الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حراستها، وتقليب الحطب المقدّم إليها من المكذبين والضالين، الذين يلقى بهم فيها، ليكونوا وقودا لها..
الآيات: (31- 56)[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 56]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ وَما هِيَ إِلَاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلَاّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَاّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلَاّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55)
وَما يَذْكُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
التفسير:
قوله تعالى:
فى هذه الآية بيان لما أحدثه قوله تعالى فى الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى:«عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» - من تعليقات هازئة ساخرة من المشركين..
فكان من سمرهم الذي يسمرون به، هو الحديث عن هؤلاء التسعة عشر الذين يقومون على حراسة جهنم، وكيف يمكنهم أن يمسكوا الناس فيها، والناس أعداد لا حصر لها؟ إن قريشا وحدها كفيلة بأن تكفّ بأس هؤلاء الجند، أيّا كان بأسهم وقوتهم.. بل إن بعض هؤلاء الساخرين منهم ليقول: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم الاثنين!! فجاء قوله تعالى:«وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» ليردّ على سخرية هؤلاء الساخرين، ويكبتهم بها. إن هؤلاء التسعة عشر ليسوا مجرد عدد، وإنما هم ملائكة.. وإنهم ليعرفون الملائكة، ويتخذون منهم أربابا يعبدونهم من دون الله.. فهل لهم بهذا الجند من جند الله يدان؟
وقوله تعالى: «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» أي ما ذكر الله عدة هؤلاء الجند، وحصرهم فى تسعة عشر، دون أن يبلغوا العشرين، مثلا، ليكونوا عددا كاملا- ما ذكرهم الله، وحصر عددهم فى هذا العدد، إلا ليمتحن بذلك إيمان المؤمنين، وضلال الضالين، وقد كشف هذا الامتحان عن فتنة المشركين الذين اتخذوا من هذا العدد سبيلا إلى التفكّه، والتندر، والاستهزاء..
وقوله تعالى: «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً» إشارة إلى أن أهل الكتاب قد وجدوا أن ما أخبر به القرآن عن عدة أصحاب النار، من الملائكة مطابق لما عندهم من كتب الله.. كما أن المؤمنين سيزدادون إيمانا بما جاءهم من عند الله مصدقا لما فى الكتب السابقة..
وفى التعبير بالاستيقان فى جانب أهل الكتاب، وبازدياد الإيمان فى جانب المؤمنين، مراعاة لمقتضى الحال فى كلّ من الفريقين.. فأهل الكتاب- والمقصود به من أهل الكتاب هنا، هم أولو العلم منهم، الذين سلموا من الهوى المضل، الذي أفسد على كثير من علمائهم دينهم- فأهل الكتاب هؤلاء، يبعث فيهم هذا الخبر الجديد الذي جاء به القرآن- يقينا بأن ما يتلقاه محمد، هو وحي من عند الله.. هذا إلى ما كان عندهم من علم، بهذا النبي، المبشر به فى كتبهم، والمبينة صفاته فيها..
وأما المؤمنون، فهم مؤمنون بصدق الرسول، من قبل نزول هذه الآيات، ومن بعد نزولها.. ولكنهم يزدادون إيمانا كلما تلقوا من آيات الله جديدا، يثبّت إيمانهم ويزيدهم قوة استبصار لمعالم الحق.. وهؤلاء المؤمنون، هم الذين آمنوا إيمانا خالصا من شوائب الشك والارتياب..
وقوله تعالى: «وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ» .
والذين أوتوا الكتاب هنا، هم مطلق اليهود والنصارى، وليس الذين
ذكروا من قبل، والذين هم خاصّة علماء أهل الكتاب.. وكذلك المؤمنون هنا، هم الذين لم يقع الإيمان بعد موقعا متمكنا من قلوبهم.. فهؤلاء وأولئك ليس من شأنهم أن يرتابوا بعد هذا الذي جاء فى آيات الله من أنباء الغيب عن عدة أصحاب النار، بعد أن تطابق هذا مع ما فى التوراة..
