
العرب في الجزيرة بجامعة الإسلام، صار أولئك الجيران عدوًّا لهم،
وكان العدو حربًا لعدوه حيث كان، فكان لا مندوحة للمسلمين - والحال ما ذكرنا - أن
يؤيدوا نشر الدعوة بما يستطيعون من قوة، ولكنهم لا يستعملون القوة إلا عند الحاجة
أو الضرورة، فكانوا يعرضون على الناس الإسلام، فإن أجابوا كانوا
مثلهم، وإلا اكتفوا منهم بأخذ جزية قليلة تكون اكتفاء شرهم، وتركوا لهم الحرية
في أنفسهم وأموالهم ودينهم، حتى إنهم لا يجبرونهم على التحاكم إليهم، وإن
تحاكموا إليهم ساووهم في ذلك بأنفسهم، فلم يكن الغرض من هذا إلا أن تكون دعوة
الحق في حماية قوة يمكن بها إظهارها كما يعتقدها ويدين لله بها أربابها، من غير
اعتداء على دين أحد ولا ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده، فهكذا كانت سيرة
الخلفاء الراشدين في فتوحاتهم.
وأما من بعدهم من خلفاء العرب وملوك الطوائف في عهدهم، فقد شاب
فتوحاتهم لنشر دعوة الإسلام شائبة حب سعة الملك وعظمة السلطان، ومع هذا قال
غوستاف لوبون من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران وعلماء التاريخ من الإفرنج:
(ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .
هذا مجمل ما نفهمه من آيات كتاب الله عز وجل، وسيرة نبيه صلى الله عليه
وسلم، وهو مبني على قواعد العدل والرحمة، وما شرع لأجله الدين من إصلاح
الأمة، وهو في الإسلام إصلاح البشر كافةً، ولسنا كغيرنا ممن يغيرون ويبدلون،
ويحرفون ويؤولون لدفع ما يعترض به المعترضون، فإن ديننا ليس كسائر الأديان
التي يدافع عنها أهلها كما يدافع المحامي عن موكله المبطل بتمويه باطله، وتصويره
بغير صورته، وإنما دفاعنا عن ديننا هو إظهار حقيقته، وإزالة ما عرض من
التمويه والتلبيس عليه.
ونحن نعلم أن المعترضين عليه فريقان لا ثالث لهما: الجاهلون بحقيقته،
والمعادون له للعصبية الدينية أو المطامع السياسية، وهؤلاء يطعنون فيما يرونه
من محاسنه بأشد مما يطعنون فيما يتوهمون من مساويه، وغرضهم من ذلك
إضعاف أهله بإزالة ثقتهم به ثم بأنفسهم، ومن ذلك طعنهم في مسألة الجهاد، وهم
لا يطعنون في التوراة التي تأمر باستئصال الأعداء واصطلامهم من الأرض، كما
بينا ذلك في المنار مرارًا، ومن أوضحها ما رددنا به على لورد كرومر.
ولو أن المسلمين عملوا بأحكام القتال كما أمر الله ورسوله لكان سلطانهم في
علو دائم، ومد لا جزر معه، بما يدعمه من العدل والرحمة، مع استكمال أسباب
القوة، فالواجب على الدعوة الإسلامية أن تكون أقوى دول الأرض وأن تقيم دعوة
الإسلام وتحميها بالقوة، وقد يكون ذلك بالدفاع وبالهجوم، مع مراعاة قاعدة:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
أسئلة من الشيخ راغب القباني في بيروت
لقب الإمام
(س) تطلقون على المرحوم الشيخ محمد عبده لقب الأستاذ الإمام،
ونرى بعض المعترضين عليكم يقولون: إن هذا اللقب لا يجوز إطلاقه إلا
على المجتهدين أصحاب المذاهب المتبعة.
(ج) إن هذا اللقب قد أطلقه الناس على كثير من العلماء في القرون
الأخيرة حتى في هذا القرن وما قبله كما ترونه على الكتب المطبوعة في
مصر من تأليف علماء الأزهر وغيرهم الذين لم يدَّعوا ولم يدَّعِ لهم أحد
الاجتهاد ولا كانوا مظنة لدعواه، واشتهر إطلاقه على بعض العلماء في
القرون الوسطى ممن لا يعدونهم من المجتهدين بل يذكرونهم في طبقات
المقلدين كالفخر الرازي الأشعري الشافعي فهو الذي ينصرف إليه لقب الإمام
إذا أطلق في كتب أصول الفقه والكلام والمنطق التي ألفت بعده، وكان تاج
الدين السبكي يطلق على والده لقب الشيخ الإمام كما ترونه في كتبه كجمع
الجوامع، وطبقات الشافعية، وسبقه الرازي إلى ذلك.
* * *
قول الشيخ محمد عبده في الربا
(س) يزعم بعض الناس أن الشيخ محمد عبده فتح بابًا للقول بجواز
الربا إذا كان غير أضعاف مضاعفة.
(ج) نحن ما رأينا هذا الباب فدلونا عليه في كلامه، وبينوا لنا الباطل
منه لننشره للناس لإزالة الالتباس، ونحن نعلم أن بعض أعداء الإصلاح
يطعن في الرجل كذبًا وبهتانًا اتباعًا للهوى، فلا تغتروا بأقوال أمثال هؤلاء
الطاعنين اللاعنين.
* * *
التصوير الحيواني
(س) لم يقنع الناس بالاستدلال على جواز التصوير الحيواني بأن
المعلول يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، فإنهم يقولون: إن العلة لا تزال
موجودةً، فنرغب إليكم بالتفصيل.
(ج) ليس عندنا تفصيل نوافيكم به، ولسنا وكلاء على الناس فيما يرونه
ويعتقدونه، ونحن نعلم أن من الناس مَن هو مقتنع بأن ما شائبة للدين فيه من
أمر هذه الصور والتصوير لا يمس الدين، كالذي يفعله بعض جواسيس
الحرب، وكصور المجرمين التي تستعين بها الحكومة على معرفتهم
وكالصور التي يستعان بها على تعليم التشريح والتاريخ الطبيعي واللغة، فإن
كثيرًا من الحيوانات التي نرى أسماءها في كتب اللغة لا نعرف مسمياتها إذا
رأيناها ما لم نكن رأينا صورها، فإذا كان الناس الذين يعنيهم السائل يقولون:
إن علة تحريم الصور متحققة في هذا الأمثلة جدلاً وعنادًا أو رأيًا واعتقادًا فهم
لا يخاطَبون؛ لأنهم لا يفقهون.
_________
الكاتب: جمال الدين القاسمي
ميزان الجرح والتعديل [*]
(2)
درء وهم واشتباه
يقول بعضهم: إن مسلمًا روى عن ابن عباس أنه قال في نجدة الحروري:
(لولا أن أرده عن نتن يقع فيها ما كتبت إليه ولا نعمة عين) . قال النووي:
كان ابن عباس يكرهه لبدعته وهي كونه من الخوارج.
والجواب: أنه لا يلزم من كراهة الفرد كراهة المجموع، وإلا لما خرَّج
لثقاتهم وعلمائهم الشيخانُ وغيرُهما، وهل يؤخذ الجميع بجريرة الفرد؟ على
أن نجدة ليس من رجال الرواية عند المحدثين، فقد ضعَّفه الذهبي في (ميزان
الاعتدال) وقال عنه: ذكر في الضعفاء للجوزجاني، على أن الحال وصل
إليه في قومه أن يختلفوا عليه وينبزوه بالكفر كما تراه في كتاب (الفرق)
للإمام أبي منصور البغدادي، والملل والنحل للشهرستاني وغيرهما، فلا نعمة
عين - كما قال ابن عباس - ولو كان يُكره كل خارجي لبدعته لما أخرج
لأثباتهم أئمةُ السنة في الصحاح والمسانيد، ويكفي أن الإمام مالكًا رضي الله
عنه عُدَّ ممن يرى رأيهم، كما رواه الإمام المبرد في كامله [1] . ومن عزا لك
ما يأثره، وأراك مصدره، فقد أوقفك من المسالك على الصراط المستقيم.
ومن الغريب أن يستدل بعضهم على معاداة المُبَدَّعين بأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خُلفوا، ورفض تكليمهم حتى تِيبَ عليهم، مع
أنه لا تناسب بين دليله والدعوى بوجه ما؛ لأن البحث في الرواة المجتهدين
الثقات المتقنين الذين ما نبذ السلف مرويهم لرأي رأوه أو مذهب انتحلوه، فهل كان
المخلفون كذلك؟ وما المناسبة بين قوم هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم لذنب
محقق اعترفوا به حتى تيب عليهم، وقوم لا يرون ما هم عليه إلا طاعة وعقدًا
صحيحًا يدان الله به، وتنال النجاة والزلفى بسببه؟ فالإنصاف يا أولي الألباب
الإنصاف، وحذار من الجري وراء التعصب والاعتساف.
غريب أمر المتعصبين والغلاة الجافين، تراهم سراعًا إلى التكفير
والتضليل والتفسيق والتبديع، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا
ما دعا إليه الحسد، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم، وجهل مشرب
البخاري ومسلم، وأصحاب المسانيد والسنن هداة الأمة، ولا قوة إلا بالله.
* * *
ثمرة الرفق بالمخالفين
قال بعض علماء الاجتماع: يختلف فكر عن آخر باختلاف المنشأ والعادة
والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في
مسائل الدين والدنيا، ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين
بفكره، ويعتقد أنه يعمل صالحًا ويسدي معروفًا وينقذ من جهالة ويزع
عن ضلالة، ومن العدل أن لا يكون الاختلاف داعيًا للتنافر ما دام صاحب
الفكر يعتقد ما يدعو إليه، ولو كان على خطأ في غيره؛ لأن الاعتقاد في
شيء أثر الإخلاص، والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى؛
ليتغلب عليه بالبرهان، لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام، وما ضر
صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا،
ويراه غيره خطأً، أو يقرب منه، وفي ذلك من امتثال الأوامر الربانية، والفوائد
الاجتماعية ما لا يحصى، فإن أهل الوطن الواحد لا يحيون حياة طيبة إلا إذا
قل تعاديهم، واتفقت على الخير كلمتهم، وتناصفوا وتعاطفوا، فكيف تريد مني أن
أكون شريكك، ولا تعاملني معاملة الكفؤ على قدم المساواة؟
دع مخالفك - إن كنت تحب الحق - يصرح بما يعتقد، فإما أن يقنعك
وإما أن تقنعه، ولا تعامله بالقسر، فما قط انتشر فكر بالعنف، أو تفاهم قوم
بالطيش والرعونة، من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن
يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه؛ لأن ذلك من طبع البشر مهما
تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم.
وبعدُ فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون، هو من أهم العوامل في
رقيّ البشر، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها
في كل مجتمع، والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لا
العالمين، والمهوسين لا المعتدلين. اهـ مع تلخيص وزيادة.
ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ
إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة: 83) وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها.
* * *
حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين
لما استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف
الأولى من الهجرة ضجت عقلاء الفقهاء، وصوبت سهام الردود في وجوه زاعمي
ذلك، حتى قالت الحنفية - عليهم الرحمة - ما معناه: (لو أمكن أن يُكفَّر المرء في
أمر من تسعة وتسعين وجها، ومن وجه واحد لا يكفر؛ يُرجَّح عدم التكفير على
التكفير لخطره في الدين) .
ولم يشتد الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله والإرجاف به في عصر من
العصور مثل القرن الثامن للهجرة، ومن سبَر تاريخ الحافظ ابن حجر المسمى
(بالدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) أخذه من ذلك المقيم المقعد؛ إذ يرى
أن العالم الجليل الذي هو زينة عصره وتاج دهره، كان لا يأمن على نفسه
من الإفك عليه والسعاية به فيما يكفره ويحل دمه، حتى صار يخشى
على نفسه من أخذت منه السن، وأقعده الهرم، وأفلجته الشيخوخة، ولا من
راحم أو منصف - كما تقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام
النووي، وأنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دائمًا وثيقة أحد
القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره، ولقد أريقت دماء محرمة،
وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان
أعوامًا وسنين، حتى عج لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض
والسموات، بكشف هذه الغمم والظلمات، ولم يزل سبحانه يملي لها
ويستدرجها في غيها، ولم تحسب للأيام ما خبئ لها في طيها، إلى أن امتلأ
إناؤها، وحان حصدها وإفناؤها، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة، ودارت
على دولتها الدائرة، ومحق الله بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة، وأورثها
للدولة الصالحة العاقلة، فأمَّنت الناس على أنفسها ودمائها، وذهبت عصبة الجمود
بزبدها وغثائها.
سيقول بعض الناس ممن تغره القشور، ولم تقف مداركه على لباب روح
العصور: إن تلك الدماء المراقة والأرواح المهدرة، لم يحكم عليها إلا
بالبينة والشهود، التي بمثلها تقام الحدود، وهل بعد ذلك من ملام أو جحود؟
يقول ويجهل أو يتجاهل أن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة، أو الإيقاع بالشبهة،
وأن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنُّ الأجر بنصرة الدين بقتل
هؤلاء المساكين، لا سيما إذا دُفعوا بتشويق المتصولحين والمتمفقرين [2] ،
والحشوية البكائين، احتيالاً وقنصًا للمغفلين.
ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالين المضلين الإغراء بقتل
الداعين إلى الكتاب والسنة، والمجاهدين في الإصلاح العاملين، على أن
قاعدة المحققين هي عدم البتّ في أمر تاريخي إلا بعد تعرفه من أطرافه، ومراجعة
عدة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته، والإشراف على غثه وسمينه، ووزنه
بميزان العقول السليمة، والقواعد الاجتماعية المعقولة، كما أشار إليه الإمام ابن
خلدون في مقدمته.
نحن لم نصِم أعمال أولئك بالظلم والجور والبغي إلا لما فضح نبذًا منها
الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب (البهجة، واللامية، والديوان،
والمقامات) فقد شفى بالحقيقة الأوام، وأوضح عن مكر أولئك بالتمويه
والإيهام في مقالة بديعة أنشأها في القاضي الرباحي المالكي [3] سماها
(الحرقة للخرقة) . ولا بأس بنقل جمل منها تأييدًا لما قلناه، قال رضي الله عنه:
أما بعد، حمدًا لله الذي لا يحمد على المكاره سواه، والصلاة والسلام على
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاف مقام ربه وعصم من اتباع هواه،
وعلى آله وصحبه الذين بذل كل منهم في صون الأمة قواه، وسلمت صدورهم
من فساد النيات، وإنما لكل امرئ ما نواه، فإن نصيحة أولي الأمر تلزم،
والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم، والمتكلم لله تعالى مأجور،
والظالم ممقوت مهجور، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة،
والنثر والنظم للذَّب عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة، وجرحة الحاكم
الأعراض بالأغراض صعبة؛ إذ نص الحديث النبوي: أن حرمة المسلم أعظم
من حرمة الكعبة، ومخرق خرقته مذموم، ولحم العلماء مسموم، وهذه
رسالة أخلصت فيها النية، وقصدت بها النصيحة للرعاة والرعية، أودعتها
من جوهر فكري كل ثمين، وناديت بها على هزيل ظلم أبناء جنسي مناداة
اللحم السمين، لكن جنبتها فحش القول؛ إذ لست من أهله، وخلدتها في ديوان
الدهر شاهدة على المسيء بفعله، ورجوت بها الثواب، نصرة للمظلوم،
وغيرة على حملة العلوم، وسميتها:(الحرقة للخرقة) فقلت: اعلموا يا ولاة
الأمر، ويا ذوي الكرم الغمر، أبقاكم الله بمصر [4] للأمة، ووفقكم لدفع الإصر
وبراءة الذمة، أن حلب قد نزعت للزبدة، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي
في خسر وشدة، قاضٍ سلب الهجوع وسكب الدموع، وأخاف السرب، وكدَّر
الشرب، بجراءته التي طمت وطمت، وعَمايَته التي عمت وغمت، وفتنته
التي بلغت الفراقد، وأسهرت ألف راقد، ووقاحته التي أدهشت الألباب، وأخافت
النطف في الأصلاب، فكم لطخ من زاهد، وكم أسقط من شاهد، وكم رعب
بريًّا، وكم قرب جريًّا، وكم سعى في تكفير سليم، وكم عاقب بعذاب أليم،
وكم قلب ذائب، بنائبة توسط بها عند النائب، فامتنعت الأمراء عن
الشفاعة، وظنوا هم والنائب أن هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة:
يا حامل النائب في حكمه أن يقتل النفس التي حرمت
غششته والله في دينه بشراك بالنار التي أضرمت
(إلى أن قال الزين ابن الوردي) : ثم إنه فسق مفتيًا في الدين، وفضح
خطيبًا على رؤوس المسلمين، ثم قال: يحب إثبات الردة والكفر كحب الدنانير
الصفر.
حاكم يصدر منه
…
خلف كل الناس حفر
يتمنى كفر شخص
…
والرضا بالكفر كفر
(ثم قال) : إذا وقع عنده عالم فقد وقع بين مخالب الأسود، وأنياب
الأفاعي السود:
أدركوا العلم وصونوا أهله
…
من جهول حاد عن تبجيله
إنما يعرف قدر العلم من
…
سهرت عيناه في تحصيله
ثم قال: ما أقدره على السفير، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير، كم
دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب، ونراه حيران لعدم الرقة، فإذا قيل له:
فلان قد كفر، طاب، يحبس على الردة بمجرد الدعوى، ويقوي شوكته على
أهل التقوى، قد ذلل الفقهاء والأخيار، وجرأ عليهم السفهاء والأغيار:
يحبس في الردة من
…
شاء بغير شاهد
لا كان من قاضٍ حكى الـ
…
ـفقاع جد بادر
أراح الله من تعرضه، وصان عراض الأعراض من تعرضه، يقصد
بذلك أهل الدين، والقراء المجودين:
جرحت الأبرياء فأنت قاضٍ
…
على الأعراض بالأغراض ضاري
ألم تعلم بأن الله عادل
…
(ويعلم ما جرحتم بالنهار)
هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية،
وكلها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصب قضاة ذلك الوقت، ولا سيما
المالكية منهم، ولقد كان قضاة المذاهب يحيلون الأمر في التعزير والتأديب إلى
القاضي المالكي لما اشتهر في الفقه المالكي من مضاعفة النكال، وشدة التأديب في
باب التعزير؛ إذ بسط للقاضي يده فيه بسطًا لم يوجد في مذهب غيره، فلذا كان
محبو الانتقام والتشفي يعمدون إلى إحالة القضية إلى القاضي المالكي؛ لما يعلمون
ما وراء قضائه، مما فصل بعضه الإمام ابن الوردي كما قرأت، على أن الأمر في
التعصب لم يقف عند القاضي المالكي وحده لنتعصب ضده، وإنما كان هو الأقوى
تعصبًا والأشد تصلبًا، وإلا فإن مظهر ذاك العصر كان التعصب لجميعهم، فقد حكى
الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في مقدمة طبقاته الكبرى المسماة بلواقح الأنوار ما
مثاله: وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة أن
شخصًا وقع في عبارة موهمة للتكفير، فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أرادوا قتله
قال السلطان جقمق: هل بقي أحد من العلماء لم يحضر؟ فقالوا: نعم، الشيخ جلال
الدين المحلي شارح المنهاج، فأرسل وراءه فحضر، فوجد الرجل في
الحديد بين يدي السلطان، فقال الشيخ: ما لهذا؟ قالوا: كفر، فقال: ما مستند من
أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني من مشاهير الشافعية، وقال: قد أفتى
والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير، فقال الشيخ جلال
الدين رضي الله عنه: يا ولدي أتريد أن تقتل رجلاً مسلمًا موحدًّا يحب الله ورسوله
بفتوى أبيك؟ حلوا عنه الحديد، فجردوه، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج
والسلطان ينظر، فما تجرأ أحد يتبعه رضي الله تعالى عنه.
وقد عد الشعراني من الأعلام الذين أكفرهم الجامدون المتعصبون ما
يقرب من الثلاثين، فمنهم القاضي عياض، اتهموه بأنه يهودي؛ لملازمته
بيته للتأليف نهار السبت، وذكر أن المهدي قتله.
ومنهم الإمام الغزالي كفره قضاة المغرب وأحرقوا كتبه، ومنهم التاج
السبكي رموه بالكفر مرارًا، وسجن أربعة أشهر [5] ، وكل هذا إنما كان بزعم
المتعصبين بشهادات وأقضية وفتاوى، ولكن سرعان ما فضحهم التاريخ
وكشف عوارهم، كما حكاه الشعراني وغيره، والحمد لله الذي جعل الباطل
زهوقًا.
وهكذا يمر بتواريخ تلك القرون ما لا يحصى من حوادث من أقيمت عليهم
الفتن، واتهموا بما اتهموا به، مع أن الحدود تدرأ بالشبهات، ونعني بالحدود ما نص
عليه في الكتاب العزيز والسنة الغراء، فإذا كانت في تلك المكانة وقد شرع
فيها محاولة درئها بالشبهات، فكيف بحدود لا سند لها إلا بالاجتهاد، وليس لها أصل
قاطع، ولا نص محكم، فلا ريب أنها أولى بالدرء، وأجدر بالدفع، ولا يدري
المرء ما الذي حملهم على نسيان هذه الموعظة حتى عكسوا القضية، وأصبحوا
يكبرون الصغير، ويعظمون الحقير، ويهولون الأمور، ويدعون بالويل والثبور،
مما لا يقومون بعشره للمنكرات المجمع عليها، والكبائر التي يجاهَر بها، فلا حول
ولا قوة إلا بالله.
ولما تشددت القضاة المالكية في هذا الباب، أصبحوا هدفًا لأولي الألباب،
حتى قال الإمام ابن الوردي في ذاك القاضي المتقدم الرباحي: إن المالكية
بدمشق كتبوا إليه: يا مغلوب، لقد بغضت مذهب مالك إلى القلوب، وقطعت
المذاهب الأربعة عليه بالخطا، وزالت بهجته عند الناس وانكشف الغطا، إلخ.
والسبب في ذلك ما ابتدعه الملك الظاهر برقوق من توظيف قضاة أربعة
على المذاهب الأربعة مما لم يعهد قبله في دولة من الدول، حتى نشأ من ذلك
ما نقمه عليه الأعلام، وعدوه من التفرقة في الإسلام، قال التاج السبكي في
طبقاته [6] ، في ترجمة قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب
ابن بنت الأعز الشافعي المتوفى سنة 566، ما مثاله: وفي أيامه جدد الملك
الظاهر القضاة الثلاثة في القاهرة، ثم تبعتها دمشق وكان الأمر متمحضًا
للشافعية، فلا يعرف أن غيرهم حكم في الديار المصرية منذ وليها أبو زرعة
محمد بن عثمان الدمشقي في سنة 284 إلى زمان الظاهر إلا أن يكون نائب
يستنيبه بعض قضاة الشافعية في جزئية خاصة، وكذا دمشق لم يَلِهَا بعد أبي
زرعة المشار إليه إلا شافعي غير التلاشا عوني التركي، الذي وليها يويمات
وأراد أن يجدد في جامع بني أمية إمامًا حنفيًّا، فأغلق أهل دمشق الجامع،
وعزل القاضي [7] .
(قال السبكي) : واستمر جامع بني أمية في يد الشافعية، كما كان في
زمن الشافعي رضي الله عنه، قال: ولم يكن يلي قضاء الشام والخطابة
والإمامة بجامع بني أمية إلا من يكون على مذهب الأوزاعي إلى أن انتشر مذهب الشافعي، فصار لا يلي ذلك إلا الشافعية. ثم قال السبكي: وقد حكي أن الملك
الظاهر رؤي في النوم فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: عذبني عذابًا شديدًا بجعل
القضاة أربعة، وقال: فرقت كلمة المسلمين. اهـ.
ولا يخفى على ذي بصيرة ما حصل من تفرق الكلمة، وتعدد الأمراء
واضطراب الآراء، وقد قال أبو شامة لما حكى ضم القضاة، أنه ما يعتقد أن
هذا وقع قط. قال السبكي: وصدق فلم يقع هذا في وقت من الأوقات، قال:
وبه حصلت تعصبات المذاهب، والفتن بين الفقهاء، فإنه يؤيد ما قدمناه من
اتخاذ هذه آلة للفتن والتشفي من المخالفين، حتى أدال الله من تلك الدولة
للسلطان سليم خان، فنسخ كل ذلك، وقصر الأمر على قاضٍ حنفي واحد،
ولا ريب أن هذا كان من النعم الكبيرة، إذ قمعت به فتن خطيرة، وحسمت به
شرور وفيرة، نعم لم يزل في الأمر حاجة إلى الكمال، وهو سعي أولي الحل
والعقد بعقد مؤتمر علمي من كبار فقهاء المذاهب المعروفة، وتأليف مجلة
تستمد من فقه سائر الأئمة الأربعة وغيرهم مما فيه رحمة ويسر، ومشى مع
المصالح والمنافع، ودفع المضار في أبواب المعاملات، فبذلك تظهر محاسن
الدين في الأقضية والأحكام، ويعرف أنه دين المدنية في كل زمان ومكان إلى
قيام الساعة وساعة القيام، وإن اليوم الذي تتحقق فيه هذه الأمنية لهو أسعد الأيام،
والمستعان بالله ذي الجلال والإكرام اهـ.
_________
(*) لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
(1)
جزء 2.
(2)
المتمفقر: كالمتمسكن مدعي الفقر، أي: التصوف، وليس من أهله.
(3)
راجعها في ص (190) من المجموعة الأدبية التي طبعت في مطبعة الجوائب عام (1300) ، مشتملة على لامية العرب وشرحها وشرح المقصورة الدريدية، وديوان ابن الوردي، وديوان الخشاب ورسائله.
(4)
كانت مصر في عهد المؤلف، وهو القرن الثامن: عاصمة دولة المماليك.
(5)
ذكر السبكي محنته هذه في آخر منظومة له في الفقه، عندي الكراسة الأخيرة منها.
(6)
جزء (5) ص (134) .
(7)
تأمل هذا التعصب واسترجع وحوقل، أين غاب عنهم فضل سائر الأئمة المبتوعين الأربعة وغيرهم، وكيف نسوا أن الناس عيال عليهم، تستمد من بركة فقههم واستنباطهم وتأصيلهم وتفريعهم؟ ما أجمد قومًا يزعمون أنهم تعبدوا بمذهب واحد، أو اتباع إمام واحد، أوَ ما علموا أن كلهم من رسول الله ملتمس، وأن الله تعالى إنما تعبَّد الناس بتنزيله الكريم وهدي نبيه المعصوم.
الكاتب: أحمد عمر الإسكندري
…
...
…
...
…
نظرة في الجزء الثاني من كتاب
تاريخ آداب اللغة العربية [*]
(2)
الخطأ في النقل
قد أخطأ المؤلف في نقل عبارات المؤلفين إما بتصرفه فيها تصرفًا أفسد
معناها، وإما بتحريف الكلم، وإما بنقلها عن نسخة محرَّفة من غير تمحيص
لها، فمن ذلك:
(1)
قوله في ترجمة سلم الخاسر: هو سلم (ويقال سالم) ابن عمرو،
أحد موالي أبي بكر الصديق.
فسالم الخاسر هو (سَلْم) بفتح السين وسكون اللام، فمن أين جاء
للمؤلف أن يقال في اسمه: سالم أيضًا، وليس سلم مجهولاً حتى يشتبه في
اسمه.
منشأ هذا التحريف الذي وقع فيه المؤلف أن نسخة تاريخ ابن خلكان
المطبوعة كتب فيها (سلم) بألف توهمًا من الناسخ الأصلي أن الألف محذوفة
كما تحذف في (القسم والحرث) فأثبتها وطبعت النسخة على هذه الصورة
خطأً، وفي نسخة ابن خلكان هذه ذكر اسم (سلم) منظومًا في الشعر في قول
أبي العتاهية له:
تعالى الله يا سلم بن عمرو
…
أذل الحرص أعناق الرجال
ونحن لا نشك أن المؤلف قرأ ترجمة (سلم) في (الأغاني) وفيها وقع
اسمه منظومًا في غير موضع، فمن ذلك قول أبي العتاهية:
إنما الفضل لسلم وحده
…
ليس فيه لسوى سلم درك
وله فيه وقد حبس إبراهيم الموصلي:
سلم يا سلم ليس دونك سر
…
حبس الموصلي فالعيش مر
وقول أبي محمد اليزيدي فيه:
عق سلم أمه صغرًا
…
وأبا سلم على كبره
ومن هجاء أبي الشمقمق فيه:
* يا أم سلم هداك الله زورينا *
وقول مروان بن أبي حفصة فيه:
أسلم بن عمر وقد تعاطيت غايةً
…
تقصر عنها بعد طول عنائكا
وقول أشجع السلمي يرثيه:
يا سلم إن أصبحت في حفرة
…
موسدًا تربًا وأحجارًا
فرب بيت حسن قلته
…
خلفته في الناس سيارًا
فهو عند هؤلاء الشعراء المعاصرين له اسمه (سلم) فحسب، ويجوز
عند مؤلفنا وناسخ ابن خلكان أن يُسمى (سالمًا) أيضًا، فليختر القارئ لنفسه ما
يحلو.
(2)
ومن خطئه في النقل قسمه اسم رجل واحد على مسميين، فذكر
في ترجمة الصولي (ص175) أن له كتابًا اسمه الأوراق وهو في دار
الكتب الخديوية، وذكر ممن ترجم له هذا الكتاب أحمد بن يوسف بن صبيح،
فقال: (وأحمد بن يوسف وزير المأمون وآله، وابن صبيح كاتب دولة بني
العباس، وتوقيعات أحمد المذكور وكلامه فضلاً عن أشعاره) .
والحقيقة أن الثاني هو عين الأول، ومن يراجع الكتاب يعرف ذلك.
وهو أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح، ويتبين هذا أيضًا من خلال كلام
مؤلفنا؛ إذ ذكر أحمد ثم ابن صبيح ثم قفَّى بذكر توقيعات أحمد ورسائله
وشعره.
فلو كان ابن صبيح غير أحمد، فما الداعي لفصل توقيعات أحمد عن
ترجمته؟
ولو فرضنا أن المؤلف يريد بابن صبيح جده القاسم، فذلك لم يكن كاتب
دولة بني العباس، بل كان يكتب لبني أمية وللمنصور في بدء خلافته، ولم
تطل أيامه، وليس هناك في الكتابة، وإنما ذكره الصولي مع من ذكره من آل
أحمد بن يوسف.
(3)
ومن خطئه في النقل بتصرفه في عبارة المؤلفين قوله في ترجمة
ابن الرومي صفحة 158:
(اشتهر بالتوليد في الشعر؛ لأنه أتى بكثير من المعاني لم يسبق إليها،
ومن مميزاته أنه لا يترك المعنى حتى يستوفيه، ويمثله للقارئ تمثيلاً) .
ومن عبارة المؤلفين في ذلك ما قاله صاحب معاهد التنصيص:
(هو أبو الحسن.. . صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب يغوص
على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن قالب، وكان إذا
أخذ المعنى لا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية) .
وقال ابن خلكان: (صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على
المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها، ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك
المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية) .
فترى أن عبارة ابن خلكان أجود في تصوير الشاعر، وعنه نقل صاحب
معاهد التنصيص مع تغيير قليل.
فرأى مؤلفنا أن ينقل عنهما بتغيير آخر، ولكن تغييره شذ عن مرادهما
فهما يقصدان بقولهما: (صاحب التوليد الغريب) أنه إذا استنبط معنًى من
قرآن أو حديث أو حكمة أو مثل أو من كلام شاعر آخر، أو اخترعه اختراعًا
لا يزال يولد منه معاني متشاكلةً بالزيادة عليه أو النقص منه، أو بالقياس عليه
فيستعمله في مدح ويقلبه في هجو ويزينه في وصف حتى لا يدع لغيره وجهًا
أيًّا كان يستعمله فيه بعد، وقد فسر المؤلفان غرضهما في عبارتهما بقولهما:
(يغوص على المعاني.. .) إلخ.
ففهم مؤلفنا من التوليد أنه يأتي بمعانٍ لم يسبق إليها، مع أن ابن الرومي
كثيرًا ما يُغِيرُ على قول غيره، وفهم من قولهما: (وكان إذا أخذ المعاني
…
) إلخ،
أنه يوضح المعنى، ويمثله تمثيلاً، وما كان عليه لو نقل عبارة المؤلفين
كما فعل في أكثر مواضع الكتاب.
(4)
ومن تقصير المؤلف في توضيح ما ينقله ما نقله عن السيوطي ـ
ناقلاً عن كتاب العين، ومختصر الزبيدي ـ إحصاء المستعمل من الألفاظ العربية
والمهمل منها، فاستخرج المؤلف من كلام الزبيدي جدولاً استنتج منه أن عدد
المستعمل من ألفاظ اللغة العربية 5620 لفظًا، مع أن كتاب القاموس وحده،
وهو ليس إلا قطرةً من بحر اللغة العربية، يشتمل على ستين ألف مادة، متوسط ما
في كل منها من المزيد والمشترك عشرون كلمة على الأقل، أي نحو مائتي ألف وألف
ألف كلمة، فكيف ولسان العرب به ثمانون ألف مادة، متوسط ما في كل منها
ثلاثون كلمة على الأقل.
والمؤلف نقل عبارة الزبيدي عن المزهر للسيوطي، وهي فيه مختلة
أيضًا أسقط منها النساخ كلمة (ألف) المكررة في عدد المهمل والمستعمل
فصار فيها ألف الألف (أي المليون) ألفًا فقط، ويعرف هذا بمراجعة مقدمة
شارح القاموس، فإنه نقل عبارة الزبيدي أيضًا، وفيها مكان الألف في بيان
المهمل والمستعمل (ألف ألف) وإن وجد بها بعض تحريف أيضًا، فكان جديرًا
بالمؤلف أن يزن العبارة بميزان عقله، ويعدلها - إذا شاء - كما عدل الأرقام
التي ذكرها المزهر؛ لتصح له عملية الجمع.
(5)
ومن تحريف المؤلف بنقل عبارة المؤلفين ناقصة ما نقله في
ترجمة المتنبي في قوله: (حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان،
وفي وسطه سيف ومنطقة، ويركب بحاجبين من مماليكه، وهما بالسيوف
والمناطق، فلما رأى كافور منه سموّه بنفسه وتعاليه بشِعْره خافَه، وقال: يا
قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ألا يدَّعي المُلك مع
كافور؟ فحسبكم. فأغضبه فخرج أبو الطيب من مصر.
والمتأمل في هذه العبارة يجد أن قول كافور: يا قوم.. . إلخ، مقتضب
مما قبله بل هو تتمة لكلام محذوف، وهو الواقع فإن كافورًا كان وعده بولاية
بعض أعماله، وطمع المتنبي في ذلك، واستنجزه وعده في شعره مرارًا وهو
يماطله، فعاتبه بعض كبار الدولة في مطله عن إبلاغه أمنيته على كثرة مدحه
له وهجرته إليه مغاضبًا لسيف الدولة فقال كافور: يا قوم.. . إلخ.
* * *
عدم تحري الحقيقة والصواب
اعتاد المؤلف أن ينقل إلى كتبه ما يعتقده بذاته، أو ما يكون ذائعًا على ألسنة
عامة القراء والوراقين، أو يقرؤوه في الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها،
من غير تمحيص لحقيقتها؛ حرصًا على إفادة القراء وإتحافهم بالغرائب،
وهو اجتهاد يشكر عليه؛ لولا ما يشوّه بهذه الأخبار محاسن كتبه من حيث لا
يقصد، وربما يلتمس له في ذلك عذر، وهو تسرعه في تأليف الكتب تعجيلاً
لفائدتها، وأن التحري والبحث والتحقيق والتدقيق كلها تستدعي أزمانًا طويلة
ومراجعةً لكثير من الكتب، ومساءلةً لجمهور الأدباء، وهو ما يضيق دونه
وقته الثمين، وعامة القراء يرضيهم ما دون ذلك، والمستفيد يتوخى أربح
الطريقين (وَلِكُلٍّ وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)(البقرة: 148) .
ولكن الرأي الذي نراه أنه ينبغي لكل من تعرض لتدوين التاريخ في
السياسة أو الأدب ألَاّ يكتفي برواية كتاب واحد أو كتابين وبما يذيع على ألسنة
الناس، بل يجب عليه تحقيق الخبر وتمحيصه والأخذ بالرواية القريبة من
العقل، واللائقة بمنزلة من روي عنهم.
ويوجد في هذا الكتاب كثير من الأخبار التي اغتر المؤلف بنقلها من
الكتب ولم يمحصها، فمن بعض ذلك:
(1)
نقله عبارة ابن خلكان التي نقلها مثل المؤلف كثير من الناقلين من
أن الأمين جمع بين سيبويه والكسائي في مجلسه للمناظرة، وأن الكسائي
زعم أن العرب تقول: (كنت أظن الزنبور أشد لسعًا من النحلة فإذا هو إياها) .
وأن سيبويه قال: إن المثل: (
…
فإذا هو هي) وأن الأمين تعصب لأستاذه
الكسائي وأوعز سرًّا إلى أعرابي حكَّمُوه في المسألة أن يصوب الكسائي
ويخطئ سيبويه.
مع أن المسألة مشهورة في كتب الأدب والتاريخ والنحو من أن المناظرة
جرت في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وأن الكسائي كان يجيز الوجهين، أي:
(فإذا هو هي) و (فإذا هو إياها) وأن أعرابًا عدة معروفين بعينهم
وأسمائهم شهدوا بجواز الأمرين، وأن الغلبة كانت على سيبويه في هذا المقام،
وليس في العلم كبير. وهذا ما يليق بمقام الكسائي والأمين وثقات رواة
الأعراب.
والقصة مبسوطة بالتفصيل في معجم الأدباء لياقوت ص 191 ج 5 في
ترجمة الكسائي، وفي ص 81 ج6 ولم يكمل طبعه، ولكن ما طبع اطلعت
عليه، وفيه ترجمة سيبويه، وفي ص 366 من بغية الوعاة في طبقات النحاة،
وفي مبحث (إذا) من الجزء الأول من مغني اللبيب لابن هشام وفي غيرها
من الكتب غير المطبوعة، وفي أكثرها إعراب الوجه الثاني من الوجهين
اللذين يجوِّزهما الكسائي، وأن البصريين أنفسهم لا ينكرون صحة شهادة
الأعراب الثقات، وإنما يطعنون فيهم بأنهم من أعراب الحطمة، أي أنهم ليسوا
فصحاء، ولولا طول هذه القصة لأوردتها من كثير من الكتب التي تخالف ابن
خلكان في النقل، وربما اطلع عليها المؤلف ولكنه آثر روايته؛ إما لغرابتها
أو لغرض آخر.
(2)
ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة والصواب قوله في
ص 146 في تعداد كتب الواقدي:
-2 - كتاب فتوح الشام: هو أشبه بالقصص منه بالتاريخ؛ لما حواه من
التفاصيل والمبالغات؛ لكنه مؤسس على الحقيقة. وفيه حقائق لا توجد في
سواه من كتب الفتوح، وقد طبع مرارًا إلى أن قال: وطبع أيضًا في مصر
سنة 1882 وغيرها.
ثم بعد أن ذكر عدة كتب له قال:
-7 - عدة كتب في الفتوح تنسب إليه كفتح منف والجزيرة والبهنسا طبعت
بمصر وغيرها، وكان له كتاب يسمى فتوح الأمصار لم نقف عليه، ولكن
المؤرخين نقلوا عنه. وأكثر كتبه محشوة بالمبالغات لا يُعول عليها، وفي مجلة
المشرق البيروتية مقالة انتقادية في الواقدي ومؤلفاته (صفحة 936 سنة 10)
جزيلة الفائدة.
أقول: إني لم أطلع على مجلة المشرق ولا على انتقادها، ولكن الأمر لا
يجهله من له أدنى إلمام بتمييز كتابات العصور المختلفة أو بالتاريخ أن كتب
المغازي التي تطبع في مصر من مثل فتوح الشام ومصر والبهنسا وفتح خيبر
وفتح مكة، ورأس الغول ونحوها ـ هي من الكتب الموضوعة الخيالية المشتملة
على بعض حقائق تاريخية، والأقرب أنها وضعت هي وقصة عنترة وذات
الهمة وغيرها زمن الحروب الصليبية؛ لتغرس في الناس فضيلة الشجاعة
والاقتداء بالسلف الصالح، لا أنها هي نفس كتب الواقدي الحقيقية، وإن الذين
سموها بهذه الأسماء هم جماعة الوراقين والنساخين؛ لترويج سلعهم عند
القراء، كما نسب مؤلف قصة عنترة وروايتها إلى الأصمعي، وزعم أنه عمر
وأدرك الجاهلية وقابل شيبوبًا أخا عنترة، وإني لأخجل أن أرى مثل مؤلفنا قد
انخدع بهذا الباطل، وطوح به الأمر أن قال في كتب الواقدي أبي التاريخ: إنها
محشوة بالمبالغات لا يعول عليها، وليت شعري على من نعول في تاريخ الفتوح
إذا لم نعول عليه وهذا ابن سعد كاتب الواقدي وتلميذه نقل عنه أكثر أخبار الفتوح
في كتابه الكبير طبقات ابن سعد، البالغ بضعة عشر مجلدًا، وهو أصح كتاب
في طبقات الصحابة.
