المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المؤتمر العربي بباريسوحزب اللامركزية بمصر - مجلة المنار - جـ ١٦

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (16)

- ‌المحرم - 1331ه

- ‌فاتحة السنة السادسة عشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الجهاد أو القتال في الإسلام

- ‌فتاوى المنار

- ‌عبر الحرب البلقانيةوخطر المسألة الشرقية [*](1)

- ‌أحوال مسلمي الصين

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌أبو سعيد العربي الهندي

- ‌صفر - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدولة العثمانيةتعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيهاونظرة في حالها ومستقبلها

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الانقلاب الخطروجمعية الأحمرين الدم والذهب

- ‌ربيع أول - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌عبر الحرب البلقانيةوخطر المسألة الشرقية(5)

- ‌نظريتي في قصة صلب المسيحوقيامته من الأموات(2)

- ‌خطبة لرأس هذه السنة الجديدةسنة 1331 هجرية [

- ‌الفهم والتفاهم

- ‌بيان حزب اللامركزية الإدارية العثماني [*]

- ‌حديث كامل باشامع مؤسس المؤيد

- ‌اللامركزية الإداريةحياة البلاد العثمانية

- ‌ربيع الآخر - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌إذن سلطانيعن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي

- ‌لائحة الإصلاح لولاية بيروت

- ‌كتاب سياسيللعبرة والتاريخ

- ‌انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية

- ‌المسألة العربية عند الاتحاديين

- ‌الصلح بعد سوء العاقبة

- ‌مستقبل الدولة العثمانية

- ‌جمادى الأولى - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌محاورة بين عالم سياسي وتاجر ذكيفي المركزية واللامركزية

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(2)

- ‌دعاة النصرانيةفي البحرين وبلاد العرب

- ‌جمعية خدام الكعبة [*]

- ‌كتاب متصرف عسيروقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي [*](يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح)

- ‌الكتاب الذي أرسل إلى السيد الإدريسيمن مأمور مفرزة (ميدي)

- ‌المؤتمر العربي بباريسوحزب اللامركزية بمصر

- ‌أخبار مختصرة مفيدة

- ‌جمادى الآخر - 1331ه

- ‌إشكالان في حديث وآيتين

- ‌ما الحكمة في الذبح

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(3)

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌قانون جماعة خدام الكعبة

- ‌السيد الإدريسيوالحكومة العثمانية

- ‌تفريط الاتحاديين بحقوق الدولةفي خليج فارس والعراق والطرف الشرقي من جزيرة العرب

- ‌الأخبار والآراء

- ‌رجب - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌نظرةفي كتب العهد الجديدوفي عقائد النصرانية(4)

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌نظرة في الحرمين الشريفينومشروع جماعة خدام الكعبة

- ‌احتفال لتكريمأحمد فتحي باشا زغلول

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌قتل محمود شوكت باشا

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1331ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌فرنسا الإسلامية

- ‌المجلة المصرية الفرنسيةورأيها في المنار

- ‌الاتفاق الإنكليزي التركيعلى خليج فارس وشط العرب

- ‌مذهب الإباضيةفي صلاة المسافر والاستفتاح والتأمين

- ‌إحراق الكتب الضارة والفرق بينها

- ‌الإصلاح والاتفاقبين الاتحاديين والعرب

- ‌أهم الأنباء والحوادث

- ‌رمضان - 1331ه

- ‌أسئلة من البحرين

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة

- ‌نموذجمن إنشاء طلبة السَّنة التمهيديةلمدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌قرارات المؤتمر السوري العربي

- ‌شوال - 1331ه

- ‌وجود الله ووحدانيتهوالقضاء والقدر

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة

- ‌العرب والعربيةبهما صلاح الأمة الإسلامية

- ‌نزوح العرب عن أسبانيا

- ‌تركيا في بلاد العرب

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌حركة الأمة الهندية الشرقيةوالحكومة الهولندية

- ‌الإصلاح اللامركزي في البلاد العربيةواتفاق الترك مع العرب

- ‌ذو القعدة - 1331ه

- ‌صرف الزكاةللإعانة على تعليم القرآن والكتابةوغيرهما من العمل النافع

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌بيان للأمة العربية من حزب اللامركزية [*]