وقوله تعالى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» - الذين فى قلوبهم مرض هم المنحرفون من علماء أهل الكتاب، الذين غلبهم الهوى على كلمة الحق أن ينطقوا بها، والكافرون، هم المشركون الذين مازالوا على شركهم.. فهؤلاء، وهؤلاء، يتخذون من قوله تعالى:
«عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» - مادة للاستهزاء، والسخرية.. كأن يقولوا مثلا: ما هذه التسعة عشر؟ ولماذا لم تكن عشرين؟ «ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» وقد ردّ الله على تساؤلهم هذا بقوله سبحانه:
أي هذه الأمثال التي يضربها الله للناس، هى مضلة لبعض الناس، كما أنها هداية لبعضهم.. فمن نظر إليها بقلب مريض، وبصر زائغ، لم يروجه الخير والحق فيها، وارتد إلى الوراء مرتكسا فى متاهات الغواية والضلال.. ومن جاء إليها بقلب سليم، وعقل محرّر من الهوى- رأى الطريق القويم إلى الله، فسلكه، واستقام عليه.. وهذا مثل قوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» (26: البقرة) .
وقوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» هو ردّ على المستهزئين الساخرين، الذي اتخذوا من عدد التسعة عشر مادّة للاستهزاء والسخرية، حتى لقد بلغ بهم القول بأن الله لا يملك من الجند إلا هؤلاء التسعة عشر، ولو كان يملك أكثر منهم لجعلهم عشرين لا تسعة عشر.. وكذبوا وضلوا، فإن جنود الله لا حصر لها، ولا يعلم عددها إلّا هو سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: «وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» الضمير «هِيَ» يعود إلى «عدة» فى قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» ..
أي أن هذه العدة، هى موضع ذكرى، وعبرة الناس.. كما علم منها أهل الكتاب مطابقة ما جاء فى القرآن لما فى كتبهم، والتزام هذه الكتب جميعها هذا العدد، دون تبديل فيه، أو تحريف له، فيما حرّف أهل الكتاب وبدلوا، لأنه لا مصلحة لهم فى هذا التبديل، والتحريف.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى «سقر» فى قوله تعالى:«سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» ، ومع سقر الجنود القائمون عليها، وعدتهم تسعة عشر.. فسقر، والجنود القائمون عليها، هى ذكرى للبشر.
قوله تعالى:
«كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» .
«كلّا» هنا، نفى يحمل الرّدع والزجر، لأولئك الذين لم يجدوا فى تلك الآيات التي تحذرهم من النار، وتخوفهم من جنودها- لم يجدوا فى ذلك ذكرى وموعظة لهم.
وكلا، إنها ليست ذكرى للبشر، أي لمعظم البشر، إذ كان أكثر الناس على الضلال، وقليل منهم المهتدون، المؤمنون.
وقوله تعالى: «والقمر» قسم بالقمر.
وقوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» معطوفان على القمر، ومقسم بهما معه.. فهى ثلاثة أقسام، تجمع: القمر، والليل، والصبح.
وقد جاء القسم بالقمر مطلقا، دون ذكر حال من أحواله، أو صفة من صفاته.. إنه القمر، والقمر لا يسمى قمرا إلا مع تمامه وكماله..
وجاء القسم بالليل مقيدا بظرف خاص، وهو إدباره، وتولّيه.. على حين جاء القسم بالصبح حال إسفاره، وظهوره..