على أن المؤلف لو راجع عبارة بعض هذه الكتب المنحولة للواقدي
وبعض الكتب الأخرى الصحيحة النسبة إليه كفتح إفريقية وفتح العجم؛ لميز
بين الصحيح والموضوع، ولكن قاتل الله العجلة، وخاصة العجلة في
التأليف.
(3)
ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة: نقله ما يقول بعض
خصوم الجاحظ من الصفاتية وأهل السنة من أنه كان يقول: إن القرآن المنزل من
قبيل الأجساد، وإنه يمكن أن يصير مرة رجلاً ومرة حيوانًا إلخ إلخ،
والجاحظ أعقل من أن تنسب إليه هذه المقالة وهو من علمت، ومذهب
المعتزلة مبسوط معروف في كتب الكلام، ولم يسمع عنهم هذا القول،
والجاحظ لسانهم وحجتهم والمؤيد لمذهبهم، وإنما أخذ أعداؤه هذا من قوله في
القرآن: إنه مخلوق، أي كما تخلق بقية الموجودات من إنسان وحيوان. وترجمة
الجاحظ ذكرت في كثير من الكتب، وأخصها ترجمة ياقوت في معجم الأدباء،
وهي نحو 25 صفحة، ولا توجد فيها هذه الفرية، ولا أعرف المؤلف
نقلها عن غير الشهرستاني أو عمن نقل عنه.
* * *
التناقض
ناقض المؤلف نفسه في كثير من مواضع كتابه، فمن ذلك:
(1)
قوله في صفحة (159) : (ويمتاز ابن الرومي بتفضيله المعنى
على اللفظ كالمتنبي فيطلب صحة المعنى ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ
وقبحه وخشونته، ومع ذلك فإنك تجد في نظمه سهولة ومتانة) .
قرأنا هذه العبارة فتعجبنا من تناقضها ولمحنا في أثنائها رقمًا يشير به إلى
الذيل من أنه أخذ هذه العبارة من العمدة لابن رشيق (ج 1 ص 82) فراجعنا العمدة
فإذا فيها: (ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته ولا يبالي
…
) إلخ.
ولم يذكر العبارة التي زادها مؤلفنا من عنده، فأوقع نفسه في التناقض كما أوقع
قارئ كتابه في حيرة.
(2)
ومن تناقض كلام المؤلف قوله في صفحة 123 في تعرضه
لكتاب العين: (ولم ينبغ نحويّ ولا لغويّ ولا أديب في عصر الخليل وما يليه
إلا استفاد من كتابه، ولكن الثقات الباحثين مختلفون في حقيقة نسبته إليه،
وفي صحة ما جاء فيه من الروايات والأقوال، من ذلك ما رواه ابن النديم في
الفهرست عن ابن دريد قال: (وقع في البصرة كتاب العين سنة ثمانٍ وأربعين
ومائتين قدم به وراق من خراسان وكان في ثمانية وأربعين جزءًا فباعه
بخمسين دينارًا، وكان قد سمع بهذا الكتاب أنه في خزائن الظاهرية حتى قدم
به هذا الوراق) .
فأنت ترى من هذه العبارة أن الكتاب اشتهر في عصر الخليل حيث لم
ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصره إلا استفاد منه على زعم المؤلف،
ولكن لا تكاد تفرغ من قراءة هذه الجملة حتى تقع في أن الثقات الباحثين
مختلفون في نسبته للخليل، وفي صحة ما فيه، فليت شعري من هم هؤلاء
الثقات الباحثون؟ أهم جميع النابغين من النحويين واللغويين والأدباء الذين
استفادوا جميعهم منه؟ أم هم غير هؤلاء النابغين؟
وبعدُ فمتى استفاد هؤلاء النابغون؟ والكتاب بشهادة ابن النديم بل بشهادة
كل من كتب في تاريخ كتاب العين لم يظهرإلا بعد موت الخليل بنحو سبعين
سنة، وذلك ما جعل العلماء يشكون فيه، وأنه لو كان للخليل لذاع أمره
وعرفه تلاميذه، ونقلوا عنه، مع أن تلاميذ الخليل مثل الأصمعي وأبي عبيدة
وأبي زيد وتلاميذهم، كل أولئك لا يعرفون عن كتاب العين شيئا، ولكن
مؤلفنا وحده يعلم أنه لم ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصر الخليل وبعده
إلا استفاد منه، ولله في خلقه شئون.
(3)
ومن تناقض المؤلف قوله في صفحة 201 نشأ علم الجغرافية في
هذا العصر (أي: العصر الثاني العباسي) بعد نقل علوم القدماء إلى العربية،
وفي جملتها كتاب بطليموس وعليه معولهم في تقويم البلدان، على أن
المسلمين بدءوا بوضع الجغرافية قبل اطلاعهم على ذلك الكتاب لأسباب غير
التي دعت اليونان إلى وضعها إلخ فإن تمحلنا عذرًا للمؤلف في هذا
التناقض، وقلنا: إنه استعمل شبه الاستخدام البديعي في كلامه فيكون قد ذكر
الجغرافية أولاً بمعنى الرياضية وأعادها ثانيا الجغرافية التخطيطية التي كانت
تسمى علم المسالك والممالك، فلا يصح رفع التناقض من كلام المؤلف أيضًا؛
لأن العرب اشتغلوا بالجغرافية اليونانية قبل العصر الثاني، والمأمون وعلماؤه
ممن صحح أغلاط بطليموس في محيط الأرض وقطرها ومقياس الدرجة
الأرضية.
(4)
ومن تناقض المؤلف وتحيره في قوله في أبي العتاهية: (وقد
نظم في كل أبواب الشعر وامتاز منها بالزهد، ويؤخذ من سيرة حياته أنه كان
مترددًا متقلبًا ويغلب ذلك في طباع الشعراء؛ لأنهم أهل خيال وأوهام،
وخصوصًًا الذين يستجْدون بشعرهم، فإنهم يتقلبون مع الأهواء ويسعون وراء
النفع حيثما كان، على أن تمنع أبي العتاهية عن قول الغزل بعد أن أمره به
الرشيد يخالف هذه القاعدة ولكن لعل له سببًا حمله على ذلك.
ما قولك أيها القارئ في هذه العلل التي لو صدقت - لا قدر الله - على
كل شاعر يتكسب بالشعر كأبي العتاهية لتبرمت الدنيا بكثرة المحرورين
والموسوسين المتخبطين، على أن الله أرحم من أن يصدق زعم المؤلف في
الشعراء من عباده، فلم تر بعد أبي العتاهية من يشبهه في سودائه، والحمد لله.
* * *
الاختصار فيما ينبغي الإطناب فيه
(والإطناب فيما ينبغي الاختصار أو فيما هو أجنبي من موضوع الكتاب)
من أعجب أمور المؤلف أنه يعلم ويعلم أن الناس تعلم أنه يؤلف كتابه في
آداب اللغة العربية لا آداب اللغة اليونانية القديمة ولا الفارسية ولا الهندية ولا
السريانية ولا اللغات الأوروبية الحاضرة، ثم نراه إذا خاض في ذكر مبحث
من مباحث الآداب العربية أو عدَّد نبغاءً، أو ذكر ترجمة شاعر نابغ أو كاتب
أو مصنف ـ اقتصر على ذكر نتف قليلة من المبحث، أو اقتصر على العدد
القليل من مشهوري النبغاء، واختصر تراجمهم مكتفيًا بذكر ما لا يلزم الناقد
الأديب وبذكر الكتب التي يراجعها من شاء التوسع، وقد لا تزيد عن كتابين
معروفين لأكثر الناس لا حاجة للدلالة عليهما، على حين أنه يطول في كثير من
المواضع حتى ليكرر كثيرًا من المباحث في غير مكانه لمجرد ولعه وإعجابه، بل
يخرجه ولعه بالشيء أن يُدخل في كتابه مباحث مطولة جدًّا ليست من
موضوع آداب اللغة العربية وتراجم أناس ليسوا من العرب، ولا خالطوا
العرب، فمن النوع الأول:
(1)
اختصاره في تراجم مشهوري الشعراء، واقتصاره منها على ذكر
نتف جافة قلما يتعرض فيها لنقد أو موازنة أو تقرير حكم معتذرًا عن ذلك بأنه
ليس من الأدباء المتفرغين للدرس والنقد، قال في صفحة 58 عند ذكر سبعة
من شعراء العصر الأول:
(وإليك تراجمهم على هذا الترتيب بما يقتضيه المقام من الإيجاز، وإلا
فإن كلاًّ منهم يحتاج في بسط ترجمته إلى مجلد قائم بنفسه، فنترك ذلك إلى من
تفرغ للدرس والنقد من الأدباء) .
ونحن نسلم معه أنه ليس من المتفرغين للدرس والنقد من الأدباء، ولكن
لا نسلم أن من لم يتفرغ للدرس والنقد من الأدباء يوثق بقوله، أو يعتد برأيه
في هذا الباب، أويظن أنه باختصاره آثر الأهم على المهم، وأيّ مقام يفرض
عليه الإيجاز الخالي من الحكم الأدبي، والكتاب ليس مذكرة مدرسية تنطبق على
برنامج مدرس مختصر، وإنما يقصد المؤلف به أن يكون مرجعًا لجمهور المتأدبين
من القراء الشداة لا التلاميذ الأحداث، بدليل أن حضرته وعد في كتابه هذا
أن يختصر منه ملخصًا لتلاميذ المدارس، على أن الذي يستطيع أن يؤلف مجلداً
في ترجمة شاعر لا يعجزه أن يلخص هذا المجلد في صفحة أو اثنتين بحيث يشير
في كلامه إلى نتيجة البحث والنقد.
(2)
ومن اختصاره أو اقتصاره ـ أو تقصيره ـ أنه لم يترجم لأحد
من كُتاب الرسائل في العصر الأول ولا الثاني، أي في مدة مائتي سنة وهما
عصرًا البلاغة والجزالة، إلا لاثنين، أحدهما عمرو بن مسعدة، والآخر القائد
طاهر بن الحسين فاتح بغداد، وقاتل الأمين، ووالي خراسان، وقد علمت أنه
ليس من كتاب الرسائل ولا عمل في ديوان.
مع أن كتاب الرسائل في هذين العصرين لا يقل النابغ منهم عن عشرين
تولى أكثرهم الوزارة، أو ديوان الرسائل والتوقيع والخاتم، كعمارة بن حمزة
وأبي عبيد الله ويعقوب بن داود وزيري المهدي وخالد بن برمك وابنيه الفضل
وجعفر وأحمد بن يوسف وزير المأمون، وابن الزيات وإبراهيم الصولي
والحسن بن وهب، وسليمان بن وهب، وسعيد بن حميد وابن مكرم وأحمد
ابن إسرائيل والحسن بن مخلد، وبني المدبر، وآل ثوابة، وآل الفرات، وآل
الجراح وابن مقلة، وغيرهم ممن تزينت كتب الأدب ببارع كتبهم، وطلعت
أهلة البلاغة من خلال فصولهم، وليسوا بالمجهولين فيجهلهم المؤلف، ولا المدفوعين
عن تقدم فيلوي عنهم عنانه.
(3)
ومن تقصير المؤلف إهماله ذكر الجرمي من نحاة العصر الثاني مع
ترجمته لابن ولاد وأبي جعفر النحاس وغيرهما، ومكان الجرمي في النحو لا
يجهل.
(4)
ومن تقصير المؤلف إهماله ذكر الأوزان والقوافي التي طرأت على
الشعر في جميع العصور التي ذكرها كالمواليا والدوبيت وأبحر المولدين
والشعر المزدوج والمسمط والتعريف بقائليها، واكتفى بنبذة يسيرة في
الموشحات في العصر الثالث.
ومن النوع الثاني، أي: التطويل في غير موضعه، بل إدخاله ما ليس من
موضوع الفن فيه أو ما ليس من موضوع هذا الجزء الثاني الخاص بالعصر
العباسي:
(1)
تخصيصه اثنتي عشرة صفحة من كتابه لموضوع أجنبي من
موضوع آداب اللغة العربية بالمرة، وهو آداب اللغة اليونانية وأطوارها
وتراجم مستقلة بصور كبيرة لفلاسفة اليونان كسقراط، وأفلاطون وأرسطو وأبقراط
وإقليدس وأرشميدس وجالينوس وآداب اللغة الفارسية وأطوارها، وآداب اللغة
السريانية وأطوارها وآداب اللغة الهندية ، نقل هذه المباحث من دوائر المعارف
ووضعها في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي لأقل مناسبة ثم نقلها هنا بلا مناسبة،
وكان الأولى بالمؤلف أن يحل محلها كُتاب الدولة العباسية وهم فحول البلاغة
وقادة الكلام.
(2)
ومن ذلك إسهاب المؤلف في شرح الأدب والإنشاء عند الإفرنج
ص 276 مع أنه ليس من غرض كتابه.
(3)
وذكره لبعض قادة الإفرنج الخرافية ووضع صور خرافية لحروب
الإسكندر المقدوني مع أمم لهم ست أيدٍ وأمم لهم وجوه بهائم.
(4)
ومن التطويل: أو من الإخلال بالنظام: وضع الكلام في مبحث تأثير
القرآن الكريم في اللغة العربية في هذا الجزء، وكان من حقه أن يدرج في
الجزء الأول.
(5)
ومن التطويل: تكرار الكلام في موضعين أو ثلاثة لغير موجب مثل
وصف التهتك والخلاعة، ذكره في الشعراء، ثم أعاده بعينه في الشعراء ص 50.
(6)
ومن التطويل في غير موضعه: نقل القصة المطولة التي تُحكى
عن عبد الملك من أنه قال لجلسائه يوما: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه
وله ما شاء؟ وأن سويدًا ذكر من كل حرف كلمة ثم ثلاث كلمات، وأن هذه
القصة وما سيقت لأجله، وقد بلغت نحو صفحة، كان حقها أن توضع في
حالة اللغة في بني أمية لا أن تذكر في علم اللغة في بني العباس.
(7)
ومن ذلك ذكره حالة الغناء في الدولة الأموية، ضمن مقالة
الموسيقى والغناء في الدولة العباسية، وكان من حقها أن توضع في الجزء الأول.
* * *
الاستدلال بحادثة جزئية على أمر كلي
اعتاد المؤلف في كتبه أن يستنتج من حادثة جزئية أمرًا كليًّا، وهذه
الخصلة من أكثر ما ينعاه عليه النقاد، وقد عمل بها في كتابه هذا غير مرة
كقوله في صفحة 78 في ترجمة سلم الخاسر.
وكثيرًا ما كان يأخذ أقواله ـ أي أقوال بشارـ فيسلخها ويمسخها كما مسخ
هذا البيت:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فجعله:
من راقب الناس مات غمًّا
…
وفاز باللذة الجسور
فبلغ بيته بشارًا فغضب وأقسم ألا يدخل عليه ولا يفيده ما دام حيًّا
فاستشفع إليه بكل صديق حتى رضي
…
إلخ.
فكل من تتبع ترجمة سلم الخاسر في مظانها لا يجد من سرقته لشعر بشار غير
هذا البيت، وهو وحده سبب الغضب.
وقوله في صفحة 167 في ترجمة الجاحظ وذكر إصابته بالفالج ولزومه
بيته بالبصرة وكان قد اشتهر وذاع صيته في العالم الإسلامي فتقاطر الناس لمشاهدته
والسماع منه فلا يمر أديب أو عالم بالبصرة إلا طلب أن يرى الجاحظ ويكلمه.
فليتفضل علينا المؤلف ويذكر لنا أديبين أو ثلاثة من هؤلاء غير ذلك الوالي
البرمكي المصروف عن ولايته بالسند الذي جعل ذهبه في أشكال الإهليلج إن جاز
له أن يدعي أنه كان أديبًا عالمًا.
ومن هذا القبيل شيء كثير في الكتاب.
***
تقليده مستعربي الفرنجة حتى في الخطأ
للمصنف ولع بنقل ما يكتبه المستعربون عن العرب وآدابهم، ولو خالف
الواقع، ومن ذلك نقله فصولاً برمتها مشوبةً بالخطأ من كتاب نيكلسن
الإنكليزي، وبروكلمان الألماني مثل مقالة الشعر في العصر الأول وغيرها.
* * *
اضطراب التبويب والتقسيم
إن بعض مقرظي هذا الكتاب وصفه بأن أهم ما يمتاز به عن كتب
المتقدمين هو حسن تبويبه وتقسيمه، ولكني لسوء حظي لم أوفق إلى سر
تبويبه وتقسيمه لهذا الكتاب؛ إذ أجد ما يصلح أن يذكر في تاريخ الآداب وما
يلزم أن يوضع في كتب آداب الفرنجة وضع في أدب العرب، وما ينبغي أن
يجعل في عصر ظهور الإسلام جعل في عصر بني العباس، ومن يجب أن
يترجم له في عصر معين أو طائفة بعينها ترجم له في عصر غير عصره أو
طائفة غير طائفته إلخ إلخ، بحيث تضطرب المباحث وتتداخل العصور
ويلتبس الأمر على القارئ فلا يدري خاصة كل عصر، فمن ذلك:
(1)
ذكر القرآن الكريم والعلوم التي تفرعت منه وبيان تأثيره في آداب
الجاهلية من الخطابة والشعر والإنشاء واللغة وبيان تأثيره من الوجهة الاجتماعية
والأخلاقية، مع أن محل ذلك مبدأ ظهور الإسلام؛ إذ هو وحده مبدأ هذه التفريعات.
(2)
ابتداء المؤلف هذا الجزء بالكلام المسهب في العلوم الدخيلة
وتراجم رجال اليونان وتأخيره الشعر العربي والعلوم العربية والشرعية عن
موضعها مع أنها هي المباحث العربية الأَََولى بالتقديم؛ لأن الكتاب صنف في
آداب اللغة العربية لا الدخيلة، ولو سلمنا أن للمؤلف سرًّا في تقديم الدخيلة،
فما هو السر في أنه أخرها عن الشعر العربي والعلوم العربية والشرعية في
العصر الثاني والثالث؟
(3)
إسهابه في صفحة 119 و 120 في حالة العناية بأمر اللغة في
زمن بني أمية، وكان الأليق أن يذكرها في الجزء الأول الخاص بآداب
الجاهلية وعصر الخلفاء الراشدين وبني أمية.
(4)
إسهابه في الكلام على الأغاني في عصر بني أمية في هذا الجزء
الخاص ببني العباس، ومن حقه أن يذكر في الجزء الأول.
(5)
ذكره أن احتدام الخلاف بين النحويين: الكوفيين والبصريين
حصل في العصر الثاني وما بعده من عصور الدولة العباسية، والحقيقة أن الخلاف
أشد ما كان بين كوفي وبصري قد كان في العصر الأول. وأما الثاني والثالث
وما بعدهما فقد هان فيها الخلاف ووجدت مذاهب ملفقة من المذهبين، فكان
الأولى ذكر هذا المبحث المسهب في العصر الأول.
(6)
ومن ذلك تأخيره الكلام في نشأة علم الفرائض إلى العصر الثالث
مع أنه قديم دُوِّنَ منذ دُوِّنَ الفقه، فكان الواجب ذكره في العصر الأول.
(7)
ومن ذلك ذكره عددًا كثيرًا من الشعراء، والعلماء المصنفين من
أهل عصرين، العصر الذي يليه أو الذي قبله، ويعلم ذلك من وفياتهم، فلينتبه
القارئ، ولولا أني سئمت من كثرة التعداد لأتيت عليهم جميعًا، وكثيرًا ما يذكر
المؤلف علماء فن مع علماء فن آخر وشعراء نوع في شعراء فن آخر، وإن
شاء المؤلف أن نفصل له هذا الإجمال، ونذكر من هم الذين عاملهم بهذه المعاملة
فنحن على كتب من إجابته.
* * *
تهافت المؤلف
للمؤلف تهافت وولع بالشيء لا يؤبه له أو بالأمر يناسب مقامًا خاصًّا فيقحمه في
كل مقام، كما فعل هذا في كتابه هذا وغيره في مواضع شتى فمن أمثلة ذلك:
ولعه بمسألة النشوء والارتقاء يقيس بها كل أمر حتى خرج به القياس
إلى عكس ما يراد بها، فذكر في هذا الكتاب صفحة 221 أن اضطراب الخلافة
الإسلامية وانحلالها إلى إمارات وممالك صغيرة متنافسة متشاكسة من دواعي النشوء
والارتقاء، في حين يعده المؤرخون من دواعي الانقراض والفناء، كما هي النتيجة
الحقيقة التي أعقبت هذا الانشعاب، فذلك حيث يقول: فلما اضطربت أحوال الخلافة
في أيام المتوكل ثم نشأت الدول الجديدة في المملكة الإسلامية بالتفرع والتشعب
على مقتضى ناموس الارتقاء تفرق العلماء 000000 إلخ إلخ.
ثم ناقض قوله هذا بقوله في العصر الثاني، أي الذي كان بعد أن
اضطربت الخلافة وحدث الارتقاء، على زعمه: حدث في العصر العباسي
الأول نهضة علمية أعقبها في العصر الثاني فتور على أثر البحران السياسي
الذي أخذ من نفوس رجال الدولة حتى اشتغلوا بأنفسهم عن تنشيط العلم، ثم
ذكر أن بعد هذا الفتور حدثت نهضة لم يبين سببها، وقال: والفاعل في هذه
النهضة ناموس النشوء الطبيعي إلخ. ومن مثل هذه المسألة كثير في الكتاب.
* * *
اللحن والأغلاط اللغوية
لا تكاد تمر بالقارئ صفحة من الكتاب إلا مشتملة على خطأ لفظي إما
في النحو أو الصرف أو اللغة، وكان يجدر بالمؤلف أن يعرض كتبه على ناقد
بصير بصناعة الإعراب حافظ لمستعمل اللغة حتى لا يرذل كتبه النفيسة بهذه
الأغلاط الشائنة.
وإذا كانت هذه الأغلاط تعد بالعشرات بل المئات لا نرى من الواجب علينا
شحن عجالتنا هذه بشيء منها، ولكننا لا نتأخر عن إجابة حضرة المؤلف
إذا أراد تصحيح كتابه مرة أخرى بتعدادها له في فرصة من فراغنا إن سنحت.
* * *
النتيجة
إن الكتاب على ما فيه من مواضع النقد لا يخلو من منافع في موضوعه
وغير موضوعه ونشكر حضرة المؤلف على اهتمامه بخدمة العلم ونسأله
مسامحتنا فيما كتبنا اقتداءً به أو مساعدة له على هذه الخدمة لا غير، وحسبنا
الله ونعم الوكيل.
_________
(*) بقلم الأستاذ الشيخ أحمد عمر الإسكندري.
الكاتب: محمد رشيد رضا
عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية [*]
(1)
(مقدمة وتمهيد)
من الناس من يكتب ليعجب الناس بما يأتي به من زخرف القول،
ومنهم من يكتب ليرضيهم بما يبديه من حسن الرأي، فهذا يفترض حوادث الزمن،
وذاك يرتقب سوانح النكت، ليحل كلامهما محل القبول، ويصيب مواقع
الاستحسان من القلوب، ونسأل الله أن لا يجعلنا منهم.
ومن الناس من يكتب لأجل النفع، بإزالة باطل أو إظهار حق، أو أمر
بمعروف أو نهي عن منكر، فهو يتخول الناس بالموعظة، ويتخونهم بالكشف
عن مكامن العبرة.
ونرجو الله أن نكون من هؤلاء في الدنيا وأن نحشر معهم في الآخرة.
تساءل بعض الناس لمَ كتبتُ تلك المقالات الطوال في المؤيد حين أُوقدت
نار الحرب في طرابلس الغرب وبرقة، ولم أكتب فيه شيئًا في إبان هذه الحرب،
وهي أدهى وأمرّ، وأنكى وأضر؟ ولو تذكروا تلك المقالات لعلموا أنها كتبت في
شأن هذه الحروب وكون تلك المقدمات لها، أي أنها فتح لباب المسألة
الشرقية وتصدٍّ من أوربة لحل هذه المسألة، والقضاء المبرم على ما بقي للمسلمين
من هذه الدولة، فلو وعاها إخواننا المسلمون ووزنوها بميزانها لفكروا في مستقبلهم،
واجتمع أهل الرأي منهم في كل مكان للبحث عن مصيرهم، ولم يرضوا أن تبقى
مصلحتهم العامة في أيدي بعض سفهاء الأحلام، الذين لا يملكون هنا إلا البذاء في
الكلام، وتضليل العامة بالوساوس والأوهام، وكان من ضررهم ما كان، فكيف
بحال أمثالهم في عاصمة الدولة، وقد ملكوا مع هذا كل شيء فدمروا كل شيء.
إنني - وايم الله - لأكتب من أجل الإفادة والنفع، وما اكتفيت في أيام هذه
الحرب بما كتبت في المنار، وأمسكت عن الكتاب [1] في الجرائد اليومية -
وأولاها بما أكتب في هذه الحال: المؤيد - إلا لأنني أرى أن هذه مثل البلاد لا
تستطيع أن تنفع الدولة الآن إلا بالمال. وقد انبرى لجمعه لها أمراؤها فخَفَتَ
لصوتهم كل صوت، وقصر عن قولهم كل قول، وتضاءل دون سعيهم كل
سعي، جزاهم الله أفضل الجزاء، وحسبي من شرف مشاركتهم في ذلك ولو بالاسم
أنني عضو في جمعية الهلال الأحمر فلم يبق من طرق نفع الكلام في هذه الحرب
إلا بيان ما فيها من العبر، وما أدى إليها من الأسباب وما يلزم عن تلك المقدمات
من النتائج، وهذا ما كنت أتربص به أن تضع الحرب أوزارها، لئلا يقال: إنه
ابتسر العبرة فجاءت قبل أوانها، كما قال بعض أصدقائي في مقالة نشرتها في
المنار.
أما وقد عقدت الهدنة، وعين المفوضون للبحث في شروط الصلح، وقد
ثبت خيانة وفساد الاتحاد والترقي للدولة ثبوتًا رسميًّا، وعلم الخاص والعام،
أنها هي علة حرب طرابلس وحرب البلقان، فقد جاء الوقت الذي يرجى أن
ينفع فيه القول، ويخشى أن يضر السكوت، وترجح المقتضي على المانع.
قد كان يكون من موانع الكتابة قلة وجود المتدبرين الذين يميزون بين قول الحق
ويعرفون أهله بأدلتهم وسيرتهم، وبين أقوال المبطلين الذين يغشون الأمة ويغرونها
بتأييدهم للأقوياء الذين ينتفعون منهم، فقد كان زعماء الحزب الوطني
هنا يغشون الناس بالسلطان عبد الحميد الذي باعوه ذمتهم بالرتب والنياشين
والدراهم والدنانير حتى كان بعض زعمائهم يجعل الشهادتين في الإسلام
ثلاثا فأوجب على من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله،
أن يثلث فيقول: وأشهد أن السلطان عبد الحميد خليفة الله. ولولا هذا
التثليث لما انتقل من لقب أفندي إلى لقب بك. ومنه إلى لقب باشا، وما زالت
جريدة اللواء تغش المسلمين عامة والمصريين خاصة بعبد الحميد مدة حياة
مؤسسها وبعد موته إلى ما قبل إعلان الدستور بيوم واحد؛ إذ كتب فيها يوم
الأربعاء طعن شديد في طلاب الدستور من العثمانيين ورمي لهم بأنهم يريدون به
هدم الدولة، وأنبأتنا البرقيات بإعلان الدستور يوم الجمعة.
فلما سقط عبد الحميد ونزا على الدولة بعده أولئك الأغيلمة المتخرجون
في ملاهي غلطه وبيوغلي وسلانيك وباريس، وأفسدوا كثيرًا من ضباط
الجيش، وجعلوا بقوتهم الدستور آلةً لتفريق عناصر الدولة وذريعة لمحو
اسمها من لوح الوجود، قام أنصار عبد الحميد هنا وفي بلاد أخرى ينصرون
هؤلاء المتغلبين المخربين، ويغشون الأمة بهم كما كانوا يغشونها به وأشد،
وكان يصدقهم في إطرائهم كثير من الناس مع بيان جرائد الأمم كلها لمفاسدهم،
بل مع ظهور هذه المفاسد بالفعل، إلى أن أبكم الله ألسنتهم قبل ثبوت خيانة
مستأجريهم للدولة ثبوتًا رسميًّا، وتنكيل الحكومة السلطانية بهم وتمزيقها
لشملهم، ولعله لو بقي لهم لسان ينطق، وقلم يكتب وينشر، لم يخجلوا من
الاستمرار على التمويه والتضليل، إذا كان أملهم بعودة الجمعية إلى استبدادها
باقيًا، أو إمدادها لهم لا يزال متصلاً، ويا حسرتى على شبان هذه البلاد،
الذين خدع كثير منهم بهؤلاء المفتونين بالمال والشهوات والشهرة الباطلة والأوهام
المضللة.
نعم إن رواج التغرير والتضليل في سوق السياسة وقلة التمييز بين المحق
والمبطل، والصادق والكاذب، قد يكون مانعًا من التصدي للكتابة لولا أن الله
أوجب النصح وبيان الحق، وحرم القنوط واليأس، وجعل العاقبة للمتقين.
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
(جمعية الاتحاد والترقي)
إنني أعرف من أمر هذه الجمعية ما لا يعرفه أحد في القطر المصري، وقد
بلوناها واختبرناها في الآستانة مدة سنة كاملة، رأيت من زعمائها وسمعت من
ألسنتهم ورويت عنهم بالأسانيد العالية المتصلة بهم، ما لا يتفق مثله إلا لقليل
من الناس، ثم أيدت أحاديث جرائد العالم وحوادث الدهر ووقائعه ما
علمته عنهم، فأنا أروي ما تؤيده الأحاديث والحوادث، وأستخرج العبرة منه
ليعلم أولو الغيرة على هذه الدولة التي لم يبق للمسلمين غيرها أين مكانتها،
وما هو الخطر الذي ينذرها، لعل ذلك يكون مما يستبين به أولو الرأي ما يجب
لحفظ سلطة الإسلام، المهددة بالزوال والانقراض والعياذ بالله.
أبدأ بذكر أهم الوسائل التي شرع الاتحاديون فيها ولا أذكر مقصدهم الذي
يتوسلون إليه بتلك الوسائل الآن؛ لأنه لا يصدقه غير العارف بحقيقة أمرهم،
إلا إذا اطلع على المقدمات والوسائل التي أذكرها؛ لأنه مقصد غريب في نفسه.
…
...
…
... أعمال الاتحاديين
التي كانت مقدمات الخذلان في الحرب
(إزالة قوة المسلمين غير الترك من الدولة)
أول ما قرر زعماء هذه الجمعية البدء به من الأعمال، بعد ما عنوا به من
جمع الأموال بضروب من القوة والاحتيال هو إزالة كل قوة في هذه الدولة.
حدثني غير واحد في الآستانة من الترك وغير الترك من العثمانيين
وبعض الأجانب والعارفين بأمور الدولة أن من برنامج جمعية الاتحاد والترقي أن
تجمع السلاح من الأرنؤط وتضربهم ضربة شديدة، ثم تجرد جيشًا آخر أو
جيوشًا لضرب العرب في اليمن وعسير، وعشائرهم وعشائر الدروز في
حوران وجنوب بلاد الشام ثم العراق، وتجمع السلاح من الجميع، وسأذكر ما قرر
في شأن طرابلس بعد، وبعد هذا وذاك تجرد جيشًا آخر على الأكراد تذللهم وتجمع
السلاح منهم، فإذا هي جمعت السلاح وأخضعت لهيبتها أولي القوة والبأس من
المسلمين، يسهل عليها أن تنفذ مقصدها بلا معارض ولا منازع.
قررت جمعية الاتحاد والترقي تنفيذ هذه المادة من برنامجها ولم تفكر في
عواقبه، لم تفكر في عجز الدولة عن حماية هذه البلاد إذا كانت مجردة من
القوة الذاتية، ولم تفكر فيما تخسره في قتال هذه الممالك من الأموال التي تأخذها
من أوربة بالربا الفاحش، ومن الجنود المنظمة التي تحتاج إليها للدفاع عن الدولة
وحفظ سلطانها، ولا فيما ينشأ عن هذا القتال من الفتن، وتفرق عناصر الدولة
وانحلال روابطها.
بدأت الجمعية بقتال الأرنؤوط وأنا في الآستانة فبذل مبعوثو هذا الشعب
جهدهم في إصلاح حال الجمعية بأن يتوسلوا إلى حل مسألة الأرنؤط بالنصح
والسلم فلم يقبلوا، وأظهروا الاحتقار بهؤلاء المبعوثين حتى أنهم صفعوا
إسماعيل كمال بك الزعيم الشهير في مجلس الأمة، ومن غرائب صنعهم أن
جمعوا ما قدروا على جمعه من سلاح المسلمين ولم يعيدوه إليهم، ولكنهم
أعادوا السلاح إلى الماليسوريين لأنهم نصارى، فانظر كيف كان عاقبة أمرهم،
وكيف ظهر أنه يجب عليهم أن يسلحوا جميع مسلمي تلك البلاد ويدربوهم
على الفنون العسكرية لأجل الدفاع عنها، ويؤلفوا منهم عصابات كعصابات البلغار
وغيرهم، ولو فعلوا ذلك لنفع الدولة في هذه الحرب نفعًا عظيمًا.
ثم فعلوا فعلتهم في اليمن وعسير، وفي الكرك وحوران، فقد جردوا لقتال
المسلمين في هذه البلاد زهاء مائة ألف جندي من أحسن جنود الدولة النظامية
أو أحسنها على الإطلاق، قتل منهم في اليمن ألوف كثيرة وبقيت مسألة اليمن كما
كانت. ولكن خربوا بلادًا كثيرةً منها ومن بلاد الكرك وحوران ولم تستفد الدولة في
مقابلة هذا التخريب والخسران شيئًا، ولو تم لهم ما أرادوا من جمع السلاح من بلاد
اليمن لاستولت عليها إيطالية في السنة الماضية وقتلت من فيها من العسكر؛ لأن
الدولة ما كانت تستطيع أن ترسل إليها مددًا، ولو ظل أولئك الجنود في معسكرهم
لرجحت الدولة على البلقانيين بهم.
والآن يتحدث الناس فيما ذكرته الجرائد الفرنسية عن سورية ومصالح
دولتها فيها، والظاهر أن المراد به اختبار رأي الدول في أمر استيلائهم عليها،
وقد عرف بالقياس على مسألة طرابلس الغرب ومسألة البلقان أن الدولة لا
تقدر على حفظ سورية إلا إذا كان فيها قوة ذاتية تخشى الدول العظمى بأسها،
ولا يمكن أن تأتي هذه القوة من الرومللي ولا من الأناضول، بل يجب أن
تكون مؤلفة من الجند النظامي والاحتياطي الذي فيها، ومن قبائل العرب
والعشائر الوطنية والمجاورة، وهؤلاء هم الذين يخشى الأجانب من جانبهم إذا
كانوا مدربين على القتال ما لا يخشونه من الجند الرسمي؛ لأن قتالهم يكون
بالمطاولة لا بالمناجزة، فالخسارة فيه عظيمة، وإنما هؤلاء الأجانب تجار
يطلبون الربح من أقرب طرقه، وأشدهم اتقاء للقتال أعظمهم توغلاً في
الاستعمار كإنكلترة وفرنسة.
ولعل إيطالية لا تعود إلى مثل غلطها في طرابلس الغرب، بل أظن أن
البلغار قد ندمت على تهورها في طلب أمنيتها على ما أتيح لها من الظفر
بتخاذلنا وإهمالنا، وأنها لا تعود إلى مثله.
ظهر ضرر هذا العمل السيئ الذي شرع فيه الاتحاديون، وظهر أنه كان
الواجب المحتم أن يعملوا ضده، وأن يجعلوا في كل قطر من هذه الأقطار قوةً
أهليةً تساعدها الدولة وتؤهلها للدفاع عن قطرها، فهل يعتبر الناس بهذا
ويسعون للواجب من جميع الطرق، هل يعتذر عنه الاتحاديون ويندمون عليه،
هل يسكت عن الاعتذار لهم مأجوروهم والمغرورون بهم؟
كلا إننا قرأنا في جرائد أمس أن زعماءهم لا يخجلون من الإصرار على
التبجح بقتال الدولة - أو الحكومة الاتحادية - للأرناؤوط، وإن ظهر أن ذلك
كان مصابًا كبيرًا على جمعيتهم من جهة، وعلى الدولة نفسها من جهة أخرى،
وهاك شاهدًا مما نقلته إحدى جرائد الآستانة عن أحد زعماء الجمعية الذين
فروا في هذه الأيام إلى أوربة:
كتب صاحب جريدة أقدام التركية من سويسرة إلى جريدته في الآستانة
يقول: إنه قرأ في جريدة بسترلويد حديثًا دار بين مكاتب هذه الجريدة مسيو
رالي وبين جاويد بك أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان ناظر
المالية في أهم وزاراته، سأل ذلك المكاتب جاويد بك عن أسباب انكسار
الجيش العثماني وخذلانه في البلقان، فكان الجواب بعد مقدمة فيما ينقص
الجيش وفي معداته ما خلاصته:
(إننا كنا هيأنا كل شيء وأنفقنا على ذلك أربعين مليون ليرة في السنوات
الأربع الماضية، ولقد ظهر كل هذا في تجهيزنا الحملة على بلاد الأرنؤوط
ومحاربتنا لتلك البلاد، أما أسباب فشلنا العظيم فترجع إلى تنظيم رجال جدد لم
يطلعوا على الترتيبات) .
فليتأمل العقلاء كيف اعترف الزعيم الاتحادي الذي كان ناظرًا للمالية
بأنهم صرفوا على الجيش أربعين مليون ليرة، وكيف يتبجح بأن ثمرة تنظيمهم
للجيش وإنفاقهم عليه قد ظهرت في قتالهم لطائفة من رعية الدولة المخلصة لها،
أهذه هي غاية استعداد الدولة الحربي أيتها الجمعية الدستورية المصلحة؟
أتعدون منتهى شوطكم أن تأخذوا أبناء الأمة وأموالها وتحملوها الديون التي
تذلها للأجانب لأجل أن تقاتلوها به وتذلوها وتدمروا بلادها؟ ألا فليعتبر المعتبرون،
أو ليأتينهم العذاب وهم ينظرون.
(2)
تهييج عصبية العناصر العثمانية
كان الناس يفهمون من اسم جمعية الاتحاد والترقي أنها جمعية غرضها
أن تجعل بين العناصر العثمانية وحدة سياسية اجتماعية بالمساواة بين الترك
وغيرهم في الحقوق الشخصية والحقوق العامة كمناصب الدولة ووظائفها، وأن
هذا هو المراد من كلمة الاتحاد الذي يتبعه الترقي في العمران، وما يتوصل به
إليه من العلوم والفنون. فلما صار النفوذ في هذه الجمعية لأمثال الدكتور ناظم
وطلعت وجاويد ورحمي وجاهد وأضرابهم، ظهر للباحثين، والمطلعين من
العثمانيين والأجانب أن مرادهم بالاتحاد أن تدغم العرب والأرنؤوط والكرد وغيرهم
في الترك، وتفنى لغاتهم وجنسياتهم فيهم فيكون جميع العثمانيين تركًا.
كنا في طليعة مَن كتب في هذه المسألة ببيان فوائدها وغوائلها ومقاصدها،
ووجوب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ومن أوسع ما كتبناه في
ذلك بيانًا مقالة فلسفية اجتماعية عنوانها: الجنسيات العثمانية واللغات
التركية والعربية، نشرت في منار رجب سنة 1327 أي بعد الدستور بسنة
واحدة، بينا فيها بالدلائل والحجج القيمة أن محو جنس من البشر بإدغامه في
جنس آخر قد صار في هذا العصر محالاً، وأن الدولة العثمانية لا تستطيع أن
تجعل غير الترك فيها تركًا، وأنها لو كانت تستطيعه لعذرتها عليه سياسة لا
دينًا، لأنني وأنا مسلم أرى أن الإسلام لا حياة له إلا بحياة اللغة العربية،
وإنما حياتها بجعلها لغة الخطاب والعلم عند أهلها، ولكن زعماء الجمعية
المغرورين الأغرار كانوا يرون أنفسهم قادرين على المحال.