- ‌الجنسية واللغة

- ‌صحيفةالتيمس الأفريقية ومجلة الشرق

- ‌مصاب مصر والصحافة العربية الإسلاميةبالشيخ علي يوسف رحمه الله تعالى

- ‌الأزهر ودعاة النصرانية

- ‌بيان حزب اللامركزية والإصلاح في الولايات

- ‌عناية نظارة المعارف المصرية باللغة العربية

- ‌ذو الحجة - 1331ه

- ‌أنا عربي وليس العرب مني

- ‌تحويل مصلحة الأوقاف العمومية بمصر إلى نظارة

- ‌الإصلاح في نظارة المعارففي عهد أحمد حشمت باشا

- ‌الإسلام وحرية العقيدةوكتاب الدعوة الإسلامية

- ‌المرأة قبل الإسلام وبعده

- ‌سقوط مسقط [*]

- ‌الشيخ علي يوسف(2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة السادسة عشرة

الفصل: ‌المؤتمر العربي بباريسوحزب اللامركزية بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المؤتمر العربي بباريس

وحزب اللامركزية بمصر

يبحث الأوربيون آنا بعد آن في خطرين وهميين يمكن عقلاً وفرضًا أن

ينازعا دولهم في سيادة الأرض، وهما خطر الجامعة الإسلامية والخطر الأصفر.

فرضوا احتمال رجوع المسلمين إلى الاعتصام بحبل الإسلام واسترجاع

سيادته وقوته، ولو في بعض الممالك الإسلامية، واحتمال ارتقاء الأمة الصينية

وقوتها في بلادها، فحملهم هذان الفرضان على أخذ الأهبة والتعاون فيما بينهم على

إزالة ما بقي من ملك هاتين الأمتين واقتسام بلادهم ولو بالفتح السلمي الذي هو

أرقى ما وصل إليه المبشر في الفتح والسيادة، وهو الفتح بالعلم والعقل والحزم

والمال، تؤيدها قوة الأساطيل والجنود عند الحاجة؛ لأجل حمايتها وهيبتها.

أما الشرقيون فتصخ نذر الأخطار آذانهم، وتفقأ أشباحها المزعجة أعينهم،

وهم يتمارون بالنذر، ويتجادلون في مواضع العبر، وقد كانت الحرب البلقانية

العثمانية آخر صدمة صدمت الشرق فأتت على آخر ركن للاستقلال في آخر مملكة

مستقلة فيه أو كادت، وأهل هذه المملكة يتمارون فيما بينهم ويتجادلون ولا يعتبرون

بما حل بهم ولا يزدجرون.

من يحاول من الشرقيين عملاً ما لأمته فإنما يحاوله في آخر الوقت الذي يمكن

فيه العمل أو بعد ذهاب الوقت، وقد كان يجب على الأمة العربية أن تهب من

رقدتها، وتعمل لنفسها ودولتها، وتثبت لنفسها وجودًا تحترم به حقوقها وتعمر

بلادها، إن لم أقل: إن هذا كان يجب عليها منذ تغلغلت السلطة الحميدية التدميرية

في ولاياتها، وأنشأت تجهز الحملات العسكرية على معاهد القوة منها كاليمن،

والحملات الإفسادية على الولايات الضعيفة كسورية. وإذ لم يفعلوا فليكن ذلك العهد

عهد الإيقاظ والتنبيه، وعهد الاتحاديين الذي هو شر منه وأضر عهد الوحدة والعمل.

