المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدولة العثمانيةتعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيهاونظرة في حالها ومستقبلها - مجلة المنار - جـ ١٦

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (16)

- ‌المحرم - 1331ه

- ‌فاتحة السنة السادسة عشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الجهاد أو القتال في الإسلام

- ‌فتاوى المنار

- ‌عبر الحرب البلقانيةوخطر المسألة الشرقية [*](1)

- ‌أحوال مسلمي الصين

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌أبو سعيد العربي الهندي

- ‌صفر - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدولة العثمانيةتعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيهاونظرة في حالها ومستقبلها

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الانقلاب الخطروجمعية الأحمرين الدم والذهب

- ‌ربيع أول - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌عبر الحرب البلقانيةوخطر المسألة الشرقية(5)

- ‌نظريتي في قصة صلب المسيحوقيامته من الأموات(2)

- ‌خطبة لرأس هذه السنة الجديدةسنة 1331 هجرية [

- ‌الفهم والتفاهم

- ‌بيان حزب اللامركزية الإدارية العثماني [*]

- ‌حديث كامل باشامع مؤسس المؤيد

- ‌اللامركزية الإداريةحياة البلاد العثمانية

- ‌ربيع الآخر - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌إذن سلطانيعن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي

- ‌لائحة الإصلاح لولاية بيروت

- ‌كتاب سياسيللعبرة والتاريخ

- ‌انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية

- ‌المسألة العربية عند الاتحاديين

- ‌الصلح بعد سوء العاقبة

- ‌مستقبل الدولة العثمانية

- ‌جمادى الأولى - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌محاورة بين عالم سياسي وتاجر ذكيفي المركزية واللامركزية

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(2)

- ‌دعاة النصرانيةفي البحرين وبلاد العرب

- ‌جمعية خدام الكعبة [*]

- ‌كتاب متصرف عسيروقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي [*](يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح)

- ‌الكتاب الذي أرسل إلى السيد الإدريسيمن مأمور مفرزة (ميدي)

- ‌المؤتمر العربي بباريسوحزب اللامركزية بمصر

- ‌أخبار مختصرة مفيدة

- ‌جمادى الآخر - 1331ه

- ‌إشكالان في حديث وآيتين

- ‌ما الحكمة في الذبح

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(3)

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌قانون جماعة خدام الكعبة

- ‌السيد الإدريسيوالحكومة العثمانية

- ‌تفريط الاتحاديين بحقوق الدولةفي خليج فارس والعراق والطرف الشرقي من جزيرة العرب

- ‌الأخبار والآراء

- ‌رجب - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(4)

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌نظرة في الحرمين الشريفينومشروع جماعة خدام الكعبة

- ‌احتفال لتكريمأحمد فتحي باشا زغلول

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌قتل محمود شوكت باشا

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌فرنسا الإسلامية

- ‌المجلة المصرية الفرنسيةورأيها في المنار

- ‌الاتفاق الإنكليزي التركيعلى خليج فارس وشط العرب

- ‌مذهب الإباضيةفي صلاة المسافر والاستفتاح والتأمين

- ‌إحراق الكتب الضارة والفرق بينها

- ‌الإصلاح والاتفاقبين الاتحاديين والعرب

- ‌أهم الأنباء والحوادث

- ‌رمضان - 1331ه

- ‌أسئلة من البحرين

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة

- ‌نموذجمن إنشاء طلبة السَّنة التمهيديةلمدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌قرارات المؤتمر السوري العربي

- ‌شوال - 1331ه

- ‌وجود الله ووحدانيتهوالقضاء والقدر

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة

- ‌العرب والعربيةبهما صلاح الأمة الإسلامية

- ‌نزوح العرب عن أسبانيا

- ‌تركيا في بلاد العرب

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌حركة الأمة الهندية الشرقيةوالحكومة الهولندية

- ‌الإصلاح اللامركزي في البلاد العربيةواتفاق الترك مع العرب

- ‌ذو القعدة - 1331ه

- ‌صرف الزكاةللإعانة على تعليم القرآن والكتابةوغيرهما من العمل النافع

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌بيان للأمة العربية من حزب اللامركزية [*]

- ‌الجنسية واللغة

- ‌صحيفةالتيمس الأفريقية ومجلة الشرق

- ‌مصاب مصر والصحافة العربية الإسلاميةبالشيخ علي يوسف رحمه الله تعالى

- ‌الأزهر ودعاة النصرانية

- ‌بيان حزب اللامركزية والإصلاح في الولايات

- ‌عناية نظارة المعارف المصرية باللغة العربية

- ‌ذو الحجة - 1331ه

- ‌أنا عربي وليس العرب مني

- ‌تحويل مصلحة الأوقاف العمومية بمصر إلى نظارة

- ‌الإصلاح في نظارة المعارففي عهد أحمد حشمت باشا

- ‌الإسلام وحرية العقيدةوكتاب الدعوة الإسلامية

- ‌المرأة قبل الإسلام وبعده

- ‌سقوط مسقط [*]

- ‌الشيخ علي يوسف(2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة السادسة عشرة

الفصل: ‌الدولة العثمانيةتعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيهاونظرة في حالها ومستقبلها

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدولة العثمانية

تعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيها

ونظرة في حالها ومستقبلها

لا يظهر الاهتمام بأمر الدولة العثمانية في قطر من الأقطار الإسلامية

كما يظهر في الهند ومصر؛ لما امتازا به في الحرية وانتشار العلم، وإننا نرى

في هذا الأيام في مطبوعات الهند ما لا نراه في المطبوعات العربية ولا

التركية من اللهج بالخلافة، والخوف على دولة الخلافة، والتألم من الحرب

البلقانية، وتمني العود إليها بعد الهدنة رجاء النصر للدولة العثمانية.

ومن موجبات الأسف أن هؤلاء المسلمين لا يعرفون حقيقة حال الدولة

ولا حقيقة مصلحتها ومصلحة المسلمين المرتبطة بها، ويترتب على هذا أنهم

لا يعرفون كيف ينفعونها ولا كيف يدفعون الضرر عنها، بل كانوا ولا يزالون

يظنون أن الانتصار والتحزب لكل من يتولى أمر هذه الدولة في الآستانة هو

الذي يقويها ويحفظ استقلالها، ويحفظ بحفظه الإسلام ويقام شرعه ويحمي

الحرمان الشريفان.

على هذه القاعدة كانوا يتشيعون للسلطان عبد الحميد المخرب لبنيان

الدولة من الداخل، ثم صاروا ينتصرون لمن خلفوه من المخربين من الداخل

والخارج، وكانت جرائدهم مظهر هذا الانتصار، وكان من تأثيرها إضعاف

سعي طلاب الإصلاح من العثمانيين في مصر مدة زمن السلطان عبد الحميد،

وقد استطاع الاتحاديون أعداء عبد الحميد أن يستخدموا كثيرًا ممن كان

يستخدمهم الحزب الوطني في مصر، ولكن كان من شؤمهم أن سقط هذا

الحزب ولم يبق له من الأثر إلا سفاهة بعض الشبان الحمقى تظهر في بعض

الجرائد التي لا يأبه لها أحد يؤبه له في مصر.

ولم يستطع المصريون والهنديون أن ينفعوا الآستانة بشيء إلا ما جمعوه

من المال للإعانة على الحرب وبعثات الهلال الأحمر، ولم يكن للحزب

الوطني تأثير في جمع مئات الألوف من الدنانير التي جمعت من مصر، ولكن

كان للمؤيد ولمؤسس المؤيد يد بيضاء وتأثير عظيم في ذلك وهما اللذان

يتهمهما الحزب الوطني بعداوة الدولة العثمانية.

ثم إن مسلمي الهند ومصر صاروا يبحثون في سياسة الدولة الداخلية

والحربية وإنني أعتقد أن جميع الهنديين وأكثر المصريين مخلصون في ذلك

تدفعهم الغيرة الدينية إلى هذا البحث، ولا يشذ إلا أفراد من المنتمين إلى

الحزب الوطني هنا فإنهم مستأجرون، ولا تنفع الكتابة في هذا الموضوع وإن

كانت عن إخلاص إلا إذا كانت عن معرفة صحيحة بحقيقة الحال ورأي

صحيح فيما تقتضيه.

***

(نشرة صحيفة بريس من حيدر آباد)

جاءتنا نسخ من هذه النشرة التي طبعت باللغة العربية لإيقاف العرب في

مصر والشام والآستانة على رغائب إخوانهم المسلمين في الهند في الأزمة

الحاضرة، وعهد إليهم الكاتب أن ينقلوها إلى جرائدهم العربية ويترجموها

بالتركية، وقد وزعنا النسخ التي وصلت إلينا ورأينا من حق الكاتب الغيور أن

نشير إلى ما كتبه في المنار أيضًا وإن كنا لا نوافقه على كل ما ارتآه.

في النشرة مسائل مهمة نلخصها فيما يأتي:

(1)

وصف الكاتب شدة تعلق مسلمي الهند بالدولة العثمانية، وأن الدولة

البريطانية تعرف هذا جيدًا فاستفادت بالخلافة الإسلامية ما استفادت، وذكر

من ذلك أن السلطان تيبواك بطل الإسلام في الهند كان في القرن الثامن عشر

أرسل سفارة سياسية إلى سدة الخلافة ولكن رجال الدولة العلية أصدروا

الفرمان الشاهاني بوجوب مودته للدولة البريطانية. وأن السلطان عبد الحميد

أصدر فرمانا في عهد الثورة الهندية الكبرى سنة 1857 بوجوب طاعة

مسلمي الهند للدولة البريطانية كما طلب منه الإنكليز، وهكذا أصدر الفرمان

للأمير شير علي خان أمير الأفغان بوجوب الاعتصام بحبل مودة الإنكليز.

ونحن نقول للكاتب: صدقت، ونزيده أن الدولة لجهلها بقيمة منصب

الخلافة لم تعمل عملاً ما تستفيد به منه، ولكن الإنكليز هم الذين أحيوا اسم

الخلافة واستخدموه حتى في عهد سلطة الاتحاد والترقي، فقد حملت الوزارة

الاتحادية السلطان محمد رشاد في العام الماضي على إرسال أحد أنجاله بكتاب

خاص من خط يده إلى توديع ملك الإنكليز في مياه ثغر بورسعيد عند سفره

إلى الهند، لأجل الاحتفال بإلباسه تاج الإمبراطورية الهندية، وإعلان مودته

له ولدولته.

ولكن ما يدرينا الآن أن إظهار المسلمين لشدة تعلقهم بالدولة العثمانية

صار يخيف الإنكليز من عاقبته، فحملهم هذا على الرضا بإزالة سلطانها، وهل

ينفع الدولة حينئذ شدة حزن الهنود على ما أصابها، وترك طلبة العلم هنالك أكل

اللحم لتوفير المال لها؟

(2)

أشار الكاتب إلى أقوال ظن أن أهل هذه البلاد اطلعوا عليها، كبيان

جريدة كامريد الدهلوية لحال المسلمين الآن، وقول الخواجة مظهر الحق

(بيرسترات لا) في محاضر ضجت بها أرجاء الهند: إن هذه الحرب أريد بها

إخراج الترك والمسلمين من أوربة، أو حرب بين الإسلام والنصرانية. وما

قاله السير جيمس مستن لفتننت غورنر في خطابه لطلبة كلية عليكرة، ونحن

نخبره أن أهل البلاد العربية لم يطلعوا على ما ذكره ولكني أظن أنه لم يُقل

عندهم شيء إلا وقيل عندنا مثله أو أشد.

(3)

قال: بل الخطر ظهر جليًّا لآسية الصغرى والشام والعراق، بل

العرب نفسها مركز قلوب المسلمين؛ فإن نفوذ أوربة في هذه البلاد أنتم أعلم به

منا، ولا شك أنكم تعرفون كيف يزداد نفوذ ألمانية كل يوم في العراق

والأناضول. وذكر طمع هذه الدولة هناك وطمع فرنسة في سورية، ونسي أو

تناسى أن طمع إنكلترة في بلاد العرب أشد وأوسع، وأن دولة أوربة أنشأت

تبحث في تقسيم أملاك الدولة في القرنين الأخيرين بتدخل أوربة وأنه لا فائدة في

إبقاء سيادة الخلافة اسمًا بلا مسمى.

ونقول إن خواصنا أعلم من خواصكم بكل ما قال - كما قال - ويرون

أن الذنب على الدولة لا على دول أوربة، فإن أوربة قد وصلت إلى درجة عالية

في فتح الممالك وهي ما تسميه الفتح السلمي، ومن المحال أن تبقى الدولة العثمانية

بجانبها وهي على جهلها وخللها وكسلها وعدم اهتمام رجالها بشيء غير سلب مال

الأمة لأجل التمتع به، ولو جارت الدولة تلك الدول في العلم والعمل والعدل

في أمتها والنظام والقوة، لتنافسْنَ في التقرب إليها وتسابقن محالفتها للانتفاع من

قوتها، أوتركْنَها وشأنها خوفاً من شدة بأسها، فهي قد تركت كل عمل نافع

واتكلت على تنازع الدول عليها، توهمًا أنهن لن يتفقن عليها، فخاب ظنها

وبطل وهمها.

(4)

نتيجة ما تقدم والمقصد من النشرة أن إخواننا مسلمي الهند يرون

أنه يجب أن لا ترضى الدولة باستقلال ألبانية بلاد الأرنؤوط، ولا بالتنازل عن

شيء من مكدونية لأن ذلك يسقط مقام الخلافة وهيبتها ويغري الدول بالجري

على هذه الخطة في ولايات آسية، فيجب أن لا تقبل الدولة الصلح بحال من

الأحوال، وأن لا تبالي سيلان أضعاف ما سال من أنهار الدماء، فالخطر على

الدولة مترتب على الصلح، وإذًا يصير الحرمان الشريفان على خطر، وقد بالغ

الكاتب في التحريض على مداومة القتال، وأتى بما أتى به من العبر والأمثال،

فعلم أنه هو وجمهور إخواننا المسلمين هناك يعتقدون أن بالعود إلى الحرب

تحفظ عظمة الخلافة ويصان الحرمان وتعلو كلمة التوحيد.

ونحن هنا نرى جمهور المصريين موافقين لإخوانهم الهنديين في رأيهم

وشعورهم، ومن يعلم هذا منهم يزداد استمساكًا برأيه واطمئنانًا به. وما هذا

منهم بعجيب فإنهم لا يعرفون حقيقة حال الدولة، وإنما العجيب أن يضرب

بعض الكتاب العثمانيين بهذا الدف ويردد نغمات الحرب، ويقول: إما صلح

شريف تحفظ به أدرنة أو نصف أدرنة وإما موت شريف، وذلك أن الدولة

يئست من البلقان كله إلا أدرنة التي ثبتت على الحصار.

إني ليعز علي أن تؤخذ مدينة أدرنة غنيمة باردة بترك الدولة لها صلحًا،

كما عز علي أضعاف ذلك تركها مملكة طرابلس الغرب وبرقة صلحًا،

ولكنني لا أفهم معنى معقولاً لتعريض الدولة للموت في الحرب، ولا كيف

يكون هذا الموت شريفًا في سبيل المحافظة على مدينة أدرنة كلها كما يقترح

بعض الكتاب، أو على نصفها كما تقترح وزارة محمود شوكت باشا الاتحادية.