لا عجب ولا غرابة في الأمر، فإن أولئك الزعماء إذا لم يسمعوا حجج تلك
المقالة ولم يشعروا بها فقد كان لهم على غرارتهم مانع من نشوة الغرور بخضوع
العثمانيين لهم، وتقديسهم لجمعيتهم، وإفاضتهم الدنانير والدراهم عليهم، ومن سكر
الإعجاب بثناء الجرائد الأوروبية على رجال الانقلاب العثماني، وإن كان المستحق
لهذا الثناء هو صادق بك والضباط الذين اتبعوه من دونهم، ولكن العجب والغرابة
في استمرار أكثر العثمانيين على الاغترار بهم بعد السنة الأولى للانقلاب، وأعجبه
وأغربه ما كان من العرب الذين لم يهتم بهم الاتحاديون بشيء اهتمامهم بمحو لغتهم
وإزالة جنسياتهم، أو إضعافها وإنهاك قواها ليستريحوا من إدلالهم بالكثرة والدين
الذي يخيفهم منه على السلطة التركية ما في كتب العقائد وكتب الحديث من كون
الخلافة في قريش والأئمة منهم، وإن لم ينازعهم العرب في جعل الخلافة فيهم.
وكل ما يوجد من هذا القبيل فيما نعلم أن بعض أصحاب الدسائس والمطامع
في مصر كانوا يستغلون وسواس السلطان عبد الحميد فيوهمونه أن للعرب
جميعة أو جمعيات تسعى للخلافة سعيها، فكان بعضهم يرسل التقارير السرية
إلى المابين في ذلك حتى تجرأ مصطفى كامل على الجهر بالإرجاف بهذه
الفتنة في لوائه، في أول العهد بإنشائه، وكبر الوهم فيها وعظمه بزعمه أن
بعض الأمراء يساعد هؤلاء الساعين على سعيهم.
وقد أنكرنا على اللواء الإرجاف بهذه الفتنة في المجلد الثاني من المنار
فكان إنكارنا هذا هو السبب الأول في طعن ذلك الرجل وأخلافه فينا (كما أنكر
المؤيد عليه ذلك مرارًا) .
فلما زالت سلطة عبد الحميد ودالت الدولة لفتيان الترك الأحرار الذين كنا
نسعى معهم سعيًا واحدًا إلى إزالة الاستبداد السابق ظننا أننا استرحنا من
الدسائس التي يروجها المفسدون في سوق الوساوس، ولكن رأينا زعماء
جمعية الاتحاد والترقي لم يدعوا سيئة من سيئات العهد الحميدي إلا وأعادوها
جذعةً، فهم بعد أن أرسلوا مفتشيهم وجواسيسهم إلى جميع البلاد العربية حتى
الحجاز فلم يروا من العرب إلا الإخلاص الكامل للدولة، ولم يشموا في بلادهم
أدنى رائحة لشيء يسمى الخلافة العربية، وبعد أن أغروا شريف مكة بابن
سعود، وإمام اليمن بالسيد الإدريسي، وليس عند العرب قوة حربية تذكر إلا
ما عند هؤلاء، وبعد أن رأوا جميع كتاب العرب في مصر وسورية والعراق
يثنون عليهم ويدافعون عنهم، وليس عند العرب قوة أدبية إلا ما عند هؤلاء،
بعد هذا كله رجحوا سعاية المفسدين من البراهين الحسية، وأصغوا إلى
المرجفين بالخلافة العربية، فتقرب شياطين العهد السابق وأخلافهم إليهم، إذ
رأوهم يحسبون كل صيحة عليهم، وعاد محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز
شاويش إلى مثل إرجاف سلفهما مصطفى كامل بهذه المسألة فأعادوها في
جريدتهم (العلم) سيرتها الأولى في جريدته (اللواء) .
ولما كان الشيخ عبد العزيز شاويش أشد غلوًّا وتهافتًا من مصطفى كامل،
لم يكتفِ باتهام جماعة الدعوة والإرشاد بهذه التهمة، بل طعن في جميع مسلمي
العرب فكتب في جريدة (العلم) أن الدولة العلية لا يخشى عليها من البلغار ولا
من الروم ولا من الأرمن ولا من نصارى العرب، وإنما يخشى عليها من مسلمي
العرب خاصة.
ولأجل هذا الغلو قربته جمعية الاتحاد والترقي منها، وجعلته من دعاتها
وأعوانها، وأنشأت له مطبعة وجريدة يومية في الآستانة كانت تنفق عليها من
مال الحكومة زهاء 350 جنيها عثمانيًّا في كل شهر.
ثم جاءت الحوادث تكذب هذا الإرجاف؛ فإن الحكومة الاتحادية حاربت
عرب اليمن، ونكلت بعرب حوران والكرك، وعَرَّضَتْ عرب طرابلس
الغرب لنيران إيطالية، ومع هذه كله لم يزدد العرب إلا تعلقًا بالدولة وإقدامًا
على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيلها. وما رأينا من الأمراء الذين أرجف بهم
اللواء أولاً والعلم ثانيًا والهلال العثماني ثالثًا ـ إلا النجدة العالية للدولة
والمساعدة التامة لها، وهي في أحرج مواقفها، وبعد هذا كله ترى كثيرًا من
الناس لا يفقهون ولا يعتبرون، ولا يميزون بين المصلحين والمفسدين.
نعم كان العرب قد ظلوا على إخلاصهم للدولة ولكنهم ليسوا حجارةً ولا
حديدًا فتمر عليهم هذه الكوارث ولا تؤثر في نفوسهم، إلا أنها أثرت شر تأثير،
وهو أن اليأس من الدولة قد دب دبيبه إلى قلوبهم وخصوصًا بعد حمل
الجمعية مولانا السلطان على حل مجلس المبعوثين الذي ضعفت فيه السلطة
الاتحادية، وتأليفهم مجلسًا جديدًا بقوة الحكومة بعد الضغط على الصحف وحرية
الاجتماع وغير ذلك.
يئسوا من عد الدولة إياهم عضوًا صحيحًا منها كإخوانهم الترك أولاً، ومن
إصلاح الدولة ثانيًا، ومن بقائها ثالثًا، إلا أن تزول منها مفاسد الاتحاديين وتنشأ خلقًا
جديدًا. ومن العجائب أن يئوسهم هذه لم تدفعهم إلى القيام بمشروع ما لحفظ وجودهم
وحفظ سلطة الإسلام في الأرض، بل ظل لسان حالهم يقول: إن بقيت الدولة نعيش
معها بعز أو ذل كيفما اتفق لنا، وإن ماتت نموت معها، ولا خير لنا في الحياة
بعدها.
وإنني أذكر من شواهد اليأس الأول من هذه اليئوس ما سمعته من أحد
أفراد حزب الاتحاد والترقي من العرب بعد استعراض الجيش العثماني في
روابي الآستانة أمام ملك البلغار سنة 1328 وكنت حضرت هذا الاستعراض
في خيمة المبعوثين، فلما انتهى وأردنا الذهاب قال لي ذلك المبعوث
العربي الاتحادي: متى يكون لنا جيش منظم مثل هذا؟ فكانت هذه الكلمة كجذوة
نار وقعت في قلبي؛ إذ علمت أن هذا المبعوث الذي كنا نعد وجود مثله في
الاتحاديين سببًا لحسن الظن بهم، قد أداه اختباره الصحيح لهم إلى الاعتقاد بأن
جيش الدولة ليس جيشًا لنا، وإنما هو الغالب علينا.
هنا يخطر ببال كل قارئ هذا السؤال: إذا كان هذا هو اعتقاد هذا
المبعوث في الجمعية فلم بقي فيها؟ وعندي جواب هذا السؤال؛ فإني كنت ألقيته
عليه قبل تلك السنة التي قال فيها كلمتة النارية، فقال: اسكت إنني علمت أن
زعماء هذه الجمعية إذا أحسوا بأن أمر الدولة أشرف على التفلت من أيديهم
فإنهم يعرضونها للزوال دون ذلك، ولهذا أرى أن بقاءنا معهم خير من تركنا
إياهم.
هذا بعض تأثير تهييج الاتحاديين للعصبية الجنسية ومحاولتهم تتريك
العناصر حتى العرب الذين هم أخلص المخلصين للدولة، وقد ظهر صدق
إخلاصهم لها بالبرهان والعيان.
وناهيك بكفاحهم في طرابلس الغرب وبلائهم في هذه الحرب، وهل يخفى
على بصير ما لليأس من الغوائل وسوء العواقب. وأما تأثيره في نصارى أوروبة
العثمانيين من البلغاريين واليونانيين والمصريين، فهو الذي أوقد نار هذه
الحرب، وكان أكبر شرها وويلها على الترك والمستتركين الذين هضم الاتحاديون
حقوق جميع العناصر وقصدوا إذلالها بجهلهم، وما كان أغناهم عن ذلك.
كان المفتونون بخداع الاتحاديين من مسلمي العرب يخطئون أهل
البصيرة من إخوانهم إذا طالبوا الدولة بالعناية بتعليم اللغة العربية في مدارسها،
وجعل القضاة والحكام في الولايات العربية من العارفين بلغة أهلها، وما
كان من حجتهم إلا أن قالوا: إنكم إذا طلبتم هذا فتحتم الباب لنصارى مقدونية
لطلب مثله لأنفسهم، ظانين أن رضانا بهضم حقوقنا يكون سببًا لرضاء أولئك
بمثل ما نرضى به وبدونه، جاهلين أنهم لا يرضون بمثل تلك الحقوق التي
يحملوننا على السكوت عن طلبها، وإن كان صلاحنا وصلاح دولتنا لا يكونان
إلا بها، وإنما وجهتهم انفصال ولاياتهم من الدولة ألبتة، واتصال كل شعب
منها بالدولة التي هو من جنسها.
بل جهل هؤلاء المفتونون بخداع الاتحاديين أنه لولا نصارى الولايات العثمانية
الأوروبية لما خطر في بال أحد من رجال دولتنا وإخواننا الترك فكرة الحكومة
النيابية.
ولا حاجة إلى شرح هذه المسألة الآن، وإنما موضع العبرة الذي اقتضت
الحال بيانه هو أن جمعية الاتحاد والترقي جعلت الدستور خدعةً لهؤلاء الناس
وللدول التي تنتصر لهم.
وأما مسلمو العثمانيين من العرب والأرنؤوط والأكراد فلا قيمة لهم
عندها؛ لأنها تعتقد أنها تدبر أمرهم بالقوة القاهرة، فكان غرورها هذا مهيجًا
لهؤلاء النصارى وحاملاً إياهم على الحرب الحاضرة بعد أن رأوا الجمعية
نفرت جميع العثمانيين من الدولة وأضعفت ثقتهم بها، وأحدثت مفاسد أخرى
أضعفت قوتيها: المادية والمعنوية، وهو ما بينا بعضه في المقالة الأولى،
وسنبين بقية المهم منه في المقالات الأخرى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نشرناها أولاً في المؤيد.
(1)
هكذا في الأصل والمقصود الكتابة.
الكاتب: عناية الله أحمدي
أحوال مسلمي الصين
(مسلمو مدينة نانكين في الصين)
نانكين مدينة من كبريات المدن الصينية المشهورة بتجارتها، سكان هذه
المدينة زهاء مليون نسمة، والمسلمون منهم مقدار مسلمي بكين في الكثرة،
ومنهم أناس أولو ثروة طائلة وتجارة كبيرة، وهم أرقى مسلمي الصين على
الإطلاق في دنياهم؛ إذ أكثر الموظفين في دوائر الحكومة منهم، وكذلك منهم
أكثر المعلمين في المدارس، ويعد المسلمون في هذه الولاية أرقى علمًا وفكرًا
من سائر أهلها، ولكن لبعدهم عن العاصمة (مدينة بكين) التي هي مركزهم
الإسلامي لا يعرفون من الإسلام غير كلمة التوحيد والسلام، والمستنيرون
منهم قد عرفوا أخيرًا أي: بعد حصولهم على الحرية - وجوب تربية أولادهم
على روح الإسلام، فأسسوا في مدنية نانكين جمعية باسم: جمعية نشر
الإسلام والمعارف.
لهذه الجمعية مقاصد أحدها: بيان حقيقة الجمهورية للمسلمين والدلالة على
طرق الاستفادة منها، ولذلك يطبعون رسائل مختصرة في لغة الصين وينشرونها
بين المسلمين في البلاد والقرى ويخطبون بذلك في المجامع، وأكثر ما يهتمون
به هو شئون الانتخابات، يجتهدون كثيرًا في انتخاب نواب الولاية من الذين يحبون
الإسلام ويسعون لخير المسلمين.
ثانيها: افتتاح المكاتب الابتدائية والرشدية في أحياء المسلمين كلها، ونشر
لسان العرب وبيان حقيقة الإسلام للأهالي، وتكثير سواد المسلمين الحقيقيين.
ثالثها: الاجتهاد في محو العادات والأخلاق الفاسدة المتمكنة من المسلمين،
وافتتاح المكاتب الصناعية لإزالة الكسل والفقر منهم. ومسلمو الصين لجهلهم
وتعصبهم المفرط لعوائدهم لا يشتغلون بما يشتغل به الوثنيون من الصناعات
فيستنكف أحدهم أن يكون حدادًا أو خياطًا أو ساعاتيًّا مصلحًا للساعات؛ لأن
الوثنيين يشتغلون بهذه الصناعات وينفرون ممن هذه صناعته من المسلمين.
فبجهلهم هذا وتعصبهم الزائد صارت منزلتهم في التجارة والصناعة
متأخرة جدًّا بالنسبة إلى غيرهم، وبلغوا نهاية قصوى من الفقر، وبسعي هذه
الجمعية أخذوا يتعلمون في المدارس الصناعية ويشتغلون ببعض الصناعات
كالخياطة.
ومن مقاصد الجمعية أيضًا السعي في انتخاب العلماء لمنصب الإمامة في
المساجد من الذين يستحقونها.
والحاصل أن مقصد الجمعية السعي في ترقية المسلمين وإزالة أسباب الفقر
وفساد الأخلاق من بينهم، وإنقاذهم من المهانة في الدنيا والخسار في الآخرة،
والجمعية تفتح أيضًا شُعبًا لها في ولايات خانقو شانغاي، وسيجوان، وأرسلت نور
الدين أفندي وثلاثة آخرين من زعمائها إلى تلك البلاد للتشاور بينها وبين مسلميها
واختيار أعضاء منهم للجمعية، ولها الآن أكثر من عشرة آلاف عضو في مدينة
نانكين وولايتها.
فإذا اجتهد مسلمو الصين على هذه الكيفية من غير فتور يرجى أن يرتقوا
في مدة يسيرة.
…
...
…
...
…
...
…
(ع. أحمدي)
…
...
…
...
…
(مترجم من جريدة (وقت) عدد 1050)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ)
هذا الكتاب من تصنيف أحد علماء اليمن المجتهدين، الشيخ صالح
مهدي المقبلي المتوفى سنة 1108، وكان في الأصل على مذهب الزيدية
ولكنه قرأ كتب الكلام والأصول وعرف مذاهب الفرق كلها وكتب التفسير
والحديث وسائر العلوم، وطلب بذلك الحق ومرضاة الله تعالى، فانتهى به ذلك
إلى ترك التمذهب وقبول الحق الذي يقوم عليه الدليل، وقد شهد له الإمام الشوكاني
بالاجتهاد المطلق، وهو يشرح في هذا الكتاب أمهات المسائل التي وقع الخلاف
فيها بين المذاهب الشهيرة كالأشعرية والمعتزلة وأهل السنة والشيعة الزيدية
والإمامية وكذا الصوفية. ويبين ما يظهر له أنه هو الحق ولا يتعصب لمذهب
على مذهب، وهذا هو مراده الذي يدل عليه اسم كتابه.
وقد توسع في الكلام على مسائل التحسين والتقبيح العقليين، والكسب
والاختيار والجبر، وأفعال الباري تعالى وأفعال العباد، ورواية الحديث
ونقدها، والجزاء والتوبة، وافتراق المسلمين والفرقة الناجية المشار إليها في
الحديث، والطائفة التي تبقى ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها فيه،
وعنده أن أهل الحق يكونون من مجموع المسلمين لا من أهل مذهب معين،
وبيَّن في هذا المقام مفاسد الخلاف بين المسلمين ومضاره، ومسألة وحدة
الوجود وحقيقة حالة أهلها، ولا تكاد تجد كتابًا منشورًا تعرف منه حقيقة
مذهب المعتزلة والزيدية غير هذا الكتاب، ومنه تعلم أن أكثر ما تجده في كتب
العقائد المتداولة من مذهب المعتزلة خطأ؛ لأنه مِن نقل المخالفين لهم نظروا
إليه بعين السخط، ونقلوه بالمعنى لا بالنص، وتصرفوا فيه كما فهموا، وبهذا
يتجلى لك صدق قول العلماء من أن نقل المخالف لا يعتد به.
كان هذا الكتاب من الأسرار والمخبآت يكتمه كل من يظفر بنسخة منه
إعجابًا به وخوفًا من الناس أن يشنعوا عليه؛ لأنه يخالف كل مذهب من
المذاهب في بعض المسائل، وإن لم يخرج عن مجموعها في شيء، وهو شديد
الحملة على ما يعتقد بطلانه، قوي الإنكار لا يتحامى التشنيع والنبذ بالألقاب
المنكرة، فهو في هذا الخلق يشبه الإمام ابن حزم الذي هجر جمهور الناس كتبه
في الأصول والفقه لشدة إنكاره على مخالفيه من أئمة الفقهاء، ونبزهم بلقب
الجهل وما أشبهه من الألقاب، ولولا ذلك لاشتهرت كتبه وأخذ الناس
بها، وترك كثير منهم مذاهبهم إليها؛ لأنها في الذروة العليا، كما شهد بذلك سلطان
العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام الشهير إذ سئل عن أحسن ما كتبه المسلمون
في الفقه فقال: (المحلى) لابن حزم و (المغني) للشيخ الموفق، وأنا أرى
أن كتب ابن حزم هي أكبر وأوسع مادةً استمد منها شيخا الإسلام ابن تيمية وابن
القيم. ولكنهما كانا أنزه قلمًا وأشد أدبًا مع الأئمة.
فكتاب (العلم الشامخ) ككتاب (المحلى) هو من الكتب التي يستفيد منها
العلماء الخواص أصحاب العقول والأفهام المستقلة والصدور الواسعة، وقد نقل
عنه شيخ الأزهر العطار الشهير في حاشيته على الجلال المحلي، فدل ذلك
على أن الكتاب كان يتداوله العلماء ويتناسخونه كما كانوا يتناقلون قبل ذلك
كتب ابن حزم.
وقد تصدى لطبع هذا الكتاب منذ ثلاث سنين بعض الشرفاء والفضلاء
الحجازيين والسوريين بعد أن استنسخه بعضهم من مكتبة حسين حسني أفندي
الذي كان شيخَ الإسلام في دار السلطنة، ولما قيل له: إننا نريد طبعه، قال:
ومن يتجرأ على طبعه؟ ومن عاش معظم عمره في حجر السلطة الحميدية
تحيط به جواسيسها لا يبعد منه أن يقول مثل هذا القول، على أنه رحمه الله
كان من أوسع علماء الآستانة صدرًا، وأشدهم تسامحًا، وكان معجبًا بالكتاب
ضنينًا به، ولكنه سمح بنسخه، ولو علم بما يطبع في مصر من كتب الفِرق
والجدل، ومن كتب دعاة النصرانية، لرأى الفرق الكبير بين مصروالآستانة
حتى في عهدها الذي يسمى الدستوري.
طبع الكتاب مع زوائده: (الأرواح النوافخ لإيثار آثار الآباء والمشايخ)
الذي أوضح به مسائله وفند به كلام من أنكر عليه بعضها، ووضعت له عدة
هوامش فيها انتقاد على المؤلف بعضها من النسخة الأصلية يوشك أن تكون
للمحقق الشوكاني.
وهو مطبوع على ورق جيد وصفحاته تناهز 800 صفحة، ولهما
فهرس واسع جدًّا مرتب على حروف المعجم، وثمن النسخة منه 25 قرشا،
وأجرة البريد للخارج خمسة قروش، وللقطر المصري 25 مليما، وهو يطلب
من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر.
***
(رسالة بغية الراغبين، وقرة عين أهل البلد الأمين، فيما يتعلق بعين
الجوهرة السيدة زبيدة أم الأمين)
تأليف العالم الفاضل السيد عبد الله بن السيد محمد صالح الزواوي الحسني
الإدريسي المدرس بالمسجد الحرام ورئيس لجنة عين زبيدة
رسالة تشتمل على ذكر أحوال عين زبيدة التي يستقي منها أهل البلد
الحرام (مكة) والوافدون لحج البيت العتيق مع بيان التصليح والترميم مما
أحدثته اللجنة المشكلة تحت رعاية صاحب السيادة والدولة أمير مكة المعظم،
ورئاسة مؤلف هذه الرسالة، ثم بيان خطط البلد الأمين.
وقد تبرع السيد عمر الخشاب الكتبي بطبع هذه الرسالة؛ إعانةً على
المشروع الجليل النفع، العميم الفائدة، ومن يطلع على هذه الرسالة يعلم أن
إعانات عين زبيدة إنما أنفقت في طريقها وعلى وجهها، فنشكر للمؤلف سعيه
في سبيل الله وخدمة بلده الحرام.
…
...
…
...
…
***
…
...
…
...
…
(كفاية الطالبين لرد شبهات المبشرين)
تأليف الشيخ محمد عبد السميع الحفناوي مدرس اللغة العربية بالمدارس الحرة
صفحاته 133 بقطع، (الإسلام والنصرانية) ، مطبوع بمطبعة أبي الهول
بالقاهرة سنة 1330 على ورق نظيف متوسط ثمنه ثلاثة قروش، ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
موضوع الكتاب الرد على دعاة النصرانية، وقد أبطل المؤلف به ادعاء
النصارى كون كتبهم كتبت بإلهام من الله، وبيَّن اختلافاتها وأغلاطها وأنحى
على عقيدة التثليث ببراهين وأدلة عقلية، وكذلك فعل في نفي الشريك والولد
عن الله تعالى، وفي إبطال ما يتمسك به النصارى من صلب المسيح، وتكلم
على حقية القرآن ووجوه إعجازه، وفي نبوة سيد الأنبياء صلى الله عليهم وسلم
مستدلاًّ على ذلك بنصوص كتبهم التي يسمون مجموعها الكتاب المقدس، ورد
شبهات أولئك الدعاة، وختم الكتاب بمقابلته بين آيات من القرآن الشريف
وجمل من العهد العتيق والعهد الجديد.
***
(كتاب أمراض النساء)
تأليف الدكتور نجيب بك محفوظ الطبيب بمستشفى القصر العيني صفحاته
176 بقطع، (الإسلام والنصرانية) طبع بمطبعة التوفيق، ويشتمل على 45
شكلاً من أشكال الأعضاء والأدوات، يباع بعشرين قرشًا في المكاتب الشهيرة
بمصر.
هذا الكتاب من الكتب العلمية السهلة الفهم التي تفيد مطالعتها الخاصة
والعامة خصوصًا الذين يتعلمون الجراحة بغير اللغة العربية، فنشكر لمؤلفه
على اجتهاده ونتمنى لكتابه الانتشار ليعم نفعه.
***
(كتاب الفتوحات الإلهية في مجمل العلوم الأزهرية، وكتاب التسهيلات
الإلهية في أصول الحنفية والشافعية)
كلاهما تأليف الشيخ أحمد بن محمد درويش القاضي الشرعي وأحد علماء الأزهر
طبع الكتابان في القاهرة بمطبعة مقداد، على ورق نظيف بقطع المنار،
صفحات الأول منها 27، تكلم فيه مؤلفه في تعريف أشهر العلوم الأزهرية
تعريفًا أزهريًّا مصطلاحيًّا، وبيان موضوعاتها وفوائدها ومسائلها، وصفحات
الثاني 200 واسمه يدل على موضوعه، ويطلبان من مكتبة المنار بمصر.
***
(حكم النبي محمد)
للفيلسوف تولستوي
تعريب سليم أفندي قبعين، صفحاته 77 بقطع تفسير الفاتحة، مطبوع
بمطبعة التقدم بمصر، ويطلب من مكتبة المنار وثمنه قرش واحد صحيح.
بحث مؤلف هذا الكتاب في حالة المسلمين الدينية في روسية وشرح ما
قاسوه من الاضطهاد بسبب دينهم، وما منحهم إياه القيصر نقولا الثاني من
حرية عود المتنصرين جبرًا إلى دينهم، ومن حرية المدافعة عن الدين، ونشر
الجرائد بلغة المسلمين إلى غير ذلك، ثم استطرد إلى بيان أخلاق المسلمين
وتعظيم القرآن للمسيح وأمه، وأفرد فصلاً للكلام على النبي محمد صلى الله
عليه وسلم، تكلم فيه عن حالة العرب قبل ظهور الإسلام، وأورد آيات من
القرآن للحكم على الدين الإسلامي فيها بالتوحيد الخالص والأحكام العمومية،
وأبان ما كان للدين الإسلامي من الأثر الصالح في العالم.
وأورد طائفة من الأحاديث النبوية في الأحكام والحِكم ومكارم الأخلاق،
وتكلم على الحجاب وبيَّن مفاسد التهتك إلخ، ولكن فيها شيئًا من الغلط ومن
التحريف المطبعي، ولو قوبلت الحِكم بأصلها من القرآن والأحاديث لكان أقوم
قيلاً.
***
(أمالي الشيخ علي عبد الرازق من علماء الأزهر في علم البيان)
صفحاته 122 بقطع أسرار البلاغة، طبع سنة 1330 بمطبعة مقداد على
ورق نظيف، ويباع بخمسة قروش في مكتبة المنار ومكتبة النيل.
هذا الكتاب هو مجموعة أمالي ألقاها المؤلف دروسًا في الأزهر سنة
1330 هـ، ثم جمعها في كتاب على حدة فجاءت كتابًا وافيًا بالغرض حسن
الأسلوب سهل الفهم ولم أر لعالم أزهري لهذا العهد كتابةً محررةً مختصرةً
مفيدةً تدل على تفكر الكاتب وتوخيه الاستفادة والفائدة مثل هذا الكتاب، وإن
القارئ ليقرأ فيفهم فن المعاني مجردًا.
***
(الجرح والتعديل)
رسالة من تأليف عالم الشام العامل الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي،
نشرت في المنار، وجمعت فجاءت 40 صفحة بقطع المنار على حدة، وثمنها
قرشان، وهي تطلب من مكتبة المنار بمصر، ومن مؤلفها في دمشق.
هذه الرسالة هي الحكمة التي تكم أفواه الحشوية ومتعصبي الفرق،
وترجع بهم إلى سماحة الإسلام ببيان ما جرى عليه العلماء الأعلام مثل
البخاري وغيره من اعتبار رواية الفرق التي يكفر أهلها اليوم جهلة المقلدين
والحشوية، وتبين أضرار التعصب للمذاهب ميلاً مع الهوى وتكون خير عون
للمصلحين على جمع كلمة المسلمين والتأليف بين المختلفين.
***
…
...
…
... (العلاج الجراحي)
الجزء الأول منه تأليف وليم روز ألبرت كارلس وتعريب الدكتور محمد عبد
الحميد طبيب مستشفى قليوب صفحاته 195 بقطع المنار، طبع سنة 1912 بمطبعة
المعارف بمصر طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وهو مزين بالرسوم الملونة والأشكال
التي بلغت عشرين شكلاً، ويطلب من معربه بقليوب، ومن مكتبة المنار بمصر،
وثمنه عشرة قروش خلا أجرة البريد.
***
…
...
…
... (التشريح الجراحي)
الجزء الأول منه تأليف فردريك لريفي وآرثر كيت وتعريب الدكتور محمد عبد
الحميد أيضًا صفحاته 252 بقطع (الإسلام والنصرانية) طبع في مطبعة
المعارف طبعًا نظيفًا على ورق جيد مزينًا بالصور الملونة التي بلغت 45
شكلاً، وثمنه عشرة قروش، ويطلب من معربه ومن مكتبة المنار بمصر.
مواد الكتاب: فروة الرأس، قبوة الجمجمة، محتويات الجمجمة،
الحجاج والعين، الأنف وتجاويفه، الوجه، الفم واللسان والحنك والبلعوم،
العنق، وأسلوبه كأسلوب سابقه بل كسائر معربات الدكتور محمد عبد الحميد
الذي يفيد لغته وأمته بما يقدمه حينًا بعد حين من الآثار النافعة.
***
(بلوغ المرام من أدلة الأحكام)
تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني
صفحاته 278 بقطع المنار طبعه بمطبعة التمدن الشيخ عبد الرحمن بدران
الكتبي وشريكاه، على ورق متوسط، وثمنه سبعة قروش، ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
الكتاب مجموعة من أحاديث مخرجة مرتبة على أبواب الفقه، وزاد فيه
باب الأدب، فيجدر بكل من يروم فقه الدين من السنة أن يطلع على هذا الكتاب.
***
(كتاب التبيان في تخطيط البلدان)
الجزء الأول منه
يشمل الدروس التي ألقاها بالجامعة المصرية العالم المؤرخ إسماعيل
رأفت بك أستاذ الجغرافية وعلم الشعوب (قبوغرافية) بها ومدرس الجغرافية
والتاريخ العام بمدرسة دار العلوم، صفحاته 499 بقطع المنار، طبع بمطبعة
محمد الوراق بمصر سنة 1329 وله خرائط للاستعانة على توضيح أبحاثه،
ويباع بعشرين قرشًا في مكتبة المختار بمصر.
معظم ما نقرأه من كتب الجغرافية العربية أنها أشبه بالنقل منها بالتأليف،
ولكن كتاب التبيان على العكس من ذلك فإن مؤلفه قرأ وبحث وباحث ونظر
فكتب، وإنه يخيل إلى القارئ أن المؤلف سائح خريت جاب القارة الأفريقية
وأثبت مشاهداته في مؤلفه هذا.
والكتاب يتناول قارة أفريقية وقد وصفها أوصافها الطبيعية والاقتصادية
والسياسة الجوية، وذيَّل الكتاب بفهرس ذكر فيه أسماء مشاهير المكتشفين
والسياح الذين مر ذكرهم في الكتاب، وكتبها بالحرف اللاتيني والحرف العربي؛
ليرجع القارئ إلى ما كتبه عنهم في أسفل صحائف الكتاب بسهولة.
وحبذا لو تم المؤلف كتابه على هذا النمط، فإن اللغة العربية في أشد الحاجة
إلى كتاب جغرافي عمومي مطول.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحرب البلقانية الصليبية
لقد بدا للناس من هذه الحرب ما لم يكونوا يحتسبون، فقد كانت أقوال صحف
أوربة تدل على أن الأوربيين كالعثمانيين يظنون أن كفة الدولة العثمانية تكون هي
الراجحة، وكفة البلقانيين هي المرجوحة، ولذلك صرحت الدول الكبرى بأنها متفقة
على أن هذه الحرب لا تغير شيئًا من الحال الحاضرة ولا من خارتة البلقان.
فلما ظهر رجحان كفة البلقانيين رجعت عن قولها، وصرحت بأنه ليس من
العدل حرمان الدول المتحالفة من ثمرة انتصارها (والعدل عند هؤلاء الناس لا
يجوز أن يتعدى أبناء جنسهم وأهل ملتهم ودينهم) بل تجاوزت ذلك إلى محاولة
إكراه الدولة العثمانية وقسرها على أن تعطي الصليبيين ما فتحوا من بلادها وما
أعياهم فتحه كأدرنة، وقد أجمعت ذلك دول التثليث كلهن، سواء منهن من أبدى
ناجزَيْ الشر للدولة، وأظهر ضلعه وتعصبه للصليبيين كدول الاتفاق الثلاثي، ومن
جامل العثمانيين بالقول بعض المجاملة كدول التحالف الثلاثي.
نعم إن ما ظهر من ضعف الدولة العثمانية وخللها هو ما لم يكن يحتسبه كله
أحد ولا الأوربيون الذين يعبرون عنها بالرجل المريض، ويرون أنها بهذا المرض
تكاد أن تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، وهكذا شأن الناس في تقدير أحوال مَن
ضعُف بعد قوة عظيمة، أو افتقر بعد ثروة كبيرة، فإنهم يتصورون شيئًا من ماضيه
مع تصور حاضره، ويستخرجون النتيجة من مقدمات التاريخ الماضي زالت مع
زمنها ومن مقدمات التاريخ الحاضر، وكذلك يخطئون في تاريخ حال من دخل في
حياة جديدة، استصحابًا لشيء من ماضيه يمزجونه بما عرفوا من حاضره، حتى
تأتي الحوادث والوقائع الكبيرة بما لم يكن في الحسبان، كما رأينا في حرب
الروسية واليابان، ولكن العبرة في رجحان البلغار على الترك أكبر، والتفاوت
بين الفريقين فيها أعظم.
ومما ظهر وبان هاجمًا من وراء حدود الحسبان، شيء آخر كان كثير من
المغرورين بمدنية هذا الزمان يظنون أنه من وراء حدود الإمكان، وهو طغيان
صليبي البلقان الظافرين على أبناء وطنهم المسلمين المسالمين، وإسرافهم في
تقتيلهم وتعذيبهم، وهتك أعراضهم وسلب أموالهم، وإنهم ليقتلون النساء والأطفال
ليقل عدد المسلمين في البلاد، حتى ألجأوا بعضهم إلى الخروج من الإسلام،
وانتحال النصرانية حفظًا لأنفسهم، وصيانة لأعراضهم وأموالهم، وقد شهد فظائعهم
هذه كثير من مكاتبي الصحف الأوروبية من الشعوب المختلفة، وبعض وكلاء
الدول السياسيين (القناصل) وذكرت الجرائد الأوروبية والتركية كثيرًا من حوادثه
تقشعر منها الجلود، وتفتت لهولها الكبود.
ولم يكن عجب الناس من اقتراف البلقانيين لهذه الجرائم والجنايات
والفواحش والمنكرات وجعلهم ذلك باسم الصليب في سبيل المسيحية كعجبهم من
الدول والشعوب الإفرنجية في أوربة وأمريكة لسكوتهم عنها، بل إقرارهم إياهم
عليها، فهل هذه هي المسيحية التي يبذلون الملايين في سبيل دعوتنا إليها؟ وهل
هذه هي الإنسانية التي يفتخرون بدعواها؟
اختلفت دعاة النصرانية في مؤتمرهم الذي عقدوه للنظر في وسائل تنصير
المسلمين: هل إله المسلمين هو إله النصارى أم لا؟ فقال قس من أكبر قسوسهم:
إن إله المسيحيين غير إله المسلمين؛ لأنه دين محبة ورحمة، وإله المسلمين ليس
كذلك.
فأين هذا القس المحب الرحيم الآن؟ لا أراه إلا فرحًا مسرورًا مع قومه
بفظائع الصليبيين في البلقان، فإنه هو وأمثاله قد اتخذوا المسيحية آلة للشهوات
واللذات وسعة الملك واستعباد الأمم والشعوب، وهم أبعد خلق الله عن دين المسيح
عليه الصلاة والسلام، وعن دين بولس الذي تمثله الكتب والرسائل التي يسمونها
العهد الجديد أيضًا.
وإذا كان هذا شأن رجال الدين فيهم فكيف يكون شأن رجال السياسة المنافقين
الذين ينفثون في أرواحهم سموم العصبية الدينية، ويغرونهم بإفساد عقائد الناس،
ويعينونهم على ذلك بالنفوذ والمال، وإذا لقوا أحدًا من أهل الملل الذين يغرونهم بهم
ادعوا أنهم يمقتون العصبية الدينية وأهلها، وأنهم لا يدينون بدين إلا دين الإنسانية
العامة، وهم بهذا الوجه الذي يلقون به المسلمين وغيرهم من أهل الملل الشرقية
المخالفة أشد إفسادًا في الدين والاجتماع من دعاة دينهم، فإن الذين أفسد عليهم
الإفرنج دينهم باسم الإنسانية، أضعاف أضعاف الذين أفسدوا دينهم ودنياهم باسم
المسيحية.
صدق هؤلاء المنافقين تلاميذهم ومريدوهم من المسلمين وغيرهم، وظنوا فيهم
الخير، وتوهموا أنهم بترك الدين وحل رابطته والدعوة إلى رابطة أخرى يسلكون
طريقهم في الترقي المادي، وإنما يهوون في مهواة التدلي والانقراض.
إلا أنه قد وجد فينا الحكماء العارفون، وطالما حذروا وأنذروا، فعلت أصوات
الخادعين أصواتهم فلم تعتبر بها الأمة، وإننا نذكرها الآن بنبذة من مقالة التعصب
إحدى مقالات العروة الوثقى التي نشرناها في المنار من قبل ونقلتها بعض الصحف،
وهي منشورة أيضًا في بعض الكتب.
بيَّن الأستاذ رحمه الله في أول تلك المقالات معنى التعصب في اللغة
والاصطلاح ومفاسد الغلو فيه ومدح الاعتدال، وما ثبت في التاريخ من غلو
الأوربيين في تعصبهم، وإبادتهم للمخالفين لهم، وتسامح المسلمين وتساهلهم، ثم
بيَّن غرضهم من تنفير المسلمين خاصة من التعصب الديني مطلقًا، وإن كان معتدلاً
لا يترتب عليه شيء من إيذاء المخالفين، وهو أن يحلوا رابطتهم ويتمكنوا من
إزالة سلطانهم، وبين كون الموافقين لهم المخدوعين بسحرهم يخربون بيوت
أنفسهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، ثم قال:
(هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادت الدول اختباره وجنت ثماره
فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في
البلاد العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية، ولم تعدم صيدًا من
الأمراء المنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من
بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن
يميلوا مع هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع
بقائهم على عقائدهم، وثباتهم في إيمانهم، يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني
ويلهجون في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة، ولا
يعلم أولئك المسلمون أنهم بهذا يشقون عصاهم ويفسدون شأنهم، ويخربون بيوتهم
بأيديهم وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة
ودفعها إلى أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماءً، والله
ما عجبنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين من الأمم الإفرنجية
الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين، ولا يخجلون من تبشيع
التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة، الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من
التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم
السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على إنجاح أعمالهم،
وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم
ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق، سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت
تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة،
وحدثت حادثة مهمة، فأجمِعوا الأمر وخذوا الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من
وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية، وتراهم على اختلافهم في الأجناس،
وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لغرة الأخرى
حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية
والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين، وإن كان في أقصى قاصية من الأرض،
ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.
أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر وجه البسيطة من دماء
المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس بل
يتغافلون عنه ويذرونه، وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده، ويذهلون عما
أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والرحمة الطبيعية كأنما يعدون من
الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية. وليسوا من نوع
الإنسان الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين
منهم، بل الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في
تعصبهم الديني، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم، وليتهم يقفون عند الحق ولكن
كثيرًا ما تجاوزوه، أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب.
يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه ثم لا تجد كلمة
تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة
من روحه (انظر إلى كتب جلادستون وخطبه السابقة) اهـ.
ومما بدا للمسلمين من هذه الحرب ولم يكونوا يحتسبونه، أن الدولة العثمانية
ليست بالدولة القوية التي يرجى أن تحفظ نفسها من أوربة بقوتها الحربية، سواء
منها البرية والبحرية، وإنما بقاؤها بدوام تنازع الدول في اقتسامها، وإن هذا
الاقتسام متفق عليه في الجملة، مختلف عليه في التفصيل، وإن ممالكها في نظرهن
كالأرض الموات: مَن سبق إلى شيء منه ملكه، وإن ما يبديه بعضهن لها من الميل
والانعطاف أحيانًا، وهو لا يتعدى القول اللطيف والمساعدة السلبية، فإنما سببه جر
المغنم العاجل كالامتيازات والقروض وبيع الأسلحة والذخائر، على أنهن صرن
يقبضن أيديهن عن إقراضها ولو بالربا الفاحش ويتشددون في ذلك، وأما ما كان من
مساعدة بعضهن لها في الزمن الماضي فسببه تعارضهن في النفوذ والطمع في
بلادها أيضًا، وقد ارتقوا عن هذه الدرجة الآن.
عرف خواص المسلمين هذه الحقائق في الأقطار الكثيرة، وشعر به عوامهم
في مصر وولايات السلطنة أيضًا، فأصابهم من الغم والكآبة ما وجلت له القلوب،
وذرفت لأجله العيون، وطفق الناس يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه
مختلفون، وهو كيف يكون حال الإسلام والمسلمين إذا صارت هذه الدولة
في عداد الغابرين؟
إن أصحاب هذه الدولة يجدُّون ويجتهدون في هدمها منذ قرنين أو أكثر وكانت
بعض الدول الأوربية تدعّهم إلى الإسراع في الهدم، وبعضها تدعوهم إلى التريث
فيه، وقد اشتد الهدم على عهد عبد الحميد ولكن من وراء الحجب والأستار، وفي
حنادس الظلمات، وأما بعد سقوطه فقد صار الهدم أشد، ولكن الهادمين يسمون
أنفسهم البنائين الأحرار، وصار أبين وأظهر لأنه يؤتى في ضوء النهار.
