المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ١

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن المؤلف

- ‌المقدمة

- ‌أئمة التفسير من الصحابة ومدارسهم وتراجمهم

- ‌أولًا: المدرسة المكية:

- ‌1 - عبد الله بن عباس:

- ‌2 - سعيد بن جبير:

- ‌3 - مجاهد بن جبر:

- ‌4 - عكرمة مولى ابن عباس:

- ‌6 - عطاء بن أبي رباح:

- ‌ثانيًا: المدرسة المدنية:

- ‌1 - أبي بن كعب:

- ‌2 - زيد بن أسلم:

- ‌3 - أبو العالية الرياحي:

- ‌4 - محمد بن كعب القرظي:

- ‌ثالثًا: المدرسة العراقية:

- ‌1 - عبد الله بن مسعود:

- ‌2 - مسروق بن الأجدع:

- ‌3 - الحسن البصري:

- ‌4 - قتادة بن دعامة:

- ‌5 - عطاء الخراساني:

- ‌6 - مُرّة الهمذاني:

- ‌تراجم بقية المكثرين من التفسير

- ‌1 - كعب الأحبار:

- ‌2 - وهب بن منبه:

- ‌3 - مقاتل بن سليمان:

- ‌4 - الضحاك بن مزاحم:

- ‌3 - الكَلبي:

- ‌6 - جويبر بن سعيد:

- ‌7 - السدي الكبير:

- ‌8 - السدي الصغير:

- ‌9 - النقاش:

- ‌10 - الثعلبي:

- ‌11 - الواحدي:

- ‌أنواع التفاسير

- ‌1 - التفاسير اللغوية:

- ‌2 - التفاسير العقلية والفلسفية:

- ‌3 - التفاسير الفقهية:

- ‌4 - تفاسير المبتدعة:

- ‌5 - التفاسير التاريخية:

- ‌6 - التفاسير بالمأثور:

- ‌منهج التفسير عند الراسخين من المفسرين وأئمة العلم من الصحابة والتابعين

- ‌أولًا: تفسير النص بالنص:

- ‌ثانيًا: تفسير القرآن بالحديث:

- ‌رابعًا: التفسير برد المتشابه إلى المحكم:

- ‌خامسًا: التفسير بأقوال الصحابة ومن سمع منهم من التابعين:

- ‌سادسًا: التفسير بمعرفة الناسخ والمنسوخ:

- ‌سابعًا: التفسير بالسياق والسباق:

- ‌ثامنًا: التفسير باللغة العربية:

- ‌خصائص القرآن الكريم وفضائله

- ‌من صفاته:

- ‌1 - إنه يأتي يوم القيامة شافعًا لأهله يحاج عن صاحبه

- ‌2 - القرآن شديد التفلّت فلا بد من تعاهده

- ‌3 - القرآنُ خير ما تُغني به وحُسِّنَ له الصوت

- ‌4 - القرآن خير ما تعلَّم المسلم وعلَّم، وأجر ذلك أعلى الأجور

- ‌5 - القرآنُ مصدر الثروة في الأجر، ويرفع الله به ذكر القائم به العامل بمنهاجه

- ‌6 - القرآن سبب القوة في حياة المسلمين

- ‌7 - نزول القرآن على سبعة أحرف رحمة بجميع المسلمين

- ‌8 - تكريم الله تعالى والدي صاحب القرآن يوم القيامة بتعليم ولدهما القرآن

- ‌1 - سورة الفاتحة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌تفسير الاستعاذة وحكمها

- ‌حكم الاستعاذة:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌2 - سورة البقرة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكًا يفوح ريحه في كل مكان، ومَثَلُ مَنْ تعلَّمَهُ فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أُوكِي على مِسْك] (1). أوكي: أي ربط.

وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} قال: (هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس).

‌موضوع السورة

بيان صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، وقصة البقرة وذم الفلسفة والتنطع في الدين، وتفصيل بديع لشرائع وأحكام هذا الدين.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

تعظيم كتاب الله تعالى، فكله هدى، وهو نور للمتقين.

2 -

الإيمان بالغيب أول صفات المؤمنين، ثم يتبعه إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

3 -

وجوب الإيمان بالكتب السماوية جميعها وبمن نزلت عليهم.

4 -

ذكر جزاء الكفار والمنافقين وصفاتهم، بعد ذكر صفات المؤمنين وفلاحهم.

5 -

المنافقون أصحاب وجهين: يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

6 -

التهاون بإدخال مرض النفاق إلى القلب يزيد الله قلب صاحبه مرضًا.

7 -

المنافق يراوغ ويتستر ويدعي الإصلاح إذا نهيته عن نفاقه.

8 -

المنافقون يدّعون الإيمان عند المؤمنين، ويعتذرون لرؤسائهم بأنهم يسخرون.

9 -

المنافقون ربحوا الخسارة، إذ اشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى.

10 -

المنافقون يعرفون الحق، ويرتكسون في الكفر متحيرين.

11 -

يا أيها الناس: إن الذي خلقكم ورزقكم هو المستحق للإفراد بالعبادة والتعظيم.

12 -

تحدي الله الثقلين، أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فإن عجزوا فليحذروا نار الجحيم التي أعدت للكافرين.

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (2876)، وابن ماجة (217)، وصححه ابن حبان (2126)، وابن خزيمة (1509)، وحسنه الترمذي.

ص: 82

13 -

بشارة الله تعالى للمؤمنين العاملين، بالجنة وما فيها من النعيم المقيم.

14 -

البعوضة خلقها الله ووظائفها، وهو لا يستنكف أن يضرب المثل بها.

15 -

الأرض خلقها الله ومهدّها، ثم خلق السماوات السبع بأرجائها، واستوى على العرش فوقها.

16 -

مفهوم الخلافة والاستخلاف في الأرض.

17 -

فهم الملائكة أن بعض ذرية آدم ستفسد في الأرض وتسفك الدماء، وتعليم الله تعالى آدم أسماء الأشياء.

18 -

أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم، فسجدوا جميعًا إلا إبليس استكبر فأثم.

19 -

خَلْقُ الله حواء من آدم، ونَهْيُهما عن الأكل من شجرة معينة في الجنة، وضعفهما أمام غواية إبليس، وأمر الله لهم بالهبوط إلى الأرض.

20 -

توسُّل آدم إلى الله بالاعتراف بالذنب، وطلب المغفرة، وعفو الله عنه.

21 -

إخبار الله تعالى أنه سيبعث الأنبياء وينزل الكتب، فمن اتبع الرسل أصاب ونجا، ومن خالفهم ضل وهلك.

22 -

تذكير الله بني إسرائيل بنعمه عليهم، وحثّه لهم على التمسك بالحق وعدم لبسه بالباطل، وألا يقولوا ما لا يفعلون.

23 -

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة من أكبر العون في الثبات على الأمر.

24 -

لا شفاعة ولا فدية للكافرين في دار القرار، ولا نجاة لهم من بأس الله وعذاب النار.

25 -

امتنان الله على اليهود بإنجائهم من إذلال فرعون لهم، ثم بعفوه عنهم بعد عبادتهم العجل، وتوبتهم بقتل بعضهم بعضًا، ثم بتفضله عليهم أثناء التيه بالمن والسلوى.

26 -

تبديل اليهود شكر نعم الله عليهم بالاستهزاء، ليستحقوا بذلك الرجز والعذاب والبلاء.

27 -

ما آمن بنو إسرائيل حتى كاد الجبل يسقط عليهم، والعاصون مسخوا قردة وخنازير.

28 -

تشديد بني إسرائيل على أنفسهم حتى شدّد الله عليهم، وأداهم عنادهم وجدلهم لشراء بقرة بملءِ جلدها ذهبًا.

ص: 83

29 -

إحياء القتيل ببعض أجزاء البقرة تنبيه وحجة لله على المعاد.

30 -

الحجارة ألين من قلوب بني إسرائيل لتكذيبهم بالحق بعد رؤيته.

31 -

استحقاق اليهود اللعن من الله نتيجةَ تحريف الحكم عن مواضعه وهم يعلمون، وقد كانوا يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيحدثون عنه العرب، فلما أظهره الله من العرب جحدوه وكذبوه.

32 -

زَعْمُ اليهود أن النار لا تمسهم إلا مدة عبادتهم العجل، وإعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم، ثم نقضه ابتغاء عرض الدنيا.

33 -

تَعامُل اليهود مع أنبيائهم بالتكذيب والقتل، فقلوبهم غلف قد طبعت على الكفر، فلقد حرفوا التوراة وكفروا بمحمد، وباؤوا بغضب على غضب، والقرآن يتحدى ادعاءهم الإيمان، بقتلهم الأنبياء والصالحين وأهل العلم والإحسان.

34 -

اليهود كتموا ما في التوراة من البشارة ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، بل تركوا التوراة وأقبلوا على تعلم السحر واتهموا به سليمان عليه السلام، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر، ويفرقون بين المرء وزوجه، وما أنزل الله السحر على الملكين وحاشا لله أن يأمر الملكين بتعليم الناس السحر.

35 -

الأمرُ بالعفو والصفح أول الأمر، وذمّ قريش بمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.

36 -

نسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة، والأمر باستقبال الكعبة.

37 -

تشابه قلوب المشركين وأهل الكتاب بسؤالهم ما لا حاجة لهم به.

38 -

الثناء على إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأنه كان حنيفًا مسلمًا، لا يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وأمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت من الشرك والأصنام، وذكر قصة هاجر وابنها إسماعيل.

39 -

تعليم جبرائيل إبراهيم عليهما السلام مناسك الحج جميعًا.

40 -

الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان، واليهود كتموا شهادة التوراة بنبوةِ محمد وأن الدين عند الله الإسلام.

41 -

الثناء على أمة محمد أمته الوسط في العالمين، وهي أمة الشهادة على الناس يوم الدين.

42 -

الأمر باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض في الصلاة.

ص: 84

43 -

تكاتم علماء أهل الكتاب علمهم بصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته.

44 -

أَمْرُ الله المؤمنين بمقابلة نعمته عليهم بالإسلام، بالشكر له والطاعة والإحسان، والثناء على المسترجعين عند حلول المصائب والآلام.

45 -

تأكيد ركنية السعي بين الصفا والمروة في الحج.

46 -

كتم أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم جوزوا به لعن كل لاعن.

47 -

المخلوقات تدل على الخالق، والمُنْعم المتفضل هو المستحق للشكر والعبادة، والأكل الحلال سبب لتقبل الدعاء، وكَتْمُ الحق يُعَرِّضُ صاحبه لأقسى البلاء، والمتقون هم الموفون بعهد الله إليهم، والبر صفة لأهل الإيمان والتصدق بأحب المال لديهم.

48 -

أمْرُ الله تعالى بالعدل في القصاص: النفس بالنفس والعين بالعين.

49 -

تشريع الوصية، والتحذير من تبديلها، ورفع الجنف ليس تبديلًا.

50 -

تشريع صيام شهر رمضان، شهر نزول القرآن، والمقيم يصومُ، والمسافر والمريض يفطران، ودين الله يسر، ولا يجب التتابع في قضاء صيام المعذور، والله تعالى قريب يجيب الدعاء.

51 -

إباحة الطعام والشراب والجماع في الليل إلى الفجر في شهر رمضان. وتشريع الاعتكاف في المسجد وذكر أحكامه وآدابه.

52 -

للحاكم الاجتهاد في الحكم وفق قواعد الشريعة وله أجره، وعلى المحتال وزره.

53 -

دخول العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وعلى المتمتع الهدي، وتشريع الفدية لحلق الرأس من الأذى، وحج التمتع إنما هو للآفاقيين لا لأهل الحرم، والحج لا رفث فيهِ ولا فسوق ولا جدال، وخير الزاد التقوى.

54 -

الرخصة في التعجّل في الحج، والإفاضة من عرفات إنما هي عند الغروب، وتأكيد المبيت بمزدلفة وصلاة الفجر فيها، وذكر الله عند المشعر الحرام، والشكر على نعمة الهداية، والإكثار من ترداد:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .

55 -

المنافقون: ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمَرّ من الصبر.

ص: 85

56 -

ربح صهيب

يتخلى عن ماله، ويهاجر ابتغاء مرضاة ربه.

57 -

دعوة المؤمنين لحمل الدين بقوة: الأخذ بكافة الأوامر، وترك كافة الزواجر.

58 -

هل ينتظر الكفار يوم القيامة حتى يؤمنوا؟ إنهم يسخرون من المؤمنين، والعاقبة للمتقين يوم القيامة، لقد ضل أهل الكتاب قبلهم عن الحق واهتدى إليهِ المسلمون بفضل الله عليهم، ولا بد من الابتلاء والصبر وإن نصر الله قريب.

59 -

فَرْضِيَّة الجهاد، والقتال في الشهر الحرام كبير، والشرك والصد عن المسجد الحرام أكبر، ومغفرة الله للسرية التي قاتلت المشركين في رجب الشهر الحرام.

60 -

إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما، وهو تمهيد للتحريم القاطع.

61 -

فصل مال اليتيم عن مال وليه، ثم إباحة خلطه بماله.

62 -

تحريم المصاهرة بين المؤمنين والمشركين، وتحريم إتيان الحائض حتى تطهر.

63 -

لا ينبغي جعل الأيمان مانعة لأعمال البر والصلة، ولا يمين في معصية ولا غضب ولا قطيعة رحم ولا فيما لا يملك.

64 -

النهي عن الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، فإما الرجعة وإما الطلاق.

65 -

البعل أحق برد امرأته ما دامت في العدة، وقصر الله الطلقات إلى ثلاث، وإباحة الرجعة مرتين، والنهي عن الإعضال، والخلع لا يكون إلا حالة النشوز، وتَرُدّ له ما أعطاها، وهو فسخ لا طلاق، والعدة منه حيضة.

66 -

المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها الأول إلا بعد زواج حقيقي من غيره يعقبه طلاق.

67 -

ليس لأهل الزوجة منعها إذا أرادت الرجوع إلى زوجها.

68 -

الرَّضاعُ المُحَرِّمُ في الحولين، ولا تحرم الأم ولدها الرضاع إضرارًا بأبيهِ، ولا ينتزعهُ منها ليضرها.

69 -

عدة الوفاة: تشمل المدخول بها وغير المدخول بها، وعدة الحامل حتى تضع.

70 -

لا عقد في عدة الوفاة، ويلمح بالخطبة، ولا تخطب المطلقة في عدتها.

71 -

الطلاق قبل المس يوجب نصف المهر.

72 -

الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وصلاة الحضر أربع، وصلاة السفر اثنتان، وصلاة الخوف واحدة.

ص: 86

73 -

المتوفى عنها زوجها لها السكن والنفقة سنة، من مال زوجها إن شاءت، وعدتها أربعة أشهر وعشر وجوبًا في بيت الزوجية.

74 -

لا يُخرج من البلد الذي دخله الوباء، ولا يُدخل إليهِ ما دام الوباء فيه.

75 -

الإنفاق في سبيل الله يضاعف الله به الحسنات.

76 -

طَلَبُ بني إسرائيل ملكًا عليهم ثم استكبارهم عن طاعته، وهبوط الملائكة بالتابوت إلى طالوت، ونصر الله المؤمنين، وتولي داود النبوة والملك.

77 -

لا يفضل نبي على نبي إلا بدلالة الكتاب والسنة.

78 -

آية الكرسي أفضل وأعظم آية في كتاب الله تعالى.

79 -

الطاغوت كل ما عبد من دون الله برضاه، والإيمان بلا إله إلا الله، محمد رسول الله هو العروة الوثقى.

80 -

ذكر معجزة عملية على أحقية البعث والمعاد، واطمئنان قلب إبراهيم برؤية كيفية إحياء الله الموتى.

81 -

تضاعف أجر المنفق في سبيل الله إلى سبع مئة وزيادة.

82 -

المنّ بالصدقات قولًا كان أو فعلًا يبطلها.

83 -

مثل نهاية الكافر، كالرجل الهرم الذي فقد أهله وماله.

84 -

الإنفاق يجب أن يكون من أطيب المال، والشيطان يعد الفقر، والله يعد المنفق خلفًا ومغفرة، وإبداء الصدقات حسن، وإخفاؤها أحسن.

85 -

يبعث آكل الربا من قبره كأنه المصروع والمجنون، ومن تاب عن الربا قبل الله توبته، ومن عاد فالنار تنتظره، واللعن على آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، ومال الربا ممحوق في الدنيا، معذب صاحبه في الآخرة، وقد أعلن الله الحرب على المرابين، وللتائب رأس المال.

86 -

إنظار المعسر أو الوضع عنه ثواب صاحبه الدخول في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.

87 -

وجوب كتابة الدين والإشهاد وتثبيت الحقوق، وشهادة امرأتين بشهادة رجل، ولا يضار كاتب ولا شهيد، ومفهوم الرهان المقبوضة في السفر.

88 -

النهي عن كتمان الشهادة.

ص: 87

89 -

نسخ المحاسبة على حديث النفس، وتقرير المحاسبة على العمل.

90 -

للنفس ما كسبت من خير، وعليها ما اكتسبت من شر، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وهو الرحمن الغفور الرحيم.

* * *

ص: 88

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

1 -

5. قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.

في هذه الآيات: انتصار من الله تعالى لكتابه الكريم، فهو القرآن العظيم، والمصحف المبين، الذي يتحدى بإعجازه الثقلين، فهو الكتاب الأوحد في هذا الكون الذي سَلِمَ مِنَ الرَّيب والعيب، وكل كتاب دونه يتقدم مؤلفه بالاعتذار إن حصل فيه تقصير، أو مجانبة للصواب في البيان والتفسير، وأما هذا القرآن فقد أعلن الله تعالى في أوله متحديًا فصحاء الجن والإنس وجميع الخلق أنه الكتاب الكامل، والمنهاج الشامل، والنور التام للمتقين، الذين يتميزون بإيمانهم بالغيب المتضمن بين دفتي هذا المصحف الشريف، وفي هدي نبيّهم الطاهر العفيف، خير الخلق صلوات الله عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. ثم إنهم يقيمون الصلاة المفروضة، ويؤدون الزكاة المكتوبة، على أكمل الوجوه وأتم المراتب، ويؤمنون بالكتب المنزلة من الله على رسله، كما يؤمنون بالكتاب المنزل على رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمنون بيوم الدين، يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين، فهم أهل الهدى وأهل الفلاح في الدنيا والآخرة.

فإلى تفصيل ذلك:

قوله تعالى: {الم} . إنّ هذه الحروف المقطعة في أوائل السور قد ردَّ كثير من أهل العلم تفسيرها إلى الله سبحانه، وأنها مما استأثر الله تعالى بعلمه، حكاه القرطبي عن بعض أهل العلم، وأن ذلك مروي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، كأبي بكر

ص: 89

وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وعن بعض التابعين كعامر الشَّعبي وسفيان الثوري رحمهم الله جميعًا.

وقال آخرون: هي قسم. وقال غيرهم: هي حروف من أسماء الله. وروي ذلك عن ابن مسعود -وناس من الصحابة- قال: (أما ألم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى).

قال ابن جرير: (ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله، وعلى صفة من صفاته، وعلى مدة، كما ذكر أبو العالية).

قلت: والذي يظهر من استقراء مواقع هذه الحروف في أوائل بعض السور، أن كل سورة افتتحت بها لا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان عظمته وإعجازه، فكأن المراد أن يقال:

أيها العرب! إن هذا القرآن هو من جنس هذه الأحرف فأتوا بمثله وعارضوه بنحوه وأنتم أهل البيان والفصاحة! فهو تحد من الله لهم وإعجاز يدلهم أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل.

ففي تسع وعشرين سورة تقرأ هذا الانتصار للكتاب بعد استقبال السورة بهذه الحروف:

1 -

سورة البقرة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} .

2 -

سورة آل عمران: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} .

3 -

سورة الأعراف {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ

}.

4 -

سورة يونس: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .

5 -

سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .

6 -

سورة يوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

7 -

سورة الرعد: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ. . .} .

8 -

سورة إبراهيم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. . .} .

9 -

سورة الحجر: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)} .

10 -

سورة مريم: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2). . .يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} .

ص: 90

11 -

سورة طه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَ} .

12 -

سورة الشعراء: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} .

13 -

سورة النمل: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِين} .

14 -

سورة القصص: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين} .

15 -

سورة العنكبوت: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) .. وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} .

16 -

سورة الروم: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}.

17 -

سورة لقمان: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .

18 -

سورة السجدة: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالمِينَ} .

19 -

سورة يس: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .

20 -

سورة ص: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} .

21 -

سورة غافر: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .

22 -

سورة فصلت: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

23 -

سورة الشورى: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا

}.

24 -

سورة الزخرف: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

25 -

سورة الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} .

26 -

سورة الجاثية: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .

27 -

سورة الأحقاف: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .

28 -

سورة (ق): {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} .

29 -

سورة (ن): {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .

ص: 91

والخلاصة كما أفاد شيخ الإسلام رحمه الله: (إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها).

وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} .- ثناء على القرآن.

أما قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} قال ابن عباس: (أي هذا الكتاب). وقال الحافظ ابن كثير: (والكتاب القرآن، ومن قال التوراة أو الإنجيل فقد أبعد النجعة).

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في هذا القرآن، ولا شك في أنه نزل من عند الله.

ومن المفسرين من وقف على قوله {لَا رَيْبَ} ثم بدأ بـ {فِيهِ هُدًى} ، ومنهم من وقف على {فِيهِ} وهو أولى، لأنه يصير قوله تعالى {هُدًى} وصف للقرآن كله، وهذا أبلغ من كونه فيه هدى. فإن {هُدًى} إما في محل رفع مبتدأ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو في محل نصب حال. ومعنى {هُدًى} أي خير ونور.

وقوله: {لِلْمُتَّقِينَ} . قال ابن عباس: (هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي). أي لا يعظمون أحدًا إلا الله، ولا يصرفون مشاعر الخوف وكمال المحبة والرجاء إلا إليه سبحانه، فيفردونه بالألوهية والحاكمية وينزهونه في صفات الجمال والكمال التي تليق به جل ثناؤه.

وأصل التقوى من التوقي مما يكره. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى: (فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى. قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى). وقد أنشد ابن المعتز بهذا المعنى فقال:

خل الذنوب صغيرها

وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر

ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة

إن الجبال من الحصى

وهذا الثناء من الله سبحانه بقوله {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} يكون اختصاصًا بهم دون غيرهم كما قال جل ثناؤه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].

ص: 92

وكقوله سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].

وكقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

فالتقوى هي امتثال أوامر الله وتعظيم حرماته واجتناب نواهيه، وقد ورد الأمر بها في الكتاب والسنة.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

2 -

وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 10].

3 -

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].

4 -

وقال تعالى في وصف المتقين: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].

وأما في السنة العطرة، فقد جاء الأمر بها بألفاظ خاصة وعامة. فمن الألفاظ الخاصة:

اللفظ الأول: (اتق المحارم).

فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، والبيهقي في السنن، بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيَعْمَل بهن أو يُعَلِّم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدّ خمسًا قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب](1).

اللفظ الثاني: (اتقوا الظلم).

فقد أخرج الإمام أحمد والطبراني والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 310)، والترمذي (2/ 50)، وانظر صحيح الترمذي (1876).

ص: 93

عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة](1).

وأصله في صحيح الإمام مسلم من حديث جابر بلفظ: [اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحَّ، فإن الشحَّ أهلك من كان قبلكم، وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم](2).

اللفظ الثالث: (اتقوا دعوة المظلوم).

ففي المسند بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا، فإنه ليس دونها حجاب].

وله شاهد عند الطبراني في الكبير من حديث خزيمة بن ثابت بلفظ: [اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين] وسنده حسن (3).

وروى الحاكم نحوه من حديث ابن عمر ولفظه: [اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة] وسنده صحيح (4).

اللفظ الرابع: (اتقوا النار).

ففي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتقوا النار ولو بشق تمرة](5).

وفي رواية: [اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة].

اللفظ الخامس: (اتقوا الملاعن الثلاث)، (اتقوا اللاعنين).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 92)، (2/ 106)، والطبراني والبيهقي كما في صحيح الجامع (100)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (858).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 18)، والبخاري في "الأدب المفرد"(483)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 323)، وانظر السلسلة الصحيحة -حديث رقم- (858).

(3)

حديث حسن. رواه الطبراني (1/ 186/ 1)، والبخاري في"التاريخ الكبير"(1/ 1/ 186) وانظر لما قبله مسند أحمد (3/ 153) من حديث أنس، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (797).

(4)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 29)، وأخرجه الديلمي في "المسند"(1/ 1/ 42 - 43)، وانظر صحيح الجامع (117)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (871).

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1417) - كتاب الزكاة. وانظر (1413). ورواه مسلم (1016)(68) - كتاب الزكاة.

ص: 94

ففي صحيح أبي داود وابن ماجة عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتقوا الملاعن الثلاث: البرَاز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل](1).

ورواه أحمد بسند حسن من حديث ابن عباس، ولفظه:[اتقوا الملاعن الثلاث: أن يقعد أحدكم في ظل يُستَظَلُّ فيه، أو في طريق، أو في نقع ماء].

وأصل معناه في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: [اتقوا اللاعنين: الذين يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم].

اللفظ السادس: (اتقوا المجذوم).

فقد أخرج البخاري في التاريخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتقوا المجذوم، كما يتقى الأسد] وسنده صحيح (2).

اللفظ السابع: (اتقوا الحمّام).

يروي الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اتقوا بيتًا يُقال له الحمام، فمن دخله فليستتر] وسنده صحيح (3).

اللفظ الثامن: (اتقوا المذابح).

يروي الطبراني عن ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا هذه المذابحَ يعني المحاريب] والمراد صدور المجالس، وسنده حسن (4).

وأما اللفظ العام فهو أشملها وأكملها (اتقوا الله):

ففي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم](5).

(1) حديث صححيح. انظر صحيح سنن أبي داود (21)، وانظر الإرواء (61) للفظ أحمد، وصحيح مسلم -حديث رقم- (269) - كتاب الطهارة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا (10/ 129)، وانظر شرح السنة للبغوي (3/ 367)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (110).

(3)

حديث صحيح. انظر الإرواء (2649)، وتخريج الكلم ص (128)، وصحيح الجامع (115).

(4)

حديث حسن. أخرجه الطبراني والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو. انظر صحيح الجامع (119).

(5)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1623) - كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، ورواه البخاري.

ص: 95

وفي المسند عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن](1).

وفي صحيح ابن حبان من حديث جابر بن سليم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اتق الله، ولا تحقون من المعروف شيئًا](2).

وعند البخاري في الأدب المفرد عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم](3). وفي صحيح الجامع من حديث أم سلمة بلفظ: [اتقوا الله في الصلاة، وما ملكت أيمانكم]. وفي المسند وصحيح ابن حبان عن سهل بن الحنظلية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الله في البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة](4).

وعند ابن عساكر بسند حسن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتقوا الله وصلوا أرحامكم](5).

والخلاصة: إن لفظ التقوى لفظ جامع لكل محاب الله، واجتناب لكل ما يكره.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .

ففي قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} . قال ابن عباس: (يؤمنون: يصدقون). وقال ابن جرير: (والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولًا واعتقادًا وعملًا). وقد فصّل الحافظ ابن كثير في ذلك فقال: (أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك، كما قال تعالى:{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} وكذلك إذا استعمل مقرونًا مع الأعمال كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (2070)، وأحمد والحاكم. انظر صحيح سنن الترمذي (1618).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 63)، والطيالسي (ص 767) رقم (1208)، وأخرجه ابن حبان كما في صحيح الجامع (97)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (770).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(158)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(10/ 169)، وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 235 - 236)، وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (104) - (105). وسنده صحيح.

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 180 - 181)، وابن حبان (844)، وأبو داود (2448)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (23)، (24). وصحيح الجامع -حديث رقم- (103).

(5)

حديث حسن. رواه ابن عساكر (16/ 2/74)، والطبراني نحوه. انظر السلسلة الصحيحة (869).

ص: 96

فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولًا وعملًا).

وإلى هذا المعنى ذهب أئمة الحديث والفقه وحكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وغير واحد إجماعًا أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وأنه كلمة جامعة للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وتصديق الإقرار بالفعل. فهذا الإيمان يزيد بالطاعات وامتثال أوامر الله وتعظيمها فوق كل أمور الدنيا وما فيها من زينة وولد ومنكح ومشرب وملبس ومطعم، كما قال جل ثناؤه في سورة آل عمران:{الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} .

وكقوله تعالى في سورة الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} .

وكقوله في آية التوبة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .

وكذلك في آية الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .

فالمؤمن يزداد إيمانًا بسماع كلام ربه عز وجل وذكر الآخرة وأهوال المحشر، كما يزداد إيمانًا برؤية الصالحين والعلماء الذين يعيشون لخدمة ميراث النبوة والعمل لإقامة أمر الله وحراسة دينه في الأرض، كما يزداد إيمانًا بالعمل الصالح ومباشرة محاب الله عز وجل. وأما فعل المعاصي واجتراح الفواحش والآثام فهو انتقاص من الإيمان وتهديد لبنائه، وبه يخسر المؤمن من إيمانه حسب درجة معصيته.

ففي صحيح أبي داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه](1).

وروى الحاكم عن عبد الرحمن بن يزيد قال: [كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانًا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ:

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4690)، والحاكم في المستدرك (1/ 22)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (509).

ص: 97

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلي قوله: {الْمُفْلِحُونَ} ].

وأخرج الإمام أحمد بسند حسن عن ابن مُحَيْريز قال: [قلت لأبي جُمعة: حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم. أحدثك حديثًا جيدًا: تَغَدَّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجَرَّاح، فقال: يا رسول الله، هل أحد خيرٌ منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني](1).

وفي رواية عند ابن مَرْدَويه أوردها الحافظ ابن كثير من طريق أبي جمعة الأنصاري قال: [كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة. فقلنا يا رسول الله؟ هل من قوم أعظم منا أجرًا؟ آمنا بالله واتبعناك، قال: "ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرًا"، مرتين].

قلت: وهذان الأثران يصلحان شاهدين لما ثبت بإسناد أقوى عند ابن نصر في السنة وعند أبي نعيم في الحلية:

فقد أخرج ابن نصر في السنة بإسناد صحيح -رجاله ثقات- عن عتبة بن غزوان أخي بني مازن بن صعصعة وكان من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن من ورائكم أيامَ الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم. قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم](2).

وأخرج أبو نعيم في الحلية بإسناد حسن في الشواهد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: [أنتم اليوم على بينة من ربكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله، ثم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش وستحولون عن ذلك فلا تأمرون بمعروف ولا تنهون عن منكر ولا تجاهدون

(1) حسن الإسناد. أخرجه أحمد (4/ 106)، وأبو يعلى (1559)، والحاكم (4/ 6992). وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 16693): رووه بأسانيد وأحد أسانيد أحمد ثقات.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن نصر في "السنة"(ص 9)، وله شاهد عند الترمذي في السنن (2/ 177)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (494).

ص: 98

في سبيل الله، القائمون يومئذ بالكتاب والسنة لهم أجر خمسين صديقًا. قالوا: يا رسول الله: منا أو منهم؟ قال: لا بل منكم] (1).

وفي هذه النصوص العظيمة بشائر لكل مؤمن يواجه الباطل ويتصدى لأهل الضلالة والبغي ودعاة الكفر في الأرض، ويحمل الحق بأمانة ويقوم بمقتضاه، أن يكرمه الله بأجر خمسين من خير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا السبق هو في الأجر لا في الفضل، فالصحابة رضوان الله عليهم لهم من المنزلة والمكانة ما لا يبلغها أحد دونهم.

فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهبًا ما بلغتم أعمالهم](2).

والخلاصة: لقد كان الإيمان بالغيب من أكبر صفات المؤمنين الأوائل، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسيكون هذا الإيمان أصعبا وأشق على المؤمنين الذين سيأتون من بعدهم، ممن لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ولا المعجزات التي أكرمه الله بها، الأمر الذي رتب الله سبحانه عليه فضلًا كبيرًا في الأجر وسبقًا لا مثيل له.

وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} - فيه تفاسير:

1 -

قال ابن عباس: (أي يقيمون الصلاة بفروضها).

2 -

قال الضحاك: (إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها).

3 -

قال قتادة: (إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها).

4 -

وقال العلامة القاسمي رحمه الله: (ولهذا لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو {أَقِمِ الصَّلَاةَ} وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} و {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ولم يقل المصلي إلا في المنافقين {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ

(1) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 49)، وإسناده حسن في الشواهد. انظر رسالة:"درء الارتياب عن حديث ما أنا عليه اليوم والأصحاب" -سليم الهلالي- ص (16).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 266)، وله شاهد أخرجه البزار (ص 274 - زوائد ابن حجر)، وإسناد أحمد صحيح على شرط البخاري، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1923).

ص: 99

سَاهُونَ} وذلك تنبيه على أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل). وروي عن بعض السلف قوله: (الحاج قليل والركب كثير).

وأما قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فيشمل الزكاة والإنفاق.

قال ابن عباس: (زكاة أموالهم). وقال الحافظ ابن كثير: (وقبل نزول الزكاة كانت النفقات يتقربون بها إلى الله قدر ميسرتهم وجهدهم).

وقد اختار شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله أن الآية عامة في الصدقات والنفقات وفي الزكاة كما سيأتي تفصيله.

ولقد كان الإنفاق في سبيل الله والإكثار من الصدقات صفة ملازمة للمتقين الذين وصفهم الله بالتقوى في أول هذه السورة، فالإنفاق في طاعته سبحانه جزء من منهجهم ومَعْلَمٌ من معالم طريقهم لنيل مرضاة ربهم، كما أن إقامة الصلاة ركن من أركان دينهم الذي يكتمل بإقامة الأركان الأخرى.

ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان](1).

والصلاة لغة الدعاء، ثم استعملت في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، وفي ذلك مسائل:

المسألة الأولى: إقامتها بأركانها الموصوفة في حديث المسيء صلاته، وتشمل:

1 -

النية.

2 -

تكبيرة الإحرام.

3 -

قراءة الفاتحة.

4 -

القيام في الفرض.

5 -

الركوع والاطمئنان فيه.

6 -

الرفع من الركوع والاعتدال قائمًا مع الطمأنينة.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (8) - كتاب الإيمان، وأخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (16) - كتاب الإيمان.

ص: 100

7 -

السجود مع الطمأنينة فيه.

8 -

الرفع من السجود مع الاطمئنان.

9 -

السجدة الثانية والردع منها.

10 -

التسليمة الأولى.

11 -

الطمأنينة في كل ما ذكر.

12 -

الترتيب لكل ما ذكر.

ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه: [أن رجلًا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في ناحية المسجد فصلي. ثم جاء فسلم عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام، ارجع فَصَلِّ فإنك لم تصلّ. فصلى ثم جاء فسلم، فقال: وعليك السلام فارجع فصل فإنك لم تصل. فصلى. ثم جاء فسلم فقال: وعليك السلام فارجع فصل فإنك لم تصل. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيرَ هذا فعلمني (وفي رواية: علمني يا رسول الله) فقال: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا. ثم افعل ذلك في صلاتك كلها](1).

وروى مالك بإسناد صحيح عن النعمان بن مُرّة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ما ترون في الشارب والزاني والسارق؟ وذلك قبل أن تنزل فيهم الحدود. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هُنَّ فواحش وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها](2).

وفي صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تلك صلاة المنافق يجلس يرقب

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (793) - كتاب الأذان، بابُ أمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة. ورواه مسلم.

(2)

حديث صحيح لغيره رواه مالك بسند صحيح إلى النعمان بن مرة -وهو تابعي كبير- لكن يشهد له حديث أبي قتادة. انظر صحيح الترغيب (1/ 525).

ص: 101

الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله إلا قليلًا] (1).

وروى الطبراني وابن خزيمة بإسناد حسن عن أبي عبد الله الأشعري: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا لا يتم ركوعه وينقر في سجوده وهو يصلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو مات هذا على حاله هذه مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: مثل الذي لا يُتم ركوعه وينقر في سجوده مثلُ الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئًا](2).

وروى أبو القاسم الأصبهاني وحسنه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع](3).

المسألة الثانية: إقامتها على وقتها.

قال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن للصلاة وقتًا كوقت الحج).

المسألة الثالثة: إقامتها على وجهها. ويدخل بذلك:

أ- حسن الوضوء وإتمام الطهور.

ففي صحيح ابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه](4).

وأركان الوضوء ستة:

1 -

النية.2 - غسل الوجه: عرضًا من شحمة الأذن اليمنى إلى شحمة الأذن اليسرى وطولًا من منبت الشعر إلى أسفل اللحيين.3 - غسل اليدين إلى المرفقين.4 - مسح

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (622) - كتاب المساجد. باب استحباب التبكير بالعصر، في أثناء حديث طويل.

(2)

حديث حسن. رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، ورواه أبو يعلى بإسناد حسن. انظر صحيح الترغيب (1/ 529)، ورواه ابن خزيمة.

(3)

سنده حسن. رواه الأصبهاني في "الترغيب"(ق 236/ 2)، وانظر السلسلة الصحيحة (2535).

(4)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (399) -كتاب الطهارة وسننها، باب: ما جاء في التسمية في الوضوء. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (318) - (320).

ص: 102

الرأس كله.5 - غسل القدمين إلى الكعبين.6 - الموالاة: أي غسل الأعضاء بعضها إثر بعض بلا فاصل زمني. وأدلة ذلك:

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، يصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه:[ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه](1).

وفي صحيح ابن ماجة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: [رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتوضؤون وأعقابهم تلوح. فقال: ويل للأعقاب من النار. أسبغوا الوضوء](2).

وفي المسند وصحيح أبي داود عن خالد بن معدان، أن النبي صلى الله عليه وسلم:[رأى رجلًا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يُصِبْهَا الماء، فأمره أن يعيد الوضوء (زاد أبو داود: والصلاة)](3).

ب- إتيانها في المسجد مع الجماعة.

فإن ذلك داخل في إقامتها، وهو واجب على من سمع النداء إلا من عذر: مرض أو سفر أو نحو ذلك.

ففي صحيح ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر] ورواه أبو داود (4).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخِّصَ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (185) - كتاب الوضوء - باب مسح الرأس كله، وانظر صحيح مسلم (235) - كتاب الطهارة، باب: في صفة الوضوء،

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (450) - كتاب الطهارة وسننها، باب غسل العراقيب، انظر صحيح سنن ابن ماجة (363)، وأصله في الصحيحين.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (173/ 269 / 1)، وانظر صحيح أبي داود (161).

(4)

حديث صحيح. انظر سنن أبي داود (551)، وصحيح سنن أبي داود (515). وصحيح سنن ابن ماجة - حديث رقم - (645).

ص: 103

له فيصلي في بيته فرخّص له، فلما ولّى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجِبْ] (1).

ورواه النسائي وابن ماجة وفيه: (إني كبير ضرير شاسع الدار).

وله شاهد عند الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: [أقبل ابن أم مكتوم وهو أعمى، وهو الذي أُنْزِل فيه {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} - وكان رجلًا من قريش - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله! بأبي وأمي أنا كما تراني، قد دَبَرَتْ سني، ورقّ عظمي، وذهب بصري، ولي قائد لا يُلايمني (2) قياده إياي، فهل تجد لي رخصةً أصلي في بيتي الصلوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تسمع المؤذن في البيت الذي أنت فيه؟ قال: نعم يارسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أجدُ لك رخصة، ولو يعلم هذا المتخلف عن الصلاة في الجماعة ما لهذا الماشي إليها لأتاها ولو حبوًا على يديه ورجليه].

وممن يرى أن حضور الجماعات فرض أحمد بن حنبل، وعطاء، وأبو ثور.

وقال الشافعي: (لا أرخِّصُ لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر).

فكل ما سبق من المسائل داخل في مفهوم قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} .

وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} - فيه تفاسير:

1 -

قيل الزكاة المفروضة. فعن ابن عباس: (قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال: زكاة أموالهم).

2 -

نفقة الرجل على أهله. وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولأن هذا الإنفاق أفضل النفقة والصدقة.

وفي الصحيحين عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (653) - كتاب المساجد، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، وانظر للروايات بعده صحيح الترغيب (1/ 427)، (1/ 430) بسند حسن.

(2)

أي لا يوافقني.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (55) - كتاب الإيمان. وكذلك (4006)(5351)، ورواه مسلم.

ص: 104

وفيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غيرَ مفسدة كان لها أجرُها بما أنفقت، ولزوجها أجرُه بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا](1).

وفي المسند للإمام أحمد، بسند صحيح عن المقدام بن معدي كرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة](2).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك](3).

وكذلك في صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله. (وفي رواية: أفضل الدنانير: دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز وجل](4). قال أبو قلابة أحد رواة الحديث: (وبدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم).

وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي أيوب، قال رسول الله:[أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح](5).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (1425)، (2065)، وصحيح مسلم (1024) ح (81).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 131)، وكذلك (4/ 132)، ورواه البخاري في "الأدب المفرد" - حديث رقم - (30).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (995) - كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (994) - كتاب الزكاة، من حديث ثوبان رضي الله عنه، الباب السابق.

(5)

حديث صحيح. انظر تخريج الترغيب (2/ 32 - 33)، والإرواء (892)، وصحيح الجامع (1121).

والكاشح: هو الذي يضمر العداوة في كشحه، وهو خصره. يعني أن أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة في باطنه.

ص: 105

وفي صحيح أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أفضل الصدقة جهدُ المُقلِّ، وابدأ بمن تعول](1).

وفي المسند عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة](2).

ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: [صدقة ذي الرحم على ذي الرحم صدقة وصلة].

3 -

قيل بل المراد صدقة التطوع.

قال الضحاك: (كانت النفقة قربانًا يتقربون بها إلى الله جل وعزّ على قدر جِدَتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في براءة).

والمقصود قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} - قيل إنها ناسخة لقوله {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} - وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.

4 -

قيل بل المراد الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ما عدا الزكاة.

قال القرطبي: (لأن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضًا، ولما عدل عن لفظها كان فرضًا سواها).

5 -

قيل بل المراد مما علمناهم يُعلِّمون.

فقد روي عن أبي نصر القشيري قوله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال: (أي مما علمناهم يعلّمون) ذكره القرطبي.

6 -

وقيل المراد حظّ المال.

قال بعضهم: (الإيمان بالغيب حَظُّ القلب، وإقام الصلاة حَظُّ البدن، ومما رزقناهم ينفقون حَظُّ المال).

قلت: وأصل الإنفاق في لغة العرب إخراج المال من اليد، نحو قولهم نفقَ البيع: أي خرج من يد البائع إلى المشتري، ويقال: نفق البيع ينفُقُ نَفَاقا، وأنفق الرجل: افتقر وذهب ماله، ومنه قوله تعالى:{إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} . ونفقت الدابة إذا ماتت

(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (1/ 413 - 412)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (566)، ورواه أبو داود والحاكم، انظر صحيح الجامع (1123).

(2)

حديث صحيح. رواه النسائي (5/ 92)، وابن خزيمة (2385)، واللفظ الثاني رواه الطبراني. انظر تخريج الترغيب (1/ 883 - 885). وانظر مسند أحمد (4/ 17)، وسنن الترمذي (658).

ص: 106

وخرجت روحها. وأما الرزق فهو مصدر (رزق) وهو ما ينتفع به والجمع أرزاق، والرزق أيضًا العطاء وقيل الشكر نحو قوله {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي تجعلون شكركم تكذيبكم.

فيكون المعنى بالجمع بين أقوال المفسرين: إن الله سبحانه قد وصف المؤمنين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة كما وصفهم بالإنفاق من المال الحلال الطيب الذي رزقهم، فهم ينفقونه في سبيل الله، فيؤدون حقه الأول وهو الزكاة المفروضة، ثم يؤدون حقه الثاني فينفقون منه في عون المؤمنين والمحتاجين والفقراء والمساكين وفي وجوه الخير التي لا يحصميها إلا الله، فإذا ما احتاجت الأمة إلى أموالهم بذلوها في ما يعين به الله على حراسة دينه وتعظيم حرماته وبلوغ أسباب القوة بكل أشكالها وأنواعها، وقائدهم بهذا نبيّهم صلى الله عليه وسلم وصحابته هم أسوتهم.

فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في معجمه، عن أبي واقد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولو كان لابن آدم وادٍ لأحب أن يكون له ثانٍ، ولو كان له واديان، لأحب أن يكون لهما ثالثٌ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب](1).

وقد تفضل عليهم ربهم لقاء صفة البذل والإنفاق فيهم، بأن تصدق عليهم عند وفاتهم بثلث أموالهم. فقد أخرج ابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة والطبراني في الكبير عن معاذ وأبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، وجعل ذلك زيادة لكم في أعمالكم](2).

وقد ذهب شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله إلى هذا الشمول في معنى الإنفاق حيث قال: (وأولى التأويلات - بالآية وأحقّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم، مؤدين، زكاة كان ذلك أو نفقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عمّ وصفهم إذ وصفهم بالإنفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبها

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 218 - 219)، والطبراني في "الكبير"(3300 - 3301)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1639).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (2709) كتاب الوصايا، وانظر صحيح سنن ابن ماجة (2190).

ص: 107

دونَ نوعٍ بِخبرٍ ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمود عليها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلال منه الذي لم يَشُبْهُ حرام).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .

قال ابن عباس: (أي يصدقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاؤوا هم به من ربهم).

وقال صاحب الظلال: (وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة وارثة العقائد السماوية ووارثة النبوات منذ فجر البشرية).

والآخرة تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وسميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا.

وقد قيل للدنيا دنيا لأنها أدنى من الآخرة. والإيقان هو إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وفي لغة العرب: أيقنت واستيقنت وتيقّنْت كله بمعنى واحد وهو اليقين أي العلم وزوال الشك. وربما استعمل العرب اليقين بالتعبير عن الظن أو عبروا عن اليقين بالظن. فوصف الله أولئك المتقين بالإيمان بالوحي واليقين بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان والحشر وكل ما أخبر الله ورسوله عن أمر الآخرة فهم مصدقون به معتقدون بحصوله يدينون الله بالإيمان به، وهم من ذكر هذه الأهوال مشفقون خائفون وجلون.

والوحي الذي أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو القرآن والشرع العظيم المجموع في هديه وسنته، وأما الوحي الذي أخبرنا الله أنه أنزل من قبله فهو الزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم.

