الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يقسم سبحانه وتعالى قسما آخر بالرياح، وهى تنشئ السحاب وتنشره:«وَالنَّاشِراتِ نَشْراً» ويعطف على هذه الرياح- صور مواليدها التي تولّدت عنها، من سحب متفرقة، ومن غيوث هاطلة:«فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» ..
وفى القسم بالرياح وآثارها، إلفات إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وإلى أن تلك القدرة التي سخرت هذه الرياح، وأودعت فيها ما أودعت من أرواح سارية، يستمد منها الأحياء حياتهم، ويلتقطون أنفاس الحياة منها، ثم لا تقف عند هذا بل تسوق إليهم مادة الحياة وقوامها، من هذا الماء الذي يتحلّب من السحاب المتولد عنها، والمنشّأ على يديها- هذه القدرة لا يعجزها أن تبعث الموتى من قبورهم، وأن تحشرهم يوم القيامة للحساب والجزاء:«إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ» .. فمن كذب بهذا الوعد استبعادا له، وإعجازا لأية قدرة أن تحققه- جاءه من عالم الرياح شهود عدول، يدينونه ويفضحون مدعياته الباطلة..
الآيات: (8- 15)[سورة المرسلات (77) : الآيات 8 الى 15]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
التفسير:
قوله تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» .
وإذ تقرّر أن يوم الفصل آت لا ريب فيه، وأن ما يوعد الناس به فى هذا اليوم واقع لا محالة- إذ تقرر هذا جاءت الآيات لتعرض صورا من مشاهد هذا اليوم، وما يقوم بين يديه من إرهاصات..
فمن إرهاصات هذا اليوم التي تتقدم وقوعه، أن تطمس النجوم، أو يذهب ضوءها، فلا تراها العيون على ما عهدتها عليه من قبل فى هذه الدنيا..
وأن تنشق السماء، فلا ترى سقفا مصمتا مغلقا كما تبدو للناظرين اليوم:
«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .. وأن تضيع معالم الجبال، فلا يرى لها على وجه الأرض ظل:«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» .. (105- 107: طه) وقد أشرنا فى غير موضع من تفسيرنا: «التفسير القرآنى للقرآن» «1» - إلى أن تغير هذه المعالم الكونية يوم القيامة- إنما هو نتيجة لتغير موقف الإنسان منها، وما يطرأ على حواسه المتلقية لها من تغير.. أما هذه المعالم فى ذاتها فهى باقية على ماهى عليه.. ومن إرهاصات يوم القيامة أن تؤقت الرسل، أي يؤجل بعثها إلى الناس، فلا يبعث فيهم رسول.. وهذا يعنى أننا منذ بعثة الرسول محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ونحن على مشارف هذا اليوم الموعود، إذ كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه- خاتم رسل الله، وأن لا نبى بعده.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» - وأشار-
(1) انظر مثلا، تفسيرنا لسورة «الطور» .
صلوات الله وسلامه عليه- بأصبعيه: السبابة والوسطى» .
ويجوز أن يكون المراد بالرسل هنا- والله أعلم- العقول الرشيدة، والفطر السليمة فى الناس، حيث أن مع كل إنسان رسولا إلى نفسه، هو عقله، وفطرته..
فإذا انتهى الأمر بالناس إلى أن تضل عقولهم جميعا عن الحق، وأن تزيغ قلوبهم جميعا عن الهدى، فلم يبق فيهم مؤمن بالله، قائم على شريعته- كان ذلك إيذانا بقرب يوم القيامة، وإرهاصا من إرهاصات وقوعه، ويكون معنى توقيت الرسل هنا، تعطل العقول عن عملها، ووقوع الخلل والفساد فى الطبيعة البشرية وتنكيسها فى الخلق.
ومما يشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، ماورد فى الآثار من تبدل أحوال الناس بين يدى نفخة الصور الأولى، وانتكاس طبيعتهم، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«بدأ الدين غريبا، وسيعود كما بدأ.. فطوبى للغرباء» وقوله تعالى:
«لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ» هو سؤال وارد على الخبر فى قوله تعالى: «وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ» - أي إلى أىّ يوم هذا التوقيت، أو التأجيل للرسل؟ فكان الجواب:
«لِيَوْمِ الْفَصْلِ» أي ليوم القيامة.. فهو غاية لتأجيل الرسل، وتعطيل عملهم..
والسؤال هنا هو: وهل إذا كان تأجيل الرسل أو تعطيل عملهم غايته هو يوم القيامة، فهل إذا جاء يوم القيامة ينتهى هذا التوقيت، ويعود الرسل إلى مكانهم فى الناس؟
والجواب: أن نعم وعلى كلا الرأيين الذين ذهبنا إليهما..
فإن رسل الله- صلوات الله وسلامه عليهم- سيظهرون مرة أخرى مع أقوامهم فى مشهد الحساب والجزاء، يشهدون على أقوامهم، وما كان منهم من استجابة لهم، أو خلاف عليهم، وتكذيب بهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ.. وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) وقوله سبحانه: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ. فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟» (109: المائدة) .
أما العقول التي ضاع رشادها، والقلوب التي عميت بصيرتها- فإنها تجىء يوم القيامة وقد انكشف الغطاء عنها، فترى الأمور رؤية كاشفة، وتعرف الحقّ واضحا مشرقا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) قوله تعالى:
«وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» يوم الفصل، هو يوم القيامة، الذي يفصل فيه سبحانه وتعالى بين الناس.
والاستفهام يراد به تهويل هذا اليوم، وما يقع فيه من أحداث، لا يمكن أن تتصورها الأوهام، ولا أن تحيط بها العقول.
وقوله تعالى:
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .. هو جواب الشرط «إذا» فى قوله تعالى:
«فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» وما عطف عليه.
والويل: هو الهلاك والبلاء المبين.. وهو وعيد للمكذبين بهذا اليوم، حيث لم يعدّوا أنفسهم له، ولم يعملوا حسابا للقائه.. «إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً» (27: النبأ)