الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقدّم السمع على العقل، لأنهم إنما أدينوا فى الآخرة من جهة سمعهم، وما جاءهم عن طريقه من آيات الله، على لسان رسله.. فلم يحسنوا الاستماع إلى ما أنذرهم به الرسل، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر، ولم يعرضوا ما سمعوا على عقولهم.
ثم إنهم إذ لم يأخذوا بهذا البلاغ السمعي، ولم يكن لهم من عقولهم بلاغ عقلىّ، يقيم لهم طريقا إلى الإيمان بالله، ويدعوهم إليه فقد ضلّوا، وهلكوا..
قوله تعالى:
«فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» ..
أي أن هؤلاء المعذّبين بنار جهنم، قد شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين، وأنهم أهل لهذا العذاب الذي هم فيه..
وقوله تعالى: «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» - دعاء عليهم بالبعد من رحمة الله ورضوانه، يرميهم به كل لسان.. ناطق أو صامت، فى هذا الوجود..
الآيات: (12- 15)[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ..
هو بيان للطرف المقابل للذين كفروا بربهم، والذين عرضتهم الآيات السابقة وعرضت أحوالهم، وما يلقون من هوان وعذاب يوم القيامة..
وكما أن فى الآخرة عذابا، فإن فيها رحمة ورضوانا، كما يقول سبحانه:
«وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (20: الحديد) ..
وإذا كان للذين كفروا بربهم، عذاب جهنم وبئس المصير، فإن للذين آمنوا، مغفرة وأجرا عظيما..
والذين يخشون ربهم بالغيب، هم الذين خافوا عذاب يوم القيامة، وخافوا لقاء ربهم، قبل هذا اليوم الغائب عنهم.. ثم إنهم هم الذين يخشون ربهم فى سرهم، كما يخشونه فى علانيتهم، حيث يشهدون سلطان الله قائما عليهم فى كل حال من أحوالهم. فهم لشهودهم هذا السلطان، لا يعصون الله، ولا يفعلون ما لا يرضاه، وهم لهذا مجزبّون من الله تعالى، بمغفرة ذنوبهم التي تقع منهم، وهم على خشية من الله، كما يقول سبحانه:«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (60: المؤمنون) ..
وإلى جانب غفران ذنوبهم يكون مضاعفة أجرهم لما يعملون من حسنات.. «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ..
قوله تعالى:
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» - هو بيان شارح، ودعوة إلى الإيمان بالغيب، الذي أشار إليه قوله تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ»
.. أي أن سبحانه وتعالى، عالم بما نحفى وما نعلن، مطلع على ما نعمل فى سر أو جهر.. وإذن فليكن سلطان
الله مشهودا لنا فى كل حال.. وأنه إذا كنا لا نجاهر بالمنكر أمام الناس، فكيف نجاهر بالمعاصي أمام الله؟ فليس فيما نفعل أو نقول، سرّ بالنسبة إلى الله سبحانه، بل كل أعمالنا وأقوالنا، هى جهر منّا بين يديه، على أية حال لنا.. «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (10: الرعد) .. فمن ترك المعاصي جهرا، ولم يتركها سرّا، فهو إنما يفعل ذلك خوفا من الناس، لا من خشية الله، وفى ذلك استخفاف بجلال الله، وسوء أدب مع الله..
قوله تعالى:
«أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ..
هو تقرير لما جاء فى قوله تعالى: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .. فإن علم الله سبحانه وتعالى بما نسرّ وما نجهر به من قول- أمر لا يصحّ أن ينكره أو يشك فيه عاقل.. فنحن صنعة الله.. من التراب، إلى النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى أن نصبح بشرا سويا.. وإذا كان ذلك شأن الله فينا- أفيخفى على الله بعد ذلك شىء من ظاهرنا، أو باطننا؟ أفيخفى على الصانع شىء من أسرار ما صنع؟ أيخفى على صانع آلة من الآلات البخارية، أو الكهربية، أىّ جزء من أجزائها.. دقّ، أو عظم؟ ألا يعلم السرّ فى كل حركة من حركاتها، أو سكنة من سكناتها؟ ألا يعلم لم تتحرك، ولم تسكن؟ ..
فإذا كان ذلك كذلك فيما يخلق المخلوقون، فكيف لا يكون هذا الربّ العالمين، وخالق المخلوقين؟ ..
فالاستفهام فى قوله تعالى: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» استفهام تقريرى..
وقوله تعالى: «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» صفتان من صفات الله تعالى»
تكشفان عن سعة علمه، ونفوذ هذا العلم إلى أعمق أعماق الوجود.. فهو علم «اللطيف» الذي لا يحجب عنه شىء «الخبير» الذي لا تخفى عليه حقيقة أي شىء..
قوله تعالى:
هو خطاب للناس جميعا، وإلفات لهم إلى فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، إذ خلقهم، وأقامهم على خلافة الأرض، وجعل الحياة فيها ذلولا لهم، أي مذللة، ميسرة لهم، بما أوجد فيها من أسباب الحياة، وأدوات العمل للعاملين فيها..
وقوله تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» - هو دعوة إلى العمل فى هذه الحياة، وإلى السعى فى الأرض، والضرب فى وجوهها المختلفة.. فالله سبحانه قد وضع بين أيدى الناس خيرات كثيرة ممدودة على بساط هذه الأرض، وعليهم هم أن يتحركوا فى كل وجه على هذا البساط، وأن يمدّوا أيديهم إلى كل شىء يقدرون عليه من هذا الخير، فإن هم لم يفعلوا، فقد بخسوا أنفسهم حقها من الحياة الكريمة على هذه الأرض، ونزلوا إلى درجة الحيوانات التي تأكل من حشائشها، وخسيس ثمارها..
ومناكب الأرض، هى أجزاؤها العليا فيها، أشبه بمنكبي الإنسان، وهما جانبا الكتفين.. وهذا يعنى أن يستدعى الإنسان قواه كلها، وأن يعمل فى الحياة عملا جادّا، يحشد له طاقانه الجسدية والعقلية، حتى يأخذ مكانا متمكنا من الأرض، يستطيع به أن يقهر قوى الطبيعة فيها، وأن يقودها بقوته، وأن يتحكم فيها بسلطانه.. فهذا هو مكان الإنسان الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده بين المخلوقات فيها.. إنه الخليفة على هذه الأرض، ومقام الخلافة يقتضيه