لقد كان جهل المسلمين بحقيقة حال هذه الدولة، أكبر مصائبهم ومصائب
الدولة، ولو كانوا يعرفون كُنْهَ حالها، منذ تنبهوا لأنفسهم ولها - أي من عهد
انكسارها في حرب الروسية الأخيرة - لاجتهدوا في إصلاح أنفسهم وإصلاحها،
ولكنهم اغتروا وخُدعوا بها، وأمدتهم جرائد المنافقين في غرورهم، فحسبوا أن لهم
دولة قوية عزيزة تقيم شرعهم، وتعلي كلمة دينهم وتدافع عنه وعنهم، وكم
نبهناهم وأنذرناهم فتماروا بالنذر، ولا يزال كثير منهم على غرورهم، كما يدلنا
على ذلك تجاوب اقتراحهم عليها إدامة الحرب، وكراهتهم لما جنحت إليه الوزارة
الكاملية من السلم، وعقد الهدنة للبحث عن شروط الصلح.
إن كل ما عرفناه من مساعدة العالم الإسلامي للدولة في حربها هذه هو أنهم
أمدوها بإعانة لا تتجاوز نصف مليون من الجنيهات إلا قليلاً، إلا أن يكون هنالك
إعانات خفية عنا وعن غيرنا، وليس هذا بالذي ينهض بمثل هذه الدولة الكبيرة،
ولا إظهار الغيرة عليها بالذي يدفع عدوان الدول عنها، بل يخشى أن يكون مغريًا
لدول الاستعمار بالتعجيل عليها، فأنا لا أزال أعيد ما بدأت من القول بأن الدولة
على خطر، وحل المسألة الشرقية أقرب غائب ينتظر، وأدعو عقلاء المسلمين
خاصة إلى التفكير في المآل وإعداد ما يستطيعون له من العدة والمال، وما بعد
الجهد إلا العزم والاتكال، وإنني أشير إلى شيء من ذلك بالإجمال:
مستقبل الإسلام والمسلمين:
أهم ما يهم كل مسلم في الأرض أن يكون للإسلام سلطة تقام بها شريعته،
وتحيا بها دعوته، وقد كان المسلمون لفشو الجهل فيهم مغرورين بحكوماتهم
ودولهم، ولم يكن غرور التابعين للدول ذات التاريخ الكبير كالدولة العثمانية، بأشد
من غرور التابعين للدول ذات التاريخ الصغير كسائر الدول الأفريقية والآسيوية،
ولكن الغرور بالدولة العثمانية تجاوز بلادها إلى الملايين من المسلمين الذين استولت
عليهم الدول الأوروبية في الشرق والغرب، وإن هذا الغرور قد أوصل السلطة
الإسلامية إلى درجة الخطر - خطر الفناء والزوال - فوجب على كل عارف مخلص
أن يصرح للمسلمين بما يعرف، وقد كنا في السنين الغابرة نكني، ولكن الوقت
ضاق عن الكنى.
ولو عرف جماهير المسلمين كُنه حال دولهم وحكوماتهم من قبل لجَدَّ العقلاء
في السعي لإصلاحهم وحفظها، ولكان الفوز أرجى لهم من الخيبة، ويجب أن يعرفوا
الآن ما جهلوا من قبل، وإن كان الرجاء في السعي الآن أضعف، ولكن المسلم لا
ييأس ولا يقنط، ولقد كان أكبر بلاء الدولة العثمانية من بعض رجالها الذين يئسوا
منها في الزمن الذي دبَّ فيه إلى مسلمي الآفاق الرجاء فيها، وما زلزل غرور
المسلمين وأزال بقايا غرور غير الحكام من العثمانيين، إلا هذه الحرب البلقانية،
فإذا كانت ثمرتها أن نعرف حدنا ونهتدي إلى رشدنا، فنعرف كيف ندرأ خطر
الزوال عنا، فإن هذه الحرب تكون - كما قلت من قبل - أكبر نعمة علينا.
ألا فليعلم من لم يكن يعلم أن وجود الدولة العثمانية في أوربة هو سبب
غرورها وفقرها ومولد الفتن فيها، وهو الذي جعل رجال الدولة يحتقرون بلادها
في آسية وأفريقية وجميع الشعوب الذين في هذه البلاد، فكل قوة الدولة تعد في
ولاياتها الأوروبية ولولاياتها الأوروبية، ومعظم أموال الدولة تصرف فيها،
وعاقبتها للأوروبيين دون العثمانيين؛ لأن أوروبة كلها مجمعة على ذلك، ولكن
تنفذه بالتدريج، فلا ينبغي أن نأسى على ما يزول من أملاك الدولة في أوروبة،
ولا نفرح بما يبقى منها، وإنما ينبغي أن نوجه كل عنايتنا إلى أملاكنا في آسية،
وأن نقيم بناء الإدارة والإصلاح فيها على الطريقة التي يسمونها اللامركزية.
فتجب العناية قبل كل شيء بجعل كل من يقدر على حمل السلاح في كل قطر
من الأقطار جنودًا مستعدين للدفاع عنه إذا هاجمه العدو، وأن يكونوا في هذا
متكافلين متعاونين بنظام يوضع لذلك، وأن يكون أول ما يبدأ به من ذلك الحجاز
والبلاد المجاورة له، وأن يكون كل ما يجمع من المال لإعانة الدولة خاصًّا
بتحصين الحرمين الشريفين وما حولهما، وإعداد تلك البقاع كلها للدفاع عنهما،
وبجعلهما مثابة للعلوم والفنون بإقامة المدارس العامة في المدينة المنورة والطائف،
وأن يتولى هذا العمل جمعية علمية إسلامية يختار أعضاؤها من خيار مسلمي الآفاق
كلها. فإذا لم يبادر عقلاء المسلمين من العرب والترك والهنود والفرس وغيرهم إلى
جمع المال لهذين العملين والسعي لتنفيذهما - فوالله ثم والله ليندمُنَّ وليعلمُنَّ
أن اهتمامهم بأدرنة والقسطنطينية لا يغني عنهم من ذلك شيئًا.
وليسقطن تحت نير أوربة كل ما بقي لهم، حتى كعبتهم وروضة نبيهم صلى
الله عليه وسلم، فليتدبروا ويتذاكروا {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13)
وسنعود إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلتنا الهندية
شكر علني
كنت أرى من حقوق إخواني مسلمي الهند وعمان والعراق الذين
أكرموا مثواي في رحلتي، وأحسنوا ضيافتي وبالغوا في مودتي، أن أكتب
إلى كل واحد منهم كتاب شكر خاص به، وكنت أتربص فرصة فراغ أوفيهم
حقهم هذا، ولكن قد طال العهد والزمن لم يَجُدْ عليَّ بهذه الفرصة، وذلك أن
زمن الرحلة قد امتد في العودة فلم أبلغ القاهرة إلا في النصف الثاني من شهر
شوال، فالأعمال التي كانت متأخرة من مدة ستة أشهر، وما يجب من
الاهتمام والعمل لفتح مدرسة الدعوة والإرشاد، وكان قد جاء موعد فتح
المدارس، وما يجب من جمع الهيئة العامة لجماعة الدعوة والإرشاد في
النصف الأول من ذي القعدة، وما عرانا من انحراف المزاج، ثم ما شغل
البال والوقت من هذه الحرب المشئومة، كل ذلك كان حائلاً دون سنوح
الفرصة المنتظرة.
لهذا رأيت أنه يجب عليَّ في عرف الوفاء والأدب أن أستعيض عن
الشكر التفصيلي الخاص بشكر إجمالي عام لأولئك الأصدقاء الكرام، والعلماء
الأعلام، والأمراء الفخام، وإنني أرجو وقد وفقت للكتابة إلى قليل منهم، أن أوفق
إلى مكاتبة سائرهم أو أكثرهم، وإنني أخص بالذكر من أتذكر الآن أسماءهم.
أولهم وأولاهم بالشكر من جالية العرب في بمبي ومن أهلها صديقي
الحميم المحسن العظيم الكريم ابن الكريم ابن الكريم، الشيخ قاسم بن محمد آل
إبراهيم، فهو الذي قام بحسن ضيافتي في غدوتي وروحتي، وأعد سيارة
كهربائية خاصة مدة إقامتي في بمبي، ثم ابنا أخيه الشيخ عبد الرحمن إبراهيم،
والشيخ يعقوب إبراهيم، والشيخ محمد المشاري رئيس شركة البواخر
العربية، وعبد الله فوزان، وسائر الجالية العربية في بومباي الذين استقبلوني
على رصيفها هم وبعض كرام أهلها كالحاج سليمان عبد الواحد شريف البلد
والحاج إسماعيل صوباني رئيس (أنجمن إسلام) الذي حياني على رصيف
البحر بخطبة بليغة، وميان محمد حاجي جان محمد شوتهاني كبير طائفة
الميمن وأشهر تجارهم نجدةً ومروءةً، والحاج عبد الله ميان الكهندواني من
كبراء طائفة الميمن أيضًا، وهؤلاء قد أدبوا لنا مآدب حافلة اجتمع لها مئات
من الكبراء والفضلاء.
ثم أشكر فضل باي من أكابر سروات البلد جماعة آغاخان، وكنت أتمنى
لو كان زعيمهم محمد سلطان (إمام الإسماعيلية) يومئذ في بمبي فإني كنت
حريصًا على لقائه، وقد سررت من اهتمام فضل باي بأمر الجامعة الإسلامية؛
لأنها كانت جل حديثنا في تزاورنا.
وممن أخص بالشكر والثناء السيد علي الحسن معاون البوليس في آكره
الذي أحسن ضيافتي وإطلاعي على الآثار العظيمة التي فيها، ومحمد شعيب
مفتش مصلحة الآثار في آكره ودهلي.
وأما أهل دهلي فأجدرهم بثنائي وشكري النواب محمد أجمل خان حاذق
الملك الطبيب الشهير كبير سروات دهلي وأحد أفراد المسلمين الممتازين في
الهند بالعلم والفضل وعلو الجانب، وقد أحسن - حفظه الله - ضيافتي
وجمعني في داره بأكبر علماء البلد ووجهائه، وخصص لي سيارة كهربائية
تيسر لي بركوبها رؤية جميع الآثار القديمة في ضواحي تلك المدينة في مدة
قصيرة، ولا أنسى أولئك العلماء الكرام الذين أنسنا بهم هناك وأخص بالذكر
منهم مولوي الشيخ سيف عبد الرحمن المدرس الأول والناظر لمدرسة فتح
بوري الدينية، وقد زرنا مدرسته وسمعنا وأسمعنا ما فتح الله به فيها.
وتكلمنا معه في إصلاح التعليم، والعناية باللغة العربية فصادفنا منه ارتياحًا لرأينا
في ذلك، ومولوي الشيخ عبد الله الغزيبوري، ومولوي أحمد الله المبارك بوري،
وميرزا ضمير الدين أحمد اللوهاري، ولا أنسى مودة التاجر الصادق الحاج
التقي عبد الغفار بن الحاج علي جان، الذي كان يترك محل تجارته الكبير
ويصاحبني في كل مكان، وقد صحبنا معه في رؤية آثار دهلي النواب ضمير
الدين، وبالقرب من الأثر العظيم الذي هو أكبر آثار دهلي، منارة قطب أوليا، بلدة
اسمها مهرولي، عرجنا فيها على دار الشيخ رياض الدين من كبراء أهلها
وكان أعد لنا غداءً طيبًا نوَّع فيه ألوان الأطعمة الهندية،وكان من مظاهر
الكرم الإسلامي في تلك الديار.
ولم أنسَ ولا أنسى زيارة مدرسة مظاهر العلوم في مدينة سهارنبور ولقاء
ناظرها وأكبر مدرسيها مولوي الشيخ خليل أحمد الذي لم أر في علماء الهند
الأعلام أشد منه إنصافًا ولا أبعد عن التعصب للمشايخ وللتقاليد، وما ذلك إلا
لإخلاصه وقوة دينه ونور بصيرته.
وأبدأ من شكر أهل لاهور الكرام بالثناء على الأمير الجليل والسري
النبيل، النواب فتح علي خان قزلباش، الذي أحسن ضيافتنا وأكرم وفادتنا،
ولا غرو فقصره في تلك المدينة القديمة معهد الكبراء والفضلاء، وموئل
السائحين والغرباء، وأثني بالثناء على الصديقين الفاضلين، والرصيفين
الكريمين مولوي محبوب عالم صاحب جريدة بيسه أخبار، ومولوي محمد إن
شاء الله صاحب جريدة وطن، وكان هذان الفاضلان يتسابقان لضيافتي،
ويرى كل منهما أنه أولى بي: الأول لأنه تكرم بزيارتي في مصر عند
منصرفه من أوربة، والثاني لما بيني وبينه من صلة المكاتبة وعنايته بنشر
تفسير المنار، ولكن النواب الجليل قال: إنه هو الأحق بذلك، فلم يسعهما إلا
الإذعان، لأنه هو البدء الذي لا يختلف على تقديمه اثنان.
ثم أثني الثناء الأوفى على الكاتب البليغ والخطيب المصقع مولوي ظفر
علي خان، صاحب جريدة (زميندار) الذي بالغ في الترحيب بي قبل وصولي
إلى الهند، واقترح أن تعقد لجنة لوضع برنامج لحفاوة مسلمي الهند بي، وكان
يريد أن يحتفل احتفالاً عامًّا يجتمع له الألوف من جميع طبقات الشعب
فاعتذرت له على ذلك بأنني مضطر إلى السفر إلى ندوة العلماء لقرب موعد
احتفالهم هذا العام.
ومما أذكره مع الشكر والثناء مواتاته لي في الصلح بينه وبين صديقي
صاحب جريدة (وطن) الذي أشكر له مثل هذه المواتاة، وكانت جرت بينهما
مناظرة حادة أدت إلى الجفوة وآلمت فضلاء المسلمين في جميع البلاد الهندية
حتى رغب إليَّ كثير من كبرائهم في السعي للصلح بينهما عند زيارة لاهور.
ومما أشكره لصديقي محبوب عالم شكرًا خاصًّا، ترْكه لنجله الكريم مريضًا
يعالَج وطوافه بي على مساجد البلد ومدارسها ومعاهدها الأثرية فيها وفي
ضواحيها.
وأما أهل لكنهؤ فلا أستطيع أن أوفيهم حقهم من الشكر والثناء، فقد
استقبلني الألوف منهم بحفاوة قلما يستقبل بمثلها الملوك، حتى خجلت
واستحييت وكلما رجوتهم أن يختصروا في التكريم غلوا فيه وأفرطوا، حتى
إنهم جروا المركب التي ركبتها بأيديهم، وأخص بالشكر والثناء رجال ندوة
العلماء الكرام، وفي مقدمتهم رئيسهم صديقي العلامة الهمام شمس العلماء
الشيخ شبلي النعماني، والسيد ممتاز حسين رئيس لجنة المستقبلين فيها، وهو
الذي خصص داره الفيحاء لنزولي فيها، وتأنق في إتقان الضيافة ما شاء فجمع
بين مقتضى أصله العربي الصميم، وفرعه الهندي الكريم، واحتشام السلطنة
أمين أموال الندوة، وسائر علماء الندوة وغيرهم كالعلامة الكبير السيد ناصر
حسين كبير علماء الشيعة.
ثم عظماء البلد الذين أدبوا لنا المآدب الحافلة: مشير حسين القدوائي،
الذي كان كاتب السر لجمعية الجامعة الإسلامية في لندن وأخوه شاهد حسين
والسيد محمد علي حسن خان ابن أمير العلماء وعلامة الأمراء المرحوم السيد
صديق حسن خان، نواب بهوبال صاحب التصانيف الشهيرة، والأمير الكبير
النواب محمد علي راجا ولاية محمود آباد، وهو من أعظم أمراء الهند
وسرواتهم من طائفة الشيعة الإمامية، وأركان النهضة الإسلامية، فإنه يبذل
المال لمدرسة العلوم الكلية في عليكرة بألوف الجنيهات، كما يبذل للمدارس
الخاصة بأهل السنة كمدرسة ندوة العلماء، فنسأل الله أن يكثر في المسلمين من
أمثاله، وكانت خاتمة الدعوات الحافلة في لكهنؤ دعوة الطبيب الشهير الحكيم
محمد عبد الولي حياه الله تعالى.
وقد سِرت من لكهنؤ إلى بنارس مدينة البراهمة المقدسة ومقر أقدم أصنام
في الأرض فلم أعرف من مسلميها إلا مضيفنا الكريم محمد ممنون حسن خان
المعاون المسلم للحاكم الإنكليزي فيها، وهو أفغاني الأصل، فقد تفضل - أحسن
الله جزاءه - مع حسن الضيافة بمساعدتنا على رؤية الآثار القديمة الوثنية
الثابتة من ألوف السنين المكتشفة حديثًا في ضواحيها، صرفنا كل وقتنا في
رؤية الآثار والعاديات فلم نتعرف لأحد، على أن أكثر مسلمي بنارس من
الصناع والزراع وقلما يوجد فيها أحد من أهل العلوم والآداب فيما نعلم.
للشكر بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أبو سعيد العربي الهندي
كان هذا الرجل في (درنه) يتردد على أنور بك وحاشيته مثل الشيخ صالح
التونسي وجاء مصر فاتصل بأخلاط الحزب الوطني فلحقه الفريقان بالطعن في
صاحب المنار فكتب في بعض جرائد الهند ينكر عليها فيها إطراءه وتسميته مصلحًا،
وبلغني أنه ادعى في بعضها أنه يتكلم في شأني عن معرفته بي، وهو لا يعرفني
وإنما رآني مرتين: إحداهما في لجنة الهلال الأحمر وثانيتهما في الطريق، دعوته
فيها إلى إدارة المنار للتعارف والمذاكرة فاعتذر.
فإذا كان قد كتب ما كتب بسوء الفهم، وهو مخلص، فستظهر له عاقبة
المنافقين الذين كذبوه وخدعوه، والله يعفو عنه، وإن كان مثلهم فجزاؤه على
الله تعالى، والعاقبة للمتقين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
] مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه ِ [[*]
(س5) من صاحب الإمضاء بالإسكندرية:
حضرة مولانا الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل السيد محمد رشيد رضا
الأكرم، السلام عليكم ورحمة الله، مولاي، نشرت إحدى الصحف أن طبيبًا
أمريكيًّا اكتشف عائلة مكونة من أب وأبناء له ثلاث بأن كل فرد منهم له قلبان
وأن كل قلب مستقل عن الآخر ويؤدي وظيفته تمام التأدية، ولما كان هذا
معارَضًا بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب:
4) أرجوكم إجلاء الحقيقة مع إظهار معنى الآية الشريفة وبيان وجه مخالفة
الآية والعقل معًا لذلك إن كان ثمت مخالفة أو موافقة، هل الآية قاصرة على
الرجل أو تشمل المرأة التي هي فرعه، وهل يؤخذ من الآية أم الخارج، أملي
التكرم بالجواب خدمة للعلم والدين لا زلتم للفضل أهلاً.
…
...
…
...
…
...
…
من المخلص محمد \ سليمان
…
...
…
...
…
...
…
... بجريدة الأهالي
وقد أرسل السائل الفاضل ما نشرته في ذلك جريدة الأهالي في عدد 689
وهذا نصه:
المعروف للآن أن القلب يسكن الجانب الأيسر من صدر الإنسان وأن
الذين وجدت لهم قلوب في الجانب الأيمن يمكن أن يعدوا على الأصابع بين
مئات الملايين من بني آدم، ولكن أحد أطباء أمريكا اكتشف أخيرًا أمرًا أغرب
بكثير من وجود القلب في الجانب الأيمن، اكتشف أربعة أشخاص من أسرة
واحدة لكل منهم قلبان: قلب في اليمين وقلب في اليسار، وهؤلاء أربعة هم أب
وأبناؤه الثلاثة.
وبعد المشاهدة والامتحان عرف أن كلاًّ من القلبين منفصل عن أخيه تمامًا
ويؤدي وظيفته كما لو كان وحده، رأيه أن الأبناء ورثوا ذلك من أبيهم. اهـ.
(ج5) يطلق لفظ القلب اسمًا لمضغة من الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى
الفؤاد مطلقا، ويقول بعضهم: إن القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه
المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة، كأنه يريد أن هذا هو الأصل، ثم جعله
بعضهم اسمًا لهذه المضغة وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها حتى شحمها
وحجابها قلبًا، ويطلق اسمًا لما في جوف الشيء وداخله كقلب الحبة، واسمًا
لشيء معنوي وهو النفس الإنسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر
وتتقي وتزيغ وتطمئن وتلين وتقسو وتخشى وتخاف، وقد نسبت إليه كل هذه
الأفعال في القرآن.
والأصل في هذا أن أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء
الحسية، وقد أطلق على الشيء الذي يحيا به الإنسان ويدرك العقليات
والوجدانيات كالحب والبغض والخوف والرجاء عدة أسماء منها الروح وهو
من مادة الريح، فإن لفظ الريح، أصله (روح) بكسر الراء فقلبت الواو ياء
لمناسبة الكسرة كواو الميزان، ولذلك تجمع الريح على أروح والميزان على
موازين، والمناسبة بين الروح والريح أن كلاً منهما خلْقٌ خفي قوي، ومنها
النفس وهو من النَّفَس بفتحتين؛ لأن النفس دليل الحياة التي تكون بالنفس،
ومنها القلب واللب؛ لأن لب الشيء وقلبه من المخلوقات الحية هو مستَقَر
حياته ومنشؤها كما يعرف ذلك في الحبوب، وهنالك مناسبة أخرى للقلب هو أن
قلب الحيوان هو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها، وللوجدانات النفسية
والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان، ومهما كانت المناسبة التي
كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القرآن بمعنى النفس المدركة
والروح العاقلة التي يموت الإنسان بخروجها منه، قال تعالى: {وَبَلَغَتِ القُلُوبُ
الحَنَاجِرَ} (الأحزاب: 10) أي الأرواح لا هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من
مكانها، وقال:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: 46) أي نفوس أو
أرواح وليس المراد أن القلب الحسي هو آلة العقل. وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ
* عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة،
وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية ولا العقل؛ لأن العقل في اللغة ضرب
خاص من ضروب العلم والإدراك لا يقال: إن الوحي نزل عليه، ولكن قد تسمى
النفس العاقلة عقلاً كما تسمى قلبًا، وقد يُعزى إلى القلب ويُسند إليه ما هو من
أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها أثر في القلب الحسي كقوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال: 2) وقوله: {ِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 156) وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة: 15)
وللاشتراك بين القلب المعنوي وهو النفس، والقلب الحسي وهو المضغة التي
ينبعث منها الدم؛ أو لأن الاسم الأول مأخوذ من الثاني، وإن صار
مستقلاًّ بمعناه، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي
الصُّدُورِ} (الحج: 46) أما الجوف في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) فقد يراد به الصدر، وقد يراد به ما هو أعم منه،
فإن جوف الشيء باطنه كقلبه، فالرأس له جوف وفيه الدماغ، والقلب له جوف
وفيه السويداء، فعُلم مما تقدم أن القلب في هذه الآية هو الروح الإنساني
المدرك.
روى أحمد والترمذي وحسَّنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم،
والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في سبب نزول هذه الآية:
(قام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا يصلي فخطر خطرةً، فقال المنافقون
الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلبًا معكم وقلبًا معهم، أي: مع
أصحابه الصادقين) .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان رجل من قريش
يسمى ذا القلبين كان يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. فأنزل الله فيه ما
تسمعون.
وروي أنه وجد من المشركين من ادعى أن له قلبين يفهم بكل منهما أو
يعقل أفضل من عقل محمد، وأنه هو أو غيره كان يدعى ذا القلبين، وأن الآية
ردت هذا الزعم كما أبطلت مزاعم التبني والظهار من ضلالات العرب،
ومعنى القلب اللحمي غير مراد على كل حال.
ولو فرضنا أن المراد بالآية نفي أن يكون للإنسان قلبان حسيان لكان
الكلام صحيحًا، سواء صحت رواية الجريدة أم لا، ولا تصلح أن تكون هذه
الرواية ناقضة لخبر الآية لا لأن خبر الآية ماضٍ وما اكتشف بعدها لا ينقض
خبرها عما قبله؛ بل لأن بيان أحوال الخلق إنما تبنى على ما مضت به السنة
العامة التي يعبرون عنها بالناموس الطبيعي؛ والشاذ لا حكم له، ولا يعد
مكذبًا لمن يخبر عن السنن الكونية بما هو المعروف.
فإذا قال علماء وظائف الأعضاء والتشريح: إن جسد الإنسان مركب من
رأس ويدين ورجلين مثلاً، وإن لكل يد ورجل خمس أصابع فلا ينقض قولهم
هذا ولادة طفل برأسين أو أكثر من يدين بست أصابع، ونحو ذلك مما يسمونه
فلتات الطبيعة.
وإذا أنت تدبرت السياق الذي وردت فيه الآية وفهمت المراد منها بمعونته
علمت أن مسألة اكتشاف رجل له ولكل من أولاده قلبان لا يدنو من معنى الآية
بوجه ما. ذلك بأن السورة افتتحت بالأمر بتقوى الله والنهي عن طاعة
الكافرين والمنافقين واتباع الوحي خاصة، وجاء بعد ذلك قوله تعالى: {مَا
جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} (الأحزاب: 4) فكان المراد منه أن الإنسان لا
يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين، وهما ابتغاء رضوان الله
وابتغاء مرضاة الكافرين والمنافقين والإخلاص فيكون في وقت واحد مخلصًا
لله ومخلصًا لأعداء دينه، ومن هذا الباب قول الشاعر:
لو كان لي قلبان عشت بواحد
…
وتركت قلبا في هواك معذبا
فهل يتعلق اكتشاف قلبين لحميين لرجل واحد - إذا صح - بشيء من
مراد الشاعر هنا؟ لا، إلا إن كانت إدراكاته ووجداناته النفسية صارت تجمع
بين الضدين في حال وزمن واحد كأن يكون مؤمنًا كافرًا، محبًّا مبغضًا، آمنًا
خائفًا، من غير ترجيح بين هذه الأشياء المتقابلة، وهذا محال.
***
ترتيب آي الرحمن الرحيم
(س6) من صاحب الإمضاء الرمزي في جبل لبنان:
حضرة الفاضل العلامة السيد رشيد رضا منشئ المنار الأغر. بعد السلام،
أعرض أنه قد تجاهل بعضهم حكم الله تعالى وآياته المحكمة التي أنزلت على
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي أحرزت بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً} (الإسراء: 88) وأخذ مأخذه من التغيير والتأويل والتحريف والتبديل،
مدعيًا ما لم يدعه أحد قبله في العصور الخالية، وهو أن البسملة التي هي فاتحة
الكتاب، فيها خلل يعثر عليه المنتبهون مثله من ذوي الألباب، وهو أن البلاغة
تقضي بتقديم الرحيم على الرحمن.
فأرجو من سيادتكم وإرشادكم أن تبينوا هذا لمن جهل الحقيقة على
صفحات مناركم المنير، كيلا يتشبث بهذا التشبث من غلب عليه الجهل من
المسلمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... م. ح
(ج6) إن بعض المتعصبين الكارهين للشيء لا ينظرون إليه إلا نظرة
الكاره الملتمس للمَذَامِّ والمعايب، فإذا وجدوا منفذًا لشبهة يشوهون بها حسنه
عدوها حجة ناهضة، وقد استنبط بعضُهم الاعتراضَ الذي أشار إليه السائل من
قول أكثر المفسرين للبسملة: إن لفظ الرحمن أبلغ وأعظم معنى من لفظ الرحيم؛
لأنه أكثر حروفا، والأصل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى،
وفسروا (الرحمن) بأنه المنعم بجلائل النعم، والرحيم بأنه المنعم بدقائقها،
وأوردوا على هذا أن الترتيب لا يكون على قاعدة الترقي في الكلام بالانتقال
من الأدنى إلى الأعلى، وأجابوا على ذلك بأن الترقي إنما يكون هو الأبلغ إذا
كان اللفظان - كعالم ونحرير - يدل أحدهما على معنى الآخر وزيادة، فإنك إذا
قلت: فلان نحرير عالم كان لفظ عالم، تكرارًا لا فائدة له؛ لأن لفظ نحرير يدل عليه؛
لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص، وذكر الأخص يستلزم الأعم ولا عكس.
وكلمتا (الرحمن الرحيم) ليستا من هذا القبيل؛ لأن (الرحمن) هو المنعم
بجلائل النعم فقط، فبدئ به لأنه الأعظم معنى، والمقام مقام الثناء فيقدم فيه الأبلغ
الأدل على الفضل، ثم جيء بلفظ (الرحيم) كالمتمم للمعنى؛ ولئلا يحجم من
يحتاج إلى النعم الدقيقة عن طلبها من الله تعالى. وهذا توجيه قوي جهله أو
تجاهله المعترض المتعصب فقال ما قال.
على أن هذا التفسير للاسمين الكريمين ليس هو التفسير الذي لا معدل
عنه، فقد اختار الأستاذ الإمام قول بعضهم: إن لفظ (الرحمن) من قبيل
الصفات العارضة كالعطشان والغضبان، ولفظ (الرحيم) من الصفات الثابتة
كالحكيم والعليم، فذكر الوصف الدال على التلبس بالرحمة بالفعل عند عروض
الحاجة إليها بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى الذي لا يطرأ عليه تغيير، ثم
ذكر الوصف الدال على الثبات والدوام ليفهم العربي من أسلوب كلامه أنه
سبحانه وتعالى متصف بالرحمة بالفعل عند حاجة العباد إليها، وأنها مع ذلك
صفة ثابتة له في الأزل والأبد بصرف النظر عن تعلقها بالعباد، وهو وجه ظاهر.
وهنالك وجه آخر في حسن الترتيب وبلاغته، وهو أن (الرحمن) هو
الوصف الذي عُدَّ من قبيل اسم العَلَم واسم الذات؛ ولذلك قال تعالى {قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) وأما
الرحيم فهو الوصف الذي يراد منه معنى الوصفية، ولذلك تعلقت بها الباء في
قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29) وهذا الوجه ظاهر أيضًا لا
شبهة تجرئ المتعصب على الاعتراض عليه بل هو الأظهر، فهو إذا لم
يجهله يتجاهله تعصبًا {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور:
40) .
_________
(*)(الأحزاب: 4) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلتنا الهندية
شكر علني
(تتمة ما في الجزء الأول)
(مدرسة عليكره)
أبدأ من شكر مدرسة عليكره ومديري شئونها وطلابها بذكر الشيخ
الجليل والمولى النبيل النواب وقار الملك بهادر مولوي مشتاق حسين،
سكرتير (عمدة) المدرسة وأحد زعماء مسلمي الهند وأركان النهضة العلمية فيها،
وبالعالم الأصولي النحرير، والمحامي الشهير المقبل على شأنه، الخبير
بأهل زمانه آفتاب أحمد خان، رئيس مؤتمر التربية والتعليم في الهند،
وبالعالم العامل المهذب الفاضل مولوي محمد حبيب الرحمن، رئيس الشرف
للشعبة الدينية في المدرسة، ثم بسائر العلماء الأعلام المدرسين، ووجهاء البلد
المقدمين، وفي طليعتهم الدكتور محمد أشرف، والدكتور ضياء الدين،
والأستاذ يوسف هردوتس الألماني أستاذ الشعبة العربية في المدرسة، والسيد
سليمان أشرف البهاري معلم الشعبة الدينية على مذهب أهل السنة، ومولوي
فدا حسين معلم الشعبة الدينية على مذهب الشيعة الإمامية، وعبد المجيد
خواجه المحامي، وأبو الحسن معاون سكرتير المدرسة.
تفضل هؤلاء العلماء الأجلاء باستقبالي على محطة السكة الحديدية خارج
البلد مع جمهور عظيم من أهل المدرسة ووجهاء البلد، وبتوديعي كذلك،
وبالحفاوة الفائقة بي مدة إقامتي بينهم، وقد بالغ النواب الجليل وقار الملك في
التأنق بضيافتي وأعد لي دار صديقه السري الكبير (خان) بهادر نواب محمد
فرمل الله خان الفسيحة الفيحاء، ذات الحديقة الغناء، وكان يدعو لمؤانستي
على الطعام كل يوم أكابر العلماء والأدباء، وقد استفدت من فضلاء عليكره
علمًا وخبرةً بأحوال إخواني مسلمي الهند لم أجدهما عند غيرهم.
ثم أشكر لناظر المدرسة الهمام مستر جي أيشتول بهادر، ترحيبه بي هو
وقرينته الفاضلة ودعوتهما إياي إلى شرب الشاي في دارهما، ووعد الناظر
إياي بالإجابة إلى ما اقترحته عليه من العناية بتوسيع نطاق تعليم اللغة العربية
في المدرسة، وأشكر مثل هذا الوعد لأستاذ الشعبة العربية يوسف هردتس
الألماني، أما النواب وقار الملك وعمدة المدرسة وأساتذتها فإن ارتياحهم
لاقتراحي عليهم لم يكن إلا تذكيرًا بما لا يغيب عن أذهانهم، بل رميًا عن
قوس عقيدتهم، وقد وعدوني بأنهم سينشئون ناديًا في المدرسة لا يتكلمون فيه
إلا بالعربية، ولعلهم أنجزوا الموعد، فإنهم أهل الوفاء والصدق، وقد ذكرني
رأيهم هذا، وكان وعدا مفعولاً، ما حدثني به بعض علماء المسلمين في
روسية وهو أنهم توسلوا إلى التمرن على اللغة العربية باتفاق أهل العلم
وطلابه على التزام التكلم بالعربية دون سواها في مدة شهر رمضان.
أما النواب الجليل فقال كما قال هردوتس: إنه لا يتيسر لهم اتفاق تعليم
اللغة العربية ما دامت المدرسة تابعة لنظارة معارف (إله آباد) قال النواب:
وإننا قد جمعنا المال الكافي لتحويل المدرسة إلى جامعة مستقلة، فمتى تم لنا
ذلك فإننا نجتهد فيما اقترحتموه علينا من إتقان تعليم الدين وتعليم العربية أتم
الاجتهاد، وقد أحزنني بعد عودتي ما بلغني من استقالة النواب الجليل من
المدرسة، ولا أدري أحق ما قيل من أن المال الذي كان جمع لجعلها جامعة قد
دفع لإعانة الدولة العثمانية على الحرب أم لا؟ وإذا صح فهل تصدوا لجمع
غيره أم لا؟ أما المبلغ فهو مئتا ألف جنيه إنكليزي وبضعة آلاف من الجنيهات.
ولا يسعني من شكر طلاب المدرسة النجباء والثناء عليهم إلا الإجمال،
فقد قرت عيني بما رأيته من أمارات النجابة والاجتهاد عليهم، وما توسمته
من شعور الإخاء الإسلامي في وجوههم، وما قابلوا به خطبتي عليهم في
التربية من الارتياح والقبول، وقولهم: إنهم نقشوها في ألواح النفوس وصحف
القلوب، ثم إن طلاب القسم العالي والأعلى منهم لم يكتفوا بإظهار سرورهم
واحترامهم بالقول الحسن، والزيارة والسؤال، وغير ذلك من شعائر الاحترام،
بل استأذنوا النواب الجليل في مأدبة حافلة للعشاء باسمهم فكانت مأدبتهم أكبر
مأدبة أكرمني بها أمراء الهند وأغنياؤهم، فإن أصحاب الدعوة من الطلبة
بضع مئين ودعوا معي أساتذة المدرسة من الوطنيين والأوربيين ووجهاء البلد،
على أنهم قدروا نفقات دعوة لزهاء ألف رجل يقدم لهم أنفس ما يأكل الأمراء
والكبراء من الطعام، ثم اكتفوا بعد مذاكرتي ورضائي مع الإعجاب والسرور
بأن يجعلوا المأدبة في الدرجة الوسطى ويجعلوا باقي ما قدروه من نفقتها إعانة
لأيتام وجرحى المجاهدين في طرابلس الغرب، فكان ذلك ثلث ما قدروه،
وكذلك فعل العالم العامل التقي الخفي مولوي حبيب الرحمن الذي آثر بأن
أسميه صديقي المحبوب في دعوته إياي إلى حفلة الشاي، فحيا الله هؤلاء
الإخوة الكرام.
***
(مدرسة ديوبند)
قد بينت في العجالة التي كتبتها عن رحلتي وأنا في العراق ما كان من
سروري وارتياحي في مدرسة ديوبند الدينية، وأن الخُبر لها كان خيرًا من
الخَبر عنها، فأشكر لعلمائها الأعلام وطلابها النجباء تواضعهم وكرمهم
بي والعناية باستقبالي وتوديعي؛ إذ خرج لهما رؤساؤهم وجمهورهم إلى
محطة السكة الحديدية البعيدة عن البلد، وفي مقدمتهم مولانا العلامة الشيخ
محمود حسن رئيس المدرسين، ومولانا الحافظ محمد أحمد ناظر المدرسة،
ومولانا العلامة الشيخ عبيد الله رئيس جمعية الأنصار، ومولانا العلامة الشيخ
أنور شاه، ومولانا العلامة الشيخ محمد حبيب الرحمن من كبار المدرسين،
وكان من ذوقهم ولطفهم أن وضعوا على باب المدرسة قطعة كبيرة من النسيج،
مرسومًا عليها حديث: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى
للغرباء) وقد حيوني بالخطب والشعر حياهم الله تعالى، وبالغوا في الاعتذار
عن التقصير في الضيافة بأن حالهم وحال بلدهم الصغيرة لا يمكنانهم من كل
ما يرونه لائقًا من كثرة الألوان وضروب الإتقان، وأقول: إنهم والله ما
قصروا ولقد كانت كيفية ضيافتهم آثر عندي وأروح لنفسي من ضيافات كبراء
الدنيا، ومن مبالغتهم في ضيافتهم أنهم زودونا بأطعمة نفيسة حملوها إلى
القطار الحديدي عند توديعنا، فأكلنا منها في الطريق وأفضنا على الفقراء في
بعض المحطات، وهذا من الكرم الذي انفردوا به دون سائر الكرماء.
وإنني أختم الشكر والثناء بذكر من يستحق أن يشارك أهل كل بلد زرته
هنالك في شكري لهم، وهو صديقي الصفي الوفي، السيد عبد الحق حقي
الأعظمي البغدادي، مدرس اللغة العربية، في مدرسة العلوم الكلية، فإنه كان
رفيقي وأنيسي وترجماني في كل هاتيك البلاد، وإنني ما لقيت في حياتي رفيقًا
أخف روحًا وأكبر مروءةً وأشد تواضعًا وأحسن تصرفًا من هذا الأخ الكريم،
والولي الحميم، فإنه وضع نفسه مني، وهو الكفؤ الكريم، في موضع التلميذ
المجتهد من الأستاذ المحقق، والمريد الصادق من المسلك العارف، والولد
البار من الوالد، بل الخادم الأمين من المخدوم القمين، ثم كتب رسالة في
ملخص رحلتي لقب نفسه فيها بهذه الألقاب، وطبعها ونشرها في البلاد، ولولا
ذلك لما أبحت لنفسي أن أذكرها ولو لأشكرها، وأبين أن فضله وكماله هما
اللذان حملاه على التفضل بها، فهي أيادٍ يمنها عليَّ، وليس لي يد أمنها عليه،
وإنما أسأل الله أن يحسن جزاءه ويديم وفاءه، وأن يقر عينه بولده، حتى
تتصل بهم سلسلة الولاء والوفاء من بعده.
للكلام بقية في شكر أهل عمان والعراق
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدولة العثمانية
تعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيها
ونظرة في حالها ومستقبلها
لا يظهر الاهتمام بأمر الدولة العثمانية في قطر من الأقطار الإسلامية
كما يظهر في الهند ومصر؛ لما امتازا به في الحرية وانتشار العلم، وإننا نرى
في هذا الأيام في مطبوعات الهند ما لا نراه في المطبوعات العربية ولا
التركية من اللهج بالخلافة، والخوف على دولة الخلافة، والتألم من الحرب
البلقانية، وتمني العود إليها بعد الهدنة رجاء النصر للدولة العثمانية.
ومن موجبات الأسف أن هؤلاء المسلمين لا يعرفون حقيقة حال الدولة
ولا حقيقة مصلحتها ومصلحة المسلمين المرتبطة بها، ويترتب على هذا أنهم
لا يعرفون كيف ينفعونها ولا كيف يدفعون الضرر عنها، بل كانوا ولا يزالون
يظنون أن الانتصار والتحزب لكل من يتولى أمر هذه الدولة في الآستانة هو
الذي يقويها ويحفظ استقلالها، ويحفظ بحفظه الإسلام ويقام شرعه ويحمي
الحرمان الشريفان.
