الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج التفسير عند الراسخين من المفسرين وأئمة العلم من الصحابة والتابعين
أما بعد: الحمد لله الذي تفضل على عباده فعرفهم غاية الخلق وطرق النجاة وسبل السلام، فبعث للناس رسلًا يبلغون عنه معنى الأمن في الدنيا والآخرة وزوّدهم لأجل ذلكَ بالحُجَج والبيان، ثم ختم فيهمَ سبحانه الرسالة والنبوة بإمام وقائد الأمم محمد عليه الصلاة والسلام، وجعل أمته أمة القيادة في الأرض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتقود الأمم إلى شاطئ النجاة والأمان، وحفظ اللهُ قرآنهُ وعلومهُ وتفسيره وكذلك هدي نبيّهِ بقادة وعلماء من ذرية هذه الأمة وبأئمةٍ كرام، فكانوا سَيْفًا مسلطًا على أعداء الأمة المحاولين العبث بالدين والتطاول والادعاء في تأويله في كل زمان، فقد قال الله جل ثناؤه في سورة آل عمران:{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 1 - 8].
فعَنْ ابن عباس رضي الله عنه قال: (أما الآيات المحكمات فهن الناسخات التي يعمل بهن، وأما المتشابهات فهن المنسوخات). وقيل: المحكم ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهًا.
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال محمد بن جعفر بن الزبير: (أي ميل عن الهدى). وقال مجاهد: (أي شك). {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} قال ابن عباس: (فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبِّسون فلبَّسَ الله عليهم). وقوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} قال مجاهد: (الشبهات بها أهلكوا). {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ليناسب أهواءهم
وما ذهبوا إليه. وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . قيل: قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} تمَّ ثم تستأنف بما بعده {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يقولون آمنا بالمحكم والمتشابه كل من عند الله. وقيل: بل الراسخون يعلمون تأويله ومع علمهم يقولون آمنا به.
فقد رُوي عن ابن عباس قوله: (أنا ممن يعلم تأويله).
وروسوخ الشيء في الشيء ثبوته وولوجه فيه، كذا في لغة العرب، فكان منهجُ الراسخين في العلم في الأمة رد المتشابه إلى المحكم، وليس ضرب الآيات بعضها ببعض من غير علم، كما يقعل أهل الأهواء اليوم أو غير الراسخين من طلبة العلم.
يروي الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وضي اللهُ عَنْهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يكون في آخر الزمانِ دجّالون كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإيّاهم، لا يُضِلّونَكُم ولا يفتنونكم](1).
فحذَّر صلوات الله وسلامه عليه من ظهور دعاة الخرافة والتفسير بالضلال والجهل القاصم، دون رسوخ في العلم وبقواعده وأصوله ذات الأسس والأركان والدعائم. فقد أخرج الإمامُ أحمد في المسند المسند صحيح عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [هلاك أمتي في الكتاب واللّبن، قالوا: يا رسول الله ما الكتاب واللبن؟ قال: يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله عز وجل، ويحبون اللَّبن فيدعون الجماعات والجمعَ، ويبدون](2). أى يذهبون إلى البادية والمراعي من أجل اللبن، كناية عن اهتمامهم بالدنيا أكثر من أمر الله والآخرة.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (ولا نجادل في القرآن ونعلم أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وكلام الله تعالى لا يساويهِ شيء من كلام المخلوقين)(3).
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [سمعت رجلًا قرأ آية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1/ 9)، و"مشكل الآثار"(4/ 104)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم- (8007).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 155)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2778).
(3)
متن "العقيدة الطحاوية"، فقرة (56).
فذكرت ذلك لهُ فعرفت في وجهه الكراهة وقال: كلاكما محسن، لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا] (1).
فلا نجادل في القرآن بإلقاء الشبهات كما يفعل أهل الزيغ ليدحضوا الحق، بل لا بد من التكلم بعلم ورسوخ عند مدارسته ومحاولة فهمه، وكذلكَ لا نجادل في القراءة الثابتة بل نقرؤه كما ثبت وصح، وقيل إن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا، لذا فترتيب مصحف عبد الله غير الترتيب العثماني، أما ترتيب آيات السور فمنصوص عليه.
وقد بلغ الأمر أن يفسر للأمة اليوم قرآنها، متطرف له غاية أو مصلحة، أو معاصر لم يُتّهم يومًا بالعلم أو الصلاح، بل ماضيه ملطّخ بالفساد والجهل والتخبط والسفاح. فقد أخرج الإمام أحمد في المسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:[لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أحب أن لي به حُمْرَ النَّعَمِ، أقبلت أنا وأخي وإذا مَشْيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرةً، إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغْضبًا قد احمرّ وجهُهُ يرميهم بالتُراب ويقول: مَهْلًا يا قوم بهذا أُهْلِكَت الأمَمُ من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهمُ الكتبَ بعضها ببعض، إن القرآن لَمْ يَنْزِل يُكَذِّبُ بعضُه بعضًا، بل يُصَدّقُ بعضه بعضًا، فما عرفتم منهُ فاعملوا بهِ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه](2).
واللهُ جل ثناؤه قد حرم على الأمة القول بغير علم. فقال في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وقال في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وقال في سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح- حديث رقم- (2410) - كتاب الخصومات- وانظر كذلك الأحاديث (3476)، (5062).
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 181) ح (6663)، وإسناده حسن، للاختلاف المعروف في عمرو عن آبائه.