فالتوراة: كتاب من كتب الله سبحانه، أنزله على كليمه موسى عليه الصلاة والسلام، لبيان الأحكام الشرعية والعقائد الصحيحة المَرْضية، والتبشير بظهور نبي من بني إسماعيل تختم به النبوة للبشرية، ويهديهم إلى لشرع الكمال والجمال.

قال جل ثناؤه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 2 - 4].

ص: 108

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

ولكن التوراة الموجودة اليوم بين أيدي اليهود محرفة أصابها ما أصابها. قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَال تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [المائدة: 13].

ومما يدل على تحريفها أنه ليس فيها ذكر الجنة والنار وحال البعث والحشر والجزاء مع أن ذلك من أهم ما يذكر في الكتب الإلهية. ومما يدل على تحريفها أيضًا ذكر وفاةِ موسى عليه السلام فيها في الباب الأخير منها والحال أنه هو الذي أنزلت عليه.

أخرج الطبراني بسند حسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن بني إسرائيل كتبوا كتابًا فاتبعوه وتركوا التوراة](1).

وأما الزبور فهو كتاب الله تعالى أنزله على نبيِّه داود عليه الصلاة والسلام، كما قال سبحانه في سورة النساء:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} .

والزبور كتاب كريم فيه أدعية وأذكار ومواعظ وحكم، ولكن ليس فيه أحكام شرعية، لأن داود عليه السلام كان مأمورًا باتباع الشريعة الموسوية.

وأما الإنجيل ففيه دعوة الخلق إلى توحيد الخالق عز وجل، ونسخ بعض أحكام التوراة الفرعية على حسب الاقتضاء، والتبشير بظهور خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، كما قال سبحانه في سورة الصف:{وَإِذْ قَال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .

وأخرج ابن عساكر بإسناد حسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1) حديث حسن. رواه الطبراني من حديث أبي موسى كما في مجمع الزوائد (1/ 172) بسند حسن، وانظر صحيح الجامع الصغير، حديث رقم، (2040).

ص: 109

قال: [أنا دعوة إبراهيم، وكان آخر من بشّر بي عيسى بن مريم](1).

ولكن الإنجيل بصفته التي أنزله الله على عيسى عليه السلام قد أصابه ما أصابه من التحريف والتبديل، وظهرت بعد رفْعِ المسيح عليه الصلاة والسلام إلى السماء أناجيل كثيرة، حتى تم إلغاؤها بعد أكثر من مئتي سنة من رفعه، تخلصًا من التناقضات التي لحقت بها، وذلك في مجمع نيقيا سنة 325 للميلاد، حيث اجتمع كثير من البطارقة والأساقفة وتوصلوا بعد حوار ونقاش إلى الإذعان للملك قسطنطين ومَنْ قال بألوهية المسيح، ونسخ جميع تلك الأناجيل إلا أربعة، وهي أناجيل (متى، ومرقص، ولوقا، ويوحنا) وهؤلاء قد ألفوها وبعضهم لم ير المسيح عليه السلام أصلًا.

ويقال إن متى هو أحد حواريّي المسيح عيسى عليه السلام الاثني عشر، جال في البلاد مبشرًا حتى وصل الحبشة، فأقام فيها نحوًا من ثلاث وعشرين سنة إلى أن قتل سنة 70 للميلاد.

وأما مرقص فيقال إن اسمه يوحنا ولقبه مرقص، وليس من الحواريين، ولكنه لازم خاله برنابا، وقتل في سجنه سنة 62 للميلاد، وقيل إنه كان يكره القول بألوهية المسيح عليه السلام.

وأما لوقا: فولد في أنطاكية ودرس الطب ونجح فيه، ولم ير المسيح ولم يسمع منه، ولكنه لازم بولس (المسمى بالرسول) والمعروف بتحريفه للديانة النصرانية، وقد حدثت أكثر المجازر بتخطيطه فقد كان يهوديًّا.

وأما يوحنا: فهو أحد الحواريين الاثني عشر، مات سنة 65 للميلاد بعد اضطهاد.

وجملة القول: إن الإنجيل هو كلام الله أنزله على عيسى وبشر فيه بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو كتاب كريم يدعو إلى التوحيد ودين الإسلام.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنا أولى الناس بعيسى بن مريمَ في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء أولادُ علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد](2).

(1) حديث حسن. رواه ابن عساكر في "التاريخ"(1/ 265/ 2)، وأحمد في المسند (5/ 262)، بلفظ قريب، وكذلك ابن سعد في "الطبقات"(1/ 102)، وانظر الساسلة الصحيحة (1546).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3442)، (3443)، ومسلم (2365)، وأحمد (2/ 463).

ص: 110

وبنو العلات. هم أولاد الرجل الواحد من نساء شتى.

ثم كان بعد ذلك يا محمد ما أنزل إليك وهو القرآن العظيم. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].

والقرآن هو آخر كتاب من الله إلى البشر، يُسألون عن التحاكم إليه يوم القيامة، وهو أكبر معجزة في الأرض إلى قيام الساعة.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة](1).

وقد روي عن بعض السلف وصف هذا القرآن بقوله: (كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلَقُ عن كثرة الرَّد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سعته حتى قالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حَكَمَ به عَدَل، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم).

وقد اختلف فيهم من هم المعنيون بهذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} على ثلاثة أقوال:

1 -

هم الموصوفون أولًا، هم الموصوفون ثانيًا، وهم كل مؤمن، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم كما قال مجاهد وأبو العالية، ورجحه الحافظ ابن كثير رحمهم الله حميعًا.

2 -

هما واحد مؤمنو أهل الكتاب والواو عاطفة.

3 -

الموصوفون أولًا مؤمنو العرب والموصوفون ثانيًا هم مؤمنو أهل الكتاب. وقد روي هذا عن ابن مسعود وعن ابن عباس واختاره ابن جرير.

(1) حديث صحيح. رواه البخاري في صحيحه (4981)، (7274)، وراه مسلم في الصحيح (152).

ص: 111

قلت: والراجح أن الآية عامة في كل مؤمن ومؤمنة، عربي أو عجمي، كتابي وغير كتابي، إنسي أو جني، فلا تصح أي صفة من الأوصاف السابقة دون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلا مع الإيمان بما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبما جاء به نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين.

قال مجاهد: (أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين).

وفي التنزيل:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].

وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].

وقال جل ذكره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19].

وقال جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 152].

فالأمر لجميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه وباليوم الآخر، ولكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، أنهم يؤمنون بما في أيديهم مفصلًا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه كان لهم الأجر مرتين.

ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثة يؤتون أَجْرَهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بِنبيِّه، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به،

ص: 112

واتبعه وصدَّقه، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق سيده، فله أجران، ورجل كانت له أمَةٌ فغذّاها فأحسن غِذاءها، ثم أدبها فأحسن تأديبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران] (1).

قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199].

وفي المسند بإسناد حسن عن أبي أمامة الباهلي قال: [كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال قولًا حسنًا فقال فيما قال: من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا](2).

قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52 - 54].

وروى أبو داود في كتاب العلم عن الزُّهْري قال: أخبرني ابن أبي نَمْلَةَ الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعِنْده رجلٌ من اليهود مُرَّ بجنازة فقال يا رسول الله! هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم.

فقال اليهودي: إنها تتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلًا لم تصدقوه، وإن كان حقًّا لم تكذبوه](3).

وفي لفظ آخر: [إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه برقم (97)، (3011)، وأخرجه مسلم في الصحيح (154)، من حديث أبي موسى.

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (5/ 259)، والطبراني (7786)، (7856). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (304)، وإسناده حسن.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3644)، وأحمد في المسند (4/ 136)، ورواه ابن حبان (6257)، وإسناده جيد، وجاله ثقات، وانظر سنن الترمذي (2669).

ص: 113

قلت: ولكن قد يكون هناك من هذه الأمة - أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يزيد ثوابه على الأجرين السابقين لمؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا بنبيهم ونبينا عليهم الصلاة والسلام، قول النبي صلى الله عليه وسلم:[إن من أمتي قومًا يعطون مثل أجور أولهم ينكرون المنكر](1).

وفي تقديم الآخرة وبناء (يوقنون) على (هم) تعويض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته كزعمهم أنه لا يدخلها إلا من كان هودًا أو نصارى، وكتخيلهم أن النار لا تمسهم إلا أيامًا معدودات، وكاختلافهم في نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أوْ لا؟ وهل هو دائم أو لا؟ (ذكره القاسمي رحمه الله.

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} .

قال ابن عباس: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} أي الذيان أدركوا ما طلبوا، ونَجَوْا من شر ما منه هربوا).

وقال ابن جرير: ({أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أى أولئك هم المنجِحون المُدْركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب).

وقد اختلف فيهم من هم المعنيون بهذه الآية على ثلاثة أقوال:

1 -

قيل المراد أهل الصفتين المتقدمتين: المؤمنون بالغيب من العرب، والمؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل.

فعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أما {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، فهم المؤمون من العرب، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، المؤمنون من أهل الكتاب، ثم جمع الفريقين فقال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}) ذكره ابن جرير.

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 62)، و (5/ 375) بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح، من حديث عبد الرحمن بن الحضرمي يقول: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1700).

ص: 114

2 -

وقيل: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد والرسل من قبله.

3 -

وقيل: بل المراد أهل الكتاب خاصة ممن آمن بنبيّه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.

والراجح كما أفاد الحافظ ابن كثير أن الآية عامة في المتصفين بالصفات المتقدمة من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق، والإيمان بالرسل، والدار الآخرة المستلزم للعمل الصالح والاستعداد لها بامتثال الطاعات واجتناب المحرمات.

ويجوز أن تكون {هُمُ} مبتدأ ثانيًا وخبره {الْمُفْلِحُونَ} ، أو تكون زائدة - يسميها البصريون فاصلة - و {الْمُفْلِحُونَ} خبر {أُولَئِكَ} . ذكره القرطبي.

وأما جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} فهي في محل رفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ، وإلا فلا محل لها.

قال النسفي رحمه الله: (ومعنى الاستعلاء في {عَلَى هُدًى} مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه).

وقال القرطبي رحمه الله: (وقال علماؤنا: إن في قوله تعالى {مِنْ رَبِّهِمْ} ردًّا على القدرية في قولهم: يخلقون إيمانهم وهداهم، تعالى الله عن قولهم! ولو كان كما قالوا لقال: "من أنفسهم").

وأصل الفَلْح في لغة العرب الشق والقطع. وفَلَحَ الأرض شقّها للحرث. والفلاح: الفوزُ والبقاء والنجاة. والمْلاحُ أيضًا السُّحور. وقيل إنما سُمِّي بذلك لأن به بقاءَ الصوم. وحي على الفلاح أي أقْبِل على النجاة.

وفي جامع الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُه، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (414)، وانظر صحيح سنن الترمذي (337).

ص: 115

6 -

7. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ صِفات الكافرين، ونعت سبيل الجاحدين، فإن النذارة لا تنفعهم إذ أغلقوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم عن قبول الحق والإصغاء له والتواضع لأمره تعالى. فسواء عليك - يا محمد - الإنذار وعدمه. لقد قابلهم ربهم تعالى حين أغلقوا قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مستكبرين على الوحي العظيم أن طبع على قلوبهم فأقفلها، وختم على أسماعهم فأغلقها، وجعل على أبصارهم أغطية فأعماها، فهم يكملون ما بقي من أعمارهم على تلك الهيئة حتى تنقضي آجالهم، ثم ينتظرهم بعد ذلك في الآخرة عذاب عظيم.

فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

كفروا: أي غطوا الحق وستروه. قال الرازي: (و {الكافر} الليل المُظْلِم لأنه سَتَرَ بظُلمته كُلَّ شيء. وكل شيء غطّى شيئًا فقد كفره). قال: (والكافر: الزارع لأنه يغطي البَذْر بالتراب. والكفار الزُّراع).

وقال ابن السِّكِّيت: (ومنه سُمِّي (الكافر) لأنه يَسْتُر نِعم الله عليه). والإنذار: الإعلام مع تخويف. واختلف فيمن عُني بهذه الآية على أقوال:

1 -

قيل: هم اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه.

قال ابن عباس: ({إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بما أنزل إليك من ربك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك). وعنه أيضًا: (أن صدر سورة البقرة إلى المئة منها، نزل في رجال سَمّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود، من المنافقين من الأوس والخزرج).

2 -

قيل: بل هم الذين قتلوا يوم بدر من المشركين.

فعن الربيع بن أنس قال: (آيتان في قادة الأحزاب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا

ص: 116

نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28 - 29]. قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر).

3 -

وقيل: بل هي عامة في كل شقي بكفره.

فقد قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول).

وهذا المعنى الأخير أشمل وأوسع مما قبله، وهو يناسب سياق الآيات، فقد كتب الله الشقاء على من اختار جحود أمره وشرعه ونعمته، فسواء عليهم إنذارك يا محمد وعدمه. كما قال جل ذكره:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]. وكما قال سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145].

لقد أخرج الإمام أحمد في المسند، والنسائي في السنن، بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:[خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا لا إلا أن تُخبِرَنا يا رسول الله، فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِلَ على آخرهم، فلا يُزاد فيهم ولا يُنْقَصُ منهم أبدًا. ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأي شيء إذن نعمَلُ إن كان هذا أمْرًا قد فُرغ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سدِّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم عز وجل من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة، ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير](1).

قال القاسمي رحمه الله: ({إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 167)، والنسائي في "الكبرى"(11473)، والترمذي في السنن (2141). وانظر السلسلة الصحيحة (46)، وصحيح الجامع (88).

ص: 117

يُؤْمِنُونَ}: تناهوا في الغواية والضلال، إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتذكير).

وسواء: مأخوذ من التساوي أي معتدل، فأي الأمرين كان منك إليهم الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون، فقد خُتِمَت القلوبُ وطُبعَ عليها نتيجة تراكم الجحود فيها. فيَكون قوله تعالى:{لَا يُؤْمِنُونَ} جملة مؤكِّدة للتي قبلها {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} أو تكون خبرًا والتقدير: (إن الذين كفروا لا يؤمنون) ويكون قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} جملة اعتراضية، وهي مبتدأ وخبر:{سَوَاءٌ} خبر مقدم و {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في موضع الابتداء، وتقديرها:(سواء عليهم إنذارك وعدمه) والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .

الختم أصله الطَّبع. قال الرازي: (ختم الشيء من باب ضرَب فهو مختوم).

والخاتِم والخاتَم بفتح التاء وكسرها كله بمعنىً. وخاتمة الشيء آخِرُه. وختمتُ الكتاب إذا طبعته. وفي مفهوم الختم أقوال متقاربة ذكرها أهل التفسير:

1 -

القول الأول: قال السدي: (ختم الله: أي طبع الله).

2 -

القول الثاني: قال قتادة: (استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه، فختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون).

3 -

القول الثالث: قال مجاهد: ({خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال: الطبع، ثبتت الذنوب على القلب فحفَّت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم).

4 -

القول الرابع: قال ابن جريج: (الختم على القلب والسمع. قال: وحدثني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرَّانُ أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله).

5 -

القول الخامس: قال الأعمش: (أرانا مُجاهد بيده فقال: كانوا يروْن أن القلب في مثل هذا -يعني الكف- فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمّ منه -وقال بإصبعه الخنصر هكذا- فإذا أذنب ضُمَّ -وقال بإصبع أخرى- فإذا أذنب ضُمَّ -وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى

ص: 118

ضم أصابعه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابع. قال مجاهد. وكانوا يُرَوْن أن ذلك: الرَّينُ).

6 -

القول السادس: قال ابن جرير: (وقال بعضهم: إنما معنى قوله {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِما دُعُوا إليه من الحق، كما يقال: "إن فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام" إذا امتنع من سَماعه، ورفع نفسه عن تَفَهُّمه تكبرًا). وردّه ابن جرير بحجة أن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.

والآية ردّ على المعتزلة الذين ينكرون الختم على القلوب ومنعها من وصول الحق إليها.

قال القرطبي: (وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين، مجازاة لكفرهم كما قال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}).

وقال: (وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحمِيّة والإنكار.

فقال في الإنكار: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} . وقال في الحمية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} . وقال في الانصراف: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} . وقال في القساوة: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ} . وقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} . وقال في الموت: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} . وقال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} . وقال في الرَّين: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . وقال في المرض: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . وقال في الضيق: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} . وقال في الطبع: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} . وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} . وقال في الختم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ).

فوائد مستنبطة:

1 -

الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والإيمان، فإذا تكبر العبد على أوامر ربه فربما عاقبه بالختم والران، والطبع والغشاوة والحرمان. قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].

وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: [كنا عند عمر فقال:

ص: 119

أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تَعْنون فتنةَ الرجل في أهله وماله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تِلك تُكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر التي تمُوج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسْكَتَ القومُ، فقلتُ: أنا. قال: أنت لله أبوك؟ قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تُعرض الفِتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأي قلب أُشْرِبَها (1) نُكت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء، حتى يصيرَ على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضرّه فتنة ما دامت السماوات والأرضُ، والآخر أسودُ مُرْبادًا (2) كالكوز مُجَخِّيًا (3)، لا يعرف معروفًا ولا يُنكر مُنكرًا، إلا ما أُشرِبَ من هواه] (4).

2 -

تشبيه القلوب بالأوعية والظروف والغلف.

قال ابن جرير: (فإن قلوب العباد أوعية لما أُودعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور. فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات، ومن قِبَلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء من المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف).

3 -

قوله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح.

قال القرطبي: (والقلب للإنسان وغيرِه. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه، فالقلب موضع الفكر. وهو في الأصل مصدر قَلبْتُ الشيء أقلِبه قلبا إذا رددته على بداءته. وقلبت الإناء: رددته على وجهه. ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان، لسرعة الخواطر إليه، ولترددها عليه، كما قيل:

ما سُمِّيَ القلب إلا من تقلُّبِه

فاحذر على القلب من قَلْبٍ وتحويل

قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بهذا المعنى.

(1) أي دخلت فيه دخولًا تامًّا وكأنها حلت محل الشراب، ومنه قوله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي حب العجل.

(2)

شدة البياض في سواد، أي الذي اختلط سواده بكدرة.

(3)

مُجَخِّيًا: أي منكوسًا مائلًا.

(4)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1990)، ورواه البخاري في الصحيح (6497).

ص: 120

ففي صحيح ابن ماجة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثلُ القلب مثلُ الريشةِ، تُقَلِّبُها الرياح بفلاة](1).

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن قلوبَ بني آدمَ كلَّها بين أصبُعينِ من أصابع الرحمن، كقلبٍ واحد، يصرفه كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك](2).

وفي صحيح ابن ماجة ومسند أحمد من حديث النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: [اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك]، [اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك](3).

وفي المسند عن المقداد مرفوعًا: [لَقَلْبُ ابن آدم أشد انقلابًا مِنَ القِدْرِ إذا اجْتَمَعَتْ غَلَيانا](4).

وأما فضل القلب على سائر البدن فمأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام: [ألا وإن في الجسد مُضغة: إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسدَ الجسد كلُّه، ألا وهي القلب](5).

4 -

القلب هو مركز الفهم والفقه في الإنسان.

قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (88)، وانظر مسند أحمد (4/ 419).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (8/ 51)، ومسند أحمد (2/ 168 - 173).

(3)

أخرجه أحمد (4/ 182) وهو صحيح. ورواه ابن ماجة، وابن أبي عاصم. انظر تخريج السنة، حديث رقم (230)، (231)، (232)، باب (40).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 4)، والحاكم (2/ 289)، وانظر السلسلة الصحيحة (1772).

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري وغيره. انظر مختصر صحيح البخاري - حديث رقم - (48)، وهو جزء من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

ص: 121

فالقلب هو مركز التفكير والفقه، وليس العقل الذي في الدماغ، وقد صدرت دراسات حديثة لعلماء في مجال الطب تثبت ذلك. وقد بسطت القول في ذلك في كتابي "تحصيل السعادتين على منهج الوحيين".

وقد ورد عن الإمام القرطبي رحمه الله: (قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي عقل، لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محل القلب، والصدر محل الفؤاد، والله أعلم). وقال القاسمي: (قال الراغب: المراد بالقلب في كثير من الآيات: العقل والمعرفة).

قلت: ولكن هذا من باب التأويل، فأما آية الأعراف فتخصص كل عضو بوظيفته، فالبصر للعين والسمع للأذن، فتأويل القلب بالعقل يسمح بتأويل العين والأذن إلى غيرها من الأعضاء وهو باب لا نهاية له.

5 -

تفضيل السمع على البصر.

فقوله تعالى: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} يدل على ذلك، ونحوه قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ

} [الأنعام: 46]. وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ

} [الملك: 23].

قال القرطبي: (والسمع يُدْرك به من الجهات الست، وفيَ النور والظلمة، ولا يُدْرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء وشعاع).

6 -

الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة على البصر.

قال ابن جريج: (الختم علي القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ

} [الشورى: 24]. وقال: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً

} [الجاثية: 23]).

فبتتابع الذنوب على القلب يأتي الختم من الله جزاء الاستهتار، وبالإعراض عن سماع الحق والوحي يطبع الله على السمع فلا يسمع إلا ما أشرب من هواه، وبترك إعمال البصر في الحق وصرفه لرؤية الفواحش وما يسخط الله تأتي عليه الغشاوة من الله.

وفي جامع الترمذي بسند حسن من حديث محمد بن عجلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سودَاء في قلبه، فإن تاب ونَزَع واستعتب صقُل قلبُه،

ص: 122

وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الرّان الذي قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ] (1).

قال ابن عباس: ({خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون. ويقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون).

ولذلك كان الوقف التام على {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} عند أكثر القراء، لأن قوله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} جملة تامة، و {غِشَاوَةٌ} رُفع على الابتداء وما قبله خبر.

8 -

20. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3334)، وابن ماجة (4244)، والنسائي في "اليوم والليلة"(418)، ورواه ابن حبان (930)، والحاكم (2/ 517)، والطبري (304) بإسناد حسن. وانظر صحيح سنن ابن ماجة - حديث رقم - (3422).

ص: 123

قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}.

في هذه الآيات: ذكر صفات المنافقين وأحوالهم وتقلباتهم المختلفة وفضح أساليبهم. فهم:

أ- يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

ب- استحوذ مرض النفاق على قلوبهم، فهو مرض في الدين لا في الأبدان.

ج- المنافقون يدعون الإصلاح إذا نهيتهم عن الفساد، ويدعون الإيمان عند المؤمنين، ثم يعتذرون لرؤسائهم بأنهم كانوا يسخرون.

د - اشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى.

هـ- المنافقون يعلمون الحق ويرتكسون في الكفر متحيرين.

فإلى تفصيل ذلك:

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} .

قال مجاهد: (هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نعت المنافقين).

وقال ابن عباس: ({وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ})، يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم).

قال ابن جرير: (وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة صفتهم).

والناس: جمع لا واحد له من لَفْظهِ، وإنما واحدهم "إنسان" وواحدتهم "إنسانة". أو قد يكون أصله "أناس" أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها. وأما النفاق: فهو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو نوعان:

1 -

اعتقادي.

2 -

عملي.

النفاق الاعتقادي: هو نقاق في أصل الدين، يخلد صاحبه في النار، غير أن صاحبه لا يعامل معاملة الكافرين لعدم إظهار كفره. قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3].

ص: 124

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: [أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال: آذني أصلي عليه فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال: أليس قد نهاك (1) أن تصلي على المنافقين؟ فقال: أنا بين خيرتين، قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فصلى عليه فنزلت {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}](2).

وأما النفاق العملي: فهو من أكبر الذنوب، وهو يشمل الكذب والخيانة والغدر وإخلاف العهد.

قال ابن جريج: (المنافق يخالف قَوْلُهُ فِعْلَه، وسِرُّه علانيته، ومدخلهُ مخرجَه، ومشهده مغيبه).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[آيةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخْلف، وإذا اؤتمن خان](3).

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عَمْروٍ رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خَصْلة منهن كانت فيه خصْلَةٌ من النِّفاق حتى يدَعَها: إذا اؤْتُمِنَ خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غَدَرَ، وإذا خاصم فَجَر](4).

وقد عُرِف النفاق في المدينة والسور المدنية، إذ إن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان فيها من يُكره على النطق بالكفر وهو مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج على جاهليتهم يعبدون الأصنام شأن مشركي العرب، وبها اليهود ثلاث قبائل: بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير وبنو قريظة حلفاء الأوس، فأسلم من أسلم من الأنصار من الأوس والخزرج، وقلَّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فلما أظهر الله شوكة نَبيِّه والمؤمنين ببدر قال

(1) فهم عمر من قوله (فلن يغفر الله) منع الصلاة عليهم، فأخبره أن الرجاء لن ينقطع.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4672) - كتاب التفسير، سورة التوبة، آية (84)، ورواه مسلم وبعض أهل السنن.

(3)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح البخاري (31)، كتاب الإيمان. وأخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، حديث رقم (59).

(4)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح البخاري (32)، كتاب الإيمان. وأخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، حديث رقم (58).

ص: 125

عبد الله بن سلول: (هذا أمر قد توجه) فأظهر الدخول في الإسلام -وكان رأس المنافقين- وسيد الطائفتين في الجاهلية وكادوا يملكوه فانشغلوا عنه بالإسلام، فنافق وطائفة ممن معه وآخرون من أهل الكتاب، ثم وُجد النفاق في المدينة وفي الأعراب ممن حول المدينة. وأما المهاجرون فما ظهر فيهم النفاق، إذ لم يهاجر أحد منهم مكرهًا، بل ترك ماله وولده وأرضه وبيته رغبة فيما وعد الله سبحانه في الدار الآخرة.

قال ابن جرير: (وقوله: {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، يعني بالبعث يوم القيامة، وإنما سمي يومُ القيامة (اليومَ الآخر)، لأنه آخر يوم، لا يوم بعده سواه). قال:(فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاع للآخرة ولا فناء ولا زوال؟ قيل: إن اليوم عند اعرب إنما سُمِّيَ يومًا بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يُسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليل بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الأيام).

وقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} - أي: بل هم مكذبون كما يظهر من أقوالهم وأفعالهم وما تخفي قلوبهم أكبر.

وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .

قال ابن زيد: (هؤلاء المنافقون، يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظهروا) ذكره ابن جرير.

وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره القرطبي عن الحسن وغيره.

وفي لغة العرب: (خدعه) ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم. وقيل أصل الخدع: الفساد. وقيل أصله: الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء.

قال ابن جريج: (يخادعون الله: يظهرون لا إله إلا الله، يريدون أن يُحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم. وفي أنفسهم غير ذلك).

وفي التنزيل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142 - 143].

ص: 126

وقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} نفي وإيجاب، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {وَمَا يَخْادعُونَ} بالألف. وقرأها مُوَرِّق العجلي: "يُخَدِّعون الله". واختار ابن جرير {وَمَا يَخْدَعُونَ} دون "وما يخادعون" لأن لفظ "المخادع" غير موجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة، قال:(ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسِه بما ركِبَ من خداعِه ربَّه ورسولَه والمؤمنين بنفاقه، فلذلك وجبت الصِّحة لقراءة من قرأ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}).

قال النسفي: ({وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}): أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم).

وقال القاسمي: (فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان الكفر والعداوة. وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم، وإجراء أحكام الإسلام عليهم. بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك. وادخار العذاب الأليم، والمآل الوخيم، وسوء المغبة لهم، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم. لكن الفرق بين الخداعين: أن خداعهم لا ينجح إلا في أنفسهم، بإهلاكها، وتحسيرها، وإيراثها الوبال والنكال -بازدياد الظلمة، والكفر والنفاق، واجتماع أسباب الهلكة، والبعد والشقاء، عليها- وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشد إيباق، كقوله تعالى. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}).

وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} . أي: وهم من غاية غرقهم في جهلهم وغرورهم لا يحسون ما يُحاك لهم وما يُبَيَّتُ ضدهم.

قال ابن زيد: (ما يشعرون أنهم ضرّوا أنفسهم، بما أسرّوا من الكفر والنفاق).

وفي لغة العرب: شعر بالشيء إذا فَطِنَ له. ومنه قولهم: (ليت شِعْري) أي ليتني عَلِمْتُ.

قال الأخفش: (والشاعر: أي صاحب شِعر وسمي شاعرًا لفطنته).

وقال القرطبي: (وما يشعرون: أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون

ص: 127

أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم:{ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} ).

وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك. فهم في تردد في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوته. فزادهم الله بما أنزل من الوحي من الحدود والفرائض شكًّا وحيرة. في حين زاد المؤمنين بذلك إيمانًا وتسليمًا.

وقد فسّر المفسِّرون {المرض} بتفاسير متشابهة:

الأول: الشك. قال السّدِّيُّ عن ابن عباس وغيره: ({فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ، قال: شك، {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قال: شكًّا). وعن ابن مسعود: (فزادهم الله ريبة وشكًّا).

الثاني: الرياء. قال طاووس وعكرمة: ({فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني: الرياء).

الثالث: النفاق. قال الضحاك، عن ابن عباس:({فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال: نفاق {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قال: نفاقًا).

الرابع: المرض في الدين. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد، وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام. {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قال: زادهم رجسًا، وقرأ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ

} [التوبة: 124 - 125]. قال: شرًّا إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم).

قال الحافظ ابن كثير: (وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حَسَنٌ، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]).

وقال القرطبي: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} : قيل: هو دعاء عليهم).

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : أي مؤلم موجع. ففي لغة العرب: الألم: الوَجع، والتألُّم: التوجُّع. قال الرازي: (و"الإيلام" الإيجاع، و"الأليم" المؤلم كالسميع بمعنى المُسْمِع).

ص: 128

وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . قرأها معظم قراء الكوفة {يَكْذِبُونَ} . وقرأها قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة {يُكْذِّبُونَ} .

قال الحافظ ابن كثير: (وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كَذَبة ويكذبون بالحق).

قال الإمام مالك: (وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبيّن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، إذ لم يُشْهد على المنافقين).

وقال الشافعي: (وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم).

وقد ذهب إلى ذلك الإمام القرطبي في التفسير فقال: (إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي" أخرجه البخاري ومسلم).

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} .

أما قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} - ففيه تأويلان:

التأويل الأول: لم يجئ هؤلاء بعد. فعن سَلْمان الفارسي رضي الله عنه قال: (ما جاء هؤلاء بعد، الذين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}).

التأويل الثاني: هم المنافقون. فعن ابن عباس: (هم المنافقون. أما {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} فإن الفساد هو الكفر والعملُ بالمعصية).

وعن الرَّبيع: ({وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} يقول: لا تعصوا في الأرض {قَالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، قال: فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه، لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته، فقد أفسدَ في الأرض، لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة).

واختار ابن جرير أنها نزلت في المنافقين على عهده صلى الله عليه وسلم وتشمل كل من شابههم في النفاق إلى يوم القيامة. ثم قال: (وقد يَحْتَمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية: "ما جاء هؤلاء بعد"، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ص: 129

ثم قال: (فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربَّهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذين لا يُقْبَل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذِبهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها).

وكذلك قوله: {قَالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} - فيه تأويلان:

التأويل الأول: قاله ابن عباس: (قالوا إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب).

التأويل الثاني: قال مجاهد: (قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون (1)).

قلت: والفساد في اللغة خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعًا به، والمفسَدَة ضد المصلحة، قال الراغب:(تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح لما في قلوبهم من المرض).

وقال القاشاني: (كانوا يَرَوْن الصلاح في تحصيل المعاش، وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا -لأنفسهم خاصة- لتوغّلهم في محبة الدنيا، وانهماكهم في اللذات البدنية) ذكره القاسمي.

فأجابهم سبحانه: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} .

{هُمُ الْمُفْسِدُونَ} مبتدأ وخبر، وهما معًا في محل رفع خبر إن. وقد تكون هم فاصلة و {الْمُفْسِدُونَ} خبر إن، والتقدير: ألا إنهم المفسدون. والمعنى كما قال ابن جرير: (ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمر الله عز وجل، المتعدون حُدودَه، الراكبون معصيتَه، التاركون فروضَه، وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين).

(1) اسم فاعل من أصلح. يقال صَلَح الشيء وصَلُح. والصلاح: ضد الفساد. والصُّلوح مصدر صَلُح.

ص: 130

وقوله: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال ابن كَيْسان: (يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم. قال: ففيه جوابان: أحدهما - أنهم كانوا يعملون الفساد سرًّا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم. والوجه الآخر: أن يكون فسادهم عندهم صلاحًا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه).

وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} .

قال ابن عباس: (وإذا قيل لهم صدقوا كما صدق أصحاب محمد، قولوا: إنه نبي ورسول، وإن ما أنزل عليه حق، وصدِّقوا بالآخرة، وأنكم مبعوثون من بعد الموت). قال: (يقولون: أنقول كما تقول السفهاء؟ يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لخلافهم لدينهم).

وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ({قَالوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}، يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).

وقال زيد بن أسلم: (هذا قول المنافقين، يريدون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).

وأصل السّفه في لغة العرب: الخِفّة والرّقة. قال الرازي: (السَّفه: ضد الحلم وأصله الخِفة والحركة). والسفيه: هو الجاهل الضعيف الرأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار. فأراد المنافقون القول: (أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟ ) فكذبهم الله سبحانه بقوله:

{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} .

قال ابن عباس: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} ، يقول: الجهال، {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} ، يقول: ولكن لا يعاقلون).

قال القرطبي رحمه الله: (وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء، فأطلع الله نبيّه والمؤمنين على ذلك، وقرّر أن السَّفه ورِقّة الحُلُوم وفساد البصائر إنما هي في حيِّزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرَّيْن الذي على قلوبهم).

ص: 131

وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} .

يقول جلّ ثناؤه: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين أظهروا لهم الإيمان نفاقًا ومصانعة ليصيبوا معهم من الأموال والغنائم من جهة، وليحفظوا بالخداع دماءهم وأموالهم وذراريهم من جهة أخرى، ثم إذا انصرفوا إلى شياطينهم وخَلَوْا بمردتهم من أهل العُتوّ والخبث قالوا: إنا معكم على العهد وأولياؤكم ضد محمد وأصحابه. ثم هناك تأويلان في الذين عُنوا بهذه الآية:

التأويل الأول: هم قوم من منافقي اليهود.

قال ابن عباس: (كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم، قالوا: إنا على دينكم. وإذا دخلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينُهم، قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون).

التأويل الثاني: هم قوم من منافقي العرب.

قال سعيد بن جبير: (إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول {قَالوا إِنَّا مَعَكُمْ} أي إنا على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}).

وأمّا شياطينهم فهم رؤوسهم في الكفر والنفاق.

قال ابن مسعود وناس من الصحابة: (أما شياطينهم، فهم رؤوسهم في الكفر).

وقال قتادة: ({وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، أي رؤسائهم في الشر).

وقال مجاهد: (إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار). أو قال: (إخوانهم من المشركين).

وقال ابن جريج: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا} ، قال: إذا أصاب المؤمنين رخاءٌ قالوا: إنا نحن معكم، إنما نحن إخوانكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزؤوا بالمؤمنين).

وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .

قال ابن عباس: (ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم).

ص: 132

وقال: (أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم) وكذلك قال قتادة والربيع.

وهزئ في لغة العرب: سخر. فأجابهم الله تعالى مقابلة على صنيعهم:

{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} .

قال ابن عباس: (يسخر بهم للنقمة منهم. {وَيَمُدُّهُمْ} يملي لهم {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في كفرهم يترددون).

وفي صفة استهزاء الله سبحانه بالمنافقين أكثر من تأويل:

التأويل الأول: مَكْرُهُ بهم يوم القيامة.

قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [لحديد].

وقال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران].

قال ابن جرير: (فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلَّ وعزَّ وسخريتهِ ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأولي هذا التأويل).

التأويل الثاني: استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.

فقد ذكر القرطبي في التفسير عن ابن عباس: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} في الآخرة، يفتح لهم باب جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يَسْبَحون في النار، والمؤمنون على الأرائك -وهي السرر- في الحِجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سُدَّ عنهم، فيضحك المؤمنون منهم، فذلك قول الله عز وجل:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غُلِّقت دونهم الأبواب، فذلك قوله تعالى:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)} إلى أهل النار {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} ).

التأويل الثالث: الاستهزاء والخداع والمكر والسخرية والنسيان المذكورة في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} . {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]. {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ

} [التوبة: 79]. {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ

} [التوبة: 67]. إخبار أنه تعالى مجازيهم جزاء

ص: 133

الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي استحقوا عليه العقاب.

قال النسفي: (الله يستهزئ بهم: أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه). وقال الزجاج: (هو الوجه المختار، واستئناف قوله "الله يستهزئ بهم" من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان. ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل: الله يستهزئ بهم ولم يقل الله مستهزئ بهم).

التأويل الرابع: يستهزئ بهم بأن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا مما فيه عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة من العذاب والنكال. واختاره ابن جرير.

ومنه قول ابن عباس - فيما رواه عنه الضحاك -: (يسخر بهم للنقمة منهم).

التأويل الخامس: قيل بل هذا وأمثاله على سبيل الجواب. (نفاه ابن جرير) وقال: (وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة، فنافون عن الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها).

وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ} .

قال ابن عباس: (يملي لهم) وقال مجاهد: (يزيدهم).

قال القرطبي: (يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}).

وقال القاسمي: (يزيدهم على وجه الإملاء، والترك لهم فيم عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}).

وقال الحافظ ابن كثير: (قال بعضهم: كلما أحدثوا ذنْبًا أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة).

قلت: وفي السنة الصحيحة ما يدل على هذا المعنى.

ص: 134

فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا رأيت الله تعالى يُعطي العبد من الدنيا ما يحِبُّ، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج](1).

وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله عز وجل يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفْلِتْهُ، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](2).

وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قال ابن عباس: (في كفرهم يترددون).

وقال: (يعمهون: يتمادون). وقال ابن مسعود: (يتمادون في كفرهم). قال ابن كثير: (والطغيان: هو المجاوزة في الشيء). وقال ابن جرير: (والعَمَهُ: الضلال، يقال: عَمِهَ فلان يَعْمَهُ عَمَهًا وعُمُوها، إذا ضلّ).

قال القرطبي: (والعمى في العين، والعمه في القلب، وفي التنزيل: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}).

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالةَ بِالْهُدَى} - فيه أكثر من قول:

1 -

عن ابن عباس: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالةَ بِالْهُدَى} ، أي الكفر بالإيمان).

2 -

عن ابن مسعود: (أخذوا الضلالة وتركوا الهدى).

3 -

عن قتادة: (استحبوا الضلالة على الهدى).

4 -

عن مجاهد: (آمنوا ثم كفروا).

وهي أقوال متقاربة مفادها أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال وبذلوا الهدى ثمنًا للضلالة والشهوات.

وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} .

قال قتادة: (قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 145)، والطبراني، والبيهقي في "الشعب" بسند حسن. انظر صحيح الجامع (575)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (414).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، وابن ماجة (4018)، وأخرجه ابن حبان (5175)، ورواه البيهقي (6/ 94).

ص: 135

الفُرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة).

قال القرطبي: (أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: رَبحَ بيعُكَ، وخسِرَت صفقتُك .. أي فما ربحوا في تجارتهم).

قال القاسمي: (وفائدته: المبالغة في تخسيرهم، لِما فيه من الإشعار بكثرة الخسار).

وقوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} إشارة لعدم اهتدائهم لطرق التجارة كما يهتدي إليه التجار البصراء، بل كانوا تجارًا فاشلين لا يصلحون للتصدي لها وتحقيق الأرباح. والمراد أنهم ما كانوا رُشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى، واستبدالهم الكفر بالإيمان، واشترائهم النفاق بالتصديق والإقرار- كما أفاد ابن جرير.

وقيل: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي في سابق علم الله. ذكره القرطبي.

وقيل: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي: لزوال استعدادهم، وتكدير قلوبهم بالرَّين الموجب للحجاب والحرمان الأبدي. ذكره القاسمي.

وقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} .

شبه الله سبحانه المنافقين حين اشتروا الضلالة بالهدى وصاروا بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارًا فأضاءت له وانتفع بها وأبصر بها ما غيّبه الظلام من حوله وتأنَّس بها، فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره وعاد إلى الظلام الشديد، فلا يبصر ولا يهتدي. ثم شبه المنافقين أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى كالصم لايسمعون وكالبكم لا ينطقون وكالعُمي لا يبصرون طريقهم.

فقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} نزل في المنافقين، فإلى ذكر أقوال علماء التفسير وأعلامه:

القول الأول: عن ابن عباس قال: (أي يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفؤوه بكفرهم به ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق).

ص: 136

القول الثاني: مروي أيضًا عن ابن عباس قال: (هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضوءَه. {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} يقول: في عذاب).

القول الثالث: عن ابن مسعود - وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (زعم أن أناسًا دخلوا في الإسلام مقدمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قذىً أو أذىً فأبصره حتى عرف ما يتَّقي. فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم).

القول الرابع: عن ابن عباس: (ضربه الله مثلًا للمنافق. قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتُهم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُزع منهم، فَعَتَوْا بعد ذلك).

القول الخامس: عن قتادة: (وأن المنافقَ تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازى بها المسلمين، ووارثَ بها المسلمين، وحقن بها دمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه). وفي رواية: (هي لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون).

وقال الضحاك: (أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم).

القول السادس: عن مجاهد قال: (أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة).

القول السابع: عن الربيع بن أنس قال: (إنما ضوءُ النار ونورها ما أوقَدتها، فإذا

ص: 137

خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاءَ له، فإذا شك وقع في الظلمة).

وقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} - فيه أقوال متقاربة:

1 -

عن ابن عباس: (أي: فتركهم الله في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق).

2 -

وقال السدي: (فكانت الظلمة نفاقهم).

3 -

وقال الحسن البصري: (فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملًا من خيرٍ عَمِلَ به يصدق به قول: لا إله إلا الله).

وفي السنة الصحيحة ما يصف هذا المصير للمنافقين:

ففي الصحيحين والمسند عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثلُ المؤمن كمثلِ الخامة (1) من الزرع، تُفيؤُها الريحُ مرة وتعدِلُها مرةً، ومثل المنافق كمثل الأرْزَةِ، لا تزال حتى يكون انجعافُها مرة واحدة](2).

وفي المسند وجامع الترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريحُ تُفيؤُه، ولا يزال المؤمنُ يصيبُه بلاءٌ، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزِ، لا يهتز حتى يستحصدَ](3).

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: [مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرّة وإلى هذه مرة](4).

والشاة العائرة بين الغنمين هي المترددة الحائرة لا تدري أيهما تتبع فهي تعير أي تتردّد وتذهب.

(1) هي الساقة والقصبة اللينة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (5643)، وانظر مختصر صحيح مسلم (28)، وصحيح الجامع - حديث رقم - (5717).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 136)، ورواه أحمد والترمذي. انظر صحيح الجامع (5718).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 125). وانظر مختصر صحيح مسلم (1942) - كتاب المنافقين.

ص: 138

وأما قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} . ففيه أقوال متشابهة:

1 -

قال ابن عباس: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} عن الخير. يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه).

2 -

وقال ابن مسعود وغيره: {بُكْمٌ} ، هم الخرس). وقال السدي:(فهم خرس عمي).

3 -

وقال قتادة: (صم عن الحق فلا يسمعونه، عمي عن الحق فلا يبصرونه، بُكم عن الحق فلا ينطقون به).

وقوله: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال قتادة: (أي: لا يتوبون ولا يَذَّكَّرون).

2 -

قال ابن مسعود وغيره: (فهم لا يرجعون إلى الإسلام).

3 -

قال ابن عباس: (أي: فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير، فلا يصيبون نجاةَ ما كانوا على ما هم عليه).

واستبعد ابن جرير القول الثالث بدعوى أنه محصور على وقت وأن لهم السبيل إلى الرجوع عنه، وذهب إلى أن قوله:{لَا يَرْجِعُونَ} من غير حصر على وقت دون وقت أو حال دون حال. قال: (وقوله: {لَا يَرْجِعُونَ} إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهُدى، وصممِهم عن سَماع الخير والحق، وبَكَمهم عن القيل بهما، وعَماهم عن إبصارهما - أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيسَ المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا، أو يقولوا حقًّا، أو يسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذّكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفّار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم، الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشّى على أبصارهم).

قلت: وهذه الآية من الآيات التي يُفهم بها القدر وأنواع الكتابة في اللوح المحفوظ.

قال القرطبي: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم).

وقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ

ص: 139

الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}.

(الصَّوْب) في لغة العرب نُزول المطر، و (الصيِّب): السحاب ذو الصوب. و (صابَه) المطر أي مُطِر. قال ابن عباس: (الصيِّب: المطر). وقال: (القطر). وعن مجاهد: (الصيِّب: الربيع). وعن عبد الرحمان بن زيد: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} قال: أو كَغَيْثٍ من السماء).

والظلمات جمع ظُلمة. والرعد مَلَكُ يزجُر السحاب، أو قيل: ريح تختنق تحت السحاب فتصاعد فيكون منه ذلك الصوت.

وفي القول الأول أقوال يوضح بعضها بعضًا:

1 -

قال ابن عباس: (الرعد: ملك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته).

وقال: (الرعد: ملك يزجرُ السحاب بالتسبيح والتكبير).

وقال: (الرعد: اسم ملك، وصوتُه هذا تسبيحه، فإذا اشتد زَجْره السحابَ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصواعق من بينه).

وقال: (الرعدُ: ملك يسوق السحاب بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحُدائه).

2 -

قال مجاهد: (الرعد: ملك يزجر السحاب بصوته).

3 -

قال عكرمة: (الرعد ملك في السحاب، يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل).

وقال: (إن الرعد ملكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّفُ بينه، فذلك الصوت تسبيحه).

وقال: (كان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: سُبحان الذي سبَّحتَ له. قال: وكان يقول: إن الرعد ملكٌ ينعَق بالغيث كما ينعقُ الراعي بغنمه).