رأى العرب من الاتحاديين ما رأوا من سفك دماء إخوانهم وتدمير بلادهم في

اليمن والكرك وحوران، وإفساد ذات بينهم ومقاومة لغتهم في سورية والعراق،

ورأوا أن هؤلاء قد أنشأوا يهدمون ما أبقى عليه عبد الحميد من ملك بني عثمان،

ومع ذلك لم يزدادوا إلا أملاً ورجاءً في عاصمتهم البزنطية عاصمة الجهل والغرور،

والخيلاء والإسراف والظلم والخيانة والتدمير، ولم نر العبر والكوارث المحدقة

بهم والمنذرة لدولتهم قد أثرت فيهم تأثيرًا جمع كلمة أهل الرأي والبصيرة إلى

العمل الواجب {كَلَاّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ *

وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (القيامة: 26-29) وظفرت جيوش البلقانيين بإخوانهم

وأبناء دولتهم، وصارت مدافع البلغاريين تزلزل بِدَوِيِّهَا منازل تلك العاصمة،

وتقلق بأصواتها سلطانها في مضجعه بقصر، ضولمه بغجه وصارت الأمم

الأوربية، تتحدث بتصفية حساب المسألة الشرقية، وسُمع من باريس صوت

مزعج يدعي لفرنسة حقوقا في سورية، ورؤيت المدرعات الفرنسية وغير

الفرنسية تتهادى في المواني السورية وغير السورية، بعد هذا كله تحرك أهل

الغيرة والإخلاص من العرب، وحاولوا أن يعملوا عملاً يحفظ بلادهم من استيلاء

الأجانب عليها، وأن يصلح حالهم فيها، فكانت حركتهم هذه في آخر الوقت، إن لم

نقل: إنها كانت أو كادت تكون بعد ذهاب الوقت.

ماذا عملوا؟ ألَّف أهل الإخلاص والغيرة من السوريين المقيمين بمصر

حزب اللامركزية الإدارية العثماني، فلم يجعلوه حزبًا سوريًّا ولا عربيًّا بل عثمانيًا

عامًّا، وقام أهل ولايات سورية (بيروت والشام) والعراق يطلبون الإصلاح

لولاياتهم على أساس وقواعد اللامركزية، وفي باريس مئون من العرب

السوريين أهل العلم العصري والأدب والتجارة وطلاب العلوم العالية، أزعجهم

صوت موسيو بوانكاره - رئيس وزارة فرنسة بالأمس ورئيس جمهوريتها اليوم - إذ

قال في مجلس النواب: إن لدولته حقوقًا موروثة في سورية، وهم أول من سمع

هذا الصوت في مركز قوته وعظمته، فأحسوا بالخطر على وطنهم الخاص

وعلى قومهم ودولتهم، فأجمعوا أمرهم على أن يُسمعوا فرنسة وسائر عالم

المدنية صوتهم المعبر عن إحساسهم ورأيهم في أمتهم ودولتهم، وكراهة افتياتها

عليهم ومقاومة احتلالها لبلادهم، وأن يدعوا لمشاركتهم من شاء واستطاع السفر

إليهم من أمتهم العربية، وهم يعلمون - كما يعلم كل عاقل خبير- أنه قلما يرحل

هذه الرحلة إلا من يشتغلون بالمصلحة العامة من حملة الأقلام الأحرار، وأصحاب

الأفكار، فتكون وظيفة المؤتمر الطبيعية أن يطلع العالم الأوربي على رأي جمهور

كبير من العرب يمثل بطبعه نهضتهم، فيعرفوا حقيقة المسألة العربية التي أحدثتها

جمعية الاتحاد والترقي في عالم السياسة، ولم تكن شيئًا مذكورًا إلا على ألسنة

جواسيس عبد الحميد وأقلام مستغلي أوهامه، ولا شيئًا موجودًا إلا في خياله وخيال

مبغضي العرب من ساسة دولته، وأن هذه المسألة لو وجدت في كتاب تاريخ

السياسة قبل الآن لنجت الدولة بقوة العرب مما وقعت فيه من الخذلان والهوان.

وقد رأى الداعون إلى هذا المؤتمر أنه يجب أن يكون لهم حزب يؤيدهم

ويؤيدونه فانتسبوا إلى (حزب اللامركزية الإدارية العثماني) الذي أسس في مصر

وجعلوا مؤتمرهم تابعًا له، وطلبوا منه أن يرسل إليهم وفدًا يكون أحد أعضائه

رئيسًا للمؤتمر، فتلقى الحزب ذلك بالقبول واختار السيد عبد الحميد الزهراوي

وإسكندر بك عمون لذلك، وسيكون أولهما رئيس المؤتمر. وقد تقرر أن تدور مباحث

المؤتمر على المسائل الآتية:

1-

مقاومة الاحتلال الأجنبي للوطن.