إن موت الدولة ليس كموت رجل واحد يهان فيبارز من يهينه، وإن كان

أقوى منه لينتقم منه، أو يموت فلا يرى نفسه مهينًا بين الناس، فإن الدولة

شخص معنوي وموتها عبارة عن خروج الحكم فيها من أيدي أهلها إلى أيدي

الأجانب، وأهلها الذين يعزون بحياتها ويشرفون، ويذلون بموتها ويهانون،

لا يموتون بذهاب الحكم منها ولا ينقرضون، فهم إذًا يطلبون الوقوع فيما

يحذرون.

ألا إن من كتم داءه قتله، ألا إننا قد سئمنا الغرور والتغرير، ألا إننا قد

أصبحنا على شفا جرف، وسقوطنا في هاوية العدم منتظر في كل يوم، فلم

يبق عندنا شيء نخاف عليه من إظهار حقيقة حالنا لمن لا يعرفها منا. ألا إن

الحقيقة المجردة من لباس الزور والغرور هي أن هذه الدولة قد أمست بجهلها

وسرفها وغرورها وفقرها، ودهاء أوربة وعلومها وثروتها لا تستطيع أن

تعيش مستقلة عزيزة في عاصمتها بقوانينها وأنظمتها وتقاليدها، وبرجالها

الذين ربتهم أوربة لها، لأنها تربية مذبذبة لا هي إسلامية ولا أوربية، وإنما

تعيش في تلك العاصمة كما تريد أوربة، فلا هي قادرة أن تحفظ عاصمتها من

أوربة ولا الحرمين الشريفين ولا غيرهما من البلاد، ولا يمنع أوربة أن

تتصرف فيها، وهذه حالها، كما تريد إلا تنازع الدول الكبرى واختلافهن،

فمتى اتفقن على شيء أردنه كان الأمر مفعولاً.

ألا إنني قد فطنت لهذا الأمر من قبل وقتلته بحثًا وتفكيرًا، ثم اقترحت

على الدولة من بضع عشرة سنة أن تجعل الآستانة مركزًا حربيًّا وتجعل

عاصمتها دمشق الشام، فإن لم يقبل متعصبو الترك فقونية، وأن تتركهذا

التفرنج كله وتؤسس لها قوة آسيوية حربية أهلية من العرب والترك فتجعل

جميع أفراد الأمة مستعدين للحرب والكفاح للدفاع عن بلادهم وقت الحاجة.

ولكن افتتانها بعظمة اسم القسطنطينية وموقع القسطنطينية وتسمية نفسها دولة

أوربية، وما يتبع ذلك من لذات هذه المدنية، قد حال دون التفكر في هذا

الاقتراح وتنفيذه. وقد علمت في هذه الأيام أن بعض كبراء رجال الدولة اقترح

على السلطان عبد الحميد نقل العاصمة إلى الأناضول قبل الانقلاب الأخير بعدة

سنين وأن أحد كبار ضباط ألمانية الذين تولوا تعليم الجيش العثماني وتنظيمه قد

اقترح مثل هذه الاقتراح في الزمن الأخير، وأخشى أن يصدق عليه المثل: بعد

خراب البصرة، وجميع من أعرف من أهل الرأي العثمانية سيما الترك يرون

أن استمرار الحرب خطر، وليس له فائدة تنتظر، وسيظهر الصواب لجميع

البشر.

***

(حال الدولة ومستقبلها)

فاجأنا هذه الأيام نبأ مفزع وهو أن أنور بك الضابط الاتحادي هجم على

الباب العالي مع فتية من رجال جمعيته الفدائيين في حال انعقاد مجلس الوزراء

وقتلوا ناظم باشا ناظر الحربية والقائد العام وبعض الحاشية وأكرهوا كامل

باشا على الاستقالة فذهب بها أنور إلى قصر السلطان وعاد يحمل فرمان

تعيين محمود شوكت باشا [1] صدرًا أعظم وناظرًا للحربية، فكيف حال

دولة هكذا تسقط وزارتها وهكذا تنصب؟.

سنشرح في آخر هذا الجزء أخبار هذا الانقلاب، ونقول هنا: إن الخطر

على الدولة قد اشتد، وسواء عادت الحرب أو لم تعد، فإن الأمر بيد الدول

ولن تستطيع الدولة أن تعمل بقوتها شيئا، ولكن تبذل دماء ألوف كثيرة

وملايين من النقد بغير عوض ولا فائدة فتزداد ضعفًا على ضعف، ويخشى أن

تستتبع فتنة أنور فتنة داخلية أكبر منها، واللعنة مسجلة من الله ورسوله على

موقظها، ثم ماذا؟

تمتص الآستانة في هذه الفرصة ما يمكن امتصاصه من وشل ثروة

الأمة العثمانية المسكينة، وما يمكن من أموال المسلمين المتمتعين بالثروة

والحرية وهم أهل مصر والهند، فلا يكون ذلك كله إلا كنقطة قليلة من الماء

تقع على خزفة أو آجرة سخنة. ثم لا مندوحة للدولة عن الركوع بين يدي

أوربة والتماس مساعدتها بالمال والحال لإدارة حركة الدولة الداخلية،

ويخشى أن تتوسل الدولة بذلك إلى جعل مالية الدولة وإدارتها تحت مراقبتها،

وذلك منتهى ما تبغيه أوربة من إزالة هذه الدولة بالفتح السلمي.

إن ظني وظن من أعرفهم من العثمانيين المخلصين في زعماء جمعية الاتحاد

والترقي سيئ جدًّا، فنحن لا نستبعد أن يعطوا الدول فوق ما تطلب من ذلك كبيع

الأراضي الأميرية والامتيازات وتقوية النفوذ وهو بيع البلاد الذي يسمونه الفتح

السلمي، فإذا واتاهم محمود شوكت باشا الذي نال الوزارة بمسدساتهم وخناجرهم

فهي القاضية، ويجب على جميع الولايات العثمانية بالفعل أو الاسم أن تقبل

بيع شيء من بلادها بأي اسم كان، فمن يبلغهم بيع شيء من بلادهم للأجانب فليعلنوا

استقلالهم وعدم اعترافهم بهذا البيع كيفما كانت صورته، ولا بالبائع مهما كانت

صفته، وليستعد كل قطر ليكون مثل طرابلس الغرب.

لا أريد تثبيط العثمانيين وسائر المسلمين عن مساعدة الدولة بالمال، فأنا قد

ساعدت بحسب استطاعتي وإنما أقول إن هذه الحرب إن عادت لا تطول، وينبغي

أن يعلم المساعدون أين يضعون أموالهم، فيحبسها أهل الأقطار على صلاح بلادهم،

ويخصها سائر المسلمين بحرم ربهم وحرم نبيهم، فإن ما يتسرب إلى الآستانة لا

يفيد الحرمين ولا غيرهما شيئا، وأن لا يأمنوا جمعية الاتحاد والترقي على شيء

من المال، وإلا ندموا بعد أيام أو شهور حيث لا ينفع الندم.

بذلت هذه النصيحة وأنا موطن نفسي على احتمال إيذاء أشد مما

آذتني به الحكومة الحميدية، وعلى احتمال تخطئة وذم ولعن من الجاهلين

والمنافقين، كما احتملت مثل ذلك قبل من أنصار عبد الحميد، ولكن إذا

كان حقنا في مقاومة عبد الحميد لم يظهر إلا بعد جهاد عدة سنين، فإن حقنا

في الأزمة الحاضرة سيظهر بعد أسابيع أو شهور، وقد كنا نبين سيئات

الجمعية ونسكت عن الحكومة، فإذا رأينا هذه الوزارة آلة بيد الجمعية كوزارة

حقي باشا فإننا لا مندوحة لنا عن الوقوف لها بالمرصاد، وقد انتهينا إلى وقت لا

يمكن السكوت معه والانتظار.

إن الدولة على خطر لا يمكن لعاصمة البيزنطيين الخروج منه ولا

يرجى للإسلام خير منها، فإذا كان محمود شوكت باشا رجلاً فليكسر

جميع تلك القيود والمقاطر، ويقطع جميع هاتيك الأغلال والسلاسل، وليخرج

الدولة من ذلك السجن الذي يتحكم بها فيه الأوربيون واليهود الصهيونيون

كما شاءوا وهو عنوان الإسلام والخلافة. ولينشئ في قلب آسية عاصمة جديدة لا

إسراف فيها ولا تبذير، ولا فخفخة فيها ولا غرور، ولا مكر يهودي،

ولا كيد اتحادي، ولا ضغط أوربي، وليقم الحكومة الجديدة على أساس

اللامركزية، ويجعلها شق الأبلمة بن الأمتين العربية والتركية، بحيث

يكونان أمة واحدة قوية، وينفذ ذلك بهمة تجمع بين العدل والاستبداد، بعد أن

ينظف الجيش مما طرأ عليه من الفساد، ويقتل القتلة الأوغاد. ولا يضيعن

الفرصة التي أضاع مثلها من قبل، وبذلك ينقذ نفسه والدولة من الخطر، وإلا

ندم حيث لا ينفعه الندم، وأسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة فرجًا ومخرجًا، وإننا

لا ندخر في خدمة من يعمل لإنقاذها وسعًا.

_________

(1)

محمود شوكت باشا، شركسي الأصل بغدادي المنشأ وليس فاروقيًّا ولا عربي

النسب كما شاع عقب الانقلاب ووقعنا يومئذ في الخطأ الذي وقع فيه غيرنا، وقد أخبرني أخوه الفاضل مراد بك بأصلهم وسبب وجودهم في العراق وكان رفيقًا لي في سفري من بغداد إلى حلب.

ص: 107

الكاتب: محمد توفيق صدقي

نظريتي في قصة صلب المسيح

وقيامته من الأموات [*]

ذهب علماء الإفرنج المحققون في تعليل منشأ هذه المسألة مذاهب شتى

لأنهم لا يعتقدون حصول هذه القيامة الموهومة. ولسنا في حاجة إلى نقل

آرائهم في مثل هذه المقالة، ومن شاء الاطلاع على شيء من ذلك فليقرأ مؤلفات

رينان وإدوارد كلود، ودائرة المعارف المتعلقة بالتوراة، وكتاب دين

الخوارق وغير ذلك. وإنما نريد الآن أن نقول كلمة في هذا الموضوع لنزيل

الغشاوة عن أعين هؤلاء الناس الملقبين بالمبشرين وهي نظريتي [1] في هذه

المسألة فنقول:

كان بين تلاميذ المسيح رجل يدعى يهوذا، وهو من قرية تسمى خريوت

في أرض يهوذا فلذا عرف بالأسخريوطي، وكان يشبه المسيح في خلقته شبهًا

تامًّا [2] ومن المعلوم أن المسيح كان يدعو الناس إلى دينه في الجليل ولكنه كان

يذهب إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح كما هي عادة اليهود فزارها في

السنة الأولى من بعثته وكان هو وأتباعه القليلون محتقرين فيها لأن اليهود

كانوا يحتقرون أهل الجليل وخصوصًا سكان الناصرة [3] فما كان أحد يبالي بهم

أو يلتفت إليهم، وفي السنة الثالثة من بعثته لما زارها في المرة الأخيرة من

حياته كان شأنه قد ارتفع عن ذي قبل وكثرت أتباعه فحقد عليه رؤساء اليهود

الذين استاءوا من أقواله وأعماله وتعاليمه فصمموا على الفتك به واتفقوا مع

يهوذا الإسخريوطي على أن يدل مبعوثيهم عليه ليقبضوا عليه فذهب يهوذا

معهم ودلهم عليه فإنهم ما كانوا يعرفونه (مرقس 14: 43 - 46) فأمسكوه

وكان ذلك ليلاً وساقوه إلى بيت رئيس الكهنة فتركه جميع التلاميذ وهربوا

(مر 14: 50) ولكن تبعه بطرس من بعيد ثم أنكر علاقته به وفر هو أيضًا

هاربًا، وأما دعوى صاحب الإنجيل الرابع أن يوحنا تبعه أيضًا (يو 18:

15 -

18) فالظاهر أنها مخترعة من واضعه لمدح يوحنا كما سيأتي بيانه

وإلا لذكرها الثلاثة الإنجيليون الآخرون.

ولما كان الصباح ساقوه إلى بيلاطس الذي كان يود إنقاذه منهم ولكن

الظاهر من الأناجيل أنه لم يفلح فحكم بصلبه فأخذه العسكر إلى السجن حتى

يستعدوا للصلب، ففر من السجن هاربًا إما بمعجزة أو بغير معجزة كما فر

بعض أتباعه بعده من السجون أيضًا (راجع أع 12: 6-10 و16: 25

و26) وربما ذهب إلى جبل الزيتون ليختفي (انظر مثلاً يو 8: 1 و59 و10:

39 و11: 53 - 57) وهناك توفاه الله أو رفعه إليه بجسمه أو بروحه فقط

فخرج الحراس للبحث عنه، وكان يهوذا مسلمه قد صمم على الانتحار

وخارجًا ليشنق نفسه في بعض الجبال (متى 27: 3-10) ندمًا وأسفًا على

ما فعل فلقيه الحراس، ونظرًا لما بينه وبين المسيح من الشبه التام فرحوا

وظنوه هو وساقوه إلى السجن [4][5] متكتمين خبر هروبه خوفًا من العقاب

ولمَّا وجد يهوذا أن المقاومة لا تجدي نفعًا ولِما طرأ عليه من التهيج العصبي

والاضطراب النفساني الشديد الذي يصيب عادة المنتحرين قبل

الشروع في الانتحار، ولاعتقاده أنه بقتل نفسه يكفر عما ارتكب من الإثم

العظيم ولعلمه أن قتله بيد غيره أهون عليه من قتل نفسه بيده، لهذه الأسباب

كلها استسلم للموت استسلامًا ولم يفُه ببنت شفة رغبةً منه في تكفير ذنبه

وإراحة ضميره بتحمله العذاب الذي كان سلم سيده لأجله [6] ولما جاءت ساعة

الصلب أخرجوه وساروا به وهو صامت ساكت راضٍ بقضاء الله وقدره

ونظرًا لما أصابه من التعب الشديد والسهر في ليلة تسليمه للمسيح وحزنه

واضطرابه لم يقو على حمله صليبه أو أنه رفض ذلك فحملوه لشخص آخر

يسمى سمعان القيرواني وذهبوا إلى مكان يسمى الجمجمة خارج أورشليم

وهناك صلبوه مع مجرمين آخرين فلم يكن هو وحده موضع تأمل الناس

وإمعانهم ولم يكن أحد من تلاميذ المسيح حاضرًا وقت الصلب إلا بعض نساء

كن واقفات من بعيد ينظرن الصلب مت 27: 55 ولا يخفى أن قلب النساء

لا يمكِّنهن من الإمعان والتحديق إلى المصلوب في مثل هذا الموقف وكذلك

بُعد موقفهن عنه، فلذا اعتقدن أنه هو المسيح، وأما دعوى الإنجيل الرابع

19: 26 أن مريم أم عيسى ويوحنا كانا واقفين عند الصليب فالظاهر أنها

مخترعة كالدعوى السابقة لمدح يوحنا أيضًا إذ يبعد كل البعد كما قال رينان أن

تذكر الأناجيل الثلاثة الأول أسماء نساء أخريات وتترك ذكر مريم أمه

وتلميذه المحبوب يوحنا، كما يسمي نفسه بذلك في أغلب المواضع، إذا صح أنه

هو مؤلف الإنجيل الرابع.انظر إصحاح 13: 3 و21: 20 وغير ذلك كثير.