4 -

قال قتادة: (الرعد خَلْقٌ من خلق الله جل وعز، سامعٌ مطيع لله جل وعز).

وأما القول الثاني فذكر ابن جرير أنه من طريق الحسن بن الفرات عن أبيه قال: (كتب ابن عباس إلى ابن أبي الجَلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد ريح).

وفي رواية: (كتبتَ تسألني عن الرعد، فالرعد ريح).

ص: 140

قلت: والقول الأول هو الراجح، فإن السنة الصحيحة قد دلت عليه.

فقد أخرج الإمام أحمد والطبراني وابن سعد بسند حسن عن ابن عباس قال: [أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا الله على ما نقول وكيل. قال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه. قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال: يلتقي الماءان فإن علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت، قالوا: أخبرنا ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عرق النَّسا فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا. قال عبد الله قال أبي، قال بعضهم: يعني الإبل فحرّم لحومها. قالوا: صدقت. أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب، بيده أو في يده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمر الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: صوته. قالوا: صدقت. إنما بقيت واحدة وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل عليه السلام. قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان. فانزل الله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] إلى آخر الآية] (1).

وأما البرق فأصله في كلام العرب من البريق والضوء. قال الرازي: (برق السيف وغيره تلألأ). ورعدت المرأة وبرقت: تحسّنت وتزينت. ورعد الرجل وبرق: تهدّد وأوعد. وقد ورد فيه عند المفسرين أكثر من تأويل:

التأويل الأول: البَرْق مخاريق الملائكة.

قال ابرْ عباس: (البَرْق مخاريقُ بأيدي الملائكة، يزجرون بها السحاب).

وعن علي رضي الله عنه قال: (الرعد الملك، والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد).

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (1/ 274)، والترمذي في السنن - حديث رقم (3117)، وله شواهد. فقد أخرج الطيالسي (2731)، والطبري (1608)، وأحمد (1/ 273)، والبيهقي في "الدلائل" (6/ 266) نحوه بإسناد حسن. وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول"- الوادعي - سورة البقرة، آية (97).

ص: 141

التأويل الثاني: البَرْق سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحاب. ذكره الضحاك عن ابن عباس.

التأويل الثالث: البَرْقُ ماء.

يروي ابن جرير بسنده عن أبي كثير قال: (كنت عند أبي الجَلْد إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه: كتبتَ إليّ تسألني عن البرق، فالبرق الماء).

وفي رواية: (فقال: البرق ماء). وفي رواية: (وإنه من الماء).

التأويل الرابع: البَرْق هو مَصْعُ مَلك.

قال مجاهد: (البرق، مَصْعُ مَلك). وقال ابن جريج: (البرق ملك).

وقد حاول ابن جرير رحمه الله الجمع بين هذه الأقوال بقوله: (وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر علي رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يُزجي بها الملك السحاب، كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مَصْعَه إياه).

وأما الصواعق فهي جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد.

قال ابن زيد: (الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد).

وقال مجاهد: (إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق).

وقال الخليل: (هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانًا قطعة نار تحرق ما أتت عليه). وحكى عن قوم الساعقة (بالسين).

وقال القرطبي: (والصاعقة أيضًا صيحة العذاب، قال الله عز وجل: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ}. ويقال: صَعِقَ الرجل صعقة وتصعاقا، أي غُشي عليه، ومنه قول تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}).

وأما معنى الآية: فقد مثَّل الله تعالى أحوال المنافقين بما فيه الصَّيِّب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق. فالظلمات مَثَلٌ لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مثلٌ لما يُخَوَّفون به. وقيل: مثّل الله تعالى بالصيِّب لما فيه من الإشكال عليهم، والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة

ص: 142

التي تكاد أحيانًا أن تبهرهم هو البرق. والصواعق مثَلٌ لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل. وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما. وقيل غير ذلك. فإلى ذكر خلاصة ما تأوله المفسرون.

التأويل الأول: عن ابن عباس: ({أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}: أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخوف منكم - على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَر الموت، يكاد البرق يخطف أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق - كُلَّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين).

التأويل الثاني: عن ابن مسعود وناس من الصحابة: (كان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن ينزِلَ فيهم شيء أو يُذكروا بشيء فيقتلوا، .... ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه: فإذا كثرت أموالهم، ووُلدَ لهم الغلمان، وأصابوا غنيمة أو فتحًا، مشوا فيه، وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه

، وإذا أظلم عليهم قاموا: فكانوا إذا هلكت أموالهم، ووُلد لهم الجواري، وأصابهم البلاء، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا .. ). وعن قتادة: ({فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} يقول: أجبنُ قوم، لا يسمعون شيئًا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرًا من الموت. {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} يقول: هذا المنافق إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يُصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير. {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء، قاموا متحيرين).

التأويل الثالث: عن ابن عباس أيضًا: (هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل، مُراءَاةً للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات فالضلالة، وأما البرقُ فالإيمان، وهم أهل الكتاب. وإذا أظلم عليهم، فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه).

التأويل الرابع: عن ابن عباس أيضًا: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} ، وهو المطر، ضربَ مثله في القرآن يقول:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} يقول: ابتلاء، {وَرَعْدٌ} يقول: فيه

ص: 143

تخويف، {وَبَرْقٌ} ، {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} ، يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ}. يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزًا اطمأنّوا، وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر، يقول:{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} ، كقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]).

وقال قتادة: (فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عيش قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شديدةٌ حقحق والله عندها، فانقطع به، فلم يصبر على بلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يَرْجُ عاقبتها).

التأويل الخامس: عن الربيع بن أنس قال: (مثلهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورعد وبرق على جادّة، فلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها، وإذا ذهب البرق تحيروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك تحيّر ووقع في الظلمة، فكذلك قوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}).

وقال الضحاك بن مُزاحم: (أما الظلمات فالضلالة، والبرق الإيمان).

وقال ابن زيد: (هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين، كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنار هذا بنور هذا البرق).

وقال ابن جُريج: (ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنَّ أنه يُراد به، وأنه الموت، كراهيةً له - والمنافق أكره خلق الله للموت - كما إذا كانوا بالبَراز في المطر، فرّوا من الصواعق). وعن عطاء: (مثل ضرب للكافر).

وعن مجاهد: ({وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} قال: جامعهم في جهنم). وقال ابن عباس: (الله منزل ذلك بهم من النِّقمة).

وقد ذكر ابن جرير رحمه الله معظم هذه الأقوال وأخبر أنها متقاربات المعاني لأنها تنبئ جميعها عن أن الله ضرب الصيِّب مثلًا لظاهر إيمان المنافق، ومثّل ما فيه من ظلمات لضلالته، وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه، واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته، ومشيَه في

ص: 144

ضوء البرق لاستقامته على نور إيمانه، وقيامَه في الظلام لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه.

قال القرطبي رحمه الله: (حذَرَ وحِذار بمعنىً، وقرئ بهما. قال سيبويه: هو منصوب لأنه موقوع له أي مفعول من أجله، وحقيقته أنه مصدر)(1).

قلت: وخلاصة المعنى: إن مثل ظاهر إيمان المنافقين وما أظهروه من القول مثل المطر يصاحبه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، فالظلمات مثل لما استبطنوه من الشك والتكذيب وأمراض القلوب، والبرق مثل لنور الإيمان الذي يسطع - أحيانًا - نتيجة تكلمهم بظاهر الحق أو محاولتهم التصديق، وأما الرعد والصواعق فهي مثل ما هم عليه من الوجل مما يترتب عليهم من عقوبة وخزي في الدنيا إذا انكشف أمرهم، فهم يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حذرًا على نفسه منها والله محيط بهم وجامعهم في جهنم.

ثم قال سبحانه: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} .

الخَطْف في لغة العرب: الاستِلاب. يقال: (برق خاطِف لنور الأبصار) - حكاه الرازي.

فجعل سبحانه ضوء البرق وشدة لمعانه كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشعاعِ نوره.

قال ابن عباس: (يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين).

وقال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي لشدة ضوء الحق {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} يقول: كلما أصاب المنافقين من عِزِّ الإسلام اطمأنوا إليه، وإذا أصاب الإسلامِ نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ

} الآية (2)).

وقال ابن عباس أيضًا: (أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على

(1) وقال الفراء: هو منصوب على التمييز. وفي قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} قال القرطبي: أي عالم بهم.

(2)

الحج (11).

ص: 145

استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر {قَامُوا} متحيرين).

قال القرطبي: (والمعنى: تكاد حجج القرآن وبراهينه الساطعة تَبْهَرهم. ومن جعل {الْبَرْقُ} مثلًا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يُذهب أبصارهم).

وقوله: {كُلَّمَا} منصوب لأنه ظرف. ويجوز أن تكون (كلما) بمعنى إذا، والجواب {مَشَوْا}. والمفعول محذوف والتقدير:(كلما أضاء لهم البرق الطريقَ) وهذا وجه، والوجه الآخر: أن تكون أضاء وضاء سواء فلا حاجة لتقدير حذف مفعول. ذكره القرطبي.

وفي قوله {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أكثر من تأويل (1):

التأويل الأول: كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنِسُوا ومشَوا معه، فإدْا نزل من القرآن ما يَعْمَوْنَ فيه ويضلون به أو يكلفونه {قَامُوا} أي ثبتوا على نفاقهم. ذكره ابن عباس.

التأويل الثاني: قيل: المعنى كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النِّعم قالوا: دين محمد مبارك، وإذا نزلت بهم مصببة وأصابتهم شدة سخِطوا وثبتوا في نفاقهم. ذكره ابن مسعود وقتادة.

التأويل الثالث: كلما تكلموا بكلمة الإخلاص أضاء لهم من نورها، فإذا تحركت قلوبهم بالشك والتكذيب والتردد رجعوا إلى الظلمة، ذكره الربيع بن أنس.

قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} .

قال ابن عباس: (لما تركوا من الحق بعد معرفته).

وقال الربيع بن أنس: (يعني أسماع المنافقين، وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس).

قال القرطبي: ({لَوْ} حرف تمَنٍّ وفيه معنى الجزاء، وجوابه اللام. والمعنى: ولو شاء الله لأطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عِزّ الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وخصّ السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولًا، أو لأنهما أشرف ما في الإنسان).

(1) بعضها مضى ولكن أعود لتلخيصها.

ص: 146

وذهب بعض نحوي الكوفة أنه وحّد السمع لأنه عنى به المصدر وقصد به الخَرْق، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين. في حين ذهب بعض نحوي البصرة إلى أن السمع وإن كان في لفظ واحد فإنه بمعنى جماعة كقوله تعالى:{لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي أطرافهم.

قال ابن جرير: (ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار - من الجمع والتوحيد - كان فصيحًا صحيحًا).

قلت: وخلاصة المعنى: (يكاد الوحي النازل يلمع في قلوب المنافقين فيظهر على ألسنتهم، فإذا نزلت التكاليف والشرائع انتكست قلوبهم لشدة أمراضها، وإذا تهددت مصالح معاشهم ودنياهم التي عظموها لاذوا إلى النفاق، ولو شاء الله لكشفهم وفضحهم وأخزاهم بسيوف المؤمنين أو حرمهم أسماعهم وأبصارهم التي استخدموها في نفاقهم).

ثم قال تعالى يختم الآيات:

{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

قال ابن جرير: (وإنما وصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير).

وأجمعت الأمة على تسمية الله تعالى بالقدير. ومعنى {قَدِيرٌ} قادر.

وفي صحيح الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير](1).

قال القرطبي: (فهذه عشرون آية على عدد الكوفيين، أربع آيات في وصف المؤمنين، ثم تليها آيتان في ذكر الكافرين، وبقيتها في المنافقين. وقد تقدمت الرواية فيها عن ابن جريج، وقاله مجاهد أيضًا).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2837)، وله شاهد عند الطبراني (13/ 2) من حديث علي رضي الله عنه في "فضل عشر ذي الحجة". وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1503).

ص: 147

21 -

22. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}.

في هذه الآيات: تذكير الله تعالى عباده أنه الخالق وحده لهم ولمن قبلهم، وأنه تعالى وحده ممهد الأرض ورافع السماوات ومنزل المطر ومخرج الثمار لعلهم يفردوه سبحانه بالتعظيم.

وعن ابن عباس قال: (قال الله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، أي وحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم). قال ابن مسعود. (يقول: خلقكم وخلق الذين من قبلكم).

قال ابن جرير: (والذي أراد ابن عباس - إن شاء الله - بقوله في تأويل قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وحِّدوه، أي أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه).

وفي مسند البزار عن عبد الله قال: (كل شيء نزل {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فهو بمكة. وكل شيء نزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو بالمدينة). وهو مروي عن مجاهد وعلقمة. قال القرطبي: (وهذا يردّه أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}. وأما قولهما في {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فصحيح).

لقد وجّه الله سبحانه الخطاب إلى الناس جميعًا -بما فيهم الذين ذكرهم من قبل من المنافقين واليهود والمشركين- بأن يفردوه سبحانه بالتعظيم والخضوع والمحبة. وهذا هو مفهوم العبادة.

وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: [كنتُ رديفَ النبي صلى الله عليه وسلم على حمارٍ، فقال لي: يا معاذُ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقُّ العباد على الله: أن لا يعذِّب من لا يشرك به شيئًا. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشِّرُ الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (13/ 300) في التوحيد، ومسلم (30) في الإيمان.

ص: 148

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: [قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا، وهو خلقك](1).

وفي المسند وسنن الدارمي بسند جيد عن الطفيل بن سَخْبرة - أخي عائشة أم المؤمنين لأمها - قال: [رأيت فيما يرى النائم، كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وما شاء محمد. قال: ثم مررت بنفر من النصارى. فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: هل أخبرت بها أحدًا؟ قلت: نعم. فقام، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن طُفَيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده](2).

وفي صحيح ابن حبان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [آمركم بثلاث، وأنهاكم عن ثلاث، آمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وتعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وتطيعوا لمن ولاه الله عليكم أمركم. وأنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال](3).

ومن خير ما جمع مفهوم العبادة بآفاقها هذا الحديث العظيم:

فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي والنسائي في السنن، والبخاري في التاريخ، بسند صحيح، عن الحارث الأشعري: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلماتٍ أن يعمل بهن وأن يأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بهن،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4477) - كتاب التفسير -، وأخرجه مسلم (86) في الإيمان.

(2)

جيد. أخرجه الدارمي (2/ 295)، وأحمد (5/ 72). وإسناده صحيح على شرط البخاري. وله شاهد من حديث جابر بن سمرة أخرجه ابن حبان (5725) بإسناد لا بأس به، وآخر أخرجه ابن ماجة في السنن (2118) من حديث حذيفة بسند قوي.

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في صحيحه (1543)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة - حديث رقم - (683)، وفي صحيح الجامع الصغير (12).

ص: 149

فكأنه أبطأ بهن، فأوحى الله إلى عيسى: إما أن يُبَلِّغَهن أو تُبَلِّغَهنَّ، فأتاه عيسى فقال له: إنك أُمِرت بخمس كلمات أن تعمل بهنَّ، وتأمَر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تُبَلِّغَهن وإما أن أبلِّغَهُنَّ، فقال له: يا روح الله إني أخشى إن سبقتني أن أعذبَ أو يُخسفَ بي، فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهنَّ وآمرَكم أن تعملوا بهنَّ، وأولهُنَ أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، فإن مثلَ من أشركَ بالله كمثل رجلٍ اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورقٍ، ثم أسكنه دارًا، فقال: اعمل وارفع إليَّ، فجعل العبد يعمل ويرفع إلى غير سيِّده، فأيكم يرضى أن يكونَ عبدُه كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا.

وأمركم بالصلاة، وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله عز وجل يُقبل بوجهه على عمده ما لم يلتفت.

وأمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل معه صُرَّةُ مِسْكٍ في عِصابَةٍ كلُّهم يجدُ ريح المسك، وإن خَلُوفَ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

وأمركم بالصدقة، ومثلُ ذلك كمثل رجل أسَرَه العدو فشدّوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فكَّ نفسه.

وأمركم بذكر الله كثيرًا، ومثلُ ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعًا في أثره فأتى حِصنًا حصينًا فأحرز نفسه فيه، وإن العبدَ أحصنُ ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى.

وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهنّ: الجماعةِ والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قِيد شبرٍ فقد خلع رِبْقةَ الإسلام من عنقه إلا أن يُراجِعَ، ومن دعا بدعوة الجاهلية فهو من جُثاء جهنَم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين عبادَ الله] (1).

قال عروة بن الزبير: (ما كان من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه نزل بمكة).

(1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 130 - 202)، والترمذي في السنن (2863) وحسنه ابن كثير. وقال فيه الألباني: هذا الحديث صحيح الإسناد بلا شك، انظر: صحيح الجامع (1720).

ص: 150

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

قال مجاهد: (لعلكم تطيعون) ، أي لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه، وإقلاعكم عن ضلالتكم. وليس المراد بلعل هنا الشك، قال أبو جعفر:(وإنما معنى ذلك. اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة).

قال القرطبي: {لَعَلَّ} متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتّقي).

ثم ذكر تأويلات {لَعَلَّ} التي وردت في القرآن بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وخلاصتها:

1 -

لعلّ: من الترجي والتوقّع. أي افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا. هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان. قال سيبويه في قوله عز وجل: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] قال: معناه اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى. واختاره أبو المعالي.

2 -

لعلّ: مجردة من الشك بمعنى لام كي. أي لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا. كقول الشاعر:

وقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا

نكفُّ ووثقتم لنا كلّ موثق

فلما كفننا الحرب كانت عهودكم

كلَمْعِ سراب في المَلا متألِّقِ

والمعنى: كفّوا الحروب لنكف، ولو كانت "لعل" هنَا شكًّا لم يوثقوا لهم كل موثق، وهذا القول عن قُطْرُب والطبري.

3 -

لعلّ: بمعنى التعرض للشيء. أي افعلوا ذلك متعرضين لأن تعقلوا، أو لأن تذكروا أو لأن تتقوا. والمعنى في قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار. ومنه قول علي رضي الله عنه: (كنا إذا احمرّ البأس اتقينا بالنبي صلى الله عليه وسلم) أي جعلناه وقاية لنا من العدو.

واختار القاسمي القول الأول، قال: (وفي إيراد {لَعَلَّ} تشبيه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجوّ منه أمرًا هيّن الحصول. فإنه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار، وطلب منهم الطاعة، ونصب لهم أدلة عقلية ونقلية داعية إليها، ووعد، وأوعد، وألطف بما لا يحصى كثرة - لم يبق للمكلف عذر، وصار حاله في رجحان

ص: 151

اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه - مع تمكنه من خلافه - وصار طلب الله تعالى لعبادته واتقائه بمنزلة الترجي).

قلت: والوجوه الثلاثة لـ {لَعَلَّ} التي أفادها القرطبي رحمه الله مقصودة شرعًا ومتفقة مع البيان الإلهي والنبوي.

وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} .

قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما: (فهي فراش يُمشى عليها، وهي المهاد والقرار).

وقال قتادة: (مهادًا لكم).

وقوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} .

قال ابن عباس: (فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض).

وقال قتادة: (جعل السماء سقفًا لك).

والسماء في لغة العرب يُذَكَّرُ ويؤنَّث وجَمْعه (أَسْمِيَة) و (سماوات). قال الرازي: (والسماء كلُّ ما علاك فأظلّك ومنه قيل لسقف البيت سماء).

فسميت السماء سماء لعلوها على الأرض وعلى سكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماء. ومنه قولهم: سما فلان لفلان، إذا أشرف له وقصد نحوه عاليًا عليه.

قال ابن جرير: (وإنما ذكر تعالى ذكره السماء والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم، وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحق عليهم الطاعة، والمستوجب منهم الشكر والعبادة، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضر ولا تنفع).

وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

الثمرات جمع ثمرة. وثِمار جمع ثمر. قال القرطبي: (والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانًا من الثمرات، وأنواعًا من النبات. {رِزْقًا} طعامًا لكم، وعَلَفًا لدوابكم،

ص: 152

وقد بيّن هذا قولُه تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 25 - 32].

قال النسفي: (ومن في {مِنَ الثَّمَرَاتِ} للتبعيض أو للبيان {رِزْقًا} مفعول له إن كانت من للتبعيض ومفعول به لأخرج إن كانت للبيان).

وخلاصة المعنى: إن الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها المنعم المتفضل عليهم بألوان الثمار والرزق قد استحق بهذا أن يُعبد وحده ولا يُشرك به غيره {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

وفي لغة العرب: ندّ البعير يندُّ ندًّا وندُودًا إذا نفر وذهب على وجهه شاردًا. ومنه قرأ بعضهم: {يَوْمَ التَّنَادِ} بتشديد الدال. ذكره الرازي. وأندادًا واحدها نِدّ.

قال أبو عبيدة: (أندادًا: أضدادًا). فالمعنى: (لا تجعلوا لله أكفاء وأمثالًا ونظراء).

فإن قيل: كيف سمّاها أندادًا وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه بل يجعلونها شفعاء عنده؟ أجاب القاسمي رحمه الله: (بأنهم لما تقرّبوا إليها وعظموها وسمّوها آلهة - أشبهت حالهم حالَ من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ومضادته، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكُّم. وكما تهكَّم بهم بلفظ الندّ شنّعَ عليهم واستفظع شأنهم، بأن جعلوا أندادًا كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ندّ قط).

وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من مات وهو يدعو من دون الله نِدًّا دخل النار](1).

وفي سنن النسائي ومسند أحمد عن ابن عباس: [أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله عَدلًا، ما شاء الله وحده](2).

ورواه ابن مردويه بلفظ: (أجعلتني لله ندًّا)(3). والمعنى واحد.

قال ابن القيم رحمه الله:

والشرك فاحذره، فشرك ظاهر

ذا القسم ليس بقابل الغفران

وهو اتخاذ الند للرحمن أيًّا

كان، من حجر ومن إنسان

(1) حديث صحيح. رواه البخاري (8/ 132)، (6683) - كتاب الأيمان والنذور.

(2)

أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة"، وأحمد في المسند (1/ 214)، وهو صحيح.

(3)

انظر "فتح المجيد" -تحقيق الأرناؤوط- ص (505).

ص: 153

يدعوه، أو يرجوه، ثم يخافه

ويحبه كمحبة الديان

واتخاذ الند على قسمين كما ذكر العلماء:

1 -

أن يجعله لله شريكًا في أنواع العبادة أو بعضها وهو من الشرك الأكبر.

2 -

ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل: (ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء).

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

ابتداء وخبر، والجملة حالية.

1 -

قيل: عني بها جميع المشركين من مشركي العرب وأهل الكتاب.

2 -

وقيل: بل عني بذلك أهل الكتابين، أهل التوراة والإنجيل.

فالأول: عن ابن عباس قال: (نزل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تنفع ولا تضرّ، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه).

وقال قتادة: (أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض، ثم تجعلون له أندادًا).

والثاني: عن مجاهد: ({فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل).

وقال: (يقول: وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له في التوراة والإنجيل).

واختار ابن جرير أن الخطاب عامٌّ للناس كافة قال: (لأنه تحدّى الناس كلهم بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}) وهو القول الأول الذي ذهب إليه ابن عباس وقتادة.

فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم قبل ذلك بالختم والطبع والصمم والعمى؟

فالجواب من وجهين:

الأول: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يريد العلم الخاص بأنه تعالى خلق الخلق وأنزل اللماء وأنبت الرزق فيعلمون أنه المنعم عليهم بذلك لا الأنداد.

ص: 154

الثاني: أن يكون المعنى (وأنتم تعلمون وحدانيّته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم).

وقد ذكره القرطبي ثم قال: (وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد. وقال ابن فُورَك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلو الله أندادًا بعد علمكم الذي هو نَفْيُ الجهل بأن الله واحد).

23 -

24. قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}.

في هذه الآيات: يتحدى الله تعالى الكفار أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو بسورة مثله ولو اجتمعوا. ألا ولن يستطيعوا وأصروا على الكفر فليتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة.

لقد شرع سبحانه وتعالى في هذه الآيات في تقرير الركن الثاني من الشهادتين: "شهادة أن محمدًا رسول الله" بعد أن قرر في الآيات السابقة الركن الأول منها: "شهادة أن لا إله إلا الله" فخاطب الكفار بقوله. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} من مثل ما جاءكم به فعارضوه بنحو ما جاء به واستعينوا على ذلك بكل حاذق أو صاحب علم وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به.

والريب في لغة العرب: الشَّك، والاسم الرِّيبة: وهي التهمة والشك. ولما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط سمّى نبيه عبدًا. فمقام العبودية لا ينازعه مقام. ثم إن قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: من مثل القرآن.

قال قتادة: (يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدقًا، لا باطل فيه ولا كذب). وقال مجاهد: (مثل القرآن). فيكون المعنى: فأتوا أيها الكفار بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيها العرب، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.

ص: 155

التأويل الثاني: من مثل محمد من البشر، لأن محمدًا بشر مثلكم. والمعنى: من بَشَرٍ أُمِّيّ مثله لا يكتب ولا يقرأ. واختار ابن جرير التأويل الأول لمناسبته السياق.

التأويل الثالث: من مثل التوراة والإنجيل.

فأعادوا الضمير في "مثله" على التوارة والإنجيل. فيكون المعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه.

ولا شك أن التأويل الأول هو الذي عليه الجمهور من العلماء.

وقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

فيه أقوال متشابهة:

الأول: أعوانكم ونصراءكم. قال ابن عباس: (يعني أعوانكم على ما أنتم عليه إن كنتم صادقين).

الثاني: ناس يشهدون. قال مجاهد: (قوم يشهدون لكم). وقال: (ناس يشهدون) أي أنكم عارضتموه.

الثالث: آلهتكم. قاله الفرّاء.

والمعنى كما قال ابن جُريج: {شُهَدَاءَكُمْ} عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن).

أي استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون الردّ على الجميع أوكدَ في الحجة عليهم.

ودُون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفًا. و (الدُّون) الحقير. حكاه الرازي.

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

أنّ ذلك مختلق وأنه من كلام محمد عليه السلام، وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا أنتم بمثله واستعينوا بآلهتكم على ذلك. حكاه النسفي.

وقد ورد في التنزيل مثل هذا التحدي في أكثر من موضع:

ص: 156

قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)} [القصص: 49].

وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

وقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)} [هود: 13].

وقال جل ثناؤه: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 37 - 38].

وقد تحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك مرات عديدة في مكة والمدينة، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع ذلك فقد عجزوا ولم يفلحوا. فقال سبحانه:

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا. ولن عند سيبويه حرف موضوع لتأكيد نفي المستقبل.

قال قتادة: (أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه).

وقال ابن عباس: ({فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فقد بين لكم الحق).

قال القاسمي رحمه الله: (وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى. حيث كان الأصل: فإن لم تفعلوا فقد صحّ صدقه عندكم، وإذا صحّ ذلك كان لزومكم العناد، وتَرْكُكُم الإيمان به، سببًا لاستحقاقكم العقاب بالنار).

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (أخبر (1) خبرًا جازمًا قاطعًا مقدمًا غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنى يتأتى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ ! وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟ . . . . ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يَحْسُن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه.

(1) أي النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 157

وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين، أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة، أو سير أو مخافة، أو سبع، أو شيء من المشاهدات المعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر عن الشيء الخفي أو الدقيق وإبرازه إلى المعنى الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر، هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته. وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلًا وإجمالًا، ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكررت حلا وغلا، لا يَخْلَقُ عن كثرة الرد، ولا يَمَلُّ منه العلماء).

قلت: والحق أنه أكبر معجزة خالدة في الأرض إلى يوم القيامة، وهو أكبر من معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي أخرجوها لأقوامهم ودهشوهم بها.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ما من نبيّ من الأنبياء إلا قد أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة](1).

وكل سورة من القرآن معجزة، لا يستطيع البشر معارضتها، طويلة كانت أم قصيرة. قال الشافعي رحمه الله:(لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}). قال الحافظ ابن كثير: (وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} إلى آخرها، ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها، فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر، يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك جفر نقر. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب).

وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (4981)، وأخرجه مسلم (152).

ص: 158

أي اتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم هذا الوحي وهذا النبي عليه الصلاة والسلام. فإن قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} جواب {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} . والوَقود بالفتح الحطب. والوُقود بالضم التوقد. قال النحاس: (كما أن الوَضوء الماءُ، والوُضوء المصدر).

و{وَقُودُهَا} مبتدأ و {النَّاسُ} خبره. وقرأ الحسن ومجاهد: "وُقُودُهَا" بضم الواو. يقال: وقَدَتِ النار تقِدُ وُقودًا ووَقَدًا وقِدَةً. والوَقْدة: شدة الحرّ. وأما الحجارة فهي -حسب تأويل بعض المفسرين- حجارة الكبريت، وهي أشد الحجارة حرًّا إذا أحميت.

قال ابن مسعود: (هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين). وقال: (حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء). وقال: (حجارة من الكبريت خلقها الله عنده كيف شاء وكما شاء).

وقال ابن عباس: (أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كبريت أسْود، يُعذبون به مع النار).

وعن ابن جريج: (حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارة أصلب من هذه وأعظم). قلت: والله تعالى أعلم.

وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} .

قال ابن عباس: (أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر).

والكافر في كلام العرب هو الساتر شيئًا بغطاء. والكَفْرُ التغطية. فسمّى الله الكافر كافرًا لجحوده آلاءه عنده، وتغطيته نعماءَه قِبَله.

فيكون المعنى كما قال ابن جرير: (أعدت النار للجاحدين أن الله ربُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم، الذي جعل لهم الأرض فراشًا، والسماء بناء، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأنداد والآلهة، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق) انتهى.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: يدخلني الضعفاء والمساكين، وقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، فقال الله للنار: أنت عذابي، أنتقم بك ممن شئت، وقال للجنة: أنت رحمتي، أرحم

ص: 159

بك من شئت، ولكل واحدةٍ منكما ملؤُها] وهذا لفظ مسلم (1).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [استأذنت النار ربَّها فقالت: رب أكل بعضي بعضًا فأذِنَ لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف](2).

وفي الصحيحين والمسند عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [نارُكم هذه التي توقِدُ بنو آدم، جُزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، قيل: يا رسول الله! إن كانت لكافية؟ قال: فإنها فضَلَتْ عليها بتسعةٍ وستين جزءًا، كلُّهن مثل حرِّها](3).

وفي لفظ عند الترمذي من حديث أبي سعيد: [ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نارِ جهنم، لكل جزء منها حرُّها](4).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [سمعنا وجبةً فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها](5).

25.

قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} .

في هذه الآية: تبشير الله تعالى عباده المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار لهم فيها من أجمل الفواكه والثمار، وأطهر الزوجات، في خلود ونعيم مقيم.

وأصل البُشارة في لغة العرب الخبر بما يُسَرُّ به المخبَر، والبُشارة بكسر الباء وضمها، ويقال:(أبشر إبشارًا) أي سُرّ. قال الرازي: (والبشارة المطلقة لا تكون إلا

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2846)، وأخرجه البخاري (4849).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (537). وأخرجه كذلك مسلم (617).

(3)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1976)، وانظر: صحيح البخاري -حديث رقم- (3265)، كتاب بدء الخلق، وصحيح الجامع (6618).

(4)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2729)، وانظر صحيح الجامع (6619).

(5)

حديث صحيح. رواه أحمد ومسلم. انظر صحيح مسلم (2844)، ومسند أحمد (1/ 472).

ص: 160

بالخير، وإنما تكون بالشر إذا كانت مقيّدة به كقوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ).

وفي مسند أحمد بسند صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بُشرى الدنيا الرؤيا الصالحة](1). وفي صحيح أبي داود عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[بشِّر المشائين في الظُّلَم أبي المساجد بالنور التام يوم القيامة](2).

وفي سنن النسائي عن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بشِّر الناس أنه من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وجبت له الجنة](3).

والجنات: جمع جنة، والجنة: البستان. قال ابن جرير: (وإنما عنى جل ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها- ولذلك قال عز ذكره: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. لأنه معلوم أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبر عن ماءِ أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض، فلا حظَّ فيها لعيون مَنْ ؤوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أن الذي توصف به أنهار الجنة، أنها جارية في غير أخاديد).

قال مسروق: (نخل الجنة نضيدٌ من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نُزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وماؤها يجري في غير أخدود). وقد صح ذلك موقوفًا من كلام أنس وابن عباس (4)، أنها أنهار تجري من غير أخدود. وقد جاء في الكوثر:"أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف" ولا منافاة بينهما.

فقد أخرج البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قبابُ الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينُه مِسْكٌ أذفَرُ](5). والأذفر الشديد الرائحة.

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 445)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(3/ 47)، وبنحوه رواه مسلم (7/ 52)، وانظر السلسلة الصحيحة (1786)، وصحيح الجامع (2819).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (525) في الصلاة. باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلم من حديث بريدة رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. رواه النسائي. كما ذكره الهيثمي في "المجمع"(1/ 18) من رواية الطبراني في الكبير عن زيد بن خالد وقال: "ورجاله موثقون". وانظر صحيح الجامع (2821).

(4)

راجع الترغيب (5482)، وكذلك (5484).

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6581) - كتاب الرقاق. باب في الحوض.

ص: 161

وأما أنهار الجنة فهي تتفجر من أعلاها -من الفردوس- ثم تنحدر نازلة.

ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن في الجنة مئة درجة أعدّها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تتفجر أنهار الجنة](1).

فقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فيه البشارة للأتقياء بعدما ذكر الوعيد والنكال للأشقياء.

قال الحافظ ابن كثير: (وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني" على أصح أقوال العلماء. . . وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر، أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء، أو عكسه. وحاصله ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك المتشابه).

وقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} .

فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.

فعن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: (إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا). وقال مجاهد: (يقولون: ما أشبهه به). وقال ابن زيد: ({وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يعرفونه).

التأويل الثاني: قيل بل المعنى ما رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا.

قال عمرو بن مرة يحدث عن أبي عبيدة: (نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرُها مثل القلال، كلما نُزعت منها ثمرة عادت مكانها أخرى).

التأويل الثالث: قيل بل المراد مشابهته الذي قبله في اللون وإن خالفه في الطعم.

قال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير:(يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل. فيقول الملَك: كُلْ، فاللون واحد والطعم مختلف).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4/ 14)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 335).

ص: 162

واختار ابن جرير القول الأول لأنه لا شك أن ذلك من قيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمارها، فلا شك أنه من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها، الذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة.

وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} .

أي: أتوا بما رزقوا من ثمار الجنة متشابها. وفي الآية أكثر من تأويل لهذا المتشابه:

التأويل الأول: تشابهه أن كله خيارٌ لا رَذْل فيه.

قال الحسن: (متشابها: خيارًا كلَّها لا رَذْل فيها). وقال: (ألم تَرَوْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل). وقال: (يشبه بعضه بعضًا، ليس فيه من رَذْل). وقال قتادة: (أي خيارًا لا رذلَ فيه، وإن ثمار الدنيا يُتَقّى منها ويُرْذَل منها، وثمار الجنة خيارٌ كله، لا يُرْذَلُ منه شيء). وقال ابن جُريج: (ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل، ومنه نقاوَةٌ، وثمر الجنة نقاوة كله، يشبه بعضه بعضًا في الطيب، ليس منه مرذول).

التأويل الثاني: تشابهه في اللون واختلافه في الطعم.

فعن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} في اللون والمرْأى، وليس يُشبه الطعمَ). وقال مجاهد:(مِثل الخيار. قال: وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعْمه، مثلَ الخيار من القثّاء). وقال الربيع بن أنس: (يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم).

التأويل الثالث: تشابهه في اللون والطعم.

فعن مجاهد ويحيى بن سعيد: {مُتَشَابِهًا} قالا: في اللون والطعم).

التأويل الرابع: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما. فعن قتادة قال:(يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب).

التأويل الخامس: قيل لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء،

فعن ابن عباس قال: (ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء).

وقال عبد الرحمن بن زيد: (يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا، التفاح بالتفاح والرمّان بالرمان، قالوا في الجنة: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} في الدنيا، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم).

ص: 163

وأولى هذه التأويلات ما ذهب إليه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله من أن المراد: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر مع ثمر الدنيا لكن الطعم والذوق مختلف لقولهم هذا الذي رزقنا من قبل، وهذا يشبه التأويل الثاني والرابع والخامس.

أخرج أبو نعيم في (صفة الجنة) بسند صحيح عن ابن عباس موقوفًا: [ليس في الجنة شيءٌ يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء](1).

قلت: وثمار الجنة موجودة الآن كما صحّ ذلك في السنة الصحيحة.

ففي صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [عرضت عليّ الجنة حتى لو تناولت منها قطفًا أَخذته]. وله شاهد عند النسائي من حديث ابن عمرو بلفظ: [عرضت علي الجنة، حتى لو مَدَدْت يدي تناولت من قطوفها](2).

وفي صحيح الترمذي عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلقُ من ثمار الجنة](3). (تعلقُ): تأكل.

وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} .

أزواج: جمع زوج. والمرأة: زوج الرجل. والرجل زوج المرأة. ويقال للمرأة أيضًا زوجة. وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} ابتداء وخبر، وقوله {مُطَهَّرَةٌ} صفة للأزواج.

قال القرطبي: (ومطهّرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحَيْض والبُصاق وسائر أقذار الآدميات).

وقال ابن جرير: (تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذىَ وقذىً وريبة، مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمني، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره).

(1) إسناده صحيح. أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنة"(2/ 21)، وانظر السلسلة الصحيحة (2188).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن النسائي (1407) - كتاب الكسوف. باب القول في السجود في صلاة الكسوف. وكذلك (1401) منه. ورواه مسلم بنحوه من حديث جابر.

(3)

حديث صحيح. انظر سنن الترمذي (1/ 309)، وسنن ابن ماجة (1449)، ومسند أحمد (3/ 455) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.

ص: 164

وقد نقل المفسرون تفصيل ذلك عن أئمة التأويل:

1 -

عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: (أما أزواج مطهرة، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمْنَ). وقال ابن عباس: (مطهرة من القذر والأذى).

2 -

وعن مجاهد قال: (لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمْذِين) وقال نحوه في رواية أخرى وزاد: (ولا يُمْنِين ولا يحضن). وقال أيضًا: (مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد). وقال: (لا يَبُلْن ولا يتغوّطنَ ولا يحِضْنَ ولا يلدن ولا يُمنين ولا يبزُقنَ).

3 -

عن قتادة: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ، إي والله من الإثم والأذى). وقال:(طهّرهن الله من كل بول وغائط وقذر، ومن كل مأثم). وقال: (مطهرة من الحيض والحَبل والأذى).

4 -

عن الحسن قال: (يقول مطهرة من الحيض). وقال، عطاء:(من الولد والحيض والغائط والبول).

قلت: ووصف أزواج أهل الجنة بأنهن {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} يشمل إضافة لما ذكر -من الطهارة من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبصاق والمني والأذى- الطهارة من مساوئ الأخلاق والعادات وما يعتري النساء في الدنيا من الكيد والمكر والغيرة وغير ذلك.

وقد أشار القاسمي رحمه الله إلى ذلك بقوله: (ويجوز لمجيئه مطلقًا، أن يدخل تحته الطهر من دَنَس الطباع، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهنّ وكيدهن). كما أشار الإمام النسفي في تفسيره إلى هذا بقوله: (مطهرة من مساوئ الأخلاق لا طمحات ولا مرحات أو مما يختص بالنساء بالحيض والاستحاضة وما لا يختص بهن من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس).

قال ابن القيم: (والمطهرة: مَنْ طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر، وكل أذى يكون من نساء الدنيا. فطهّر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ).

ص: 165

وفي صحيح البخاري عن أنس مرفوعًا: [لغدوة (1) في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده -يعني سوطه- من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها (2) على رأسها خير من الدنيا وما فيها].

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (إن لولي الله في الجنة عروسًا لم يلدها آدم ولا حواء، ولكن خلقت من زعفران)(3).

قلت: وأما قول مجاهد (ولا يلدن) ففيه نظر. ففي صحيح الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا: [لمؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنُّهُ في ساعة واحدة كما يشتهي](4). فإن كان المقصود نفي التوالد المعهود في الدنيا وما يعقبه من نفاس ومتاعب أو ما يسبقه من أطوار الحمل وأعراضه فهو صحيح كما دلت عليه الآية السابقة.

وقوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

قال الحافظ ابن كثير: (هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم، بر رحيم).

وقد جاء معنى الخلود في السنة الصحيحة:

ففي الصحيحين والمسند عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يُجاء بالموت كأنه كبش أملحُ، فيوقف بينَ الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئِبُّون، فينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، وكلُّهم قدْ رآه، ثم ينادى: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئِبُّون، فينظرون، فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلُّهم قد رآه، فيؤمر به فيذبَح، ويقال:

(1) الغدوة: السير أول النهار إلى الزوال، والروحة: السير من الزوال إلى آخر النهار.

(2)

خمارها. وانظر الحديث في مختصر صحيح البخاري (1152) -كتاب الجهاد والسير-.

(3)

انظر كتاب: "صفة الجنة في القرآن والسنة"- وانلي. ص (147).

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2077). ورواه أحمد في المسند، وابن ماجة في السنن (4338). وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (6525).

ص: 166

يا أهل الجنة خلودٌ ولا موت، ويا أهل النار خلودٌ ولا موت] (1)

26 -

27. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}.

في هذه الآيات: إن الله تعالى لا يخشى ولا يمتنع من ذكر أي شيء مما قل أو كثر من أجل إثبات هذا الحق ونصره وإبطال حجج المبطلين والمعاندين. فيوقن المؤمنون، ويستهزئ الكافرون: الذين ينقضون ميثاق الله الذي أخذه عليهم ويفسدون في الأرض، وأولئك هم الخاسرون.

وقوله: {يَسْتَحْيِي} أصله في لغة العرب يستحييُ فلما استثقلت الضمة على الياء سكنت. وقيل معنى لا يستحيي لا يخشى، وقيل: لا يترك، وقيل: لا يمتنع.

قال الرازي: (وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} أي: لا يستبقي).

وأما تفصيل ذلك كلام المفسرين:

1 -

{لَا يَسْتَحْيِي} لا يخشى. قال ابن جرير: (إن الله لا يخشى أن يضرب مثلًا، ويستشهد على ذلك. . . بقول الله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]-وينسب ذلك لبعض أهل العربية- قال: ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناس والله أحق أن تستحيه فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية، والخشية بمعنى الاستحياء).

2 -

{لَا يَسْتَحْيِي} أي لا يترك. قال النسفي: (أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها، وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (6544)، (6548)، وصحيح مسلم (8/ 153)، ورواه أحمد. ورواه ابن ماجة والترمذي. انظر صحيح الجامع (536).

ص: 167

تخوف ما يعاب به ويذم ولا يجوز على القديم التغير وخوف الذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به، ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا: أما ما يستحي رب محمد أن يضرب مثلًا بالذباب والعنكبوت، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال وهو فن من كلامهم بديع).

3 -

{لَا يَسْتَحْيِي} أي لا يأمر بالحياء فيه. قال القرطبي: (وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفًا من مواقعة القبيح، وهذا مُحال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سُليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره).

قلت: والحياء صفة لله تعالى أثبتها لنفسه وهي كما يليق بجلاله سبحانه، فلا يرافق ذلك ما يوصف بحال العبد من الانقباض وغيره، فإن الله ليس كمثله شيء، وإنما جاءت السنة الصحيحة بإثبات هذه الصفة الكريمة:

ففي المسند وصحيح أبي داود عن يعلى بن أمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر](1).

وفي المسند وصحيح أبي داود والترمذي وابن ماجة عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صِفرًا خائبتين](2).

وهو في صحيح الحاكم بلفظ: [إن الله رحيم، حَيِيٌّ، كريم، يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم لا يضع فيهما خيرًا].

فيكون المعنى: إن الله لا يخشى ولا يمتنع من ذكر أي شيء مما قل أو كثر من أجل إثبات هذا الحق ونصره وإبطال حجج المبطلين والمعاندين.

وأما المراد من الآية وسبب نزولها ففيه أكثر من تأويل:

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (4012)، وانظر صحيح سنن أبي داود (3387)، وصحيح الجامع (1752).

(2)

حديث صحيح. رواه أحمد وأكثر أهل السنن. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2819)، وصحيح الجامع (1753)، (1764) لرواية الحاكم.

ص: 168

التأويل الأول: عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: (لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين -يعني قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}، الآيات الثلاث- قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}).

التأويل الثاني: عن الرّبيع بن أنس قال: (هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتَتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلؤوا من الدنيا رِيًّا أخذهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]).

وفي رواية عنه قال: (فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلؤوا من الدنيا رِيًّا أخذهم الله فأهلكهم).

التأويل الثالث: عن قتادة قال: (أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قلّ منه أو كثر. إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: ({إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}). وفي رواية: (لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}). قال: (البعوضة أضعف ما خلق الله).

واختار ابن جرير قول ابن مسعود وابن عباس وهو التأويل الأول فيما ذكرناه، وتابعه في ذلك الحافظ ابن كثير فقال:(وهو مناسب، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلًا ما).

وذهب بعض أهل اللغة أن (ما) هنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل (واختاره ابن كثير). في حين اختار آخرون منهم (ابن جرير) أن (ما) موصولة وبعوضة معربة بإعرابها. وقيل بل {بَعُوضَةً} منصوبة بحذف الجار، والتقدير: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. (اختاره الفراء).

وإنما المعنى كما قال مجاهد: ({مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} ، يعني الأمثال صغيرها

ص: 169

وكبيرها، يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به).

وقوله {فَمَا فَوْقَهَا} .

فيه تأويلان:

الأول: فما هو أعظم منها. قال قتادة وابن جُريج: (المعنى في الكِبَر). فيكون المراد بقوله: {فَمَا فَوْقَهَا} أي فما هو أكبر منها، لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة، واختاره ابن جرير.

الثاني: فما دونها في الصغر والحقارة والقلة. قال الكسائي وأبو عبيدة: (معنى {فَمَا فَوْقَهَا} - والله أعلم- ما دونها، أي إنها فوقها في الصغر). قال الكسائي: (وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرًا؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى).