2-

حقوق العرب في المملكة العثمانية.

3 -

وجوب تغيير شكل الإدارة العثمانية الحاضر وجعله من نوع اللامركزية

الإدارية؛ إذ لا يرجى صلاح المملكة بدون ذلك، ولا بقاء لها إلا بصلاحها كما

تقتضيه سنة الله تعالى في الخلق، المعبر عنها في لسان العلم بالانتخاب الطبيعي

وبقاء الأمثل.

4-

المهاجرة من سورية وإليها.

هذه المسائل هي أهم المسائل الاجتماعية الحيوية في المملكة العثمانية،

وأكثرها قد صار حديث ساسة الدول وجرائد الأمم، ولو لم يوجد من العرب حزب

ولا مؤتمر يبحث فيها لجاز لجميع الأمم والدول أن تعتقد أنه لا يوجد في المملكة

العثمانية أمة تسمى الأمة العربية، وأن تصدق مغروري جمعية الاتحاد والترقي في

زعمهم أن العرب ليسوا أمة ولا شعبًا فيحسب لهم حساب في إدارة المملكة العثمانية

ومصالحها، وإنما هم قسمان: عرجلة أو عراجل من الوحوش في اليمن وبوادي

الشام والعراق والحجاز ونجد ينكل بهم الجيش العثماني المظفر، وقطعان من

الغنم في سورية ومدن العراق تتصرف بهم الحكومة المركزية بما تشاء من رعي

ومن منع، وذبح وبيع.

سيكون لحزب اللامركزية ولمؤتمره في باريس ولطلاب الإصلاح المبني على

قواعد هذا الحزب في الولايات السورية والعراقية شأن عظيم في الآستانة وأوربة

المسيطرة على الحكومة العثمانية، وإن كابر الحسَّ والنفس في ذلك زعماءُ جمعية

الاتحاد والترقي واستعملوا سلطة الحكومة وألسنة المثقفين المنافقين المتزلفين لها

وأقلامهم لتحقيرهما وتهوين أمرهما، وهي لم تحقر شيئًا إلا وعظم ولم تعظم شيئًا

إلا وحقر؛ لأنها مخذولة من الله المتنكبة لسنته في خلقه وشرعه، كما ثبت

بالتجربة مرارًا، ومن ذلك أنها تلبس الحق بالباطل فتصف الشيء بضد ما هو عليه،

وتسلك إلى كل غاية الطريق الموصل إلى ضدها، فهي تأمر منافقيها بأن يذيعوا

أن المؤتمر وحزب اللامركزية وطلاب الإصلاح يعملون بإيعاز من الأجانب ليمهدوا

لهم طريق احتلال وطنهم، الأمر بالضد كما هو ظاهر وسيكون في المؤتمر أتم

ظهورًا، كما توعز إليهم أن يقولوا: إنها تعمل لإحياء الجامعة الإسلامية، على حين

نرى بعض كتابها ينشر في مجلة الشرق الإنكليزية مقالاً يحاول فيه إقناع الإنكليز

وغيرهم من الأوربيين بأنه لا يوجد في المملكة أحد غير هؤلاء الفتيان من الترك

يتجرأ على كسر القيود الدينية التي تقيدت بها الدولة العثمانية ويطلب إعانة أوربة

لهم على ذلك.

وجملة القول أن الحكومة الاتحادية قد أضاعت بجهلها وغرورها وخبث

طويتها جميع الممالك العثمانية الأوربية والأفريقية، وهي تساوم أوربة على بيع

منافع الممالك الآسيوية، وكل هذا من فساد الحكومة المركزية التي تجعل أمر الأمم

والممالك في يد واحد أو آحاد، إذا فسدوا أفسدوا وأهلكوا الجميع، ولو كان للأمة

صوت مسموع في مصالحها كالصوت الذي نسمعه الآن من حزب اللامركزية

وطلاب الإصلاح لِما أمكن لهؤلاء وأمثالهم إضاعة الدولة. وهذا الصوت على كونه

قد تأخر عن وقته لا بد أن تكون له فائدة ما، وأقلها أن تحسب أوربة له حسابًا فيما

ستقرره في كيفية إدارة هذه الدولة؛ إذ فوضت الحكومة الاتحادية إليها أمر المملكة،

بل ظهرت فوائد ذلك قبل تمام ظهوره، فبدأت الوزارة الاتحادية تستميل العرب

بعض الاستمالة، ولولا أنها وجدت بهم بعض المنافقين يهونون عليها أمر طلاب

الإصلاح لما تلبثت في قبوله إلا قليلاً.