هذا وقلة معرفة الواقفين للمسيح لأنه كان من مدينة غير مدينتهم (راجع

يوحنا ص7) وشدة شبه يهوذا به وعدم طروء أي شيء في ذلك الوقت

يشككهم فيه - كل ذلك جعلهم يوقنون أن المصلوب هو المسيح، حتى إذا شاهد

القريبون منه تفاوتًا قليلاً في خلقته حملوه على تغير السحنة الذي يحدث في مثل

هذه الحالة ومن مثل هذا العذاب. وكم في علم الطب الشرعي من حوادث ثابتة

اشتبه فيها بعض الناس بغيرهم حتى كان منهم من عاشر امرأة غيره الغائب

بدعوى أنه هو وجازت الحيلة على الزوجة والأهل والأقارب والمعارف

وغيرهم ثم عرفت الحقيقة بعد ذلك، وأمثال هذه الحوادث مدونة في كتب هذا

العلم في باب تحقيق الشخصية: (Identification)

فليراجعها من شاء.

ومنهم من شابه غيره حتى في آثار الجروح والعلامات الأخرى واللهجة

في الكلام (راجع الفصل الأول من كتاب أصول الطب الشرعي لمؤلفيه جاي

وفرير الإنكليزيين) .

فلا عجب إذن إذا خفيت حقيقة المصلوب عن رؤساء الكهنة والعسكر

وغيرهم وخصوصًا لأنهم ما كانوا يعرفونه حق المعرفة ولذلك أخذوا يهوذا

ليدلهم عليه كما سبق فاشتبه عليهم الأمر كما بيَّنَّا وكان المصلوب هو يهوذا

نفسه الذي دلهم عليه فوقع كما كان دبره لسيده (انظر مز 6: 8-10 و7: 5

ومز37 وأمثال 11: 8 و21: 18) .

ولما كان المساء جاء رجل يسمى يوسف فأخذ بجسد المصلوب ووضعه

في قبر جديد وقريب ودحرج عليه حجرًا وكان هذا الرجل يؤمن بالمسيح ولكن

سرًّا (يو 19: 38) ومن ذلك يعلم أنه ما كان يعرف المسيح معرفة جيدة

تمكنه من اكتشاف الحقيقة وخصوصًا بعد الموت، فإن هيئة الميت تختلف قليلاً

عما كانت وقت الحياة لا سيما بعد عذاب الصلب، وروى الإنجيل الرابع وحده

أن رجلاً آخر يدعى نيقوديموس ساعد يوسف في الدفن أيضًا (19: 39)

وكان هذا الرجل عرف يسوع من قبل وقابله مرة واحدة في الليل (يو 3:

1-

13) فمعرفته به قليلة جدًّا وكانت ليلاً منذ ثلاث سنين تقريبًا أي في أوائل

نبوته، وفي كتب الطب الشرعي والمجلات الطبية عدة حوادث خدع فيها

الإخوان والأقارب بجثث موتى آخرين (راجع كتاب الطب الشرعي المذكور

صفحة 32 منه) فما بالك إذا لم يكن الشخصان الدافنان للمصلوب يعرفانه حق

المعرفة كما بينا.

لذلك اعتقد جمهور الناس وقتئذ أن المسيح صلب ومات ودفن فحزن

تلاميذه وأتباعه حزنًا شديدًا وفرحت اليهود وشمتوا بهم ولو أمكن التلاميذ

إحياءه من الموت لفعلوا ففكر منهم واحد أو اثنان في إزالة هذا الغم الذي حاق

بهم وما لحقهم من اليهود من الشماتة والاحتقار والذل فوجد أن أحسن طريقة

لإزالة كل ذلك ولإغاظة اليهود أن يسرق جثة المصلوب من القبر ويخفيها في

مكان آخر ليقال إنه قام من الأموات ولم تفلح اليهود في إعدامه إلا زمنًا قليلاً

وهكذا فعل وأخفى الجثة.

فلما مضى السبت الذي لا يحل فيه العمل لليهود جاءت مريم المجدلية إلى

القبر فجر يوم الأحد فلم تجد الجثة فدهشت وتعجبت وأسرعت إلى بطرس

(ويقول الإنجيل الرابع كما هي عادته: إلى يوحنا، أيضًا) وأخبرتهما أن الجسد

فُقد من القبر فذهبا معها ووجدا كلامها صحيحًا فقالا: لا بد أنه قام من الموت،

وهذا القول هو أقرب تفسير يقال من تلاميذ المسيح المحبين له المؤمنين به

وربما كانا هما المُخفين للجثة أو أحدهما (بطرس) ولذلك نجده في سفر

الأعمال وفي الرسائل يتكلم أكثر من يوحنا عن قيامة المسيح بل أكثر من

جميع التلاميذ الآخرين.

أما مريم المجدلية فمكثت تبكي لعدم وجود الجثة وعدم معرفتها الحقيقة

وكانت عصبية هستيرية، وبتعبيرهم: كان بها سبعة شياطين (مرقص 16-

9) فخيل لها أنها رأت المسيح ففرحت وأسرعت وأخبرت التلاميذ (يو 20:

18) أنها رأته وأما النساء الأخريات اللاتي ذهبن إلى القبر فلم يرينه كما يفهم

من أنجيل مرقص ولوقا، وغاية الأمر أنهن رأين القبر فارغًا وبعض الكفن

الأبيض باقيًا فخيل لبعضهن - وكلهن عصبيات - أن ملكًا كان واقفًا في القبر

وأمثال هذه التخيلات الخادعة كثيرة الحصول للناس وخصوصًا للنساء عند

القبور وفي وقت الظلام (يو 20: 1) وما حادثة قيام المتبولي من قبره عند

عامة أهل القاهرة ببعيدة. ويجوز أنهن رأين رجلين من أتباع المسيح ممن لا

يعرفنهم وكانا هما السارقين للجثة ففزعن منهما وغشاهن حتى ظنن أنهما

ملكان بثياب بيض (انظر لو24: 4) فكثرت أحاديث هؤلاء النسوة كل منهن

عمَّا رأته ومنها نشأت قصص الأناجيل في قيامة المسيح كما نشأت الحكايات

الكثيرة المتنوعة عن قيامة المتبولي في هذه الأيام في مصر [7] ولذلك اختلفت

قصة القيامة في الأناجيل اختلافًا عجيبًا يدل على أن كل كاتب أخذ ما كتب عما

حوله من الإشاعات والروايات المختلفة التي لم تكن وقتئذ مرتبةً ولا منظمةً.

ويظهر من هذه الأناجيل أن التلاميذ بعد ذلك صاروا محاطين بالوساوس

والأوهام من كل جانب حتى إنهم كانوا كلما لاقاهم شخص في الطريق واختلى

بهم أو أكل معهم ظنوه المسيح ولو لم يكن يشبهه في شيء ظنًّا منهم أن هيئته

تغيرت (مر16: 12 ولوقا 24: 16 ويو21: 4-7) فكانت حالهم أشبه

بحال العامة من سكان القاهرة الذين التفوا منذ زمن قريب حول رجل سائر في

الطريق في صبيحة إشاعة انتقال المتبولي من قبره يصيحون: سرك يا

متبولي، كما نقلناه هنا عن بعض جرائد العاصمة التي ذكرت تلك الحادثة في

ذلك الحين لاعتقاد الناس أنه هو المتبولي الذي قام من قبره وكانوا يعدون

بالمئات إن لم يبلغوا الألوف ولا يبعد أن بعض أولئك الناس الذين لاقاهم

التلاميذ كان بلغهم الإشاعات عن قيامة المسيح فكانوا يضحكون من التلاميذ

ويسخرون بهم ويأتون من الأعمال والحركات ما يوهم التلاميذ أن ظنهم فيهم

هو صحيح كما كان ذلك الرجل السابق ذكره يقول للناس لما رآهم التفوا حوله:

أنا المتبولي أنا المتبولي.

وروى الدكتور كاربنتر في كتابه (أصول الفسيولوجيا العقلية) ص 207 أن

السير والترسكوت (Walter Scott Sir) رأى في غرفته وهو يقرأ صديقه

اللورد بيرون (Byron Lord) بعد وفاته واقفًا أمام عينيه فلما ذهب إليه لم يجد

شيئًا سوى بعض ملابس وهي التي أحدثت هذا التخيل الكاذب (IIIusion) وفي

حريق قصر البلور (Crystal Palace) في سنة 1866 خيل لكثير من الناس

أن قردًا يريد الفرار من النار بتسلقه على قطع حديدية كانت في سقف هناك والناس

وقوف يشاهدون هذا المنظر متألمين، ثم اتضح أنه لم يكن ثم قرد مطلقًا وإنما هو

منظر كاذب كما حكاه الدكتور تيوك (Dr.Tuke) وذكر الدكتور هبرت

(Hibbert Dr.) في مقال أن جماعة كانوا في مركب فشاهدوا أمامهم طباخًا لهم

يمشي

وكان مات منذ بضعة أيام فلما وصلوا إليه وجدوا قطعةً من خشب طافية على سطح

الماء، وهناك أمثلة أخرى عديدة كهذه يعرفها المطلعون على علوم الفسيولوجيا

والسيكولوجيا والأمراض العقلية وكان المخدوعون فيها عدة أشخاص.

ويدخل في هذا الباب (باب الخيالات الكاذبة والأوهام) دعوى القبط في

مصر أنهم في ثاني يوم لعيد النيروز (أي 2 توت من السنة القبطية) إذا

نظروا إلى جهة الشرق بعد طلوع الشمس بقليل رأوا رأس يوحنا المعمدان كأنه

في طبق والدم يسيل من جوانبه وقد أكد لي بعضهم، وهو من الصادقين عندي،

أنه رأى ذلك المنظر بعيني رأسه في الأفق وكثير من نسائهم يقلن أنهن رأينه

أيضًا.

ومن ذلك أيضًا ما كان يراه القدماء وخصوصًا النصارى في أوروبا في

القرون الوسطى وقت ظهور ذوات الأذناب في السماء كالذي ظهر عندهم سنة

1556 ميلادية فإنها رأوا فيه وفي غيره سيوفًا من نار وصلبان وفرسان على

الخيل وغزلان وجماجم قتلى إلخ إلخ، وكانوا يتشائمو من هذه المناظر

وينزعجون منها، وقد رسم بعضهم صور ما كانوا يرونه من ذلك ونشر في

كتبهم راجع كتاب (الفلك للعاشقين) تأليف كاميل فلامريون ص 187 و189.

ورأى اليهود قبل خراب أورشليم نحو ذلك أيضًا في السماء كمركبات

وجيوش بأسلحتها تركض بين الغيوم حتى تشائموا منها كثيرًا، وفي عيد

الخمسين لما كان الكهنة داخلين ليلاً في دار الهيكل الداخلي سمعوا صوتًا كأنه

صوت جمع عظيم يقول: دعنا نذهب من هنا. إلى غير ذلك من الأوهام

والخيالات التي وصفها مؤرخهم الشهير يوسيفوس في بعض كتبه وذكرها

أيضًا تاسيتوس مؤرخ الرومان وهي أوهام لم تخل أمة من مثلها في كل زمان

ومكان، وقد تظهر أيضًا مناظر عجيبة كهذه في الأفق من انكسار أشعة

الشمس في طبقات الهواء (Mirage) راجع كتاب (الرسل) لرينان ص

42 في رؤية المسيح في الجليل بعد صلبه.

أما دعوى الإنجيل الأول (متى) أن حراسًا ضبطوا القبر وختموا عليه

(27: 66) فهي كما قال العلامة (أرنست رينان) اختراع يراد به الرد

على اليهود الذين ذهبوا إلى القول بسرقة الجثة حينما أكثر النصارى من القول

بالقيامة بعد المسيح بمدة (انظر مت 28: 15) ولذلك لم ترد قصة حراسة

القبر في الأناجيل الأخرى، ولو كانت حقيقية لما تركوها فهي الرد الوحيد الذي

أمكن لكاتب الإنجيل الأول أن يبتكره لدفع ما ذهب إليه اليهود في ذلك الزمان.

وزد على ذلك أن هذا الإصحاح (27) من إنجيل متى قد اشتمل على غرائب

أخرى كانفتاح القبور وقيام الراقدين من الموت ودخولهم المدينة، إلخ إلخ

(27: 51 - 54) وكل هذه أشياء يراد بها التهويل والمبالغة، ولا يخفى على

عاقل مكانها من الصحة ولذلك رفضها المحققون من علماء أوروبا اليوم. ولو

وقعت لكانت أغرب ما رأى الناس ولتوفرت الدواعي على نقلها فنقلها كتبة

الأناجيل كلهم ممن اعتمدت الكنيسة أناجيلهم ومن غيرهم ولاشتهرت فنقلها

المؤرخون كيوسيفوس وغيره.