وقد فرّق النظم القرآنى المعجز بين الحالين، حال إدبار الليل، وحال إسفار الصبح.. إنها لحظة واحدة، يلتقى عندها إدبار الليل، وإسفار الصبح، وقد وزّع النظم القرآنى هذه اللحظة، فجعل بعضا منها يذهب مع الليل الذاهب، وبعضا منها، يتراءى خلف الصبح المقبل.. ولهذا جاء لفظ «إذ» مع إدبار الليل «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» .. وهذا يعنى الزمن الماضي من تلك اللحظة.. فلقد أدبر الليل، ومضى، وذهب سلطانه الذي كان قائما على تلك الرقعة المبسوط عليها من هذا العالم.. أما الصبح، فهو وليد جديد، يخطو خطواته نحو المستقبل، فهو زمن ممتدّ، ولهذا جاء الظرف المتلبس به بلفظ «إذا» التي تدل على الزمن المستقبل.. «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» !! ولعل سائلا يسأل هنا:
وماذا وراء الجمع بين هذه الأقسام الثلاثة: القمر، والليل المدبر، والصبح المسفر؟ إن القرآن الكريم لا يجمع بين هذه العوالم إلّا وهو يشير من هذا الجمع إلى ملحظ، فيه عبرة، وعظة- فماذا يكون هذا الملحظ؟!
نقول- والله أعلم- إن القسم بالقمر، والليل المدبر، والصبح المسفر، هو إشارة إلى مبعث النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وإلى ما بين يدى مبعثه وما خلفه، من مجريات الأحداث، التي تطل على الناس..
فالقمر- والله أعلم- هو إشارة إلى الرسالات السماوية التي سبقت عصر النبوّة.. فقد كانت تلك الرسالات هى النور، الذي يشعّ فى وسط هذا الظلام المخيم على العالم، وأن نور هذا القمر لا يمنح الناس رؤية كاشفة، وإن أراهم مواقع أقدامهم. وألقى فى قلوبهم شيئا من الطمأنينة والأنس، ثم إنه لا يلبس أن يختفى، ويتحول عن الناس..
وإسفار الصبح هو إيذان بمبعث النبي، وأنه الشمس التي ستشرق على هذا الوجود، وأن أضواء شمس النبوة قد أزاحت ظلمة الليل عن هذا الوجود، وأنه سرعان ما تطلع الشمس فتملا الوجود ضياء، وتكسو العالم حلّة من بهاء وجلال، حيث تنكشف حقائق الأشياء، وتسفر عن وجهها لكل ذى بصر يبصر، ومن شمس النبوة المحمدية استمدّت الرسالات السابقة نورها من ضوء هذه الشمس، قبل أن يستقبل الوجود مطلع هذه الشمس، فلما طلعت محت بضوئها آية القمر، وكان على من يريدون أن يسيروا على هدى ونور أن يستقبلوا هذا النور، وأن يملئوا أعينهم به.
قوله تعالى:
«إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ» .
الضمير فى إنها يعود إلى «سقر» .. وهى إحدى منازل الكافرين والضالين يوم القيامة.. فإن جهنم- أعاذنا الله منها- لها سبعة أبواب، ولكل باب أهله الذين يدخلون منه إلى النار المعدة لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (43- 44: الحجر) .
وقوله تعالى: «نَذِيراً لِلْبَشَرِ» تمييز لإحدى الكبر، أي أن سقر هى إحدى الكبر من جهة الإنذار والتخويف بها.. أي أنها من الآيات الكبرى، التي من شأنها أن تهز النفوس من أقطارها، وأن تبعث فى القلوب الخشية والفزع من لقاء هذه الأهوال التي تطلع بها جهنم على أهلها، وفى هذا أبلغ نذير لمن يبصر النذر وينتفع بها..
قوله تعالى:
«لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» ..
هذا بدل من قوله تعالى «للبشر» أي أن سقر هى نذير لمن شاء أن يتقدم فيؤمن بالله، ويمضى على طريق الحق والهدى، كما أنها نذير لمن شاء أن يتأخر فيرتد على عقبه، ويغيب فى متاهات الكفر والضلال..
قوله تعالى:
«كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ..»
أي كل نفس مرتهنة بما كسبت، مأخوذة بما عملت، مجزية بالخير خيرا، وبالسوء سوءا..