فإذا كان هذا السعي مفيدًا مع كون أمر الدولة في أيدي الاتحاديين أعداء

العرب والإسلام، فكيف يكون نفعه إذا عجل الله انتقامه منهم ودالت الدولة

للائتلافيين [*] والصباحيين دونهم؟ يومئذ يكون العرب شركاء الترك لا عبيدهم

في هذه الدولة، فلا يكون أحدهما مظلومًا مع الآخر فيمقته ويخذله، ويقوم بناء

إدارة المملكة على قواعد اللامركزية الثابتة، يومئذ يعض المنافقون على أيديهم

يقولون: يا ليتنا اتخذنا مع حزب المصلحين سبيلاً، وخفضنا في إسرافنا في

التملق للاتحاديين المفسدين ولو قليلاً.

وجملة القول أنه قد ثبت قطعًا أن الدولة لا تستطيع حماية بلادها من الدول

الكبرى إن أردن اقتسامها، وأن أمر اقتسامها منوط باتفاق الدول بينهن لا بطلب

الأمة للإصلاح وعدمه، وأنه إذا لم يصلح أمر الأمة ويظهر استقلالها بشئونها

الإدارية والاقتصادية، فإن بلادها ستكون غنيمة باردة للأوربيين، سواء احتلوها

بالجند أم لا، وأنها لن تصلح ما دام أمرها كله بأيدي من يتغلب على السلطة في

عاصمتها ولو بالثورة وسفك الدماء، فنسأل الله أن يأخذ بأيدي المصلحين ويكفيهم

شر المستبدين والطامعين، آمين.

_________

(*) يظن كثير من الناس أن وزارتي مختار باشا وكامل باشا كانتا ائتلافيتين، وهذا خطأ، وقد سمعنا من صادق بك رئيس الائتلافيين أنهم لما أسقطوا وزارة سعيد باشا رأوا أن يثبتوا للأمة أنهم يعملون لها لا لأنفسهم فسلموا الوزارة لأشهر رجال الدولة وكان يجب أن يشاركوهم فيها.

ص: 392

الكاتب: محمد رشيد رضا

رحلتنا الهندية العربية

(شكر علني لأهل عمان والكويت)

شكرنا في الجزئين الأول والثاني لإخواننا مسلمي الهند حفاوتهم بنا وحسن

ضيافتنا، ووعدنا بأن نشكر مثل هذه الحفاوة لإخواننا العرب الكرام في مسقط

والكويت والعراق، وقضت كثرة المواد التي لا يمكن تأخيرها أن نرجئ الوفاء

بهذا الوعد إلى هذا الجزء.

سافرت من بمبي صباح الجمعة لتسعٍ خلون من جمادى الأولى للعام الماضي

في سفينة إنكليزية قاصدًا مسقط عن طريق كراجي، وكنت حريصًا على السفر في

إحدى بواخر الشركة العربية التي يديرها في بمبى مؤسسوها من أصدقائنا تجار

العرب، وكان ذلك يسرهم أيضا، وقد تحدثنا به مع مدير الشركة الهمام الشيخ

محمد المشاري في قصر الزعيم الكبير صديقي ومضيفي الشيخ قاسم إبراهيم فعلمنا

أن انتظار مواعيدها يضيع عليَّ أيامًا كثيرة، وقد انتقلنا في ميناء كراجي إلى سفينة

إنكليزية أخرى حملتنا إلى مسقط فوصلنا إليها ضحوة يوم الاثنين (12ج29 أبريل)