ويبدو من السنة الصحيحة أن التأويل الأول أقرب للصواب:

ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما من مسلم يشُاكُ شوكة فما فوقها إلا كُتِبَت له بها درجة ومُحيت عنه بها خطيئة] (1).

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من مسلمٍ يصيبُه أذى شوكةٌ فما فوقَها، إلا حطَّ الله لهُ به سيئاته، كما تحطُّ الشجرة ورقَها](2).

وفي جامع الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لو كانت الدنيا تعدِلُ عند الله جناحَ بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربةَ ماء](3).

وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} .

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (2572). ورواه البخاري (5640) وأحمد (2/ 237) واللفظ لمسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2571)، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها. وانظر مسند أحمد (2/ 237)، وصحيح البخاري (5640)، وسنن الترمذي (965).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2320)، وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5168).

ص: 170

أي: يوقن المؤمنون أن المثل الذي ضربه الله، لما ضربه له، مثل. وأما المنافقون والكفار فيستهزئون به ويكفرون ويضلون.

فعن الربيع بن أنس: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلام الله ومن عنده).

وقال قتادة: (أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله).

وقال مجاهد: (يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها، ويضل بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به).

وهذه الآية تشبه آية المدثر: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} .

وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} .

قال ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} ، يعني المنافقين، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} يعني المؤمنين. فيزيد هؤلاء ضلالًا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له، وأنه لما ضربه له موافق. فذلك إضلال الله إياهم به. {وَيَهْدِي بِهِ} يعني المثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضربه الله له مثلًا، وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به).

وقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} .

قال ابن عباس: (هم المنافقون). وقال الربيع بن أنس: (هم أهل النفاق).

وقال قتادة: (فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم). وقال، مجاهد:(يعرفه الكافرون فيكفرون به). وأصل الفِسق في لغة العرب: الخروجُ عن الشيء. قال الرازي: (فَسَقت

ص: 171

الرُّطبة: خرجت عن قِشرها). ومنه سميت الفأرة فُوَيْسِقة لخروجها عن جُحرها (1). وفى التنزيل: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي خرج عن طاعته واتباع أمره. فسمي الكافر أو المنافق فاسقًا لخروجه عن طاعة ربه.

فيكون المعنى كما قال ابن جرير: (وما يُضل الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضلال من أهل النفاق).

ولا شك أن المراد بالآية الفاسق الكافر، فإن الفاسق يشمل الكافر والعاصي ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، ويدل على ذلك قوله تعالى في الآية بعدها {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وقد تكرر ذكر هذه الصفات للكفار المباينة لصفات المؤمنين في سورة الرعد. قال تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} . إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].

وقوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} .

أصل النقض في كلام العرب إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد.

قال الرازي: (والنُّقَاضة بالضم ما نُقِضَ من حَبْل الشَّعْر. و (المناقضة) في القول أن يتكلم بما يتناقض معناه).

واختلف في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه على أقوال:

القول الأول: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك، تركُهم العمل به.

القول الثاني: بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، فقد نقضوا عهد الله

(1) وفي الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [خمس فواسقُ يُقتلن في الحِلِّ والحرم: الغراب والحِدَأةُ، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور].

ص: 172

عليهم في التوراة بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، فجحدوا ذلك وكتموا العلم بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليُبَيِّنُنّه للناس ولا يكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا.

القول الثالث: قيل بل المراد جميع أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده: ما وَضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه: ما احتجَّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدة لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبُهم الرسلَ والكُتب، مع علمهم أن ما أتوا به حق.

القول الرابع: قيل بل العهد المقصود هو الميثاق الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، الموصوف بقوله تعالى في سورة الأعراف:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} .

واختار ابن جرير أنها نزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل، ومن كان على شِركه من أهل النفاق.

ويبدو أن الآية عامة في جميع أهل الشرك والكفر والنفاق وهو القول الثالث، وقد روي عن مقاتل بن حيان نحوه، وقال الحافظ ابن كثير:(وهو حسن، وإليه مال الزمخشري فإنه قال: فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمرٌ وصّاهم به ووثّقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالوا بَلَى} إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}).

قال أبو العالية: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} -إلى قوله- {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} : هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهَرَة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حَدَّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا

ص: 173

كانت الظَّهَرَة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا).

وقال السدي: (هو ما عهد إليهم في القرآن، فأقروا به ثم كفروا فنقضوه).

وقال قتادة: (فإياكم ونقضَ هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليفِ به لله).

قلت: وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من نقض العهد مع الله سبحانه ومع رسوله صلى الله عليه وسلم وبين أن ذلك نذير سوء في حال الأمة وعلامة من علامات هلاكها.

فقد أخرج ابن ماجة والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يا معشر المهاجرين! خِصالٌ خمسٌ إذا ابتليتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ. لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقُصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشِدَّة المؤنة، وجَور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القَطْر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئِمّتهم بكتاب الله عز وجل ويتحرَّوا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم](1).

وله شاهد عند الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ: [خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سُلِّطَ عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموتُ، ولا طفّفوا المِكيال إلا مُنعوا النبات وأخِذوا بالسِنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القطرُ](2).

وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} .

فيه أقوال:

الأول: قيل المراد به صلة الأرحام والقرابات. قال قتادة: (فقطع والله ما أمر الله به

(1) حديث صحيح. رواه ابن ماجة في السنن (4019)، والحاكم في المستدرك (4/ 540)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (106).

(2)

حديث حسن. رواه الطبراني من حديث ابن عباس. انظر صحيح الجامع -حديث رقم- (3235).

ص: 174

أن يوصل بقطيعة الرّحم والقرابة). وفي التنزيل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].

واختاره ابن جرير وقال: (وإنما عنى بالرّحم، أهلَ الرحم الذين جمعتهم وإياهُ رحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجبَ من برِّها. ووصْلُها: أداء الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجب لها، والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها).

الثاني: قيل أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا.

الثالث: قيل أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم.

الرابع: قيل بل المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه.

وتأولوا ذلك بأن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأرحامهم.

ومن ثم فالآية عامة في وصل وإحكام الصلة بدين الله وعبادته في الأرض وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. قال القرطبي: (هذا قول الجمهور، والرَّحم جزء من هذا).

قلت: ولا شك أن القول الرابع بشمل كل ما سبق، فالآية عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. و {مَا} في محل نصب بـ {وَيَقْطَعُونَ} و {أَنْ} بدل من ما أو من الهاء في {بِهِ} أي بوصله، أو في موضع رفع والتقدير: هو أن يوصل.

وقوله: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} .

قال القرطبي: (أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون، في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد). وقال النسفي: (بقطع السبيل والتعويق عن الإيمان).

وقال القاسمي: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالمنع عن الإيمان، والاستهزاء بالحق، وقطع الوُصَل التي بها نظام العالم وصلاحه).

وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .

قال ابن عباس: (كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل "خاسر" فإنما يعني به الكفر. وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب).

والخاسر في لغة العرب: من خسر الشيء إذا نقصه، فهو الذي نقص نفسه حَظَّها

ص: 175

من الفلاح والفوز. والخُسْران: النقصان. والخسار والخسارة والخَيْسَرَى: الضلال والهلاك. قال بعضهم: (أولئك هم الخاسرون: أي الهالكون).

قال ابن جرير: (فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته).

وقال النسفي: (الخاسرون: أي المغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب).

والخلاصة: فالخاسرون هم الناقصون أنفسَهم حظوظَها -بمعصيتهم الله- من رحمته كما يخسر الرجل من تجارته بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه.

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسِروا، مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: المُسْبِل، والمنّان، والمُنَفِّق سِلْعته بالحلف الكاذب](1).

28 -

29. قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}.

في هذه الآيات: يحتج سبحانه وتعالى على الجاحدين المعاندين بوجوده وقدرته وتصريفه للخلق والحياة والموت. فهو -تعالى- الذي خلق الأرض ثم علا على السماوات السبع بعد أن سواهن وقد أحاط بكل شيء علمًا.

فقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

في تفسيره أكثر من تأويل:

التأويل الأول: خلقهم حين لم يكونوا شيئًا، ثم أحياهم ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة. قال ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (106) - كتاب الإيمان، والمُنَفِّقُ: من التنفيق وهو الترويج. وانظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1360).

ص: 176

وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة).

وعن أبي الأحوص، عن عبد الله، في قوله:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: (هي كالتي في البقرة: {كَوَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}).

وقال مجاهد: (لم تكونوا شيئًا حين خلقكم، ثم يميتكم الموتة الحقّ، ثم يحييكم).

وقال أبو العالية: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} ، يقول: حين لم يكونوا شيئًا، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رجعوا إليه بعد الحياة).

وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ، قال:(كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم، وهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}).

التأويل الثاني: يحييهم في القبر ثم يميتهم.

فعن السدي، عن أبي صالح قال:(يحييكم في القبر، ثم يميتكم).

التأويل الثالث: يخلقهم ويحييهم بعد أن كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم ثم يميتهم ثم يبعثهم.

قال قتادة: (كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان).

التأويل الرابع: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تارات تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه، في مود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان.

واختار ابن جرير قول ابن مسعود وابن عباس من أن معنى قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا}

ص: 177

أمواتَ الذكر، خمولًا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون، فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَييتم، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك، كما قال:{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال جل ذكره:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]. وقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51].

والآية تشبه قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]. وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 26].

وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} .

قال قتادة: (نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض). أي: لتتقوا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وخَلقَ: أي اخترع وأوجد بعد العدم. و (ما) بمعنى الذي. و (لكم) للانتفاع.

قال ابن العربي: (وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرًا ولا إباحة ولا وقفًا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته).

وقال أبو عثمان: (وَهَب لك الكلَّ وسخّره لك لتستدل به على سَعة جُوده، وتَسْكُن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بِرّه على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النّعم قبل العمل وهو التوحيد).

وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} .

أما الاستواء فذكر فيه المعاني التالية:

الأول: الإقبال. قال بعضهم: (معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها).

ص: 178

الثاني: عَمدَ لها. قيل: (كل تارك عملًا كان فيه إلى آخر، فهو مُستوٍ لما عَمَدَ له، ومستوٍ إليه).

الثالث: العلو. قال القرطبي: (والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}). قال ابن عباس: (ثم استوى إلى السماء: صَعِد).

وممن قال ذلك أيضًا من الأوائل -أهل التفسير- الربيع بن أنس: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، يقول: ارتفع إلى السماء).

واختاره ابن جرير وقال: (وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ}، علا عليهن وارتفع، فدبّرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سماوات): قلت: ولا شك أن اختيار ابن جرير لمعنى الاستواء بالعلو والارتفاع هو الذي ينسجم مع بقية آيات الاستواء في القرآن.

وقد رُوي عن الإمام مالك رحمه الله أن رجلًا سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ! قال مالك: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سَوْء! أخرجوه).

فائدة: قال القرطبي رحمه الله: (يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء، وكذلك في "حم السجدة". وقال في النازعات {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} فوصف خلقها، ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وقال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وهذا قول قتادة: إن السماء خلقت أولًا، حكاه عنه الطبري. وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه، فجعله أرضًا وثار منه دخان فارتفع، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثم قصد أمر إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات، ثم دحا (1) الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلفها غير مَدْحُوّة. قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أن الله تعالى خلق أولًا دخان السماء ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسوّاها، ثم دحا الأرض بعد ذلك).

(1) دحا الشيء: بسطه.

ص: 179

قلت: وفي التنزيل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9 - 12].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: [خلق الله التوبة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل](1).

وأما قوله {فَسَوَّاهُنَّ} فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبّرهن وقوّمهن.

قال ابن جرير: (والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة.

قال: فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سماواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهن على إرادته، وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ).

قال الربيع بن أنس: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قول: سوّى خلقهن).

والسماء تكون واحدة مؤنثة، أو جمعا لسماوة (قاله الأخفش) أو جمعًا لسماءة (قاله الزجاج) وجمع الجمع (سماوات وسماءات).

قال القرطبي: (فجاء {سواهن} إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس. ومعنى سوّاهن سوّى سطوحهن بالإملاس. وقيل: جعلهن سواء).

فائدة: جاء التصريح في القرآن أن السموات سبع، وحُمِلَ قوله تعالى:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، أي مثلهن في العدد، وقيل في غلظهن وما بينهن. ولا شك أن الأرضين سبع كالسماوات، وقد دلت على ذلك السنة الصحيحة:

ففي صحيح مسلم عن سَعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من أخذ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2789)، وأحمد في المسند (2/ 327).

ص: 180

شبرًا من الأرض ظُلْمًا طُوِّقه إلى سبع أرضين] (1).

وفي صحيح مسلم أيضًا عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يأخذ أحدٌ شِبْرًا من الأرض بغير حَقِّهِ، إلا طَوَّقَهُ الله إلى سبعِ أَرَضينَ يوم القيامة](2).

وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو: [. . . فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله. .](3) الحديث.

وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

عليم بمعنى عالم. قال ابن عباس: (العالم الذي قد كمل في علمه).

30.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَال إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} .

في هذه الآية: يمتن الله سبحانه على بني آدم بذكرهم في الملأِ الأعلى قبل خلقهم وإيجادهم، ليعرفوا قدرهم عند بارئهم، وليُدْركوا يومًا قيمة وجودهم وعظيم ما خُلقوا له فيقوموا بحق الله سبحانه عليهم بالتعظيم والعبادة وإقامة شرعه في الأرض.

والملائكة في لغة العرب جمع مَلأَك، وإنما اشتهر بغير الهمز فيقال في واحدهم ملك من الملائكة، وأصل ذلك من لأَكَ إليه يَلأك إذا أرسل إليه رسالة. ومنه قول عدي بن زيد:

أبلغ النعمان عني ملأكًا

إنه قد طال حبسي وانتظاري

فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لأنها رُسل الله بينه وبين أنبيائه.

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (70 و) - كتاب البيوع، باب من ظلم من الأرض شبرًا طُوِّق من سبع أرضين. وهو جزء من حديث أطول في صحيح مسلم (5/ 58).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (1611) - كتاب المساقاة- باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 169 - 170)، وانظر السلسلة الصحيحة (134).

ص: 181

وقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ} .

فيه تأويلان:

التأويل الأول: إني فاعل. قال قتادة: (قال الله تعالى ذكره لملائكته: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، قال لهم: إني فاعل).

التأويل الثاني: إني خالق. قال أبو روق: (كل شيء في القرآن {جعل} فهو خلق).

والأول أقرب للسياق، وبه أخذ شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله، حيث قال:(والصواب في تأويل قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أي مستخلف في الأرض خليفة، ومُصَيِّرٌ فيها خلفًا).

وقيل {الْأَرْضِ} هي مكة، ولا دليل على هذا التخصيص. وأما (الخليفة) فهو من خلف فلان فلانًا في الأمر إذا قام مقامه فيه بعده، فالمقصود قوم يخلف بعضهم بعضًا. وفي التنزيل تأكيد ذلك:

1 -

قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14].

2 -

قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62].

3 -

قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60].

4 -

قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

5 -

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165].

قال الحافظ ابن كثير: ({إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أي قومًا يخلف بعضهم بعضًا قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل).

وقال ابن جرير في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} : (يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. من ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفًا).

فهذا معنى قوله جل ذكره: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} .

ص: 182

وقوله: {قَالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} .

قال ابن سابط: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، قال: يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم).

وقال ابن زيد: (قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعلَ فيها خليفة. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق).

والظاهر من الآيات أن الله سبحانه كان أعلم ملائكته بطبيعة ما يريد خلقه وإيجاده في هذه الأض، وليس المقصود أبدًا أن الجن كانوا يعمرون الأرض قبل الإنس ويفسدون فيها فاستنتج الملائكة طبيعة الإنس القادم إلى الأرض من طبيعة ما يجرى بين الجن فسألوا الله ما سألوه! ! فهذا مما لا دليل عليه، بل ترده جملة نصوص القرآن والسنة فإن الإنسان أول من عمر هذه الأرض.

فعن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: (أن الله جل ثناؤه قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذريةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا).

ويؤكد هذا قتادة بقوله: (كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكَوا الدماء، فذلك قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}).

قال الحسن: (وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء (1)).

وَهذا التأويل منسجم مع الآية التي تلي هذه الآيات، وهي من قبل الملائكة:{قَالوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].

قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره: (وما يقال من أنه كان قبل آدم، عليه السلام، في الأرض خَلْقٌ يعصون، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام كلامٌ لا أصل له. بل آدم أول ساكنيها بنفسه) ذكره القاسمي.

وقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} .

التسبيح لغة: التنزيه. قال الرازي: (و"سبحان" الله معناه التنزيه لله، وهو نَصْب

(1) السفك في لغة العرب الصَّب. سفك الدَّمَ والدَّمْعَ هراقَه أو صبّه. والسَّفَّاك: السَّفاح وهو القادر على الكلام.

ص: 183

على المصدر، كأنه قال أُبرِّئُ الله من السوء براءةً. و"سُبُحاتُ" وجه الله تعالى بضمتين جلالتُه. و"سُبُّوح" من صفات الله تعالى).

والتقديس في لغة العرب: التطهير. والقُدسُ بسكون الدال وضمها الطُّهْر اسمٌ ومصدر. وقُدُّوس اسم من أسماء الله تعالى. والأرض المقدسة: أي المطهرة. وقد جاء في هذه الآية أكثر من تأويل:

الأول: عن قتادة: (التسبيحُ: التسبيح، والتقديس: الصلاة).

وعن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال: يقولون: نصلّي لك).

الثاني: عن مجاهد: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال: نعظمك ونكبرك).

الثالث: عن الضحاك: (التقديس: التطهير).

الرابع: عن محمد بن إسحاق: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال: لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه). قال القاسمي: (كأنهم قابلوا الفساد، الذي أعظمه الإشراك، بالتسبيح. وسفك الدماء، الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم، بتطهير النفس عن الآثام. لا تمدّحًا بذلك، ولا إظهارًا للمنّة، بل بيانًا للواقع).

وهي أقوال متقاربة متشابهة. قال ابن جرير: (التقديس هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سُبُّوح قُدُّوس، يعني بقولهم: سُبُّوح، تنزيه له، وبقولهم: قُدُّوس، طهارة وتعظيمٌ له).

وقال الحافظ ابن كثير: (فمعنى قول الملائكة إذن: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}، ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك. {وَنُقَدِّسُ لَكَ}، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك).

وقال القاسمي: (وقوله {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي: نصفك بما يليق بك -من العلو والعزّة- وننزّهك عما لا يليق بك).

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده](1).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كلمتان

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (2731)، ومسند أحمد (5/ 148).

ص: 184

حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحانَ الله العظيم] (1).

وقوله: {قَال إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

فيه أكثر من تأويل:

الأول: يعني من شأن إبليس.

قال ابن عباس: (يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كِبره واغتراره). وقال مجاهد: (علم من إبليس المعصية وخلقه لها).

وقال أيضًا: (علم من إبليس كتمانه الكبر أن لا يسجد لآدم).

الثاني: يعني من شأن آدم.

قال مجاهد: (علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلَقَه لها).

وقال ابن إسحاق: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي فيكم ومنكم، ولم يُبْدها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء).

الثالث: يعني من شأن الخليفة.

قال قتادة: (فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسلٌ وقوم صالحون وساكنو الجنة).

قلت: والأنسب من ذلك أن يقال بأن الآية عامة، وبأن لله حكمة في خلق الخليقة لا يعلم آفاقها إلا هو جل ثناؤه، وإن كان سبحانه قد نوّه بذكر بعض هذه الآفاق والحكم، إلا أن الخلق لا يحيطون بعلمه وحكمته مهما بلغوا من العلم.

31 -

33. قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَال أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَال يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَال أَلَمْ أَقُلْ

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح البخاري -حديث رقم- (2134)، كتاب التوحيد، وبه ختم الإمام البخاري صحيحه، ورواه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة (2694).

ص: 185

لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}.

في هذه الآيات: يبين الله سبحانه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم، ثم بأمره جل ثناؤه لهم بالسجود له.

وقد قيل إنما سماه الله آدم لأنه خُلق من أديم الأرض. وفي ذلك أقوال جيدة ذكرها المفسرون.

القول الأول: عن ابن عباس، قال:(بعث ربُّ العزة ملكَ الموت فأخذ من أديم الأرض، من عذْبها ومالحها، فخلق منه آدم، ومن ثمَّ سُمي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض).

القول الثاني: عن عمرو بن ثابت عن أبيه عن جده، عن علي، قال:(إن آدم خُلِقَ من أديم الأرض، فيه الطيب والصالح والرديء، فكل ذلك أنت راءٍ في ولده، الصالح والرديء).

القول الثالث: عن سعيد بن جبير قال: (إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض).

القول الرابع: عن ابن مسعود وناس من الصحابة: (أن ملك الموت لما بُعث ليأخذ من الأرض تربة آدم، أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكَان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. ولذلك سُمي آدم، لأنه أخذ من أديم الأرض).

قلت: وقد صحّ الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون إشارة إلى ملك الموت. فقد أخرج الإمام أحمد في المسند وأبو داود والترمذي في السنن بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تعالى خلقَ آدمَ من قُبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدْر الأرض، جاء منهم الأحمرُ، والأبيضُ، والأسودُ، وبين ذلك، والسهْلُ، والحزْنُ، والخبيثُ، والطيِّبُ، وبين ذلك](1).

والأديم في لغة العرب وجه الأرض. قال أبو جعفر: (ويكون تأويله حينئذٍ: آدمَ الملك الأرضَ، يعني به بلغ أدمتها - وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين، كما أن

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4693)، والترمذي (2955)، وأحمد (4/ 400)، (4/ 406)، والحاكم (2/ 261 - 262)، وابن حبان (6160)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(715)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني- انظر صحيح الجامع (1755).

ص: 186

جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدامًا: لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه (1)).

وقوله: {الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: أسماء الأشياء المعروفة المشهورة. وتفصيل ذلك:

1 -

عن ابن عباس قال: (علم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها).

2 -

عن مجاهد قال: (علمه اسم كل شيء). وقال: (علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء).

3 -

عن سعيد بن جبير قال: (علمه اسمَ كل شيء، حتى البعير والبقرة والشاة).

4 -

عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس، قال:(علمه اسم القصعة والفسوة والفُسَيَّة). وفي لفظ قال: (حتى الفسوة والفُسَيَّة).

وفي لفظ آخر قال: (علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة).

وفي لفظ ثالث قال: (علمه القصعة من القُصيعة والفسوة من الفسية).

5 -

عن قتادة قال: (علمه اسم كل شيء، هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا وهذا كذا، لكل شيء. ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين).

6 -

عن الحسن قال: (علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه).

التأويل الثاني: قيل بل هي أسماء الملائكة.

فعن الربيع قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: (أسماء الملائكة).

التأويل الثالث: أسماء الذرية.

قال ابن زيد في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، قال:(أسماء ذريته أجمعين).

(1) يعني آدم.

ص: 187

واختار ابن جرير أن المراد أسماء الملائكة وأسماء الذرية لأن قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} يخص من يعقل، بينما ردّ عليه الحافظ ابن كثير بأن ذلك غير لازم، فقد يعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب كقوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45].

قال ابن كثير: (والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها: ذواتها وصفاتها وأفعالها، كما قال ابن عباس: حتى الفسوة والفُسَيّة. يعني: أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر).

ولا شك أن الآية عامة في كل ما احتاج آدم معرفته لمواجهة هذه الحياة الدنيا في المستقبل، وقد دلت السنة الصحيحة على ذلك.

ففي صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا؟ فيأتون آدمَ فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ. ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هُنَاكُمْ، ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول: ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُم، فيقول: ائتوا موسى عَبْدًا كَلَّمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه فيقول: لست هُنَاكم. ويذكر قَتْل النفس بغير نفس، فيستحي من ربه، فيقول: ائتوا عيسى عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمَةَ الله وروحَه، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكم، ائتوا محمدًا عبدًا غَفَرَ الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستاذن على ربي، فيأذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا، فيدعني ما شاءَ ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسْمَع، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمد بتحميد يُعَلِّمُنِيه، ثم أشفع فيَحُدُّ لي حدًّا فأدْخِلُهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي مثْلَه، ثم أشفع فَيَحُدّ لي حدًا فأُدْخِلهم الجنة، ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا مَنْ حَبسه القرآن ووجب عليه الخلود](1).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4476)، كتاب التفسير، سورة البقرة، آية (31).

وصحيح مسلم (193)، ومسند أحمد (3/ 244).

ص: 188

قال أبو عبد الله: إلا من حبسه القرآن: يعني قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} . وهذا الحديث العظيم ذكره البخاري في تفسير هذه الآية، من كتاب التفسير، من صحيحه، وقوله:"وعلمك أسماء كل شيء" يدل على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات.

وقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} .

فيه أقوال متقاربة يكمل بعضها بعضًا.

1 -

عن ابن عباس قال: (ثم عرض هذه الأسماء، يعني جميع الأشياء، التي علّمها آدم من أصناف جميع الخلق).

2 -

عن ابن مسعود وناس من الصحابة: (ثم عرض الخلق على الملائكة).

3 -

قال ابن زيد: (أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره، قال: ثم عرضهم على الملائكة).

4 -

عن قتادة قال: (علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة).

5 -

عن مجاهد: (عرض أصحاب الأسماء على الله الملائكة). قال: (يعنى عرض الأسماء، الحمامة والغراب).

6 -

عن الحسن وقتادة قالا: (علّمه اسم كل شيء: هذا الخيل، وهذه البغال، وما أشبه ذلك. وجعل يُسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة).

وقوله: {فَقَال أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} .

قال ابن عباس: (يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء).

وقال مجاهد: (بأسماء هذه التي حدَّثتُ بها آدم) وفي لفظ: (بأسماء هؤلاء التي حدّثت بها آدم).

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

فيه أكثر من تأويل:

الأول: عن ابن عباس: (إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة).

الثاني: عن ابن مسعود وغيره من الصحابة: ({إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء).

ص: 189

الثالث: عن الحسن وقتادة قالا: ({فَقَال أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أني لم أخلقْ خَلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين).

قال ابن جرير: (وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، تأويل ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة -القائلون: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، من غيرنا أم منا، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينوهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إياه، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بعدُ، وبما هو مستتر من الأمور -التي هي موجودة- عن أعينكم، أحرى أن تكونوا غير عالمين).

والخلاصة: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرط، والجواب محذوف لتقدّم ما قبله عليه:"أنبئوني".

وقوله تعالى: {قَالوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .

هذا أدب رفيع من الملائكة الكرام، فيه مسارعة بالأوبة إلى الله العليم العلَّام، وتبرؤ من ادعاء العلم والمعرفة أو الخوض في متاهات الرأي والكلام.

قال ابن عباس: ({قَالوا سُبْحَانَكَ} (1) تنزيهًا لله من أن يكون أحدٌ يعلم الغيب غيرُه، تُبنا إليك {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} تبرِّيًا منهم من علم الغيب، {إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} كما علمت آدم).

قال ابن جرير: (فلم يكن لهم مَفزَعٌ إلا الإقرار بالعجز، والتبري إليه أن يعلموا إلا ما علّمهم بقولهم: {قَالوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}. فكان في ذلك أوضحُ الدلالة وأبينُ الحجة، على كذب مقالة كل من ادعى شيئًا من علوم الغيب من الحُزاة (2) والكهنة والعافَةِ والمنجِّمة).

وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بُهَيَّة (3) قال: [كنت

(1) سبحان: مصدر لا تصرف له، ومعناه نسبحك. أي نسبحك تسبيحًا، وننزهك تنزيهًا.

(2)

جمع حازٍ، وهو كالكاهن يحزر الأشياء ويقدرها بظنه.

(3)

مولاة أبي بكر رضي الله عنه، تروي عن عائشة، وروى عنها أبو عقيل المذكور.

ص: 190

جالسًا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيمٌ أن يُسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عنك منه عِلمٌ ولا فرَج، أو عِلْمٌ ولا مَخرَج؟ فقال له القاسم: وعمَّ ذاك؟ قال: لأنك ابْنُ إمامَيْ هُدًى: ابنُ أبي بكر وعمر (1). قال يقول له القاسم: أقْبَحُ من ذاك عد مَن عَقَل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. فسكت فما أجابه] (2).

وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هُرْمُز يقول: (ينبغي للعالم أن يُوَرِّث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلًا في أيديهم، فإذا سُئِل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري)(3). وذكر الهيثم بن جميل قال: (شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري).

وجاء في الأثر أيضًا عن مالك أن رجلًا سأله عن مسألة وذكر أن قومه أرسلوه يسأله عنها من مسيرة ستة أشهر، فقال له الإمام مالك:(فأخبر الذي أرسلك أني لا علم لي بها). قال الرجل: ومن يعلمها؟ قال مالك: (من علّمه الله، قالت الملائكة: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}).

وكان ابن عجلان يقول: (إذا أخطأ العالم قول "لا أدري" أصيبت مقاتله).

قلت: والبعد والخشية من الفتوى صفة لازمة للعلماء الأوائل من الصحابة والتابعين ومن سار على منهجهم، متأثرين بنحو قوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144].

وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من حدَّثَ عني حديثًا وهو يُرَى أنه كَذِبٌ فهو أحدُ الكاذبين](4).

وفيه بإسناد حسن عن أبي قتادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر:

(1) القاسم هذا، هو ابن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأم القاسم هي أم عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. فأبو بكر جده الأعلى لأمه، وعمر جدّه الأعلى لأبيه، وابن عمر جده الحقيقي لأبيه. رضي الله عنهم أجمعين. انظر شرح النووي على صحيح مسلم وتفسير القرطبي.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (33)، طبعة دار السلام- الرياض.

(3)

ذكره القرطبي ج (1) ص (286)، وكذلك الأثر الذي بعده.

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (36)، ورواه مسلم أيضًا.

ص: 191

[إياكم وكثرةَ الحديثِ عني. فَمَنْ قال عليَّ فليقل حقًّا أو صِدْقًا. ومن تقوَّلَ عليَّ ما لم أقُلْ، فَلْيَتبَوّأ مَقْعَدَهُ من النار](1).

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (أدركت في هذا المسجد -مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يُسأل عن حديث أو فتيا إلا ودّ أن أخاه كفاه ذلك).

وفي لفظ آخر: (كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر، حتى ترجع إلى الذي سئل عنها أول مرة).

ومثل هذا كثير في حياة الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. قال القرطبي رحمه الله: (وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم. قال ابن عبد البَرّ: من بركة العلم وآدابه الإنصافُ فيه، ومن لم يُنصف لم يفهم ولم يتفهّم. روى يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقلّ من الإنصاف. قلت (2): هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فينا الفساد وكثر فيه الطَّغام! وطُلِب فيه العلم للرياسة لا للدّراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمِراء والجدال الذي يُقْسِي القلب ويُورث الضِّغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى (3).

قلت: فإن كان هذا في زمن القرطبي المتوفى (671 هـ) فكيف في زماننا اليوم بعد سبعة قرون من زمانه وبعد أربعة عشر قرنًا من زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أظلتنا فتن تجعل والله الحليم حيرانَ، وقد صرنا إلى الزمن الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه يصبح الرجل فيه مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. وقد جاءني قبل ساعة من الآن رجل يسأل عن فتيا يشير واقعها إلى الحال الذي وصل إليه المسلمون في زماننا هذا، فهو يقول: إن زوجته يعتريها أوقات تتغير فيه وتضرب نفسها وتكاد تمزق ما حولها -فيما يبدو أنه مسّ من الجن- وتطلب منه الطلاق ولا تهدأ إلا إذا لفظ به، فهي تهدده بحالة مذعرة يخشى من عاقبتها كما يخشى من مقدّمها -مهرها- الكبير الذي كتبه على نفسه ولا يستطيعه إن حاكمته إلى القاضي،

(1) حديث حسن. انظر صحيح ابن ماجة (33)، باب التغليظ وتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

القائل هو القرطبي.

(3)

انظر تفصيل وتمام ذلك في تفسير القرطبي (ج 1) ص (286).

ص: 192

حتى دُلَّ أو دُلّت على رجل دجال ساحر، زاد بكفره وشعوذته من المشكلة حين أمرها بحمل زوجها على أن يطلقها وكرّهها بالسحر منه بشدة ووعدها وعودًا كاذبة بإخراج هذه القوى الخفية منها وخلا بها وزنى بها ثم طلقها زوجها وطلب ذلك الدجال الزواج منها بدعوى متابعة معالجة المشكلة فتزوجها قبل أن تُنهي عدتها من زوجها ثم ظهر لها كذبه ودجله فهددته حتى طلقها، ثم رجعت إلى زوجها الأول نادمة عما حصل من أمرها، فجاءني زوجها يستفتيني -بعدما دُل عليَّ من كبار أهل العلم- هل تستطيع أن ترجع إليه وقد طلقها ثلاثًا ثم زنى بها ذلك الدجال ثم تزوجها أثناء عدتها ثم طلقها؟ ؟ فهذا حال زماننا نسأل الله السلامة والعافية.

وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .

قال ابن عباس: {الْعَلِيمُ} الذي قد كمل في علمه، و {الْحَكِيمُ} الذي قد كمل في حُكمهِ).

وقيل: معنى الحكيم: الحاكم، كما أن العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر.

قال ابن كثير: (أي العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك، وفي تعليمك من تشاء، ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك والعدل التام).

وقوله تعالى: {قَال يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} .

قال ابن عباس: {قَال يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} ، يقول: أخبرهم بأسمائهم- {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أيها الملائكة خاصة {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولا يعلمه غيري).

وقال زيد بن أسلم: (قال: أنت جبرائيلُ، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل، حتى عدَّدَ الأسماء كُلَّها، حتى بلغ الغُراب).

وقال مجاهد: {قَال يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} قال: اسم الحمامة، والغراب واسم كل شيء).

قال الحافظ ابن كثير: (فلما ظهر فضلُ آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سَرْده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة:{أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} أي: ألم أتقدَّم

ص: 193

إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفيَّ، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} [طه: 7]. وكما قال تعالى إخبارًا عن الهُدْهد أنه قال لسليمان: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 25 - 26]).

وقد ذكر غير ذلك من تأويل في معنى قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ، وتفصيل ذلك:

التأويل الأول: عن ابن عباس: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} قول: ما تظهرون، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية. يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار).

وقال سعيد بن جبير: (ما أسر إبليس في نفسه).

وقال سفيان: (ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر ألا يسجد لآدم).

التأويل الثاني: عن الحسن بن دينار، قال للحسن -ونحن جلوس عنده في منزله-: يا أبا سعيد، أرأيت قول الله للملائكة:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ، ما الذي كتمت الملائكة؟ فقال الحسن:(إن الله لما خلق آدم رأت الملائكة خلقًا عجيبًا فكأنهم دخلهم من ذلك شيء، فأقبلَ بعضهم إلى بعض، وأسرّوا ذلك بينهم، فقالوا: وما يُهمكم من هذا المخلوق! إن الله لن يخلق خلقًا إلا كنا أكرمَ عليه منه).

وقال قتادة: (أسرّوا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاء أن يخلقُ، فلن يخلُقَ خلقًا إلا ونحن أكرم عليه منه).

التأويل الثالث: عن الربيع بن أنس: ({وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، فكان الذي أَبْدَوا حين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربنا خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعوفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم).

التأويل الرابع: عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قصة الملائكة وآدم، فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمتُه ولذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني

ص: 194

ومن يطيعني، قال: وقد سبق من الله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه، فقال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل).

اختار ابن جرير قول ابن عباس، قال:(والذي أظهروه بألسنتهم. . قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ـ، والذي كانوا يكتمونه، ما كان منطويًا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره، والتكبر عن طاعته).

وهذا يصح في كلام العرب، أن يخرجوا الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة، وفي التنزيل:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4]، وذكر أن الذي نادى كان واحدًا من بني تميم. ومثله قوله تعالى:{مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} .

قلت: والذي أميل إليه أن تبقى الآية عامة دون تخصيص لقول دون قول، أو موقف دون آخر، فهو سبحانه يخبر الملائكة بعد هذا المشهد الذي وضعهم فيه أمام آدم أنه جل ذكره يعلم ما يظهرونه بألسنتهم وما كانوا يخفونه في أنفسهم. ولا شك أن هذا المشهد يدل الله به على فضل العلم وأهله، ومن ثم فإن الملائكة بعد ذلك لتضع أجنحتها رِضًا لطالب العلم، أي تخضع وتتواضع، وإنما تفعل ذلك خاصة لأهل العلم.

فقد أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من سَلَكَ طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع](1). وفي لفظ: [بما يطلب].

وفي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني بإسناد جيد واللفظ له عن صفوان بن عَسَّالٍ المُرادي رضي الله عنه قال: [أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد مُتكئٌ على بُردٍ له أحمرَ، فقلت له: يا رسول الله! إني جئتُ أطلبُ العلمَ. فقال: مرحبًا بطالب علم،

(1) حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود (3096)، وصحيح سنن الترمذي (2159)، وكذلك الحديث (2134)، (2348) من حديث أبي هريرة. وانظر صحيح الترغيب (1/ 68).

ص: 195

إن طالِبَ العلم تَحُفُّه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضُهم بعضًا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يَطلُبُ] (1).

قلت: وأما إن كان من العلماء فتشريفه عند الملائكة أكبر من تشريف طلاب العلم، فهم يستغفرون له، ويحفون مجلسه بالسكينة والرحمة، ويُصلون عليه وعلى أمثاله من معلمي الناس الخير، ويُشاركهم في ذلك أهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحيتان في البحر.

ففي حديث الترمذي من طريق أبي الدرداء: [وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحِيتانُ في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل الفمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما وَرَّثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ](2).

وفي جامع الترمذي أيضًا عن أبي أُمامة الباهلي قال: [ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدُهما عابِدٌ، والآخر عالمٌ، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: فَضْلُ العالم على العابد، كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهلَ السماوات والأرض حتى النملةَ في جُحرها، وحتى الحوتَ، ليصَلُّون على معلمي الناسِ الخيرَ](3).

ورواه البزار من حديث عائشة مختصرًا قال: [مُعلم الخير يستغفر له كلُّ شيء، حتى الحيتانُ في البحر].

قال القرطبي رحمه الله: (وفي الحديث "وإن الملائكَة لتضع أجنحتها رِضًا لطالب العلم" أي تخضع وتتواضع، وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عيال الله، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدّبت بذلك الأدب. فكلما ظهر لها عِلْمٌ في بشر خضعت له وتواضعت وتذلَّلت إعظامًا للعلم وأهله، ورضىً منهم بالطلب

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد والطبراني. انظر صحيح الترغيب (1/ 69).

(2)

حديث حسن. انظر صحيح الترغيب (1/ 68)، وصحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2159)، وصحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3096).

(3)

حديث حسن صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2161)، وكذلك (2159) من حديث أبي الدرداء، وانظر له ولرواية البزار بعده صحيح الترغيب (1/ 78)، (1/ 79).

ص: 196

له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم! جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم) (1).

قلت: وأما ما خاض به بعض الناس من أن الآية تدل على أن آدم أفضل من الملائكة وكذلك الأنبياء والرسل والعلماء، أو أن الملائكة أفضل منهم، فلا دليل على أي من المذهبين، بل ليست هذه القضية معروضة للبحث فعل مها متروك إلى الله سبحانه، وإنما الآية كما أسلفنا تدل على شرف العلم وفضل أهله.

34.

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} .

في هذه الآية: يمتن الله سبحانه مرة أخرى على ذرية آدم بذكر كرامة عظيمة اختص بها أباهم آدم عليه السلام، إذ أمر ملائكته الكرام بالسجود له، فامتثلوا الأمر الكريم، إلا إبليس اللعين، اعترته الحمية، وغلبت عليه الشقوة، فأبى السجود وكان من المستكبرين.

فقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} - أي سجود تكريم وتقدير.

ففي الصحيحين والمسند وأكثر السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهمْ! ] الحديث (2).

وفي لفظ: [قال موسى: ربِّ أرني آدم الذي أخرجنا ونفسَه من الجنة، فلما اجتمع به قال: أنت آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته].

وأما إبليس فأبى السجود كبرًا وتعززًا، فسخط الله عليه وأنزل به لعنته إلى يوم الدين، قال تعالى:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]

قال الحافظ ابن كثير: (والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم، دخل

(1) انظر تفسير الإمام القرطبي، ج (1)، ص (288 - 289).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (3409)، (6614)، (7515)، وانظر صحيح مسلم (2652) ح (13)، (14)، (15)، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى صلى الله عليهما وسلم. ورواه أحمد. انظر صحيح الجامع الصغير، حديث رقم (182).

ص: 197

إبليس في خطابهم، لأنه -وإن لم يكن من عنصرهم- إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذُمَّ في مخالفة الأمر).

وأما مفهوم هذا السجود ففيه أقوال:

الأول: كانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته.

الثاني: كان هذا سجودَ تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَال يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100].

الثالث: وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها، كما قال تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].

قلت: أما الثالث فبعيد ولا دليل عليه، وأما الثاني فهو كان مشروعًا في الأمم الماضية ثم نسخ في ملتنا، ويبقى التأويل الأول هو الأنسب للسياق. واختاره الحافظ ابن كثير وقال:(والسجدة لآدم إكرامًا وتعظيمًا واحترامًا وسلامًا، وهي طاعة لله عز وجل، لأنها امتثال لأمره تعالى).

وقوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} :

قال قتادة: (حَسَدَ عدوُّ الله إبليسُ آدمَ عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة، وقال: أنا ناري وهذا طيني).

وإبليس "إفعيل" من الإبلاس، وهو الإياس من الخير والندمُ والحزن. والعرب تقول: أبْلسَ فلان من رحمة الله أي يئِس والعياذ بالله.

قال الرازي: (ومنه سمي "إبليس" وكان اسمه عَزَازيل (1). و"الإبلاس" أيضًا الانكسار والحُزْن يقال: أبْلس فلان إذا سكت غمًا).

قال ابن عباس: (إبليس، أبلسه الله من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته).

وقال السدي: (كان اسم إبليس "الحارث"، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيِّرًا).

وفي التنزيل: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} يعني: آيسون من الخير، نادمون حزنًا.

(1) قلت: لا دليل على ذلك يحتج به.

ص: 198

وقوله {أَبَى} أي امتنع من السجود لآدم {وَاسْتَكْبَرَ} أي تعظَّمَ وتكبَّر عن طاعة الله في أمره بذلك، وهذا الاستكبار هو أول ذنب عُصِيَ الله به، وهو من أقبح الأفعال التي تسخط الله سبحانه وتُهَدِّدُ العبد في مصيره.

ففي صحيح الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا يدخل الجنة منْ كان في قلبه مِثْقال ذرَّة من كبْرٍ. قال رجل: إنَّ الرجل يُحِبُّ أن يكونَ ثَوْبُه حَسَنًا، ونَعْلُهُ حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْرُ: بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس](1).

قال ابن جرير: (وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه جبرًا عن إبليس، فإنه تقريعٌ لضُربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله، والتذلل لطاعته، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم -اليهودُ الذين كانوا بين ظهراني مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارُهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصِفته عارفين، وبأنه لله رسولٌ عَالِمين. ثم استكبروا -مع علمهم بذلك- عن الإقرار بنبوّته، والإذعان لطاعته، بَغْيًا منهم له وحسدًا. فقرّعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدًا له وبغيًا، نظيرَ فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوته، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدًا وبغيًا).

وفي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا قرأ ابنُ آدم السَّجْدَة فسَجَدَ، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا وَيْلَهُ (وفي رواية: يا وَيْلي)! أُمِرَ ابنُ آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجود فأبَيْتُ فلِيَ النار](2). وفي لفظ: (فعصيت فلِيَ النار).

وقوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .

قال عبد الله بن بُريدة: (من الذين أبوا، فأحرقتهم النار).

وقال أبو العالية: (يعني من العاصين).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (91) - كتاب الإيمان. باب تحريم الكبر وبيانه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (81) - كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، ورواه أحمد وابن ماجة، انظر صحيح الجامع (740).

ص: 199

وقال السدّي: ({وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد).

وقال محمد بن كعب القُرَظِيُّ: (ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة، وعمل بعمل الملائكة، فصَيَّرَهُ الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر، قال الله تعالى:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: (وقال جمهور المتأولين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقةً والمؤمن حقيقةً هو الذي قد علم الله منه الموافاة).

قلت: ويشهد لهذا التأويل الجيد من السنة الصحيحة ما رواه الطبراني بسند صحيح عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تعجبوا بعمل عامل، حتى تنظروا بمَ يختَمُ له](1).

وله تفصيل أكبر عن الإمام أحمد وابن أبي عاصم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له، فإن العامل يعمل زمانًا من دهره، أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملًا سيئًا، وإن العبد ليعمل زمانًا من دهره بعمل سيِّئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملًا صالحًا، وإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح، ثم يقبضه عليه](2).

وقد ذكر العلماء في هذا المعنى: أنه لا نَقْطَعُ لمن أجرى الله على يديه الخوارق أن يوافي الله بالإيمان، فالخوارق قد تكون من الولي وغير الولي، فإن كانت من الولي الصالح فهي كرامات وإن كانت من الدجال الجاهل فهي فتنة له ولمن تبعه.

قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: (قلت للشافعي رحمه الله: كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغترّوا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. فقال الشافعي: قصَّر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة).

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة. انظر صحيح الجامع الصغير (7243)، وأصله في المسند والصحيحين بلفظ مقارب. وانظر الحديث بعده،

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 120، 123، 230)، وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(347 - 353)، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1334).

ص: 200

35 -

36. قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}.

في هذه الآيات: تكريم الله تعالى آدم وزوجته في جنة النعيم، وتحذيرهما من شجرة إن يقرباها يكونا من الظالمين. فما زال يوسوس إليهما فيها الشيطان الرجيم، حتى أكلا منها فأهبطهم الله تعالى إلى الأرض حتى حين.

فقوله: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} الآية.

قال ابن جرير: (وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأُسكنها آدم قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض).