قوله تعالى:
«إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» هو مستثنى من قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» .. فهذا حكم عام على الناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين، حيث ترتهن كل نفس بما عملت، ثم يعود الله سبحانه وتعالى يفضله على المؤمنين، أصحاب اليمين، فيدخلهم الجنة.. ولو أن دخول الجنة كان مرتهنا بالأعمال، لما دخل أحد الجنة
ولكن الإيمان بالله، والأعمال الطيبة فى ظلّ الإيمان، من شأنه أن يجعل المؤمن أهلا لإحسان الله إليه، ودعوته إلى الجنة، يتبوأ منها حيث يشاء..
وفى الحديث: «لا يدخل أحد الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟.
قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» ..
وقوله تعالى: «فِي جَنَّاتٍ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هم فى جنات.
وقوله تعالى: «يَتَساءَلُونَ» حال من أحوال المؤمنين فى الجنة.
وقوله تعالى: «عَنِ الْمُجْرِمِينَ» تتعلق بقوله تعالى: «يتساءلون» أي أن تساؤلهم فى تلك الحال هو تساؤل عن المجرمين، أهل النار.
وقوله تعالى: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» هو مما تساءل به أهل الجنة، عن أهل النار، حيث اطلعوا عليهم، فسألوهم:«ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» ؟ أي ما نظم جمعكم فيها، وشدكم إليها، كما يشد الخرز في سلكه؟.
وأهل النار، وأهل الجنة، يرى بعضهم بعضا، ويحادث بعضهم بعضا..
أصحاب النار.. يصرخون، ويصرخون، وأصحاب الجنة يحمدون الله أن عافاهم من هذا البلاء الذي يرون كثيرا من أهلهم، وعشيرهم، وصديقهم، بتقلبون على جمره..
وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه:
قوله تعالى:
هذا هو الجواب الذي أجاب به أصحاب النار أصحاب الجنة عن تساؤلهم عنهم: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» ؟
إن الذي سلكهم فى سقر، هو أنهم لم يكونوا من المصلين، أي لم يكونوا مؤمنين، لأنهم لو كانوا مؤمنين، لكانوا من المصلين
…
وأنهم لم يكونوا يؤدون حق عباد الله فيما خولهم الله من نعم، فلم يطعموا المساكين، ولم يخرجوا زكاة أموالهم، التي منها يطعم المسكين.. وأنهم يخوضون مع الخائضين، فلم يتأثّموا من منكر، ولم يتحرجوا من فاحشة.
بل كانوا مع كل جماعة ضالة، وعلى كل مورد آثم.. وأنهم كانوا يكذبون بيوم الدين، أي يوم القيامة، فلم يؤمنوا بالبعث، والحساب، والجزاء..
هذا، وليس من اللازم أن تكون هذه المآثم جميعها مجتمعة فى كل واحد منهم.. فقد يكون فى أهل النار من تجتمع فيه هذه المآثم كلها، وقد يكون فيهم من تلبسّ بمأثم منها، فيدخل النار.. وعلى هذا يمكن أن تكون إجاباتهم تلك مشاعة فيما بينهم، كما يمكن أن يكون لكل أهل مأثم جوابهم الذي كشفوا به عن دخولهم النار بسببه..
وعلى أىّ فإن أىّ مأتم من تلك المآثم يخرج صاحبه من عداد المؤمنين، وبضيفه إلى جماعة المجرمين.. والمجرم، هو الكافر، كما يقول سبحانه:
«إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» (74: طه) ..
قوله تعالى:
«حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» - إشارة إلى أنهم ظلموا متلبسين فى حياتهم بهذه المآتم حتى أتاهم اليقين، وهو الموت، فماتوا على ما هم عليه من ضلال..
فلم تختم أعمالهم بالتوبة والعمل الصالح..
وسمّى الموت يقينا، لأنه عند الموت يعاين المحتضر حقيقة ما كان يكذب به، من أمور الحياة الآخرة.. ومنه قوله تعالى:«وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» (99: الحجر) ..