وعندما رست كان قد وصل إليها زورق بخاري من السلطان الكريم السيد فيصل

ملك عمان يحمل بعض رجاله لاستقبالي، وكان كلف من يعتمد عليه في بمبي أن

يخبره عن سفري منها ببرقية يعرف بها موعد وصولي، فصعدوا ومعهم صديقي

الفاضل السيد يوسف الزواوي، أكبر سادات مسقط بعد أسرة السلطان وأكبر تجارها

قدرًا وجاهًا وشهرة، فعفرّف الجماعة بي، وبعد السلام نزلنا إلى الزورق فحملنا

إلى رصيف قصر السلطان فصعدنا القصر وبعد السلام والمكث مع السلطان ساعة

من الزمان ذهبنا إلى دار ضيافته التي أعدها لنا. وكان صديقنا السيد الزواوي أعد

دارًا جديدة له على الطرز الحديث؛ لأكون فيها مدة وجودي في مسقط فنفس

عليه السلطان ولم يسمح له بذلك.

أقمت في مسقط أسبوعًَا كان يختلف إليَّ كل يوم وكل ليلة منه وجهاء البلد

وأذكياؤه ويلقون الأسئلة الدينية والفلسفية والأدبية والاجتماعية، وزارني السلطان

في دار الضيافة أيضًا ومكث معي عدة ساعات، وزرته في مجلس حكمه عدة مرات،

وكان يلقي عليَّ في كل مرة الأسئلة المختلفة، وكان يكون معه في مجلسه أخوه

السيد محمد وهو كثير المطالعة في الكتب، ولكنه لا يحب البحث في المجالس في

كل ما يطلع عليه من المسائل، وقد عهد السلطان إلى كاتبه الخاص من أهل السنة

الزبير بن علي أن يتولى أمر العناية بضيافتي، وإلى كاتبه الشيخ إبراهيم بأن

يتعاهدني معه أيضًا.

وأدَّب لي صديقي السيد الزواوي مأدبتين حافلتين، إحداهما في داره العامرة في

نفس مسقط، دعا إليها علماء ووجهاء البلد، والأخرى في دار له بقرية سداب وهي

على مسافة ميل من مسقط ذهبنا إليها بزورق السلطان في البحر، وعدت أنا ماشيًا

مع بعض المدعوين برًّا؛ لأجل الرياضة ورؤية ثنية الجبل التي يسلك منها إلى

مسقط المطوقة بالجبل. وقد دعا إلى هذه المأدبة مع وجهاء مسقط وجهاء القرى

المجاورة لها، فأجاب الدعوة عشرات منهم، وكان الغرض من ذلك أن يسمعوا

كلامي وتذكيري بآيات الله، وقد فاض معين السخاء العربي الهاشمي في هذه المأدبة

على فقراء القرية الذين اعتادوا أن يعشوا إلى ضوء نار السيد الزواوي الذي هو

مظهر لقول الشاعر:

* ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا *

فتراه بين مظاهر الكرم والنعيم، لا يغفل عن مراعاة ما يمكن تحصيله من

فوائد العلم والدين، بنى لنفسه عدة دور فخمة جميلة في مدخل البلد على البحر وهو

موقع غير واسع، يشارك هو فيه السلطان وقنصل الإنكليز في الملك، ويسكن في

دار له فيه قنصل أمريكة، وبنى لله مسجدًا هو أنظف مساجد البلد وأزهاها، وقد

جر إليه الماء بأنابيب الرصاص (المواسير) وجعل له عدة حنفيات، وعلى

هذه الطريقة اقترح عليَّ يوم المأدبة الأولى وكانت للغداء في يوم الجمعة أن أعظ

الناس في مسجده بعد صلاة الجمعة فأجبت، وكان من تأثير الكلام فيهم أن

ارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب والنشيج، واقترح عليَّ أيضًا أن أتكلم وأذكِّر من

يحضر المأدبة من الوجهاء والخواص فأجبت، ونجله الكبير الشيخ عبد القادر له

ذوق في النظام وميل إلى الصناعة، وقد مد من دارهم في سداب إلى دارهم في

مسقط مسرة تليفون فكانت هي الوحيدة في تلك القرية.