وإلى ذلك ذهب المفسرون، وذكر القرطبي أنه لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسكن.

وهناك روايتان في ذلك عن أرباب التفسير:

الأولى: عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: (أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليُغويَنَّ آدم وذريته وزوجَه إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرِج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض. وعلّم الله آدم الأسماء كلها).

الثانية: عن ابن إسحاق، قال:(لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة، أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها، فقال: {قَال يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}).

وقوله: {اسْكُنْ} من السكينة: وهي الوَداع والوقار. حكاه الرازي.

والمقصود: لازم الإقامة واتخذ الجنة مسكنًا، وهو محل السكون. يقال: سَكَنَ إليه يَسْكُنُ سكونًا. والسَّكَنُ: كل ما سُكن إليه.

ص: 201

وأما عن الحال التي خلقت لآدم زوجته، والوقت الذي جعلت له سكنا فهناك روايتان: الرواية الأولى: عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: (فأُخْرِجَ إبليسُ من الجنة حين لعن، وأسكِنَ آدم الجنة. فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة -ينظرون ما بلغ علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. فقال الله له: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}).

فهذا الخبر يُنبئ أن حواء خلقت بعد أن سكن آدم الجنة، فجعلت له سكنًا.

الرواية الثانية: قيل بل خلقت حواء قبل أن يسكن آدم الجنة.

فعن ابن إسحاق، قال:(لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلها فقال: {يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. قال: ثم ألقى السِّنَةَ على آدم -فيما بلغنا عن أهل الكتاب من التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره- ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقِّهِ الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله من ضِلَعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأة ليسكن إليها. فلما كُشِف عنه السِّنة وهبَّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى، وجعل له سكنًا من نفسه، قال له قَبيلًا: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}).

قال أبو جعفر: (ويقال لامرأة الرجل: زَوْجُه وزوْجَتُه، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء. والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزْدِ شنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب، فهو زوجُ المرأة).

والخلاصة من أقوال المفسرين: لَقد أسكن الله آدم الجنة، وأخذ من ضلع من أضلاعه وهو نائم ضلعًا من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وخلق له من ذلك الضلع زوجة يسكن إليها، والله أعلم. وقد أشارت السنة الصحيحة إلى بعض ذلك في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 202

[إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن المرأة خلقت من ضلع، وإنك إن ترد إقامة الضلع تكسرها، فدارها تَعِشْ بها](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والنسائي بسند حسن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقومها كسرتها، وإن تدعها ففيها أودٌ وبُلغَةٌ](3).

أي فيها عوج، ولكن فيها كفاية لحصول الأنس والسكن رغم ذلك.

وآدم عليه الصلاة والسلام هو أول الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقد كلمه الله قبلًا.

فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، والطبراني في الكبير، بسند حسن عن أبي أمامة قال:[قلت: يا نبي الله فأي الأنبياء كان أول؟ قال آدم عليه السلام. قال: قلت: يا نبي الله! أو نبي كان آدم؟ قال: نعم، نبي مكلّم، خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم قال له: يا آدم قِبَلًا. قال: قلت: يا رسول الله! كم وفى عدد الأنبياء؟ قال: مئة ألف وأربعة عشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاث مئة وخمسة عشر، جمًّا غفيرًا](4).

وله شاهد عند الحافظ أبي بكر بن مَرْدَوَيه من حديث أبي ذر، قال: [قلت

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (3643) - طبعة دار السلام، الرياض- كتاب الرضاع. باب الوصية بالنساء.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد والحاكم وابن حبان. انظر صحيح الجامع الصغير- حديث رقم - (1940)، وتخريج الترغيب (3/ 72).

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد والنسائي من حديث أبي ذر. انظر صحيح الجامع الصغير- حديث رقم - (1938)، وتخريج الترغيب (3/ 73).

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (5/ 265)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 159): رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، ومداره على عليّ بن يزيد وهو ضعيف، لكن للحديث شواهد يتقوى بها. انظر مسند الطيالسي (478)، ومسند أحمد (5/ 178)، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة عقب الحديث (2668).

ص: 203

يا رسول الله؛ أرأيت آدم، أنبيًّا كان؟ قال: نعم، نبيًّا رسولًا كلَّمة الله قبلًا - يعني عيانًا - فقال:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ] (1).

وشاهد آخر أخرجه أبو جعفر الرزّاز في "مجلس من الأمالي" بإسناد صحيح عن أبي أمامة: [أن رجلًا قال: يا رسول الله! أنبيًّا كان آدم؟ قال: نعم، مُكلّم. قال: كم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون. قال: يا رسول الله! كم كانت الرسل؟ قال: ثلاث مئة وخمسة عشر](2).

وقوله: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} .

الرَّغَد في كلام العرب: الواسع من العيش، الهنيء الذي لا يُعنِّي صاحبه.

وعِيشَةٌ رَغْدٌ: أي واسعة طيِّبة، وأرغد فلان: إذا أصاب سعة من العيش. وقد ورد في الآية أكثر من تأويل:

التأويل الأول: عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: ({وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} قال: الرغد: الهنيء).

التأويل الثاني: عن مجاهد: ({وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} أي لا حساب عليهم).

التأويل الثالث: عن الضحاك، عن ابن عباس:(الرغد: سَعة المعيشة).

وهي تفاسير متقاربة متشابهة تفيد أن الله سبحانه قال لآدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رزقًا واسعًا هنيئًا في عيش لا حساب فيه ولا عتاب.

وقوله {رَغَدًا} إما نعت لمصدر محذوف، أي أكْلًا رَكَدًا. وإما نصب على الحال.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} .

الشجرة في كلام العرب كل ما قام على ساق. قال الرازي: (الشَّجَرُ والشجَرة ما كان على ساق من نبات الأرض).

(1) إسناده لا بأس به. انظر صحيح ابن حبان (361)، والبيهقي في "السنن"(9/ 4) وكذلك أخرج نحوه أبو نعيم (1/ 168). وذكره الحافظ ابن كثير في التفسير. انظر الحديث (421) في تفسير ابن كثير - تحقيق عبد الرزاق المهدي.

(2)

إسناده صحيح. أخرجه أبو جعفر الرزّاز في "مجلس من الأمالي"(ق 178/ 1)، وانظر صحيح ابن حبان (2085 - موارد)، وابن مندة في "التوحيد"(ق 104/ 2). وانظر معجم الطبراني الكبير (8/ 139 - 140)، والأوسط (1/ 24/ 2/ 398)، ومستدرك الحاكم (2/ 262)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (2668).

ص: 204

وفي التنزيل {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]. يعني بالنجم ما نَجم من الأرض من نَبت، وبالشجر ما استقل على ساق، كلاهما يخضعان وينقادان لله فيما خلقا له.

والمقصود أن النجم هو النبات الذي ينجم ولا ساقَ له كالعشب والبقل، وأما الشجر فهو ما قام على ساق.

واختلف في عين الشجرة التي نُهي آدم عن أكل ثمرها، وفي ذلك أقوال: الأول: السُّنبلة. قال ابن عباس: (الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، هي السنبلة).

وقال وهب بن منبه: (هي البُرُّ، ولكن الحبة منها في الجنة كُكُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البُرّ).

الثاني: الكرمة. قال ابن عباس: (هي الكرمة). وفي رواية: (وتزعم اليهود أنها الحنطة).

وقال السدي: (الشجرة هي الكَرْم). وقال الشعبي: (هم العِنب).

وقال جعدة بن هُبيرة: (الشجرة التي نُهي عنها آدم، شجرة الخمر).

الثالث: التِّينة. قال ابن جريج: (تينة).

الرابع: شجرة الخلد. قال يعقوب بن عتبة: (حُدِّث أنها الشجرة التي تحتكُّ بها الملائكة للخلد).

وكلها أقوال لا يصح رفع شيء منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو شاء الله سبحانه لعيّنها بعينها، ولكنه سبحانه ما أراد ذلك، إذ المقصود من الآية إدراك أثر المخالفة لأمره سبحانه لا الخوض في مسميات ليست هي المرادة بذلك.

وقد أجاد شيخ المفسرين العلامة ابن جرير رحمه الله بقوله: (فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها، من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يَضَع لعباده دليلًا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة).

ص: 205

وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} .

الظلم: أصله وضع الشيء في غير موضعه. وقوله {فَتَكُونَا} عطف على {تَقْرَبَا} لذلك حذفت النون. ومعنى الآية: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي ظالمين لأنفسكما.

وقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} .

{فَأَزَلَّهُمَا} من الزَّلة وهي الخطيئة، أي استزلهما وأوقعهما فيها. وهي قراءة الجمهور.

وقرأها حمزة "فأزالهما" من التنحية، أي نحّاهما.

قال ابن كَيْسان: (فأزالهما من الزوال، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية).

وقراءة الجمهور أقوى كما أشار ابن جرير والقرطبي وغيرهما.

قال القرطبي: (وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى. يقال منه: أزْلَلْتُهُ فزَلّ. ودلّ على هذا قولُه تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، وقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان، إنما قدرته على إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببًا إلى زواله من مكان إلى مكان قدرته).

وقوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} .

أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة ورغد العيش.

وقد أضاف الله إخراجهما من الجنة إلى الشيطان لأن ذلك كان بسبب إغوائه وإن كان المخرج هو الله تعالى. قال ابن عباس: ({فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ}: قال: أغواهما).

قال ابن مفلح: (فآدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل، فالتأويل لنص الله أخرجه، وإلا فهو لم يقصد المعصية، والمخالفة، وأن يكون ظالمًا مستحقًا للشقاء) ذكره القاسمي.

وقال أبو محمد بن حزم في الملل والنحل: (لا براءة من المعصية أعظم من حال من ظن أن أحدًا لا يحلف حانثًا. وهكذا فعل آدم عليه السلام، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيًا لنص القرآن، ومتأولًا وقاصدًا إلى الخير، لأنه قدّر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون مَلَكًا مقربًا أو خالدًا فيما هو فيه أبدًا. فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله

ص: 206

به، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره، لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه. ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورًا، ولكن آدم لما فعل وأخرج عن الجنة إلى الدنيا، كان بذلك ظالمًا لنفسه. وقد سمى الله تعالى قاتل الخطأ قاتلًا، كما سمى العامد. والمخطئ لم يعمد معصية. وجعل في مثل الخطأ عتق رقبة، وهو لم يعمد ذنبًا) انتهى.

وقد أجاد شيخ الإسلام في تفصيل هذا الحدث بقوله: (الصواب أن آدم عليه السلام، لما قاسمة عدو الله أنه ناصح، وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات: أحدها القسم. والثاني: الإتيان بجملة اسمية لا فعلية. والثالث تصديرها بأداة التأكيد. الرابع: الإتيان بلام التأكيد في الخبر. الخامس الإتيان به اسم فاعل لا فعلًا دالًا على الحدث. السادس تقديم المعمول على القليل فيه. ولم يظن آدم آن أحدًا يحلف بالله كاذبًا يمين غموس، فظن صدقه، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل، وإن كان فيه مفسدة، فمصلحة الخلود أرجح، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة اليمين في أثناء ذلك باعتذار أو توبة، كما تجد هذا التأويل في نفس كل مؤمن أقدم على معصية).

وقوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .

هبط - في لغة العرب -: نزل والهُبُوطُ: الحُدُور. وفي المقصود بالهبوط أقوال:

الأول: آدم وحواء والحية والشيطان، قاله ابن عباس.

الثاني: آدم وحواء والوسوسة. قاله الحسن.

الثالث: بنو آدم وبنو إبليس. قاله مجاهد.

قلت: والراجح عندي أن الأمر بالهبوط كان لآدم وزوجته والشيطان إذ لا دليل على ذكر الحية في السياق ولا في السنة الصحيحة.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خيرُ يوم طلعت فيه الشمس يومُ الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرجَ منها](1).

وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} .

فقوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} جملة اسمية، مبتدأ وخبر، أي موضع استقرار. والمتاعُ: ما يستمتع به من أكل ولُبْس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك، ومنه سميت

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم - حديث رقم - (854)، ومسند أحمد (2/ 401) وغيرهما.

ص: 207

مُتعة النكاح لأنها يُتَمتَّعُ بها. وقد جاء غير ذلك في معنى {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} عند المفسرين.

وتفصيل ذلك:

أولًا: المستقر.

1 -

قال أبو العالية: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} قال: (هو قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]).

2 -

وقال السدي: ({وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} يعني القبور).

3 -

وقال ابن زيد: ({وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} قال: مقامهم فيها).

ثانيًا: المتاع.

1 -

قال السدي: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} قال يقول: بلاغ إلى الموت).

2 -

قال ابن عباس: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ، قال: الحياة).

3 -

قال مجاهد: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا).

قلت: ولا شك أن الآية تتسع لكل هذه المفاهيم، وكأنه يقول: فإن لكم في الأرض منازل ومساكِن تستقرون فيها استقراركم، ثم تدفنون في بطنها من بعد وفاتكم، فتكون الأرض منزلًا وقرارًا وكِفاتًا لأجسادكم. وإن لكم في الأرض متاعًا بما أخرج الله منها لكم، وبما جعل لكم فيها من المعاش والرياش والزَّين والملاذِّ، وبما أعطاكم سبحانه على ظهرها أثناء حياتكم، ثم بما هيأ فيها من أجداثكم بعد وفاتكم، فتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن يبدلكم غيرها.

وقوله: {إِلَى حِينٍ} .

قال الربيع: إلى أجل.

قال الرازي: (وعن فتح المُوصلي أنه قال: كنا قومًا من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهمّ والحزن حتى نُرَدّ إلى الدار التي أخرجنا منها).

ص: 208

37.

قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} .

في هذه الآية: لجوء آدم عليه السلام إلى ربه تعالى راجيًا عفوه ومغفرته، فغفر له وعفا عنه، إنه هو الغفور الرحيم.

والتلقي في لغة العرب: أصله التَّفَعُّل من اللقاء، كما يتلقى الرجلُ الرجلَ مُستقبله عند قدومه من غيبته أو سفره. قال الرازي:(تلقّاه: أي استقبله). وقيل هو بمعنى أخذ وقَبِل، كقوله تعالى:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} أي يأخذ بعضٌ عن بعض.

وكان عليه السلام يتلقى الوحي أي: يستقبله ويأخذه ويتَلقَّفُه.

وأصح ما قيل في الكلمات التي تلقاها آدم من ربه هي تلك المُفسَّرَة بآية الأعراف: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

فعن ابن زيد في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} الآية. قال: (لقّاهما هذه الآية: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}).

قال ابن جرير: (فمعنى ذلك إذن: فلقّى الله آدمَ كلمات توبة، فتلقَّاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبًا، فتاب الله عليه بقيله إياها، وقبوله إياها من ربه).

وأما من قرأها: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} فجعل الكلمات هي المتلقية آدم، فهو جائز لغة، إذ كل ما تلقاه الرجل فهو له مُتَلقّ، وما لقيه فقد لَقيه، فصار للمتكلم أن يوجه الفعل إلى أيهما شاء، إلا أن الجمهور ليس على هذه القراءة بل على القراءة الأولى، على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات.

وقوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ} .

أي: قبل توبته، أو وفّقه للتوبة، فإنه سبحانه يتوب على من تاب إليه وأناب. وفي التنزيل:

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [التوبة: 104].

ص: 209

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].

{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71].

قلت: وهذا سرّ العبادة، الوقوف على بابه سبحانه عقب الزلل والوقوع، فإن الذنب كائن لا محالة، إذ الضعف يحيط بابن آدم وهو جزء من كيانه وهو من طبيعة تركيبه وخلقه. ففي صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لما صَوَّرَ الله تعالى آدمَ في الجنة تركه ما شاء الله أن يَتْرُكَه، فجعل إبليس يُطيفُ به، يَنْظُرُ إليه، فلما رآه أجوفَ، عرف أنه خَلْقٌ لا يَتمالك](1).

ومن ثم فالسعيد من ألهمه الله التوبة وعَلَّمه حسن الكلام، وأعانه على سرعة الأوبة والإنابة.

وفي سنن الترمذيِ ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لما خلقَ الله آدا ونَفَخَ فيه الروحَ عطَسَ، فقال: الحمدُ لله، فحمدَ اللهَ بإذنه، فقال له ربُّه: يرحمُكَ الله يا آدم! اذهبْ إلى أولئك الملائكةُ، إلى ملأٍ منهم جلوس، فقل: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمةُ الله، ثم رجَع إلى ربه، فقال: إن هذه تَحِيَّتُكَ وتحيَّةُ بنيكَ بينَهم، فقال الله له، ويداه مقبوضتان: اخْتَر أيَّهما شِئْتَ، قال: اخترت يمينَ ربي، وكِلْتا يَدَيْ ربي يمينٌ مباركةٌ، ثم بسطها فإذا فيها آدمُ وذُرِّيَتُه، فقال: أي رب! ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذُرِّيَتُك، فإذا كلُّ إنسان مكتوبٌ عُمُرُهُ بينَ عينيه، فإذا فيهم رجلٌ أضوَؤهُم أو مِنْ أضوئِهم، قال: يا ربِّ مَنْ هذا؟ قال: هذا ابنُك داودُ، وقد كتبتُ له عُمْرَ أربعين سنَةً. قال: يا ربِّ زِدْ في عُمْره، قال: ذاك الذي كتبتُ له، قال: أي ربَّ فإني قد جَعَلْتُ له من عُمري ستين سنة، قال: أنتَ وذاكَ، ثم أُسكِنَ الجنةَ ما شاءَ الله، ثم أهْبِطَ منها، فكان آدمُ يَعُدُّ لنفسِه، فأتاه مَلَكُ الموت، فقال له آدمُ: قد تعجَّلتَ، قد كُتِبَ لي ألفُ سنةٍ. قال: بلى، ولكنك جعلت لابنكَ داودَ ستينَ سنة، فجَحَدَ، فجحدت ذُرِّيَّتُه، ونَسِيَ فنسيت ذُرِّيَّتُه، فمِنْ يومَئذٍ أُمِرَ بالكتابِ والشُّهود](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2611) - كتاب البر والصلة. باب خلق الإنسان خلقًا لا يتمالك.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2683) - كتاب التفسير. وانظر تخريج المشكاة (4662)، ورواه الحاكم وغيره. انظر صحيح الجامع الصغير (5085).

ص: 210

والخلاصة: إن آدم عليه السلام قد تلقى من ربه كلمات، التوبة والإنابة كما تلقى منه الحمد عند العطاس وكما تلقى منه سبحانه السلام - تحيته وتحية بنيه من بعده -، فقبل منه سبحانه توبته ورضي عن إنابته وعفا عما كان منه.

وقوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .

و{التَّوَّابُ} : هو أن يقبل توبة عبده إليه، ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه.

وأما {الرَّحِيمُ} : فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة.

قال ابن جرير: (ورحمته إياه، إقالة عثرته، وصفحه عن عقوبة جُرمه).

وقال النسفي: (التواب: الكثير القبول للتوبة).

وقال القاسمي: (في الجمع بين الاسمين - التواب الرحيم - وعد للتائب بالإحسان مع العفو).

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [للهُ أفْرَحُ بِتَوْبةِ عَبْدِهِ من أحدِكُمْ سَقَطَ على بعيره وقد أَضلَّه في أرض فلاة](1).

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله تعالى يَبْسُطُ يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النَّهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلعَ الشمس من مَغْرِبها](2).

وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من تابَ قبل أن تَطْلُعَ الشمس من مَغْرِبها تاب الله عليه](3).

وفي جامع الترمذي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله عز وجل يقبل توبةَ العبد ما لم يُغَرْغِر (4)](5).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 91)، (11/ 92)، وأخرجه مسلم في الصحيح (2747).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2759) - كتاب التوبة. باب قبول التوبة من الذنوب.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2703) - كتاب الذكر والدعاء. باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه.

(4)

الغرغرة: هي تردد الروح في الحلق.

(5)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (3537)، وأحمد (6160)(6400)، وأخرجه ابن ماجة (4253)، وصححه ابن حبان (2449)، والحاكم (4/ 257)، وله شواهد كثيرة.

ص: 211

38 -

39. قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}.

في هذه الآيات: يخبر سبحانه وتعالى عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة. ثم خاطب الذرية موضحًا لهم سبل السلام في الدنيا والآخرة، وذلك باتباع الهدى: الكتب والرسل، وأما الإعراض والجحود فمآله العذاب والخلود في النار.

فعن أبي العالية، في قوله:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} قال: (الهدى: الأنبياء والرسل والبيان).

وقال الحسن: (الهدى: القرآن). وقال مقاتل: (الهدى: محمد صلى الله عليه وسلم).

وقول أبي العالية أعم وأشمل.

قال ابن جرير: (وقوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}، يعني: فمن اتبعَ بياني الذي آتيتُه على ألسن رسلي، أو مع رسلي). وهو قول أبي العالية: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} ، قال: يعني بياني).

وقوله: ({فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} .

قال ابن زيد: (يقول: لا خوف عليكم أمامكم).

أي لا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في أمور الدنيا. وفي التنزيل أيضًا:{قَال اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123].

قال ابن عباس: (فلا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة).

قال ابن جرير: (وليس شيء أعظمَ في صدر الذي يموت ممّا بعد الموت، فأمَّنَهم منه وسلَّاهم عن الدنيا فقال:{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

يعني: الذي جحدوا آيات الله وكذبوا رسله. كقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 124].

ص: 212

ولا شك أن آيات الله تشمل كلَّ حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته، وما جاءت به الرسل من الأعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أخبرت عن ربها. وقد بسطنا القول في معنى الكفر فيما مضى، وأن أصله التغطية على الشيء.

وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} من الصحبة، وهي الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمان ما. قال القرطبي:(فإن كانت الملازمة والخُلطة فهي كمال الصحبة، وهكذا هي صحبة أهل النار لها).

وقال النسفي: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ} مبتدأ، والخبر {أَصْحَابُ النَّارِ} أي أهلها ومستحقوها).

ولا شك أن المراد بقوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أنهم أهل النار الذين لا يموتون فيها ولا يخرجون، ولا محيد لهم عنها ولا محيص.

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة](1).

40 -

41. قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}.

في هذه الآيات: يوجه الله جل ثناؤه الخطاب إلى بني إسرائيل ويأمرهم بالدخول في الإسلام، ومتابعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ويدعوهم إلى ذلك بنسبهم إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، فيذكرهم بذلك بعراقة نسب النبوة في تاريخهم، ويحذرهم مغبة مواجهة الوحي بالكفر والاستهزاء والعناد.

وإسرائيل يعني عبد الله وصفوته من خلقه، فإن "إسرا" هو العبد، و"إيل" هو الله. قال ابن عباس:(إسرائيل كقولك: عبد الله). وقال عبد الله بن الحارث: ("إيل" الله بالعبرانية). وقال أبو جعفر: (كما قيل: "جبريل" بمعنى عبد الله).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم - حديث رقم - (185)، وكذلك مسند أحمد (3/ 11).

ص: 213

قال الحافظ ابن كثير: (وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحقِّ. كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا. يا ابنَ الشجاع، بارزِ الأبطال. يا ابن العالِم، اطلب العلم، ونحو ذلك).

أخرج الطيالسي عن عبد الله بن عباس قال: [حضرت عصابة من اليهود نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل تعلمون أن إسرائيل يعقوبُ؟ قالوا: اللهم نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم فاشهد](1).

ولا شك أن هذا الخطاب من الله سبحانه لليهود إنما يتوجه أولًا لأحبارهم وعلمائهم، فهم قدوة أقوامهم وأسوتهم. فعن ابن عباس:(قوله: "يا بني إسرائيل"، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود).

وقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ،

فيه أقوال:

1 -

عن ابن عباس قال: (أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه).

2 -

عن أبي العالية قال: (نعمتهُ أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب).

3 -

عن مجاهد قال: (يعني نعمتَه التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمّى وفيما سوَى ذلك: فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون).

4 -

عن ابن زيد قال: (نعمه عامة، ولا نعمةَ أفضلُ من الإسلام، والنعم بعدُ تبع لها، وقرأ قول الله:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

وكلها أقوال تصب في حقيقة المعنى، ومفادها أن الله سبحانه يمتن على بني إسرائيل بما أحاطهم به من جميل نعمه وفضله كاصطفاء الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم، واستنقاذه إياهم مما نزل بهم من المصيبة من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم

(1) إسناده لا بأس به. وانظر مسند أحمد (1/ 278)، (1/ 273)، ومعجم الطبراني (13012). وتفسير ابن كثير، سورة البقرة، آية (40)، وسورة آل عمران، آية (93).

ص: 214

في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى. فذكّر الذرية بِما تفضل به على الأجداد وحذرهم بذلك من دورة الزمن وحلول النقم. وهذا التذكير من محمد صلى الله عليه وسلم لهم، نظير تذكير موسى عليه الصلاة والسلام لأجدادهم.

ففى التنزيل: {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالمِينَ} [المائدة: 20].

وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} .

العهد هو الميثاق، وهو ما أخذه الله عليهم في التوراة أن يبيِّنوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسولٌ من عند الله، وأنه الذي يجدونه مكتوبًا عندهم، وأن عليهم نصره واتباعه، وأن نتيجة ذلك الوفاء وضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال في الدنيا وجنة الخلد في الآخرة. قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَال اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)} [المائدة: 12].

وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

وفي تفسير الآية أقوال متشابهة متقاربة ذكرها المفسرون:

1 -

عن ابن عباس: ({وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} الذي أخذت في أعناقكم للنبي محمد إذا جاءكم، {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، أي أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصْر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم).

2 -

عن أبي العالية قال: (عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه، {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، يعني الجنة).

3 -

عن السدي قال: (أما {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} ، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما

ص: 215

{أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} فالجنة، عهدتُ إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة).

4 -

عن ابن جريج قال: (ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] إلى آخر الآية.

فهذا عهدُ الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفَى الله له بعهده).

5 -

عن الضحاك، عن ابن عباس:(يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره، {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، يقول: أَرْضَ عنكم وأدخلكم الجنة).

6 -

عن ابن زيد قال: (أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ} حتى بلغ {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111]، قال: هذا عهده الذي عهده لهم).

وكل هذه الأقوال تصب في المعنى المرأد من آفاق هذه الآية الكريمة.

وقوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} ، من باب الترهيب بعد الترغيب، أي: وإياي فاخشوا، وإياي فاحذروا، ما أحللت بمن خالف أمري وكذب رسلي، وما أنزلت بالأمم السالفة من النِّقم. وقد جاء تفصيل ذلك في أقوال أئمة التفسير:

1 -

عن ابن عباس: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} ، أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره).

2 -

عن السدي وأبي العالية: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يقول: وإياي فاخشون).

والرُّهْبُ والرَّهْبُ والرَّهْبَة: الخوف. وقد جاء في صيغة الأمر {فَارْهَبُونِ} أي: خافون.

ولا شك أنه أمر يتضمن معنى التهديد. ويجوز أن يكون التقدير: وإياي ارهبوا فارهبون، فيكون إيايَ منصوبًا بإضمار فعل، كما يجوز أن يكون التقدير: وأنا فارهبون على الابتداء والخبر.

وقوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} .

أمر الله اليهود بالإيمان بالقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم سبحانه أن في

ص: 216

تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، فإن التوراة تحفل بهذا الأمر كما يحفل به القرآن.

قال مجاهد: ({وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}، يقول: إنما أنزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل).

وقال أبو العالية: (يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل).

وقوله {مُصَدِّقًا} حال من الضمير في أنزلت، والتقدير: بما أنزلته مصدقًا، أو يكون حالًا من ما، والتقدير: آمنوا بالقرآن مصدقًا.

وقوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} .

فيه أكثر من تأويل حسب عودة الضمير في "به". وتفصيل ذلك:

1 -

قيل الضمير يعود على محمد صلى الله عليه وسلم.

قال أبو العالية: (يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم).

2 -

قيل بل الضمير يعود على القرآن.

قال ابن جريج: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ، بالقرآن).

3 -

وقيل بل الضمير يعود على التوراة: إذ تضمنها قوله {لِمَا مَعَكُمْ} .

قال بعضهم: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} يعني: بكتابكم. ويتأول أنّ في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمرَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم).

واختار ابن جرير أن الضمير في "بهِ" عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: {بِمَا أَنْزَلْتُ} .

وقال ابن كثير: (وكلا القولين صحيح، لأنهما متلازمان، لأن من كفرَ بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن).

قلت: بل الأقوال الثلاثة متلازمة، فالإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بالتوراة، والكفر بالقرآن يعني الكفر بمحمد والكفر بالتوراة التي تأمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.

ص: 217

وقوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} .

يعني به أول من كفر به من بني إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشَرٌ كثير.

قال بعض المفسرين: (أول فريق كافر به).

وقال ابن عباس: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم). فالمقصود بالخطاب هم أهل الكتاب الذين سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمبعثه.

وقوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} .

فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: عن أبي العالية قال: (يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابنَ آدم، عَلِّمْ مجّانًا كما عُلِّمْتَ مَجَّانًا).

التأويل الثاني: عن السدي قال: (يقول: لا تأخذوا طمعًا قليلًا وتكتموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع).

التأويل الثالث: قال بعضهم: (معناه، لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللَّبس، لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب). قال القرطبي: (وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم. فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرًا فقد دخل في مقتضى الآية. والله أعلم).

قلت: وكل هذه المعاني مقصودة وداخلة في مفهوم قوله تعالى {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} وقد جاءت السنة الصحيحة بذلك:

1 -

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أولَ الناس يُقْضى يوم القيامة عليه، رجل استُشْهِد، فَأُتِيَ به فعرَّفَهُ نِعْمَتَه فَعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فيك حتى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كَذَبْتَ، ولكنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ جريءٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النار، ورجلٌ تعلَّم العِلْمَ وعَلَّمه وقرأ القرآن، فأتيَ به، فعرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفها. قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلمْتُ العلمَ وعَلَّمْتُهُ وقرأتُ فيك القرآن. قال: كذبتَ ولكنَّكَ

ص: 218

تعلمتَ العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى ألقِيَ في النار، ورجلٌ وسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتِيَ به فعرَّفه نِعَمَهُ فَعَرَفها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: ما تَركْتُ من سبيل تحِبُّ أن يُنْفَقَ فيها إلا أَنْفَقْتُ فيها لك، قال: كَذَبْتَ، ولكنَّك فعلْتَ ليُقال هو جَوادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه، ثم أُلقيَ في النار] (1).

2 -

أخرج أبو داود في السنن، بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من تَعَلَّمَ علمًا مما يُبتغى به وجْهُ الله، لا يتعلَّمه إلا ليصيبَ به عَرَضًا من الدنيا لم يُرَحْ رائحةَ الجنَّةَ يومَ القيامة].

وفي لفظ: [لم يَجِدْ عَرْفَ الجنة يوم القيامة](2) يعني ريحها.

3 -

أخرج الترمذي عن كعبِ بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء (3)، ويصرفَ به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار](4).

وله شاهد عن ابن ماجة من حديث ابن عمر بلفظ. [من طلب العلم ليُباهيَ به العلماءَ، أو ليماريَ به السفهاءَ، أو ليصرفَ به وجوهَ الناس إليه فهو في النار].

وشاهد آخر عند الحاكم وابن ماجة وابن حبان من حديث جابر بلفظ: [لا تعلموا العلمَ لِتُباهوا به العلماء، ولا تُماروا به السفهاءَ، ولا تَخَيَّروا (5) به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار](6).

4 -

أخرج عبد الرزاق في المصَنَّف، والدارمي والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كيف بكم إذا لَبِسَتْكُم فتنة، يربو فيها الصغير، ويهرَمُ فيها الكبير، وتُتَّخَذُ سنة، فإن غُيِّرَتْ يومًا قيلَ: هذا منكر! قيل: ومتى ذلك؟ قال: إذا قَلَّتْ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1905) - كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة.

(2)

حديث صحيح. انظر سنن أبي داود (3664)، وصححه الألباني في الترغيب (1/ 100).

(3)

أي يجادل به ضعفاء العقول.

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2138)، وصحيح الجامع (6259)، وكذلك (6258) للشاهد بعده، وإسناده حسن.

(5)

"ولا تخيروا" أي: لتقصدوا خير المجالس وأفضلها.

(6)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 86)، وصححه الألباني في الترغيب (1/ 102).

ص: 219

أُمناؤُكم، وكثُرَت أمراؤكم، وقَلَّتْ فقهاؤكم، وكثُرَت قراؤُكم، وتُفقِّهَ لغير الدين، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة) (1).

قلت: وأما أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم فقد اختلف فيه. فذهب بعضهم إلى التحريم والمنع كالزُّهري وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام وقد قال تعالى:{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} .

وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس - حديث الرُّقْيَة -: [إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله](2). قال القرطبي: (وهو نصٌّ يرفع الخلاف، فينبغي أن يعوّل عليه).

وقال ابن كثير: (فأما تعليم العلم بأجرة، فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله بأجرة، فإن لم يحصُل له منه شيءٌ، وقطعَهُ التعليم عن التكسب، فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعيَّن عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء).

والذي يرجح في المسألة أنه يجوز للمعلم العلم والقرآن أخذ الأجر والراتب لقاء التفرغ والانشغال بتعليم الناس، كما يجوز للإمام أخذ الراتب لقاء تفريغ وقته لإقامة الصلاة وخطبة الجمعة ودروس العلم في المسجد لا مقابل الصلاة وتلاوة القرآن.

وقد يستشهد لذلك بما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في قصة المخطوبة -: [اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن](3).

وفي لفظ: (زوجتكها بما معك من القرآن).

أي يكون مهرها مقابل تعليمك لها ما معك من القرآن.

(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنّف (11/ 352) وفيه انقطاع، ووصله الدارمي والحاكم بإسناد صحيح كما ذكر الألباني في الترغيب (1/ 106).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5737) من حديث ابن عباس- ورواه مسلم، وقد تقدم.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (2310) من حديث سهل بن سعد، كتاب الوكالة، باب وكالة المرأة الإمام في النكاح، ورواه النسائي وغيره. انظر صحيح الجامع (874).

ص: 220

وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} .

قال طَلْق بن حبيب: (التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقابَ الله) ذكره ابن كثير من طريق أبي العالية.

وقال سهل بن عبد الله: (قوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} قال: موضع علمي السابق فيكم. {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} قال: موضع المكر والاستدراج، لقول الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} وقوله: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. فما استثنى نبيًّا ولا صديقًا) ذكره القرطبي.

وكأن المقصود أن التقوى تكون بعد العلم بالحلال والحرام ومواضع الزلل التي قد يُستدرج بها العبد، في حين الرهبة تكون بعد الإيمان وصدق اليقين. ولذلك جاءت العبارة في البحر لأبي حَيَّان بلفظ:(وقال سهل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} موضع اليقين بمعرفته، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} موضع العلم السابق وموضع السكر والاستدراج).

قال ابن جرير: ({وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} يقول: فاتقون - في بيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيِّي - أن أُحِلَّ بكم ما أحللتُ بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنَّقِمات).

42 -

44. قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}.

في هذه الآيات: الخطاب لليهود الذين كانوا يتعمدون تلبيس الحق بالباطل، وكتمان الحق وإظهار الباطل، فنهاهم سبحانه عن الشيئين معًا وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به. وقد كان من لَبْسِ بعضهم إقراره بمحمد صلى الله عليه وسلم وزعمه أنه مبعوث إلى غيرهم. ثم أمرهم سبحانه بمتابعة هذا النبي والصلاة معه في الجماعة ودفع زكاة أموالهم إليه. ثم حذرهم من التناقض في السلوك بأمر الناس بطاعة الله ومخالفة ذلك بأعمالهم. وتفصيل ذلك:

ص: 221

اللَّبْسُ في لغة العرب الخلط. قال الرازي: (لَبَسَ عليه الأمر خلط).

ومنه قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]. وفي الأمر لُبْسَةٌ: أي شبهة، يعني ليس بواضح. وعن ابن عباس:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون).

ومن أقوال أئمة التفسير في ذلك:

1 -

عن ابن عباس: ({وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب).

2 -

عن أبي العالية قال: (يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدّوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم).

3 -

عن مجاهد: ({وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} قال: اليهودية والنصرانية بالإسلام).

4 -

عن ابن زيد: ({وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، قال: الحقّ، التوراة الذي أنزل الله على موسى، والباطل الذي كتبوه بأيديهم).

وكلها أقوال متقاربة في المعنى مفادها نَهْيُ بني إسرائيل عن كتمان الحق وإظهار الباطل. وقد حذّر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم من تقليد اليهود في تلك الصفة المشينة، وفي ذلك أحاديث من السنة الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سُئِلَ عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلجِمَ يومَ القيامة بلجامٍ من نار](1).

وفي رواية لابن ماجة بلفظ: [ما من رجلٍ يحفظُ علمًا فيكتمهُ إلا أتى يوم القيامة ملجومًا بلجامٍ من نار].

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3658)، والترمذي (2800). انظر صحيح سنن الترمذي (2135)، وصحيح سنن أبي داود (3106)، ورواه ابن ماجة وغيرهم.

ص: 222

الحديث الثاني: أخرج ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عَمروٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من كَتَمَ علمًا ألجمَهُ الله يومَ القيامة بلجامٍ من نار](1).

وله شاهد عن ابن عدي في الكامل بسند صحيح من حديث ابن مسعود ولفظه: [من كتم علمًا عن أهله، أُلجِمَ يوم القيامة لجامًا من نار].

الحديث الثالث: أخرج الطبراني في الأوسط، وأحمد في المسند، بسند حسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[مثلُ الذي يتعلَّمُ العلمَ ثم لا يحدِّث به، كمثل الذي يَكنِزُ الكنزَ ثم لا يُنْفِق منه](2).

وقوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه تأويلان:

التأويل الأول: نهاهم أن يكتموا الحق كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل، والتقدير: ولا تكتموا الحق، فيكون معطوفًا على مجزوم، فهو مجزوم مثله.

قال ابن عباس: (قوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}، يقول: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون).

التأويل الثاني: قوله {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} خبرٌ منه سبحانه عنهم، وقد جاء منصوبًا بإضمار أن، والتقدير: لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه، أي وأن تكتموه.

قال أبو العالية: (كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم).

وأما الحق الذي كتموه وهم يعلمونه فهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإرساله إلى الناس كافة.

وفي ذلك أقوال متكاملة:

1 -

عن ابن عباس: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} ، يقول: إنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، فنهاهم عن ذلك).

2 -

عن مجاهد قال: (يكتم أهل الكتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم) وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل).

3 -

عن السدي قال: (الحقُّ هو محمد صلى الله عليه وسلم).

(1) حديث صحيح. رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ورواه الحاكم وقال:(صحيح لا غبار عليه). وصححه الألباني في الترغيب (1/ 117). وانظر للشاهد بعده: صحيح الجامع الصغير- حديث رقم - (6393).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 499)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 118).

ص: 223

4 -

عن أبي العالية قال: (كتموا بعثَ محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم).

والخلاصة: لقد حذّر الله سبحانه أحبار اليهود خاصة وأهل الكتاب عامة من كتم أمر محمد صلى الله عليه وسلم على الناس أو زعم أنه مبعوث إلى غيرهم، فإنهم يعلمون أنه مبعوث إلى الناس كافة ويجدون نعته وصفاته في كتبهم، ويقرؤون فيها عهد الله الذي أخذ عليهم بالإيمان به وتصديقه ونصره.

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة في محل نصب حال. قال ابن كثير: (ومعناه: وأنتم تعلمون الحق. ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار، إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لترؤجوه عليهم. والبيان: الإيضاح، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل).

وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} .

قال قتادة: ({وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}: فريضتان واجبتان، فأدوهما إلى الله).

وذكر ابن جرير رحمه الله أنه: (ذُكر أن أحبار اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه، فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدِّقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم، وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا).

فأمرهم سبحانه وتعالى بالصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم ودفع زكاة أموالهم إليه.

قال الحسن: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} قال: فريضة واجبة، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة).

وقال ابن عباس: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ما يوجب الزكاة؟ قال: مئتان فصاعدًا).

وروي عنه أنه قال: (يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص).

والزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد. قال القرطبي: (وسُمِّيَ الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكَّي. قال: وقيل: أصلها الثناء الجميل، ومنه زكَّى القاضي الشاهد. فكأن من يُخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل. وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال: زكا فلان، أي طهر من دَنس الجَرْحة والإغفال. فكأن الخارج من المال يطهّره من تبعة الحق الذي

ص: 224

جعل الله فيه للمساكين. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى ما يخرج من الزكاة أوساخَ الناس، وقد قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (103)} [التوبة: 103]) انتهى.

وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} .

أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أحوالهم ولا شك أن الصلاة من أخص ذلك.

والركوع في لغة العرب الانحناء. ولا يكون إلا لله. وقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} يفيد وجوب الجماعة عند كثير من العلماء، فإن "مَعَ" تقتضي المعية والجمعية، فكأنه أمرهم بقوله "مع" بشهود الجماعة.

وقد حثت السنة الصحيحة على صلاة الجماعة وبينت أجرها وحذرت من تركها دون عذر.

ونبدأ أولًا بأحاديث الترغيب:

الحديث الأول: روى مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[صلاةُ الجماعة أفضلُ من صلاة أحدِكُمْ وَحْدَهُ بِخمْسَةٍ وعِشْرين جُزءًا](1).

الحديث الثاني: روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تَفْضُلُ صلاةٌ في الجميع على صلاة الرجل وحْدَهُ خمْسًا وعِشرين درجة. قال: وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر. قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]].

الحديث الثالث: روى مسلم كذلك عن ابن عمرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [صلاةُ الجماعة أفضلُ من صلاة الفَذِّ بسبع وعشرين درجةً](2).

وأما أحاديث الترهيب من ترك حضورها لمن سمع مناديها فقد مضى ذكر بعضها، وأذكر هنا ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَدَ ناسًا في بعض الصلوات فقال: لقد هَمَمْتُ أن آمُرَ رجُلًا يُصلي بالناس، وثم أخالفَ إلى رجال يتخلفون عنها، فآمُرَ بهم فيحرِّقُوا عليهم، بِحُزَمِ الحطب، بيوتَهم، ولو عَلِمَ أحدُهم أنه يجدُ

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (649) - كتاب المساجد - ح (243). (بابُ فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها وأنها فرض كفاية). وانظر للحديث بعده ح (246).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم - حديث رقم - (650) - كتاب المساجد - الباب السابق.

ص: 225

عظمًا سمينًا لشهِدَها. يعني صلاةَ العشاء] (1).

وقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} .

البر: هو كل طاعة لله عز وجل. وهو لغة ضد العقوق. وفلان (يَبَرُّ) خالقه و (يتبرَّره) أي يُطيعه.

وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي عن النَّوَّاس بن سَمْعانَ الأنصاري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: [البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثْمُ ما حاكَ في صَدْرِكَ وكَرِهْتَ أن يطّلِعَ عليه الناسُ](2).

وفي مسند أحمد بسند صحيح عن أبي ثعلبة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[البِرُّ ما سكنت إليه النفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثم ما لمْ وتسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المُفتون](3).

وقد ورد في مفهوم البر الذي كان المخاطبون بهذه الآية يَأمُرون الناسَ به وينسون أنفسهم الأقوال التالية:

1 -

عن ابن عباس قال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعُهْدَةِ من التوراة وتتوكون أنفسكم، أي وأنتم تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون مِيثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي).

وعنه قال فيا أيضًا: (أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما أُمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم)،

2 -

عن السدي قال: (كانوا يأمرون الناس بطاعة اللة وبِتقواه، وهم يعصونه).

3 -

عن قتادة قال: (كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر، ويخالفون، فعيّرهم الله).

4 -

عن ابن جريج قال: ({أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} ، أهل الكتاب والمنافقون،

(1) صحيح مسلم (651). كتاب المساجد: باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم - حديث رقم - (2553) - كتاب البر والصلة. باب تفسير البرّ والإثم.

(3)

حديث صحيح. انظر تخريج "مشكاة المصابيح"(2774)، وصحيح الجامع الصغير (2878).

ص: 226

كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدَعون العملَ بما يأمرون به الناس، فعيَّرهم الله بذلك. فمن أمرَ بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة).

وقال: (كان الأحبار يحضّون على طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي).

5 -

عن ابن زيد قال: (هؤلاء اليهود، كان إذا جاء الرجل يسألُهم ما ليس فيه حقٌّ ولا رِشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال الله لهم: ({أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}).

6 -

وعن أبي قِلابَة، في قولِ الله:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} قال: (قال أبو الدرداء: لا يفْقَهُ الرجل كلَّ الفقه حتى يمقُتَ الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا).

وكل هذه الأقوال متقاربُ المعنى مفادها توبيخ هذا التناقض في السلوك الذي كان يعيشه اليهود وأمثالهم من المنافقين من أمر الناس بطاعة الله ومخالفة ذلك بأعمالهم.

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

قال ابن عباس: (يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعني، بالكتاب التوراة).

وأصل التلاوة في لغة العرب الاتباع. و (تَلَوْتُ) الرجلَ: تبعتُه، حكاه الرازي. قال القرطبي:(ولذلك استعمل في القراءة، لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتيَ على نَسَقه. يقال: تلوتُه إذا تبعته تُلُوًّا، وتلوت القرآن تلاوة).

وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .

قال ابن عباس: (يقول: أفلا تفهمون؟ ينهاهم عن هذا الخلُق القبيح).

وقال النسفي: (أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وهو توبيخ عظيم).

وأصل العَقْل في لغة العرب: المنع والحجر والنُّهى. ومنه عِقال البعير: لأنه يمنع عن الحركة، والعقل أيضًا: الدية، لأنه يمنع وليّ المقتول عن قتل الجاني. ومنه يقال للحصن: مَعْقِل. قال الشافعي. (العقل آلة التمييز). وؤال المحاسبي: (العقل أنوار وبصائر) أو قال: (العقل غريزة).

وخلاصة المعنى: أفلا تفقهون وتفهمون قبح هذا التناقض المسلكي من أمركم الناس طماعة الله واجتناب معصيته ثم وقوعكم في حبائل ذلك.