ولا ندري متى قال المسيح لليهود أنه سيقوم في اليوم الثالث؟ ولماذا

يظهر نفسه لهم؟ وما فائدة هذا الجسد المادي الذي كان يحتاج للأكل والشرب

بعد القيامة (لو 24: 41 و42) حتى يحيا بعد الموت ويبقى إله العالمين

مقيدًا به إلى الأبد؟ نعم ورد في إنجيل يوحنا أنه قال لليهود (2: 19) :

انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه. ولكن نصت هذه الأناجيل على أن

اليهود لم يفهموا هذا القول بل ولا تلاميذ المسيح أنفسهم (انظر لوقا: 18:

34، ويو 2: 21 و22 و20: 9 ومر 9: 32) وقد كذب هذه العبارة متى

نفسه فقال: إنها شهادة زور (26: 60 و61) فكيف إذًا أرسل اليهود كما

قال متى حراسًا ليضبطوا القبر خوفًا من ضياع الجثة؟ وأي شيء نبههم إلى

ذلك العمل مع أن أقوال المسيح لم يفهمها نفس تلاميذه إذا صح أنه قال هذه

العبارة أو غيرها؟ أما قوله لليهود (متى 12: 40: لأنه كما كان يونان

في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض

ثلاثة أيام وثلاث ليال) قد قال فيه بعض محققيهم مثل بالس وشاتر إنه زيادة من

كاتب الإنجيل للتفسير. وهي زيادة خطأ فلم يمكث إلا يومًا وليلتين ولذلك لم ترو

هذه الزيادة في إنجيل من الأناجيل الأخرى، وقول متى 12: 39: ولا تعطى له

آية إلا آية يونان النبي. يريد به أنه كما آمن أهل نينوى بيونان (يونس) من

غير أن يروا منه آية كذلك كان الواجب أن تؤمنوا بي بدون اقتراح آيات وبدون

عناد، ولذلك قال بعد ذلك 41: رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل

ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان هنا. وفي القرآن

الشريف نحو ذلك أيضًا {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا

آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:

98) وعلى كل حال، إذا كان نفس تلاميذه لم يفهموا ذلك إلا بعد قيامته

(يو 20: 9) مع أنه كان أخبرهم به أيضًا على انفراد (مت 20: 17) فكيف

فهمه اليهود قبلهم؟ وكيف لم يصدق التلاميذ قيامته حينما أُخبروا بها؟

(مر 16: 11) إذا صح أن المسيح أنبأهم بها من قبل؟ وكيف يعقل أن رؤساء

الكهنة والفريسيين يذهبون إلى بيلاطس في يوم السبت كما قال متى (27:

62) وينجسون أنفسهم بالدخول إليه وبالعمل في السبت كضبط القبر بالحراس

وختم الحجر (مت 27: 66) مع أنهم هم الذين لم يقبلوا الدخول إلى بيلاطس

يوم محاكمة المسيح خوفًا من أن ينجسوا أنفسهم فخرج هو إليهم كما قال يوحنا

(18: 28) وهم الذين سألوه إكرامًا للسبت أن لا تبقى المصلوبون على الصليب

فيه (يو 19: 31) فما هذا التناقض وما هذه الحال؟

ولنرجع إلى ما كنا فيه: وقد اعتقد جمهور الناس في ذلك الوقت أن

المصلوب هو المسيح وأنه قام من الموت ولما لم يجدوا يهوذا الإسخريوطي

قالوا: إنه انتحر بشنق نفسه. وربما أنهم بعد بعض الأيام وجدوا خارج أورشليم

في بعض الجبال جثة مشقوقة البطن من التعفن الرمي فظنوها جثته (ع 1: 18)

ويجوز أنها كانت جثة المسيح نفسه على القول بأنه مات بعد هروبه من

السجن كباقي الناس، ولم يرفع إلى الله تعالى إلا رفعًا روحانيًّا معنويًّا كقوله

تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} (الأعراف: 176)

وكقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) وقوله:

{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) وفي معنى ذلك أيضًا قوله تعالى:

{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الصافات: 99) وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ

عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) وقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (آل عمران:

169) وغير ذلك كثير.

ولما كان بعض التلاميذ يستبعدون الموت على المسيح لشدة حبهم

وتعظيمهم له، كما فعل بعض الصحابة عقب موت رسول الله - ذهب بعضهم

بالرأي والاجتهاد إلى أن المصلوب لا بد أن يكون غير المسيح وقالوا إنه إما

يهوذا أو واحد آخر وخصوصًا لأنهم لم يعلموا أين ذهب يهوذا.

ومن ذلك نشأت مذاهب مختلفة بين النصارى الأولين في مسألة الصلب

والقيامة، كانت أساسًا لفرق كثيرة ظهرت بعدهم ذكرناها مرارًا سابقًا في المنار

وغيره مما كتبنا. لذلك قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم

بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} (النساء: 157) .

فساد مذهب القائلين بالصلب لأنه هو الظاهر مما شوهد إذ ذاك وساعد على

نشره القول بالقيامة ودعمه بولس ومن وافقه بنظرياتهم في الخلاص [8] والفداء

وببعض نصوص من العهد القديم لووها وأولوها

بحسب أوهامهم وأفكارهم وقد بينا بطلانها في كتاب (دين الله) وقد رفض بولس

هذا وجميع رسائله أقدم فرقهم القديمة كالبيونيين (Ebionites) وكانوا أقرب

الناس إلى تعاليم المسيح الحقيقية وغاية في الزهد والتقوى وكان عندهم إنجيل

متى العبراني الأصلي المفقود الآن.

ومن الجائز أن يوسف ونيقوديموس (إذا صح أنه حضر معه) كانا يخافان على

الجثة من اليهود أن يهينوها أو يمثلوا بها أو يتركوها للحيوانات المفترسة

كالمعتاد أو نحو ذلك زيادة في النكاية بالمسيح وأتباعه وكما كان يعمل في

المصلوبين بحسب عادة الرومان، فتظاهرا بأنهما قد أتما دفن الجثة ومضيا. فلما

تحققا أنه لم يبق عند القبر أحد مطلقًا خوفًا من أن يطلع على ما يفعلان رجعا

ونقلاها إلى موضع آخر لا يعلمه أحد، وتعاهدا على أن لا يبوح أحد بسرهما، ثم

ذهب يوسف إلى بلدته الرامة على بعد 6 أميال إلى الشمال من أورشليم ورجع

نيقوديموس إلى بيته وكلاهما كان عضوًا في السنهدريم مجمع اليهود وكانا

يؤمنان بالمسيح ولكن سرًّا لخوفهما من اليهود (يو 19: 38 و7: 50) وربما

أنهما لم يجاهرا اليهود بشيء حتى ولا بأنهما هما اللذان دفنا الجثة وخصوصًا

نيقوديموس، ولذلك لم تذكره الأناجيل الثلاثة الأول، وربما قال يوسف

لليهود تعميةً لهم: إني بعد أن استلمت الجثة وكفنتها سلمتها لغيري ممن حضر

ليدفنها وتركته ولا أعلم باليقين أين وضعها ولا أعرف اسمه. وخصوصًا

لأن كل الجموع الذين كانوا حاضرين الصلب كانوا قد رجعوا إلى منازلهم كما

قال لوقا (23: 48) ولم يبق وقت الدفن أحد يشاهدهما إلا مريم المجدلية ومريم

أم يوسي (مر 15: 47 ومت 27: 61) ولا ندري إذ صح ذلك كيف أرادتا

العودة إلى القبر لتحنيط الجثة مع أنهما شاهدتا يوسف ونيقوديموس يحنطانها كما

تقول الأناجيل؟ (يو 19: 39 و40) وقال كيم أحد علماء الإفرنج في كتابه

(يسوع الناصري) مجلد 3 ص 552: إنه لا يحرم على أحد من اليهود في

يوم السبت أن يقوم بالواجب نحو جثة الميت كالتحنيط والتكفين ونحوهما. فلا

يفهم أحد ما الذي أخر هؤلاء النسوة عن الذهاب إلى القبر يوم السبت والقيام بما

يردن عمله للمسيح فيها. انظر كتاب دين الخوارق ص 826 وهل لم يكفهن

الحنوط العظيم الذي أحضره نيقوديموس (يو 19: 39) حتى اشترين غيره

(م16: 1) ولكن لنتغاض.

وبعد السبت في فجر يوم الأحد جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى إلى

القبر الذي كانتا شاهدتا الجثة وضعت فيه أولاً (متى 28: 1) فلم تجداها

فكان ما كان من إشاعة قيامة المصلوب من الموت، هذا إذا لم نقل إنهما ضلتا

عن القبر بسبب شدة الحزن والبكاء والتعب والظلام، وكثيرًا ما تضل نساء

مصر مثلاً ورجالها عن معرفة قبورهم حتى بعد التردد عليها مرةً أو مرتين

كما هو مشاهد معروف ولذلك لم يعرف علماؤهم موضع هذا القبر باليقين إلى

اليوم.

ولما انتشرت إشاعة القيامة كانت قاصرةً على التلاميذ وأتباع المسيح فقط

في أورشليم (لو 24: 33) ولم يقدروا على التجاهر بها أمام اليهود في أول

الأمر ولذلك كانوا يجتمعون والأبواب مغلقة لئلا يسمع كلامهم اليهود خوفًا

منهم كما قال يوحنا (20: 19) وكانوا على هذه الحالة إلى ثمانية أيام (يو

20: 26) ثم لم يجسروا على المجاهرة بالدعوة إلى دينهم إلا بعد نحو

خمسين يومًا كما في سفر الأعمال (2: 1) وفي هذه المدة على فرض عثور

أحد على الجثة لا يمكن تمييزها عن غيرها بسبب التعفن الرمي.

ودعوى إيمان ثلاثة آلاف نفس من اليهود في يوم الخمسين يكذبها عدم

وجود بيت للتلاميذ يسع كل هذا العدد فإنهم كانوا نحو 12 رجلاً (أع 1:

15) واليهود الذين تنصروا نحو ثلاثة آلاف (أع 2: 41) ولا ندري عدد

الذين لم يتنصروا من اليهود الذين حضروا الاجتماع في أورشليم من كل أمة

تحت قبة السماء كما قال سفر الأعمال (2: 6 - 13) الذي قال أيضًا إن هذا

الاجتماع العظيم كان في بيت (2: 2) فأين هذا البيت وملك مَن مِن التلاميذ

وكلهم من الجليل (أع 2: 7) ؟

ومن الذي أخبر كل هذه الجماهير من جميع الأمم المتنوعة بما هو

حاصل في بيت التلاميذ الخاص من نزول روح القدس عليهم وتكلمهم بألسنة

مختلفة حتى هرعوا إليه صنفًا صنفًا؟ ولماذا لم يكتب التلاميذ الأناجيل والرسائل

بلغات العالم هذه التي عرفوها ليتيسر للناس قبولها بدون ترجمة؟ وتكون معجزة

باقية إلى الأبد؟ ولماذا كان بطرس محتاجًا لمترجمه مرقس إذًا؟ كما رواه بايباس

وصدقه جميع آباء الكنيسة القدماء، ولكن لنرجع إلى ما كنا فيه.

وذهب جماعة من علماء النقد في أوربا وكثير ما هم إلى أن القبر الذي

وضع فيه المصلوب وكان منحوتًا في الصخر أصابه ما أصاب غيره من

الزلزلة التي حدثت في ذلك الوقت وذكرها متى في إنجيله (28: 2) فتفتحت

بعض القبور وزالت بعض الصخور وتشققت (راجع أيضًا مت 27: 51 و 52)

فضاع بسبب ذلك الجسد المدفون في شق من الشقوق، ثم انطبق وانهال عليه شيء

من التراب والحجارة حتى انسد الشق ولم يقف أحد للجثة على أثر.

وكان ذلك قبيل وصول المرأتين إلى القبر فلما وصلتا إلى هنالك ولم تجدا

الجثة ورأتا آثار الزلزلة أو شعرتا بشيء منها فزعتا وظنتا أن ذلك بسبب نزول

الملائكة وقيام المسيح من القبر (مت 28: 2) وقد أخذت الرعدة والحيرة منهما

كل مأخذ حتى لم تقدرا على الكلام (مر 16: 8) ولا يستغربن القارئ ما ذكر ففي

وقت الزلازل كثيرًا ما تنفتح الأرض وتبتلع بعض أشياء ثم تنطبق عليها.

ووقوع هذه الزلزلة قبيل وصول المرأتين إلى القبر من المصادفات التي

حدثت في التاريخ أعجب منها فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول

الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنت الصحابة أن ذلك معجزة للنبي صلى الله

عليه وسلم فقال عليه السلام لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا

يخسفان لموت أحد ولا لحياته) الحديث، يعني أن نظام هذا الكون العظيم لا

يتغير لموت أي أحد في هذه الأرض الصغيرة الحقيرة، فيالله ما أصدقه من

رسول، ولو كان كغيره من الكذابين لفرح بما قاله أصحابه وثبت اعتقادهم فيه.

ومن أعجب المصادفات التاريخية أن قمبيز ملك الفرس طعن العجل أبيس

في فخذه فقتله استهزاءً بالمصريين وإلههم وبينما هو سائر في طريقه سقط

سيفه على فخذه أيضًا فجرحه جرحًا بليغًا ساقه في الحال إلى الموت فظن

المصريون أن ذلك بسبب فعل آلهتهم به، فما أعجب عقل الإنسان وما أغرب

كثرة ميله إلى الأوهام والخرافات.

وإذا تذكرنا أن ذلك القبر كان منحوتًا في الجبل في مكان خراج أورشليم

بقرب الموضع المسمى بالجمجمة وكان مدخل مثل هذا القبر أو الكهف من

الجهة السفلى كما كانت عادة الناس في ذلك الوقت في نحت القبور على ما

ذكره رينان وغيره، فمن الجائز أن الزلزلة أزالت الحجر الذي سد به هذا

القبر فدخلت بعض الحيوانات المفترسة كالسبع أو الضبع ونحوهما وأخذت

الجثة وفرت بها، وهو تعليل آخر معقول.

وقال بعض علماء الإفرنج: إن من عادة اليهود أن لا يضعوا هذا الحجر

على باب القبر إلا بعد مضي ثلاثة أيام من الدفن، فإن صح ذلك فلا داعي للقول

بهذه الزلزلة هنا في هذا الوجه.

والخلاصة أن ضياع الجثة لا دليل فيه على هذه القيامة وخصوصًا لأن

المسيح لم يظهر لأحد من المنكرين له مع أنه كان وعدهم بذلك حسب إنجيل

متى (12: 39 و40) وفضلاً عن ذلك فليس بين تلاميذه وأتباعه من رآه في

وقت عودة الحياة إليه وقيامه من القبر؛ فإن ذلك كان أولى بإقناع الناس وإقناع

تلاميذه الذين بقي بعضهم شاكًّا حتى بعد ظهوره لهم (مت 28: 17 ولو24:

38 ت41 ويو20: 27) مع أن اتباع هذه الطريقة كان أقرب وأسهل في

الإقناع وأبعد عن مثل الشبهات التي ذكرناها.

فإن قيل إن ذلك سيكون ملجئًا للإيمان وهو ينافي الحكمة الإلهية، قلت:

وهل إحياء المسيح للموتى أمام الناس ما كان ملجئًا ولا منافيًا للحكمة الإلهية؟!

وكذلك قيام أجساد القديسين الراقدين ودخولهم المدينة المقدسة على ما ذكره

متى؟ (27: 52 و53) فأي فرق بين هذه الآيات البينات والمعجزات

القاطعة، وبين قيامته هو من الموت؟ فكيف يجب على البشر الإيمان بها

وهي قابلة للشك والطعن؟ حتى من أتباعه الذين ملأوا الدنيا بكتبهم المشككة

في هذا الدين وعقائده ، وحتى شك فيها التلاميذ أنفسهم (متى 28: 17) من

قديم الزمان.

لها بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) من قلم الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.

(1)

حاشية: النظرية هي الرأي الذي يقال لتفسير بعض المسائل وتعليل بعض الحقائق تعليلاً عقليًّا

مقبولاً، فنحن في هذه المقالة قد فرضنا جدلاً صحة أكثر ما في هذه الأناجيل من الحكايات وسلمنا أن

لبعضها الآخر أصلاً صحيحًا، وما رفضناه منها إنما هو لسبب معقول ولكن علمنا بما فعل منتحلو

النصرانية الأقدمون من التلاعب والتحريف والغش والتزوير فيما وصل إلى أيديهم من الكتب سواء كانت لهم أو لغيرهم من الأمم وافتجارهم الرسائل الكثيرة والكتب العديدة ونسبتها إلى غير مؤلفيها - كل ذلك يحملنا على الشك في جميع ما نقلوه ورووه. ولذلك نرى علماء النقد الآن في أوربة يشككون في جميع هذه الكتب المقدسة عندهم ويرفضونها بالبراهين العلمية العقلية التاريخية الصحيحة ومنهم من تغالى حتى أنكر وجود المسيح نفسه في العالم لكثرة ما علمه عن القوم من الأباطيل والاختراعات والأكاذيب والمفتريات (راجع دائرة معارف التوراة مجلد 3 ص 3620 وكتابات المستر ج م

روبرتسن) .