روى أن أم العلاء الأنصارية، قالت:«لمّا قدم المهاجرون المدينة، اقترعت الأنصار على سكناهم، فصار لنا من المهاجرين، «عثمان بن مظعون» فى السكنى، فمرض، ثم توفّى، فجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل، فقلت:«رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتى أن قد أكرمك الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» فقلت: لا، والله ما أدرى!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، وإنى لأرجو له الخير، والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم» ! فقول الرسول الكريم: «أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، يشير إلى أن عثمان بن مظعون، هو الذي يعرف المصير الذي صار إليه، بعد أن مات، وكشف عن عينيه الغطاء.. فالموت هو الذي جاء بالخبر اليقين، ولهذا
سمى الموت باليقين، لأنه يرد بالإنسان مورد الحق..
قوله تعالى:
«فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. هو تعقيب على ما ذكر المجرمون من جرائمهم التي ألقت بهم فى جهنم.. وهذا التعقيب هو من أصحاب الجنة الذين سألوهم، وتلقوا منهم جواب ما سألوا عنه، فكان تعقيبهم على هذا بقولهم:
«فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. فتكون الفاء هنا واقعة فى جواب شرط محذوف تقديره: «وإذن فهم كافرون، وإذن «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. لأن الكافرين لا شفيع لهم، على حين أن عصاة المؤمنين يشفع لهم من الملائكة، والنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، ممن رضى الله عنهم، وارتضى شفاعتهم فيمن يشفعون لهم.
قوله تعالى:
«فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟» .
استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين إعراضهم عن التذكرة، وهو القرآن الكريم، الذي يذكرهم بالله، ويكشف لهم الطريق إليه.
وقوله تعالى: «معرضين» حال من الضمير فى «لهم» ..
وهذا الاستفهام فى مقام غير المقام الذي كان فيه هؤلاء الكافرون فى جهنم..
إنهم هنا فى الدنيا- بعد أن عرضوا على جهنم، وجاءهم الخبر
اليقين هناك بأن لا شفيع لهم من عذابها.. فإذا أعيدوا إلى الدنيا بعد هذه الرحلة الجهنمية لقيهم هذا السؤال: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» ؟ أي إذا كان هذا هو مصير الكافرين.. فما لهم- وهم الآن فى فسحة من أمرهم- يعرضون عن آيات الله التي تفتح له باب النجاة من هذا الكرب العظيم؟.
«كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .
حال من أحوالهم فى إعراضهم عن القرآن، ونفورهم منه.. إنهم ما إن يسمعون آيات الله تتلى، حتى يفزعوا وينفروا كما تنفر الحمر، وقد اشتمل عليها الذعر، حين رأت قسورة أي أسدا، مقبلا عليها.. وسمى الأسد قسورة، أخذا من القسر، والقسوة..
وفى تشبيههم بالحمر المستنفرة من بين سائر الحيوانات التي إذا رأت الأسد فرت من وجهه- لأن الحمار يمثل الغباء والبلادة من بين سائر الحيوان، وبه يضرب المثل فى هذا، كما يقول سبحانه:«كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» (5: الجمعة) .
وفى إسناد الاستنفار إلى تلك الحمر فى قوله تعالى: «مستنفرة» بدلا من أن يسند الاستنفار إلى من استنفرها، فيقال:«مستنفرة» - فى هذا إشارة إلى أن ذلك طبيعة غالبة عليها، وأن من شأنها النفور دائما، دون أن يكون هناك سبب لنفارها.. إنها ذات طبيعة وحشية، لا تأنس فى ظلّ من سكينة أبدا..
وفى وصف الحمر بأنها «مستنفرة» بدلا من «نافرة» - إشارة أخرى إلى أنها تستدعى هذه الطبيعة الكامنة منها، وتهيجها وتحركها من غير سبب يدعو إليها، كما أن بعض هذه الحمر يستدعى بعضا إلى هذا النفور، فتمضى فى طريقها عليه، من غير دافع إلا هذا التقليد الأعمى.
وهذه حال تمثل أهل الضلال أصدق تمثيل، إنهم وهذه الحمر المستنفرة على سواء.. ففى طبيعتهم نفور ملازم كل دعوة إلى خير، وهم دائما يتبعون أول ناعق يدعوهم إلى النفور من وجه الحق..