على هذه القاعدة كانوا يتشيعون للسلطان عبد الحميد المخرب لبنيان
الدولة من الداخل، ثم صاروا ينتصرون لمن خلفوه من المخربين من الداخل
والخارج، وكانت جرائدهم مظهر هذا الانتصار، وكان من تأثيرها إضعاف
سعي طلاب الإصلاح من العثمانيين في مصر مدة زمن السلطان عبد الحميد،
وقد استطاع الاتحاديون أعداء عبد الحميد أن يستخدموا كثيرًا ممن كان
يستخدمهم الحزب الوطني في مصر، ولكن كان من شؤمهم أن سقط هذا
الحزب ولم يبق له من الأثر إلا سفاهة بعض الشبان الحمقى تظهر في بعض
الجرائد التي لا يأبه لها أحد يؤبه له في مصر.
ولم يستطع المصريون والهنديون أن ينفعوا الآستانة بشيء إلا ما جمعوه
من المال للإعانة على الحرب وبعثات الهلال الأحمر، ولم يكن للحزب
الوطني تأثير في جمع مئات الألوف من الدنانير التي جمعت من مصر، ولكن
كان للمؤيد ولمؤسس المؤيد يد بيضاء وتأثير عظيم في ذلك وهما اللذان
يتهمهما الحزب الوطني بعداوة الدولة العثمانية.
ثم إن مسلمي الهند ومصر صاروا يبحثون في سياسة الدولة الداخلية
والحربية وإنني أعتقد أن جميع الهنديين وأكثر المصريين مخلصون في ذلك
تدفعهم الغيرة الدينية إلى هذا البحث، ولا يشذ إلا أفراد من المنتمين إلى
الحزب الوطني هنا فإنهم مستأجرون، ولا تنفع الكتابة في هذا الموضوع وإن
كانت عن إخلاص إلا إذا كانت عن معرفة صحيحة بحقيقة الحال ورأي
صحيح فيما تقتضيه.
***
(نشرة صحيفة بريس من حيدر آباد)
جاءتنا نسخ من هذه النشرة التي طبعت باللغة العربية لإيقاف العرب في
مصر والشام والآستانة على رغائب إخوانهم المسلمين في الهند في الأزمة
الحاضرة، وعهد إليهم الكاتب أن ينقلوها إلى جرائدهم العربية ويترجموها
بالتركية، وقد وزعنا النسخ التي وصلت إلينا ورأينا من حق الكاتب الغيور أن
نشير إلى ما كتبه في المنار أيضًا وإن كنا لا نوافقه على كل ما ارتآه.
في النشرة مسائل مهمة نلخصها فيما يأتي:
(1)
وصف الكاتب شدة تعلق مسلمي الهند بالدولة العثمانية، وأن الدولة
البريطانية تعرف هذا جيدًا فاستفادت بالخلافة الإسلامية ما استفادت، وذكر
من ذلك أن السلطان تيبواك بطل الإسلام في الهند كان في القرن الثامن عشر
أرسل سفارة سياسية إلى سدة الخلافة ولكن رجال الدولة العلية أصدروا
الفرمان الشاهاني بوجوب مودته للدولة البريطانية. وأن السلطان عبد الحميد
أصدر فرمانا في عهد الثورة الهندية الكبرى سنة 1857 بوجوب طاعة
مسلمي الهند للدولة البريطانية كما طلب منه الإنكليز، وهكذا أصدر الفرمان
للأمير شير علي خان أمير الأفغان بوجوب الاعتصام بحبل مودة الإنكليز.
ونحن نقول للكاتب: صدقت، ونزيده أن الدولة لجهلها بقيمة منصب
الخلافة لم تعمل عملاً ما تستفيد به منه، ولكن الإنكليز هم الذين أحيوا اسم
الخلافة واستخدموه حتى في عهد سلطة الاتحاد والترقي، فقد حملت الوزارة
الاتحادية السلطان محمد رشاد في العام الماضي على إرسال أحد أنجاله بكتاب
خاص من خط يده إلى توديع ملك الإنكليز في مياه ثغر بورسعيد عند سفره
إلى الهند، لأجل الاحتفال بإلباسه تاج الإمبراطورية الهندية، وإعلان مودته
له ولدولته.
ولكن ما يدرينا الآن أن إظهار المسلمين لشدة تعلقهم بالدولة العثمانية
صار يخيف الإنكليز من عاقبته، فحملهم هذا على الرضا بإزالة سلطانها، وهل
ينفع الدولة حينئذ شدة حزن الهنود على ما أصابها، وترك طلبة العلم هنالك أكل
اللحم لتوفير المال لها؟
(2)
أشار الكاتب إلى أقوال ظن أن أهل هذه البلاد اطلعوا عليها، كبيان
جريدة كامريد الدهلوية لحال المسلمين الآن، وقول الخواجة مظهر الحق
(بيرسترات لا) في محاضر ضجت بها أرجاء الهند: إن هذه الحرب أريد بها
إخراج الترك والمسلمين من أوربة، أو حرب بين الإسلام والنصرانية. وما
قاله السير جيمس مستن لفتننت غورنر في خطابه لطلبة كلية عليكرة، ونحن
نخبره أن أهل البلاد العربية لم يطلعوا على ما ذكره ولكني أظن أنه لم يُقل
عندهم شيء إلا وقيل عندنا مثله أو أشد.
(3)
قال: بل الخطر ظهر جليًّا لآسية الصغرى والشام والعراق، بل
العرب نفسها مركز قلوب المسلمين؛ فإن نفوذ أوربة في هذه البلاد أنتم أعلم به
منا، ولا شك أنكم تعرفون كيف يزداد نفوذ ألمانية كل يوم في العراق
والأناضول. وذكر طمع هذه الدولة هناك وطمع فرنسة في سورية، ونسي أو
تناسى أن طمع إنكلترة في بلاد العرب أشد وأوسع، وأن دولة أوربة أنشأت
تبحث في تقسيم أملاك الدولة في القرنين الأخيرين بتدخل أوربة وأنه لا فائدة في
إبقاء سيادة الخلافة اسمًا بلا مسمى.
ونقول إن خواصنا أعلم من خواصكم بكل ما قال - كما قال - ويرون
أن الذنب على الدولة لا على دول أوربة، فإن أوربة قد وصلت إلى درجة عالية
في فتح الممالك وهي ما تسميه الفتح السلمي، ومن المحال أن تبقى الدولة العثمانية
بجانبها وهي على جهلها وخللها وكسلها وعدم اهتمام رجالها بشيء غير سلب مال
الأمة لأجل التمتع به، ولو جارت الدولة تلك الدول في العلم والعمل والعدل
في أمتها والنظام والقوة، لتنافسْنَ في التقرب إليها وتسابقن محالفتها للانتفاع من
قوتها، أوتركْنَها وشأنها خوفاً من شدة بأسها، فهي قد تركت كل عمل نافع
واتكلت على تنازع الدول عليها، توهمًا أنهن لن يتفقن عليها، فخاب ظنها
وبطل وهمها.
(4)
نتيجة ما تقدم والمقصد من النشرة أن إخواننا مسلمي الهند يرون
أنه يجب أن لا ترضى الدولة باستقلال ألبانية بلاد الأرنؤوط، ولا بالتنازل عن
شيء من مكدونية لأن ذلك يسقط مقام الخلافة وهيبتها ويغري الدول بالجري
على هذه الخطة في ولايات آسية، فيجب أن لا تقبل الدولة الصلح بحال من
الأحوال، وأن لا تبالي سيلان أضعاف ما سال من أنهار الدماء، فالخطر على
الدولة مترتب على الصلح، وإذًا يصير الحرمان الشريفان على خطر، وقد بالغ
الكاتب في التحريض على مداومة القتال، وأتى بما أتى به من العبر والأمثال،
فعلم أنه هو وجمهور إخواننا المسلمين هناك يعتقدون أن بالعود إلى الحرب
تحفظ عظمة الخلافة ويصان الحرمان وتعلو كلمة التوحيد.
ونحن هنا نرى جمهور المصريين موافقين لإخوانهم الهنديين في رأيهم
وشعورهم، ومن يعلم هذا منهم يزداد استمساكًا برأيه واطمئنانًا به. وما هذا
منهم بعجيب فإنهم لا يعرفون حقيقة حال الدولة، وإنما العجيب أن يضرب
بعض الكتاب العثمانيين بهذا الدف ويردد نغمات الحرب، ويقول: إما صلح
شريف تحفظ به أدرنة أو نصف أدرنة وإما موت شريف، وذلك أن الدولة
يئست من البلقان كله إلا أدرنة التي ثبتت على الحصار.
إني ليعز علي أن تؤخذ مدينة أدرنة غنيمة باردة بترك الدولة لها صلحًا،
كما عز علي أضعاف ذلك تركها مملكة طرابلس الغرب وبرقة صلحًا،
ولكنني لا أفهم معنى معقولاً لتعريض الدولة للموت في الحرب، ولا كيف
يكون هذا الموت شريفًا في سبيل المحافظة على مدينة أدرنة كلها كما يقترح
بعض الكتاب، أو على نصفها كما تقترح وزارة محمود شوكت باشا الاتحادية.
إن موت الدولة ليس كموت رجل واحد يهان فيبارز من يهينه، وإن كان
أقوى منه لينتقم منه، أو يموت فلا يرى نفسه مهينًا بين الناس، فإن الدولة
شخص معنوي وموتها عبارة عن خروج الحكم فيها من أيدي أهلها إلى أيدي
الأجانب، وأهلها الذين يعزون بحياتها ويشرفون، ويذلون بموتها ويهانون،
لا يموتون بذهاب الحكم منها ولا ينقرضون، فهم إذًا يطلبون الوقوع فيما
يحذرون.
ألا إن من كتم داءه قتله، ألا إننا قد سئمنا الغرور والتغرير، ألا إننا قد
أصبحنا على شفا جرف، وسقوطنا في هاوية العدم منتظر في كل يوم، فلم
يبق عندنا شيء نخاف عليه من إظهار حقيقة حالنا لمن لا يعرفها منا. ألا إن
الحقيقة المجردة من لباس الزور والغرور هي أن هذه الدولة قد أمست بجهلها
وسرفها وغرورها وفقرها، ودهاء أوربة وعلومها وثروتها لا تستطيع أن
تعيش مستقلة عزيزة في عاصمتها بقوانينها وأنظمتها وتقاليدها، وبرجالها
الذين ربتهم أوربة لها، لأنها تربية مذبذبة لا هي إسلامية ولا أوربية، وإنما
تعيش في تلك العاصمة كما تريد أوربة، فلا هي قادرة أن تحفظ عاصمتها من
أوربة ولا الحرمين الشريفين ولا غيرهما من البلاد، ولا يمنع أوربة أن
تتصرف فيها، وهذه حالها، كما تريد إلا تنازع الدول الكبرى واختلافهن،
فمتى اتفقن على شيء أردنه كان الأمر مفعولاً.
ألا إنني قد فطنت لهذا الأمر من قبل وقتلته بحثًا وتفكيرًا، ثم اقترحت
على الدولة من بضع عشرة سنة أن تجعل الآستانة مركزًا حربيًّا وتجعل
عاصمتها دمشق الشام، فإن لم يقبل متعصبو الترك فقونية، وأن تتركهذا
التفرنج كله وتؤسس لها قوة آسيوية حربية أهلية من العرب والترك فتجعل
جميع أفراد الأمة مستعدين للحرب والكفاح للدفاع عن بلادهم وقت الحاجة.
ولكن افتتانها بعظمة اسم القسطنطينية وموقع القسطنطينية وتسمية نفسها دولة
أوربية، وما يتبع ذلك من لذات هذه المدنية، قد حال دون التفكر في هذا
الاقتراح وتنفيذه. وقد علمت في هذه الأيام أن بعض كبراء رجال الدولة اقترح
على السلطان عبد الحميد نقل العاصمة إلى الأناضول قبل الانقلاب الأخير بعدة
سنين وأن أحد كبار ضباط ألمانية الذين تولوا تعليم الجيش العثماني وتنظيمه قد
اقترح مثل هذه الاقتراح في الزمن الأخير، وأخشى أن يصدق عليه المثل: بعد
خراب البصرة، وجميع من أعرف من أهل الرأي العثمانية سيما الترك يرون
أن استمرار الحرب خطر، وليس له فائدة تنتظر، وسيظهر الصواب لجميع
البشر.
***
(حال الدولة ومستقبلها)
فاجأنا هذه الأيام نبأ مفزع وهو أن أنور بك الضابط الاتحادي هجم على
الباب العالي مع فتية من رجال جمعيته الفدائيين في حال انعقاد مجلس الوزراء
وقتلوا ناظم باشا ناظر الحربية والقائد العام وبعض الحاشية وأكرهوا كامل
باشا على الاستقالة فذهب بها أنور إلى قصر السلطان وعاد يحمل فرمان
تعيين محمود شوكت باشا [1] صدرًا أعظم وناظرًا للحربية، فكيف حال
دولة هكذا تسقط وزارتها وهكذا تنصب؟.
سنشرح في آخر هذا الجزء أخبار هذا الانقلاب، ونقول هنا: إن الخطر
على الدولة قد اشتد، وسواء عادت الحرب أو لم تعد، فإن الأمر بيد الدول
ولن تستطيع الدولة أن تعمل بقوتها شيئا، ولكن تبذل دماء ألوف كثيرة
وملايين من النقد بغير عوض ولا فائدة فتزداد ضعفًا على ضعف، ويخشى أن
تستتبع فتنة أنور فتنة داخلية أكبر منها، واللعنة مسجلة من الله ورسوله على
موقظها، ثم ماذا؟
تمتص الآستانة في هذه الفرصة ما يمكن امتصاصه من وشل ثروة
الأمة العثمانية المسكينة، وما يمكن من أموال المسلمين المتمتعين بالثروة
والحرية وهم أهل مصر والهند، فلا يكون ذلك كله إلا كنقطة قليلة من الماء
تقع على خزفة أو آجرة سخنة. ثم لا مندوحة للدولة عن الركوع بين يدي
أوربة والتماس مساعدتها بالمال والحال لإدارة حركة الدولة الداخلية،
ويخشى أن تتوسل الدولة بذلك إلى جعل مالية الدولة وإدارتها تحت مراقبتها،
وذلك منتهى ما تبغيه أوربة من إزالة هذه الدولة بالفتح السلمي.
إن ظني وظن من أعرفهم من العثمانيين المخلصين في زعماء جمعية الاتحاد
والترقي سيئ جدًّا، فنحن لا نستبعد أن يعطوا الدول فوق ما تطلب من ذلك كبيع
الأراضي الأميرية والامتيازات وتقوية النفوذ وهو بيع البلاد الذي يسمونه الفتح
السلمي، فإذا واتاهم محمود شوكت باشا الذي نال الوزارة بمسدساتهم وخناجرهم
فهي القاضية، ويجب على جميع الولايات العثمانية بالفعل أو الاسم أن تقبل
بيع شيء من بلادها بأي اسم كان، فمن يبلغهم بيع شيء من بلادهم للأجانب فليعلنوا
استقلالهم وعدم اعترافهم بهذا البيع كيفما كانت صورته، ولا بالبائع مهما كانت
صفته، وليستعد كل قطر ليكون مثل طرابلس الغرب.
لا أريد تثبيط العثمانيين وسائر المسلمين عن مساعدة الدولة بالمال، فأنا قد
ساعدت بحسب استطاعتي وإنما أقول إن هذه الحرب إن عادت لا تطول، وينبغي
أن يعلم المساعدون أين يضعون أموالهم، فيحبسها أهل الأقطار على صلاح بلادهم،
ويخصها سائر المسلمين بحرم ربهم وحرم نبيهم، فإن ما يتسرب إلى الآستانة لا
يفيد الحرمين ولا غيرهما شيئا، وأن لا يأمنوا جمعية الاتحاد والترقي على شيء
من المال، وإلا ندموا بعد أيام أو شهور حيث لا ينفع الندم.
بذلت هذه النصيحة وأنا موطن نفسي على احتمال إيذاء أشد مما
آذتني به الحكومة الحميدية، وعلى احتمال تخطئة وذم ولعن من الجاهلين
والمنافقين، كما احتملت مثل ذلك قبل من أنصار عبد الحميد، ولكن إذا
كان حقنا في مقاومة عبد الحميد لم يظهر إلا بعد جهاد عدة سنين، فإن حقنا
في الأزمة الحاضرة سيظهر بعد أسابيع أو شهور، وقد كنا نبين سيئات
الجمعية ونسكت عن الحكومة، فإذا رأينا هذه الوزارة آلة بيد الجمعية كوزارة
حقي باشا فإننا لا مندوحة لنا عن الوقوف لها بالمرصاد، وقد انتهينا إلى وقت لا
يمكن السكوت معه والانتظار.
إن الدولة على خطر لا يمكن لعاصمة البيزنطيين الخروج منه ولا
يرجى للإسلام خير منها، فإذا كان محمود شوكت باشا رجلاً فليكسر
جميع تلك القيود والمقاطر، ويقطع جميع هاتيك الأغلال والسلاسل، وليخرج
الدولة من ذلك السجن الذي يتحكم بها فيه الأوربيون واليهود الصهيونيون
كما شاءوا وهو عنوان الإسلام والخلافة. ولينشئ في قلب آسية عاصمة جديدة لا
إسراف فيها ولا تبذير، ولا فخفخة فيها ولا غرور، ولا مكر يهودي،
ولا كيد اتحادي، ولا ضغط أوربي، وليقم الحكومة الجديدة على أساس
اللامركزية، ويجعلها شق الأبلمة بن الأمتين العربية والتركية، بحيث
يكونان أمة واحدة قوية، وينفذ ذلك بهمة تجمع بين العدل والاستبداد، بعد أن
ينظف الجيش مما طرأ عليه من الفساد، ويقتل القتلة الأوغاد. ولا يضيعن
الفرصة التي أضاع مثلها من قبل، وبذلك ينقذ نفسه والدولة من الخطر، وإلا
ندم حيث لا ينفعه الندم، وأسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة فرجًا ومخرجًا، وإننا
لا ندخر في خدمة من يعمل لإنقاذها وسعًا.
_________
(1)
محمود شوكت باشا، شركسي الأصل بغدادي المنشأ وليس فاروقيًّا ولا عربي
النسب كما شاع عقب الانقلاب ووقعنا يومئذ في الخطأ الذي وقع فيه غيرنا، وقد أخبرني أخوه الفاضل مراد بك بأصلهم وسبب وجودهم في العراق وكان رفيقًا لي في سفري من بغداد إلى حلب.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
نظريتي في قصة صلب المسيح
وقيامته من الأموات [*]
ذهب علماء الإفرنج المحققون في تعليل منشأ هذه المسألة مذاهب شتى
لأنهم لا يعتقدون حصول هذه القيامة الموهومة. ولسنا في حاجة إلى نقل
آرائهم في مثل هذه المقالة، ومن شاء الاطلاع على شيء من ذلك فليقرأ مؤلفات
رينان وإدوارد كلود، ودائرة المعارف المتعلقة بالتوراة، وكتاب دين
الخوارق وغير ذلك. وإنما نريد الآن أن نقول كلمة في هذا الموضوع لنزيل
الغشاوة عن أعين هؤلاء الناس الملقبين بالمبشرين وهي نظريتي [1] في هذه
المسألة فنقول:
كان بين تلاميذ المسيح رجل يدعى يهوذا، وهو من قرية تسمى خريوت
في أرض يهوذا فلذا عرف بالأسخريوطي، وكان يشبه المسيح في خلقته شبهًا
تامًّا [2] ومن المعلوم أن المسيح كان يدعو الناس إلى دينه في الجليل ولكنه كان
يذهب إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح كما هي عادة اليهود فزارها في
السنة الأولى من بعثته وكان هو وأتباعه القليلون محتقرين فيها لأن اليهود
كانوا يحتقرون أهل الجليل وخصوصًا سكان الناصرة [3] فما كان أحد يبالي بهم
أو يلتفت إليهم، وفي السنة الثالثة من بعثته لما زارها في المرة الأخيرة من
حياته كان شأنه قد ارتفع عن ذي قبل وكثرت أتباعه فحقد عليه رؤساء اليهود
الذين استاءوا من أقواله وأعماله وتعاليمه فصمموا على الفتك به واتفقوا مع
يهوذا الإسخريوطي على أن يدل مبعوثيهم عليه ليقبضوا عليه فذهب يهوذا
معهم ودلهم عليه فإنهم ما كانوا يعرفونه (مرقس 14: 43 - 46) فأمسكوه
وكان ذلك ليلاً وساقوه إلى بيت رئيس الكهنة فتركه جميع التلاميذ وهربوا
(مر 14: 50) ولكن تبعه بطرس من بعيد ثم أنكر علاقته به وفر هو أيضًا
هاربًا، وأما دعوى صاحب الإنجيل الرابع أن يوحنا تبعه أيضًا (يو 18:
15 -
18) فالظاهر أنها مخترعة من واضعه لمدح يوحنا كما سيأتي بيانه
وإلا لذكرها الثلاثة الإنجيليون الآخرون.
ولما كان الصباح ساقوه إلى بيلاطس الذي كان يود إنقاذه منهم ولكن
الظاهر من الأناجيل أنه لم يفلح فحكم بصلبه فأخذه العسكر إلى السجن حتى
يستعدوا للصلب، ففر من السجن هاربًا إما بمعجزة أو بغير معجزة كما فر
بعض أتباعه بعده من السجون أيضًا (راجع أع 12: 6-10 و16: 25
و26) وربما ذهب إلى جبل الزيتون ليختفي (انظر مثلاً يو 8: 1 و59 و10:
39 و11: 53 - 57) وهناك توفاه الله أو رفعه إليه بجسمه أو بروحه فقط
فخرج الحراس للبحث عنه، وكان يهوذا مسلمه قد صمم على الانتحار
وخارجًا ليشنق نفسه في بعض الجبال (متى 27: 3-10) ندمًا وأسفًا على
ما فعل فلقيه الحراس، ونظرًا لما بينه وبين المسيح من الشبه التام فرحوا
وظنوه هو وساقوه إلى السجن [4][5] متكتمين خبر هروبه خوفًا من العقاب
ولمَّا وجد يهوذا أن المقاومة لا تجدي نفعًا ولِما طرأ عليه من التهيج العصبي
والاضطراب النفساني الشديد الذي يصيب عادة المنتحرين قبل
الشروع في الانتحار، ولاعتقاده أنه بقتل نفسه يكفر عما ارتكب من الإثم
العظيم ولعلمه أن قتله بيد غيره أهون عليه من قتل نفسه بيده، لهذه الأسباب
كلها استسلم للموت استسلامًا ولم يفُه ببنت شفة رغبةً منه في تكفير ذنبه
وإراحة ضميره بتحمله العذاب الذي كان سلم سيده لأجله [6] ولما جاءت ساعة
الصلب أخرجوه وساروا به وهو صامت ساكت راضٍ بقضاء الله وقدره
ونظرًا لما أصابه من التعب الشديد والسهر في ليلة تسليمه للمسيح وحزنه
واضطرابه لم يقو على حمله صليبه أو أنه رفض ذلك فحملوه لشخص آخر
يسمى سمعان القيرواني وذهبوا إلى مكان يسمى الجمجمة خارج أورشليم
وهناك صلبوه مع مجرمين آخرين فلم يكن هو وحده موضع تأمل الناس
وإمعانهم ولم يكن أحد من تلاميذ المسيح حاضرًا وقت الصلب إلا بعض نساء
كن واقفات من بعيد ينظرن الصلب مت 27: 55 ولا يخفى أن قلب النساء
لا يمكِّنهن من الإمعان والتحديق إلى المصلوب في مثل هذا الموقف وكذلك
بُعد موقفهن عنه، فلذا اعتقدن أنه هو المسيح، وأما دعوى الإنجيل الرابع
19: 26 أن مريم أم عيسى ويوحنا كانا واقفين عند الصليب فالظاهر أنها
مخترعة كالدعوى السابقة لمدح يوحنا أيضًا إذ يبعد كل البعد كما قال رينان أن
تذكر الأناجيل الثلاثة الأول أسماء نساء أخريات وتترك ذكر مريم أمه
وتلميذه المحبوب يوحنا، كما يسمي نفسه بذلك في أغلب المواضع، إذا صح أنه
هو مؤلف الإنجيل الرابع.انظر إصحاح 13: 3 و21: 20 وغير ذلك كثير.
هذا وقلة معرفة الواقفين للمسيح لأنه كان من مدينة غير مدينتهم (راجع
يوحنا ص7) وشدة شبه يهوذا به وعدم طروء أي شيء في ذلك الوقت
يشككهم فيه - كل ذلك جعلهم يوقنون أن المصلوب هو المسيح، حتى إذا شاهد
القريبون منه تفاوتًا قليلاً في خلقته حملوه على تغير السحنة الذي يحدث في مثل
هذه الحالة ومن مثل هذا العذاب. وكم في علم الطب الشرعي من حوادث ثابتة
اشتبه فيها بعض الناس بغيرهم حتى كان منهم من عاشر امرأة غيره الغائب
بدعوى أنه هو وجازت الحيلة على الزوجة والأهل والأقارب والمعارف
وغيرهم ثم عرفت الحقيقة بعد ذلك، وأمثال هذه الحوادث مدونة في كتب هذا
العلم في باب تحقيق الشخصية: (Identification)
فليراجعها من شاء.
ومنهم من شابه غيره حتى في آثار الجروح والعلامات الأخرى واللهجة
في الكلام (راجع الفصل الأول من كتاب أصول الطب الشرعي لمؤلفيه جاي
وفرير الإنكليزيين) .
فلا عجب إذن إذا خفيت حقيقة المصلوب عن رؤساء الكهنة والعسكر
وغيرهم وخصوصًا لأنهم ما كانوا يعرفونه حق المعرفة ولذلك أخذوا يهوذا
ليدلهم عليه كما سبق فاشتبه عليهم الأمر كما بيَّنَّا وكان المصلوب هو يهوذا
نفسه الذي دلهم عليه فوقع كما كان دبره لسيده (انظر مز 6: 8-10 و7: 5
ومز37 وأمثال 11: 8 و21: 18) .
ولما كان المساء جاء رجل يسمى يوسف فأخذ بجسد المصلوب ووضعه
في قبر جديد وقريب ودحرج عليه حجرًا وكان هذا الرجل يؤمن بالمسيح ولكن
سرًّا (يو 19: 38) ومن ذلك يعلم أنه ما كان يعرف المسيح معرفة جيدة
تمكنه من اكتشاف الحقيقة وخصوصًا بعد الموت، فإن هيئة الميت تختلف قليلاً
عما كانت وقت الحياة لا سيما بعد عذاب الصلب، وروى الإنجيل الرابع وحده
أن رجلاً آخر يدعى نيقوديموس ساعد يوسف في الدفن أيضًا (19: 39)
وكان هذا الرجل عرف يسوع من قبل وقابله مرة واحدة في الليل (يو 3:
1-
13) فمعرفته به قليلة جدًّا وكانت ليلاً منذ ثلاث سنين تقريبًا أي في أوائل
نبوته، وفي كتب الطب الشرعي والمجلات الطبية عدة حوادث خدع فيها
الإخوان والأقارب بجثث موتى آخرين (راجع كتاب الطب الشرعي المذكور
صفحة 32 منه) فما بالك إذا لم يكن الشخصان الدافنان للمصلوب يعرفانه حق
المعرفة كما بينا.
لذلك اعتقد جمهور الناس وقتئذ أن المسيح صلب ومات ودفن فحزن
تلاميذه وأتباعه حزنًا شديدًا وفرحت اليهود وشمتوا بهم ولو أمكن التلاميذ
إحياءه من الموت لفعلوا ففكر منهم واحد أو اثنان في إزالة هذا الغم الذي حاق
بهم وما لحقهم من اليهود من الشماتة والاحتقار والذل فوجد أن أحسن طريقة
لإزالة كل ذلك ولإغاظة اليهود أن يسرق جثة المصلوب من القبر ويخفيها في
مكان آخر ليقال إنه قام من الأموات ولم تفلح اليهود في إعدامه إلا زمنًا قليلاً
وهكذا فعل وأخفى الجثة.
فلما مضى السبت الذي لا يحل فيه العمل لليهود جاءت مريم المجدلية إلى
القبر فجر يوم الأحد فلم تجد الجثة فدهشت وتعجبت وأسرعت إلى بطرس
(ويقول الإنجيل الرابع كما هي عادته: إلى يوحنا، أيضًا) وأخبرتهما أن الجسد
فُقد من القبر فذهبا معها ووجدا كلامها صحيحًا فقالا: لا بد أنه قام من الموت،
وهذا القول هو أقرب تفسير يقال من تلاميذ المسيح المحبين له المؤمنين به
وربما كانا هما المُخفين للجثة أو أحدهما (بطرس) ولذلك نجده في سفر
الأعمال وفي الرسائل يتكلم أكثر من يوحنا عن قيامة المسيح بل أكثر من
جميع التلاميذ الآخرين.
أما مريم المجدلية فمكثت تبكي لعدم وجود الجثة وعدم معرفتها الحقيقة
وكانت عصبية هستيرية، وبتعبيرهم: كان بها سبعة شياطين (مرقص 16-
9) فخيل لها أنها رأت المسيح ففرحت وأسرعت وأخبرت التلاميذ (يو 20:
18) أنها رأته وأما النساء الأخريات اللاتي ذهبن إلى القبر فلم يرينه كما يفهم
من أنجيل مرقص ولوقا، وغاية الأمر أنهن رأين القبر فارغًا وبعض الكفن
الأبيض باقيًا فخيل لبعضهن - وكلهن عصبيات - أن ملكًا كان واقفًا في القبر
وأمثال هذه التخيلات الخادعة كثيرة الحصول للناس وخصوصًا للنساء عند
القبور وفي وقت الظلام (يو 20: 1) وما حادثة قيام المتبولي من قبره عند
عامة أهل القاهرة ببعيدة. ويجوز أنهن رأين رجلين من أتباع المسيح ممن لا
يعرفنهم وكانا هما السارقين للجثة ففزعن منهما وغشاهن حتى ظنن أنهما
ملكان بثياب بيض (انظر لو24: 4) فكثرت أحاديث هؤلاء النسوة كل منهن
عمَّا رأته ومنها نشأت قصص الأناجيل في قيامة المسيح كما نشأت الحكايات
الكثيرة المتنوعة عن قيامة المتبولي في هذه الأيام في مصر [7] ولذلك اختلفت
قصة القيامة في الأناجيل اختلافًا عجيبًا يدل على أن كل كاتب أخذ ما كتب عما
حوله من الإشاعات والروايات المختلفة التي لم تكن وقتئذ مرتبةً ولا منظمةً.
ويظهر من هذه الأناجيل أن التلاميذ بعد ذلك صاروا محاطين بالوساوس
والأوهام من كل جانب حتى إنهم كانوا كلما لاقاهم شخص في الطريق واختلى
بهم أو أكل معهم ظنوه المسيح ولو لم يكن يشبهه في شيء ظنًّا منهم أن هيئته
تغيرت (مر16: 12 ولوقا 24: 16 ويو21: 4-7) فكانت حالهم أشبه
بحال العامة من سكان القاهرة الذين التفوا منذ زمن قريب حول رجل سائر في
الطريق في صبيحة إشاعة انتقال المتبولي من قبره يصيحون: سرك يا
متبولي، كما نقلناه هنا عن بعض جرائد العاصمة التي ذكرت تلك الحادثة في
ذلك الحين لاعتقاد الناس أنه هو المتبولي الذي قام من قبره وكانوا يعدون
بالمئات إن لم يبلغوا الألوف ولا يبعد أن بعض أولئك الناس الذين لاقاهم
التلاميذ كان بلغهم الإشاعات عن قيامة المسيح فكانوا يضحكون من التلاميذ
ويسخرون بهم ويأتون من الأعمال والحركات ما يوهم التلاميذ أن ظنهم فيهم
هو صحيح كما كان ذلك الرجل السابق ذكره يقول للناس لما رآهم التفوا حوله:
أنا المتبولي أنا المتبولي.
وروى الدكتور كاربنتر في كتابه (أصول الفسيولوجيا العقلية) ص 207 أن
السير والترسكوت (Walter Scott Sir) رأى في غرفته وهو يقرأ صديقه
اللورد بيرون (Byron Lord) بعد وفاته واقفًا أمام عينيه فلما ذهب إليه لم يجد
شيئًا سوى بعض ملابس وهي التي أحدثت هذا التخيل الكاذب (IIIusion) وفي
حريق قصر البلور (Crystal Palace) في سنة 1866 خيل لكثير من الناس
أن قردًا يريد الفرار من النار بتسلقه على قطع حديدية كانت في سقف هناك والناس
وقوف يشاهدون هذا المنظر متألمين، ثم اتضح أنه لم يكن ثم قرد مطلقًا وإنما هو
منظر كاذب كما حكاه الدكتور تيوك (Dr.Tuke) وذكر الدكتور هبرت
(Hibbert Dr.) في مقال أن جماعة كانوا في مركب فشاهدوا أمامهم طباخًا لهم
يمشي
وكان مات منذ بضعة أيام فلما وصلوا إليه وجدوا قطعةً من خشب طافية على سطح
الماء، وهناك أمثلة أخرى عديدة كهذه يعرفها المطلعون على علوم الفسيولوجيا
والسيكولوجيا والأمراض العقلية وكان المخدوعون فيها عدة أشخاص.
ويدخل في هذا الباب (باب الخيالات الكاذبة والأوهام) دعوى القبط في
مصر أنهم في ثاني يوم لعيد النيروز (أي 2 توت من السنة القبطية) إذا
نظروا إلى جهة الشرق بعد طلوع الشمس بقليل رأوا رأس يوحنا المعمدان كأنه
في طبق والدم يسيل من جوانبه وقد أكد لي بعضهم، وهو من الصادقين عندي،
أنه رأى ذلك المنظر بعيني رأسه في الأفق وكثير من نسائهم يقلن أنهن رأينه
أيضًا.
ومن ذلك أيضًا ما كان يراه القدماء وخصوصًا النصارى في أوروبا في
القرون الوسطى وقت ظهور ذوات الأذناب في السماء كالذي ظهر عندهم سنة
1556 ميلادية فإنها رأوا فيه وفي غيره سيوفًا من نار وصلبان وفرسان على
الخيل وغزلان وجماجم قتلى إلخ إلخ، وكانوا يتشائمو من هذه المناظر
وينزعجون منها، وقد رسم بعضهم صور ما كانوا يرونه من ذلك ونشر في
كتبهم راجع كتاب (الفلك للعاشقين) تأليف كاميل فلامريون ص 187 و189.
ورأى اليهود قبل خراب أورشليم نحو ذلك أيضًا في السماء كمركبات
وجيوش بأسلحتها تركض بين الغيوم حتى تشائموا منها كثيرًا، وفي عيد
الخمسين لما كان الكهنة داخلين ليلاً في دار الهيكل الداخلي سمعوا صوتًا كأنه
صوت جمع عظيم يقول: دعنا نذهب من هنا. إلى غير ذلك من الأوهام
والخيالات التي وصفها مؤرخهم الشهير يوسيفوس في بعض كتبه وذكرها
أيضًا تاسيتوس مؤرخ الرومان وهي أوهام لم تخل أمة من مثلها في كل زمان
ومكان، وقد تظهر أيضًا مناظر عجيبة كهذه في الأفق من انكسار أشعة
الشمس في طبقات الهواء (Mirage) راجع كتاب (الرسل) لرينان ص
42 في رؤية المسيح في الجليل بعد صلبه.
أما دعوى الإنجيل الأول (متى) أن حراسًا ضبطوا القبر وختموا عليه
(27: 66) فهي كما قال العلامة (أرنست رينان) اختراع يراد به الرد
على اليهود الذين ذهبوا إلى القول بسرقة الجثة حينما أكثر النصارى من القول
بالقيامة بعد المسيح بمدة (انظر مت 28: 15) ولذلك لم ترد قصة حراسة
القبر في الأناجيل الأخرى، ولو كانت حقيقية لما تركوها فهي الرد الوحيد الذي
أمكن لكاتب الإنجيل الأول أن يبتكره لدفع ما ذهب إليه اليهود في ذلك الزمان.
وزد على ذلك أن هذا الإصحاح (27) من إنجيل متى قد اشتمل على غرائب
أخرى كانفتاح القبور وقيام الراقدين من الموت ودخولهم المدينة، إلخ إلخ
(27: 51 - 54) وكل هذه أشياء يراد بها التهويل والمبالغة، ولا يخفى على
عاقل مكانها من الصحة ولذلك رفضها المحققون من علماء أوروبا اليوم. ولو
وقعت لكانت أغرب ما رأى الناس ولتوفرت الدواعي على نقلها فنقلها كتبة
الأناجيل كلهم ممن اعتمدت الكنيسة أناجيلهم ومن غيرهم ولاشتهرت فنقلها
المؤرخون كيوسيفوس وغيره.
ولا ندري متى قال المسيح لليهود أنه سيقوم في اليوم الثالث؟ ولماذا
يظهر نفسه لهم؟ وما فائدة هذا الجسد المادي الذي كان يحتاج للأكل والشرب
بعد القيامة (لو 24: 41 و42) حتى يحيا بعد الموت ويبقى إله العالمين
مقيدًا به إلى الأبد؟ نعم ورد في إنجيل يوحنا أنه قال لليهود (2: 19) :
انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه. ولكن نصت هذه الأناجيل على أن
اليهود لم يفهموا هذا القول بل ولا تلاميذ المسيح أنفسهم (انظر لوقا: 18:
34، ويو 2: 21 و22 و20: 9 ومر 9: 32) وقد كذب هذه العبارة متى
نفسه فقال: إنها شهادة زور (26: 60 و61) فكيف إذًا أرسل اليهود كما
قال متى حراسًا ليضبطوا القبر خوفًا من ضياع الجثة؟ وأي شيء نبههم إلى
ذلك العمل مع أن أقوال المسيح لم يفهمها نفس تلاميذه إذا صح أنه قال هذه
العبارة أو غيرها؟ أما قوله لليهود (متى 12: 40: لأنه كما كان يونان
في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض
ثلاثة أيام وثلاث ليال) قد قال فيه بعض محققيهم مثل بالس وشاتر إنه زيادة من
كاتب الإنجيل للتفسير. وهي زيادة خطأ فلم يمكث إلا يومًا وليلتين ولذلك لم ترو
هذه الزيادة في إنجيل من الأناجيل الأخرى، وقول متى 12: 39: ولا تعطى له
آية إلا آية يونان النبي. يريد به أنه كما آمن أهل نينوى بيونان (يونس) من
غير أن يروا منه آية كذلك كان الواجب أن تؤمنوا بي بدون اقتراح آيات وبدون
عناد، ولذلك قال بعد ذلك 41: رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل
ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان هنا. وفي القرآن
الشريف نحو ذلك أيضًا {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا
آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:
98) وعلى كل حال، إذا كان نفس تلاميذه لم يفهموا ذلك إلا بعد قيامته
(يو 20: 9) مع أنه كان أخبرهم به أيضًا على انفراد (مت 20: 17) فكيف
فهمه اليهود قبلهم؟ وكيف لم يصدق التلاميذ قيامته حينما أُخبروا بها؟
(مر 16: 11) إذا صح أن المسيح أنبأهم بها من قبل؟ وكيف يعقل أن رؤساء
الكهنة والفريسيين يذهبون إلى بيلاطس في يوم السبت كما قال متى (27:
62) وينجسون أنفسهم بالدخول إليه وبالعمل في السبت كضبط القبر بالحراس
وختم الحجر (مت 27: 66) مع أنهم هم الذين لم يقبلوا الدخول إلى بيلاطس
يوم محاكمة المسيح خوفًا من أن ينجسوا أنفسهم فخرج هو إليهم كما قال يوحنا
(18: 28) وهم الذين سألوه إكرامًا للسبت أن لا تبقى المصلوبون على الصليب
فيه (يو 19: 31) فما هذا التناقض وما هذه الحال؟
ولنرجع إلى ما كنا فيه: وقد اعتقد جمهور الناس في ذلك الوقت أن
المصلوب هو المسيح وأنه قام من الموت ولما لم يجدوا يهوذا الإسخريوطي
قالوا: إنه انتحر بشنق نفسه. وربما أنهم بعد بعض الأيام وجدوا خارج أورشليم
في بعض الجبال جثة مشقوقة البطن من التعفن الرمي فظنوها جثته (ع 1: 18)
ويجوز أنها كانت جثة المسيح نفسه على القول بأنه مات بعد هروبه من
السجن كباقي الناس، ولم يرفع إلى الله تعالى إلا رفعًا روحانيًّا معنويًّا كقوله
تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} (الأعراف: 176)
وكقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) وقوله:
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) وفي معنى ذلك أيضًا قوله تعالى:
{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الصافات: 99) وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) وقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (آل عمران:
169) وغير ذلك كثير.
ولما كان بعض التلاميذ يستبعدون الموت على المسيح لشدة حبهم
وتعظيمهم له، كما فعل بعض الصحابة عقب موت رسول الله - ذهب بعضهم
بالرأي والاجتهاد إلى أن المصلوب لا بد أن يكون غير المسيح وقالوا إنه إما
يهوذا أو واحد آخر وخصوصًا لأنهم لم يعلموا أين ذهب يهوذا.