(2)

حاشية: ذكر العلامة جورج سيسيل الإنكليزي في ترجمته للقرآن الشريف في سورة آل عمران ص38 أن السيرنثيين Cerinthians والكربوكراتيين Carpocratians وغيرهم من أقدم فرق النصارى قالوا إن المسيح نفسه لم يصلب وإنما صلب واحد آخر من تلاميذه يشبهه شبهًا تامًّا، وفي إنجيل برنابا صرح بأن هذا التلميذ الذي صلب بدل المسيح هو يهوذا الأسخريوطي وهو الذي قالت عنه كتبهم أنه انتحر يوم الصلب (مت 27: 3-8) لأنهم لم يجدوه، والظاهر أنهم لم يعرفوا ما حدث له ولذلك اختلفت تفاصيل قصته في سفر الأعمال (1: 18 -20) عما في إنجيل متى فلهذا كله ذهبنا إلى أنه كان يشبه المسيح وأنه هو الذي صلب بدله كما في المتن.

(3)

حاشية: دعوى ولادة المسيح في (بيت لحم) قد كذَّبها علماء النقد في أوربة وبينوا أن الإحصاء الذي يقول لوقا أنه حمل مريم أم عيسى ويوسف على السفر إلى بيت لحم للاكتتاب هناك لو (2: 1-7) لم يحدث إلا في مدة ولاية كيرينيوس الثانية أي بعد ولادة عيسى بنحو 10 سنين على الأقل والذي حمل النصارى على هذا التلفيق رغبتهم في تطبيق نبوات اليهود وأفكارهم على المسيح كما في ميخا (5: 2-9) فإن اليهود كانت تعتقد أن المسيح لا بد أن يكون من نسل داود ومولودًا في مدينته التي ولد فيها (بيت لحم) مع أن نسل داود كان قد انقرض قبل زمن المكابيين، ولم يقف أحد له على أثر. راجع الفصل الثاني والخامس عشر من كتاب (رينان) في حياة المسيح.

(4)

حاشية: فإن قيل: إن الذي يفهم من هذه الأناجيل أن الصلب كان عقب صدور أمر بيلاطس مباشرة فلم يكن ثم وقت لهروبه من السجن ولا للقبض على غيره كما تقول، قلت: وهل يوثق بما في هذه الأناجيل من التفاصيل المتضاربة المتناقضة في كل جزئية من جزئيات حياة المسيح كما بينه بالتفصيل التام كثير من علماء الإفرنج أنفسهم كصاحب كتاب دين الخوارق Superatuarl Religion وغيره؟ ألا ترى أن هذه الأناجيل اختلفت حتى في نفس يوم الصلب وساعته وفي يوم صعود المسيح إلى السماء ومكانه؟ فقد نصت الثلاثة الأول منها على أن المسيح أكل الفصح مع تلاميذه كعادة اليهود أي في يوم 14 نيسان (راجع متى 26: 17 و 19 36 47 ومر 14: 12 16 ولو 22: 7 3) وأن عشاءه الأخير كان في يوم الفصح المذكور ولذلك اتخذه النصارى خصوصًا في آسيا الصغرى عيدًا من قديم الزمان، ثم صلب في اليوم الثاني للفصح أي في 15 نيسان ولكن الإنجيل الأخير جعل هذا العشاء ليس في يوم الفصح بل عشاء آخر عاديًا قبل الفصح - كما في الإصحاح 13 منه - أي في يوم 13 نيسان فيكون الصلب وقع في يوم 14 منه أي يوم عيد الفصح نفسه والذي حمل مؤلفه على ذلك أنه أراد أن يجعل هذا العيد اليهودي رمزًا إلى المسيح كأنه هو خروف الفصح الذي يذبح في هذا اليوم بخلاف الأناجيل الأخرى فإنها نصت على أن الخروف كان ذبح قبل يوم الصلب وأكله المسيح نفسه مع تلاميذه وسنَّ فريضة العشاء الرباني في هذا اليوم لذكراه لأنه كان يوم وداعه وأعظم أعياد الشريعة الموسوية ولكن الإنجيل الرابع يتجاهل هذه الفريضة كما يفهم من الإصحاح 13 المذكور ويقول بعد ذلك أن محاكمة المسيح أمام بيلاطس كانت وقت استعداد اليهود للفصح في الساعة السادسة وأن اليوم التالي لهذا الاستعداد كان يوم السبت وكان عظيما عند اليهود، أي لأنه أول أيام الفطير، راجع (يو 19: 14 و31) وهو صريح في أن الصلب وقع في يوم الاستعداد الذي يذبح في مساءه خروف الفصح أي يوم 14 نيسان، وعليه فلم يجعل المسيح هذا اليوم عيدًا بحسب الإنجيل الرابع! ولذلك تركت كنيسة رومة وأكثر النصارى عيد الفصح هذا واستبدلوا به عيد القيامة وقد وقعت بينهم وبين نصارى آسيا الصغرى مناقشة عنيفة في هذا الموضوع في أوخر القرن الثاني وأصر أهل آسيا على جعل يوم عيد الفصح اليهودي (14 نيسان) عيدًا لهم أيضًا لأنهم يقولون أن يوحنا الذي كان مقيمًا في وسطهم وغيره من تلاميذ المسيح كانوا يحتفلون بهذا العيد كما رواه يوسيبيوس في القرن الثالث عن بوليكارب تلميذ يوحنا، وروى بوليقراط أسقف أفسس في أواخر القرن الثاني عن يوحنا مثل هذا أيضًا، فكيف إذًا اتخذ يوحنا هذا اليوم - يوم الفصح اليهودي- عيدًا مع أنه لم يَذكر في إنجيله - إذا صح أنه هو الكاتب له - أن المسيح جعله عيدًا كما قالت الأناجيل الثلاثة الأخرى، بل وصلب فيه فلم يسن فيه فريضة العشاء الرباني ولا أكل الفصح في هذه السنة؟ .

(5)

راجع كتاب دين الخوارق (ص552، 553، 563، 564) وقد نص يوحنا على أن المسيح كان مقبوضًا عليه قبل أن يأكلوا الفصح 18: 28 مع أن الأناجيل الأخرى نصت على أن القبض عليه كان بعد أكل الفصح، فهل بعد ذلك يقال أنهم متفقون؟ وهل هذه العبارة تقبل أيضًا التأويل؟ أما ساعة الصلب فهي أيضًا مختلفة في الأناجيل كما قلنا، ففي إنجيل مرقص أنه صلب في الساعة الثالثة مر (15: 25) وفي إنجيل يوحنا (19: 14) أنه لم يصلب إلا بعد الساعة السادسة، فإن قيل: إن ما ذكره يوحنا هو بحسب اصطلاح الرومان، قلت: وكيف يجري يوحنا على هذا الاصطلاح مع أنه كتب إنجيله في آسيا الصغرى، ولا يجري على هذه الاصطلاح مرقص الذي كتب إنجيله في رومة نفسها بناء على طلب الرومان منه ذلك كما رواه كليمندس الإسكندري ويوسيبيوس وجيروم وغيرهم؟ على أننا إذا راجعنا إنجيل يوحنا نفسه ظهر لنا نقض هذه الدعوى، فإنه قال يو (18: 28) أنهم جاءوا بيسوع من عند قيانا إلى بيلاطس في الصباح فخرج إليهم بيلاطس لمحاكمته ثم أخذ يسوع إلى إدارة الولاية عدد (33) وناقشه مدة ثم خرج إلى اليهود 38 ثم أخذ يسوع وجلده (19: 1) واستهزأت به العسكر ثم أخرجه إليهم (19: 4) وناقش اليهود في أمره ثم دخل إلى دار الولاية (19: 9) وتكلم مع المسيح ثم أخرجه وجلس على كرسي الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جبانا (19: 13) فكانت الساعة السادسة يو (19: 14) فإذا كان المراد بهذه الساعة الساعة الرومانية أي في الصباح - كما يقولون - فكم كانت الساعة إذًا حينما أتوا بالمسيح إلى بيلاطس وقت الصبح كما قال يوحنا نفسه؟ يو (18: 28) أفلم تستغرق كل هذه المحاكمة والدخول والخروج بالمسيح والتكلم معه ومع اليهود زمنًا ما؟ وهل عُملت كلها في لحظة واحدة في الصباح نحو الساعة السادسة؟ وكم كانت الساعة إذا حينما أيقظوا بيلاطس في الصبح من نومه لمحاكمته، ومتى أرسل إلى هيردوس؟ كما يقول لوقا (23: 7-11) فالحق أن المراد بالساعة هنا الاصطلاح العبراني الذي جرى عليه مرقس وغيره لا الاصطلاح الروماني كما يزعمون ولذلك حرفوا هذه العبارة في بعض نسخهم وكتبوها الثالثة بدل السادسة يو (19: 14) لرفع هذه الإشكال. أما اختلافهم في يوم صعود المسيح إلى السماء ومكانه فبيانه أن المسيح بحسب إنجيل متى وفي إنجيل لوقا أنه صعد في يوم قيامته من مدينته أورشليم نفسها (لو 24: 1، 13،21،29،33،36،49،50 -53) وفي إنجيل يوحنا (20: 26) أنه ظهر لهم بعد ثمانية أيام من قيامته أي أن الصعود لم يكن في يوم قيامته كما في إنجيل لوقا! ومن العجيب أنهم يقولون أن لوقا هو مؤلف سفر الأعمال أيضًا وتراه في هذا السفر يقول: إنه صعد من أورشليم بعد أربعين يوما (أع 1: 3-9) وهو خلاف ما في إنجيله! ويخالف أيضًا إنجيل متى ومرقس (مر 16 - 7) اللذين جعلا الصعود من الخليل لا من أورشليم! فانظر إلى مقدار اختلافهم وتضاربهم حتى في هذه المسألة الهامة، فهل بعد ذلك نُلام لأنَّا لم نُعول على كل عبارة من عبارات أناجيلهم في هذه المقالة؟ .

(6)

حاشية: يقول النصارى: إن يهوذا هذا مطرود من رحمة الله مع أنه ندم ندمًا شديدًا وتاب توبة نصوحًا، ولم يكفه ذلك حتى انتحر كما يقولون (متى 27: 3-10) وكان من ضمن الاثني عشر رجلاً الذين بشرهم عيسى بالجنة (متى 19: 28) فلم لم يغفر ذنبه كما غفر ذنب التلاميذ الذين فروا وتركوا المسيح؟! وكما غفر ذنب بطرس الذي أنكر سيده وتبرأ منه وأقسم أنه لا يعرفه، مع أن توبته كانت قاصرة على البكاء؟! فلم لا يكون بطرس من الناس الذين تبرأ منهم المسيح بقوله متى (7: 22) (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذٍ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا أفاعي الإثم) وخصوصًا لأن المسيح قد سماه شيطانا (مت 16: 23) .

(7)

حاشية: جاء في العدد 7174 من جريدة المقطم الصادرة في يوم الخميس 31 أكتوبر سنة 1912 - 20 ذي القعدة سنة 1331 ما يأتي بالحرف الواحد (ورد على محافظة العاصمة اليوم إشارة تليفونية بحدوث تجمهر كبير وهياج عظيم أمام الكنيسة الجديدة التي ينشئها النزلاء اليونانيون في هذه العاصمة وأن أكثر المجتمعين يرمون بالحجارة العساكر الاحتياطية الذين أرسلهم قسم بولاق لحفظ النظام وأن بعضهم أصيب بجراح. فذهب في الحال سعادة هارفي باشا ومعه قسم من بلوك الخفر وقسم كبير من بلوك السواري وجناب البكباشي آرثر المفتش ببوليس العاصمة وحضرة عبد الرحمن أفندي أحمد المفتشين بالحكمدارية إلى مكان الحادثة ولما رأى كثرة الجموع المتألبة في ذلك المكان أمر بإحضار وابور المطافي ثم أطلقت المياة منه عليهم فتشتتوا ووقفوا جماعات جماعات رجالاً ونساء في أماكن بعيدة وجعلوا يصيحون (يا متبولي يا متبولي) ثم حضر إلى مكان الحادثة سعادة إبراهيم باشا نجيب محافظ العاصمة وعزتلو على بك وكيلها وشهد الإجراءات التي اتخذها البوليس لتشتيت المجتمعين. وكان السبب في هذا التجمهر والهياج أن بعض الموسوسين من سكان جهة المتبولي أشاع أمس الساعة الثامنة مساء أنه رأى الشيخ المتبولي المدفون في ضريحه المعروف أمام محطة مصر قد قام من ضريحه ووقف على قبته ثم طار في الفضاء ونزل على الكنيسة اليونانية التي تقدم ذكرها فتناقل الناس هذه الإشاعة واجتمع خلق كثير في نحو الساعة العاشرة مساء أمام الكنيسة وجعلوا يصيحون (سرك يا متبولي) فحضر حضرة مأمور القسم وبعض العساكر وفرقوهم ثم حدث في الساعة الثامنة من صباح اليوم أن مجذوبًا من سكان قسم بولاق وهو رجل في السبعين من عمره يدعى فارس إسماعيل وأصله من أسيوط وقد حضر إلى مصر منذ خمسين سنة - خرج من منزله لابسًا عمامة وملابس خضراء وأخذ يركض في الشوارع ويصيح فيها: أنا المتبولي أنا المتبولي، فاجتمع خلفه خلق كثير وساروا في موكب من بولاق إلى شارع الدواوين وكانوا جميعًا يصيحون: يا متبولي، ويلثمون يده وملابسه وما زالوا سائرين كذلك إلى المسجد الزينبي حيث دخل الرجل فتبعه الناس وازدحم الميدان بالمتجمهرين فقام حضرة الصاغ على شكري أفندي مأمور القسم وقبض على الرجل وأحضره إلى الحكمدارية، أما الجماهير التي كانت تسير معه فقصدت الكنيسة اليونانية وأفضى ذلك إلى تلك المظاهرة التي فرقها رجال البوليس) ذكرنا هذه الحادثة المضحكة ليعلم القارئ مبلغ تأثير الوهم والإشاعات الكاذبة في عقول العامة والجهلة من الناس وخصوصًا النساء، بل قد يتسلط الوهم على بعض العقلاء حتى يروا ما لا حقيقة له، فاقرأ بعد ذلك قصة قيامة المسيح من الموت وما حدث للنساء اللاتي ذهبن إلى قبره. هذا إذا صح أن هذه القصة ليست ملفقة من أولها إلى آخرها وأنها في الأصل كانت كما رويت في هذه الأناجيل الحالية، على أن التلفيق ثابت عليهم فيها راجع (ص76) من كتاب (دين الله) .