وسافرت من مسقط ضحوة يوم الإثنين لتسع عشرة خلون من الشهر ومكثت

في مجلس السلطان زهاء ثلاث ساعات من أول نهار السفر كان يلقى فيها عليَّ

الأسئلة الكثيرة في العقائد وما يتعلق بها والأحكام الشرعية والاجتماعية والتاريخية،

وتارة يشير إلى رجاله بأن يسألوا، وكانوا جميعًا يُسرون من الأجوبة، ثم نزلنا

إلى البحر فودعني السلطان على رصيف قصره ونزل معي في زورقه البخاري

جميع من كان ثَم من أنجاله الكرام وهم خمسة أكبرهم السيد نادر، ومعهم بعض

كتابه وحاشيته ومن سوء حظي أن كان ولي عهده السيد تيمور مسافرًا فلم أره، وظل

هو واقفًا على الرصيف حتى بعُد الزورق عنه، فودعته الوداع الأخير بالإشارة.

ونزل معنا أيضًا صديقنا الزواوي ونجله السيد علي ابن عم السلطان وصهره وقد

سافر معنا قاصدًا البصرة فرأيت منه رفيقًا تقيًّا نقيًّا صفيًّا.

وقد مكث معنا أولاد السلطان والزواوي ساعة من الزمن في الباخرة ثم

ودعناهم الوداع الأخير، وعادوا إلى مسقط موشحين بجلابيب شكري الخالص

وودي الدائم، إن شاء الله تعالى (وسنصف مسقط ونتكلم عن حالة أهلها الاجتماعية

في الرحلة) .

جرت السفينة بنا من مسقط ظهر يوم الاثنين، وهي إنكليزية تقطع في

الساعة 12 ميلاً فقط، وفي ضحوة اليوم الثاني خرجت بنا عن محاذاة جبال عمان

ودخلت في الخليج الفارسي فصرنا نرى بر فارس عن اليمين وبر العرب عن

اليسار، ووقفت بنا فجر يوم الخميس في موضع من عرض البحر كان ينتظرنا فيها

مركب شراعي كبير أرسله إلينا الشيخ مبارك الصباح صاحب الكويت، وكان علِم

بأننا نصل إليه في هذا الوقت في هذه الباخرة مما كُتِبَ إليه من بُمْبَي ومسقط، فنزلنا

فيه قبل طلوع الشمس فأقلع بنا والريح لينة والبحر رهو، ثم قويت الريح قليلاً في

النهار فبلغ بنا الكويت قبل غروب الشمس، وكان رجال الشيخ مبارك حملوا فيه

خروفين كبيرين وكثيرًا من الحلوى والمشمش والخيار فأفطرنا وتغدينا فيه، وقد

أعجبني جدًّا طبخ الطاهي الذي كان معهم للخروف بالرز الهندي وهو طاهٍ متفنن،

وطبخ للعشاء ألوانًا متعددة لئلا نتأخر إلى الليل فبقيت للبحارة، وقد استقبلنا أولاد

الشيخ مبارك وبعض الوجهاء في زورق صغير خارج الميناء.

أنزلني الشيخ مبارك في قصره الجديد الذي هو قصر الإمارة وتولى مؤانستي

ومجالستي في عامة أوقاته في مدارسة العلم ومراجعة الكتب حتى صار له مشاركة

جيدة في جميع العلوم الإسلامية، وأقمت في الكويت أسبوعًا كنت كل يوم ما عدا

يوم البريد، ألقي فيه خطابًا وعظيًّا في أكبر مساجد البلد فيكتظ الجامع بالناس،

وكان يحضر مجلسي كل يوم وليلة وجهاء البلد من أهل التقوى وحب العلم يسألون

عما يشكل عليهم من أمر دينهم، وأما الشيخ ناصر فكان يسأل عن دقائق العلوم في

العقائد والأصول والفقه وغير ذلك، على أنه لم يتلقَ عن الأساتذة فهو من مظاهر

الذكاء العربي النادر.