ومن ذلك نشأت مذاهب مختلفة بين النصارى الأولين في مسألة الصلب
والقيامة، كانت أساسًا لفرق كثيرة ظهرت بعدهم ذكرناها مرارًا سابقًا في المنار
وغيره مما كتبنا. لذلك قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم
بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} (النساء: 157) .
فساد مذهب القائلين بالصلب لأنه هو الظاهر مما شوهد إذ ذاك وساعد على
نشره القول بالقيامة ودعمه بولس ومن وافقه بنظرياتهم في الخلاص [8] والفداء
وببعض نصوص من العهد القديم لووها وأولوها
بحسب أوهامهم وأفكارهم وقد بينا بطلانها في كتاب (دين الله) وقد رفض بولس
هذا وجميع رسائله أقدم فرقهم القديمة كالبيونيين (Ebionites) وكانوا أقرب
الناس إلى تعاليم المسيح الحقيقية وغاية في الزهد والتقوى وكان عندهم إنجيل
متى العبراني الأصلي المفقود الآن.
ومن الجائز أن يوسف ونيقوديموس (إذا صح أنه حضر معه) كانا يخافان على
الجثة من اليهود أن يهينوها أو يمثلوا بها أو يتركوها للحيوانات المفترسة
كالمعتاد أو نحو ذلك زيادة في النكاية بالمسيح وأتباعه وكما كان يعمل في
المصلوبين بحسب عادة الرومان، فتظاهرا بأنهما قد أتما دفن الجثة ومضيا. فلما
تحققا أنه لم يبق عند القبر أحد مطلقًا خوفًا من أن يطلع على ما يفعلان رجعا
ونقلاها إلى موضع آخر لا يعلمه أحد، وتعاهدا على أن لا يبوح أحد بسرهما، ثم
ذهب يوسف إلى بلدته الرامة على بعد 6 أميال إلى الشمال من أورشليم ورجع
نيقوديموس إلى بيته وكلاهما كان عضوًا في السنهدريم مجمع اليهود وكانا
يؤمنان بالمسيح ولكن سرًّا لخوفهما من اليهود (يو 19: 38 و7: 50) وربما
أنهما لم يجاهرا اليهود بشيء حتى ولا بأنهما هما اللذان دفنا الجثة وخصوصًا
نيقوديموس، ولذلك لم تذكره الأناجيل الثلاثة الأول، وربما قال يوسف
لليهود تعميةً لهم: إني بعد أن استلمت الجثة وكفنتها سلمتها لغيري ممن حضر
ليدفنها وتركته ولا أعلم باليقين أين وضعها ولا أعرف اسمه. وخصوصًا
لأن كل الجموع الذين كانوا حاضرين الصلب كانوا قد رجعوا إلى منازلهم كما
قال لوقا (23: 48) ولم يبق وقت الدفن أحد يشاهدهما إلا مريم المجدلية ومريم
أم يوسي (مر 15: 47 ومت 27: 61) ولا ندري إذ صح ذلك كيف أرادتا
العودة إلى القبر لتحنيط الجثة مع أنهما شاهدتا يوسف ونيقوديموس يحنطانها كما
تقول الأناجيل؟ (يو 19: 39 و40) وقال كيم أحد علماء الإفرنج في كتابه
(يسوع الناصري) مجلد 3 ص 552: إنه لا يحرم على أحد من اليهود في
يوم السبت أن يقوم بالواجب نحو جثة الميت كالتحنيط والتكفين ونحوهما. فلا
يفهم أحد ما الذي أخر هؤلاء النسوة عن الذهاب إلى القبر يوم السبت والقيام بما
يردن عمله للمسيح فيها. انظر كتاب دين الخوارق ص 826 وهل لم يكفهن
الحنوط العظيم الذي أحضره نيقوديموس (يو 19: 39) حتى اشترين غيره
(م16: 1) ولكن لنتغاض.
وبعد السبت في فجر يوم الأحد جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى إلى
القبر الذي كانتا شاهدتا الجثة وضعت فيه أولاً (متى 28: 1) فلم تجداها
فكان ما كان من إشاعة قيامة المصلوب من الموت، هذا إذا لم نقل إنهما ضلتا
عن القبر بسبب شدة الحزن والبكاء والتعب والظلام، وكثيرًا ما تضل نساء
مصر مثلاً ورجالها عن معرفة قبورهم حتى بعد التردد عليها مرةً أو مرتين
كما هو مشاهد معروف ولذلك لم يعرف علماؤهم موضع هذا القبر باليقين إلى
اليوم.
ولما انتشرت إشاعة القيامة كانت قاصرةً على التلاميذ وأتباع المسيح فقط
في أورشليم (لو 24: 33) ولم يقدروا على التجاهر بها أمام اليهود في أول
الأمر ولذلك كانوا يجتمعون والأبواب مغلقة لئلا يسمع كلامهم اليهود خوفًا
منهم كما قال يوحنا (20: 19) وكانوا على هذه الحالة إلى ثمانية أيام (يو
20: 26) ثم لم يجسروا على المجاهرة بالدعوة إلى دينهم إلا بعد نحو
خمسين يومًا كما في سفر الأعمال (2: 1) وفي هذه المدة على فرض عثور
أحد على الجثة لا يمكن تمييزها عن غيرها بسبب التعفن الرمي.
ودعوى إيمان ثلاثة آلاف نفس من اليهود في يوم الخمسين يكذبها عدم
وجود بيت للتلاميذ يسع كل هذا العدد فإنهم كانوا نحو 12 رجلاً (أع 1:
15) واليهود الذين تنصروا نحو ثلاثة آلاف (أع 2: 41) ولا ندري عدد
الذين لم يتنصروا من اليهود الذين حضروا الاجتماع في أورشليم من كل أمة
تحت قبة السماء كما قال سفر الأعمال (2: 6 - 13) الذي قال أيضًا إن هذا
الاجتماع العظيم كان في بيت (2: 2) فأين هذا البيت وملك مَن مِن التلاميذ
وكلهم من الجليل (أع 2: 7) ؟
ومن الذي أخبر كل هذه الجماهير من جميع الأمم المتنوعة بما هو
حاصل في بيت التلاميذ الخاص من نزول روح القدس عليهم وتكلمهم بألسنة
مختلفة حتى هرعوا إليه صنفًا صنفًا؟ ولماذا لم يكتب التلاميذ الأناجيل والرسائل
بلغات العالم هذه التي عرفوها ليتيسر للناس قبولها بدون ترجمة؟ وتكون معجزة
باقية إلى الأبد؟ ولماذا كان بطرس محتاجًا لمترجمه مرقس إذًا؟ كما رواه بايباس
وصدقه جميع آباء الكنيسة القدماء، ولكن لنرجع إلى ما كنا فيه.
وذهب جماعة من علماء النقد في أوربا وكثير ما هم إلى أن القبر الذي
وضع فيه المصلوب وكان منحوتًا في الصخر أصابه ما أصاب غيره من
الزلزلة التي حدثت في ذلك الوقت وذكرها متى في إنجيله (28: 2) فتفتحت
بعض القبور وزالت بعض الصخور وتشققت (راجع أيضًا مت 27: 51 و 52)
فضاع بسبب ذلك الجسد المدفون في شق من الشقوق، ثم انطبق وانهال عليه شيء
من التراب والحجارة حتى انسد الشق ولم يقف أحد للجثة على أثر.
وكان ذلك قبيل وصول المرأتين إلى القبر فلما وصلتا إلى هنالك ولم تجدا
الجثة ورأتا آثار الزلزلة أو شعرتا بشيء منها فزعتا وظنتا أن ذلك بسبب نزول
الملائكة وقيام المسيح من القبر (مت 28: 2) وقد أخذت الرعدة والحيرة منهما
كل مأخذ حتى لم تقدرا على الكلام (مر 16: 8) ولا يستغربن القارئ ما ذكر ففي
وقت الزلازل كثيرًا ما تنفتح الأرض وتبتلع بعض أشياء ثم تنطبق عليها.
ووقوع هذه الزلزلة قبيل وصول المرأتين إلى القبر من المصادفات التي
حدثت في التاريخ أعجب منها فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنت الصحابة أن ذلك معجزة للنبي صلى الله
عليه وسلم فقال عليه السلام لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا
يخسفان لموت أحد ولا لحياته) الحديث، يعني أن نظام هذا الكون العظيم لا
يتغير لموت أي أحد في هذه الأرض الصغيرة الحقيرة، فيالله ما أصدقه من
رسول، ولو كان كغيره من الكذابين لفرح بما قاله أصحابه وثبت اعتقادهم فيه.
ومن أعجب المصادفات التاريخية أن قمبيز ملك الفرس طعن العجل أبيس
في فخذه فقتله استهزاءً بالمصريين وإلههم وبينما هو سائر في طريقه سقط
سيفه على فخذه أيضًا فجرحه جرحًا بليغًا ساقه في الحال إلى الموت فظن
المصريون أن ذلك بسبب فعل آلهتهم به، فما أعجب عقل الإنسان وما أغرب
كثرة ميله إلى الأوهام والخرافات.
وإذا تذكرنا أن ذلك القبر كان منحوتًا في الجبل في مكان خراج أورشليم
بقرب الموضع المسمى بالجمجمة وكان مدخل مثل هذا القبر أو الكهف من
الجهة السفلى كما كانت عادة الناس في ذلك الوقت في نحت القبور على ما
ذكره رينان وغيره، فمن الجائز أن الزلزلة أزالت الحجر الذي سد به هذا
القبر فدخلت بعض الحيوانات المفترسة كالسبع أو الضبع ونحوهما وأخذت
الجثة وفرت بها، وهو تعليل آخر معقول.
وقال بعض علماء الإفرنج: إن من عادة اليهود أن لا يضعوا هذا الحجر
على باب القبر إلا بعد مضي ثلاثة أيام من الدفن، فإن صح ذلك فلا داعي للقول
بهذه الزلزلة هنا في هذا الوجه.
والخلاصة أن ضياع الجثة لا دليل فيه على هذه القيامة وخصوصًا لأن
المسيح لم يظهر لأحد من المنكرين له مع أنه كان وعدهم بذلك حسب إنجيل
متى (12: 39 و40) وفضلاً عن ذلك فليس بين تلاميذه وأتباعه من رآه في
وقت عودة الحياة إليه وقيامه من القبر؛ فإن ذلك كان أولى بإقناع الناس وإقناع
تلاميذه الذين بقي بعضهم شاكًّا حتى بعد ظهوره لهم (مت 28: 17 ولو24:
38 ت41 ويو20: 27) مع أن اتباع هذه الطريقة كان أقرب وأسهل في
الإقناع وأبعد عن مثل الشبهات التي ذكرناها.
فإن قيل إن ذلك سيكون ملجئًا للإيمان وهو ينافي الحكمة الإلهية، قلت:
وهل إحياء المسيح للموتى أمام الناس ما كان ملجئًا ولا منافيًا للحكمة الإلهية؟!
وكذلك قيام أجساد القديسين الراقدين ودخولهم المدينة المقدسة على ما ذكره
متى؟ (27: 52 و53) فأي فرق بين هذه الآيات البينات والمعجزات
القاطعة، وبين قيامته هو من الموت؟ فكيف يجب على البشر الإيمان بها
وهي قابلة للشك والطعن؟ حتى من أتباعه الذين ملأوا الدنيا بكتبهم المشككة
في هذا الدين وعقائده ، وحتى شك فيها التلاميذ أنفسهم (متى 28: 17) من
قديم الزمان.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) من قلم الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(1)
حاشية: النظرية هي الرأي الذي يقال لتفسير بعض المسائل وتعليل بعض الحقائق تعليلاً عقليًّا
مقبولاً، فنحن في هذه المقالة قد فرضنا جدلاً صحة أكثر ما في هذه الأناجيل من الحكايات وسلمنا أن
لبعضها الآخر أصلاً صحيحًا، وما رفضناه منها إنما هو لسبب معقول ولكن علمنا بما فعل منتحلو
النصرانية الأقدمون من التلاعب والتحريف والغش والتزوير فيما وصل إلى أيديهم من الكتب سواء كانت لهم أو لغيرهم من الأمم وافتجارهم الرسائل الكثيرة والكتب العديدة ونسبتها إلى غير مؤلفيها - كل ذلك يحملنا على الشك في جميع ما نقلوه ورووه. ولذلك نرى علماء النقد الآن في أوربة يشككون في جميع هذه الكتب المقدسة عندهم ويرفضونها بالبراهين العلمية العقلية التاريخية الصحيحة ومنهم من تغالى حتى أنكر وجود المسيح نفسه في العالم لكثرة ما علمه عن القوم من الأباطيل والاختراعات والأكاذيب والمفتريات (راجع دائرة معارف التوراة مجلد 3 ص 3620 وكتابات المستر ج م
روبرتسن) .
(2)
حاشية: ذكر العلامة جورج سيسيل الإنكليزي في ترجمته للقرآن الشريف في سورة آل عمران ص38 أن السيرنثيين Cerinthians والكربوكراتيين Carpocratians وغيرهم من أقدم فرق النصارى قالوا إن المسيح نفسه لم يصلب وإنما صلب واحد آخر من تلاميذه يشبهه شبهًا تامًّا، وفي إنجيل برنابا صرح بأن هذا التلميذ الذي صلب بدل المسيح هو يهوذا الأسخريوطي وهو الذي قالت عنه كتبهم أنه انتحر يوم الصلب (مت 27: 3-8) لأنهم لم يجدوه، والظاهر أنهم لم يعرفوا ما حدث له ولذلك اختلفت تفاصيل قصته في سفر الأعمال (1: 18 -20) عما في إنجيل متى فلهذا كله ذهبنا إلى أنه كان يشبه المسيح وأنه هو الذي صلب بدله كما في المتن.
(3)
حاشية: دعوى ولادة المسيح في (بيت لحم) قد كذَّبها علماء النقد في أوربة وبينوا أن الإحصاء الذي يقول لوقا أنه حمل مريم أم عيسى ويوسف على السفر إلى بيت لحم للاكتتاب هناك لو (2: 1-7) لم يحدث إلا في مدة ولاية كيرينيوس الثانية أي بعد ولادة عيسى بنحو 10 سنين على الأقل والذي حمل النصارى على هذا التلفيق رغبتهم في تطبيق نبوات اليهود وأفكارهم على المسيح كما في ميخا (5: 2-9) فإن اليهود كانت تعتقد أن المسيح لا بد أن يكون من نسل داود ومولودًا في مدينته التي ولد فيها (بيت لحم) مع أن نسل داود كان قد انقرض قبل زمن المكابيين، ولم يقف أحد له على أثر. راجع الفصل الثاني والخامس عشر من كتاب (رينان) في حياة المسيح.
(4)
حاشية: فإن قيل: إن الذي يفهم من هذه الأناجيل أن الصلب كان عقب صدور أمر بيلاطس مباشرة فلم يكن ثم وقت لهروبه من السجن ولا للقبض على غيره كما تقول، قلت: وهل يوثق بما في هذه الأناجيل من التفاصيل المتضاربة المتناقضة في كل جزئية من جزئيات حياة المسيح كما بينه بالتفصيل التام كثير من علماء الإفرنج أنفسهم كصاحب كتاب دين الخوارق Superatuarl Religion وغيره؟ ألا ترى أن هذه الأناجيل اختلفت حتى في نفس يوم الصلب وساعته وفي يوم صعود المسيح إلى السماء ومكانه؟ فقد نصت الثلاثة الأول منها على أن المسيح أكل الفصح مع تلاميذه كعادة اليهود أي في يوم 14 نيسان (راجع متى 26: 17 و 19 36 47 ومر 14: 12 16 ولو 22: 7 3) وأن عشاءه الأخير كان في يوم الفصح المذكور ولذلك اتخذه النصارى خصوصًا في آسيا الصغرى عيدًا من قديم الزمان، ثم صلب في اليوم الثاني للفصح أي في 15 نيسان ولكن الإنجيل الأخير جعل هذا العشاء ليس في يوم الفصح بل عشاء آخر عاديًا قبل الفصح - كما في الإصحاح 13 منه - أي في يوم 13 نيسان فيكون الصلب وقع في يوم 14 منه أي يوم عيد الفصح نفسه والذي حمل مؤلفه على ذلك أنه أراد أن يجعل هذا العيد اليهودي رمزًا إلى المسيح كأنه هو خروف الفصح الذي يذبح في هذا اليوم بخلاف الأناجيل الأخرى فإنها نصت على أن الخروف كان ذبح قبل يوم الصلب وأكله المسيح نفسه مع تلاميذه وسنَّ فريضة العشاء الرباني في هذا اليوم لذكراه لأنه كان يوم وداعه وأعظم أعياد الشريعة الموسوية ولكن الإنجيل الرابع يتجاهل هذه الفريضة كما يفهم من الإصحاح 13 المذكور ويقول بعد ذلك أن محاكمة المسيح أمام بيلاطس كانت وقت استعداد اليهود للفصح في الساعة السادسة وأن اليوم التالي لهذا الاستعداد كان يوم السبت وكان عظيما عند اليهود، أي لأنه أول أيام الفطير، راجع (يو 19: 14 و31) وهو صريح في أن الصلب وقع في يوم الاستعداد الذي يذبح في مساءه خروف الفصح أي يوم 14 نيسان، وعليه فلم يجعل المسيح هذا اليوم عيدًا بحسب الإنجيل الرابع! ولذلك تركت كنيسة رومة وأكثر النصارى عيد الفصح هذا واستبدلوا به عيد القيامة وقد وقعت بينهم وبين نصارى آسيا الصغرى مناقشة عنيفة في هذا الموضوع في أوخر القرن الثاني وأصر أهل آسيا على جعل يوم عيد الفصح اليهودي (14 نيسان) عيدًا لهم أيضًا لأنهم يقولون أن يوحنا الذي كان مقيمًا في وسطهم وغيره من تلاميذ المسيح كانوا يحتفلون بهذا العيد كما رواه يوسيبيوس في القرن الثالث عن بوليكارب تلميذ يوحنا، وروى بوليقراط أسقف أفسس في أواخر القرن الثاني عن يوحنا مثل هذا أيضًا، فكيف إذًا اتخذ يوحنا هذا اليوم - يوم الفصح اليهودي- عيدًا مع أنه لم يَذكر في إنجيله - إذا صح أنه هو الكاتب له - أن المسيح جعله عيدًا كما قالت الأناجيل الثلاثة الأخرى، بل وصلب فيه فلم يسن فيه فريضة العشاء الرباني ولا أكل الفصح في هذه السنة؟ .
(5)
راجع كتاب دين الخوارق (ص552، 553، 563، 564) وقد نص يوحنا على أن المسيح كان مقبوضًا عليه قبل أن يأكلوا الفصح 18: 28 مع أن الأناجيل الأخرى نصت على أن القبض عليه كان بعد أكل الفصح، فهل بعد ذلك يقال أنهم متفقون؟ وهل هذه العبارة تقبل أيضًا التأويل؟ أما ساعة الصلب فهي أيضًا مختلفة في الأناجيل كما قلنا، ففي إنجيل مرقص أنه صلب في الساعة الثالثة مر (15: 25) وفي إنجيل يوحنا (19: 14) أنه لم يصلب إلا بعد الساعة السادسة، فإن قيل: إن ما ذكره يوحنا هو بحسب اصطلاح الرومان، قلت: وكيف يجري يوحنا على هذا الاصطلاح مع أنه كتب إنجيله في آسيا الصغرى، ولا يجري على هذه الاصطلاح مرقص الذي كتب إنجيله في رومة نفسها بناء على طلب الرومان منه ذلك كما رواه كليمندس الإسكندري ويوسيبيوس وجيروم وغيرهم؟ على أننا إذا راجعنا إنجيل يوحنا نفسه ظهر لنا نقض هذه الدعوى، فإنه قال يو (18: 28) أنهم جاءوا بيسوع من عند قيانا إلى بيلاطس في الصباح فخرج إليهم بيلاطس لمحاكمته ثم أخذ يسوع إلى إدارة الولاية عدد (33) وناقشه مدة ثم خرج إلى اليهود 38 ثم أخذ يسوع وجلده (19: 1) واستهزأت به العسكر ثم أخرجه إليهم (19: 4) وناقش اليهود في أمره ثم دخل إلى دار الولاية (19: 9) وتكلم مع المسيح ثم أخرجه وجلس على كرسي الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جبانا (19: 13) فكانت الساعة السادسة يو (19: 14) فإذا كان المراد بهذه الساعة الساعة الرومانية أي في الصباح - كما يقولون - فكم كانت الساعة إذًا حينما أتوا بالمسيح إلى بيلاطس وقت الصبح كما قال يوحنا نفسه؟ يو (18: 28) أفلم تستغرق كل هذه المحاكمة والدخول والخروج بالمسيح والتكلم معه ومع اليهود زمنًا ما؟ وهل عُملت كلها في لحظة واحدة في الصباح نحو الساعة السادسة؟ وكم كانت الساعة إذا حينما أيقظوا بيلاطس في الصبح من نومه لمحاكمته، ومتى أرسل إلى هيردوس؟ كما يقول لوقا (23: 7-11) فالحق أن المراد بالساعة هنا الاصطلاح العبراني الذي جرى عليه مرقس وغيره لا الاصطلاح الروماني كما يزعمون ولذلك حرفوا هذه العبارة في بعض نسخهم وكتبوها الثالثة بدل السادسة يو (19: 14) لرفع هذه الإشكال. أما اختلافهم في يوم صعود المسيح إلى السماء ومكانه فبيانه أن المسيح بحسب إنجيل متى وفي إنجيل لوقا أنه صعد في يوم قيامته من مدينته أورشليم نفسها (لو 24: 1، 13،21،29،33،36،49،50 -53) وفي إنجيل يوحنا (20: 26) أنه ظهر لهم بعد ثمانية أيام من قيامته أي أن الصعود لم يكن في يوم قيامته كما في إنجيل لوقا! ومن العجيب أنهم يقولون أن لوقا هو مؤلف سفر الأعمال أيضًا وتراه في هذا السفر يقول: إنه صعد من أورشليم بعد أربعين يوما (أع 1: 3-9) وهو خلاف ما في إنجيله! ويخالف أيضًا إنجيل متى ومرقس (مر 16 - 7) اللذين جعلا الصعود من الخليل لا من أورشليم! فانظر إلى مقدار اختلافهم وتضاربهم حتى في هذه المسألة الهامة، فهل بعد ذلك نُلام لأنَّا لم نُعول على كل عبارة من عبارات أناجيلهم في هذه المقالة؟ .
(6)
حاشية: يقول النصارى: إن يهوذا هذا مطرود من رحمة الله مع أنه ندم ندمًا شديدًا وتاب توبة نصوحًا، ولم يكفه ذلك حتى انتحر كما يقولون (متى 27: 3-10) وكان من ضمن الاثني عشر رجلاً الذين بشرهم عيسى بالجنة (متى 19: 28) فلم لم يغفر ذنبه كما غفر ذنب التلاميذ الذين فروا وتركوا المسيح؟! وكما غفر ذنب بطرس الذي أنكر سيده وتبرأ منه وأقسم أنه لا يعرفه، مع أن توبته كانت قاصرة على البكاء؟! فلم لا يكون بطرس من الناس الذين تبرأ منهم المسيح بقوله متى (7: 22) (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذٍ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا أفاعي الإثم) وخصوصًا لأن المسيح قد سماه شيطانا (مت 16: 23) .
(7)
حاشية: جاء في العدد 7174 من جريدة المقطم الصادرة في يوم الخميس 31 أكتوبر سنة 1912 - 20 ذي القعدة سنة 1331 ما يأتي بالحرف الواحد (ورد على محافظة العاصمة اليوم إشارة تليفونية بحدوث تجمهر كبير وهياج عظيم أمام الكنيسة الجديدة التي ينشئها النزلاء اليونانيون في هذه العاصمة وأن أكثر المجتمعين يرمون بالحجارة العساكر الاحتياطية الذين أرسلهم قسم بولاق لحفظ النظام وأن بعضهم أصيب بجراح. فذهب في الحال سعادة هارفي باشا ومعه قسم من بلوك الخفر وقسم كبير من بلوك السواري وجناب البكباشي آرثر المفتش ببوليس العاصمة وحضرة عبد الرحمن أفندي أحمد المفتشين بالحكمدارية إلى مكان الحادثة ولما رأى كثرة الجموع المتألبة في ذلك المكان أمر بإحضار وابور المطافي ثم أطلقت المياة منه عليهم فتشتتوا ووقفوا جماعات جماعات رجالاً ونساء في أماكن بعيدة وجعلوا يصيحون (يا متبولي يا متبولي) ثم حضر إلى مكان الحادثة سعادة إبراهيم باشا نجيب محافظ العاصمة وعزتلو على بك وكيلها وشهد الإجراءات التي اتخذها البوليس لتشتيت المجتمعين. وكان السبب في هذا التجمهر والهياج أن بعض الموسوسين من سكان جهة المتبولي أشاع أمس الساعة الثامنة مساء أنه رأى الشيخ المتبولي المدفون في ضريحه المعروف أمام محطة مصر قد قام من ضريحه ووقف على قبته ثم طار في الفضاء ونزل على الكنيسة اليونانية التي تقدم ذكرها فتناقل الناس هذه الإشاعة واجتمع خلق كثير في نحو الساعة العاشرة مساء أمام الكنيسة وجعلوا يصيحون (سرك يا متبولي) فحضر حضرة مأمور القسم وبعض العساكر وفرقوهم ثم حدث في الساعة الثامنة من صباح اليوم أن مجذوبًا من سكان قسم بولاق وهو رجل في السبعين من عمره يدعى فارس إسماعيل وأصله من أسيوط وقد حضر إلى مصر منذ خمسين سنة - خرج من منزله لابسًا عمامة وملابس خضراء وأخذ يركض في الشوارع ويصيح فيها: أنا المتبولي أنا المتبولي، فاجتمع خلفه خلق كثير وساروا في موكب من بولاق إلى شارع الدواوين وكانوا جميعًا يصيحون: يا متبولي، ويلثمون يده وملابسه وما زالوا سائرين كذلك إلى المسجد الزينبي حيث دخل الرجل فتبعه الناس وازدحم الميدان بالمتجمهرين فقام حضرة الصاغ على شكري أفندي مأمور القسم وقبض على الرجل وأحضره إلى الحكمدارية، أما الجماهير التي كانت تسير معه فقصدت الكنيسة اليونانية وأفضى ذلك إلى تلك المظاهرة التي فرقها رجال البوليس) ذكرنا هذه الحادثة المضحكة ليعلم القارئ مبلغ تأثير الوهم والإشاعات الكاذبة في عقول العامة والجهلة من الناس وخصوصًا النساء، بل قد يتسلط الوهم على بعض العقلاء حتى يروا ما لا حقيقة له، فاقرأ بعد ذلك قصة قيامة المسيح من الموت وما حدث للنساء اللاتي ذهبن إلى قبره. هذا إذا صح أن هذه القصة ليست ملفقة من أولها إلى آخرها وأنها في الأصل كانت كما رويت في هذه الأناجيل الحالية، على أن التلفيق ثابت عليهم فيها راجع (ص76) من كتاب (دين الله) .
(8)
حاشية: إذا صحت عقيدة النصارى في الصلب والخلاص المبشر به فلماذا لم يقتل المسيح نفسه أو يطلب من تلاميذه أن يقتلوه قربانًا لله بدلاً من أن يوقع اليهود في هذا الإثم العظيم؟ فكأن الله تعالى بعد أن دبر هذه الوسيلة لخلاص الناس من سلطة الشيطان لم يقدر أن يخلص بها أحب الشعوب إليه المفضلين على العالمين الذين - خصهم كما يقولون - بالوحي والنبوة والمعجزات العظيمة من قديم الزمان ولم يعتنِ بأحد غيرهم اعتناءه بهم حتى جعلهم الواسطة الوحيدة لهداية البشر أجمعين إلى دينه الحق؟! أما كان هؤلاء الناس أولى بالخلاص دون سواهم؟ فلماذا إذًا أوقعهم في هذا الذنب العظيم بصلبهم المسيح بدون إرادته، مع أنه كان يمكنه أن يقدم ابنه هذا البريء بدون إيقاعهم في هذا الإثم الكبير؟! ألا يدل ذلك - لو صح - على أن الشيطان قد نجح في إهلاك أحباب إلههم وشعبه المختار وعجز هذا الإله عن تخليصهم من مخالبه بعد أن فكر في ذلك مدة طويلة، ثم صلب نفسه، ومع ذلك لم تنجح حيلته!! فوا أسفا على هذا الإله الضعيف الذي غلبه الشيطان وجعله يندم على خلقه الإنسان ويحزن (تك 6: 6 و7) وأوقعه في الحيرة والارتباك من قبل ومن بعد الطوفان تك (8: 21 و22 و11: 6 و7) إلخ إلخ وما أغناه عن هذا كله لولا حُبه في سفك الدماء كثيرًا (قض 11: 29 -40) حتى سفك دم نفسه وقاده الشيطان إلى هذا الانتحار (تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا) وجاءه من قبل ذلك مجربًا وممتحنًا ليسجد له ليكفر (مت 41: 10) ولم يكتف بذلك - على حسب زعمهم -
بل أصاب ويصيب عباده بالصرع وأنواع الشلل والبكم والصمم والجنون والعتاهة وغير ذلك من الأمراض التي تنسبها إليهم كتبهم إلى تأثير الشيطان ولا يقدرون للآن على تخليص الناس من شره وسلطانه، فما أعظمه عندهم من لعين قادر حتى قهر العالمين وإلههم!! فمن منهما سحق الآخر على ما يقول سفر التكوين (3: 15) (سبحان الله رب العزة عما يصفون) وإذا صح أن المسيح ادعى الألوهية بين اليهود (يو 8: 58 و10: 30 و33) فأي ذنب عليهم في قتله وهم لم يفعلوا شيئا سوى تنفيذ ما أمرهم الله تعالى به على لسان موسى؟! قال في سفر التثنية (13: 1) إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة 2ولوحدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً: لنذهب وراء آلهة أخرى لم نعرفها ونعبدها، إلى قوله: وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يُقتل) فإذا كان الله يعلم أن المسيح سيدَّعى الألوهية ويدعو الناس لعبادته، فلماذا وضع هذا الحكم في الشريعة الموسوية؟ ولمَّا أنفذه اليهود إطاعة له كرههم وغضب عليهم!! فلمَ هذا التضليل ولمَ هذا الظلم؟ فمقتضى عقيدة النصارى أن الله تعالى عاجز جاهل، ولذلك ما كان يعلم المستقبل، وكان كما يقول سفر التكوين: يضطر للنزول ليشاهد بنفسه أعمال البشر (تك 11: 5 و6 و18: 21) التي أغضبته وجعلته يندم ويحزن. فكأنه ما كان يعلم ماذا يصير إليه أمر الإنسان، ولذلك ترى أنه بعد أن دبر طريقه الخلاص ومات صلبًا لم يُخلِّص من البشر إلا قليل بالنسبة لمجموعهم، وأَهْلَكَ بسبب ذلك أفضل أمة عنده (تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلوًّا كَبِيرًا) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية
(3)
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
محاربة الاتحاديين للدين
من المسلمات التي لا يختلف فيها عاقلان، ولا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزَان أن
القوة المعنوية هي الأصل الباعث على الأعمال المادية، وأن الدين هو أعظم
القوى المعنوية أثرًا، وأشدها على المخالف خطرًا، وأن الفريقين المتحاربين
إذا تساويا في جميع ما ينبغي للقتال من علم ومعرفة، وذخيرة وعدة، وتفاوتا
في قوة الإيمان بالله عز وجل والرجاء في الحياة الآخرة، فإن أقواهما إيمانًا
وأعظمهما رجاء هو الجدير بأن يكون له الفلج ويتيسر له النصر. وقد صرحت
الجرائد الأوربية بهذه الحقيقة في سياق البحث في أسباب رجحان البوير على
الإنكليز في حرب الترنسفال، كما بيناه في المجلد الثاني من المنار.
وقد نشرنا في المجلد الأول من المنار نبذة في هذه المسألة ترجمها الأستاذ رحمه
الله تعالى من (وقائع بسمارك) التي نشرها بعد موته أمين سره مسيو
(بوش) قال: غطاء المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا
فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق
قلوب الشعب ولو لم يكن هنالك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لما استكن
في الضمائر من بقايا الإيمان. ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحداً مهيمنًا يراه
وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه.
فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم
تلك الملاحظة؟ فأجابه البرنس: ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور
ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس، وهوًى فيها كأنه غريزة
لها، ولو أنهم لاحظوا لفقهوا ذلك الميل، وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني
لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من
الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم إن لم يكن لهم
إيمان بدين جاء به وحي سماوي. واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه
الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة؟
بعد هذا تكلم ذلك الرجل العظيم عن نفسه فأكد القول بأنه لولا إيمانه
بالعناية الإلهية ويقينه بحياة بعد الموت وشعوره بأنه يرضي الله بخدمته للأمة
الألمانية وسعيه لوحدتها وإعلاء شأنها - لما رضي لنفسه أن يكون من حزب
الملكية وأن يخدم الملك لأنه هو جمهوري بالطبع. والوظائف والرتب
والألقاب لا بهاء لها في نظره. وإنه لا يحب إلا العيشة الخلوية في المزارع،
ومما قاله: (اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني) ومنه: إن لم
أكن خاضعًا لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه الأسرة المالكة مع أنها
تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالنبيل من الأصل الذي تنصل به عشيرتي؟
ومن أراد ترجمة نص قوله برمته فليرجع إلى المنار (ص 846 م1 من
الطبعة الثانية) .
وقد قال الأستاذ في مقدمة هذه الترجمة أنه ترجمه ليطلع عليه من لم يُعن
بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعدون النسبة إلى دينهم سبة، والظهور
بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه
ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرئاسة، ولا
ضعفًا في السياسة.
وقال بعده: هذا كلام بسمارك وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان
يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الإيمان بالله
والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه
مُفَاخِر، ولم يكثره مكاثر.
أقول بعد هذا التمهيد: ولكن زعماء الاتحاديين قد فخروه وكثروه في
السياسة، فكان اتحادهم العثماني أقوى وأعلى وأثبت من اتحاده الألماني؛ لأنه
بني على صخر الإيمان، وبنوا على رمل الإلحاد.
لقيت في الآستانة الدكتور ناظم بك الزعيم الأكبر للاتحاديين الذي خلف
صادق بك أمير الألاي بعد أن تبرأ من الجمعية فصار هو المرخص المسئول
لها. لقيته يتحدث مع فطين أفندي المدرس في دار الشفقة والمدير للمرصد
الفلكي الجديد في ضواحي العاصمة وكان يومئذ من صميم الاتحاديين، على
حين تركهم أكثر أمثاله من المعممين، حتى كان يشك في تدينه رجال الدين،
فقال لي: تعال احكم بيني وبين البك. قلت: ما خطبكما؟ قال: إن البك يقول:
إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا
وعصرنا العلماء عصرًا، نمحقهم به محقًا، وسِرنا وراء فرنسة خطوة خطوة.
وأما أنا فقلت له: إننا يجب أن نأخذ من أوربة لا من فرنسة خاصة، الفنون
الصناعية والزراعية وكل ما نحتاج إليه للترقي العملي في دنيانا. وأما الأمور
المعنوية والأدبية فنرجع فيها إلى أصول ديننا ونستمدها منه. فقال: يجب أن
نأخذ عن فرنسة كل شيء فإن جميع ما عندنا فاسد وموجب للتدلي.
لا يحتاج القارئ إلى القول بأن رأي فطين أفندي هو الموافق لرأيي في
هذه المسألة وقلما رأيت أحدًا أوجز وأفاد في تحرير هذه المسألة الكبيرة مثل
هذا الرجل، ولكنني سلكت في تأييده مسلك بيان السبب في هذه التفرقة
والخلاف بين المتعلمين، وتطرف بعضهم في التفرنج وبعضهم في الجمود
على القديم، وشدة الحاجة إلى المعتدلين الذين يعرفون القديم والحديث، أي
كفطين أفندي، وانتقلت من هذا إلى مشروع العلم والإرشاد الذي كنت أسعى له
هنالك وليس هذا المقال بمحل تفصيل القول فيه.
جميع زعماء الجمعية على رأي ناظم بك الذي ذكرناه آنفا، ولكن قلما
يوجد فيهم من يتجرأ على التصريح بمثله. وقد سمعت منه ومن غيره منهم
وعنهم غير ذلك ولولا ظهور قوة تأثير الدين لهم في الجيش يوم 31 مارس أو
13 أبريل لظهر من تهتكهم والجهر بمقاومتهم للدين أضعاف ما ظهر للناس
وما الذي ظهر بقليل، ونكتفي من ذلك بشيء مما يتعلق بالجند حذرًا من
التطويل.
كانت الصلاة في العسكر أمرًا إجباريًّا يتساهل فيه الضباط المارقون
والمرتابون في خاصة أنفسهم، وقد يتعدى ذلك إلى الجنود التابعين لهم. فإذا
جاء متدين منهم وشدد فيه لا يستطيع معارضته أحد لأنه رسمي. فلما دالت
الدولة للاتحاديين جعلوا الصلاة أمرًا اختياريًّا وصاروا يوعزون إلى حزبهم
من الضباط بمنعها وإشغال العسكر عنها بالتمرين أو غيره من العمل في
أوقاتها، حتى في المدرسة الحربية العليا نفسها.
أخبرني من أثق بهم في الآستانة بهذا، وآخرون بخبر آخر أضر منه في
الجيش، وهو أنهم كانوا عند التنسيق العسكري يعنون بإخراج الضباط المتدينين
من الجيش وأكثر هؤلاء المتدينين من الذين ارتقوا إلى رتبة الضباط بالعمل
والتمرن في الجيش في إبان السلم والحرب سنين كثيرة ويسمونهم الألايلية
نسبة تركية إلى ألاي وكان عذرهم في إخراجهم أنهم غير متخرجين في
المكتب الحربي فمعارفهم غير قانونية. وقد أخرجوا بعض المتخرجين في
المكتب الحربي بعلل أخرى، كما أبقوا بعض الألايلية الذين اتبعوا هوى
الجمعية ولو كان عدد الضباط المكتبيين كافيًا لعسكر الدولة لكان لهم في
إخراج من أخرجوا وجهًا للاعتذار وإن أضر ذلك بمالية الدولة وخسر به
جيشها طائفة من الضباط، يفضلون كثيرًا من متخرجي المكتب الأحداث
والأغرار، أي الذين لا تجربة لهم.
وقد كان غرض الاتحاديين من تنسيق عمال الحكومة في جميع النظارات
والمصالح أن يخرجوا منها من شاءوا، ويبقوا من أحبوا، ليعلم كل فرد من
أفراد هذه الدولة أن جمعية الاتحاد والترقي هي ولية أمره وصاحبة السلطان
عليه، فيكون طوع يدها، ويؤدي لها ما عدا الضريبة الأولى ما فرضه
قانونها على كل منتمٍ إليها، وهو اثنان في المائة من جميع دخله (إيراده) وقد
كانت خسارة الدولة بهذا التنسيق أكثر من ثلاثة ملايين جنيه في كل سنة
تُعطى رواتب للمعزولين والمنسقين. وما كان الذين استحدثوهم خيرًا من
الذين أخرجوهم، ولولا هذا التنسيق لكان للدولة في المال الذي خسرته به ما
يمكِّنها من شراء مدرعة وطرادة من الدرجة الأولى في كل سنة.
إن أكثر الضباط الذين تعول عليهم الجمعية في نصرها من الملحدين أو
المرتشين في دينهم، ومنهم الذين يصرحون بالكفر تصريح الحقود المنتقم من
الدين، ومن ذلك ما حدثني به بعض الثقات في الآستانة عن بعض الباشوات
أنه قال: لو كان في بدني شعرة تؤمن بفلان - وذكر خاتم الرسل وسيد العرب
والعجم صلى الله عليه وسلم لقلعتها مع اللحم الذي حولها وألقيتها. ومن لم
يجدوه على مثل هذا الفساد من قبل حاولوا إفساده بالسياسة، فكانوا لا يقبلون
ضابطًا في الجمعية إلا إذا دخل الماسونية، وهذا وذاك أهم الأسباب التي
حملت أمير الألاي صادق بك الشهير على محادة الجمعية ومقاومتها، بعد أن
عجز عن إقناع زعمائها بترك هذه المفاسد. وكان محمود شوكت باشا جاراه
بإظهاره له أنه مجتهد في منع الضباط من الاشتغال بالسياسة وجهر بذلك في
خطبة له في نظارة الحربية، وخطبة أخرى في أدرنة، كنت من المعجبين
بهما وبه يومئذ وأنا في الآستانة، ثم ظهر لصادق بك أن ذلك خداع، ثم ظهر
لسائر الناس أيضًا في العريضة التي استقال بها محمود شوكت باشا من نظارة
الحربية، فإنه صرح فيها بأنه يترك تنفيذ قانون منع الضباط من السياسة لخلفه،
أي أنه لا يمكنه تنفيذ هذا القانون وهو الذي أسلس العنان للضباط حتى
توغلوا في السياسة أن يمنعهم منها عند ما قامت ثورة طائفة كبيرة منهم في
بلاد الأرنؤوط طالبين إسقاطه وإسقاط جمعيته.