(8)

حاشية: إذا صحت عقيدة النصارى في الصلب والخلاص المبشر به فلماذا لم يقتل المسيح نفسه أو يطلب من تلاميذه أن يقتلوه قربانًا لله بدلاً من أن يوقع اليهود في هذا الإثم العظيم؟ فكأن الله تعالى بعد أن دبر هذه الوسيلة لخلاص الناس من سلطة الشيطان لم يقدر أن يخلص بها أحب الشعوب إليه المفضلين على العالمين الذين - خصهم كما يقولون - بالوحي والنبوة والمعجزات العظيمة من قديم الزمان ولم يعتنِ بأحد غيرهم اعتناءه بهم حتى جعلهم الواسطة الوحيدة لهداية البشر أجمعين إلى دينه الحق؟! أما كان هؤلاء الناس أولى بالخلاص دون سواهم؟ فلماذا إذًا أوقعهم في هذا الذنب العظيم بصلبهم المسيح بدون إرادته، مع أنه كان يمكنه أن يقدم ابنه هذا البريء بدون إيقاعهم في هذا الإثم الكبير؟! ألا يدل ذلك - لو صح - على أن الشيطان قد نجح في إهلاك أحباب إلههم وشعبه المختار وعجز هذا الإله عن تخليصهم من مخالبه بعد أن فكر في ذلك مدة طويلة، ثم صلب نفسه، ومع ذلك لم تنجح حيلته!! فوا أسفا على هذا الإله الضعيف الذي غلبه الشيطان وجعله يندم على خلقه الإنسان ويحزن (تك 6: 6 و7) وأوقعه في الحيرة والارتباك من قبل ومن بعد الطوفان تك (8: 21 و22 و11: 6 و7) إلخ إلخ وما أغناه عن هذا كله لولا حُبه في سفك الدماء كثيرًا (قض 11: 29 -40) حتى سفك دم نفسه وقاده الشيطان إلى هذا الانتحار (تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا) وجاءه من قبل ذلك مجربًا وممتحنًا ليسجد له ليكفر (مت 41: 10) ولم يكتف بذلك - على حسب زعمهم -

بل أصاب ويصيب عباده بالصرع وأنواع الشلل والبكم والصمم والجنون والعتاهة وغير ذلك من الأمراض التي تنسبها إليهم كتبهم إلى تأثير الشيطان ولا يقدرون للآن على تخليص الناس من شره وسلطانه، فما أعظمه عندهم من لعين قادر حتى قهر العالمين وإلههم!! فمن منهما سحق الآخر على ما يقول سفر التكوين (3: 15) (سبحان الله رب العزة عما يصفون) وإذا صح أن المسيح ادعى الألوهية بين اليهود (يو 8: 58 و10: 30 و33) فأي ذنب عليهم في قتله وهم لم يفعلوا شيئا سوى تنفيذ ما أمرهم الله تعالى به على لسان موسى؟! قال في سفر التثنية (13: 1) إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة 2ولوحدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً: لنذهب وراء آلهة أخرى لم نعرفها ونعبدها، إلى قوله: وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يُقتل) فإذا كان الله يعلم أن المسيح سيدَّعى الألوهية ويدعو الناس لعبادته، فلماذا وضع هذا الحكم في الشريعة الموسوية؟ ولمَّا أنفذه اليهود إطاعة له كرههم وغضب عليهم!! فلمَ هذا التضليل ولمَ هذا الظلم؟ فمقتضى عقيدة النصارى أن الله تعالى عاجز جاهل، ولذلك ما كان يعلم المستقبل، وكان كما يقول سفر التكوين: يضطر للنزول ليشاهد بنفسه أعمال البشر (تك 11: 5 و6 و18: 21) التي أغضبته وجعلته يندم ويحزن. فكأنه ما كان يعلم ماذا يصير إليه أمر الإنسان، ولذلك ترى أنه بعد أن دبر طريقه الخلاص ومات صلبًا لم يُخلِّص من البشر إلا قليل بالنسبة لمجموعهم، وأَهْلَكَ بسبب ذلك أفضل أمة عنده (تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلوًّا كَبِيرًا) .

ص: 113

الكاتب: محمد رشيد رضا

عبر الحرب البلقانية

وخطر المسألة الشرقية

(3)

مقدمات الخذلان في هذه الحروب

محاربة الاتحاديين للدين

من المسلمات التي لا يختلف فيها عاقلان، ولا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزَان أن

القوة المعنوية هي الأصل الباعث على الأعمال المادية، وأن الدين هو أعظم

القوى المعنوية أثرًا، وأشدها على المخالف خطرًا، وأن الفريقين المتحاربين

إذا تساويا في جميع ما ينبغي للقتال من علم ومعرفة، وذخيرة وعدة، وتفاوتا

في قوة الإيمان بالله عز وجل والرجاء في الحياة الآخرة، فإن أقواهما إيمانًا

وأعظمهما رجاء هو الجدير بأن يكون له الفلج ويتيسر له النصر. وقد صرحت

الجرائد الأوربية بهذه الحقيقة في سياق البحث في أسباب رجحان البوير على

الإنكليز في حرب الترنسفال، كما بيناه في المجلد الثاني من المنار.

وقد نشرنا في المجلد الأول من المنار نبذة في هذه المسألة ترجمها الأستاذ رحمه

الله تعالى من (وقائع بسمارك) التي نشرها بعد موته أمين سره مسيو

(بوش) قال: غطاء المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا

فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق

قلوب الشعب ولو لم يكن هنالك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لما استكن

في الضمائر من بقايا الإيمان. ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحداً مهيمنًا يراه

وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه.

فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم

تلك الملاحظة؟ فأجابه البرنس: ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور

ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس، وهوًى فيها كأنه غريزة

لها، ولو أنهم لاحظوا لفقهوا ذلك الميل، وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني

لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من

الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم إن لم يكن لهم

إيمان بدين جاء به وحي سماوي. واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه

الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة؟

بعد هذا تكلم ذلك الرجل العظيم عن نفسه فأكد القول بأنه لولا إيمانه

بالعناية الإلهية ويقينه بحياة بعد الموت وشعوره بأنه يرضي الله بخدمته للأمة

الألمانية وسعيه لوحدتها وإعلاء شأنها - لما رضي لنفسه أن يكون من حزب

الملكية وأن يخدم الملك لأنه هو جمهوري بالطبع. والوظائف والرتب

والألقاب لا بهاء لها في نظره. وإنه لا يحب إلا العيشة الخلوية في المزارع،

ومما قاله: (اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني) ومنه: إن لم

أكن خاضعًا لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه الأسرة المالكة مع أنها

تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالنبيل من الأصل الذي تنصل به عشيرتي؟

ومن أراد ترجمة نص قوله برمته فليرجع إلى المنار (ص 846 م1 من

الطبعة الثانية) .

وقد قال الأستاذ في مقدمة هذه الترجمة أنه ترجمه ليطلع عليه من لم يُعن

بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعدون النسبة إلى دينهم سبة، والظهور

بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه

ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرئاسة، ولا

ضعفًا في السياسة.

وقال بعده: هذا كلام بسمارك وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان

يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الإيمان بالله

والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه

مُفَاخِر، ولم يكثره مكاثر.

أقول بعد هذا التمهيد: ولكن زعماء الاتحاديين قد فخروه وكثروه في

السياسة، فكان اتحادهم العثماني أقوى وأعلى وأثبت من اتحاده الألماني؛ لأنه

بني على صخر الإيمان، وبنوا على رمل الإلحاد.

لقيت في الآستانة الدكتور ناظم بك الزعيم الأكبر للاتحاديين الذي خلف

صادق بك أمير الألاي بعد أن تبرأ من الجمعية فصار هو المرخص المسئول

لها. لقيته يتحدث مع فطين أفندي المدرس في دار الشفقة والمدير للمرصد

الفلكي الجديد في ضواحي العاصمة وكان يومئذ من صميم الاتحاديين، على

حين تركهم أكثر أمثاله من المعممين، حتى كان يشك في تدينه رجال الدين،

فقال لي: تعال احكم بيني وبين البك. قلت: ما خطبكما؟ قال: إن البك يقول:

إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا

وعصرنا العلماء عصرًا، نمحقهم به محقًا، وسِرنا وراء فرنسة خطوة خطوة.

وأما أنا فقلت له: إننا يجب أن نأخذ من أوربة لا من فرنسة خاصة، الفنون

الصناعية والزراعية وكل ما نحتاج إليه للترقي العملي في دنيانا. وأما الأمور

المعنوية والأدبية فنرجع فيها إلى أصول ديننا ونستمدها منه. فقال: يجب أن

نأخذ عن فرنسة كل شيء فإن جميع ما عندنا فاسد وموجب للتدلي.

لا يحتاج القارئ إلى القول بأن رأي فطين أفندي هو الموافق لرأيي في

هذه المسألة وقلما رأيت أحدًا أوجز وأفاد في تحرير هذه المسألة الكبيرة مثل

هذا الرجل، ولكنني سلكت في تأييده مسلك بيان السبب في هذه التفرقة

والخلاف بين المتعلمين، وتطرف بعضهم في التفرنج وبعضهم في الجمود

على القديم، وشدة الحاجة إلى المعتدلين الذين يعرفون القديم والحديث، أي

كفطين أفندي، وانتقلت من هذا إلى مشروع العلم والإرشاد الذي كنت أسعى له

هنالك وليس هذا المقال بمحل تفصيل القول فيه.

جميع زعماء الجمعية على رأي ناظم بك الذي ذكرناه آنفا، ولكن قلما

يوجد فيهم من يتجرأ على التصريح بمثله. وقد سمعت منه ومن غيره منهم

وعنهم غير ذلك ولولا ظهور قوة تأثير الدين لهم في الجيش يوم 31 مارس أو

13 أبريل لظهر من تهتكهم والجهر بمقاومتهم للدين أضعاف ما ظهر للناس

وما الذي ظهر بقليل، ونكتفي من ذلك بشيء مما يتعلق بالجند حذرًا من

التطويل.

كانت الصلاة في العسكر أمرًا إجباريًّا يتساهل فيه الضباط المارقون

والمرتابون في خاصة أنفسهم، وقد يتعدى ذلك إلى الجنود التابعين لهم. فإذا

جاء متدين منهم وشدد فيه لا يستطيع معارضته أحد لأنه رسمي. فلما دالت

الدولة للاتحاديين جعلوا الصلاة أمرًا اختياريًّا وصاروا يوعزون إلى حزبهم

من الضباط بمنعها وإشغال العسكر عنها بالتمرين أو غيره من العمل في

أوقاتها، حتى في المدرسة الحربية العليا نفسها.

أخبرني من أثق بهم في الآستانة بهذا، وآخرون بخبر آخر أضر منه في

الجيش، وهو أنهم كانوا عند التنسيق العسكري يعنون بإخراج الضباط المتدينين

من الجيش وأكثر هؤلاء المتدينين من الذين ارتقوا إلى رتبة الضباط بالعمل

والتمرن في الجيش في إبان السلم والحرب سنين كثيرة ويسمونهم الألايلية

نسبة تركية إلى ألاي وكان عذرهم في إخراجهم أنهم غير متخرجين في

المكتب الحربي فمعارفهم غير قانونية. وقد أخرجوا بعض المتخرجين في

المكتب الحربي بعلل أخرى، كما أبقوا بعض الألايلية الذين اتبعوا هوى

الجمعية ولو كان عدد الضباط المكتبيين كافيًا لعسكر الدولة لكان لهم في

إخراج من أخرجوا وجهًا للاعتذار وإن أضر ذلك بمالية الدولة وخسر به

جيشها طائفة من الضباط، يفضلون كثيرًا من متخرجي المكتب الأحداث

والأغرار، أي الذين لا تجربة لهم.

وقد كان غرض الاتحاديين من تنسيق عمال الحكومة في جميع النظارات

والمصالح أن يخرجوا منها من شاءوا، ويبقوا من أحبوا، ليعلم كل فرد من

أفراد هذه الدولة أن جمعية الاتحاد والترقي هي ولية أمره وصاحبة السلطان

عليه، فيكون طوع يدها، ويؤدي لها ما عدا الضريبة الأولى ما فرضه

قانونها على كل منتمٍ إليها، وهو اثنان في المائة من جميع دخله (إيراده) وقد

كانت خسارة الدولة بهذا التنسيق أكثر من ثلاثة ملايين جنيه في كل سنة

تُعطى رواتب للمعزولين والمنسقين. وما كان الذين استحدثوهم خيرًا من

الذين أخرجوهم، ولولا هذا التنسيق لكان للدولة في المال الذي خسرته به ما

يمكِّنها من شراء مدرعة وطرادة من الدرجة الأولى في كل سنة.

إن أكثر الضباط الذين تعول عليهم الجمعية في نصرها من الملحدين أو

المرتشين في دينهم، ومنهم الذين يصرحون بالكفر تصريح الحقود المنتقم من

الدين، ومن ذلك ما حدثني به بعض الثقات في الآستانة عن بعض الباشوات

أنه قال: لو كان في بدني شعرة تؤمن بفلان - وذكر خاتم الرسل وسيد العرب

والعجم صلى الله عليه وسلم لقلعتها مع اللحم الذي حولها وألقيتها. ومن لم

يجدوه على مثل هذا الفساد من قبل حاولوا إفساده بالسياسة، فكانوا لا يقبلون

ضابطًا في الجمعية إلا إذا دخل الماسونية، وهذا وذاك أهم الأسباب التي

حملت أمير الألاي صادق بك الشهير على محادة الجمعية ومقاومتها، بعد أن

عجز عن إقناع زعمائها بترك هذه المفاسد. وكان محمود شوكت باشا جاراه

بإظهاره له أنه مجتهد في منع الضباط من الاشتغال بالسياسة وجهر بذلك في

خطبة له في نظارة الحربية، وخطبة أخرى في أدرنة، كنت من المعجبين

بهما وبه يومئذ وأنا في الآستانة، ثم ظهر لصادق بك أن ذلك خداع، ثم ظهر

لسائر الناس أيضًا في العريضة التي استقال بها محمود شوكت باشا من نظارة

الحربية، فإنه صرح فيها بأنه يترك تنفيذ قانون منع الضباط من السياسة لخلفه،

أي أنه لا يمكنه تنفيذ هذا القانون وهو الذي أسلس العنان للضباط حتى

توغلوا في السياسة أن يمنعهم منها عند ما قامت ثورة طائفة كبيرة منهم في

بلاد الأرنؤوط طالبين إسقاطه وإسقاط جمعيته.

مثل جمعية الاتحاد والترقي في إضعاف الدين في الجيش وإخراج عدد كثير من

الضباط المتدينين من صفوفه كمثل من كان له بيت يؤويه ويقيه فواعل الجو

فهدمه لأنه صار يراه غير لائق بمقامه، ولكن قبل أن يبني له بيتًا آخر على

النحو الذي يحب، فبينا هو في العراء يفكر ويقدر ويجلب بعض الحجارة لبناء بيت

آخر عصفت الريح فأثارت السحاب فاعتلجت فيه البروق، وقصفت الرعود،

وانهمر الصيب الهتون، فجرفه هو وما كان جلبه لبناء البيت.