ومما أحب أن أذكره هنا، وهو من مباحث الرحلة، مسألة علاقة مبارك

بالدولة العثمانية والإنكليز، كنا نسمع المنافقين لرجال الدولة يصفون صاحب

الكويت بالخيانة للدولة ويعيبونه بطلب حماية الإنكليز له، فسألته عن ذلك

فقص عليَّ قصة سألت عنها بعد ذلك السيد رجبا نقيب البصرة مندوب الحكومة إليه

فيها؛ فكان جوابه موافقًا لجواب الشيخ مبارك، ثم ذكرت ما قاله للشيخ فهد بك

الهزال شيخ قبائل عنزه في العراق؛ إذ كنت في ضيافته على نهر الفرات مع

صديقي مراد بك أخي محمود شوكت باشا فصدق ما قاله الشيخ مبارك، وزادني

فوائد هو أعرف الناس بها.

وملخص ما قاله الشيخ مبارك أنه في أواخر مدة عبد الحميد ساقت الدولة بعض

العسكر مع عربان ابن الرشيد إلى قرب الكويت وأرسل المشير فيضي باشا السيد

رجبا النقيب ومع نجيب بك ابن الوالي إلى الكويت، فبلَّغاه أنه قد صدرت إرادة

سَنية بوجوب خروجه من الكويت إلى الآستانة أو إلى حيث شاء من ولايات الدولة،

والحكومة تعين له راتبًا شهريًّا يعيش به، فإن لم يخرج طائعًا دخل الجند مع

عرب ابن الرشيد وأخرجوه بالقوة، فسألهم ما هو ذنبه الذي استحق به النفي من

بلده وعشيرته؟ وذكر نقيب البصرة بما يعرف من إخلاصه للدولة وإعانته لها

بالمال عند كل حادثة وبما كان من محاربة سلفه وعشيرته لقبائل المنتفك المالكين

للبصرة وإخراجهم منها وجعلها في حكم الدولة كما ملكهم هو وعشيرته بقوتهم

الأحساء وغيرها، وطلب منه أن يعود إلى البصرة فيقنع المشير بمراجعة الآستانة.

فقال: إنما علينا البلاغ وليس في يدنا غيره.

قال: فخرجت من عندهما بقصد مشاورة أهلي، وكانت حكومة الهند الإنكليزية

قد علمت بكل ما دبرته الدولة في ذلك وبمجيء عشيرة ابن الرشيد مع العسكر إلى

جهة الكويت، فأرسلت مدرعتين فوقفتا تجاه البلد، فلما عُدتُ رأيتُ أميرًا إنكليزيًّا

قد نزل من إحدى المدرعتين ومعه بعض الجند فسألني عما جرى فأخبرته الخبر،

فقال: إن حكومتنا متفقة مع حكومة الترك على أن تبقى الكويت على حالها، لا

يتعرضون ولا نتعرض لها؛ وإذ قد غدروا وخالفوا فقد صار لنا حق الدخول في

أمرها، ولا يمكن أن نسمح لجندي عثماني أن يدخلها، وإذا دخلوا برضاكم

دمرناها على رءوسكم ورءوسهم، ثم بلَّغ الأميرال ذلك لنقيب البصرة رسول

الحكومة فقفل راجعًا وبلَّغ المشير ذلك، فأمر المشير بصرف الجنود والعربان،

قال: فما كان من تدخل الإنكليز في أمر الكويت لم يكن بطلب مني بل كان هذا

سببه. وقد عرضوا عليَّ أن أختار لنفسي راية أرفعها على البلد وأعلن الاستقلال

تحت حمايتهم فأبيت ذلك، وهذه الراية العثمانية تراها كل يوم مرفوعة فوق رأسي.

وقد تعجبوا من قولي لهم: إنني أختار أن أكون دائمًا عثمانيًّا، قيل لي:

أتقول هذا بعد أن رأيت منهم ما رأيت؟ قلت: إن الوالد إذا قسا في تربية ولده

أحيانًا لا يخرج بذلك عن كونه والده الذي تجب عليه طاعته. اهـ.

وسأذكر في الرحلة ما أيد به نقيب البصرة وشيخ عنزة هذا الكلام؛ فليعتبر

المعتبرون بإخلاص العرب للدولة على سوء معاملتها لهم.

للكلام بقية

_________

ص: 396