وشبه القرآن بالقسورة، لما للقسورة من هيبة، تملأ القلوب، وتملك المشاعر.. ثم هو إلى مهابته وسطوته، بعيد عن الدنايا، عف عن القذر لا يأكل الميتة، ولو مات جوعا..!
ولم يسمّ القرآن الأسد أسدا، وإنما سماه «قسورة» ، ليكسوه بهذا الاسم ذى الجرس الموسيقى القوى هيبة إلى هيبة، وعظمة، إلى عظمة، الأمر الذي لا يحققه لفظ أسد، الضامر، المبتذل على الأفواه لكثرة تردده.
قوله تعالى:
«بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» ..
هو إضراب عن دعوتهم إلى ترك الإعراض عن القرآن، حتى يكون لهم منه ذكر وموعظة..
وكلّا فإنهم لا يستجيبون لهذه الدعوة، لأن كلّا منهم يريد أن يكون له كتاب من عند الله، كهذا الكتاب الذي يدعوهم إليه رسول الله..
وهذا ما يشير إليه سبحانه فى قوله على لسانهم: «وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» (134: الأنعام) .. وهذا جهل وغباء لا يستقيم إلا على منطق الحمر! قوله تعالى:
«كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» .
أي أنهم لن يؤتوا هذه الصحف أبدا.. وأنهم لا يؤمنون بالآخرة أبدا،
ولا يخافون عذابها، ولا يعملون على توقّى هذا العذاب..
وهؤلاء هم المشركون الذين ماتوا على الشرك، ولم يقبلوا دعوة الإسلام، وهذا هو حكم الله عليهم، وقضاؤه فيهم.
قوله تعالى:
«كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ» ..
الضمير فى «إنه» القرآن الكريم، الذي أشارت إليه الآية السابقة:
«فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» .. وإنه ليس عن شأن هذه التذكرة أن تحمل هؤلاء المشركين حملا على الخوف من عذاب الآخرة.. وليس القرآن إلا تذكرة، للغافلين، وتنبيها للشاردين..
قوله تعالى:
«فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» أي فمن شاء ذكر ربه بهذا القرآن.. إنه أمر مردّد إلى الإنسان نفسه، وإلى إقباله على ذكر الله، أو إعراضه عنه.. ولو كان الأمر على سبيل القهر والإلزام لما كان ثمّة امتحان وابتلاء تنكشف به أحوال الناس، وتختلف فيه منازلهم، ولكانوا جميعا على منزلة سواء.
قوله تعالى:
«وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» .
هو دفع لما قد يقع من مفهوم خاطئ لقوله تعالى: «فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» حيث أطلق مشيئة الإنسان.. ومشيئة الإنسان ليست مطلقة، بل هى مقيدة بمشيئة الله..
ونعم.. الإنسان له مشيئة يجدها فى كيانه، وفيما يأخذ أو يدع من أمور، وفيما يقبل أو يرفض من أعمال.. ومع هذا، فإن تلك المشيئة مرتهنة بمشيئة الله،
مقيدة بها، جارية مع القدر الذي أرادته مشيئة الله.. فهى مشيئة مطلقة فى داخل الإنسان، مقيدة من خارج بالمشيئة الإلهية العامة الشاملة..
وقوله تعالى: «هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» - أي هو سبحانه أهل لأن تتّقى محارمه، ويخشى عقابه، وهو سبحانه أهل المغفرة، يرجى عنده غفران الذنوب، لمن أناب إليه، وطلب الغفران منه.. وفى هذا إشارة إلى أن مشيئة الله العامة المطلقة، عادلة، رحيمة، منزهة عن الجور والتسلط.. إنها مشيئة الخالق فى خلقه. فالخلق فى ضمان هذه المشيئة، فى رحمة الله، أيّا كانت مشيئة الله فيهم.. والله سبحانه وتعالى يقول:«وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» (251: البقرة) . ويقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (143: البقرة) وفى الحديث: «لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» .