الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله- إشارة إلى شناعة البخل، وأنه يعدل الكفر، وهذا مثل قوله تعالى:
«إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» (33- 34:
الحاقة) .
الآيات: (19- 35)[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَاّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلَاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» .
الإنسان هنا، هو الإنسان الذي ضلّ عن سبيل الله، وكفر به، وبرسله وباليوم الآخر.
وجاء الحكم على الإنسان مطلقا، على التغليب، لأن أكثر الناس هم هذا
الإنسان الهلوع، كما يقول سبحانه:«وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وفى قوله تعالى: «خلق» - إشارة إلى أن هذا الذي عليه الإنسان من كفر وضلال، هو مما سبق به قضاء الله فيه، واقتضته مشيئته، كما يقول سبحانه:«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) ومع هذا القضاء السابق، والمشيئة الغالبة، فإن الإنسان مكلّف بأن يأخذ طريق الخير، ويتجه إلى جانب الأمن والسلامة من عذاب الله، لأنه لا يدرى ما قضاء الله فيه، ومشيئته له.. ولكن الذي يدريه ويقطع به، هو أن للنجاة طريقا، ينبغى أن يسلكه، وللهلاك طرقا يجب أن يتجنبها.. إنه يفرّق حتما بين النور والظلام.. وفى النور الهدى والسلامة، ومع الظلام الضلال والضياع.
فإذا آثر الظلام على النور، والضلال على الهدى، ولم يتحرك بإرادته للخلاص مما هو فيه، فقد لزمته الحجة، وحق عليه العقاب.
والهلوع: من الهلع، وهو الجزع الشديد.
وقوله تعالى:
«إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» هو بيان الهلع الذي هو طبيعة غالبة فى الإنسان.. فإن من شأن هذه الطبيعة التي تملّكها الهلع، أنه إذا مس الإنسان شر لم يصبر عليه، واستبد به الجزع، واستولى عليه اليأس.. لأنه لا يستند إلى قوة القوىّ العزيز، ولا يستعين بعون الرّحمن الرّحيم.. إنه فى دائرة مغلقة عليه مع هذا البلاء الذي نزل به، لا يرى لهذا البلاء دافعا، ولا يتوقع من وراء هذا الضيق فرجا.. أما المؤمن بالله، فإنه إذا مسّه الشر، وأصابه الضر، نظر إلى وجه ربه الكريم، وبسط يد الرجاء إليه،
يطمع فى رحمته، ويرجو كشف الضر عنه، فيجد فى هذا الرجاء متنفسا لكربه، وكشفا لضره.
هكذا المؤمنون بالله، لا يحزنهم هم نازل، ولا يكربهم بلاء مطبق، لأنهم فى ضمان من رحمة الله، وعلى رجاء من فضله.. «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» (83: 84: الأنبياء) إن المؤمن على يقين من أن له ربّا يشكو إليه، وأن ربه سميع الدعاء، واسع الرحمة:«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186: البقرة) .
إن المؤمن لا يأسى على شىء فاته من أمور الدنيا، ولا يجزع لشىء أصابه من همومها، إذ هو على يقين من أن ذلك بقضاء وقدر، وأنه بتقدير العزيز الحكيم، وأن ما قدره الله سبحانه، هو الخير، وإن رآه الإنسان شرا، كما يقول سبحانه:
«وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (216: البقرة) ويقول جل شأنه:
«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19: النساء) ..
وفى هذا كله عزاء للمؤمن عند كل مصيبة، ومواساة عند كل كرب.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى:«وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (155: 157: البقرة) .
أما الذي لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، فإنه قد خلّى بينه وبين مصيبته، يتجرع غصصها، ويمضغ جمرها، ويبيت على أشواكها، دون أن يجد للصبر طريقا، أو يرى للعزاء وجها..
هذا الإنسان الذي لا يؤمن بالله فى مواجهة الرزايا، وفى لقاء المصائب، هو طعام للجزع، ووقود لليأس والحسرة! أما فى حال العافية، والرخاء، وسعة الرزق، وفيض المال، فهو متسلط جبار، لا يرى لأحد شيئا مما ملك، بل إن هذا الملك الذي فى يده، يغريه بإذلال الناس، واستعبادهم، حتى يزداد علوا، ويزداد غيره نزولا، ففى ذلك متعة له، ورضا لنفسه، وهناءة لقلبه.. كما يقول سبحانه:«وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» .