ص: 227

قال الحافظ ابن كثير: (وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالِم، ولكن الواجب والأولى بالعالِم أن يفعله مع مَنْ أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام:{قَال يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

قلت: ولا يحول الوقوع والزلل دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذ كان الزلل والوقوع من العالِم لا يشبهه مثله من عامة الناس، فإن زلة العالم مضروب لها الطبل، ولكن إن حصل منه شيء من الزلل فلا يعني الامتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال مالك، عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر). قال مالك: (وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء؟ ).

قلت: بل إن استمرار العالم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعينه بإذن الله على النهوض من زلة الشيطان وضعف النفس، ويحمله ذلك المنهج على الخجل من الله سبحانه ومن نفسه فيسارع إلى ضبط أعمال لسانه وجوارحه وقلبه. وأما المذموم فهو منهج النفاق الذي اتخذه بعض القصاص والخطباء لهم سلوكًا وتشبهوا به بأحبار بني إسرائيل.

ففي التنزيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].

وقد حفلت السنة الصحيحة بهذا المعنى في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أسامةَ بن زيدٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يُؤتى بالرجل يومَ القيامة فَيُلْقى في النار، فتندلق أقتابُ بطْنِه، فيدور بها كما يدور الحِمارُ بالرَّحى، فيجتمِعُ إليه أهل النار، فيقولون: يا فلانُ! ما لك؟ ألم تَكُنْ تأمُرُ بالمعروف وتنْهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989)، وأحمد (5/ 205).

ص: 228

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، والبيقي في الشُّعب - واللفظ له - بسند حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتيتُ ليلة أُسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريضَ من نار، كلما قُرِضت وفَتْ، فقلتُ يا جبريلُ من هؤلاء؟ قال: خطباءُ أمتِكَ الذينَ يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتابَ الله ولا يعملون به](1).

وفي لفظ أحمد: [مررت ليلة أسري بي على قوم تُقْرَضُ شفاههم بمقاريضَ من نار. قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك من أهل الدنيا، ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون](2).

الحديث الثالث: أخرج الطبراني والبزار بسند جيد عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مثَلُ العالِم الذي يُعَلِّمُ الناس الخيرَ، ولا يعمل به (وفي رواية: وينسى نفسه)، كمثل السراج يضيء للناس، ويُحْرِقُ نَفْسَه](3).

وأما الآثار في ذلك فكثيرة، منها:

1 -

يروي ابن مَرْدَوَيه في تفسيره عن الضحاك، عن ابن عباس:(أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تُفْتَضَحَ بثلاث آيات من كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}. أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني؟ قال: قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف]. أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثالث؟ قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} [هود: 88]. أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك).

2 -

يروي الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن إبراهيم النَّخَعي قال: (إني لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} ، وقوله:

(1) حديث حسن. انظر صحيح الجامع (128) وهذا لفظ البيهقي، ورواه أحمد بلفظ مشابه.

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (3/ 120 - 180 - 231 - 239)، وهو حسن لغيره.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد"(1/ 184)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير- حديث رقم - (5707).

ص: 229

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} ، وقوله إخبارًا عن شعيب:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} ).

3 -

وقال أبو الأسود الدؤلي:

لا تَنْهَ عن خُلُق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يُقْبَلُ إن وعظت ويقتدى

بالقول منك وينفع التعليم

4 -

وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يومًا على مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول:

وغير تقِيٍّ يأمر الناس بالتُّقَى

طبيبٌ يُداوي، والطبيب مريض

قال: فضج الناس بالبكاء.

وقال أبو العتاهية الشاعر:

وصفت التقى حتى كأنك ذو تُقىً

وريحُ الخطايا من ثيابك تسطَعُ

5 -

وقال سَلْمُ بن عمروٍ:

ما أقبحَ التزهيدَ من واعظٍ

يُزَهِّدُ الناس ولا يَزْهَدُ

لو كان في تَزْهِيدِهِ صادقًا

أضحى وأمسى بيته المسجدُ

إن رَفَض الناسَ فما باله

يستمنحُ الناسَ ويَسْتَرْفِدُ

والرزقُ مقسومٌ على من ترى

يسعى له الأبيض والأسودُ

45 -

46. قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.

في هذه الآيات: يرشد الله جل ثناؤه عباده إلى الاستعانة على الوفاء بالعهد على طاعته - جل ذكره - واتباع أمره وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم، وترك ما تهواه النفس من حب الرياسة والشهوات والدنيا، بالصبر والصلاة، ويخبرهم أن ذلك ثقيل إلا على الخاشعين الخائفين من ربهم والوقوف بين يديه يوم القيامة.

فإن الصبر في لغة العرب: الحبس. وقُتِل فلان صَبْرًا: أي أُمْسِكَ وحُبِسَ حتى

ص: 230

أتلف. قال الرازي: (الصَّبْرُ: حبس النفس عن الجَزَع). وقيل لشهر رمضان "شهر الصَّبر" لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهارًا.

وأما الصلاة ففيها تلاوة كتابِ الله الداعيةِ آياتُه إلى رفض الدنيا والتقلل منها والاستعداد للرحيل، والمسليةِ النفوسَ عن زينتها وغُروراها، المذكرة الآخِرةَ ونعيمها وجحيمها، فلا شك أن فيها أكبر عون على الثبات على طاعة الله، فإن أضيف إليها الصبر عن المعاصي وضغط الشهوات كان العون من الله أكبر.

وفي ذلك أحاديث من السنة العطرة:

الحديث الأول: في مسند الإمام أحمد وصحيح أبي داود بسند حسن عن حذيفة قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أم صَلّى](1).

وفي لفظ: [فزع إلى الصلاة].

الحديث الثاني: في سنن أبي داود عن حذيفة قال: [رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يُصَلِّي، وكان إذا حزبه أمرٌ صلى](2).

الحديث الثالث: في مسند أحمد وصحيح ابن حبان بسند حسن عن علي رضي الله عنه يقول: [لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم، غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح](3).

وأما الآثار فكثيرة، منها:

1 -

يروي ابن جرير بسنده إلى عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه:(أن ابنَ عباس نُعِيَ إليه أخوه قُثَم، وهو في سفر، فاسترجع. ثم تنخّى عن الطريق، فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}).

2 -

وجاء في سير أعلام النبلاء عن وَهْب بن منبه أن عيسى عليه السلام قال للحواريين: (أشدُّكم جزعًا على المصيبة، أشدّكم حُبًّا للدنيا).

(1) حديث حسن. انظر صحيح الجامع (4579)، وتفسير ابن جرير (850)، ومسند أحمد (5/ 388)، واللفظ بعده أخرجه الطبري - حديث رقم - (849).

(2)

حسن لغيره. أخرجه أبو داود في السنن (1319). وانظر صحيح سنن أبي داود (1171).

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (1/ 125)، وابن حبان (2257)، وغيرهما.

ص: 231

3 -

عن ابن جريج في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} قال: (إنهما معونَتان على رحمة الله). وقال أبو العالية: (يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله).

4 -

قال ابن القيم: (الصبر حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش. قال: وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر).

5 -

وسئل الجنيد عن الصبر؟ فقال: (تجرع المرارة من غير تعبس). وقيل: (هو تعويد النفس الهجوم على المكاره). وفيل: (هو الثبات مع الله، وتلقي بلاءه بالرحب والدعة).

وقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}

أي: الصلاة. قاله مجاهد.

وعن الضحاك: ({وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدقين بوعده ووعيده).

وفي تفسير {الْخَاشِعِينَ} أقوال متقاربة:

1 -

عن ابن عباس: ({إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، يعني: المصدّقين بما أنزل الله).

2 -

عن أبي العالية: (قال: يعني الخائفين).

3 -

عن مجاهد: (قال: المؤمنين حقًّا).

4 -

قال ابن زيد: (الخشوع الخوف والخشية لله، وقرأ قول الله: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ}، قال: قد أذلها الخوف الذي نزل بهم، وخشعوا له).

5 -

قال مقاتل بن حيَّان: ({إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، بعني المتواضعين).

وأصل الخشوع في كلام العرب: الخضوع، وخشع ببصره أي غضّه. فالخشوع يضم في مفهومه التواضع والتذلل والاستكانة.

قال ابن جرير: (فمعنى الآية: واستعينوا، أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة الله، وكفّها عن معاصي الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقرِّبة مِن مَراضي الله، العظيمةِ إقامتُها إلا على المتواضعين لله، المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته).

ص: 232

ولا شك أن الآية تبقى عامة في بني إسرائيل وغيرهم، والله تعالى أعلم.

وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} .

الظن هنا بمعنى: اليقين، وله في كلام العرب شواهد كثيرة. قال ابن جرير: (إن العرب قد تسمي اليقين "ظنًّا"، نظيرَ تسميتهم الظُّلمة "سُدْفة"، والضياء "سُدْفَة"، والمغيث "صَارخًا"، والمستغيث "صارخًا"، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيءَ وضدَّه. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قولُ دُرَيد بن الصِّمَّة:

فقلت لهم ظُنُّوا بألفي مُدَجَّحٍ

سَراتُهُمُ في الفارِسيِّ المُسَرَّدِ

يعني بذلك: تيقَّنُوا ألفي مُدَجَّح تأتيكم. وقولُ عَمِيرة بن طارق:

بأن تَغْتَزُوا قومي وأقعُدَ فيكُمُ

وأجْعَلَ مني الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا

يعني: وأجعل مني اليقين غيبًا مرجَّمًا).

وفي التنزيل: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]. أي: أيقنوا أنهم داخلوها.

وقد جاء بذلك تفسير المفسرين:

1 -

عن أبي العالية: ({يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} قال: إن الظن هاهنا يقين).

2 -

عن مجاهد قال: (كل ظن في القرآن يقين، {إِنِّي ظَنَنْتُ}، {وَظَنُّوا}). وقال أيضًا: (كل ظن في القرآن فهو عِلْم).

3 -

عن السدي: (أما {يَظُنُّونَ} فيستيقنون).

4 -

قال ابن جريج: ({الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}، علموا أنهم ملاقو ربهم، هي كقول، {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]. يقول: علمت).

5 -

عن ابن زيد: ({الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}، قال: لأنهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينًا، وليس ظنًّا في شك، وقرأ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}).

وفي السنة الصحيحة ما يشهد على هذا المعنى:

ففي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي بسند صحيح، عن أبي هريرة وأبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يُؤتى بالعبد يوم القيامة، فيُقال له: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا، وسخّرت لك الأنعام والحرث وتركتك ترأسُ وتَرْبَعُ، فكنت تظنَّ أنك

ص: 233

مُلاقي يومك هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني] (1).

وله شاهد في الصحيح: [أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوِّجكَ، ألم أكْرِمْكَ، ألم أُسَخِّرْ لك الخيل والإبل، وأذركَ تَرْأسُ وتَرْبع؟ فيقول: بلى. فيقول الله تعالى: أفظننت أنك ملاقِيّ؟ فيقول: لا. فيقول الله: اليوم أنساك كما نسيتني].

والآية من تمام الكلام الذي قبله، أي وإن الصلاة أو الوَصاةَ لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم. قال ابن كثير:(أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون، أي أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم فِعْلُ الطاعات وترك المنكرات).

وقال القرطبي: (ومعنى {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} جزاء ربّهم).

وقوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .

إقرار بالبعث والجزاء والعَرْض على الملك الأعلى. فالهاء والميم في {وَأَنَّهُمْ} تعود على الخاشعين، والهاء في {إِلَيْهِ} ترجع إلى الرب تعالى.

قال أبو العالية: (يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة).

وقال آخرون: (معنى ذلك: أنهم إليه يرجعون بموتهم).

واختار ابن جرير قول أبي العالية، وهو المفهوم من السياق، إذ الرجوع إليه سبحانه يكون بعد الموت وانتهاء حياة البرزخ والنشر والبعث.

أخرج الحاكم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[تعلمونَ المعادَ إلى الله، ثم إلى الجنة أو إلى النار، وإقامةٌ لا ظعن فيه، وخلودٌ لا موت، في أجساد لا تموت](2).

47 -

48. قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2558)، أبواب صفة القيامة، وكذلك رواه أحمد. انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (1978)، وكذلك صحيح الجامع (7874). وانظر للشاهد بعده صحيح مسلم (8/ 216)، ومختصر صحيح مسلم (1932).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 83)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1668).

ص: 234

عَلَى الْعَالمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}.

في هذه الآيات: يخاطب الله اليهود بين ظهراني رسول الله مذكرًا لهم سالفَ نعمه على آبائهم وأسلافهم، ثم محذرًا بطشه وحلول نقمته فيهم إن هم أغفلوا هذه النعم واتبعوا أهواءهم.

وأما نعمه عليهم فكثيرة، منها: إرسال الرسل منهم، ومنها: إنزال الكتب عليهم وتفضيلهم على سائر الأمم من أهل زمانهم.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالمِينَ} [الدخان: 32].

2 -

وقال تعالى: {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالمِينَ} [المائدة: 20].

وقوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالمِينَ} .

فيه أقوال متكاملة:

1 -

عن قتادة قال: (فضلهم على عالم ذلك الزمان).

2 -

عن أبي العالية قال: (بما أُعْطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم مَنْ كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عَالمًا).

3 -

عن مجاهد قال: (على من هم بين ظَهْرانيه).

قلت: ولا شك أن هذا التفضيل مرحلي يخص ذلك الزمان، وإلا فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم لقوله جل ذكره:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 110].

ويؤيد هذا ما روى ابن جرير بسنده عن ابن وهب قال: (سألت ابن زيد عن قول الله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالمِينَ} ، قال: عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالمِينَ} [الدخان: 32]. قال: هذه لمن أطاعه واتبع أمره، وقد كان فيهم القردةُ، وهم أبغض خلقه إليه، وقال لهذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ

ص: 235

لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال: هذه لمن أطاع الله، واتبع أمره، واجتنب محارمه).

وفي المسند وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة بسند صحيح عن معاوية بن حَيْدَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنتم تُوَفّونَ سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل](1).

وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} .

تحذير من الله تعالى عباده المخاطبين بهذه الآية، والمقصود: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئًا. قال السدي: (أما {تَجْزِي}، فتغني).

فإن أصل الجزاء في لغة العرب: القضاء والتعويض. قال الرازي: ("جزى" عنه هذا أي قضى ومنه قوله تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}).

فالآية عطف على التذكير بالنعم، وذلك عن طريق التحذير من حلول النقم. فإن أكبر المصائب هو موقف الحساب بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، حيث لا يغني أحد عن أحد، ولا يقضي والد عن ولد.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33]، وهذا أبلغ المقامات: أن كلًّا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئًا.

2 -

وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

3 -

وقال تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37].

وإنما القضاء بين الناس يوم القيامة بالحسنات والسيئات، فليس ثمَّ دينار ولا درهم، وإنما تُقَوَّمُ الحقوق بما يكافئها من قيمة الثواب والعقاب. وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك:

1 -

أخرج البخاري فيِ كتاب الرقاق من صحيحه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأخيه فليتحلَّلْهُ مِنها، فإنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درْهَمٌ مِنْ قَبْلِ

(1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 447)، والترمذي (3001) وابن ماجة (4287)، وهو صحيح بشواهد.

ص: 236

أَنْ يُؤْخَذَ لأخيه مِن حسناتِه، فإن لم يكُنْ له حسناتٌ أُخِذَ من سيئاتِ أخيه فَطُرِحت عليه] (1).

2 -

وأخرج البخاري فيه عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَخْلُصُ المؤمنون من النار فيُحْبَسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقْتَصُّ لبعضهم من بعض مظالِمُ كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا وَنُقُّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدُهُم أهدى بِمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا](2).

3 -

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أتدرون ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فينا من لا دِرْهَمَ له ولا متاعَ، فقال: إن المفلسَ من أُمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتُه، قبلَ أن يُقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار](3).

4 -

أخرج الحاكم وابن ماجة وأحمد - واللفظ للحاكم - بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من مات وعليه دين، فليس ثمَّ دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات](4).

ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: [الدَّين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه، فذاك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار ولا درهم](5).

وله شاهد عند البيهقي من حديث أبي هريرة ولفظه: [من كانت عنده مَظْلَمةٌ لأخيه من عوضه أو ماله، فليؤدها إليه، قبل أن يأتي يوم القيامة لا يقبل فيه دينار ولا درهم،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6534) - كتاب الرقاق - باب القصاص يوم القيامة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (6535) - كتاب الرقاق - الباب السابق، من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا.

(3)

حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه (2581) - كتاب البر والصلة - باب تحريم الظلم.

(4)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 27)، وأحمد في المسند (2/ 70 - 82)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز فقرة (4) ص 5.

(5)

صحيح بما قبله. رواه الطبراني في "المعجم الكبير" وانظر أحكام الجنائز فقرة (4) ص (5).

ص: 237

إن كان له عمل صالح أُخذ منه، وأُعطي صاحبه، وإن لم يكن له عمل صالح، أُخِذَ من سيئات صاحبه فحملت عليه] (1).

وقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} .

الشفاعة في كلام العرب مصدر من شَفَعَ، والشَّفْعُ ضدُّ الوَتْر. و"استَشْفَعَهُ" إلى فلان سأله أن يشفع له إليه. قال أبو جعفر:(وإنما قيل للشفيع "شفيعٌ وشافع"، لأنه ثنَّى المستشفِعَ به فصار به شَفعًا، فكان ذو الحاجة - قبل استشفاعه به في حاجته - فَردًا، فصار صاحبُه له فيها شافعًا، وطلبُه فيه وفي حاجته شفاعة).

فالشفاعة طلب من المستشفِع في قضاء حاجته، وقد كذّب الله سبحانه بهذه الآية يهود الذين كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه وسيشفع لنا عنده آباؤنا، فأخبرهم سبحانه بأن نفسًا يومئذ لا تجزي عن نفس، ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها، حتى يستوفى لكل ذي حق منها حقه.

وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لَتُؤَدَّنَ الحقوقُ إلى أهلها يومَ القيامة، حتى يُقادَ للشاة الجَلْحاء من الشاةِ القَرْناء](2).

قال ابن جرير: (فآيسهم جل ثناؤه مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم، من النجاة من عذاب الله - مع تكذيبهم بما عرفوا من الحق، وخلافِهم أمر الله في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عنده - بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم، وأخبرهم أنه غيرُ نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم، والإنابة من ضلالهم. وجعل ما سَنَّ فيهم من ذلك إمامًا لكل من كان على مِثل منهاجِهم، لئلا يطمعَ ذو إلحاد في رحمته).

قلت: والآية خاصة بمن كفر بالله وخرج من الدنيا على ذلك وهو يظن أن تناله شفاعة يوم القيامة، وأما المؤمنون فقد تظاهرت الآيات والأحاديث النبوية الصحيحة على بلوغ الشفاعة إليهم فهم نائلوها بأحد أشكالها إن شاء الله تعالى.

ففي مسند أحمد وجامع الترمذي بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أتاني آتٍ من عند ربي، فخيرني بين أن يدخلَ نصفَ أمتي الجنة، وبين

(1) حديث صحيح. أخرجه البيهقي (3/ 369)، ورواه البخاري كما مضى بلفظ مشابه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2582) - كتاب البر والصلة. باب تحريم الظلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 238

الشفاعة، فاخترت الشفاعةَ، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا] (1).

وأخرج ابن أبي عاصم في كتاب السنة بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ["إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي](2).

قال ابن عمر: (ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من في نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تبارك وتعالى لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال: فإني أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة. فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا)(3).

وقوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} .

العَدْل: ضد الجَوْر. والعرب تقول رَجُلٌ "عَدْلٌ" أي رِضًا ومَقْنَع في الشهادة.

قال الرازي: (والعَدْل الفِدية ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} أي: وإن تَفْد كلَّ فِداء. وقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} أي: فِداء ذلك).

وبنحو ذلك أخبر أهل العلم بالتفسير، كما يتضح من النقول التالية:

1 -

عن أبي العالية: ({وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}، قال: يعني فداء).

2 -

عن السدي قال: (أما عَدل: فيعدلها، من العدْل. يقول لو جاءت بملء الأرض ذهبًا تفتدي به ما تُقبِّل منها). وقال قتادة: (لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها).

3 -

وقال مجاهد: قال ابن عباس: ({وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}، قال: بَدَل، والبدل: الفدية).

وقوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} :

أي: لا سبيل لأحد إلى إنقاذهم من عذاب الله الذي حقّ عليهم، فلا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا ينصرهم ناصر من أنفسهم أو من غيرهم، ولا يقبل منهم فداء.

قال ابن جرير: (بطلت هنالك المُحاباة، واضمحلت الرُّشَى والشفاعات، وارتفع

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2571)، وأحمد من حديث عوف بن مالك. وانظر صحيح سنن الترمذي (1986). وكذلك صحيح الجامع الصغير (56).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة"(831) - وصححه الألباني.

(3)

حديث حسن. أخرجه ابن أبي عاصم. انظر المرجع السابق (830)، وإسناده حسن.

ص: 239

بين القوم التعاون والتناصر، وصار الحُكم إلى العَدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنُّصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 24 - 26].

قال الضحاك عن ابن عباس: (في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} ما لكم اليوم لا تُمانعونَ منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 10].

2 -

وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25 - 26].

3 -

وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28].

49 -

50. قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.

في هذه الآيات: يُذَكِّرُ الله سبحانه بني إسرائيل فَيُفَصِّلُ بعض ما أجمل مِنْ قبل في قوله تعالى: {نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} من فنون النعماء وألوان السراء. فإن {وَإِذَ} في موضع نصب عطف على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} .

قال القاسمي: (أي واذكروا وقت تنجيتنا إياكم، أي آباءكم. فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم. والمراد بالآل، فرعون وأتباعه، فإن الآل يطلق على الشخص نفسه وعلى أهله وأتباعه وأوليائه).

وقال القرطبي: (أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوّكم وجعل الأنبياء فيكم. والخطاب للموجودين والمراد من سَلَفَ من الآباء، كما قال: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي حملنا آباءكم. وقيل: إنما قال: {نَجَّيْنَاكُمْ} لأن نجاة الآباء كانت سببًا لنجاة هؤلاء الموجودين. ومعنى "نجيناكم" ألقيناكم على نَجْوة من الأرض، وهي ما ارتفع منها. هذا هو الأصل، ثم سُمِّيَ كل فائز ناجيًا. فالنّاجي مَن خرج من ضيق إلى سَعة).

ص: 240

وأصل "آل" في لغة العرب مختلف فيه:

قال النحاس: (أصله أهل، ثم أبدل من الهاء ألفًا، فإن صغّرته رددته إلى أصله فقلت: أُهَيْل) وقال المهدَوي: (أصله أوْل). وقيل: أهل، قُلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفًا.

وقال الكسائي: (وجمعه آلون، وتصغيره أُوَيْل).

وقد ذهب ابن جرير إلى ما ذكره النحاس من أن أصل، "آل" أهل. قال:(وأحسن أماكن "آل" أن يُنْطَق به مع الأسماء المشهورة، مثلُ قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآل علي، وآل عباس، وآل عَقِيل. وغيرٌ مُستحسن استعمالهُ مع المجهول).

وقد تجاوز العرب النسبة في الآل إلى الأتباع، فآل فرعون قومه وأتباعه وأهل دينه.

وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في زمانه ومن بعده، سواء كان نسيبًا له أو لم يكن، ومنه قوله تعالى:{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} وقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أي آل دينه، فإن فرون لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخٌ ولا عَصَبَة.

وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جِهارًا غَيْرَ سِرٍّ يقول: [ألا إن آل أبي يعني فلانًا، ليسوا لي بأولياء، إنما وَلِيِّيَّ اللهُ وصالح المؤمنين](1). وفي لفظ: (ألا إن آل أبي فلان).

قال النووي: (هذه الكناية هي من بعض الرواة، : خشي أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة

قال القاضي عياض: قيل إن المكنى، عنه ها هنا هو الحكم بن أبي العاص). وقد كان الحَكَمُ هذا من النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته.

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوْفى قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: اللهم صلِّ عليهم. فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته، فقال: اللهم! صلِّ على آلِ أبي أوفى](2).

وأما "فرعون" فهو اسم تسمى به ملوك عمالقة مصر، كما كانت ملوك الروم يسمّى

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (215) - كتاب الإيمان. باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم. ورواه البخاري كذلك من حديث عبد الله بن عمرو.

(2)

حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (1078) - كتاب الزكاة. باب الدعاء لمن أتى بصدقة.

ص: 241

بعضهم "قيصر"، وبعضهم "هِرَقْل"، وكما كانت ملوك فارس تسمّى "الأكاسرة" واحدهم "كسرى"، وملوك اليمن تسمى "التبابعة" واحدهم "تُبَّع"، وكذلك واحد ملوك الحبشة: النجاشي.

والعرب تقول: كل عاتٍ فرعون. والعتاة الفراعنة، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة، أي دهاء ونكر.

وعند الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مصرع أبي جهل يوم بدر- قال: [فلما وقف عليه صلى الله عليه وسلم قال: هذا فرعون هذه الأمة](1).

وقوله "يسومونكم" أصله من السوم. والعرب تقول: سامه خسْفًا أي أولاه إياه وأراده عليه. وجملة "يسومونكم" في محل نصب حال، والتقدير: وإذ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب. وأما مفهوم اللفظ في الآية:

1 -

قيل: المعنى يذيقونكم ويلزمونكم إياه. ذكره القرطبي.

2 -

قيل: يوردونكم، ويذيقونكم، ويولونكم. اختاره ابن جرير. وقال أبو عبيدة:(يولونكم).

3 -

وقيل: يديمون تعذيبكم. والسَّوْم: الدوام، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرَّعْي.

قلت: وكل هذه المعاني يشملها اللفظ القرآني الجامع.

وأما قوله {سُوءُ الْعَذَابِ} يعني أشده وأسوأه. وفي تفصيل ذلك أقوال متكاملة:

1 -

قال ابن إسحاق: (كان فرعون يعذِّبُ بني إسرائيل، فيجعلهم خَدَمًا وخَوَلًا، وصنَّفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصِنْفٌ يحرثُون، وصنف يَزرعون له، فهم في أعماله. ومن لم يكن منهم في صنعة له من عمله: فعليه الجزية - فسامهم - كما قال الله عز وجل، سوءَ العذاب).

(1) حديث حسن. رواه الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود. انظر "الدلائل" للبيهقي (2/ 261 - 262). وكذلك كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: ج (1) ص (564).

ص: 242

2 -

قال السدي: (جعلهم في الأعمال القذرة، وجَعل يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم).

3 -

قيل: فسر العذاب هنا بذبح الأبناء، ذكره ابن كثير.

وقوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} .

فيه عند المفسرين أقوال متقاربة:

1 -

عن السدي قال: (كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القِبْطَ وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر. فدعا السَّحَرة والكهنة والعَافَة والقافَةَ والحازَة فسألهم عن رؤياه، فقالوا له: يخرجُ من هذا البلد - يعنون بيت المقدس - رجلٌ يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تُركت، وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجًا فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يَلُون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلوا غلمانهم. فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ} - يقول: تَجَبَّر في الأرض - {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} - يعني: بني إسرائيل، حين جعلهم في الأعمال القذرة - {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4]. فجعل لا يُولد لبني إسرائيل مولودٌ إلا ذُبح، فلا يكبر الصغير وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت، فأسرع فيهم. فدخل رؤوس القبط على فرعون فكلموه، فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت، فيوشِك أن يقع العمل على غلماننا! نذبح أبناءهم، فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار! فلو أنك كنت تُبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها، وُلد هارون فترك. فلما كان في السنة التي يذبحون فيها، حملت بموسى).

2 -

عن ابن عباس قال: (قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهبُ بملكك، قال: فجعل فرعون على كل ألف امرأة مئة رجل، وعلى كل مئة عشرة، وعلى كل عشرة رجلًا، فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حَمْلَها فانظروا إليه، فإن كان ذكرًا فاذبحوه، وإن كان أنثى فخلُّوا عنها. وذلك قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}).

ص: 243

3 -

عن أبي العالية قال: (إن فرعون ملكهم أربع مئة سنة، فقالت الكهنة إنه سيولد العامَ بمصر غلامٌ يكون هلاكُكَ على يديه. فبعث في أهل مصر نساءً قوابل، فإذا ولدت امرأة غلامًا، أتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري).

وفي رواية ابن إسحاق: (فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قَتَلتُنَّه. فكن يفعلن ذلك. وكان يذبحُ مَنْ فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذَّبن حتى يطرحنَ ما في بطونهن).

4 -

عن مجاهد قال: (لقد ذُكِرَ لي أنه كان ليأمُرُ بالقصب فَيُشَقّ حتى يُجعل أمثال الشِّفار، ثم يُصَفُّ بعضه إلى بعض، ثم يأتي بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهنّ عليه، فيحزّ أقدامهن. حتى إن المرأة منهن لتمصَع بولَدها فيقع من بين رجليها، فتظل تطؤه تتّقي به حدَّ القصب عن رجلها، لِما بلغ من جَهدِها، حتى أسرف في ذلك وكاد يُفنيهم. فقيل له: أفنيت الناس وقطعت النسل! وإنهم خَوَلك وعُمَّالك! فأمر أن يُقتل الغلمانُ عامًا ويُستحيوا عامًا. فوُلد هارون في السنة التي يُسْتَحْيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون).

وقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} .

أي: نعمة من ربكم كبيرة أعقبت الاختبار والمحنة.

قال ابن عباس: (نعمة). وقال السدي: (أما البلاء فالنعمة). وقال مجاهد: (نعمة من ربكم عظيمة). وقال ابن جريج: (نعمة عظيمة).

قال ابن جرير: (يعني: وفي الذي فعلنا بكم، من إنجائناكم -مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم- على ما وصفتُ - بلاءٌ لكم من ربكم عظيم. قال: وأصل "البلاء" - في كلام العرب - الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشر. لأن الامتحانَ والاختبارَ قد يكون بالخير كما يكون بالشر، كما قال ربنا جل ثناؤه:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]. يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] ثم تسمي العرب الخيرَ "بلاءً" والشر "بلاءً". قال: غير أن الأكثر في الشر أن يقال: "بلوته أبلوهُ بلاءً"، وفي الخير:"أبليْتُهُ أبْلِيه إبلاءً وبلاءً"، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:

جزى الله بالإحسان ما فَعَلا بِكمْ

وأبلاهُما خَيْرَ البلاء الذي يَبْلو

ص: 244

فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النِّعم التي يختبر بها عبادَه) انتهى.

وفي التنزيل أيضًا: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17]. قال أبو الهيثم: (البلاء يكون حسنًا ويكون سيئًا، وأصله المِحنة، والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، فقيل للحسن بلاء، وللسَّيِّئ بلاء).

والخلاصة في المسألة:

1 -

قيل: الإشارة بـ "ذلكم" إلى التنجية، فيكون البا، ء على هذا في الخير، أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم. وهو اختيار ابن جرير.

2 -

قيل: بل الإشارة إلى الذبح. قال القرطبي: (وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء هنا في الشر، والمعنى: وفي الذبح مكروه وامتحان).

قلت: ولا مانع من اشتمال اللفظ القرآني على المفهومين معًا على ما تم تفصيله من معنى البلاء.

فائدة: لقد نسب الله تعالى الفعل في هذه الآية - من العذاب والذبح وغيره - إلى آل فرعون، مع أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك بأمر فرعون وسلطانه. قال الشافعي:(إذا أمر السلطان رجلًا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظُلمًا كان عليه وعلى الإمام القَوَد كقاتلَيْن معًا، وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلمًا كان على الإمام القَود).

قلت: ولا شك أن الواجب على المسلم التباعد من أهل الظلم حتى لا تناله سيئاتهم، فإن أهمل نفسه في صحبتهم فلربما أشركوه في آثامهم.

أخرج أبو داود بسند حسن عن العرس بن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا عُملِت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها كمنْ غاب عنها، ومنْ غاب عنها فرضِيَها كان كمن شهدَها](1).

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (4345) - من حديث العرس بن عميرة. وانظر صحيح سنن أبي داود (3651)، وصحيح الجامع الصغير (702).

ص: 245

وقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} .

معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون، خرجتم مع موسى عليه السلام، فلحقكم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا، ففرقنا بكم البحر. فالآية معطوفة على {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} التي قبلها.

قال السدي: (لما أتى موسى البحر

وضرَبه فانفلق، فكان كل فِرْق كالطَوْد العظيم، فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقًا، في كل طريق سِبْط).

وأصل الفَرْق في كلام العرب الفصل، ومنه فَرْق الشعر، ومنه الفرقان، لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل، ومنه قوله تعالى:{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} يعني الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل، ومنه سمي يوم بدر يوم الفرقان، لأن الله سبحانه فرق به بين الحق والباطل.

قال القرطبي: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ} "إذ" في موضع نصب. و"فَرَقْنا" فلقنا، فكان كل فِرق كالطوّد العظيم، أي الجبل العظيم).

وقوله: {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} .

يعني: أخرجناكم منه وكتبنا الغرق والشقاء على فرعون وملئه وأنتم تشهدون.

أخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لما أغرق الله فرعون قال: آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل: يا محمد! فلو رأيتَني وأنا آخِذٌ من حالِ البحر فأدسُّهُ في فيه، مخافةَ أن تُدركه الرحمةُ](1).

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجَدَ اليهود يصومون يوْمَ عاشوراء، فَسُئِلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليومُ الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيمًا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن أَوْلى بموسى منكم. فأمر بصَوْمه](2).

وفي لفظ: [فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا هذا يوم

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3107)، وأحمد من حديث ابن عباس. انظر صحيح سنن الترمذي (2483)، وكذلك صحيح الجامع (5082).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1130). ورواه البخاري (2004) بنحوه.

ص: 246

عظيم، (وفي رواية: هذا يوم صالح)، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغَرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه] (1).

وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [كان أهلُ خَيْبَرَ يصومون يومَ عاشوراءَ، يتَخذونه عيدًا، ويُلبِسونَ نِساءَهم فيه حُلِيَّهُم وشَارَتَهُمْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم](2).

وأما تفصيل النجاة والغرق، ففي روايات المفسرين التالية:

1 -

عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: (لقد ذُكر لي أنه خرج فرعونُ في طلب موسى على سبعين ألفًا من دُهْمِ الخيْل، سوى ما في جنده من شُهْب الخيل. وخرج موسى، حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه مُنصرَف، طلع فرعون في جنده من خلفهم، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَال أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61 - 62]، أي للنجاة، وقد وعدني ذلك، ولا خُلف لوعْده).

2 -

عن ابن إسحاق قال: (أوحى الله إلى البحر -فيما ذُكر لي-: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له. قال: فبات البحر يضرب بعضه بعضًا فَرَقًا من الله وانتظاره أمرَه. فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها، وفيها سُلطان الله الذي أعصاه، فانفلق فكان كل فِرْق كالطَّوْد العظيم، أي كالجبل على نشَرٍ من الأرض. يقول الله لموسى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]. فلما استقر له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ، سلك فيه موسى ببني إسرائيل وأتْبَعَهُ فرعون بجنوده).

3 -

عن ابن عباس قال: (أوحى الله جل وعز إلى مواسى أن أسر بعبادي ليلًا إنكم مُتَّبعون. قال: فسرى موسى ببني إسرائبل ليلًا، فاتّبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى في ست مئة ألف

فضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقًا، كل طريق كالطود العظيم .. ).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1130) ح (128) - كتاب الصيام. باب صوم يوم عاشوراء، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (1131) ح (130) - كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 247

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} .

قال ابن جرير: (أي: وأنتم تنظرون إلى فَرْق الله البحر لكم، والتطام أمواج البحر بآل فرعون، في الموضع الذي صيَّر لكم في البحر طريقًا يبسًا. وذلك كان، لا شك، نظرَ عِيانٍ لا نظرَ علم).

51 -

53. قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}.

في هذه الآيات: ذكْرُ الله تعالى مواعدته نبيه موسى عليه السلام، وذكر إعطائه الكتاب والفرقان هدى لبني إسرائيل، وانتكاس بني إسرائيل في عبادة العجل وعفوه تعالى عنهم.

قرأ القراء {وَاعَدْنَا} و"وَعَدْنا"، أما القراءة الثانية "وعَدْنا" فهي قراءة أبي عمرو، واختاره أبو عبيد. قال النحاس:(وقراءة "واعدنا" بالألف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي).

و"موسى" بالقبطية كلمتان يُعنى بهما: ماء وشجر. "فمو"، هو الماء، و"شا" هو الشجر. قال ابن جرير:(وإنما سمي بذلك - فيما بلغنا - لأن أمه لما جعلته في التابوت - حين خافت عليه من فرعون وألقته في اليَمِّ، كما أوحى الله إليها، وقيل: إن اليَمَّ الذي ألقته فيه هو النيل - دفعته أمواج اليم حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسيةَ امرأة فرعون يغتسلنَ، فوجدن التابوت فأخذنه. فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه، وكان ذلك بمكان فيه ماء وشجر. فقيل موسى، ماء وشجر) ذكره عن السدي.

وقال أبو جعفر: (وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، فيما زعم ابن إسحاق).

وأما مفهوم الآية فيما ذكر أهل التفسير:

1 -

عن أبي العالية: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، قال: يعني ذا القَعْدة وعشرًا من

ص: 248

ذي الحِجَّة. وذلك حين خلَّف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون، فمكث على الطور أربعين ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح - وكانت الألواح من بَرَد - فقربه الربّ إليه نجِيًّا وكلّمه

).

2 -

عن ابن إسحاق قال: (وعد الله موسى- حين أهلك فرعون وقومَه، ونجَّاه وقومَه - ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر، فتم ميقات ربِّه أربعين ليلة، يلقاه ربه فيها ما شاء. واستخلف موسى هارونَ على بني إسرائيل، وقال: إني متعجِّلٌ إلى ربي، فاخلفني في قومي ولا تتَّبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلًا لِلُقِيِّهِ شوقًا إليه، وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامريّ، يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به).

3 -

عن السدي قال: (انطلق موسى، واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر).

والخلاصة: كأن الله سبحانه يقول لبني إسرائيل: اذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، إذ عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يومًا كما قال تعالى في سورة الأعراف:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142].

قال القرطبي: (والأربعون في قول أكثر المفسرين: ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة. وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل، وصعِدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فعدّوا - فيما ذكر المفسرون - عشرين يومًا وعشرين ليلة، وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل. وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فاطمأنوا إلى قوله. ونهاهم هارون وقال: {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}. فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفًا فيما رُوي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف، فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال، ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون، وأحرق العجل وذراه في البحر، فشربوا من مائه حُبًّا للعجل، فظهرت على شفاههم صفرة وورِمَت بطونهم، فتابوا ولم تُقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم، فذلك قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لَدُن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، فقتل بعضهم بعضًا، لا يسأل والد عن ولده

ص: 249

ولا ولد عن والده، ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد، كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله، حتى عجَّ موسى إلى الله صارخًا: يا ربّاه، قد فنيت بنو إسرائيل! فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله، فقبل توبةَ من بقي وجعل من قُتل في الشهداء).

ثم قال: (إن قيل: لم خصّ الليالي بالذكر دون الأيام؟ قيل له: لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخ، فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها).

وقوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

قال أبو العالية: (يعني: من بعد ما اتخذتم العجل).

وقال ابن جرير: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، فإنه يعني به: لتشكروا. ومعنى "لعل" في هذا الموضع معنى "كي". قال: فمعنى الكلام إذن: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلهًا، لتشكروني على عفوي عنكم، إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللبّ والعقل).

روى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند بسند حسن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفُرقة عذاب](1).

وقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .

المراد بالكتاب: التوراة. وبالفرقان: الفصل بين الحق والباطل. والمعنى: (واذكروا أيضًا يا بني إسرائيل إذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح وفرقنا بها بين الحق والباطل). وتفصيل ذلك من أقوال أهل التفسير:

1 -

عن أبي العالية: ({وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}، قال: فَرَق به بين الحق والباطل).

(1) حديث حسن. انظر مسند أحمد (5/ 211 - 212)، وسنن أبي داود (2/ 290)، وصحيح ابن حبان (2070)، و"الأدب المفرد" - للبخاري (33)، ومسند الطيالسي (ص 326) رقم (2491)، ومسند أحمد (2/ 295)، (2/ 302)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (417).

ص: 250

2 -

قال مجاهد: (الكتاب هو الفُرقان، فرق بين الحق والباطل).

3 -

قال ابن عباس: (الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفُرقان).

4 -

قال ابن زيد: (أما "الفرقان" الذي قال الله جل وعز: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، فذلك يومُ بدر، يومَ فَرَق الله بين الحق والباطل، والقضاءُ الذي فرق بين الحق والباطل. قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان، فرق الله بينهم، وسلَّمه وأنجاه، فَرَق بينهم بالنصر. فكما جعل الله ذلك بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فكذلك جعله بين موسى وفرعون). وقال: (الفرقان انفراق البحر له حتى صارَ فِرَقًا فعبروا).

5 -

وقيل: (الفرقان الفرج من الكرب، لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، ومنه قوله تعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أي: فرجًا ومخرجًا. ذكره القرطبي.

6 -

وقيل: (إنه الحجة والبيان) قاله ابن بحر.

قلت: وتوجيه الآية إلى التوراة وما نعتت به من الفصل بين الحق والباطل أقرب للسياق وأنسب، وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير، والحافظ ابن كثير.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .

يعني: لكي تهتدوا بها - أي التوراة - وتمتثلوا الحق الذي جاء فيها، فقد جعلها الله كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها.

54.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} .

في هذه الآية: ما زال الخطاب لبني إسرائيل: واذكروا أيضًا قول موسى لقومه - حين ظلموا أنفسهم باتخاذهم العجل ربّا بعد فراق موسى إياهم - يأمرهم بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردّتهم، والتوبة إليه سبحانه مما ركبوه بقتل أنفسهم.

وقد استجاب القوم وقاموا بما أُمروا. فإلى تفصيل ذلك من أقوال أهل التفسير:

1 -

عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن أنه قال في هذه الآية: {فَاقْتُلُوا

ص: 251

أَنْفُسَكُمْ}، قال:(عَمَدوا إلى الخناجر فجعل يطعن بعضهم بعضًا).

2 -

عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا: (قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتُل بعضهم بعضًا، لا يَحنُّ رجلٌ على رجل قريب ولا بعيد، حتى ألْوَى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فتكشَّفَ عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن حَسْبي، فقد اكتفيت! فذلك حين ألوى بثوبه).

3 -

عن ابن عباس قال: (قال موسى لقومه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. قال: أمر موسى قومَه - عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضًا، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجْلوْا عن سبعين ألف قتيل، كلّ من قُتل منهم كانت له توبة، وكل من بقِيَ كانت له توبة).

4 -

عن السدي قال: (فَصَفُّوا صَفَّين، ثم اجتلدوا بالسيوف. فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيدًا، حتى كثُر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قُتل بينهم سبعون ألفًا، حتى دعا موسى وهرون: ربَّنا هلكت بنو إسرائيل! ربنا البقية البقية! فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدًا، ومن بقي كان مكفَّرًا عنه. فذلك قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}).

5 -

قال ابن جريج: (وكان قتلُ بعضهم بعضًا: أن الله علم أن ناسًا منهم علموا أن العجل باطل، فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال، فلذلك أمر أن يقتُل بعضهم بعضًا).

6 -

عن ابن إسحاق قال: (لما رجع موسى إلى قومه - وأحرق العِجل وذرّاه في اليمّ وخرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا - سأل موسى ربَّه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبرُ لأمر الله! فأمر موسى من لم يكن عَبَدَ العجلَ أن يَقْتُلَ من عَبَدَه. فجلسوا بالأفنية، وأصْلتَ عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى، وبَهِشَ إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف).

7 -

قال ابن زيد: (لما رجع موسى إلى قومه وكان سبعون رجلًا قد اعتزلوا مع

ص: 252

هارون العجلَ لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربِّكم. فقالوا: يا موسى، أما من توبة؟ قال: بلى! {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} الآية. فاخترطوا السيوف والجِرَزَةَ والخناجِرَ والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابةً. قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضًا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري، ويتنادون فيها: رحم الله عبدًا صبَرَ نفسَهُ حتى يبلغ الله رضاه. وقرأ قول الله جل ثناؤه: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 33]. قال: فقتلاهم شُهداء، وتِيبَ على أحيائهم، وقرأ:{فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ).

وقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} .

أي: ارجعوا إلى طاعة خالقكم وما يرضيه عنكم.

قال أبو العالية: ({فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}، أي: إلى خالقكم).

وقال سفيان بن عيينة: (التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم، وكانت توبة بني إسرائيل القتل).

قال القرطبي في هذه الآية: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه، وإنما اعتزلوا، وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده. وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يُغَيَّرْ عوقب الجميع).

أخرج الإمام أحمد في المسند وأبو داود وابن ماجة في السنن بسند صحيح عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ قوم يُعمل فيهم بالمعاصي، هم أعزُّ وأكثر ممن يعملُه، ثم لم يغيّروه، إلا عمهم الله تعالى منهُ بعقاب](1).

ولفظ ابن ماجة: [ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي هم أعزُّ منهم وأمْنَعُ، لا يغيّرون، إلا عمهم الله بعقاب].

وأخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا. فكان فيما قال: "ألا، لا يَمْنَعَنَّ رجُلًا، هَيْبَةُ الناس، أن يقول بحقٍّ، إذا

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4338/ 1)، (4338)، وابن ماجة (4009). انظر صحيح سنن أبي داود (3624)(3645)، وصحيح الجامع (5625). وانظر تخريج المشكاة (5142)، وصحيح سنن ابن ماجة (3238).

ص: 253

عَلِمَه". قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله! رأينا أشياء، فهبنا] (1).

وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .

المعنى: إن توبتكم إلى الله بقتلكم أنفسكم خير لكم عند ربكم، فهي نجاة لكم من عذابه في الآخرة، أمَا وقد فعلتموه وامتثلتم ما أُمرتم به فتبتم فتاب عليكم، إنه هو الراجع لمن أناب إليه بما يحب من العفو عنه والتجاوز عن ذنبه.

قال ابن جرير: (ويعني بـ "الرحيم"، العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته).

55 -

56. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}.