إنهم أرادوا أن يستبدلوا الوطنية العثمانية والجنسية التركية، بما يهدمون

من الرابطة الإسلامية والنزعة الدينية، التي لولاها لم يكن الجيش العثماني

مضرب المثل في شجاعته وبأسه وثباته في مواقف النزال، وبلائه في معارك

القتال، فأنشأوا أناشيد وأغاني باسم الوطن التركي والجيش العثماني، ليخلقوا بها

شعورًا جديدًا للجند يقوم مقام الشعور الديني، ولعل هذا من أقوى الجوامع التي

جمعت بينهم وبين زعماء الحزب الوطني المصري، فإن هذا الحزب يفخر

دائمًا - وليس له أثر صالح في البلاد - بأنه أوجد الشعور الوطني، وهذا الشعور

هو الذي يخرج الإنكليز من القطر، ومن حسن حظ مصر أن هؤلاء المغرورين لم

يتولوا أمرًا من أمور البلاد، وأما الاتحاديون فمن سوء حظنا أنهم تولوا أمر المملكة

ثلاث سنين أفسدوا فيها ما لم يستطع عبد الحميد مثله في ثلاثين سنة.

شهد العلماء الذين أرسلتهم الحكومة لوعظ الجيش في شتالجة بأنه تبين

لهم بعد الاختبار أن أهم أسباب انكساره في هذه الحرب قد كان مما أودعه

الاتحاديون في نفوسهم من أن وظيفة الجيش الدفاع عن الوطن بعد أن نزعوا

منها الاعتقاد بأن هذا الدفاع مشروع دينًا وأن الذي يقتل فيه شهيد له عند الله

حياة خير من هذه الحياة ذات نعيم دائم ورضوان من الله أكبر.

وشهد عظماء الألمانيين الذين يتلقى الجيش العثماني عنهم فنون القتال أن

أهم أسباب انكساره هي إفساد الاتحاديين له بإشغاله بالسياسة، وقد بينا أن

هاتين المفسدتين متلازمتان، فإنهم ما اجتهدوا في إضعاف الدين إلا لغرضهم

السياسي، وما أدخلوا الضباط في السياسة إلا للاستعانة على مقاصدهم بالقوة؛

لعلمهم بأنهم عاجزون عن الوصول إليها بإقناع الأمة. وقد كانوا يظنون

عقب الانقلاب أنه يتسنى لهم أن يقودوا جميع علماء الآستانة وعلماء الولايات

بزمام المنافع والمناصب والرتب والرواتب، غرورًا بما كان من خضوعهم

لعبد الحميد، وببعض المنافقين الذين رأوهم مستعدين لخدمتهم في كل شيء

باسم الدين، ثم بدا لهم من علماء الآستانة ما لم يكونوا يحتسبون، كانوا قد

استمالوا إليهم جمهور العلماء فلما خبرهم الأذكياء من هؤلاء العلماء وبلوهم،

قلوهم وهجروهم، وأسسوا الجمعية العلمية لوقاية الإسلام والمسلمين من

كيدهم، وبقي يدهن لهم أكثر موظفي المشيخة الإسلامية الذين عرفوا حقيقة

حالهم، والتبس الأمر على بعضهم فكانوا يحسنون الظن فيهم، لأنهم لم يعرفوا

أحدًا منهم إلا بعد حادثة (31 مارس - 13 أبريل) التي صاروا بعدها

يحسبون للدين ورجاله حسابًا، وناهيك بعلماء الآستانة ونفوذهم الروحي في

الشعب التركي، فقد أخبرني محمود شوكت باشا في أول اجتماع كان لي معه أن

الحكومة لا تستطيع أن تعمل عملاً إذا كان العلماء كارهين له يأبون وجوده،

قال هذا عندما بينت له مشروع الدعوة والإرشاد وبين لي رأيه فيه. وأنه لابد

أن يكون بصفة لا يستنكرها العلماء، قلت له: أنا أضمن استحسان جميع

العلماء له وتمنيهم تنفيذه.

بل رأيت الدكتور ناظمًا على صلابته في مقاصد الجمعية وما علمته عنه

من العزم على تجريد الحكومة العثمانية من الدين يدهن لعلماء الآستانة

ويوهمهم أنه هو وجمعيته يودون خدمة الدين. فقد دعيت إلى الحفلة التي

كرمت الجمعية بها الحاج عمر الياباني الذي أسلم وحج وزار الآستانة بعد

حجه، وكانت تلك الحفلة في نادي نور عثمانية أشهر أندية الجمعية في

الآستانة وكان من المدعوين بعض كبار العلماء، وخطب منهم محمود أسعد

أفندي ناظر الدفتر الخاقاني بالتركية، وخطب كاتب هذه السطور بالعربية، وقام

الدكتور ناظم فتكلم كلامًا قال فيه إن الإسلام محتاج إلى خدمة عظيمة من العلماء

وهم مقصرون لا يقومون بالواجب عليهم، وأهم هذه الخدمة الدعوة إلى الإسلام

وتعميم الإرشاد الإسلامي، فعندئذ قال له مصطفى أفندي أوده مشلي مستشار شيخ

الإسلام، وكان جالسًا بجانبي: إن القيام بهذا الواجب لم يكن متيسرًا في زمن

الاستبداد، والآن اقترح رشيد أفندي مشروعًا يكفل القيام به على أكمل وجه

وننتظر مساعدة الحكومة عليه، أو قال: مساعدتكم، أي مساعدة الجمعية، الشك

مني، وقد استبشرت حين سمعت هذه الكلمة من الدكتور ناظم لأنني كنت أسمع أنه

رجل الجد وأنه ليس كثير الكذب والنفاق كطلعت بك، فجئته وقلت له إذا كان هذا

رأيكم فالمرجو منكم أن تكلموا طلعت بك بإنجاز وعده لنا وتنفيذ المشروع. فقال لي

ما معناه: ليس هذا بالوقت المناسب لهذا العمل فلا بد من انتظار سنة أو سنتين.

فتأمل.

ومما عملته الجمعية لإبطال نشر هداية الدين:إصدار أوامر عامة لجميع

رؤساء الإدارة في الولايات العثمانية بمنع الاجتماع في المساجد لإلقاء الخطب

ونحوها وتصريحها بأن المساجد للصلاة دون غيرها. وهذا من جهلهم

بالإسلام وتاريخه فإن المساجد كانت في الصدر الأول لجميع مصالح المسلمين

كالمشاورة في الأمور العامة والوعظ والقضاء وتوزيع الصدقات وغير ذلك.

وجملة القول: أن جمعية الاتحاد والترقي كانت عازمة على إزالة نفوذ

العلماء من الأمة وكل تأثير للدين فيها إلا التأثير السياسي الذي يوافق مقاصد

الجمعية تستخدم له من أرباب العمائم من يميل مع القوة والمنفعة حيث تميل

كالشيخ صالح التونسي والشيخ عبد العزيز شاويش وأضرابهما، وكان

زعماؤها يعتقدون بأنه لم يبق للدين تأثير يؤبه له. ولكنهم بعد مسألة طرابلس

الغرب غيروا رأيهم وعزموا على الجد في الاستفادة من فكرة الجامعة

الإسلامية وهو ما نبينه في النبذة التالية:

(4)

عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية

لي كلمة في زعماء جمعية الاتحاد والترقي كادت تكون مثلاً في سورية

وهي: إن هؤلاء الاتحاديين قد توسلوا إلى مقصدهم بكل شيء إلا الحق. ولكنهم

فشلوا في كل عمل إلا جمع المال، ولا سيما عقب الانقلاب، فلولا المال لكانوا

الآن في عداد الموتى.

وقد سلكوا طرق النفاق فهم دائمًا يظهرون غير ما يبطنون كما صرح لي

بذلك رجل في الآستانة من أعظم أنصارهم. فإنه سألني مرة: إلى أين وصلت

في تشبثك؟ أي مشروع الدعوة والإرشاد، قلت: وعدني طلعت بك بكذا وكذا

من المساعدة، وحقي باشا قال: إنه طالما فكر في هذا المشروع، وهو يبذل

الجهد في تنفيذه. فقال: أو صدقت أقوالهم؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم.

وأنا أكشف لك الغطاء عن هذا الأمر فأمهلني إلى يوم كذا.. . وبعد مراجعة

حقي باشا ثم طلعت بك ظن أنه جاءني بالنبأ اليقين وما هو إلا أن طلعت بك

كذب عليه أيضًا.

نعم إنهم كانوا يظهرون غير ما يبطنون، ويُسرُّونَ ضد ما يعلنون، لا

في مشروعي الذي غذوني فيه بالوعود سنة كاملة فقط بل في كل مقاصدهم،

فمن أوائل مقاصدهم تتريك العناصر العثمانية وكانوا يعاقبون من يحث

عنصره على الارتقاء من غيرهم بدعوى أنه يفرق عناصر الدولة، ومن

مقاصدهم إزالة سلطة الدين وقوته من الدولة، ولكنهم يظهرون للمسلمين أنهم

يريدون القيام بالجامعة الإسلامية، على أن سيرتهم وأعمالهم تكذب هذه

الدعوى، وحسبك أن جميع زعماء الجمعية من الماسون، وأصول الماسونية

تنافي الجامعة الدينية، وهم لا يخالفون الماسونية إلا في العصبية التركية، فهم

يخادعون المسلمين في شيء والماسون في شيء آخر.

سيقول بعض الغارين والمغرورين بزعماء هذه الجمعية من مسلمي

سورية وغيرها: إننا قد علمنا ما أسره إلينا بعض رجال الجمعية ومن بعض

أعمالها أنها لا تريد إحياء الجامعة الإسلامية، وأن هذا هو غرضها الباطن

وإنما لاذت بالماسونية وأحيت كلمة الوطنية؛ لأجل مخادعة الشعوب المسيحية

والدول الأوروبية.

لا أقول أنهم سيقولون هذا، إلا لأنني سمعتهم قد قالوه من قبل، وأعلم أن

بعض قائليه مأجورون، وبعضهم مخدوعون، وأنا أعرف سبب هذا ومنشأه،

ولا أعجب من تصديق بعض أغرار المسلمين كلام هؤلاء الذين يظهرون لكل

قوم بوجهه، ويخاطبون كل أناس بلسان، فقد خدع هؤلاء الاتحاديون قبلهم

دهاة السياسة ورجال الخبرة من إخوانهم النصارى السوريين في سورية

ومصر جميعًا. إذ أوهموهم أن ميلهم إليهم واتحادهم بهم خير لهم من اتحادهم

بأهل وطنهم من المسلمين وأن مسلمي العرب يغلب عليهم التعصب الديني فلا

يمكن أن يعترفوا أو يرضوا بمساواة إخوانهم في الجنس والوطن لهم. وأما

الاتحاديون الترك فإنه لا يقيمون للدين وزنًا ويرون من المصلحة التركية

ترجيح نصارى العرب ليضعف مسلموهم فلا يكون لهم مجال للمطالبة

بالخلافة التي هي أكبر خطر على نصارى العرب ثم على غيرهم لأنها تكون

دينية محضة.

وسوس دعاة الجمعية آذان كتاب النصارى ووجهائهم بمثل هذا الكلام

فصدقوه وانخدعوا به، وظهر أثر ذلك في جرائدهم في كل مكان، وفي

مساعدتهم للاتحاديين في انتخاب المبعوثين، ولا بدع في ذلك فقد انخدع كتاب

أوربة وساستها من جميع الدول بنفاق هؤلاء الاتحاديين في القول والفعل.

حتى إن جريدة الطان الفرنسية الشهيرة نشرت مرة لأحد مكاتبيها تفضيلاً لهم

على الحزب الوطني المصري بأنهم يصرحون بانتقاد دين الإسلام ولا يبالون بأمر

المسلمين من غير أبناء جنسهم الترك، خلافًا للمصريين الذين تغلب عليهم النزعة

الإسلامية، فيبحثون عن مسلمي تونس، والجزائر ومراكش ويهتمون

بأحوالهم.

ثم ما عتم أن إن انكشف الغطاء للأوربيين عن نفاق زعماء الاتحاديين

وجهلهم وغرورهم، فسبق إلى بيانه الفرنسيون والإنكليز، ولم يصرح به

الألمانيون كغيرهم إلا بعد هذه الحرب، فقد نقل لنا المقطم منذ أيام أن كثيرًا

من أولئك الزعماء يقيمون الآن في بروكسل عاصمة البلجيك وفي مقدمتهم

حقي بك وطلعت بك وجاويد بك. وذكر أن جاويد بك قال لمكاتب جريدة

فرنكفور زيتونج الألمانية في سياق حديثه له: إن أعمال الحكومة العثمانية هي

التي كانت السبب في فشل الجيش الذي كان متأهبًا أتم التأهب ومجهزًا أحسن

التجهيز ولم يكن ينقصه إلا حكومة منظمة - أي اتحادية - لتنتصر به على

البلقانيين كما انتصرت على الأرنؤوط، كما قال في جوابه لمكاتب جريدة

أوربية أخرى الذي بينته في المقالة الأولى، وطعن في كامل باشا فوصفه

بالغرور وحب الانتقام، رمتني بدائها وانسلت.

ثم نقل المقطم بعد ذلك أن مكاتب التيمس في برلين قال تعليقًا على هذا

الحديث: لم تعد الدوائر السياسية في ألمانية تعير ما يتشدق به الاتحاديون أذنًا

صاغية، حتى أن الذين كانوا يعجبون بجاويد بك وزملائه صاروا أشد الناس

انتقادًا لهم، وأكثرهم سخرية بهم ويذهب أولو الرأي في ألمانية الآن إلى أن

السياسة التي بثَّها الاتحاديون في الجيش كانت السبب الأكبر في فشله وانكساره.