إنه لا يرى أبدا أن هذا الذي بين يديه، هو وديعة عنده، يمكن أن تسترد يوما ممن أودعها إياه
…
وإنما يقوم تقديره على أن هذا الذي وقع له، هو من تدبيره، أو هو أمر لازم لذاتيته، ولما فيه من مزايا خاصة، أثمرت له هذا الثمر.. إنه يتصور أنه من عنصر كريم، لا يثمر إلا هذا الخير، الذي هو فيه، كما أن غيره من الفقراء والمساكين والضعفاء، هم من عنصر لا يجىء منه غير الفقر، والمسكنة والضعف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الكشف عن تفكير هذا الإنسان الضال المغرور بنفسه، إذ يقول سبحانه على لسانه:«وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي» (50: فصلت) أي هذا من طبيعة ذاتى، وخصّيصة وجودى.. أما الفقراء، وذوو الحاجة، فإنهم ليسوا أهلا لغير الفقر والحاجة، ولو كانوا يستحقون غير ما هم فيه، لما بخل الله عليهم به. «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» (47: يس) وقوله تعالى:
هو استثناء من قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» .
فالحكم العام على الإنسان، هو أنه هلوع جزوع، إذا مسه الشر.. منوع بخيل، إذا مسّه الخير.. ويستثنى من هذا الحكم العام أولئك الذين آمنوا بالله من بنى الإنسان، ثم امتثلوا شريعة هذا الإيمان، فأتوا ما أمرهم الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه..
والصلاة، هى الركن الأول من الأركان التي قام عليها الإيمان، ولهذا كانت أول صفة يتصف بها المؤمنون، لأنها هى الطريق الذي يصلهم بالله.
فإذا تركها المؤمن، انقطعت صلته بربه، إلى أن يعود إليها، وفى هذا يقول الله تعالى:(إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى)(14: طه) فالصلاة هى التي تذكّر بالله، وتصل العبد بربه، وتملأ قلبه خشية منه، وولاء له.
ثم تأتى الصفة الثانية التي يتصف بها المؤمن بعد الصلاة، وهى الزكاة، فيقول سبحانه:«وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» .. فإن من شأن من يؤمن بالله، ويداوم على الصلاة- من شأنه أن يذكر ربه، ويذكر أن ما فى يده، هو من رزق الله له، ومن إحسانه إليه، وهو بهذا لا يبخل بهذا المال، ولا يضن به على الإنفاق فى وجوه البرّ، لأن ما ينفقه هو مدّخر عند الله له، ثم هو فى الوقت نفسه، لا ينقص شيئا من رزقه المقدر له.. فما أنفقه فى وجوه الخير، هو صدقة زائدة، تصدّق الله سبحانه وتعالى بها عليه، لتكون طهرة له..
وما أمسكه فى يده، هو الرزق المقدر له..
والحق المعلوم فى أموال المؤمنين، هو الزكاة المفروضة عليهم..
والسائل: هو الذي يسأل عند الحاجة، والمحروم: هو المحتاج الذي لا يسأل، حياء وتعفّفا..
هذا وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين الصلاة والزكاة فى سبعة وعشرين موضعا من القرآن الكريم، كما التزم القرآن الكريم تقديم الصلاة على الزكاة فى كل موضع اجتمعتا فيه..
وفى هذا الجمع بين الصلاة والزكاة- إشارة إلى أنهما من باب واحد، فى باب الإيمان والإحسان! ..
ثم إن فى تقديم الصلاة على الزكاة، إشارة إلى أن الصلاة هى التي تخلق فى الإنسان العواطف والمشاعر التي تدعو إلى الرحمة، والعطف، والإحسان، فالزكاة ثمرة من ثمرات الصلاة.. والثمرة فرع من أصل، هو الشجرة! وقوله تعالى:
أي ومن صفات المؤمنين بالله، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، أنهم يصدقون بيوم الدّين، ويؤمنون بالبعث، والحساب والجزاء، فإنه بغير هذا التصديق بيوم الدين، لا يكمل إيمانهم بالله، ولا يقوم عندهم شعور واضح بهذا الإيمان، إذ أن الإيمان بالحساب والجزاء هو الذي يعطى الإيمان بالله، الواقع العملي لهذا الإيمان، بما يقدّم الإنسان من أعمال صالحة، وبما يتجنب من أعمال سيئة، إعدادا ليوم الحساب، واستعدادا للقاء الله فى هذا اليوم..