مثل جمعية الاتحاد والترقي في إضعاف الدين في الجيش وإخراج عدد كثير من
الضباط المتدينين من صفوفه كمثل من كان له بيت يؤويه ويقيه فواعل الجو
فهدمه لأنه صار يراه غير لائق بمقامه، ولكن قبل أن يبني له بيتًا آخر على
النحو الذي يحب، فبينا هو في العراء يفكر ويقدر ويجلب بعض الحجارة لبناء بيت
آخر عصفت الريح فأثارت السحاب فاعتلجت فيه البروق، وقصفت الرعود،
وانهمر الصيب الهتون، فجرفه هو وما كان جلبه لبناء البيت.
إنهم أرادوا أن يستبدلوا الوطنية العثمانية والجنسية التركية، بما يهدمون
من الرابطة الإسلامية والنزعة الدينية، التي لولاها لم يكن الجيش العثماني
مضرب المثل في شجاعته وبأسه وثباته في مواقف النزال، وبلائه في معارك
القتال، فأنشأوا أناشيد وأغاني باسم الوطن التركي والجيش العثماني، ليخلقوا بها
شعورًا جديدًا للجند يقوم مقام الشعور الديني، ولعل هذا من أقوى الجوامع التي
جمعت بينهم وبين زعماء الحزب الوطني المصري، فإن هذا الحزب يفخر
دائمًا - وليس له أثر صالح في البلاد - بأنه أوجد الشعور الوطني، وهذا الشعور
هو الذي يخرج الإنكليز من القطر، ومن حسن حظ مصر أن هؤلاء المغرورين لم
يتولوا أمرًا من أمور البلاد، وأما الاتحاديون فمن سوء حظنا أنهم تولوا أمر المملكة
ثلاث سنين أفسدوا فيها ما لم يستطع عبد الحميد مثله في ثلاثين سنة.
شهد العلماء الذين أرسلتهم الحكومة لوعظ الجيش في شتالجة بأنه تبين
لهم بعد الاختبار أن أهم أسباب انكساره في هذه الحرب قد كان مما أودعه
الاتحاديون في نفوسهم من أن وظيفة الجيش الدفاع عن الوطن بعد أن نزعوا
منها الاعتقاد بأن هذا الدفاع مشروع دينًا وأن الذي يقتل فيه شهيد له عند الله
حياة خير من هذه الحياة ذات نعيم دائم ورضوان من الله أكبر.
وشهد عظماء الألمانيين الذين يتلقى الجيش العثماني عنهم فنون القتال أن
أهم أسباب انكساره هي إفساد الاتحاديين له بإشغاله بالسياسة، وقد بينا أن
هاتين المفسدتين متلازمتان، فإنهم ما اجتهدوا في إضعاف الدين إلا لغرضهم
السياسي، وما أدخلوا الضباط في السياسة إلا للاستعانة على مقاصدهم بالقوة؛
لعلمهم بأنهم عاجزون عن الوصول إليها بإقناع الأمة. وقد كانوا يظنون
عقب الانقلاب أنه يتسنى لهم أن يقودوا جميع علماء الآستانة وعلماء الولايات
بزمام المنافع والمناصب والرتب والرواتب، غرورًا بما كان من خضوعهم
لعبد الحميد، وببعض المنافقين الذين رأوهم مستعدين لخدمتهم في كل شيء
باسم الدين، ثم بدا لهم من علماء الآستانة ما لم يكونوا يحتسبون، كانوا قد
استمالوا إليهم جمهور العلماء فلما خبرهم الأذكياء من هؤلاء العلماء وبلوهم،
قلوهم وهجروهم، وأسسوا الجمعية العلمية لوقاية الإسلام والمسلمين من
كيدهم، وبقي يدهن لهم أكثر موظفي المشيخة الإسلامية الذين عرفوا حقيقة
حالهم، والتبس الأمر على بعضهم فكانوا يحسنون الظن فيهم، لأنهم لم يعرفوا
أحدًا منهم إلا بعد حادثة (31 مارس - 13 أبريل) التي صاروا بعدها
يحسبون للدين ورجاله حسابًا، وناهيك بعلماء الآستانة ونفوذهم الروحي في
الشعب التركي، فقد أخبرني محمود شوكت باشا في أول اجتماع كان لي معه أن
الحكومة لا تستطيع أن تعمل عملاً إذا كان العلماء كارهين له يأبون وجوده،
قال هذا عندما بينت له مشروع الدعوة والإرشاد وبين لي رأيه فيه. وأنه لابد
أن يكون بصفة لا يستنكرها العلماء، قلت له: أنا أضمن استحسان جميع
العلماء له وتمنيهم تنفيذه.
بل رأيت الدكتور ناظمًا على صلابته في مقاصد الجمعية وما علمته عنه
من العزم على تجريد الحكومة العثمانية من الدين يدهن لعلماء الآستانة
ويوهمهم أنه هو وجمعيته يودون خدمة الدين. فقد دعيت إلى الحفلة التي
كرمت الجمعية بها الحاج عمر الياباني الذي أسلم وحج وزار الآستانة بعد
حجه، وكانت تلك الحفلة في نادي نور عثمانية أشهر أندية الجمعية في
الآستانة وكان من المدعوين بعض كبار العلماء، وخطب منهم محمود أسعد
أفندي ناظر الدفتر الخاقاني بالتركية، وخطب كاتب هذه السطور بالعربية، وقام
الدكتور ناظم فتكلم كلامًا قال فيه إن الإسلام محتاج إلى خدمة عظيمة من العلماء
وهم مقصرون لا يقومون بالواجب عليهم، وأهم هذه الخدمة الدعوة إلى الإسلام
وتعميم الإرشاد الإسلامي، فعندئذ قال له مصطفى أفندي أوده مشلي مستشار شيخ
الإسلام، وكان جالسًا بجانبي: إن القيام بهذا الواجب لم يكن متيسرًا في زمن
الاستبداد، والآن اقترح رشيد أفندي مشروعًا يكفل القيام به على أكمل وجه
وننتظر مساعدة الحكومة عليه، أو قال: مساعدتكم، أي مساعدة الجمعية، الشك
مني، وقد استبشرت حين سمعت هذه الكلمة من الدكتور ناظم لأنني كنت أسمع أنه
رجل الجد وأنه ليس كثير الكذب والنفاق كطلعت بك، فجئته وقلت له إذا كان هذا
رأيكم فالمرجو منكم أن تكلموا طلعت بك بإنجاز وعده لنا وتنفيذ المشروع. فقال لي
ما معناه: ليس هذا بالوقت المناسب لهذا العمل فلا بد من انتظار سنة أو سنتين.
فتأمل.
ومما عملته الجمعية لإبطال نشر هداية الدين:إصدار أوامر عامة لجميع
رؤساء الإدارة في الولايات العثمانية بمنع الاجتماع في المساجد لإلقاء الخطب
ونحوها وتصريحها بأن المساجد للصلاة دون غيرها. وهذا من جهلهم
بالإسلام وتاريخه فإن المساجد كانت في الصدر الأول لجميع مصالح المسلمين
كالمشاورة في الأمور العامة والوعظ والقضاء وتوزيع الصدقات وغير ذلك.
وجملة القول: أن جمعية الاتحاد والترقي كانت عازمة على إزالة نفوذ
العلماء من الأمة وكل تأثير للدين فيها إلا التأثير السياسي الذي يوافق مقاصد
الجمعية تستخدم له من أرباب العمائم من يميل مع القوة والمنفعة حيث تميل
كالشيخ صالح التونسي والشيخ عبد العزيز شاويش وأضرابهما، وكان
زعماؤها يعتقدون بأنه لم يبق للدين تأثير يؤبه له. ولكنهم بعد مسألة طرابلس
الغرب غيروا رأيهم وعزموا على الجد في الاستفادة من فكرة الجامعة
الإسلامية وهو ما نبينه في النبذة التالية:
(4)
عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية
لي كلمة في زعماء جمعية الاتحاد والترقي كادت تكون مثلاً في سورية
وهي: إن هؤلاء الاتحاديين قد توسلوا إلى مقصدهم بكل شيء إلا الحق. ولكنهم
فشلوا في كل عمل إلا جمع المال، ولا سيما عقب الانقلاب، فلولا المال لكانوا
الآن في عداد الموتى.
وقد سلكوا طرق النفاق فهم دائمًا يظهرون غير ما يبطنون كما صرح لي
بذلك رجل في الآستانة من أعظم أنصارهم. فإنه سألني مرة: إلى أين وصلت
في تشبثك؟ أي مشروع الدعوة والإرشاد، قلت: وعدني طلعت بك بكذا وكذا
من المساعدة، وحقي باشا قال: إنه طالما فكر في هذا المشروع، وهو يبذل
الجهد في تنفيذه. فقال: أو صدقت أقوالهم؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم.
وأنا أكشف لك الغطاء عن هذا الأمر فأمهلني إلى يوم كذا.. . وبعد مراجعة
حقي باشا ثم طلعت بك ظن أنه جاءني بالنبأ اليقين وما هو إلا أن طلعت بك
كذب عليه أيضًا.
نعم إنهم كانوا يظهرون غير ما يبطنون، ويُسرُّونَ ضد ما يعلنون، لا
في مشروعي الذي غذوني فيه بالوعود سنة كاملة فقط بل في كل مقاصدهم،
فمن أوائل مقاصدهم تتريك العناصر العثمانية وكانوا يعاقبون من يحث
عنصره على الارتقاء من غيرهم بدعوى أنه يفرق عناصر الدولة، ومن
مقاصدهم إزالة سلطة الدين وقوته من الدولة، ولكنهم يظهرون للمسلمين أنهم
يريدون القيام بالجامعة الإسلامية، على أن سيرتهم وأعمالهم تكذب هذه
الدعوى، وحسبك أن جميع زعماء الجمعية من الماسون، وأصول الماسونية
تنافي الجامعة الدينية، وهم لا يخالفون الماسونية إلا في العصبية التركية، فهم
يخادعون المسلمين في شيء والماسون في شيء آخر.
سيقول بعض الغارين والمغرورين بزعماء هذه الجمعية من مسلمي
سورية وغيرها: إننا قد علمنا ما أسره إلينا بعض رجال الجمعية ومن بعض
أعمالها أنها لا تريد إحياء الجامعة الإسلامية، وأن هذا هو غرضها الباطن
وإنما لاذت بالماسونية وأحيت كلمة الوطنية؛ لأجل مخادعة الشعوب المسيحية
والدول الأوروبية.
لا أقول أنهم سيقولون هذا، إلا لأنني سمعتهم قد قالوه من قبل، وأعلم أن
بعض قائليه مأجورون، وبعضهم مخدوعون، وأنا أعرف سبب هذا ومنشأه،
ولا أعجب من تصديق بعض أغرار المسلمين كلام هؤلاء الذين يظهرون لكل
قوم بوجهه، ويخاطبون كل أناس بلسان، فقد خدع هؤلاء الاتحاديون قبلهم
دهاة السياسة ورجال الخبرة من إخوانهم النصارى السوريين في سورية
ومصر جميعًا. إذ أوهموهم أن ميلهم إليهم واتحادهم بهم خير لهم من اتحادهم
بأهل وطنهم من المسلمين وأن مسلمي العرب يغلب عليهم التعصب الديني فلا
يمكن أن يعترفوا أو يرضوا بمساواة إخوانهم في الجنس والوطن لهم. وأما
الاتحاديون الترك فإنه لا يقيمون للدين وزنًا ويرون من المصلحة التركية
ترجيح نصارى العرب ليضعف مسلموهم فلا يكون لهم مجال للمطالبة
بالخلافة التي هي أكبر خطر على نصارى العرب ثم على غيرهم لأنها تكون
دينية محضة.
وسوس دعاة الجمعية آذان كتاب النصارى ووجهائهم بمثل هذا الكلام
فصدقوه وانخدعوا به، وظهر أثر ذلك في جرائدهم في كل مكان، وفي
مساعدتهم للاتحاديين في انتخاب المبعوثين، ولا بدع في ذلك فقد انخدع كتاب
أوربة وساستها من جميع الدول بنفاق هؤلاء الاتحاديين في القول والفعل.
حتى إن جريدة الطان الفرنسية الشهيرة نشرت مرة لأحد مكاتبيها تفضيلاً لهم
على الحزب الوطني المصري بأنهم يصرحون بانتقاد دين الإسلام ولا يبالون بأمر
المسلمين من غير أبناء جنسهم الترك، خلافًا للمصريين الذين تغلب عليهم النزعة
الإسلامية، فيبحثون عن مسلمي تونس، والجزائر ومراكش ويهتمون
بأحوالهم.
ثم ما عتم أن إن انكشف الغطاء للأوربيين عن نفاق زعماء الاتحاديين
وجهلهم وغرورهم، فسبق إلى بيانه الفرنسيون والإنكليز، ولم يصرح به
الألمانيون كغيرهم إلا بعد هذه الحرب، فقد نقل لنا المقطم منذ أيام أن كثيرًا
من أولئك الزعماء يقيمون الآن في بروكسل عاصمة البلجيك وفي مقدمتهم
حقي بك وطلعت بك وجاويد بك. وذكر أن جاويد بك قال لمكاتب جريدة
فرنكفور زيتونج الألمانية في سياق حديثه له: إن أعمال الحكومة العثمانية هي
التي كانت السبب في فشل الجيش الذي كان متأهبًا أتم التأهب ومجهزًا أحسن
التجهيز ولم يكن ينقصه إلا حكومة منظمة - أي اتحادية - لتنتصر به على
البلقانيين كما انتصرت على الأرنؤوط، كما قال في جوابه لمكاتب جريدة
أوربية أخرى الذي بينته في المقالة الأولى، وطعن في كامل باشا فوصفه
بالغرور وحب الانتقام، رمتني بدائها وانسلت.
ثم نقل المقطم بعد ذلك أن مكاتب التيمس في برلين قال تعليقًا على هذا
الحديث: لم تعد الدوائر السياسية في ألمانية تعير ما يتشدق به الاتحاديون أذنًا
صاغية، حتى أن الذين كانوا يعجبون بجاويد بك وزملائه صاروا أشد الناس
انتقادًا لهم، وأكثرهم سخرية بهم ويذهب أولو الرأي في ألمانية الآن إلى أن
السياسة التي بثَّها الاتحاديون في الجيش كانت السبب الأكبر في فشله وانكساره.
ثم تنبَّه نصارى سوريا في مصر وفيها إلى نفاقهم، وبقي أفراد منهم في
البرازيل على انخداعهم، وظل بعد هذا كله بعض مسلمي السوريين يغرون
الناس بهم، إما بأجر قليل، وإما اتباعًا للوهم، وكان يجب أن يجمع العرب
على مقتهم ومحادتهم؛ لأن العرب أبغض الناس إليهم، وإنني أعتقد أن أكثر
الذين يتحيزون إليهم منا منافقون وطلاب مال وجاه، وأقلهم مخدوعون
مصدقون أنهم يعملون للجامعة الإسلامية، وإنني أذكر مثالا من مخادعتهم
للمسلمين بهذه المسألة:
لما ألممت ببيروت في رمضان الماضي وأنا عائد من رحلتي الهندية
زارني ليلة مع الزائرين بعض رجال الحكومة في الدار التي كنت نازلاً فيها
وكان فيهم رجل من رجال القضاء (العدلية) من إخواننا الترك فنقل الحديث إلى
الجامعة الإسلامية وفوائدها للدولة، وادعى أن جمعية الاتحاد والترقي ترمي
إلى إحياء هذه الجمعية فقلت له: إنما ترمي إلى إحياء الجامعة التركية،
وتتجر باسم الجامعة الإسلامية، تجذب بهذا الاسم المسلمين الغافلين، وتخيف
الأوربيين المستعمرين، وإنني أدرى الناس بمكانها من الدين فقد جئت الآستانة
بإذن الجمعية لأجل مشروع الدعوة والإرشاد الذي شهد العقلاء من الاتحاديين
وغيرهم أنه أنفع ما يخدم به الدين، وكنت موعودًا من الجمعية بالمساعدة
عليه، ثم لما عرف زعماء الجمعية حقيقة المشروع وأنه خدمة حقيقية للدين
قاوموه ولم ينفذوه؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكانوا يظنون أن إسلامي
سياسيّ فيسهل جعلي آلة سياسية، فلما تبين لهم أن إسلامي إيمان ونية وعمل،
ظهر لهم أن مشربي يخالف مشربهم، وعملي يناقض عملهم، وقد كان
بعض علماء الآستانة يحذرني منهم ويقول: لا يغرنك منهم إظهار الميل إلى
مساعدة مشروعك (وهم يقولون) تشبثك فإنهم يريدون أن يستفيدوا من
اسمك وشهرتك ليظن المسلمون أنهم يريدون الخير للإسلام، وكان هؤلاء
العلماء يرون أن عدم تنفيذهم للمشروع خير من تنفيذهم إياه مخادعة ورياء
لأن الأمور بمقاصدها.
وكان هنالك علماء ونبهاء آخرون يرون أن الرياء قنطرة الإخلاص،
وأنهم إذا نفذوا المشروع يربحه المسلمون ولا يضره رياء مساعديه، إذا
صحت نية القائمين به، وكان من رأي هؤلاء أن أكتم عن الجمعية حقيقة
مرادي، وأوهمها أنني أريد أن أربي أناسًا يكونون دعاة للدين في الظاهر
ولسياسة الجمعية في الباطن، وأن أطلب جعل تعليم الفنون في هذه المدرسة
الإسلامية العامة باللغة التركية لا العربية ليقبلوا المشروع، وبعض أصحاب
هذا الرأي من الذين انتموا إلى الجمعية ليتمكنوا بنفوذها مما يريدون من الخير
لأنفسهم ولأمتهم، ولكنني لم أقبل نصحهم وقلت: إنني لا أجعل الباطل وسيلة
إلى الحق، فأنا أبين لهم كل مرادي، وإنني لا أريد ولا أقبل أن يكون المشروع
آلة سياسية بل دينيًّا خالصًا؛ لأن السياسة تفسده باختلاف الأحزاب والحكام
من الداخل، وبمقاومة أوربة من الخارج، ومن الجهل والغرور أن نظن أننا
نستطيع أن نخدع أوربة، فإن الجاهل القاصرلا يستطيع أن يخدع العالم
الراشد.
ذكرت شيئًا من سيرتي هذه للزائر التركي الذكي، ثم قلت له: أليس
الدكتور ناظم صاحب النفوذ الأعلى في هذه الجمعية يصرح بأن الدولة لا
يمكن أن ترتقي ما دامت متمسكة بالإسلام؟ أليس جميع إخوانه الزعماء
وأنصاره فيها على هذا الرأي؟ أليسوا يرون أن فشو الإلحاد في متخرجي
مكاتب العاصمة هو العون لهم على ما يريدون؟ فكيف يرجى منهم مع هذا
تأييد الجامعة الإسلامية؟
قال الزائر ويا لله العجب مما قال: إن الدكتور ناظمًا وكثيرًا من
زعماء الجمعية كذلك ولكن أكثر المنتمين إلى الجمعية متدينون ولعل غير
المتدينين منهم لا يزيدون على ثلاثين في المائة.
قلت: إنني لم أكن أظن أنهم يبلغون هذه الدرجة من الكثرة، وهب أن
المتدينين منهم تسعون في المائة والملاحدة عشرة في المائة، أليست الزعامة
والسلطة في يد الأقلين؟ قال: نعم، ولكن هذا لا يدوم. ثم قلت: إذا كانت
جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا تحاول إماتة اللغة
العربية وتطهير التركية منها، فهل يمكن للشعوب الإسلامية أن تتعارف
وتتعاون من غير أن يكون لها لغة مشتركة؟ وهل يمكن أن تتوجه كلها إلى
تعلم لغة عامة غير لغة دينها؟
إذا كانت جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا نرى
جرائدها ودعاتها وأساتذتها في جميع مكاتب الحكومة قد جعلوا شعارهم
وهجيراهم (الملة التركية) والقومية التركية ومحاولة تعميم اللغة التركية فقط،
أليست الأمة الإسلامية أمة واحدة ملتها واحدة وأفرادها إخوة كما يؤخذ من
نص القرآن المجيد، فتقسيمها إلى ملل وأجناس كما يفعلون هو الهدم لا البناء
للجامعة الإسلامية؟
قال الزائر التركي الذكي ويا لله العجب مما قال: إن اللهج بالملية التركية
والعناية بإحياء العنصرية التركية ونشر اللغة التركية، يريدون به الجامعة
الإسلامية، فإن المقصود منه استمالة مسلمي تركستان والتتار والروسيين إلى
الدولة واتحادهم بالترك العثمانيين وبذلك تقوى الجامعة الإسلامية، وليس
المراد به ألبتة تقوية الترك على العرب.
قلت له: أو يقال لمثلي هذا؟ هل الإسلام محصور في الترك والتتار حتى
لا تتكون الجامعة الإسلامية إلا منهم؟ أم يرون لغرورهم أن دولة روسية هي
أضعف الدول فيبتزونها عشرين مليونًا من الترك والتتار يكونون به الجامعة
التركية؟ إنني واقف على دسائس الجمعية في هذه المسألة، ونشرت في المنار
ترجمة مقالات لجريدة (نوفي فريمية) الروسية تنحي فيها باللائمة على حكومتهم
في تركستان لغفلتها عن المدارس التي ينشئها التتار هناك زاعمة أن هؤلاء
التتار مرسلون من الآستانة أو مُوعَز إليهم منها ليبثوا فكرة الجامعة الإسلامية
في تركستان، ويستميلوا أهلها البسطاء إلى إخوانهم الترك العثمانيين بدسائس
ألمانية والنمسة. وقد نصحت لإخواني التتار بعد نشر ما ذكرت بأن ينزهوا
سعيهم لنشر العلم بينهم وبين سائر إخوانهم عن شوائب السياسة الاتحادية
ودسائسها؛ لأن صلة بعضهم بأهلها تضرهم وتضر الدولة العثمانية؛ لأنها
تغري حكومتهم بالتشديد في منعهم من نشر العلم الذي يحيي المسلمين في
بلادها وبالتصدي لعداوة الدولة العثمانية من جهة أخرى، وكذلك كان فإنها
هي التي كونت الاتحاد البلقاني ودفعته إلى هذه الحرب.
ثم قلت للزائر التركي الذكي: إن ما وافقتنا عليه من مناداة الاتحاديين
بالملية التركية والقومية التركية واللغة التركية وبث ذلك في مدارس الدولة هو
من أقوى الأدلة على ضد ما استدللت به عليه؛ إذ جعلته عملاً للجامعة
الإسلامية، فإن كانت الجمعية تريد الجامعة الإسلامية الصحيحة كما تقول
فلماذا اهتمت بأمر مسلمي تركستان الذين دون وصولها إليهم خرط القتاد دون
مسلمي العرب في الحجاز مهد الإسلام ومهبط الوحي، وفي سياجه جزيرة
العرب وسائر العرب الذين لا يحيا الإسلام إلا بحياة بلادهم ولغتهم، ولا يعز
إلا بعزهم؟ فقد قال نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل
الإسلام) رواه أبو يعلى في مسنده بسند صحيح.
ولماذا لم تهتم بأمر مسلمي أفريقية العثمانية فعرضت عرب طرابلس
الغرب وبرقة لنيران مدافع إيطالية؟ ولماذا لم تهتم بأمر أربعين مليونًا من
المسلمين في جزائر جاوة والملايو وثمانين مليونًا من المسلمين في الهند؟
فهل انحصر الإسلام في الترك والتتار؟ لو كان الاتحاديون يريدون خدمة
الإسلام لنفذوا مشروع الدعوة والإرشاد، واجتهدوا في إحياء اللغة العربية
وعمران الحجاز وجزيرة العرب قبل كل شيء. هذا ما خطر في بالي من
حديثنا مع ذلك الزائر، وربما كان فيه زيادة إيضاح لبعض المسائل واختصار
في بعضها، وقد كان معنا جماعة من أدباء بيروت وطرابلس يستمعون.
فهذا مَثل من أمثال مخادعة الاتحاديين لمسلمي سورية وأمثالهم، وما كل
من يسمع مثل ما سمعت يجيب بمثل ما أجبت، وإنني أرى أن زعماء الجمعية
ما أيقنوا بأنه يمكنهم الانتفاع من الجامعة الإسلامية إذا استخدموها باسم
حكومة الخلافة ونفوذها إلا بعد حادثة طرابلس الغرب، فقد سمعت ورويت
عنهم وأنا في الآستانة أنهم يقولون: لا ينفعنا مسلمو بلادها ولا غيرهم وإذا
حاربنا إنكلترة _ أي في مصر طبعًا _ فلا يفيدنا مسلمو الهند شيئًا. وكانوا هم
وغيرهم من رجال الدولة يعتقدون قبل حادثة طرابلس الغرب أن العرب فيها لا
يبالون بصلتهم بالدولة وربما فضلوا إيطالية عليها تفضيلاً، وسلموا تسليمًا،
وإن سائر المسلمين لا يشعرون بألم انفصال هذه المملكة من ممالك الدولة.
يدل على هذا ما رواه بعض فضلاء العثمانيين عن رأي سفارة الدولة في
باريس حين أنذرت إيطالية الدولة ذلك الإنذار وأتبعته بضرب أسطولها
لطرابلس فذهبت إلى السفارة العثمانية لأتعرف رأيها وأعرض لها رأيي فقيل
لي: إنه لا شك في أن أهل طرابلس لا يأسفون ولا يأسون على زوال سلطتنا
عنهم؛ لأنهم ما رأوا منا خيرًا قط. وقد تألفتهم إيطالية منذ سنين فهم يفضلونهاعلينا.
بل نقلت البرقيات والصحف عن محمود شوكت باشا وكذا عن أحمد مختار
باشا أنهما قالا: إن الدفاع عن طرابلس الغرب جناية؛ لأننا لا نجد طريقًا لذلك.
هبَّ عرب طرابلس للدفاع عن بلادهم والمحافظة على عثمانيتهم، وهبَّ
العالم الإسلامي لمساعدتهم، فبدا لجمعية الاتحاد والترقي ما لم تكن تحتسب،
وأحبت أن تستفيد من هذه الأريحية الإسلامية. وكانت باعت طرابلس وبرقة
لإيطالية على شرط أن تأخذها بالفتح السلمي بعد أن تخرج منها العسكر
العثماني والسلاح، أي أن تترك الاسم والعلم للدولة العثمانية وتفعل في البلاد
ما تشاء. فغدرت إيطالية وتصدت لأخذها صورة وحقيقة بالقوة القاهرة؛ إذ
خلا لها الجو بإخراج العسكر والسلاح منها، فلما هب العرب للقتال، وهب
المسلمون كافة للمساعدة بالمال، وقام المبعوثون المعارضون للجمعية يتهمون
الوزارة الاتحادية بالخيانة ويطلبون محاكمة الصدر الأعظم حقي باشا وناظر
الحربية محمود شوكت باشا، وفي ذلك هتك الستر وانكشاف السر، ورأى
زعماء الجمعية أن الأمة العثمانية يوشك أن تثور عليهم إذا لم يبرئوا أنفسهم،
لما كان ذلك كله أرسلت الحكومة بعض الضباط وأمدتهم بأموال الإعانة وبما
يمكن من السلاح، وظهر للجمعية أن في الجامعة الإسلامية حياة يمكن
الاستفادة منها.
ومن العجائب أن الدكتور ناظم بك لم يقنعه ما سمع وما قرأ عن استبسال
عرب طرابلس وبرقة، وأريحية أهل مصر والشام وغيرهم من المسلمين،
واندفاع الجميع إلى السعي لإبقاء راية الهلال فوق تلك البلاد، بل أرسل زميله
رحمي بك إلى طرابلس ليختبر الحال، فلما عاد منها كان هو الذي أقنعه بأن
للجامعة الإسلامية وجودًا وتأثيرًا حقيقيًّا، فصرَّح الدكتور بذلك في خطبة له
رأيت ترجمتها في بعض الجرائد السورية، وأنا في البصرة عائد من الهند،
فهممت أن أكتب إليه كتابًا أذكره بما أعرف من آرائه وآراء رفاقه في الجمعية
وأبني على ذلك بعض الأسئلة والحجج.
نعم إن الجمعية بعد ذلك كله أرادت الاستفادة من الجامعة الإسلامية
واستثمار هذه القوة من وجوه منها استدرار المال من المسلمين كافة باسم
الخلافة ودولة الخلافة وحماية الإسلام، والمال هو المعبود الأول للجمعية كما
عرف ذلك من سيرتهم منذ الانقلاب إلى اليوم، ومنها تخدير أعصاب مسلمي
العرب العثمانيين حتى لا يطالبوا بحق لهم في دولتهم، ولا يعارضوا
الاتحاديين بشيء من مقاصدهم، ومنها استمالة مسلمي الترك والتتار
الروسيين بالدسائس العملية وسائر مسلمي المستعمرات الأوربية بالجرائد
وبعض المعممين الذين يسخرونهم لهذه الخدمة. ولأجل هذا أسسوا
جريدة الهلال العثماني لما رأوا الشيخ عبد العزيز شاويش مواتيًا لهم في كل
ما يستخدمونه به. وأمدوا جريدة العلم المصرية وبعض الجرائد السورية بقليل
من المال ووسعوا للهلال وأمثاله الحرية في تحريك العصبية الدينية والتنويه
بالجامعة الإسلامية، على تضييقهم على علماء الآستانة وسائر رجال الدين
بقدر الإمكان، ومنها غير ذلك مما لا يتسع هذا المقام لشرحه.
وجملة القول أن عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية واستخدام مثل
الشيخ شاويش في ذلك، كان أكبر الأسباب التي زادت حَنَق دول الاتفاق الثلاثي
عليهم ظنًّا منها أنهم ما تجرأوا على ذلك إلا بإغراء ألمانية والنمسة لضعفهم
وعجزهم، فتصدت هذه الدول للتنكيل بالدولة وأسست روسية الاتفاق البلقاني
وأغرت دول البلقان بهذه الحرب وأمدتهن بالنفوذ حتى إن جرائد هذه الدول
كانت أقوى عضد للبلقانيين، فما جنينا من هذه المخادعة بالجامعة الإسلامية
إلا الزقوم واليحموم، وهذه عاقبة النفاق والغرور، والعياذ بالله مما هو أعظم
من ذلك.
…
...
…
...
…
...
…
(نشرت في مؤيد 27 محرم)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: صالح مخلص رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(رسالة عين الميزان)
بقلم صاحبها محمد الحسين النجفي آل الشيخ الكبير الشيخ جعفر نقد بها
مقالة (ميزان الجرح والتعديل) للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي التي
نشرت في المنار، وقد نشر بعض هذه الرسالة في مجلة العرفان في آخر عدد
منها، صفحاتها 26 بالحرف الصغير والقطع المثمن، وقد وعد المؤلف
بإتمامها بعد اطلاعه على تتمة المقال (ميزان الجرح والتعديل) وهذه الرسالة
مطبوعة بمطبعة العرفان في صيدا وثمنها قرش ونصف قرش صحيح، وهي
تطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(أمثال الشرق والغرب)
تأليف يوسف توما أفندي الكُتْبِي بمصر، صفحاته 126 بقطع تفسير
سورة الفاتحة، طبع على ورق متوسط بمطبعة البوسته بمصر سنة 1912
يطلب من مكتبة المنار بمصر، وثمنه 3 قروش.
جمعه مؤلفه من كلام العلماء والحكماء من السابقين والمعاصرين،
ورتبه على 24 فصلاً، جمع فيها من أمثال العرب والعجم والبربر والفرنجة
واليونان والهنود طائفة كبيرة، والكتاب نافع لاشتماله على حِكم رائقة مفيدة.
***
(الأمازون)
جريدة جامعة تصدر صباح كل خميس من الأسبوع ذات ثماني صفحات
على شكل جريدة الأفكار، قيمة اشتراكها في السنة 25 فرنكًا، عنوانها (سان
بولو البرازيل، صندوق البوسته عدد 1343) مديرها ومحررها فارس دبغي.
***
(المصور)
جريدة علمية أسبوعية مصورة، صفحاتها أربع، عنوانها: إدارة جريدة
المصور في المطبعة العثمانية في بيروت، قيمة اشتراكها مجيدي ونصف في
البلاد العثمانية، و 10 فرنكات في الخارج، صاحب امتيازها عبد الوهاب
سليم التنير ومديرها المسئول محمد طاهر أفندي التنير.
***
(الفجر)
جريدة أسبوعية تصدر مؤقتا كل عشرة أيام مرة، صفحاتها ثمان وقيمة
اشتراكها 120 قرشا في الخارج، صاحبها ومحررها ناصر شاتيلا أفندي عنوانها
(AL-Fajr Caixa Postal ، 1595 Rio de janeiro Barzil)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
***
(رائد السودان)
جريدة علمية أدبية إخبارية اقتصادية تصدر يوم السبت من كل أسبوع
بأربع صفحات على شكل جريدة الأهرام، قيمة اشتراكها في مصر والسودان
خمسون قرشًا صحيحًا، وفي الخارج 20 فرنكًا عنوانها (صندوق البوسته
عدد 51 و52 بالخرطوم) .
***
(السهام)
جريدة تبحث في كل موضوع تصدر مرة في الأسبوع، قيمة اشتراكها
200 قرش في البرازيل عن سنة، و35 فرنكًا في الخارج، عنوانها التلغرافي
(السهام مناوس) مديرها ومحررها جورج إسحاق يارد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانقلاب الخطر
وجمعية الأحمرين الدم والذهب
كل من نعرف من العثمانيين المخلصين، والأجانب المستقلين يعتقدون أن
جمعية الاتحاد والترقي هي جمعية الأحمرين: الدم والذهب، أما كونها جمعية دم
وثورة فهو صفتها الرسمية، ولما سقطت وزارتهم السعيدية الشقية جمعوا مؤتمرهم
العام وزعموا أنهم قرروا فيه التحول عن جمعية ثورة إلى حزب سياسي. وكان
هذا خداعًا للأمة الجاهلة المسكينة، كذبته ثورتهم الجديدة لقلب وزارة كامل باشا.
وأما كونها جمعية ذهب، فلا يخفى على أحد، فقد نهبوا أموال عبد الحميد
خان وصادروا أكثر أغنياء الأمة، وباعوا بوسنة وهرسك للنمسة، وطرابلس
الغرب لإيطالية، واتفقوا مع الجمعية الصهيونية على بيعها أراضي السلطان عبد
الحميد الواسعة، وعلى تمهيد الأسباب لامتلاكها البلاد المقدسة لإقامة ملك إسرائيل
فيها، ولهذا قال وزيرهم حقي باشا في خطبة علنية له: إن مستقبل هذه الدولة
العثمانية لليهود. وأخذت وزاراتها من ميزانية الدولة أكثر من 40 مليون جنيه لم
يظهر لها أثر يذكر.
لأجل هذا كله كنا نخشى أن تعود لها الكَرة لامتلاك زمام الدولة فتكون
هي الكَرة الخاسرة، وتقوم بذلك قيامة هذه الأمة البائسة في هذه الأحوال الحرجة،
وزاد هذا الخوف في قلوبنا إخراج الجمعية لبطلها أنور بك من دَرَنَة الذي وضعته
هناك وجعلت في يده جميع الإعانات الحربية؛ لتوهم العالم الإسلامي أنها هي التي
تدافع عن طرابلس وبرقة، وما هي إلا البائعة لهما على الوجه الذي بيَّناه من قبل،
وإنما أخرجته وجاءت به إلى الآستانة ليعينها باسمه وشهرته الخادعة على الثورة
وسفك الدم. وقد وقع ما كنا نتوقع، وهاك ما ورد علينا وعلى غيرنا من أصحاب
الجرائد المصرية من الآستانة في ذلك:
رسالة إلينا خاصة من الآستانة:
كتب إلينا أحد الأصدقاء من عاصمة الملك ومركز الحوادث يقول:
(أكتب إليكم، وأنا أشهد بعيني، وأسمع بأذني كيف تكون مصارع الدول،
وكيف تخط مضاجع الأمم، وكيف يفتك العلم بالجهل، وتستولي النباهة على
الخمول، وكيف تنشب القوة مخالبها في الضعف فتمزق أشلاءه، وكيف
يتضاءل المقصرون أمام السابقين، ويتضاغر المهملون لصولة العاملين، هذا
وهؤلاء المتأخرون في كل شيء، والمتقدمون إلى شفير كل هلكة، كأنهم لا
يألمون لما يألم له الأحياء، فنراهم في غمرتهم ساهين، وعلى ما ألفوا من
الحرص والطمع عاكفين، وعلى هذا الذماء الحقير من السلطة متهالكين، كأن
الآلام تقع على غيرهم، وكأن من يقصد بهذا الشر المستطير سواهم، فكل ما
حل بهم وما سيحل بمن يتصل بهم لم يظهر له ولا أثر ضعيف في أعمالهم
وحالهم، أو كما يقول شاعرهم التركي:
عالم ينه أول عالم
…
دوران ينه أول دوران
بل أشهد كيف يحتفر الجاهل قبره بيده، ويهدم قصره بفأسه ومعوله،
حتى لا يترك للعدو سبيلاً إلى العناء، فلقد اختلس الطامعون فرصة اشتغال
العسكر في المرابطة على الحدود، واشتغال الوزارة بالجواب على مخطرة
الدول، فخرجوا من زقاق شرف، مع رئيس من رؤسائهم المعروفين بعدد من
الزعانف لا يبلغ المائتين، أعيتهم الحيل في جمعهم، ومنهم قسم عظيم من
جهال مهاجري طرابلس الغرب، أغروهم بالوقوف أمام الباب العالي يطلبون
معاشهم الذي مضى وقت صرفه، ولم تتمكن الوزارة من تدارك قرض لصرفه،
فوقفوا ووقف أولئك معهم يصيحون ويصخبون، وجاء رئيسهم أنور فدخل على
كامل باشا ورفاقه وطلب إليهم الاستعفاء بحجة أنهم ضعفوا أمام الأعداء وأطمعوهم،
وأشار إليهم بأن ممثلي الأمة وراءه وهم الواقفون أمام الباب، وكان ذلك بعد
أن اغتيل ذلك القائد العظيم ناظم باشا وضابطان آخران، فاضطرت الوزارة
إلى الاستقالة وخرج أنور وهو يكاد يسامق الفَلَك غرورًا، وتوجه توًّا لسفارة
ألمانية حيث مكث هناك برهة ثم صعد إلى سراي طولمه باغجه، حيث أخبر
السلطان بعمله، وأشار عليه بنصب محمود شوكت باشا، وإعادة الوزارة
الاتحادية، فأجابه إلى طلبه طبعًا، وعاد فأعلن ذلك إلى ممثلي الأمة الواقفين
في ساحة الباب العالي! فهتفوا باسم الاتحاد والترقي، وكان ذلك وقت
الغروب أو بُعيده.
ثم قُبض على علي كمال وأُحيط بإدارة جريدة أقدام وعلى محرر يكي غزته
وأحيط بإداراتها، وبناظري المالية والداخلية، وبكثير من رجال العلمية
والملكية، وفر كثيرون مما لم نقف بعد على تفصيله، وتوجه في تلك الليلة
رجلان إلى إدارة صباح، حيث كان محررها فأمروه بكتابة ما يريدون، وهددوه
إن لم يفعل بالقتل، فخرجت صباح ثاني يوم تمجد هذا العمل وتقدسه وتلبسه
لباس الحق، وإن للأمة أن تخرج عن الطاعة وتنبذ طاعة حكومتها إذا عملت على
غير مصلحتها.
وكان قد أصيب في تلك المظاهرة مرخص الاتحاديين مصطفى نجيب
فهلك فأخرجوا جنازته في اليوم التالي بين التهليل والتكبير، والبكاء والعويل،
والتآبين المطولة، والمراثي المطنطنة، وفي جملة من أبَّنَه عبد العزيز
شاويش، أبَّنه بالإنكليزية! ثم مشوا به ومعه ألوف مؤلفة فيهم قسم عظيم من
الحمالين (الشيالين) وقسم عظيم من شيوخ الطرق، وآخر من رجال العلمية
والطلبة، والباقون من شبان المأمورين، ومشت أمامه فرقة من العساكر، وأخرى
من النوَّاحين يرثونه، ويذكرون بلاءه في سبيل الوطن وتعريضه بنفسه
إلى الموت لتخليص وطنه من الذين يريدون بيعه وتسليمه للأعداء، ويتباكون
كأن المصاب بهذا المجاهد أعظم من المصاب بكل من مات في ميدان الحرب،
وأعظم من الهزيمة التي أسقطت الجيش والعثمانية كلها من مرتبة الوجود.
