الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آمنوا ونجوا من الطوفان- لنجعل هذه الإشارة تذكرة لكم أيها المشركون، تذكرون بها أنكم من أصلاب آباء كانوا مؤمنين، فكونوا مثلهم، إذا كنتم حقّا تحرصون على التمسك بما كان عليه آباؤكم، إذ تقولون:«حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» (104: المائدة) .. فإن فى آبائكم مهتدين، وضالين.. فتخيروا من ترونه أهلا للاتباع من هؤلاء الآباء.
وقوله تعالى: «وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ»
معطوف على قوله تعالى: «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً»
أي ولتعيها أذن واعية.. فهذه التذكرة، لا تعيها، ولا تعقلها وتحتفظ بها، وتحفظها، إلا أذن عاقلة، بينها وبين العقل صلة وثيقة.. أما الأذن التي تسمع، ولا تورد ما تسمع على العقل، فهى أذن حيوانية، لا ينال منها صاحبها خيرا أبدا.
الآيات: (13- 18)[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 18]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
التفسير:
قوله تعالى:
تعرض الآيتان الكريمتان هنا مشهدا من مشاهد القيامة، وما يقع فيها من انقلاب شامل فى صورة العالم التي ألفها الإنسان، وعاش فيها بحواسه المحدودة..
وقد تحدثنا فى سورة «الواقعة» عن هذه التغيرات التي ذكرها القرآن الكريم عن يوم القيامة، وقلنا إن هذه التغيرات ليست واقعة على الموجودات من أرض وجبال، وبحار، ومن سماء ونجوم، وشمس وقمر، وإنما التغير الذي يحدث، هو فى الإنسان المتلقّى لهذه الموجودات، حيث تغيرت طبيعته بعد البعث، وأصبح له من القوى فى حواسه ومدركاته أضعاف أضعاف ما كان له فى حياته الأولى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:«فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) .. فلقد كشف للإنسان الغطاء فى هذا اليوم، عن كثير من عوالم الوجود، مما لم يكن من الممكن أن يراه، أو يعلمه، وهو فى الحياة الدنيا..
فقوله تعالى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ» يشير إلى أنه نفخ فى الصور، بعث الموتى من القبور بتلك النفخة الواحدة، لأن هذه النفخة هى أمر من أمر الله، فإذا أمر الله أمرا وقع كما أمر، كما يقول سبحانه:«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) وكما يقول سبحانه: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (51: يس) وقوله تعالى:
«وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» .. أي رفعت الأرض والجبال، فكانتا كيانا واحدا..
وحمل الأرض وجبالها، هو ظهورها معلقة فى الفضاء، كما هى عليه فى حقيقتها، التي هى أشبه بكرة معلقة فى فلك الكون.. هكذا يراها الإنسان يوم القيامة بما عليها من جبال، وبحار، حين يكون محلقا في سموات عالية فوق هذه الأرض..
ودكّ الأرض مع الجبال، هو اندماجهما فى كيان واحد، وذلك فى مرأى العين، التي تنظر إليهما من بعيد، كما ننظر نحن من عالمنا الأرضى إلى القمر، فنراه سطحا مستويا، لا جبال فيه، ولا وهاد.. وهذا يعنى أن الناس إذ يبعثون يوم القيامة، يخرجون من العالم الأرضى، إلى عالم آخر.. فالأرض هى عالم الناس الدنيوي، ولا شك أن للناس فى الآخرة عالما غير هذا العالم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» (47:
الكهف) فبروز الأرض لا يبدو إلا لمن خرج منها، ونظر إليها من مكان خارج عن فلكها.. كما يشير إلى ذلك أيضا، تلك الحالة التي سيبعث الناس عليها فى قوله تعالى:«يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» (4: القارعة) وفى قوله سبحانه: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» (7: القمر) .
قوله تعالى:
«فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» - هو جواب إذا الشرطية الظرفية، فى قوله تعالى:«فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ..» .. أي إذا كان هذا النفخ فى الصور، وحمل الأرض والجبال ودكهما- إذا كان هذا، فهو يوم وقوع الواقعة، وهى القيامة..
ووقوع الأمر: مجيئه من عل، فى قوة وتمكن، بحيث لا يمكن ردّه..
ومنه قوله تعالى: «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. وقوله سبحانه:
«قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ» (71: الأعراف) .. فهو وقوع لامردّ له.
وفى مجىء جواب الشرط فعلا ماضيا فى قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» ، مع أن مقتضى سياق النظم أن يكون فعلا مضارعا هكذا:«فيومئذ تقع الواقعة» - فى هذا إشارة إلى أن وقوعها أمر محقق لذاته، غير متوقف على شرط.. فهى واقعة لا محالة، سواء وقع شرطها أم لم يقع، وشرطها واقع لوقوعها، لا أنها هى التي تقع لوقوع شرطها..
وقوله تعالى:
«وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» .
معطوف على قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» .. أي وانشقت السماء..
ومعنى انشقاق السماء، ظهور هذا السقف الذي يظلنا، والذي يبدو وكأنه سقف منعقد، محبوك، لا يمكن النفوذ منه- ظهوره يومئذ لنا على حقيقته، وهو أنه ليس إلا فضاء لانهاية له، وأنه مهما صمّد المصعدون فيه، لا يلقاهم إلا الفضاء الرحيب الذي لا ينتهى.. وهذا مثل قوله تعالى:«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» (19: النبأ) .
وقوله تعالى: «فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» - إشارة إلى ما يبدو عليه هذا السقف من وهى وضعف، فلا تردّ السماء من يخترق طبقاتها، أو ينفذ من أقطارها..
قوله تعالى:
«وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» .
أي ويرى الملائكة فى هذا اليوم على جنبات السماء، فى أحوال شتى..
بين ساجد، وقائم، وغاد، ورائح.. هكذا يراهم الناس يومئذ.. فالملائكة المحجوبون عن أنظارنا اليوم، نراهم يوم القيامة، كما يرى بعضنا بعضا، سواء
فى هذا من كان من أهل الجنة، أو من أهل النار.. وقد ذكر القرآن الكريم لقاءات كثيرة للناس مع الملائكة، فى موقف الحساب، وفى الجنة، وفى النار..
والضمير فى «فوقهم» فى قوله تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» يعود إلى «الملك» بمعنى الملائكة.. فهو مفرد لفظا، جمع معنى، كما فى قوله تعالى:«وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» .. أي ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة «ثَمانِيَةٌ» .
وقد اختلف فى الثمانية: أهم ملائكة، عددهم ثمانية؟ أم هم ثمانية صفوف من الملائكة؟ أم ثمانية أفلاك، هى أطباق السموات، التي فيها الجنات الثماني؟ وهذا يعنى أن عرش الله، أي سلطانه، قائم على هذا الوجود العلوي، مستو عليه..
والعرش، وحملة العرش، والملائكة، والكرسي، والقلم، واللوح، ونحوها، هو مما يلزمنا التصديق به كما تحدث القرآن الكريم عنه، دون البحث عن الصورة التي تكون عليها هذه المبدعات التي استأثر الله سبحانه وتعالى وحده بعلمها.
والسؤال عن هذه الغيبيات، بدعة، والتصدّى لتكييفها تكلّف، وقد يجر إلى الافتراء على الله..
وتفويض العلم بها إلى الله، والإيمان بها على ما أخبر به القرآن عنها، هو الإيمان السليم، القائم على التسليم لله، والتصديق بما نزل على رسول الله، من آيات الله.. وهو الإيمان بالغيب، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