ولو أخلى الإيمان بالله، من الإيمان باليوم الآخر، لكان الإيمان بالله- إن وجد- مجرد فكرة ذهنية، لا يكاد يكون لها أثر فى سلوك الإنسان، ولا
حساب فيما يأتى وما يذر من الأعمال..
وسمّى يوم القيامة «يوم الدين» لأنه يوم الدينونة، ويوم الحساب، حيث يدان الإنسان، ويجازى بما عمل..
وأصله من الدّين، لأن لله سبحانه وتعالى دينا على كل مخلوق، بخلقه من عدم، ثم بما أودع فيه من قوى، ثم بما أفاء عليه من فضله وإحسانه.. ولهذا كان كل موجود مسبّحا بحمد الله، قضاء لبعض هذا الدين.. وقد وفىّ كل مخلوق دينه لخالقه، إذ لم ينحرف عن الطريق الذي أقامه الله سبحانه وتعالى عليه، ما عدا الإنسان: فإن أي إنسان مهما اجتهد فى طاعة الله، وتحرّى مواقع مرضاته، فإنه لا يسلم أبدا من عوارض التقصير.. ولهذا كان الناس جميعا واقعين تحت الدينونة..
والديان، صفة من صفات الحق جلّ وعلا، لأنه صاحب الفضل والإحسان على هذا الوجود.. يقول الشاعر:
لاه ابن عمّك لا أفضلت فى حسب
…
عنّى ولا أنت ديّاني فتخزونى
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» - إشارة إلى أن الخشية من عذاب الله، هى القوة العاملة فى توجيه الإنسان إلى الخير، وتجنبه للشر، أكثر من الطمع فى الجنة والرغبة فى نعيمها.. فمن طبيعة الإنسان أنه يحرص على أن يتوقىّ الشر، ويعمل له حسابا، أكثر من حرصه على تحصيل الخير والجدّ فيه.. ومن هنا كان من المبادئ العامة فى الشريعة الإسلامية:
«أنّ دفع المضار مقدم على جلب المنافع» فإن دفع الضرر، هو فى الوقت نفسه جلب لمنفعة، هى السلامة من هذا الضرر، والعافية من بلائه.. فدفع المضار
مقترن دائما بجلب المصالح والمنافع.. على خلاف ما يكون من جلب المنافع، فإنه قد تجلب المنفعة، ولا يكون معها دفع مضرة.. مثل جلب المال إلى المال بعد سدّ حاجة الإنسان. فإن جلب المال لدفع الحاجة، هو دفع لضرر وجلب لمصلحة معا، وجلب المال لغير سدّ حاجة، هو جلب لمنفعة، لا يصحبه دفع ضرر.. وشتان بين الأمرين.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) ..
فالزحزحة عن النار دفع لضرر، جلب معه مصلحة، وهو دخول الجنة..
أما من دخل الجنة ابتداء من غير أن يتحقق أنه زحزح عن النار، فإن شبح النار لا يزال مطلّا عليه، لأنه لم يعلم حقيقة أمره مع النار..
ولعل هذا هو السر فى قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» (71- 72:
مريم) .
وقوله تعالى: «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» ..
أي أن المؤمن- مع إيمانه بالله، وإقامته الصلاة. وإيتائه الزكاة، وتصديقه باليوم الآخر- كل ذلك لا يخلى نفسه من الشعور بالخوف من الله، والوقوع تحت طائلة عذابه.. فما أحد يدرى ما الله صانع به، وما أحد يدرى أهو من أهل الجنة أم من أهل النار، وإن كان- مع هذا- طريق قائم على الجنة، وأعمال تبلغ بالعاملين على هذا الطريق، إلى الجنة.. وطريق قائم على النار، وأعمال تسوق العاملين على هذا الطريق، إلى النار..
ثم الحكم بعد هذا كله إلى الله وحده، «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (31: الإنسان)