كل هذا على حين أن جنازة ناظم باشا كانت تمشي من طريق آخر وليس
معها سوى بعض الجند، وبعض ضباط الأجانب والمأمورين العسكريين،
والناس يتناجون فيما بينهم ولا يجسر أحد منهم أن ينبس ببنت شفة.
جرت كل هذه المضحكات المبكيات، ثم عادت الوزارة الجديدة لمباشرة
العمل والقيام بما ملأت به ماضغيْها من التحريض على الحرب ورد مخطرة
الدول، وراجعت الأساس الذي كانت الوزارة السابقة تريد بناء الجواب عليه
فإذا هو عبارة عن تسليم بعض الحدود الخارجية عن منطقة أدرنة وتسليم
بعض الجزر، والرجاء من الدول بالاكتفاء بهذا وصرف النظر عن مطالبهن،
فجعلت الوزارة اللاحقة تحاول تعديل جزء يسير من هذا فلم تجد إليه سبيلاً،
ولا عليه معينًا، فاضطرت فيما سمعناه إلى تقريره بعينه، وستقدم الجواب اليوم أو
غدًا [1] .
أما صدى هذه الحركة في الجيش فالمسموع أنه صدى سيئ، وأن
العسكر في جتالجه منقسمون، وبعضهم يريد الزحف على الآستانة لتأديب
القائمين بها، وبعضهم يطالب بدم ناظم باشا، وبعضهم فر من الجيش إلى
جيش البلغار، وأما الولايات فلم يرد منها إلا التقبيح لهذا العمل ورفض
الاعتراف بالوزارة الجديدة فيما سمعنا، حتى قيل: إن ولاية البصرة عازمة
على طرد الأتراك من بلادها وإعلان الاستقلال، وعلمت أن تلغرافًا ورد
طالب بك يتضمن هذا أو نحوه، وأن تلغرافات وردت من بيروت والقدس
بالرفض أيضًا [2] .
أما التهاني التي وردت من بعض أقضية الأناضول ونشرتها الجرائد فهي
خافتة الصوت ظاهر عليها أثر التصنيع، وأول ما درج منها تلغراف من
رئيس الحمالين في أزمير يهنئ الوزارة، ويذكر أن لديه عددًا كبيرًا من
عربات النقل مستعدة لخدمة الحكومة في الحرب التي تنوي استئنافها لتخليص
الوطن! وعلمت من ثقة أن أول عمل قررته الوزارة: إعادة المجلس المنحل
ودعوة المبعوثين؛ لأنها لا تعتبر ذلك الفسخ قانونيًّا؛ ولم ينشر في الجرائد
تصريح بذلك، أما تلميحًا فقد نشر، والجرائد لا تذكر واحدًا من هؤلاء
المبعوثين باسم مبعوث سابق، بل تطلق كلمة مبعوث إطلاقًا، وبالجملة فكل
ما نراه ونسمعه هو من آيات الانتحار والانقراض، ولا ندري ماذا يكون شأن
بلادنا، وماذا يعمل زعماؤها وكيف السبيل إلى النجاة. انتهى بنصه.
ونشر المؤيد في العدد الصادر أمس (يوم الأربعاء 28 صفر سنة
1331 و5 فبراير سنة 1913) رسالة قال: إنه تلقاها عن أوثق المصادر
جاء فيها ما نصه:
بينما كانت الوزارة الكاملية مجتمعة في الباب العالي بعد ظهر أول أمس
(أي: يوم الخميس 23 يناير) للمداولة في الجواب المزمع إرساله إلى سفراء
الدول بشأن مسألة أدرنة والجزر؛ إذ أقبل نحو الباب العالي زمرة من
الاتحاديين وأتباعهم يحملون أعلام الجمعية، وكانت الساعة الثالثة زوالية، وفي
مقدمة الجميع القائمقام أنور بك، والميرالاي جمال بك وهو والي بغداد السابق،
والبكباشي إسماعيل حقي بك وهو والي بتليس السابق، وعمر ناجي بك مبعوث
قرق كليسا السابق وممتاز المتهم بقتل المرحوم زكي بك وتحسين بك صاحب
جريدة سلاح، ومصطفى نجيب الذي لقي حتفه في هذه الفتنة، وبعض المنتمين
للهلال الأحمر الهندي والهلال المصري من الهنود والمصريين (وهؤلاء انضموا إلى
المتظاهرين في الآخر) وقسم كبير من المشايخ صنائع الاتحاديين يهللون
ويكبرون.
ثم دخل أنور بك ورفقاؤه المذكورون إلى رحبة الصدارة وحاولوا الولوج
إلى الغرفة التي يجتمع فيها الوكلاء فعارضهم نافذ بك ياور الصدر الأعظم،
وتوفيق بك ياور ناظم باشا، وجلال أفندي البوليس الملكي الذي يمشي بمعية
سماحة جمال أفندي شيخ الإسلام، وكان هؤلاء الحجاب محقين بمنع هؤلاء
الجماعة من الدخول على مجلس الوكلاء في ساعة انعقاده؛ لأنهم مأمورون
بذلك قانونًا، وهم قاموا بوظيفتهم التي ينبغي أن تكون محترمة عند الجميع.
ولكن أنور بك وجماعته هجموا بالقوة وقتلوا برصاص المسدس المرحومَ
نافذ بك ياور الصدارة، فأصيب في جنبه وهجموا على الحاجبين الآخرين
بالمُدى والخناجر التي كانوا خبأوها تحت ثيابهم، وكان الحاجبان يدافعان عن
حياتهما، وعن باب مجلس الوكلاء بمسدسين كانا معهما.
أما ناظم باشا فقد أقلقه انطلاق الرصاص داخل الباب العالي، وعلى باب
مجلس الوكلاء، وكذلك قلق سائر الوزراء فخرج ناظم باشا من الباب وقبل أن
يسمعوا كلامه أو يفهم مرادهم أطلق عليه مصطفى نجيب رصاصة، وقيل بل
الذي بدأ بإطلاق الرصاص عليه هو أنور بك ونسب ذلك إلى مصطفى نجيب
لأنه مات فيما بعد، ثم انهمر الرصاص على ناظر الحربية من الآخرين
فأصيب برصاصة في صدغه وأخرى تحت عينه اليسرى ومات فأقبلوا على
جثته يطعنونها بالخناجر والمُدى.
وكان الياور توفيق بك إلى ذلك الحين يطلق الرصاص في الفضاء إرهابًا
لهؤلاء الجماعة، فلما رأى جثة وزير الحربية ملقاة على الأرض ملطخة
بالدماء لم يملك عواطفه، مع ما أصابه من جروح، فقتل مصطفى نجيب
بالرصاص.
وبعد قتل ناظم باشا تحول رصاص القوم على توفيق بك وبوليس شيخ
الإسلام، وعلى اثنين من خدمة الباب العالي فقتلوا جميعًا.
وبعد هذه المعركة دخل أنور بك وجمال بك على الصدر الأعظم وطلب
منه الأول أن يستقيل فأجابه إلى ما أراد وكتب كتاب الاستقالة، وسلمه إلى
أنور بك فخرج هذا بها إلى جماعته الذين ينتظرونه في الخارج أمام الباب
العالي، وكان عددهم إلى تلك الساعة لم يزد على مائة شخص فبشرهم
باستقالة كامل باشا، وقال لهم: لا تفارقوا باب الباب العالي حتى أعود إليكم
من القصر السلطاني بتعيين وزارة أخرى.
وذهب إلى سراي طولمه بغجه راكبًا أوتومبيلاً فقابل جلالة السلطان
وأخذ منه الإرادة السنية في الحال بتعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم،
وطلعت بك وكيلاً لنظارة الداخلية إلى أن تتألف الوزارة الجديدة، وكان هذان
ينتظران مع آخرين عند سراي طولمه بغجه، ثم صحب أنور بك محمود
شوكت باشا وطلعت بك وجاء بهما إلى الباب العالي فاستقبلهم الواقفون هناك
بالتصفيق والهتاف وتلي الفرمان السلطاني على المتجمهرين، وبعد ذلك خطب
محمود شوكت باشا فقال:
(إني قبلت هذا المنصب وأنا على علم بحرج الموقف، وإني واثق بالله
أن يوفقني إلى خدمة الوطن) .
ثم طلب من المتظاهرين أن يتفرقوا فذهبوا من الباب العالي إلى حزب
الحرية والائتلاف فنهبوه، وأخذوا أوراقه ودفاتره وحطموا زجاج كل نوافذه.
ومن الغريب في هذا الحادث أن الجنود الذين من وظيفتهم أن يوجدوا في
الباب العالي أرادوا أن يمنعوا أنور بك وجماعته من الدخول فسألهم أنور بك:
ألستم تعرفونني؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تثقون بي؟ قالوا: بلى. قال: إذن
فأفسحوا لي الطريق؛ فإني ما جئت إلا لأنقذ الوطن؛ وعقولكم لا تدرك مثل
هذه الأمور. نعم عقولهم لا تدرك مثل هذه الأمور، ولكن الذي كان يجب عليهم أن
يدركوه هو اتباع أوامر ضباطهم فلم يفعلوا. وهكذا تركوا رجال المظاهرة يفعلون ما
سبقت الإشارة إليه.
وعند دخول أنور بك كان منتبهًا إلى أنه ربما استدعيت الجنود بواسطة
أسلاك التلفون والتلغراف فقطعها كلها.
ومما انتبه الاتحاديون له قبل وقوع الحادث أنهم أمروا الضًّباط المنتسبين
إلى جمعيتهم فأخذوا الألايات الحميدية إلى الجسر الجديد الذي بين السركه جي
وغلطه فقطعوا الصلة بين شطري العاصمة.
وكانوا قد طبعوا من قبل منشورًا يتقربون به إلى الأمة بما آنسوه من
شعورها بعواطف الاستياء من التنازل عن بعض أدرنة والجزر مع أنه لو
كشف الله للناس عن قلوب بعضهم في هذه الأزمة لعلموا من هو المسيء أكثر
ومن هو المخلص أكثر، ومن الذي يتخذ العواطف ذريعة لأغراضه.
وأغرب ما في الأمر أن هذا المنشور الذي طبع من قبل جاء فيه أن
الوزارة استقالت، مع أنه كتب وطبع قبل حدوث كل شيء، وقبل أن يخطر
على بال الوزارة أن تستقيل بهذه الصورة. ولكنها فتنة دبرت بليل.
في اليوم الثاني كانت قد أقفلت جريدة أقدام وجريدة علمدار وجريدة بني
غزته، وقام أمامها من رجال البوليس، وقبل ذلك - أي في الليل - ألقي القبض
في مطعم طوقاتليان على علي كمال بك رئيس تحرير أقدام، وإسماعيل حقي
بك مبعوث كوملجنة السابق، ونور الدين بك المدير المسئول لجريدة أقدام،
والدكتور رضا نور بك والدكتور رضا توفيق بك وغيرهم فسجنوا جميعًا.
أما رشيد بك ناظر الداخلية السابق وعبد الرحمن بك ناظر المالية
السابق فقد سجنا في دائرة برنجي قول أوردو ولا يزال البحث جاريًا عن
المعارضين.
والاعتقاد سائد هنا (أي في الآستانة) أنه لولا طيب قلب ناظم باشا
ورشيد بك لما حصل شيء من هذه الفتنة.
ويقال: إنه مما قرر أثناء ترتيب الفتنة أن يعين نسيم ماصلياح اليهودي
وكيل الجمعية الصهيونية ناظرًا للتجارة بدلا من جلال بك ويرسل جلال بك
واليا على أزمير، وجاويد بك يعين وزيرًا للمالية.
أما باتزاريا الذي عين ناظرا للنافعة (الأشغال) فهو فلاخي، وكان
رئيسًا لتحرير (جون ترك) التي تصدر بأموال اليهود الصهيونيين اهـ.
***
الانقلاب الخامس
…
مقدماته، تفاصيله، نتائجه
ونشرت جريدة الأهرام تحت هذا العنوان (في عدد 10618) رسالة
من الآستانة هذا نصها:
برح مراسلكم الخصوصي فروق إلى مكان أجهله فسألني قبل سفره
مراسلة الأهرام في مدة غيابه نظرًا لما بيننا من صلات المحبة والوداد فوعدته
خيرًا، ولقد كنت أود لو أن لي قلمًا كقلمه يصف لكم الحوادث والأشياء، إلا
أن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، فأنا أصف لكم ما رأيناه ومر أمام ناظرنا
ببساطة العامي؛ لعلمي أن الحقيقة جميلة بنفسها لا تحتاج إلى بلاغة إنشاء. ففي
جمالها ما يغني عن البلاغة.
إذا كان في العالم كله شعب يصح به قول الشاعر:
وصرت إذا أصابتني سهام
…
تكسرت االنصال على النصال
…
فهذا الشعب هو ولا شك الشعب العثماني الساكت النائم على الضيم المغلوب
على أمره، فلقد أخذت النوائب ترشقه بسهامها منذ عامين أو أكثر فقتلت أولاده في
حروب طرابلس الغرب والروملى، ورملت نساءه ويتمت أطفاله، وخربت
تجارته وهدمت دياره وأحرقت مزارعه وأخرجت الحكم من يده إلى يد عدوه،
فبلاد الرومل اليوم ديار خربة لا تصلح لشيء، يحرق العدو فيها ديار المسلمين،
ويحرق المسلمون فيها قرى أعدائهم، وهكذا دواليك.
منذ أربعة أعوم قلب الجيش حكم عبد الحميد، وأنشأوا حكومة دستورية،
ثم قام الجيش فقلب تلك الحكومة، ثم قام رجال تلك الحكومة فقلبوا بعض توابير
ذاك الجيش، ثم عاد ضباط الجيش الكرة الرابعة منذ شهور وقلبوا ذاك
الحكم. فقام الاتحاديون اليوم وقلبوا حكومة ذاك الجيش وهي خامس ثورة
حدثت في أربعة أعوام في سبيل القبض على الحكومة ليس غير.
(قبل الانقلاب)
برح أنور بك بنغازي بطلب من جمعية الاتحاد والترقي، فلما وصل
الآستانة قابله رجاله طبعًا ولم يجر له استقبال فخيم كما عوده ذووه فساءه ذلك،
وزاد في استيائه أنه بعد أن وصل قصد نظارة الحربية فدخل على ناظم باشا
فلم يقف له ناظر الحربية بل قابله بصفة عسكرية كفريق وقائمقام عسكري،
وقال له ما خلاصته:
أنا مسرور منك لما بذلته من الهمة والنشاط في بنغازي وأُسَرُّ بوجود
ضابط نشيط مثلك في الجيش؛ غير أنني أفيدك أنني لا أحب أبدًا مداخلة
الضباط في السياسة، ولا أسمح لهم بذلك، فإذا أقسمت لي بأنك لا تتدخل فيها
أبدًا أقسم لك بشرفي أننا نقدر أن نقضي العمر معًا. فأقسم له أنور بك بشرفه
العسكري أنه لا يتداخل في السياسة وخرج من حضرته وفي الصدر ما فيه.
كان بين عزت باشا رئيس الأركان وأنور بك صداقة ووداد من قبل، ويظهر
أن عزت باشا لا يميل قلبًا إلى ناظم باشا فعقد مع أنور بك عهدًاٍ، وأخذ الاثنان في
ملاطفة ناظم باشا وإظهار الود له، ومما كانا يقولانه له: اليوم لا توجد جمعيات أبدًا
فلا اتحاد ولا ائتلاف، بل يوجد شرف الجيش العثماني، وإن شاء الله بهمتك يا باشتنا
نعيد هذا الشرف إلى ما كان عليه.
وبرهانا على هذا القول دعوه مرتين إلى تناول الطعام في دار البرنس
سعيد باشا حليم مع رهط الاتحاديين، وتناول الطعام معهم مرة في فندق
توقتليان حتى قال بعضهم: إن ناظم باشا اتفق مع الاتحاديين والتحق بهم.
ولقد بلغ وثوقه حدًّا ما كان يجب له أن يبلغه، فترك أمور الحل والربط في
الجيش لعزت باشا، وأخذ يشتغل هو بأمور الدفاع وغيرها، ولقد كانت هذه
السياسة التي بسطتها توطئة لدور الانقلاب.
(قبل الانقلاب بأيام)
اتصل برشيد بك ناظر الداخلية السابق قبل الانقلاب بأيام خبر ما يهيئه
الاتحاديون من المؤامرات، فأراد أن يقبض على زعمائهم فمنعه ناظم باشا من ذلك
فألح فجاءوا بنصف تابور وأسكنوه في الباب العالي.
(من هم ضباطه)
إن رجال هذه البلوكات الأربعة التي جاءوا بها هي من تابور عشاق. وقد
انتخبوه دون غيره؛ لأن جميع ضباطه من الاتحاديين يقبضون رواتبهم شهريًّا
من صندوق جمعية الاتحاد والترقي، وما خلا هذا فقد أبعدوا جميع الجنود
التي كانت في الآستانة إلى الثكنات البعيدة، فلم يبق في ثكنات الآستانة ذاتها إلا
تابور واحد، نصفه في الباب العالي، والنصف الآخر مستمال بمعدات
الاستمالة، على هذا الشكل تمت مهيئات المؤامرة.
(يوم الانقلاب بالذات)
أعد الاتحاديون أسباب الانقلاب بتمامها، فبعد أن أتموا تهيئة الوسائل
العسكرية التي تقدمت الإشارة إليها هيأوا الأسباب الملكية أيضا فجاءوا بنحو
مائتي شخص من أنديتهم المختلفة ووزعوهم في القهوات الواقعة أمام الباب
العالي التي ظلوا فيها إلى نحو الساعة الثانية بعد الظهر.
وكان طلعت بك يقوم بدور التفتيش بين كل ساعة وأخرى، فيجيء هذه
القهوات مضطربًا ويكلم هذا الشخص أو ذاك، ويهمس لهذا وذاك كلمة في أذنه
ثم يرجع ثم يعود إلى القهوة، ويقول الذين شاهدوه: إنه ذهب ورجع عشر
مرات، وهو على مثل هذا الحال.
وفي الوقت المعين هبَّ هؤلاء الناس من قهوتهم وأخذوا ينسلون عشرات
عشرات ويقفون أمام الباب العالي فلما اجتمع قدر مائة منهم قدم أنور بك على
جواده يحيط به أربعة من الفدائيين وضعوا مسدساتهم تحت ستراتهم إلا أنها
كانت ظاهرة لكبر حجمها.
وكان في هذه الأثناء قد بلغ الوزارة خبر هذا التجمع فخرج ناظم باشا
ليعطي الأمر إلى الجنود الموجودة بتفريق المجتمعين، وقد جاءه ياوره نافذ
بك وأمرهم بذلك.
وبعد دقائق قليلة قدم أنور بك يحيط به جماعته فتظاهر ضباط تابور عشاق
برغبتهم في مخالفته فخطب فيهم قائلا: ألست قائدكم؟ أمَا أنا مسلم مثلكم؟ أمَا أنا
عثماني؟ لماذا تضربون هؤلاء القوم دعوهم وشأنهم.
(دور المشايخ)
وفي هذه الأثناء وقف الشيخ أحمد ماهر وشيخ آخر - في رواية أخرى أنه
موسى كاظم - واعظين في الجند والقوم وأخذا يصيحان: أيها المسلمون استغفروا الله
أيها المسلمون استغفروا الله، الله أكبر، الله أكبر. فيجيبهما الجميع:
أستغفر الله، أستغفر الله.
غرضهم من ذلك كان أنور بك يعلم هو وجماعته أنه لا بد لهم من
إطلاق النار لدخول غرفة اجتماع الوكلاء، فأرادوا بوجود هذه الضوضاء
العلوية أن يُخفوا صوت إطلاق النار عن الواقفين خارجًا، ثانيًا أن يحركوا
العواطف الدينية.
بعد أن دخل أنور بك وفدائيته الباب الخارجي الكبير، وتبعهم بعض
رجال الأندية الاتحادية أقفلوا الباب وراءهم ومنعوا غيرهم من الدخول.
ولما وصلوا إلى الداخل، وطلبوا الدخول إلى غرفة مجلس الوكلاء منعهم
نافذ بك ياور ناظم باشا، فأطلق مصطفى نجيب بك أحد ملازمي الجيش، وكان بثوب
ملكي النار على نافذ بك فلم يُرْدِهِ لأول طلق فأجابه نافذ بك بالمثل فأرداه، وسقط
الاثنان تضرجان بدمائهما فتصدى توفيق بك ياور الصدر وشقيق حرم أدهم بك
والى بيروت لممانعتهم فأردوه على الفور.
فلما سمع ناظم باشا إطلاق النار خرج ليرى الأمر فما فتح الباب حتى
كان قد عاجله أحد الفدائية برصاصتين ذهبتا بحياته حالاً فوقع إلى الأرض يتضرج
بدمه الذي ذهب ثمن غفلته وإهماله [3] .
وعلى هذه الصورة، وفي هذا الشكل دخل هذا الجمع مجلس الوكلاء وكانت
في يد أنور بك عريضة الاستقالة، فقبض على المسدس بيد وبسط العريضة
بالأخرى لكامل باشا قائلاً: وقع على هذه العريضة حالاً فالأمة لا ترضى بوزارتكم.
ثم أشار إلى بعض رجاله بعدم السماح لأحد بالخروج ولا لأحد من الخارج بالدخول.
جرى كل ذلك، والناس في الخارج يهللون ويكبرون وهم لا يعلمون ما
جرى داخلاً فركب أنور بك سيارة كانت معدة له، وقصد السراي السلطانية -
وكان قد احتاط بها مئات من الناس أيضا - يحمل الأمر بتعيين محمود شوكت
باشا صدرًا أعظم.
(في السراي)
لا يعلم الناس ما الذي جرى في السراي إلا أنهم يعلمون أن أنور بك دخل
وخرج بالأمر موقعًا عليه، وقد اختلفوا كثيرًا في الرواية، فلندع للتاريخ التمحيص.
وعاد أنور بك بأمر تعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم، فاستلم على
الفور طلعت بك نظارة الداخلية.
ووقف الخطباء يعددون مساوئ كامل باشا وخيانته ويقولون عنه: إنه
باع طرابلس الغرب والروملي [4] . أما الخطباء فبعض مشايخ الدين وأفراد من
مهاجري الروملي.
(شكل موظفي الدولة)
قبل أن خرج أنور بك من مكانه الذي كان فيه إلى الباب العالي أعطى
أمرًا إلى أحد أنفار البوليس من الاتحاديين إلى جعفر إلهامي بك مدير البوليس
العام بوجوب تسليم الإدارة إلى عزمي بك المدير السابق؛ فلما أخذ جعفر
إلهامي بك الأمر قبله ووضعه على رأسه، وسلم الإدارة إلى عزمي بك،
ووقف أمامه يسأله ما يريده، فأمر البوليس بأن يقبضوا عليه ويوقفوه ففعلوا.
(التوقيفات)
قبل أن يتلى الأمر بصدارة محمود شوكت باشا كانت التوقيفات قد بدأت
فقبض على أصحاب جريدة علمدار ومحرريها وعلى علي كمال بك المحرر
المعروف وإسماعيل بك مبعوث كوملجنه وعلى نور الدين بك مدير أقدام وغيرهم.
وفي الوقت الذي ذهب فيه أناس إلى الباب العالي وآخرون إلى نظارة
البوليس، ذهب فريق إلى مكان المحكمة العرفية، فأفهموا ضابطها أن الأمة في
غير حاجة إليهم وطردوهم من الدار التي كانوا فيها وأخذوا مفتاحها، فخرجوا
لا يبدون مقاومة ولا يفوهون بكلمة.
(الخط الهمايوني)
قلت لكم: إن أنور بك ذهب إلى السراي مساء يوم الخميس، ورجع
بالخط السلطاني القاضي بإسناد منصب الصدارة إلى محمود شوكت باشا
وإليكم تعريبه:
وزيري سمير المعالي محمود شوكت باشا:
بناء على استعفاء كامل باشا ولأهمية الموقع التي تستغني عن الإيضاح
رأينا توجيه مسند الصدارة إلى رجل مجرب الاقتدار؛ ولما كان اقتداركم
وكفاءتكم معلومين ومجربين لدينا؛ وجهنا إليكم منصب الصدارة مع رتبة
الوزارة والمشيرية السامية، ونحن متفكرون في انتخاب ذات لمسند المشيخة
الإسلامية، وقد صدرت لكم الإرادة بتشكيل الوزارة وعرضها علينا لتصديقها،
وفقكم الله للخير، آمين بحرمة سيد المرسلين.
15 صفر 331 و 10 كانون ثاني 328
…
...
…
محمد رشاد
(نشرة الداخلية)
وما كاد يستلم طلعت بك نظارة الداخلية بالوكالة حتى طير النشرة الآتية
إلى الولايات والملحقات، وإليكم تعريبها:
(لما كانت وزارة كامل باشا قد تجاوزت على حقوق الأمة فتركت
للأعداء ولاية أدرنة كلها، وجزر بحر سفيد، وجمعت في السراي السلطانية
مجلس مشورة من أعضاء مجلس شورى الدولة ورؤساء الموظفين دعته
المجلس الملي - ثار الشعب وأصبح في حال الغليان فقام بمظاهرة أمام الباب
العالي أدت إلى استعفاء الوزارة، فصدرت إليَّ الإدارة السنية بإدارة أمور
نظارة الداخلية بالوكالة إلى أن تعين الوزارة، وباشرت الأمر مستعينًا بقوته
تعالى، ولما كنا سندافع بكمال العزم عن حقوق السلطنة المقدسة، وبناء على
احتمال رجوع الحرب نوصيكم بتشويق الأهالي بمساعدة الحكومة ماديًّا
ومعنويًّا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الإمضاء
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... طلعت
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
(المنشورات الأخرى)
ولقد نشرت الجمعية منشورات أخرى وزعتها على أفراد الشعب يضيق
نطاق هذه الرسالة عن تعريبها؛ سأعود إليها في رسالة أخرى بإذن الله.
(العزل والنصب)
ما كادت الوزارة الجديدة تصل إلى مقام السلطة حتى أخذت في عزل بعض
القواد كمحافظ موقع الآستانة وغيره ومتصرف بك أوغلي واستخلافهم بغيرهم.
(الضباط)
حالة الضباط اليوم غير معلومة، في الآستانة ثلاثة أحزاب: حزب
محمود شوكت، وحزب ناظم باشا، وحزب الخلاصكاران الذي عمل الانقلاب
السابق، ويقولون: إن الخلاصكاريين وجماعة ناظم باشا اتفقوا على الاتحاديين،
فحال الجيش المعنوية الآن ضعيفة جدًّا، وانظر بمزيد الخوف والقلق إلى المستقبل.
(عدد القتلى)
يبلغ عدد القتلى المعروفين أربعة: هم ناظر باشا، ونافذ بك، وتوفيق
بك، ومصطفى نجيب بك، ويوجد عدد من القتلى والجرحى من أنفار الجند لم
تعلم أسماؤهم إلى الآن.
(جنازة ناظم باشا)
حمل رفات ناظم باشا إلى مستشفى كلخانه فبقيت فيها إلى يوم الجمعة
حيث خرجت جنازتها ودفنت في تربة السليمانية، وقد مشى في الجنازة بلوك
من الجند احترامًا لملحقي الدول العسكريين الذين خفروا الجنازة، ومشى
وراءها محمود شوكت وهادي باشا باكيًا يمسح دموعه وعزت باشا وأنور
بك.
(مصطفى نجيب بك)
خرجت جنازته من كلوب نور عثمانية الاتحادي ودفن بإرادة سنية في
الفاتح إلى جانب السلطان محمد الفاتح وجرى له احتفال عظيم جدًّا.
***
الوزارة الجديدة وصفات رجالها [5]
محمود شوكت باشا الصدر الأعظم وناظر الحربية، معروف
شيخ الإسلام محمد أسعد أفندي - كان أمينًا للفتوى، وهو من أعظم رهطهم.
الحاج عادل بك ناظر الداخلية - معروف.
بساريا أفندي ناظر النافعة - فلاخي من الأعيان كان رئيس تحرير
جون تورك، ومراقبًا على ما يكتب فيها من قبل الجمعية، وجون تورك
جريدة صهيونية. وقد ذهب كل الفلاخ من يد الدولة مع ولاية يانبا والروملي
وإنما بقي لنا منهم بحمد الله هذا الناظر.
رفعت بك ناظر المالية - منتظر قدوم جاويد بك يوم الإثنين؛ ليفرغ له
المنصب فهو وكيل مسخر.
شكري بك ناظر المعارف - فدائي للجمعية وهو المتهم بقتل أول قتيل قتل
بأمرها في سرس.
البرنس سعيد حليم باشا ناظر الخارجية - معروف [6] .
إبراهيم بك ناظر العدلية - والي الآستانة سابقًا.
نسيم مازلياح ناظر التجارة والزراعة - مبعوث أزمير الإسرائيلي
سابقًا، ومفوض الجمعية الصهيونية.
محمود جوروك صول ناظر البحرية - من أركانهم، يقال: إنه كان خلف
عبد الله باشا في قيادة الجيش.
أوسقان أفندي - كان منذ 5 سنوات كاتبًا في البالفخانة دار بيع السمك
من قِبل نظارة الديون العمومية، براتب 1400 قرش، ثم أرسل مفتشًا ماليًّا
إلى الروملي، وأصبح ناظر البوسته اليوم.
ففي الوزارة 3 وكلاء من قبل الجمعية الصهيونية: نسيم مازلياح، وجاويد
بك، وبساريا أفندي؛ أما العرب فلا يوجد لهم فيها ولا رجل واحد. وهذا
معقول مفهوم؛ لأنه لا يوجد عرب في البلاد العثمانية.
في سوريا عين علي ضيف بك واليًا لحلب وعارف بك المارديني واليًا
لسوريا، وستعلن الأحكام العرفية في كل البلاد السورية؛ وسيقال عند سفرهما:
إنهما مأموران بإجراء الإصلاح كي لا يلقيا مقاومة عند وصولهما وسيسافران يوم
الجمعة القادم في الفرنسوي إلى بيروت.
(رأي المنار في هذه الكارثة)
يرى القراء أن رواية رسالتنا وروايتي المؤيد والأهرام يؤيد بعضها
بعضًا.
وكتب إلى المقطم من لندن ومن الآستانة ما يؤيد ذلك كما أيدته الجرائد
الأوربية في جملته، ولا خلاف إلا في بعض التفصيلات الجزئية كالخلاف في
قاتل ناظم باشا، وسمعنا من بعض من غادروا الآستانة بعد الانقلاب أن الذي
قتل ناظم باشا هو أنور نفسه، وهو لم ينكث عهد العرب في درنه ويجيء
الآستانة إلا لأجل هذه المكيدة، وكنا سمعنا من أهل الخبرة بدخائل السياسة أن
الاتحاديين لا يرون لهم خصمًا قويًّا يعارضهم في جعل الضباط آلة سياسية
ثوروية بأيديهم إلا ناظم باشا وصادق بك (أمير الألاي الذي قام بالانقلاب
الأول) وأن قتل هذين الرجلين مقرر عندهم.
وقد حاولوا قتل صادق بك عقب هذه الثورة فتوارى، وكانوا يريدون قتل
جميع خصومهم المشهورين؛ فلما علم سفراء الدول بعزمهم هددوا وزارتهم
هذه بأنهم ينزلون جيشًا أجنبيًّا يتولى حفظ الأمن في العاصمة؛ فكفوا عما
كانوا شرعوا فيه.
وزارة كامل باشا:
أما كامل باشا وهو الرجل السياسي المحنك المنفرد بخبرته وقدرته
ونزاهته وشجاعته فكان من رأيه أولاً عدم الحرب، وكان رأي الاتحاديين
وجوب الحرب؛ ثم لما وقع الخذلان والانكسار في الجيش، واستقالت وزارة
أحمد مختار باشا قَبِلَ الوزارة مروءة منه في ذلك الوقت الحرج، وأي حرج
وخطر أكبر من انكسار الجيش ووصول العدو إلى ضواحي العاصمة في وقت
فرغت فيه الخزينة من المال وأعرضت عنها جميع الدول، بل صارت تتحدث
بقسمة سائر بلادها، وهل كان يمكن إنقاذ الدولة من السقوط في الهاوية في
هذه الحال إلا اقتراح الهدنة لأجل الصلح، واستمالة الدول لكف عدوانها
والتماس مساعدتها المالية والأدبية بقدر الإمكان، كلا إن هذا هو أقصى ما
كان يمكن أن يناله الحاذق الماهر في السياسة، وهو ما عني بالوصول إليه
كامل باشا، على أنه لم يقصر في أثناء الهدنة فيما يجب من الاستعداد الحربي
فهو قد فوَّض ذلك إلى ناظم باشا الذي هو أعلم قواد الدولة بالفنون العسكرية
وأقدرهم على العمل، نعم إن هذه الوزارة قد قصرت تقصيرًا داخليًّا صدق
عليها قول خصومها: إنها ضعيفة، وكذب قولهم: إنها منتقمة، وهو التقصير
في تربية زعماء الثورات والفتن والقتلة، وقد لقيت جزاءها على ذلك، والظالم
سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه.
لما بيَّن البلقانيون مطالبهم، وكان منها أدرنة وجزائر البحر الأبيض
قاوم كامل باشا في ذلك، وكبَّر أمر أدرنة وعظَّمه حتى جعلها كأنها حياة
الدولة الصورية والمعنوية وسياج المملكة كلها؛ لعلها تسلم للدولة. فلما قدمت
له الدول الكبرى ذلك الإنذار بوجوب جعلها للبلغار لم يقبل أن يستقل بذلك دون
استشارة أهل الحل والعقد في العاصمة فجمع الجمعية الملية في حضرة
السلطان، فكانت مؤلفة من أفراد الأسرة المالكة ووزراء الدولة الحاليين
والسابقين وأعضاء مجلس الأعيان وكبار العلماء وأمراء العسكرية، وهذه هي
الاستشارة الشرعية التي يوجبها الشرع الإسلامي، ويهزأ بها الاتحاديون
ويعدونها من الجرائم.
ولما قررت هذه الجمعية في القصر السلطاني ترجيح الصلح وتفويض
الأمر فيه إلى الوزارة، ولم تبالِ بالإصرار على أدرنة في سبيل مغاضبة
الدول الكبرى في هذه الأزمة السياسية والعسرة المالية، اجتمعت وزارة كامل
باشا لوضع جواب للدول تشترط فيه شروطًا تتعلق بأمن الدولة على باقي
بلادها ومساعدة الدول الملية والأدبية لها لتلم شعثها. وهذا كل ما يدخل في
الإمكان، ولكن عاجلها الاتحاديون بالثورة لإسقاطها بشبهة واهية كما ظهر
ذلك للعيان.
(مخادعة الاتحاديين للأمة)
لا يزال الاتحاديون وكتابهم الأجراء والمنافقون يوهمون الأمة العثمانية
بل الإسلامية أن الاتحاديين لم يقوموا بهذه الثورة إلا لأجل إعادة الحرب؛ لإعادة
شرف الجيش وإظهار قوته واستعادة أدرنة، سياج الدولة والحافظة لها من
الزوال.
كذب المنافقون؛ فإن سادتهم زعماء جمعية الأحمرين ومدبري الثورات
والفتن قد صرحوا في أوربة بأنهم يريدون السلم لا الحرب، وصرح محمود
شوكت باشا بمثل ذلك رسميًّا، ولم يستطع أن يبرر الثورة التي جاءت
بوزارته إلا بطلب شِق من مدينة أدرنة لدولته وإعطاء الشق الآخر للبلغار،
وهو خير الشقين عمرانًا، فهل هذا هو الذي يعود به شرف الجيش ومجده
وتحفظ به المملكة من الزوال؟
إن وجود أدرنة بحصونها التي عني بها السلطان عبد الحميد وزادها ناظم
باشا تحصينًا، لم يدفع جيش البلغار عن الوصول إلى ضواحي الآستانة، فهل يحفظ
لنا نصفها الآهل بالقبور ولايات الأناضول والعراق وسورية وجزيرة العرب بعد
أن ذهبت ولايات أوربة كلها من أيدينا، بجهل المفتاتين على الدولة وخيانتهم
وفسادهم؟
(مقصد الاتحاديين من الثورة)
قد عرف الخاص والعام أن الاتحاديين قد دبروا ثورتهم لأجل أن
يستعيدوا السلطة لأنفسهم، فكان من دسائسهم التحريض على الحرب قبل
وقوعها، والدولة غير مستعدة لها، ليجدوا من ذلك منفذًا لاستعادة السلطة،
ثم إن بعض زعمائهم كطلعت بك وجاويد بك نظموا أنفسهم في سلك
المتطوعين؛ ليبثوا دسائسهم في الجيش ويخذلوه وقد فعلوا، ثم لما عقدت
الهدنة صاروا يظهرون المعارضة في الصلح ويهيجوا الناس لطلب ذلك، فلما
صار الأمر إليهم صرحوا بأنهم يريدون الصلح والسلم دون القتال، فما هو
غرضهم إذًا؟ إن اعتقادنا الذي ما كاشفنا به عثمانيًّا عارفًا إلا ووافقنا فيه هو
أنهم لم يفعلوا فعلتهم ويكيدوا مكيدتهم إلا لأجل الذهب، وكنت منذ شهور
أصرح بتوقع ذلك، وأقول: إنهم إذا عادوا يبيعون بلادنا، ويسلبوننا هذه البقية
التي في أيدينا بتدبير اليهود الصهيونيين الذين يدبرون جمعيتهم كما يريدون،
وكيف ذلك؟
طرق استنزاف المال من الدولة لا تزال كثيرة، فمنها الإعانات
والضرائب الحربية والملية سواء سميت اختيارية أو إجبارية، ومنها
القرض الداخلي وهو من الضرائب، ولكن تختلف الأسماء، ومنها القراطيس
المالية يسلبون بها الذهب والفضة من البلاد، فلا يبقى في أيدي الناس إلا
أوراق لا يمكن أن ينال أحد رغيفًا واحدًا بورقة منها، وإن كان ثمنها مائة
ليرة، ومنها ذخائر السلاطين وجواريهم، وقد بلغنا أنهم مدوا أيديهم إليها
عندما هاجمت إيطالية الدردنيل فوضعوها في صناديق لأجل تهريبها:
وكان ما كان مما لست أذكره
…
فظن خيًرا ولا تسأل عن الخبر
ومنها بيع مزارع السلطان عبد الحميد لليهود الصهيونيين، ومنها
الامتيازات الزراعية والصناعية والتجارية، وما فيها من السمسرة وغير
السمسرة.
ولم تكد الوزارة الجديدة تتبوأ مقعدها من الباب العالي حتى أعطت شركة
ألمانية امتيازًا بخط ترام واسع من الآستانة إلى البوسفور.
ومما جاء مصدقا لسوء ظننا في الجمعية أنها جعلت في وزارتها الجديدة
ثلاثة وزراء من حزب اليهود الصهيونيين، وجعلت في أيديهم نظارة النافعة
ونظارة الزراعة والتجارة أي ينابيع الثروة في البلاد، وسيكون هذا مبدأ
عداوة بين اليهود والعرب، ربما أدى إلى سفك الدماء وتخريب كل ما يملك
اليهود بهذه الوسائل الاتحادية غير الشرعية.
فالواجب على الأمة أن تتفكر وتتدبر في الهاوية التي أمامها، وأن تحافظ
على هذا الذماء القليل الذي بقي لها من ثروتها، وأن تعلم أن النقدين الذهب
والفضة إن ذهبا من يدها فإنها ستقع في مجاعة عامة، تفضي إلى ثورة طامة،
تهلك الحرث والنسل، فلا تخدعنها وعود المحتالين، ولا زخرف كتابها
المنافقين، التي يموهونها باسم الدولة والدين، وليعلم أهل كل ولاية أنهم على
خطر احتلال الأجانب لبلادهم، وأن أدرنة إن بقيت للاتحاديين - وهي وطن
زعيمهم الثوري طلعت - فإنها لا تغني في الدفاع عن بلادنا شيئًا، وإذا أصبحت
البلاد خاوية من المال، فلا تقدر على الدفاع بالرجال، بل تقع في خزي ونكال
وسوء مآل، لا ينفع معهما احتيال، والعياذ بالله.
_________
(1)
المنار: قدمتها فإذا هي تطلب قسمة مدينة أدرنة بينها وبين البلغار.
(2)
أخبار الولايات لم تصح.
(3)
أثبتت هذه الرواية أن ناظم باشا قتل بعد قتل مصطفى نجيب الذي أراد الاتحاديون أن ينسبوا إليه قتله ليبرئوا أنور بك من اتهامه بمباشرته، على أنه يسهل عليهم إصدار أمر من السلطان بالعفو عن هذه الجنايات وإن كان لا يجوز شرعًا.
(4)
أما كامل باشا فيجيب الجمعية بقول المثل: (رمتني بدائها وانسلت) .
(5)
ذكر في الأصل أسماء الوزراء ثم أوصافهم فاختصرناها ببعض تصرف.
(6)
هو أمين صندوق الجمعية، وقد قبل هذه النظارة بعد أن أباها عثمان نظامي باشا، وحقي باشا.