ثم تنبَّه نصارى سوريا في مصر وفيها إلى نفاقهم، وبقي أفراد منهم في

البرازيل على انخداعهم، وظل بعد هذا كله بعض مسلمي السوريين يغرون

الناس بهم، إما بأجر قليل، وإما اتباعًا للوهم، وكان يجب أن يجمع العرب

على مقتهم ومحادتهم؛ لأن العرب أبغض الناس إليهم، وإنني أعتقد أن أكثر

الذين يتحيزون إليهم منا منافقون وطلاب مال وجاه، وأقلهم مخدوعون

مصدقون أنهم يعملون للجامعة الإسلامية، وإنني أذكر مثالا من مخادعتهم

للمسلمين بهذه المسألة:

لما ألممت ببيروت في رمضان الماضي وأنا عائد من رحلتي الهندية

زارني ليلة مع الزائرين بعض رجال الحكومة في الدار التي كنت نازلاً فيها

وكان فيهم رجل من رجال القضاء (العدلية) من إخواننا الترك فنقل الحديث إلى

الجامعة الإسلامية وفوائدها للدولة، وادعى أن جمعية الاتحاد والترقي ترمي

إلى إحياء هذه الجمعية فقلت له: إنما ترمي إلى إحياء الجامعة التركية،

وتتجر باسم الجامعة الإسلامية، تجذب بهذا الاسم المسلمين الغافلين، وتخيف

الأوربيين المستعمرين، وإنني أدرى الناس بمكانها من الدين فقد جئت الآستانة

بإذن الجمعية لأجل مشروع الدعوة والإرشاد الذي شهد العقلاء من الاتحاديين

وغيرهم أنه أنفع ما يخدم به الدين، وكنت موعودًا من الجمعية بالمساعدة

عليه، ثم لما عرف زعماء الجمعية حقيقة المشروع وأنه خدمة حقيقية للدين

قاوموه ولم ينفذوه؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكانوا يظنون أن إسلامي

سياسيّ فيسهل جعلي آلة سياسية، فلما تبين لهم أن إسلامي إيمان ونية وعمل،

ظهر لهم أن مشربي يخالف مشربهم، وعملي يناقض عملهم، وقد كان

بعض علماء الآستانة يحذرني منهم ويقول: لا يغرنك منهم إظهار الميل إلى

مساعدة مشروعك (وهم يقولون) تشبثك فإنهم يريدون أن يستفيدوا من

اسمك وشهرتك ليظن المسلمون أنهم يريدون الخير للإسلام، وكان هؤلاء

العلماء يرون أن عدم تنفيذهم للمشروع خير من تنفيذهم إياه مخادعة ورياء

لأن الأمور بمقاصدها.

وكان هنالك علماء ونبهاء آخرون يرون أن الرياء قنطرة الإخلاص،

وأنهم إذا نفذوا المشروع يربحه المسلمون ولا يضره رياء مساعديه، إذا

صحت نية القائمين به، وكان من رأي هؤلاء أن أكتم عن الجمعية حقيقة

مرادي، وأوهمها أنني أريد أن أربي أناسًا يكونون دعاة للدين في الظاهر

ولسياسة الجمعية في الباطن، وأن أطلب جعل تعليم الفنون في هذه المدرسة

الإسلامية العامة باللغة التركية لا العربية ليقبلوا المشروع، وبعض أصحاب

هذا الرأي من الذين انتموا إلى الجمعية ليتمكنوا بنفوذها مما يريدون من الخير

لأنفسهم ولأمتهم، ولكنني لم أقبل نصحهم وقلت: إنني لا أجعل الباطل وسيلة

إلى الحق، فأنا أبين لهم كل مرادي، وإنني لا أريد ولا أقبل أن يكون المشروع

آلة سياسية بل دينيًّا خالصًا؛ لأن السياسة تفسده باختلاف الأحزاب والحكام

من الداخل، وبمقاومة أوربة من الخارج، ومن الجهل والغرور أن نظن أننا

نستطيع أن نخدع أوربة، فإن الجاهل القاصرلا يستطيع أن يخدع العالم

الراشد.

ذكرت شيئًا من سيرتي هذه للزائر التركي الذكي، ثم قلت له: أليس

الدكتور ناظم صاحب النفوذ الأعلى في هذه الجمعية يصرح بأن الدولة لا

يمكن أن ترتقي ما دامت متمسكة بالإسلام؟ أليس جميع إخوانه الزعماء

وأنصاره فيها على هذا الرأي؟ أليسوا يرون أن فشو الإلحاد في متخرجي

مكاتب العاصمة هو العون لهم على ما يريدون؟ فكيف يرجى منهم مع هذا

تأييد الجامعة الإسلامية؟

قال الزائر ويا لله العجب مما قال: إن الدكتور ناظمًا وكثيرًا من

زعماء الجمعية كذلك ولكن أكثر المنتمين إلى الجمعية متدينون ولعل غير

المتدينين منهم لا يزيدون على ثلاثين في المائة.

قلت: إنني لم أكن أظن أنهم يبلغون هذه الدرجة من الكثرة، وهب أن

المتدينين منهم تسعون في المائة والملاحدة عشرة في المائة، أليست الزعامة

والسلطة في يد الأقلين؟ قال: نعم، ولكن هذا لا يدوم. ثم قلت: إذا كانت

جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا تحاول إماتة اللغة

العربية وتطهير التركية منها، فهل يمكن للشعوب الإسلامية أن تتعارف

وتتعاون من غير أن يكون لها لغة مشتركة؟ وهل يمكن أن تتوجه كلها إلى

تعلم لغة عامة غير لغة دينها؟

إذا كانت جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا نرى

جرائدها ودعاتها وأساتذتها في جميع مكاتب الحكومة قد جعلوا شعارهم

وهجيراهم (الملة التركية) والقومية التركية ومحاولة تعميم اللغة التركية فقط،

أليست الأمة الإسلامية أمة واحدة ملتها واحدة وأفرادها إخوة كما يؤخذ من

نص القرآن المجيد، فتقسيمها إلى ملل وأجناس كما يفعلون هو الهدم لا البناء

للجامعة الإسلامية؟

قال الزائر التركي الذكي ويا لله العجب مما قال: إن اللهج بالملية التركية

والعناية بإحياء العنصرية التركية ونشر اللغة التركية، يريدون به الجامعة

الإسلامية، فإن المقصود منه استمالة مسلمي تركستان والتتار والروسيين إلى

الدولة واتحادهم بالترك العثمانيين وبذلك تقوى الجامعة الإسلامية، وليس

المراد به ألبتة تقوية الترك على العرب.

قلت له: أو يقال لمثلي هذا؟ هل الإسلام محصور في الترك والتتار حتى

لا تتكون الجامعة الإسلامية إلا منهم؟ أم يرون لغرورهم أن دولة روسية هي

أضعف الدول فيبتزونها عشرين مليونًا من الترك والتتار يكونون به الجامعة

التركية؟ إنني واقف على دسائس الجمعية في هذه المسألة، ونشرت في المنار

ترجمة مقالات لجريدة (نوفي فريمية) الروسية تنحي فيها باللائمة على حكومتهم

في تركستان لغفلتها عن المدارس التي ينشئها التتار هناك زاعمة أن هؤلاء

التتار مرسلون من الآستانة أو مُوعَز إليهم منها ليبثوا فكرة الجامعة الإسلامية

في تركستان، ويستميلوا أهلها البسطاء إلى إخوانهم الترك العثمانيين بدسائس

ألمانية والنمسة. وقد نصحت لإخواني التتار بعد نشر ما ذكرت بأن ينزهوا

سعيهم لنشر العلم بينهم وبين سائر إخوانهم عن شوائب السياسة الاتحادية

ودسائسها؛ لأن صلة بعضهم بأهلها تضرهم وتضر الدولة العثمانية؛ لأنها

تغري حكومتهم بالتشديد في منعهم من نشر العلم الذي يحيي المسلمين في

بلادها وبالتصدي لعداوة الدولة العثمانية من جهة أخرى، وكذلك كان فإنها

هي التي كونت الاتحاد البلقاني ودفعته إلى هذه الحرب.

ثم قلت للزائر التركي الذكي: إن ما وافقتنا عليه من مناداة الاتحاديين

بالملية التركية والقومية التركية واللغة التركية وبث ذلك في مدارس الدولة هو

من أقوى الأدلة على ضد ما استدللت به عليه؛ إذ جعلته عملاً للجامعة

الإسلامية، فإن كانت الجمعية تريد الجامعة الإسلامية الصحيحة كما تقول

فلماذا اهتمت بأمر مسلمي تركستان الذين دون وصولها إليهم خرط القتاد دون

مسلمي العرب في الحجاز مهد الإسلام ومهبط الوحي، وفي سياجه جزيرة

العرب وسائر العرب الذين لا يحيا الإسلام إلا بحياة بلادهم ولغتهم، ولا يعز

إلا بعزهم؟ فقد قال نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل

الإسلام) رواه أبو يعلى في مسنده بسند صحيح.

ولماذا لم تهتم بأمر مسلمي أفريقية العثمانية فعرضت عرب طرابلس

الغرب وبرقة لنيران مدافع إيطالية؟ ولماذا لم تهتم بأمر أربعين مليونًا من

المسلمين في جزائر جاوة والملايو وثمانين مليونًا من المسلمين في الهند؟

فهل انحصر الإسلام في الترك والتتار؟ لو كان الاتحاديون يريدون خدمة

الإسلام لنفذوا مشروع الدعوة والإرشاد، واجتهدوا في إحياء اللغة العربية

وعمران الحجاز وجزيرة العرب قبل كل شيء. هذا ما خطر في بالي من

حديثنا مع ذلك الزائر، وربما كان فيه زيادة إيضاح لبعض المسائل واختصار

في بعضها، وقد كان معنا جماعة من أدباء بيروت وطرابلس يستمعون.

فهذا مَثل من أمثال مخادعة الاتحاديين لمسلمي سورية وأمثالهم، وما كل

من يسمع مثل ما سمعت يجيب بمثل ما أجبت، وإنني أرى أن زعماء الجمعية

ما أيقنوا بأنه يمكنهم الانتفاع من الجامعة الإسلامية إذا استخدموها باسم

حكومة الخلافة ونفوذها إلا بعد حادثة طرابلس الغرب، فقد سمعت ورويت

عنهم وأنا في الآستانة أنهم يقولون: لا ينفعنا مسلمو بلادها ولا غيرهم وإذا

حاربنا إنكلترة _ أي في مصر طبعًا _ فلا يفيدنا مسلمو الهند شيئًا. وكانوا هم

وغيرهم من رجال الدولة يعتقدون قبل حادثة طرابلس الغرب أن العرب فيها لا

يبالون بصلتهم بالدولة وربما فضلوا إيطالية عليها تفضيلاً، وسلموا تسليمًا،

وإن سائر المسلمين لا يشعرون بألم انفصال هذه المملكة من ممالك الدولة.

يدل على هذا ما رواه بعض فضلاء العثمانيين عن رأي سفارة الدولة في

باريس حين أنذرت إيطالية الدولة ذلك الإنذار وأتبعته بضرب أسطولها

لطرابلس فذهبت إلى السفارة العثمانية لأتعرف رأيها وأعرض لها رأيي فقيل

لي: إنه لا شك في أن أهل طرابلس لا يأسفون ولا يأسون على زوال سلطتنا

عنهم؛ لأنهم ما رأوا منا خيرًا قط. وقد تألفتهم إيطالية منذ سنين فهم يفضلونهاعلينا.

بل نقلت البرقيات والصحف عن محمود شوكت باشا وكذا عن أحمد مختار

باشا أنهما قالا: إن الدفاع عن طرابلس الغرب جناية؛ لأننا لا نجد طريقًا لذلك.

هبَّ عرب طرابلس للدفاع عن بلادهم والمحافظة على عثمانيتهم، وهبَّ

العالم الإسلامي لمساعدتهم، فبدا لجمعية الاتحاد والترقي ما لم تكن تحتسب،

وأحبت أن تستفيد من هذه الأريحية الإسلامية. وكانت باعت طرابلس وبرقة

لإيطالية على شرط أن تأخذها بالفتح السلمي بعد أن تخرج منها العسكر

العثماني والسلاح، أي أن تترك الاسم والعلم للدولة العثمانية وتفعل في البلاد

ما تشاء. فغدرت إيطالية وتصدت لأخذها صورة وحقيقة بالقوة القاهرة؛ إذ

خلا لها الجو بإخراج العسكر والسلاح منها، فلما هب العرب للقتال، وهب

المسلمون كافة للمساعدة بالمال، وقام المبعوثون المعارضون للجمعية يتهمون

الوزارة الاتحادية بالخيانة ويطلبون محاكمة الصدر الأعظم حقي باشا وناظر

الحربية محمود شوكت باشا، وفي ذلك هتك الستر وانكشاف السر، ورأى

زعماء الجمعية أن الأمة العثمانية يوشك أن تثور عليهم إذا لم يبرئوا أنفسهم،

لما كان ذلك كله أرسلت الحكومة بعض الضباط وأمدتهم بأموال الإعانة وبما

يمكن من السلاح، وظهر للجمعية أن في الجامعة الإسلامية حياة يمكن

الاستفادة منها.

ومن العجائب أن الدكتور ناظم بك لم يقنعه ما سمع وما قرأ عن استبسال

عرب طرابلس وبرقة، وأريحية أهل مصر والشام وغيرهم من المسلمين،

واندفاع الجميع إلى السعي لإبقاء راية الهلال فوق تلك البلاد، بل أرسل زميله

رحمي بك إلى طرابلس ليختبر الحال، فلما عاد منها كان هو الذي أقنعه بأن

للجامعة الإسلامية وجودًا وتأثيرًا حقيقيًّا، فصرَّح الدكتور بذلك في خطبة له

رأيت ترجمتها في بعض الجرائد السورية، وأنا في البصرة عائد من الهند،

فهممت أن أكتب إليه كتابًا أذكره بما أعرف من آرائه وآراء رفاقه في الجمعية

وأبني على ذلك بعض الأسئلة والحجج.

نعم إن الجمعية بعد ذلك كله أرادت الاستفادة من الجامعة الإسلامية

واستثمار هذه القوة من وجوه منها استدرار المال من المسلمين كافة باسم

الخلافة ودولة الخلافة وحماية الإسلام، والمال هو المعبود الأول للجمعية كما

عرف ذلك من سيرتهم منذ الانقلاب إلى اليوم، ومنها تخدير أعصاب مسلمي

العرب العثمانيين حتى لا يطالبوا بحق لهم في دولتهم، ولا يعارضوا

الاتحاديين بشيء من مقاصدهم، ومنها استمالة مسلمي الترك والتتار

الروسيين بالدسائس العملية وسائر مسلمي المستعمرات الأوربية بالجرائد

وبعض المعممين الذين يسخرونهم لهذه الخدمة. ولأجل هذا أسسوا

جريدة الهلال العثماني لما رأوا الشيخ عبد العزيز شاويش مواتيًا لهم في كل

ما يستخدمونه به. وأمدوا جريدة العلم المصرية وبعض الجرائد السورية بقليل

من المال ووسعوا للهلال وأمثاله الحرية في تحريك العصبية الدينية والتنويه

بالجامعة الإسلامية، على تضييقهم على علماء الآستانة وسائر رجال الدين

بقدر الإمكان، ومنها غير ذلك مما لا يتسع هذا المقام لشرحه.

وجملة القول أن عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية واستخدام مثل

الشيخ شاويش في ذلك، كان أكبر الأسباب التي زادت حَنَق دول الاتفاق الثلاثي

عليهم ظنًّا منها أنهم ما تجرأوا على ذلك إلا بإغراء ألمانية والنمسة لضعفهم

وعجزهم، فتصدت هذه الدول للتنكيل بالدولة وأسست روسية الاتفاق البلقاني

وأغرت دول البلقان بهذه الحرب وأمدتهن بالنفوذ حتى إن جرائد هذه الدول

كانت أقوى عضد للبلقانيين، فما جنينا من هذه المخادعة بالجامعة الإسلامية

إلا الزقوم واليحموم، وهذه عاقبة النفاق والغرور، والعياذ بالله مما هو أعظم

من ذلك.

...

...

...

(نشرت في مؤيد 27 محرم)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 130