في هذه الآيات: يقول تعالى: واذكروا أيضًا نعمتي عليكم إذ بعثتكم بعد الصعق، بعدما سألتم رؤيتي جَهْرة عيانًا، وهو أمر لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم ولا ينبغي سؤاله.

قال ابن عباس: ({حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، قال: علانية). وقال الربيع: (عِيانًا).

وقال ابن زيد: (حتى يطلعَ إلينا). وجَهْرَة: مصدر في محل نصب حال. وأصل الجَهْر: الظهور. ومنه الجهر بالقراءة: إظهارها. فذكّرهم الله بذلك سوء استقامة أجدادهم لأنبيائهم، وتقلب آبائهم في إيمانهم رغم تتابع الحجج عليهم، وكثرة معاينتهم آيات الله عز وجل وعبره، فمرة يعبدون العجل، ومرة يطلبون رؤية الله، وتارة يقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا، وتارة يستهزئون فيقولون حِنطة في شعير وقد أمروا أن يقولوا حِطّة، ويدخلون البابَ من قبل أستاههم إلى غير ذلك من إيذائهم لأنبيائهم وتوثبهم على نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام، مع عظيم ما أحاطهم الله به من النعم والآلاء والخيرات.

(1) حديث صحيح. انظر سنن ابن ماجة (4007) - كتاب الفتن. باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3237).

ص: 254

وقوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} .

قال قتادة: (ماتوا). وقال الربيع: (سمعوا صوتًا فصعِقوا، يقول: فماتوا). وقال السدي: (والصاعقة نار). وقال ابن إسحاق: (أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا).

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} .

قال عُرْوة بن رُويم: (صعق بعضهم وبعضٌ ينظرون، ثم بُعِث هؤلاء وصُعِقَ هؤلاء). وقال السدي. ({فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: ربِّ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلًا رجلًا، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

وقال الربيع بن أنس: (كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم).

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

قال القرطبي: (ما فعل بكم من البعث بعد الموت).

وأما سبب قيلهم لموسى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فهناك قولان ذكرهما شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله، ونقلهما عنه الحافظ ابن كثير.

القول الأول: عن محمد بن إسحاق قال: (لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرَّق العجل وذراه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلًا الخَيِّر فالخَيِّر، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل وتوبوا إليه مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّتَه له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم، فقال له السبعون، فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتى تَغَشَّى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه،

ص: 255

وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلَّمه الله وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام، وقعوا سجودًا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فأخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول:{رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} قد سَفِهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك. واخترتُ منهم سبعين رجلًا، الخيِّرَ فالخيِّرَ، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]، فلما يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه حتى ردّ إليهم أرواحهم، فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم).

وفي رواية إسماعيل بن عبد الرحمن السّدّي الكبير: (لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضًا كما أمرهم الله به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى، فاختار موسى قومه سبعين رجلًا على عَينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا). وساق البقية.

القول الثاني: عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى! وقرأ قول الله:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} . قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصَعَقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله:{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} ، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا. فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنّا متنا ثم حَيينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم).

قال الحافظ ابن كثير: (وهذا السياق يدلّ على أنهم كُلِّفوا بعد ما أُحيوا).

وقال الماوردي: (واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال

ص: 256

المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما - بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبّد. الثاني: سقوط تكليفهم معتبرًا بالاستدلال دون الاضطرار).

قال القرطبي: (والأول أصح، فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطًا عليهم والنار محيطة بهم، وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان، وبقاء التكليف ثابت عليهم، ومثلهم قوم يونس. ومحال أن يكونوا غير مكلفين. والله أعلم).

قلت: ولا شك أن التكليف قائم على كل بالغ عاقل، فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام شاهدوا أمورًا أعظم من أتباعهم، وعاينوا الخوارق والأمور العظام، ولم يسقط عنهم التكليف.

وفي المسند وصحيح أبي داود والحاكم من حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[رُفِع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المُبْتلى حتى يبرَأ، عن الصبي حتى يكبر](1).

57.

قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} .

في هذه الآية: شرع الله سبحانه يعدّد نعمه الكثيرة على بني إسرائيل بعدما ذكر جل ذكره ما دفعه عنهم من النقم، فمنها تظليل الغمام عليهم، وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا. لئلا تؤذيهم حرارة الشمس، ومنها إنزال المن والسلوى تكرمة لهم.

والغمام جمع غمامة، كسحابة وسحاب. قال الفراء:(ويجوز غمائم وهي السحاب، لأنها تغمّ السماء أي تسترها، وكل مغطّى فهو مغموم، ومنه المغموم على عقله).

قال مجاهد: ({وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ}، قال: هو بمنزلة السحاب). وقال: (ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم).

وقال السدي: (الغمام السحاب الأبيض).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في أحاديث في السنن (4398)، (4401) - (4403). وانظر صحيح الجامع (3507). والإرواء (297). وصحيح أبي داود (3701 - 3703)، (3698).

ص: 257

وقال ابن عباس: (هو غمامٌ أبردُ من هذا وأطيبُ، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال: وكان معهم في التيه).

وقال قتادة: (كان هذا في البرية، ظلل عليهم الغمام من الشمس).

وقوله: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} .

أما المن فمختلف فيه على أقوال:

1 -

عن مجاهد: ({وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ}، قال: المن صمغة).

2 -

عن قتادة قال: (كان المنّ ينزل عليهم مثل الثلج).

3 -

وعن الربيع بن أنس قال: (المنّ شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه).

4 -

وقال ابن زيد: (المنّ، عسل كان ينزل لهم من السماء). وقال عامر (1): (عسلُكم هذا جزءٌ من سبعين جزءًا من المن).

5 -

وقال وهب: (خُبْزُ الرُّقاق، مثل الذرة ومثل النَّقِيِّ).

6 -

قال السدي: (المن كان يسقط على شجر الزنجبيل).

7 -

وقال ابن عباس: (كان المنّ ينزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاؤوا).

8 -

وقيل: المنّ هو الترنجبين.

9 -

وقيل: المنّ هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر، وهو حلو كالعسل وإياه عنى الأعشى -ميمون بن قيس- بقوله:

لَوْ أُطْعِمُوا المنَّ والسَّلْوى مكانَهُمُ

ما أبصر الناس طُعْمًا فيهم نَجَعا

10 -

وقال عكرمة: (المنّ شيء أنزله الله عليهم مثل الظل، شبه الرُّبِّ الغليظ).

ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت، حيث قال:

فَرَأى الله أنهم بِمَضِيعٍ

لا بِذي مَزْرَعٍ ولا مَعمورًا

(1) هو عامر الشعبي التابعي الجليل.

ص: 258

فسَناها عليهم غَادياتٍ

ومَرَى مُزْنَهم خلايا وخُورًا

عَسَلًا ناطفًا وماء فراتًا

وحليبًا ذا بهجة مَثْمورًا

فالناطف: هو السائل، والحليب المثمور: الصافي منه.

قال ابن جرير: (فجعل المن الذي كان ينزل عليهم عسلًا ناطفًا، والناطف: هو القاطر).

وقال ابن كثير: (عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسّره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، فالمن المشهور إنْ أُكِلَ وحده كان طعامًا وحلاوة، وإن مُزج معه الماء صار شرابًا طيبًا، وإنْ رُكِّبَ مع غيره صار نوعًا آخر).

وقد ورد المنّ في السنة الصحيحة بذكر ما يستخرج منه من الكمأة التي ماؤها شفاء للعين. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الكَمْأةُ من المَنّ وماؤها شفاء للعين](1).

وفي رواية لمسلم: [الكمأة من المنّ الذي أَنْزَلَ الله تعالى على بني إسرائيل، وماؤها شفاء للعين].

الحديث الثاني: أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن - واللفظ للترمذي - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [العَجْوَةُ من الجنة، وفيها شفاء من السُّمِّ، والكمْأةُ من المَنِّ، وماؤها شفاء للعين](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن مردويه عن أنس: [أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تذاكروا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فقال بعضهم: نحسبه الكمأة.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4478)، ومسلم (2049)، ومعظم أصحاب السنن.

(2)

حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن (2066)، وابن ماجة (3455)، وأحمد في المسند (2/ 301)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4005).

ص: 259

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السُّم] (1).

وأما السلوى فهو طائر يشبه السُّمَاني، كانوا يأكلون منه. وأقوال المفسرين في ذلك متقاربة:

1 -

عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: (السلوى طائر يشبه السُّمّاني).

وعن السدي قال: (كان طيرًا أكبرَ من السُّمّاني).

2 -

عن قتادة قال: (السلوى طائر كانت تحشُرها عليهم الريح الجنوبَ).

3 -

عن مجاهد قال: (السلوى طائر). وقال ابن عطية: (السلوى طير بإجماع المفسرين).

4 -

عن ابن وهب قال: (طير سمين مثلُ الحَمام).

5 -

عن عامر الشعبي قال: (السلوى السُّماني). وعن الضحاك: (السماني هو السلوى).

وأما سبب تظليل الله الغمام وإنزاله المنَّ والسلوى على هؤلاء القوم ففيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: عن السدي قال: (لما تاب الله على قوم موسى، وأحيَا السبعين الذين اختارهم موسى بعدما أماتهم، أمرهم الله بالسير إلى أريحا، وهي أرض بيت المقدس. فساروا، حتى إذا كانوا قريبًا منهم، بعث موسى اثني عشر نقيبًا. فكان من أمرهم وأمر الجبَّارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه. فقال قوم موسى لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . فغضب موسى فدعا عليهم فقال: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} . فكانت عَجْلَةً من موسى عَجِلها، فقال الله تعالى:{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} . فلما ضُرب عليهم التِّيه، ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أنْ لا تأسَ على القوم الفاسقين - أي لا تحزنْ على القوم الذين سميتهم فاسقين - فلم يحزن، فقالوا:

(1) حسن بشواهده. أخرجه ابن مردويه كما ذكر ابن كثير في التفسير، وإسناده لا بأس به، وله شاهد عند ابن عدي (2/ 370)، والمتن حسن بشواهده المتقدمة.

ص: 260

يا موسى كيف لنا بماء ها هنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ - فكان يسقط على شجر التُّرَنْجبين - والسلوى، وهو طير يشبه السُّماني، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينًا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأُمر موسى فضوب بعصاه الحجرَ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فشرب كل سِبْطٍ من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظّل؟ فظلَّل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطولُ معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرّق لهم ثوب، فذلك قوله:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} وقوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُم} [البقرة: 60]).

التأويل الثاني: عن ابن إسحاق قال: (لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يَرْفَع عنهم السيف من عبادة العجل، أمر موسى أن يسيرَ بهم إلى الأرض المقدسة، وقال: إني قد كتبتُها لكم دارًا وقرارًا ومنزلًا، فاخْرج إليها، وجاهِدْ من فيها من العدو، فإني ناصركُم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نزل التِّيه -بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَرٌ ولا ظلٌّ- دعا موسى ربَّه حين آذاهم الحر، فظلّل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله لهم المنّ والسلوى).

التأويل الثالث: قال ابن جريج: قال عبد الله بن عباس: (خُلِقَ لهم في التِّيه ثيابٌ لا تَخْلَقُ ولا تدْرن). وقال ابن جريج: (إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يومٍ فَسَدَ، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدًا).

وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .

قيل: "كلوا" فيه حذف والتقدير: وقلنا لهم كلوا. قال ابن كثير: (أمر إباحة وإرشاد وامتنان).

والمراد بالطيبات: قيل الشهيات من الرزق الذي رُزقوه. وقيل بل من حلاله المباح. واختار ابن جرير الأول الذي هو بمعنى اللذة، وقال:(لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم).

ص: 261

قلت: ولا مانع من اشتمال الكلمة على المعنيين معًا: اللذة والحلال. وإليه ذهب القرطبي بقوله: (والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ). وقال النسفي: ({كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} لذيذات أو حلالات {مَا رَزَقْنَاكُمْ}).

وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

قيل: هناك اختصار في الكلام دلّ عليه ما بعده. والتقدير: قلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا وعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر بل بالمعاصي والبطر، فظلموا بذلك أنفسهم. فإن النعم تقابل بالعبادة والشكر، كما قال جل ثناؤه في سورة سبأ:{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ .. } .

قال القاسمي: (أي فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر).

وقال ابن كثير: (ومن ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم، فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مَبْرك الشاة، فَدعا الله فيه، وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم، وكذلك لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءت سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم. ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في الاتباع: المشي مع قدر الله، مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم).

قلت: وقد أجاد الحافظ ابن كثير رحمه الله بهذا المفهوم، فإن الله سبحانه يحب من عباده مباشرة الأمر والامتثال، ومتابعة رسله بالأفعال والأقوال، ثم إن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسر يُسْرَين.

ففي المسند وصحيح الحاكم عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[النصر مع الصبر، والفَرَج مع الكرب، وإن مع العسر يُسرًا، (وإن مع العسر يسرا)](1).

(1) حديث صحيح. رواه أحمد في المسند (1/ 307)، والحاكم (3/ 541 - 542). وانظر صحيح الجامع -حديث رقم- (6682)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2382)، والزيادة من رواية الخطيب في "التاريخ" والديلمي.

ص: 262

وقوله: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

قال ابن عباس: (يضرّون).

قال ابن جرير: (وكذلك ربُّنا جل ذكره، لا تضرُّه معصية عاص، ولا يتحيَّف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عَدْلُ عادل، بل نفسَه يظلمُ الظالمُ، وحظَّها يبَخَسُ العاصي، وإياها ينفَعُ المطيع، وحظَّها يُصيب العادلُ).

58 -

59. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ الله تعالى أمره بني إسرائيل دخول بيت المقدس تائبين متذللين. فقابلوا الأمر بالسخرية فأذاقهم سوء العذاب فأصبحوا خاسرين.

وأما القرية التي أمروا بدخولها فالراجح أنها بيت المقدس. فإلى أقوال المفسرين:

1 -

قال السدي: (أما القرية، فقرية بيت المقدس). وقال قتادة: (بيت المقدس).

2 -

قال ابن زيد: (هي أريحا، وهي قريبة من بيت المقدس).

3 -

قال ابن كيْسان: (الشام).

4 -

قال الضحاك: (الرَّملة والأرْدُنُّ وفلسطين وتَدْمُر).

واختار ابن جرير أنها بيت المقدس، وهو قول الجمهور، وأكّده الحافظ ابن كثير حيث قال:(يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، فَأُمِروا بدخول الأرض المقدسة، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضَعُفُوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس).

وقال تعالى في سورة المائدة: {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالمِينَ (20) يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ

ص: 263

الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}.

والقرية قد تطلق على المدينة، فهي كل مكان اتصلت به الأبنية واتُّخذَ قرارًا. وسميت بذلك لأنها تقرّت أي اجتمعت، والعرب تقول: قَرَيت الماء في الحَوض أي جمعته، واسم ذلك الماء قِرَىً. وكذلك ما قُرِيَ به الضيف. والمقاري الجِفان الكبار.

وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} . أي: عيشًا واسعًا هنيًا بغير حساب.

وقوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} .

فإنّ هذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام، وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حُبست لهم الشمس يومئذ قليلًا حتى أمكن الفتح. ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد سجدًا. ذكره الحافظ ابن كثير وقال:(أي: شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، وردّ بلادهم إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال).

وأما "الباب" الذي أمروا أن يدخلوه سجدًا، فإنه قيل: هو باب الحِطَّة من بيت المقدس. وإليك أقوال المفسرين في ذلك:

1 -

عن مجاهد: ({وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا})، قال: باب الحطّة، من باب إيلياء، من بيت المقدس).

2 -

عن السدي قال: (أما الباب، فباب من أبواب بيت المقدس).

3 -

عن ابن عباس: (أنه أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى باب حطَّة). وأما قوله: {سُجَّدًا} ، فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الرُّكَّع. ويقول:(ركَّعًا من باب صغير). وقال: (أمروا أن يدخلوا ركَّعًا). أو قال: (منحنين ركوعًا).

4 -

وقال الثوري: (فدخلوا من قبل أستاههم).

5 -

وقال الحسن البصري: (أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم) واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم: أن المراد بالسجود ها هنا الخضوع، لتعذر حمله على حقيقته. ذكره ابن كثير، وقال القرطبي:(وقيل: متواضعين خضوعًا لا على هيئة معينة).

6 -

وقال عكرمة، قال ابن عباس:(كان الباب قِبَل القبلة).

ص: 264

7 -

ورُوي عن ابن مسعود: (قيل لهم: ادخلوا الباب سجدًا، فدخلوا مقنعي رؤوسهم، أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا).

قلت: وبالجمع بين هذه الأقوال فإن السجود الذي أمروا به - عند دخولهم الباب المخصص لذلك الأمر من أبواب بيت المقدس - يشمل الانحناء والتواضع والشكر لله العظيم الذي أنعم وتفضّل بالنصر بعد الكرب وباليسر بعد العسر. قال أبو جعفر: (وأصل "السجود" الانحناء لمن سُجد له معظَّمًا بذلك. فكلّ مُنحنٍ لشيء تعظيمًا له فهو "ساجد". قال: فلذلك تأويل ابن عباس قوله: "سجّدًا" ركّعًا. لأن الراكع مُنحنٍ وإن كان الساجدُ أشدّ انحناءً منه).

وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} . عطف على ادخلوا، و"حِطّةٌ" بالرفع قراءة الجمهور، فهي خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: مسألتنا حطة. فهي فِعلة، من قول القائل: حطّ الله عنك خطاياك فهو يَحُطّها حِطَّة. قال الأخفش: (وقرئت "حِطّةً" بالنصب، على معنى احطط عنا ذنوبنا حِطة). وإليك أقوال أهل التفسير في مفهوم ذلك:

1 -

قال الحسن وقتادة: (أي احطط عنا خطايانا). وقال ابن زيد: ({وَقُولُوا حِطَّةٌ}، يحط الله بها عنكم ذنوبكم وخطيئتكم). وقال ابن عباس: (يُحطّ عنكم خطاياكم). وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:"حطة"، مغفرة.

2 -

عن عكرمة: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} ، قال:(قولوا: "لا إله إلا الله").

3 -

عن ابن عباس: ({وَقُولُوا حِطَّةٌ}، قال: أمِروا أن يستغفروا).

4 -

عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} ، قال:(قولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم).

قلت: والأَوْلى أن يقال: إن الله سبحانه قد تعبّدهم، بذكر هذا اللفظ بعينه أثناء دخولهم، ولا شك أنهم بقولهم إياه وامتثالهم الأمر يحط الله عنهم بذلك أَوزارهم كما قال جل ثناؤه:{نَغْفِرْ لَكُمْ} ، وقد دلت السنة الصحيحة على ذلك، كما في الأحاديث التالية:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه - في كتاب التفسير - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}

ص: 265

فدخلوا يزحفون على أسْتاهِهِمْ، فبدّلوا وقالوا: حِطّةٌ: حَبَّةٌ في شعيرة] (1).

وفي رواية: [فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبّةٌ في شعْرَة].

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه -في كتاب التفسير- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سُجَّدًا وقولوا حِطّةٌ نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاهِهمْ، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعرَه](2). وفي غير الصحيحين: (حنطة في شعَر).

الحديث الثالث: أخرج الطبري بإسناد لا بأس به، عن محمد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دخلوا الباب -الذي أُمِرُوا أن يدخلوا فيه سجّدًا- يزحفون على أستاههم، وهم يقولون: حنطة في شعيرة](3).

قاق القرطبي: (استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبُّد بلفظها أو بمعناها، فإن كان التعبُّد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها، لذم الله تعالى من بدّل ما أمره بقوله. وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه).

وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي رحمهم الله إلى أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله، وهو قول الجمهور. في حين منع ذلك ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حَيْوةَ.

قلت: ولا شك أن ما لا يتعبد بلفظه يجوز نقله بالمعنى - وإن كان الأوْلى نقله كما جاء في مواضعه ومصادره -، فقد نقل الصحابة السيرة بألفاظ متشابهة وعبارات متقاربة، وكان وكيع يقول:(إن لم يكن المعنى واسعًا فقد هلك الناس). وقال قتادة عن زُرارة بن أوفى: (لقيت عدّة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا عليّ في اللفظ واجتمعوا في المعنى). وكان النّخَعِيّ والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني. وقال الحسن: (إذا أصبت المعنى أجزأك). وأما إن كان اللفظ يتعبد به

(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه -حديث رقم- (4479). وانظر للرواية الثانية صحيح البخاري - كتاب أحاديث الأنبياء -حديث رقم- (3403).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم - كتاب التفسير (3015). باب في تفسير آيات متفرقة.

(3)

أخرجه الطبري (1021) و (1022)، وإسناده لا بأس به، ويتأيد بشواهده. ففي جامع الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا:[دخلوا مُتَزَحِّفينَ على أوْراكهم أيْ منحرفين]. صحيح الترمذي (2356).

ص: 266

فلا يجوز أن يُروى قريبًا منه، بل تجب الدقة في تتبع ألفاظه. فلا يجزئك أن تقول في السجود "سبحان ربي العلي" بدل الأعلى، أو أن تقول في الركوع "سبحان ربي العليم" بدل العظيم. وكذلك أوراد الطعام والشراب والنوم وأدعية الاستفتاح في الصلاة، وأدعية دخول المسجد والخروج منه، وما يقال عند تشميت العاطس وعند السلام وعند التعزية أو الدفن وعند رؤيه الهلال وعند اشتداد الرياح

إلى غير ذلك من مواضع الذكر والدعاء الذي لا بد فيه من الدقة. وخير دليل على هذا الحديثان الآتيان:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: [قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت مَضْجَعَكَ فتوضأ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجع على شِقِّكَ الأيمن، ثم قُل: اللهم أسْلَمْت وجهي إليك، وفَوَّضْتُ أمري إليك، وألْجَأْت ظهري إليك، رَغْبَة ورَهْبَةً إليك، لا ملجأ ولا مَنْجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أَنْزلْت، ونَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ، فإن مُتَّ من لَيْلَتِكَ، فأَنْتَ على الفطرة، واجْعَلهن آخِرَ ما تتكلم به". قال: فَردَّدْتُها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتُ: "اللهم آمنت بكتابك الذي أنْزلت" قلْتُ: وَرَسولكَ، قال: لا، ونبيِّكَ الذي أرْسَلْتَ] واللفظ للبخاري (1).

وفي رواية مسلم: [قال: فَرَدَّدْتُهُنَ لأَسْتَذْكِرَهُنَّ فقُلْتُ: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال: "قل آمنت بنبيك الذي أرسلتَ"](2).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[نَضَّرَ الله امرأً سمع منا شيئًا، فبلَّغَهُ كما سَمِعَه، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع](3).

وفي لفظ آخر -من طريق جبير بن مطعم-: [نَضَّرَ الله عبدًا سمع مقالتي، فوَعاها وحفِظَها، ثم أدّاها إلى مَنْ لم يسمعها، فرُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيه، ورُبَّ حامِل فقهٍ إلى من هو أفقَهُ منه

] (4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء. باب فضل من بات على الوضوء (247).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2710)، كتاب الذكر والدعاء، باب الدعاء عند النوم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (2657). وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2140)، وكذلك (2139) من حديث زيد بن ثابت. وصحيح الجامع (6640)، وانظر تخريج الترغيب (1/ 63)، ورواه أحمد وابن حبان وغيرهم.

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد وابن ماجة والحاكم، من حديث جبير بن مطعم. انظر صحيح ابن ماجة (2480)، وصحيح الجامع (6642)، وانظر المصدر السابق - صحيح الترغيب - (1/ 63).

ص: 267

وقوله: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} .

أصل "الغفر" التغطية والستر، ومنه قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جنّة للرأس "مِغْفَر" لأنها تغطي الرأس وتُجِنُّه. و"الخطايا" جمع "خطية".

قال ابن عباس: ({وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}، من كان منكم مُحسنًا زيدَ في إحسانه، ومن كان مخطئًا نغفر له خطيئته).

قال النسفي: (أي من كان محسنًا منكم كانت تلك الكلمة سببًا في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئًا كانت له توبة ومغفرة).

وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} .

فيه أقوال تؤكدها الأحاديث الصحيحة السابقة:

1 -

قال ابن عباس: (أمِروا أن يدخلوا رُكَعًا ويقولوا: حِطَّة. قال: أمروا أن يستغفروا، قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: حِنْطة - يستهزئون. فذلك قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}).

2 -

قال قتادة والحسن: (دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها، فدخلوها مُتَزَحِّفِين على أوراكهم، وبدّلوا قولًا غير الذي قيل لهم، فقالوا: حبَّة في شعيرة).

3 -

قال مجاهد: (أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجَّدًا ويقولوا: حِطَّة، وطوطِئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حِنْطَة).

4 -

قال ابن زيد: ({وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}، يحطّ الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم، قال: فاستهزؤوا به - يعني بموسى - وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا، حِطَّةٌ حِطَّةٌ! أي شيء حطة؟ وقال بعضهم: حنطة).

وقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} .

الرِّجز في لغة العرب العذاب. قال ابن عباس: (كل شيء في كتاب الله من "الرجز"، يعني به العذاب). وقال الفراء: (الرجز هو الرجس). وأما أقوال أهل التفسير في ذلك:

1 -

الرجز: العذاب. فعن ابن عباس ومجاهد: (أنه العذاب). وعن قتادة: ("رجزًا"، قال: عذابًا).

ص: 268

2 -

الرجز: الغضب. قال أبو العالية: (الرجز، الغضب، ).

3 -

الرجز: الطاعون. قال ابن زيد: (لما قيل لبني إسرائيل: - ادخلوا الباب سجدًا، وقولوا: حطّة، فبذل الذين ظلموا منهم قولًا غير الذي قيل لهم - بعث الله جل وعزّ عليهم الطاعون، فلم يُبْقِ منهم أحدًا. وقرأ: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، قال: وبَقي الأبناء، ففيهم الفضلُ والعبادةُ - التي توصف في بني إسرائيل - والخيرُ، وهلك الآباء كلُّهم، أهلكهم الطاعون).

4 -

الرجز: البرد. قال الشعبي: (الرجز إما الطاعون، وإما البرد).

قلت: وقد صحّ تسمية الطاعون بالرجز والرجس في صحيح السنة. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أسامةَ بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطاعون (1) رِجْزٌ أو عذابٌ أُرْسِلَ على بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تَقْدموا عليه، وإذا وَقَعَ بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فِرارًا منه](2). وفي لفظ: [الطاعون آية الرِّجْز].

الحديث الثاني: أخرج البخاري عن أسامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطاعون رِجْسٌ أُرسل على طائفة من بني إسرائيل -أو على من كان قبلكم-

] الحديث (3).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن أسامة بن زيد -أيضًا- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إن هذا الوَجَعَ أو السَّقَمَ رِجْزٌ عُذِّبَ به بعضُ الأمم قبلكم، ثم بَقِيَ بعد بالأرض، فيذهب المرَّةَ ويأتي الأخرى، فمن سَمع به بأرض، فلا يَقْدَمَنَّ عليه، ومن وقع بأرض وهو بها، فلا يخرِجَنَّهُ الفِرار منه](4).

وفي لفظ: [الطاعون بقيَّةُ رِجزٍ أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا

(1) هو قروح تخرج في المرافق والآباط وغيرها في مواضع من البدن، ويكون معه ورم وألم، ويسود ما حواليه أو يحمرّ أو يخضر، ويحصل خفقان القلب والقيء.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2218) - كتاب السلام. باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، من حديث أسامة بن زيد.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3473) - كتاب أحاديث الأنبياء. ورواه مسلم بنحوه.

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (5777) - طبعة دار السلام - الرياض. كتاب السلام، الباب السابق، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

ص: 269

وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فِرارًا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها] (1).

قلت: ولا دلالة في الآية وما شابهها في القرآن أن المراد في "الرجز" الطاعون حصرًا، بل قد يشمل ذلك ألوانًا أخرى من العذاب، وإن كانت الأحاديث السابقة تفيد ذلك بعمومها.

وقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .

أي: بما كانوا يعصون ويخالفون ويظلمون.

والفِسْق: الخروج كما تقدّم. قال النسفي: ({بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: بسبب فسقهم).

60.

قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} .

في هذه الآية: يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم إذ أَجَبْتُ نبيَّكم موسى صلى الله عليه وسلم حين سألني أن أسقيكم ماء فأوحيت إليه أن اضرب بعصاك الحجر، فضربه فإذا بالماء يتفجر من ثنتي عشرة عينًا، لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء، واشكروا ربكم الذي ذَلَّلَ هذه النعم لكم.

فمتى كان ذلك وما تفاصيل حدوثه؟ هذا ما سنبيّنه من أقوال المفسرين:

1 -

عن قتادة قوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} الآية، قال:(كان هذا إذْ هم في البرِّيَّة، اشتكوا إلى نبيهم الظمأ، فأُمروا بحجر طُوريٍّ -أي من الطور- أن يضربه موسى بعصاه. فكانوا يحملونه مَعَهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سِبْطٍ عينٌ معلومة مستفيض ماؤها لهم).

2 -

عن ابن عباس قال: (ذلك في التيه، ظلّل عليهم الغمامَ، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابًا لا تبلى ولا تتّسخ، وَجُعل بين ظهرانيهم حَجر مُرَبَّع،

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2218) ح (93) - كتاب السلام، وكذلك ح (97). وانظر صحيح الجامع (3840)، وهو في صحيح البخاري بلفظ مقارب.

ص: 270

وأُمِرَ موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كل ناحية منه ثلاثُ عيون، لكل سبط عين، ولا يَرْتحلون مَنقلةً إلا وجدُوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأول).

3 -

قال مجاهد: (خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا، فانفجرَ لهم الحجر اثنتي عشرة عينًا، ضربه موسى. قال ابن جريج: قال ابن عباس: "الأسباط" بنو يعقوب، كانوا اثني عَشَر رجلًا، كل واحد منهم ولد سِبْطًا، أمةً من الناس).

وفي سورة الأعراف: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} . قال القرطبي: (والانبجاس أضيق من الانفجار، لأنه يكون انبجاسًا ثم يصير انفجارًا). وقال ابن كثير: (وأخبر هناك بقوله: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف: 160]، وهو أول الانفجار، وأخبر ها هنا بما آل إليه الحال آخرًا وهو الانفجار، فناسب ذكر الانفجار ها هنا، وذاك هناك، والله أعلم).

وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} .

أي: كلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعه لكم سبحانه بلا سعي ولا تعب.

وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .

أي: لا تطغوا ولا تسعوا بالفساد في الأرض، بل قابلوا النعم بالشكر وإقامة الحق والعدل في الأرض.

قال أبو العالية: (يقول: لا تسعوا في الأرض فسادًا). وقال قتادة: (أي لا تسيروا في الأرض مفسدين). وقال ابن زيد: (لا تعثَ، لا تَطغَ).

وأصل "العَثا" في كلام العرب شدة الإفساد. وعثا في الأرض أفسد. قال الأزهريُّ: (القُرَّاءُ كلهم مُتَّفِقون على فتح الثاء).

وقوله: {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة. قال النسفي: (أي لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه).

61.

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَال أَتَسْتَبْدِلُونَ

ص: 271

الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}.

في هذه الآية: يتابع سبحانه في استعراض النعم على بني إسرائيل فيقول: واذكروا كذلك نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى، وهو طعام لذيذ طيب نافع وهنيء، فضاق الأمر بكم حتى سألتم موسى استبدال الأطعمة الدنيئة من البقول وبعض نبات الأرض بذلك بطرًا وتنطعًا وضجرًا. فنالكم ما تستحقون من العقاب والآلام، نتيجة هذا التنطع وما صاحبه من الكفر وقتل الأنبياء والعصيان.

وقد تقاربت أقوال المفسرين في ذلك، فإلى استعراض أهمها:

1 -

قال قتادة: (كان القوم في البريّة قد ظلّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملُّوا ذلك، وذكروا عيشًا كان لهم بمصر، فسألوه موسى. فقال الله تعالى:{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} .

2 -

قال أبو العالية: (كان طعامهم السلوى وشرابهم المن، فسألوا ما ذكر، فقيل لهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}).

3 -

قال الحسن البصري: (فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قومًا أهل أعداس وبصل وبقول وفوم، فقالوا: {يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}).

قال الحافظ ابن كثير: (وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المنَّ والسلوى، لأنه لا يتبدل ولا يتغيّر كل يوم، فهو مأكل واحد).

والبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معرفة، وأما الفوم فقد اختُلِفَ فيه على أقوال:

1 -

قيل هو الحِنْطة والخبز. قال عطاء: (الفومُ، الخبز). وقال مجاهد: ("وفومها": خبزها). وقال قتادة والحسن: (الفُوم، هو الحب الذي تختبزه الناس).

وقال السدي: (الحِنطة). وقال ابن عباس: (الحنطة والخبز).

ص: 272

2 -

الحِنْطَةُ. قال ابن عباس: ("وفومها": هو البُرُّ بعينه، الحنطة).

3 -

الثوم. قال مجاهد: (هو هذا الثوم). وقال الربيع: (الفوم، الثوم). وهو في بعض القراءات "وثُومها".

قال ابن جرير: (وقد ذُكر أن تسمية الحِنطة والخبز جميعًا "فومًا" من اللغة القديمة. حُكي سماعًا من أهل هذه اللغة: "فوِّموا لنا"، بمعنى: اختبزوا لنا. وذُكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: "ثُومها" بالثاء).

وقوله: {قَال أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} .

تقريع وتوبيخ لهم على استبدالهم هذه الأطعمة الدنيئة بما هو خير منها وأفضل.

قال قتادة: (" {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}، يقول: أتستبدلون الذي هو شرٌّ بالذي هو خير منه). وعن مجاهد: {الَّذِي هُوَ أَدْنَى} قال: أردأ).

وقوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} .

فيه إجابة دعوة موسى عليه السلام، والتأويل عند ابن جرير: فدعا لهم موسى ربَّه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم:{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} .

والهبوط النزول من مكان إلى مكان والحلول به. وأما مِصْر فقد اختلف فيها على قولين:

1 -

عن قتادة: ({اهْبِطُوا مِصْرًا}، أي مِصْرًا من الأمصار، {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}). وقال السدي: ({اهْبِطُوا مِصْرًا} من الأمصار، {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}. فلما خرجوا من التيه، رُفع المنّ والسلوى وأكلوا البقول). وقال مجاهد: (مِصرًا من الأمصار. زعمُوا أنهم لم يرجعوا إلى مصر). وقال ابن زيد: (مصرًا من الأمصار. و"مصرُ" لا تُجرى في الكلام. فقيل: أيُّ مِصْرٍ. فقال: الأرض المقدسة التي كتبَ الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21].

2 -

عن أبي العالية قال: (يعني به مصرَ فرعون).

قال أبو جعفر: (فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومَه ما سألوه من نبات الأرض -على ما بيّنَهُ الله جل وعز في كتابه- وهم

ص: 273

في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارًا من الأرض التي تُنْبتُ لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تُنبته إلا القُرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذْ صارُوا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار "مصرَ" وجائز أن يكون "الشأم").

والجمهور على قراءتها بالتنوين "اهبطوا مصرًا" فقد وردت هكذا في المصاحف. قال ابن كثير: (هكذا هو منوّن مصروف، مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف).

وقوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} .

الضرب هنا الإلزام، والعرب تقول: ضرب الحاكم على اليد: أي حمل وألزم. والذِّلة: الذّل والصغار. والمسكنة: الفقر. والمعنى: وُضعت عليهم الذلة والمسكنة وألزموا بها قدرًا وشَرْعًا، فلا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم، وهم في أنفسهم كذلك أذلاء مستكينون. فإلى أقوال المفسرين:

1 -

قال قتادة والحسن: (" {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}، قالا: يُعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون).

2 -

وقال أبو العالية: ("والمسكنة": الفاقة). وقال السدي فيها: (الفقر). وقال عطية: (الخراج).

7 -

وقال ابن زيد: (هؤلاء يهود بني إسرائيل).

قال ابن جرير: (فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يُبْدلهم بالعز ذُلًا، وبالنعمة بؤسًا، وبالرِّضا عنهم غضبًا، جزاءً منه لهم على كُفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءَه ورسلَه، اعتداءً وظلمًا منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافًا عليه).

4 -

وقال الحسن: (أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية).

وقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} .

أي: رجعوا وانصرفوا وقد استوجبوا سخطًا. قال الربيع: (فحدث عليهم غضب من الله). وقال الضحاك: (استحقوا الغضب من الله).

ص: 274

وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} .

تعليل لما أنزله الله بهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب، فقد استكبروا في الأرض عن اتباع الحق، وكفروا بآيات الله، وأهانوا حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، وما زالوا ينتقصوهم حتى أقدموا على قتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.

وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} . قال القرطبي: (تعظيم للشُّنْعة والذنب الذي أتوه).

وقال القاسمي: (وقوله {بِغَيْرِ الْحَقِّ} لم يخرج مخرج التقييد، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال، لمكان العصمة. بل المراد نعي هذا الأمر عليهم، وتعظيمه، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر، حملهم عليه اتباع الهوى، وحب الدنيا، والغلو في العصيان، والاعتداء، كما يفصح عنه قوله تعالى {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي: جرّهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر، وقتل الأنبياء عليهم السلام.

وقيل: كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم، كما أنه بسبب الكفر والقتل، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي، واعتدائهم حدود الله تعالى. وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب. إذ بدئ أولًا بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته. ثم ثُنِّي بما يتلوه في العظم، وهو قتل الأنبياء. ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم. ثم بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير، مثل الاعتداء. وهذا من لطائف أسلوب التنزيل).

قلت: ولا شك أن الكبر أقبح ذنب عُصي الله به في الأرض، فهو الذنب الأول الذي اقترفه إبليس وحقت به عليه اللعنة إلى يوم القيامة، ومن ثَمَّ فهو بريد الكفر والشرك والكبائر والمعاصي وسائر الآثام. وقد جاءت السنة الصحيحة بما يدل على هذا في أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود: [عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مِثْقال ذرَّة من كِبْر. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثَوْبُه حَسَنًا، ونَعْلُهُ حَسَنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْرُ: بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس](1).

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (91) - كتاب الإيمان - باب تحريم الكبر وبيانه، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 275

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: الكبرياء رِدائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار](1). وفي لفظ عند الحاكم: [الكبرياء رِدائي، فمن نازعني في ردائي قصمته].

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: [كنتُ لا أُحجَبُ عن النجوى، ولا عن كذا ولا عن كذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرّهاوي، فأدركته من آخر حديثه، وهو يقول: يا رسول الله، قد قُسِمَ لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحدًا من الناس فَضَلني بشراكين فما فوقهما، أفليس ذلك هو البغي؟ فقال: لا، ليس ذلك بالبغي، ولكن البغي مَنْ بطر، أو قال: سَفِهَ الحق وغمطَ الناس](2). يعني: ردّ الحق وانتقاص الناس والازدراء بهم والتعاظم عليهم.

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبيّ أو قتل نبيًّا، وإمام ضلالة، ومُمَثِّل من الممثلين](3).

وقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .

أي: فُعِل بهم ما فُعِل بسبب عصيانهم وتجاوزهم الحد. قال الأخفش: (أي بعصيانهم)، فالباء في "بما" باء السبب. والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء.

62.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} .

في هذه الآية: يبين سبحانه حال الأمم التي سلفت وكانت على الحق والإيمان والعمل الصالح، بأن جزاءها الحسنى، وهو شأن كل من اتبع الرسل ومضى على

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4090)، والحاكم نحوه. انظر صحيح الجامع الصغير (4185) - (4187)، وصحيح سنن أبي داود (3446)، ورواه أحمد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 385) ورجاله ثقات، ويشهد له الحديث الأول.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 407) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ورجاله ثقات.

ص: 276

منهاج النبوة إلى قيام الساعة، بعكس حال مَنْ مضى ذكره ممن عصى وآثر الهوى على الحق وانتهك المحارم.

أما "الذين آمنوا" فهم الذين صدّقوا محمدًا عليه الصلاة والسلام وعظّموا ما جاء به من عند ربه عز وجل. قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].

وذهب النسفي إلى أن المراد الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون، وهو كما قال سفيان:(المراد المنافقون). قال القرطبي: (كأنه قال: الذين آمنوا في ظاهر أمرهم، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين، ثم بيّن حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم).

قلت: والراجح القول الأول بأنهم المؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم المتابعين لهديه وشرعه وإلا فلا يسمى المنافقون بالذين آمنوا، وهذا المعنى هو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله.

وقوله: {وَالَّذِينَ هَادُوا} هم اليهود، يقال: هاد القوم يهودون هَودًا وَهَادَة. ومعنى هادوا: تابوا. قال ابن جريج: (إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]). وقال النسفي: (يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية وهو هائد والجمع هود).

وقال القرطبي: ({وَالَّذِينَ هَادُوا} معناه صاروا يهودًا، نُسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام، فقلبت العرب الذال دالًا، لأن الأعجمية إذا عُرِّبت غُيِّرت عن لفظها). وقال القاسمي: (وإنما لزمهم هذا الاسم، لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب). وقيل: (سُمّوا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل).

قال ابن كثير: (واليهود من الهوادة وهي المودة، أو التهود وهي التوبة، لقول موسى عليه السلام: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي: تبنا. فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض).

وقال أبو عمرو بن العلاء: (لأنهم يتهوّدون، أي يتحركون عند قراءة التوارة).

ص: 277

قلت: والراجح عندي ما جاء به النص، وهو قوله تعالى عنهم:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} فسمّوا بذلك لرجوعهم آنذاك وتوبتهم، ومثله قوله تعالى في هذه الآية:{وَالَّذِينَ هَادُوا} أي تابوا.

وقوله: {وَالنَّصَارَى} .

جمع، واحدهم نَصْران، كما واحد السَّكارى سكران، ولكن اشتهر في كلام العرب في واحد "النصارى" نصْراني، وفيه أقوال:

1 -

قال ابن جريج: (إنما سُمّوا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها "ناصرة"). وقال قتادة: (إنما سُمّوا نصارى، لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى بن مريم، فهو اسم تسمَّوا به، ولم يُؤمروا به).

قال الجوهري: (ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى، ويقال ناصرة).

وجاء في الإنجيل "يسوع الناصري" نسبة إلي ناصرة، لأنه رُبِّي بها عليه السلام.

2 -

وقيل: سُمّوا بذلك لنصرة بعضهم بعضًا.

قال ابن كثير: (فلما بعث عيسى عليه السلام وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم).

3 -

وقيل: سمّوا بذلك لنصرتهم عيسى عليه الصلاة والسلام.

وفي التنزيل: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] وقد يقال لهم: أنصار أيضًا. قال النسفي: (سموا نصارى لأنهم نصروا المسيح).

قلت: والراجح عندي القول الأول، وإن كان القول الثالث يصدق عليهم أحيانًا، كما قال تعالى في سورة المائدة:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} ، أي: ومن الذين ادّعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وينصرونه وليسوا كذلك.

وقوله: {وَالصَّابِئِينَ} .

جمع صابئ، وهو المستحدث سِوى دينه دينًا، كالمرتد عن دينه من أهل الإسلام، والعرب تسمي كل خارج من دين كان عليه إلى آخر صابئًا، وقد اختلف في المقصود بهم على أقوال:

1 -

قال مجاهد: (الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم).

ص: 278

وقال أيضًا: (الصابئون بين المجوس واليهود، لا تُؤكل ذبائحهم، ولا تُنكح نساؤهم).

وعن ابن أبي نجيح: ({وَالصَّابِئِينَ} بين اليهود والمجوس، لا دين لهم).

وقال ابن جريج: (قلت لعطاء: {وَالصَّابِئِينَ}، زعموا أنها قبيلة من نحو السواد، ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك، وقد قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: قد صَبَأ).

وقال ابن زيد: (الصابئون، أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عملٌ ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: "هؤلاء الصابئون"، يشبهونهم بهم).

2 -

قال قتادة: (الصابئون قوم يعبدون الملائكة، يُصلُّون إلى القبلة، ويقرؤون الزبور). وعن الحسن قال: حدثني زياد: (أن الصابئين يُصلون إلى القبلة، ويصلونَ الخمسَ. قال: فأراد أن يضَعَ عنهم الجزية. قال: فَخُبِّرَ بَعد أنهم يعبدون الملائكة).

وقال أبو العالية: (الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضًا أن الصابئين قومٌ يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، ويصلون إلى القبلة).

3 -

وعن سفيان قال: سئل السدّي عن الصابئين، فقال:(هم طائفة من أهل الكتاب). ولهذا قال أبو حنيفة: (لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم).

4 -

وعن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: (إنهم كالمجوس).

5 -

وقال الخليل: (هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مَهَبِّ الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام.

6 -

وقال بعض العلماء: (الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي).

قال القرطبي: (والذي تَحَصَّل من مذهبهم - فيما ذكره بعض العلماء - أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم، وأنها فعّالة، ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم).

ص: 279

واختار الحافظ ابن كثير: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه. قال:(ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ، أي إنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك).

وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك تفصيلًا جميلًا، فقال في كتابه - في الردّ على المنطقيين -: (إن حرّان كانت دار هؤلاء الصابئة، وفيها ولد إبرإهيم عليه السلام "أو انتقل إليها من العراق. على اختلاف القولين" وكان بها هيكل العلة الأولى. هيكل العقل الأول، هيكل النفس الكلية، هيكل زحل. هيكل المشتري. هيكل المريخ، هيكل الشمس. وكذلك الزهرة وعطارد والقمر. وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم. ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين، حتى جاء الإسلام. ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت. ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها، أطباء وكتابًا، وبعضهم لم يُسلم. وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية. وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي. وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء. فإن الصابئة نوعان: صابئة حنفاء موحّدون، وصابئة مشركون. فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية. فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا. من هذه الملل الأربع: المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين. فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل. والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل. وهذا بخلاف المجوس والمشركين، فإنه ليس فيهم مؤمن. فلهذا قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]. فذكر الملل الست هؤلاء، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة. لم يذكر في الست من كان مؤمنًا، وإنما ذكر في الأربعة فقط. ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين. والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين. وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئًا، ويؤمنون بأن الله محدِثٌ لهذا العالمَ، ويقرون بمعاد الأبدان، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم. ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه. وكذلك المشركون من الهند. وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر

ص: 280

عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين، هو أرسطو) انتهى (1).

وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .

أي: من صدّق وأقر بالبعث بعد الموت، ومضى في طاعة الله والتماس العمل الصالح ثابتًا على منهج الإيمان فلم يبدل ولم يغير حتى توفاه الله، فله ثواب عمله وأجره عند ربه.

قال القاسمي: (قوله تعالى {مَنْ آمَنَ} من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ، مصدقًا بقلبه بالمبدأِ والمعاد، عاملًا بمقتضى شرعه، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين. وذهب آخرون إلى أن معنى قوله: {مَنْ آمَنَ} من أحدث من هذه الطوائف، إيمانًا خالصًا بما ذكر. قالوا: لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام. وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه، فلا ملابسة له بالمقام، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات).

وجمع الضمير في قوله {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} وأفرد اللفظ في قوله {آمَنَ} لأن (مَنْ) يقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يرجع الضمير مفردًا ومثنّىً وجمعًا، كقوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ، ذكره القرطبي.

وقوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

قال ابن جرير: (ولا خوف عليهم فيما قدِموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده).

وعن مجاهد قال: (سأل سلمانُ الفارسيّ النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمتْ عليّ الأرضُ، وذكرت اجتهادهم، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا}. فدعا سلمان فقال: نزلت هذه الآية في أصحابك. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ماتَ على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي، فهو على خير، ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هَلك).

وعن ابن عباس قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} إلى قوله:

(1) وانظر مزيدًا من التفصيل في تفسير القاسمي ج (1) ص (140 - 148).

ص: 281

{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . فأنزل الله تعالى بعد هذا {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

قلت: ولا تعارض بين القولين، فإن من مات على التوحيد من أهل الكتاب وكان على شريعة عيسى أو موسى عليهما السلام ولم يسمع بِمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه يدخل في مفهوم الآية الأولى - آية البقرة - ومن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينجيه إلا الإيمان به والتزام شريعته فيكون داخلًا في الآية الثانية - آية آل عمران -.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلا كان من أصحاب النار](1).

وكذلك روى مسلم من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتَّبعَهُ وصَدَّقه فله أجران .. ] الحديث (2).

63 -

64. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}.

في هذه الآيات: يُذَكِّرُ سبحانه وتعالى بني إسرائيل بالعهود والمواثيق التي أخذها عليهم من الإيمان به وحده واتباع رسله، وقد رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بالعهد والميثاق ويأخذوه بقوة وعزيمة، كما قال جل ثناؤه في آية الأعراف:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} . ثم إنهم أعرضوا بعد البرهان وأخذ الميثاق، ولولا رحمته تعالى وتفضله عليهم بالتوبة لهلكوا، والخطاب لأحفادهم ليسمعوا ويعتبروا.

والطور هو الجبل في كلام العرب، وقيل هو جبل بعينه، وهو الذي ناجى الله عليه

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (153)، كتاب الإيمان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (154) - كتاب الإيمان، ورواه في كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها، عقب الحديث (1365).

ص: 282

موسى، وقيل هو من الجبال ما أنبت. فإلى أقوال المفسرين في ذلك:

1 -

قال مجاهد: (أمر موسى قومَه أن يدخلوا الباب سُجَّدًا ويقولوا {حِطَّةٌ}، وطُوطئ لهم البابُ ليسجدوا، فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهِم، وقالوا: حِنْطة. فنتق فوقَهم الجبل -يقول: أخْرَجَ أصْلَ الجبل من الأرض فرفعَه فوقهم كالظُّلة- و {الطُّورَ}، بالسريانية، الجبل- تخويفًا، أو خوفًا، شك أبو عاصم، فدخلوا سجدًا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلّى له ربّه).

وقال مجاهد: (رفع الجبل فوقهم كالسحابة، فقيل لهم: لتؤمنُنَّ أو ليقعَنَّ عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية {الطُّورَ}).

وقال قتادة: (الطورُ الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم، فقال: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} فأقروا بذلك). وقال: (الطور الجبل، كانوا بأصله، فرُفع عليهم فوق رؤوسهم، فقال: لتأخُذُنَّ أمْري، أوْ لأرمِيَنَّكم به).

وقال أبو العالية: (رفع فوقهم الجبل، يخوِّفهم به).

وقال السدي: (لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سُجدًا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، وقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّور}).

2 -

قال ابن جريج، قال ابن عباس:(الطور، الجبل الذي أنزلت عليه التوراة -يعني على موسى-، وكانت بنو إسرائيل أسفلَ منه. قال ابن جريج. وقال لي عطاء: رُفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}).

3 -

وقال الضحاك: قال ابن عباس: (الطور من الجبال ما أنبت، وما لم ينُبت فليس بطور).

وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} .

يعني: التوراة. وقوله {بِقُوَّةٍ} فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: بطاعة. قال أبو العالية: ({خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، قال: بطاعة).

ص: 283

التأويل الثاني: بجد. قال قتادة: (القوة: الجد، وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة).

وقال السدي: ({بِقُوَّةٍ}، يعني: بجدّ واجتهاد).

التأويل الثالث: بعمل. قال مجاهد: ({خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}. قال: تعملوا بما فيه). وقال أيضًا: (بقوة: بعمل بما فيه).

التأويل الرابع: بصدق وحق. قال ابن زيد: (خذوا الكتاب الذي جاء به موسى بصدق وحق).

قلت: ولا شك أن القوة تشمل العمل بالطاعة بجد وعزيمة وصدق وحق.

وقوله: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} .

قال الربيع: (يقول: اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به). قال: (أُمروا بما في التوراة).

وقال ابن زيد: (اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق، وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تُغفلوه).

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} .

قال ابن عباس: (تنزِعون عما أنتم عليه).

قال ابن جرير: (يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب، فاتلوه، واعتبروا به، وتدبّروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، بإصراركم على ضلالكم، فتنتهوا إلى طاعتي، وتنزعوا عما أنتم عليه من معصيتي).

وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} .

أي: أعرضتم. ومثل هذا التولي مذموم في القرآن:

قال سبحانه: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76].

وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15].

وفي لغة العرب: "ولّى فلان فلانًا دبره" إذا استدبر عنه وخلّفه خلف ظهره.

ص: 284

قال القرطبي: (وأصله الإعراض والإدبار عن الشي بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعًا ومجازًا).

وقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} .

أي: من بعد البرهان، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل، فنبذتموه وراء ظهوركم.

وقوله: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

أي: ولولا تفضّله سبحانه عليكم بالتوبة بعد نكثكم العهد وتجاوز ما كان منكم لهلكتم، والخطاب وإن كان لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فإنما هو خبر عن أسلافهم، ويحمل في ثناياه تهديدًا للسامعين إن مضوا على سنة آبائهم.

وعن أبي العالية: ({فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، قال: "فضل الله"، الإسلام، {وَرَحْمَتُهُ}، القرآن).

65 -

66. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}.

في هذه الآيات: يُذَكِّرُ الله سبحانه اليهود ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله باحتيالهم على ما أمروا به من تعظيم السبت وترك الصيد فيه، فتحيّلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوه لها من الحبائل والشصوص والبرك قبل يوم السبت، ليجمعوها بعد انقضاء السبت بغيًا ولعبًا على الشرع والأمر. فلما فعلوا ذلك مسخهم الله في صورة القردة، وجعلهم عبرة إلى يوم القيامة.

قال الحافظ ابن كثير: (وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر، وليست بإنسان حقيقة. فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم).

وقد ذكر الله سبحانه القصة أيضًا في سورة الأعراف حيث قال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ

ص: 285

شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. فإلى ذكر بعض أقوال المفسرين:

1 -

عن الضحاك، قال ابن عباس:({وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: أحذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني، اعتدوا - يقول: اجترؤوا - في السبت. قال: لم يبعث الله نبيًّا إلا أمره بالجمعة، وأخبره بفضلها وعِظَمها في السماوات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبعَ الأنبياء فيما مضى، كما اتبعت أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا، قبِل الجمعة وسَمع وأطاع، وعرف فصلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم. ومن لم يفعل ذلك، كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها -: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السماوات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسَبَتَ له كل شيء مطيعًا يوم السبت، وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى بن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له: كيف تأمُرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيِّدها، والأول أفضل، والله واحد، والواحد الأولى أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحدَ، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا.- مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت -: أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكًا ولا غَيره، ولا يعملون شيئًا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}، يقول: ظاهرة على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدًا كسائر الأيام فهو قوله: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ}. ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذِرَ العقوبَة التي حذّرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحلّ بهم، عادوا، وأخبرَ بعضهم بعضًا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء، فكثَّروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلًا. وهو قول الله جل ثناؤه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} - يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بِمعصيتهم).

ص: 286

2 -

وعن عكرمة، قال ابن عباس. (وكانوا في قرية بينَ أيْلة والطور يقال لها:"مَدْين". فحرّم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدَها وأكلها. وكانوا إذا كان يومُ السبت أقبلت إليهم شُرَّعًا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن. قال: حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان، عمد رجلٌ منهم فأخذ حوتًا سرًّا يوم السبت، فخرمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوْتَدَ له وتدًا في الساحل فأوثقه، ثم تركه، حتى إذا كان الغدُ، جاء فأخذه - أي: إني لم آخذه في يوم السبت - ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناسُ ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريحَ الحيتان! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرًّا زمانًا طويلًا، لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقية (1): ويحكم! اتقوا الله! ونَهَوْهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفةٌ أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} لسخطنا أعمالهم - {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا الناس فلا يَرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنًا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوا ليلًا فغلّقوها على أنفسهم، كما يُغَلِّقُ الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: فلولا ما ذكر الله أنّه أنجى الذين نَهَوْا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} ).

3 -

وقال قتادة: (أحلت لهم الحيتان، وحُرِّمت عليهم يوم السبت بلاءً من الله، ليعلمَ من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونْهى عن المعصية، وأما صنف فأمسك عن حُرْمة الله، وأما صنف فانتهك حُرْمَة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال الله لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، فصاروا قردة لها أذنابٌ، تَعاوى، بعد ما كانوا رجالًا ونساءً).

4 -

وقال السدي - في الذين اعتدوا في السبت -: (فاشتهى بعضهم السمك، فجعل

(1) هم أهل التمييز والفهم، يبقون على طاعة الله والتمسك بأمره.

ص: 287

الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرًا إلى البحر. فإذا كان يومُ السبت فتح النهر، فأقبل الموجُ بالحيتان يضربُها حتى يلقيها في الحفيبرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر. فيمكث فيها. فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي السَّمك، فيجد جارُه ريحَه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جارُه).

وقوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .

قال مجاهد: (صاغرين). وقال الربيع: (أي أذلة صاغرين). وقال الضحاك عن ابن عباس: (خاسئًا، يعني ذليلًا).

وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا} .

فيه قولان عن ابن عباس وثلاثة أقوال عن غيره:

1 -

عن الضحاك، عن ابن عباس:({فَجَعَلْنَاهَا فجعلنا تلك العقوبة - وهي المَسخة - {نَكَالًا}).

2 -

عن ابن عباس: ({فَجَعَلْنَاهَا}، يعني الحيتان).

3 -

قيل: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت.

4 -

قيل: فجعلنا القردة الذين مُسخوا {نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} .

5 -

قيل: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت {نَكَالًا} .

وكلها أقوال متقاربة تفيد الاعتبار بما نزل بهؤلاء القوم المكرة العصاة.

وقوله: {نَكَالًا} .

قال ابن عباس: (يقول: عقوبة).

وقوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} .

فيه تفاسير متقاربة:

1 -

عن ابن عباس: ({لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} يقول: ليحذرَ مَنْ بعدهم عُقوبتي. {وَمَا خَلْفَهَا} يقول: الذين كانوا بقُوا معهم).

وقال الربيع: ({لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا}، لما خَلا لهم من الذنوب، {وَمَا خَلْفَهَا} أي: عبرة لمن بقِيَ من الناس).

2 -

قال ابن عباس: ({فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}، أي: من القُرَى).

ص: 288

3 -

قال قتادة: (قال الله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} - من ذنوب القوم - {وَمَا خَلْفَهَا}، أي: للحيتان التي أصابوا). وفي رواية: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} ، من ذنوبها، {وَمَا خَلْفَهَا} من الحيتان). وقال مجاهد:({لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا}، ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به).

وقال: (يقول: {بَيْنَ يَدَيْهَا} ما مضى من خطاياهم، {وَمَا خَلْفَهَا} خطاياهم التي هلكوا بها).

4 -

وقال السدي: (أمّا {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} فما سلف من عملهم، {وَمَا خَلْفَهَا}، فمن كان بعدهم من الأمم، أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك).

5 -

وقال ابن عباس: (يعني الحيتان، جعلها نكالًا {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}، من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان، وما عملوا بعد الحيتان. فذلك قوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}).

واختار ابن جرير في قوله "نكالًا" أنه عنى به العقوبة، والتأويل:(فجعلنا عقوبتنا لهم بالمسخ عقوبة لذنوبهم السالفة ولمن خلفهم ألا يعمل عملهم فيعاقب بمثل عقوبتهم).

واختار ابن كثير أن الضمير في جعلناها عائد على القوية، أي فجعل الله هذه القرية، والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم {نَكَالًا} أي: عاقبناهم عقوبة، فجعلناها عبرة، لما حولها من القرى.

وهذا كما قال تعالى في آية الأحقاف: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وكما ذكر سبحانه في آية الرعد: {وَلَا يَزَال الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ

}. وكما قال في آية الأنبياء: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا .. } .

قلت: وكلا التأويلين منسجم مع السياق ما قبله وما بعده.

ثم قال تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} .

قال ابن عباس: (يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين).

وقال: (يقول: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون طاعتي). وقال: ({وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} إلى يوم القيامة). وقال قتادة: ({وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}، أي: بعدهم). وقال

ص: 289

السدي: (أما {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}، فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم). وقال الربيع: (فكانت موعظة للمتقين خاصة).

و{وَمَوْعِظَةً} وزنها مَفْعِلة، من الاتعاظ والانزجار. والوعظ: التخويف.

قال الخليل: (الوعْظ: التذكير بالخير فيما يرق له القلب).

ولا شك أن اللفظ يعم كل متّق بعدهم إلى يوم القيامة.

يروي ابن بطة بسند حسن عن محمد بن عمرو عن أبي مسلمة، عن أبي هريرة:[أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فَتَسْتَحِلّوا محارمَ الله بأدنى الحِيَل](1).

فائدة (1): لم يجعل الله لذلك المسخ من بني إسرائيل نسلًا.

ففي صحيح مسلم ومسند أحمد عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى لم يجعلْ لمسخٍ نسْلًا، ولا عَقِبًا، وقد كانت القِردة والخنازير قبلَ ذلك](2).

فائدة (2): هذه الأمة مهدّدة بمسخ إذا ظهرت فيها القيان والمعازف وشربت الخمور.

فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[في هذه الأمة خسْفٌ، ومسْخٌ، وقذْف، إذا ظهرت القِيانُ والمعازِفُ، وشربت الخُمور](3).

67.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَال أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)} .

في هذه الآية: ابتداء ذكر قصة البقرة التي أمِر بنو إسرائيل بذبحها والتي سميت بها هذه السورة.

(1) إسناده حسن، رجاله ثقات، إلا أنه ليس على شرط الصحيح، لأن محمد بن عمرو روى له الشيخان متابعة، وهو حسن الحديث. انظر تفسير ابن كثير (476) - تحقيق المهدي.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2663) - كتاب القدر، ح (32)، وهو جزء من حديث طويل.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2212)، وانظر صحيح سنن الترمذي (1801).

ص: 290

قال ابن جرير: (وهذه الآية مما وبّخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل، في نَقْض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه، فقال لهم: واذكروا أيضًا من نكْثكم ميثاقي، {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ} - وقومه بنو إسرائيل، إذ ادّارؤوا في القتيل الذي قُتل فيهم إليه - {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}).

وقال ابن كثير: (يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم).

قال القرطبي: (البقرة اسم للأنثى، والثَّور اسم للذكر، مثل ناقة وجمل، وامرأة ورجل. وقيل: البقرة واحد البقر، الأنثى والذكر سواء. وأصله من قولك: بقَرَ بطنه، أي شقّه، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره. ومنه الباقر لأبي جعفر محمد بن علي زين العابدين، لأنه بقَرَ العلم وعرف أصله، أي شقّه).

والقصة في ذلك - كما رواها ابن جرير - عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني قال:(كان في بني إسرائيل رجلُ عقيم - أو عاقر - قال: فقتله وليُّه، ثم احتمله فألقاه في سِبْط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولوا النُّهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله؟ قال: فأتوا نبي الله. فقال: اذبحوا بقرة).

وعن أبي العالية قال: (كان رجل من بني إسرائيل، وكان في غنيًّا ولم يكن له ولد، وكان له قريبٌ وارثَه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى فقال له: إن قريبي قُتل وأُتي إليّ أمرٌ عظيم، وإني لا أجد أحدًا يبيّن لي مَنْ قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشُدُ الله مَنْ كان عنده من هذا علم إلا بيّنَه لنا. فلم يكن عندهم علمه. فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله، فاسأل لنا ربك أن يبيِّنَ لنا. فسأل ربه، فأوحى الله إليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}. فعجبوا وقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَال أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، {قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَال إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ} - يعني: لا هَرمة - {وَلَا بِكْرٌ} - يعني ولا صغيرة - {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} - أي: نَصف، بين البكر والهرمة - {قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَال إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي: صاف لونها - {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} - أي: تعجب الناظرين - {قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَال إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} - أي: لم يُذللها العمل - {تُثِيرُ الْأَرْضَ} - يعني: ليست بذلول فتثير الأرض- {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} - يقول: ولا تعمل في الحَرْث -

ص: 291

{مُسَلَّمَةٌ} - يعني مسلَّمة من العيوب - {لَا شِيَةَ فِيهَا} - يقول: لا بياض فيها- {قَالوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا:{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} ، لما هُدوا إليها أبدًا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نُعِتَتْ لهم، إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيِّمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يَزْكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم فشدّدتم على أنفسكم، فأعطوا رضَاها وحُكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عَظْمًا منها فيضربُوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمّى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا كما كان. فأخذوا قاتله - وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه - فقتله الله على أسوأ عمله).

وفي رواية السدي: (فقال: اذبحوها. فذبحوها فقال: اضربوه ببعضها. فضربوه بالبَضعةِ التي بين الكتفين، فعاشَ، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، وآخُذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه).

وفي رواية عبيدة السابقة: (فضُرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرةُ إلا بوزنها ذهبًا، قال: ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يُورَّث قاتل بعد ذلك).

وفي رواية للسدي فيها تفصيل، قال: (كان رجل من بني إسرائيل مكثرًا من المال، وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله. ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته. فأتاه الفتى وقد قدم تجّار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أن أصيب منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلًا، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو! فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي، فأدّوا إليّ دِيَتَه، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينادي: واعمّاه. فرفعهم إلى موسى عليه السلام فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه،

ص: 292

فيؤخذ صاحب الجريمة، فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحيي أن نُعَيَّر به، فذلك حين يقول تعالى:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ، فقال لهم موسى عليه السلام:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة. أتهزأ بنا! {قَال أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ).

قال القرطبي: (في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد).

68 -

71. قوله تعالى: {قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَال إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَال إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَال إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}.

في هذه الآيات: وصف جدال بني إسرائيل موسى عليه السلام في شأن البقرة، وتعقيد أمرها حتى قابلهم الله تعالى بتعقيد أشد في شأنها.

قال ابن عباس: (لما قال لهم موسى: {قَال أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. قالوا له يتعنّتونه: {قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}).

فلما تكلفوا جهلًا منهم ما تكلفوا، وكانوا أظهروا لموسى من سوء الظن به بقولهم {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} عاقبهم الله سبحانه بحصر نوع خاص من البقر ليذبحوا منه واحدة، وما زالوا يسألونه دقائق من التفصيل وهو يحصرها لهم ويزيدهم بذلك عناء.

فقال جل ذكره: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} .

وقوله: {لَا فَارِضٌ} أي: لا مُسِنَّةٌ هرمة. من (فرضت البقرة تفرِضُ فُروضًا) إذا أسنَّتْ. فإلى أقوال المفسرين في ذلك:

1 -

عن مجاهد: ({لَا فَارِضٌ}، قال: لا كبيرة).

ص: 293

2 -

عن ابن عباس: (يقول: ليست بكبيرة هرمة). وقال: (الفارض: الهَرِمة).

3 -

عن قتادة قال: ("الفارض" الهرمة. يقول: ليست بالهرمة ولا البكر، عَوانٌ بين ذلك).

4 -

عن السدي: ("الفارض"، الهرمة التي لا تلد).

وقوله: {وَلَا بِكْرٌ} .

أي: صغيرة. قال أبو جعفر: (و"البِكرُ" من إناث البهائم وبني آدم، ما لم يفتَحِلْه الفَحْل). قال مجاهد: ({وَلَا بِكْرٌ}، صغيرة. قال: "البِكْر"، الصغيرة).

وقال ابن عباس: (ولا صغيرة ضعيفة). وقال السدي: (لم تلدْ إلا ولدًا واحدًا).

وقوله: {عَوَانٌ} .

أي: بين الصغيرة والكبيرة. قال أبو جعفر: ("العَوان" النَّصَفُ التي قد ولدت بطنًا بعد بطن، وليست بنعت للبكر). وقد تواترت أقوال المفسرين بنحو ذلك:

1 -

عن مجاهد: ({عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}، وسَطٌ، قد ولدت بطنًا أو بطنين).

وقال: ("العَوان"، العانِسُ النَّصَف). وقال: ("العوان"، النَّصَف).

2 -

عن عكرمة: ({عَوَانٌ}، قال: بين ذلك).

3 -

عن ابن عباس: ({عَوَانٌ}، قال: بين الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما تكون من البقر والدواب، وأحسنُ ما تكون). وقال ابن زيد: ("العوان"، بين ذلك، ليست ببكر ولا كبيرة).

4 -

عن خصيف، عن مجاهد:({عَوَانٌ}، التي تُنْتج شيئًا بشرط أن تكون التي قد نُتِجَت بَكْرة أو بَكْرَتين). وقال السدي: ("العوان"، النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولَدُها).

وقوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} .

أي بين البكر والهرمة. قاله أبو العالية.

وقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} .

تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّت.

قال القرطبي رحمه الله: (وهذا يدل على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقوله

ص: 294

الفقهاء، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه، وعلى أن الأمر على الفَوْر، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضًا. ويدلّ على صحة ذلك أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فِعْل ما أمِروا به فقال:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ).

وقوله تعالى: {قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَال إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} .

الآية تشير إلى استمرار بني إسرائيل في التعنت وفلسفة الأمر الإلهي بدلًا من الاستسلام والمباشرة بالتنفيذ. و {مَا} استفهام في محل رفع مبتدأ، و {لَوْنُهَا} الخبر، والتقدير: أي شيء لونُها؟ واللون واحد الألوان.

وفي قوله {صَفْرَاءُ} أكثر من تأويل:

التأويل الأول: سوداء شديدة السواد، قال الحسن:({صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا}، قال: سوداء شديدة السواد).

التأويل الثاني: صفراء القَرْن والظِّلف. فعن الحسن في قوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} ، قال:(كانت وحشية). وقال: (صفراء القَرن والظِّلف). وهو قول سعيد بن جبير.

التأويل الثالث: صفراء اللون. قال القرطبي: (جمهور المفسرين أنها صفراء اللون، من الصُّفرة المعووفة. قال مكيّ عن بعضهم: حتى القَرْن والظِّلف).

قلت: والتأويل الثالث هو الراجح، فهو المشتهر عند العرب بالفقوع، وقد أكدّ الله سبحانه بذلك بقوله:{فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي: خالصًا لا لون فيها سوى لون جلدها. قال مجاهد: (لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم).

وقوله: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال قتادة: (هي الصافي لونها). وقال أبو العالية: (أي صاف لونها).

2 -

قال السدي: (نَقِيٌّ لونها).

3 -

قال ابن عباس: (شديدة الصفرة، تكاد من صُفرتها تبيضُّ).

4 -

وقال عطية العوفي: (تكاد تسود من صفرتها).

ص: 295

وقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} .

أي: تعجبهم. يعني تعجب الناظر إليها في حُسن خَلقها ومَنْظرها وهيئتها.

قال وهب: (إذا نظرت إليها يخيَّل إليك أنّ شُعاع الشمس يخرج من جلدها). وقال قتادة والسدي: (أي تعجب الناظرين).

وقوله تعالى: {قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} .

فقد سألوا سؤالًا رابعًا، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان، وتشدّدوا فشدّد الله عليهم. ولذلك حذر الله ورسوله المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من اتباع طريقة اليهود مع أنبيائهم.

فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].

قال ابن كثير: (ولهذا قال: "رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصِلوه أذىً)(1).

قلت: وفي هذه الأمة تقليد مقيت لأهل الكتاب حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [لتتبعن سُنَنَ الذين من قبلكم، شِبرًا بشبر، أو ذِراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٍّ لسلكتموه، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فَمَنْ؟ ](2).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثره سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منْه ما استطعتم، وإذا لهيتكم عن شيء فدعوه](3).

قال المناوي: (أي اتركوني من السؤال {مِمَّا تَرَكْتُمْ} أي مدة تركي إياكم من الأمر بالشيء والنهي عنه، فلا تتعرضوا لي بكثرة البحث عما لا يعنيكم في دينكم مهما أنا

(1) تفسير ابن كثير. سورة الصف. آية 61.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3456)، و (7320)، وأخرجه مسلم (2669) - كتاب العلم.

وأخرجه أحمد وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (1337) - كتاب الحج. ورواه بعض أهل السنن. انظر صحيح الجامع (3424).

ص: 296

تارككم لا أقول لكم شيئًا، فقد يوافق ذلك إلزامًا وتشديدًا، وخذوا بظاهر ما أمرتكم ولا تستكشفوا كما فعل أهل الكتاب .. ).

فهؤلاء اليهود تابعوا في التنطع والسؤال عن تفاصيل ودقائق من الأمر كان أولى بهم أن لا يخوضوا بها.

قال ابن عباس: (لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم).

وقال عبيدة: (لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم).

وقال عكرمة: (ولولا قولهم: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}، لما وجدوها).

وقال أبو العالية: (ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}، لما هُدوا إليها أبدًا).

وقوله: {تَشَابَهَ عَلَيْنَا} - يعني التبس علينا لكثرته.

قال النسفي: (إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا).

وقوله: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} .

أي لمعرفتها بنعتها.

قال القرطبي: (استثناء منهم، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابةٌ ما وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر).

وقوله تعالى: {قَال إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} .

{لَا ذَلُولٌ} أي: لم يذللها العمل وإثارة الأرض بأظلافها، ولا سُني عليها الماءُ فيُسقى عليها الزرع.

قال قتادة: (قوله: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ}، يقول: صَعبة لم يُذِلها عملٌ). وقال السدي: (يقول: بقرة ليست بذَلول يُزْرع عليها، وليست تسقي الحرث). وقال أبو العالية: ({إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ}، أي لم يذللها العمل. {تُثِيرُ الْأَرْضَ} يعني: ليست بذلول فتثير الأرض).

وإثارة الأرض في لغة العرب قَلْبُها للزرع ولاستئناف العمل فيها.

ص: 297

وقوله: {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} .

قال الربيع: (لا تعمل في الحرث).

وقوله: {مُسَلَّمَةٌ} . فيه أقوال متقاربة:

1 -

عن مجاهد: (يقول: مسلمة من الشِّيَة، و {لَا شِيَةَ فِيهَا}، لا بياضَ فيها ولا سواد).

2 -

عن قتادة: (أي مسلّمة من العيوب). وقال: (لا عيب فيها).

3 -

عن ابن عباس: (لا عوار فيها).

واختار ابن جرير قول ابن عباس وقتادة على قول مجاهد، وقال:(لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سِوى لون جلدها، لكان في قوله: {مُسَلَّمَةٌ} مكتفى عن قوله: {لَا شِيَةَ فِيهَا}). وهو اختيار قوي ذهب إليه أيضًا ابن كثير والقرطبي.

وقوله: {لَا شِيَةَ فِيهَا} .

قال قتادة: (أي لا بياض فيها). وقال مجاهد: (أي لا بياض فيها ولا سواد). وقال عطية: (لونها واحد، ليس فيها سِوى لونها).

وقال السدي: ({لَا شِيَةَ فِيهَا} من بياض ولا سَواد ولا حمرة).

وقال ابن زيد: (هي صفراء، ليس فيها بياض ولا سواد).

وقوله: {قَالوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} .

قال قتادة: (أي الآن بيَّنت لنا). وقال ابن زيد: (وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق).

وقوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} .

أي: قاموا بذبحها ولكنهم قاربوا أن لا يفعلوا.

وفيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: كادوا أن يُضيعوا فرض الله عليهم بذبحها لغَلاء ثمنها.

قال محمد بن كعب القرظي: ({فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}: من كثرة قيمتها).

وفي لفظ: (لغلاء ثمنها). ونفى ذلك ابن كثير بحجة أن روايات غلاء ثمن البقرة لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل. وذكر رواية عن عكرمة قال: (ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير) وقال: إسنادها جيد.

ص: 298

التأويل الثاني: كادوا أن لا يفعلوا خوف الفضيحة بكشف القاتل. ذكره ابن جرير دون سند واختاره مع الذي قبله.

التأويل الثالث: بل أرادوا التعنت والتنطع ومخالفة الأمر.

قال الضحاك، عن ابن عباس:(كادوا أن لا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها).

واختاره الحافظ ابن كثير وقال: (يعني أنهم مع هذا البيان، وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذمّ لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها).

قلت: والذي ذهب إليه ابن كثير رحمه الله يتناسب مع حال بني إسرائيل وسلوكهم مع أنبيائهم، فإنهم كانوا يحبون الجدل والفلسفة للهروب من الأمر والتكليف. قال القرطبي:(وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله).

فائدة: في الآية دليل على جواز السَّلَم في الحيوان إذا حصرت صفاته وضبطت، وهو مذهب مالك والشافعي والأوزاعي. فإن الوصف الدقيق يقوم مقام التعيين. وفي الحديث:[لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظر إليها]. وفي لفظ: [لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها](1). فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية. في حين ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز السَّلَم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله، والرأي الأول أرجح ويدعمه الدليل.

72 -

73. قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}.

في هذه الآيات: هذا الكلام مقدّم على أول القصة، وبسبب هذا القتل أمرهم الله بذبح البقرة.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5240)، وأخرجه مسلم برقم (338)، وأخرجه أحمد في المسند (1/ 440)، وغيرهم.

ص: 299

فقوله: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} .

يعني: فاختلفتم وتنازعتم. قال البخاري: ({فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}: اختلفتم).

وقال مجاهد: (اختلفتم فيها). وقال الضحاك: (اختصمتم فيها). وقال ابن جريج: (قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال الآخرون: أنتم قتلتموه). وقال ابن زيد: (اختلفتم، وهو التنازع، تنازعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه، وقال هؤلاء: لا).

قال ابن جرير: (وإنما أصل {فَادَّارَأْتُمْ} فتدارأتم، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال. قال: فأدغمت التاء في الدال، فجعلت دالًا مشددة).

وقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} .

أي: مظهر ما كنتم تُسِرّون.

قال مجاهد: (ما كنتم تُغَيِّبُون). والمقصود معرفة القاتل.

وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} .

أي اضربوا القتيل ببعض البقرة التي أمرتم بذبحها. وفيه أكثر من تأويل:

1 -

ضُرب بفخذ البقرة. قال مجاهد: (ضُرِبَ بفخذ البقرة فقام حيًّا فقال: قتلني فلانٌ. ثم عاد في ميتته). وقال قتادة: (ذُكرَ لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله فأنبأ بقاتله الذي قتله، وتكلم ثم مات).

2 -

ضُرب بالبَضْعَة التي بين الكتفين. قال السدي: (فضربوه بالبَضْعَة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال: لهم. ابن أخي).

3 -

ضُرب بعظم من عظامها. قال أبو العالية: (أمرهم موسى أن يأخذوا عَظْمًا منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمّى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا كما كان. فأخِذ قاتله، وهو الذي أتى موسى فشكا إليه، فقتله الله على أسوأِ عمله).

4 -

ضُرب ببعض آرابها. قال ابن زيد: (ضربوا الميت ببعض آرابها فإذا هو قاعد - قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السِّبط، أراد أن يأخذ دِيَته).

قلت: ولا شك أنه لا دلالة في الآية أو بخبر تقوم به الحجة على ترجيح قول على قول، وإنما الأمر يبقى على إطلاقه، وهو ضرب الميت ببعض أجزاء البقرة ليحيا المقتول بإذن الله فيُعَيِّن قاتله.

ص: 300

وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} - أي فضربوه فحيي.

والآية رد على مشركي العرب المكذبين بالبعث بعد الموت، فجعل سبحانه إحياء القتيل حجة على المعاد، إذ كانوا يعلمون ذلك من علم بني إسرائيل وكتبهم رغم العناد.

وقوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

قال القاسمي: (لتكونوا برؤية تلك الآيات على رجاء من أن يحصل لكم عقل، فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره، مما تخبر به الرسل عن الله تعالى).

فائدة: استدل الإمام مالك رحمه الله بالآية السابقة على صحة القول بالقَسَامة بقول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني لوثًا. والمقصود باللوث: أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل. أو يرى المقتول يتشحط بدمه، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل - ذكره القرطبي -. وقال الذين ذهبوا مذهب مالك أن القتيل - في القصة السابقة - لما حَيِي سُئِل عمن قتله فقال: فلان قتلني. فكان ذلك مقبولًا منه، لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يُتَّهَمُ والحالة هذه.

ورجّحوا ذلك بما جاء في الصحيحين عن أنس: [أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان أو فلان؟ حتى سُمي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرُضَّ رأسه بالحجارة](1).

74.

قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} .

في هذه الآية: المقصود كفار بني إسرائيل الذين شاهدوا من آيات الله العظيمة ما يُليِّن القلوب ويُثَبِّت الإيمان، ومن ذلك إحياؤه تعالى الموتى وتكلمهم بإذن الله، ثم مع ذلك قست قلوبهم أي جَفَّت وغلظت وعَسَتْ. والقسوة الصلابة والشدة واليُبْس، وقلوب العباد في ليتها وقسوتها أنواع.

(1) متفق عليه. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (6876)، وصحيح مسلم (1672).

ص: 301

قال قتادة: ({ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى، وبعد ما أراهم من أمر القتيل - ما أراهم، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}).

وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} .

أي: لا تلين أبدًا، {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} من الحجارة، وذلك بالعطف على معنى الكاف. أو على معنى تكرير {هِيَ} عليه، والتقدير: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة -ذكره ابن جرير-.

قال ابن كثير: (ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَال عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}).

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن قلوبَ بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلبٍ واحد، يصرِّفه حيث شاء](1).

وفي المسند أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: [دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أن يدعوَ بها: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قالت: فقلت: يا رسول الله! إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء. فقال: إن قلب الآدمي بين أصبعين من أصابع الله عز وجل فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه](2).

وقوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} .

قال القاسمي: (بيان لأشدية قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} أي: يتشقق {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} أي العيون التي هي دون الأنهار {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي: يتردّى من رأس الجبل من خشية الله، انقيادًا لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة، قاله القاشاني).

وذكر ابن جرير بسنده عن مجاهد قال: (كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقّق عن

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 51)، وانظر مختصر صحيح مسلم (1851)، ورواه أحمد.

(2)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (2/ 168)، (2/ 173)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1689).

ص: 302

ماء، أو يتردَّى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن).

وقال قتادة: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، ثم عَذَرَ الحجارة ولم يعذِر شقيَّ ابن آدم. فقال:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} )

وقال ابن جريجٍ: (كل حجر انفجر من ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردّى من جبل، فمن خشية الله. نزل به القرآن).

وقد اختلف في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله على أقوال:

القول الأول: قيل إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيُّؤ ظلاله.

القول الثاني: قيل بل ذلك الجبل الذي صار دكًّا إذ تجلّى له ربه.

القول الثالث: قيل ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم، فعقل طاعة الله فأطاعه، كحنين الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه.

القول الرابع: قيل بل المراد أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع. فقوله:{يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} كقوله: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، ولا إرادة له. وكقول جرير بن عطية:

لما أتى خبرُ الرسول تَضَعْضَعَت

سُور المدينة والجبال الخشَّعُ

القول الخامس: قيل بل معنى قوله {يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، أي: يُوجب الخشية لغيره.

القول السادس: قيل: هو سقوط البَرَد من السحاب. ذكره أبو علي الجُنائي، واستبعده القاضي الباقلاني.

القول السابع: قيل بل هو بكاء القلب من غير دموع العين. واستبعده الرازي والقرطبي.

قلت: وقد ثبت في التنزيل خشية الجمادات من عظمة الله سبحانه وشرعه وأمره مما يكون تفسيرًا للآية السابقة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، ومن ذلك:

1 -

قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].

ص: 303

2 -

وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].

3 -

وقال جل ثناؤه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6].

4 -

وقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72].

5 -

وقال جل ذكره: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48].

6 -

وقال عز وجل: {قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].

7 -

وقال تعالى: {وَقَالوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].

وكذلك فقد حفلت السنة الصحيحة بتحرك الحجر أو الشجر من خشية الله وتعظيم أمره مما شاهده النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وإن كانت الآية تبقى عامة حتى فيما لم يشاهد.

وتفصيل ذلك:

1 -

يروي البخاري وأحمد - واللفظ له - عن جابر قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في أصل شجرة أو قال إلى جذع ثم اتخذ منبرًا. قال: فحَنَّ الجذع. قال جابر: حتى سمعه أهل المسجد حتى أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحه فسكن. فقال بعضهم: لو لم يأته لحنّ أبدًا إلى يوم القيامة](1).

2 -

يروي الإمام مسلما في صحيحه عن جابر بن سَمُرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني لأعْرف حجرًا بمكة كان يُسَلِّم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعْرِفُهُ الآن](2).

3 -

وفي سنن ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليأتِيَنَّ هذا الحجر يوم القيامة له عينان يُبصر بهما، ولسانٌ ينطق به، يشهد على من استلمه بحق]" (3). وقوله: "هذا الحجر" يعني الحجر الأسود.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (9118)، وأحمد (3/ 306)، وغيرهما.

(2)

صحيح مسلم (2278) - كتاب الفضائل. "باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق".

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي، في السنن وابن ماجة (2944)، والبيهقي. انظر صحيح سنن ابن ماجة (2382). وانظر رسالتي:"الحج والعمرة"(27).

ص: 304

4 -

وفي صحيح مسلم من حديث أنس قال: [فكنت أخدُمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث: ثم أقبل، حتى إذا بدا له أحُدٌ قال: هذا جبل يُحبنا ونحِبُّه](1).

5 -

أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أنس قال: [جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين قد خُضِّبَ بالدماء، قد ضربَهُ أهل مكة، فقال: مالك؟ قال: فعل بي هؤلاء وفعلوا. قال: أتحبُّ أن أرِيكَ آية؟ قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي قال: ادْعُ تلك الشجرة، فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه. قال: قل لها فلترجع فقال لها، فرجعت حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حَسْبي](2).

6 -

أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المؤذن يُغفر له مدى صوتِه، ويشهد له كلُّ رطب ويابس .. ] الحديث (3).

وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

الخطاب للمكذبين بالقرآن، والجاحدين نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، من بني إسرائيل وأحبار اليهود. قال ابن جرير:(فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها، بل هو لها مُحْصٍ، ولها حافظ).

وفي التنزيل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة].

75 -

77. قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1365) - كتاب الحج، ورواه البخاري.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4028) - كتاب الفتن. انظر صحيح ابن ماجة (3254).

(3)

حسن صحيح. انظر صحيح أبي داود (528)، وصحيح سنن ابن ماجة (592)، ورواه أحمد.

ص: 305

لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}.

في هذه الآياتِ: الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يا أصحاب محمد! أفترجون أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل ويتابعوا نبيكم ويحتكموا لقرآنكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يغيرونه من بعد ما فهموه وهم يعلمون أنهم مفترون. وإذا لقي منافقو اليهود أصحاب محمد قالوا آمنا، وإذا رجع بعضهم إلى بعض قالوا أتكشفون لهؤلاء صفة نبيهم في التوراة ليخاصموكم عند ربكم أفلا تعقلون، أولا يعلم هؤلاء المنافقود أنّ الله يعلم سرهم ونجواهم ويعلم ما يكسبون.

قال الربيع: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} ، يعني أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} ، يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود).

وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} .

يعني من بني إسرائيل - إشارة إلى الآباء - إذا هم فرع عنهم باتباع منهاجهم في التكذيب.

وقوله: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال مجاهد: (فالذيق يحرِّفونه، والذين يكتمونه، هم العلماء منهم).

2 -

قال السدي: (هي التوراة، حرَّفوها).

3 -

قال ابن زيد: (التوراة التي أنزلها عليهم، يحرِّفونها، يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرامَ فيها حلالا، والحق فيها باطلًا، والباطل فيها حقًّا، إذا جاءهم المُحِقّ برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محقّ. وإذا جاء أحد يسألهم شيئًا لس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}).

4 -

قال أبو العالية: (عمدوا إلى ما أنزل الله في نص كتابهم، من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، فحرفوه عن مواضعه).

ص: 306

وقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا} .

فيه قولان:

1 -

قال ابن عباس: (وذلك أن نفرًا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم قالوا: {آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}).

وفي قول آخر له في الآية قال: (يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا).

2 -

قال السدي: ({وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا

} الآية، قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا).

وروي نحوه عن ابن عباس: ({وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا

} الآية، قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا).

وقوله: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)} .

المقصود: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الموصوفين آنفًا إلى بعض منهم.

وقوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} .

فيه أكثر من تأويل:

1 -

عن الضحاك عن ابن عباس: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} ، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك).

2 -

عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:({وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا}، أي: بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضُهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. فأنزل الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، أي: تُقِرُّون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخِذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}).

وقال أبو العالية: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} ، أي: بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعْت محمد صلى الله عليه وسلم). وقال قتادة فيها: (أي: بما مَنَّ الله عليكم في (كتابكم من

ص: 307

نعت محمد صلى الله عليه وسلم، فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجُّوا به عليكم، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .

3 -

عن مجاهد: ({بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} قال: قولُ يهود بني قريظة، حين سبَّهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير، قالوا: من حدَّثك؟ - هذا - حين أرسل إليهم عليًّا فآذوا محمدًا، فقال: يا إخوةَ القردة والخنازير).

وفي رواية أخرى، قال مجاهد:(قام النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قُريظة تحت حُصونهم فقال: يا إخوانَ القردة، ويا إخوانَ الخنازير، ويا عبدةَ الطاغوت. فقالوا: من أخبر هذا محمدًا؟ ما خرج هذا إلا منكم! {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}! بما حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريجٍ، عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليًّا فآذوا محمدًا صلى الله عليه وسلم).

4 -

في السدي: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} - من العذاب - {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} : هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يُحَدِّثون المؤمنين من العرب بما عُذِّبوا به. فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحبُّ إلى الله منكم، وأكرمُ على الله منكم؟ ).

5 -

وقال الحسن البصري: (هؤلاء اليهود، فَإنوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بِما فتح الله عليكم مما في (كتابكم، فيحاجوكم به عند ربكم فيخصِموكم).

قلت: وهي أقوال متقاربة تفيد أن اليهود كانوا يكتمون نَعْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وأمر الله لهم باتباعه وتصديقه، وتاريخهم الحافل بالظلم والقتل والمعاصي والجحود والآثام، وما تبع ذلك من غضب الله عليهم.

وقوله: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .

قال أبو العالية: (يعني ما أَسَرُّوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم).

وقال الحسن: (كان ما أسَرّوا أنهم كانوا إذا ما تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهَوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في (كتابهم، خشية أن يحاجَّهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في (كتابهم عند ربهم. قال: {وَمَا يُعْلِنُونَ} يعني: حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: آمنا).

ص: 308

78 -

79. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى أن من اليهود من لا يحسن الكتابة، ولا يعلمون ما أنزل الله في التوراة من الأحكام والشرائع، وإنما هي أكاذيب يأخذونها عن رؤسائهم وكبرائهم يظنونها حقًّا وهي باطل. فويل للذين حرفوا التوراة واتبعوا أهواءهم وكتبوا كذبًا على الله بأيديهم.

والأميون: جمع أمي، وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة. قال إبراهيم النخعي:(منهم من لا يحسن أن يكتب). وقال أبو العالية: (يعني: من اليهود). وقال ابن زيد: (أميون لا يقرؤون الكتاب من اليهود). وقيل: ({وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي: من أهل الكتاب) ذكره مجاهد.

قال ابن جرير: (وأرى أنه قيل للأمي "أمي" نسبة له بأنه لا يكتب إلى"أمه"، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنُسب من لا يكتب ولا يَخُطُّ من الرجال - إلى أمه - في جهله بالكتابة، دون أبيه).

وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أُمَّةٌ أُمِّيَةٌ، لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا - وعقد الإبهام في الثالثة - والشهر هكذا وهكذا وهكذا - يعني تمام الثلاثين] (1).

وقوله: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} .

فهم لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله عليهم ولا يدرون ما أودع الله فيه من الحدود والشرائع والأحكام.

قال قتادة: ({لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} ، يقول: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (1080) - كتاب الصيام. ورواه البخاري (1913) - كتاب الصوم - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكْتُبُ ولا نَحْسُبُ".

ص: 309

إنما هم أمثال البهائم، لا يعلمون شيئًا). وقال ابن عباس:(لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله).

قال أبو جعفر: (وإنما عنى بـ {الْكِتَابَ} التوراة، ولذلك أدخلت فيه "الألف واللام"؛ لأنه قصد به كتاب معروف بعينه).

وقوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} .

أي: إلا أحاديث يتمنون فيها على الله ما ليس لهم. وقد جاءت أقوال المفسرين حول هذا المعنى، وتفصيل ذلك:

1 -

قال ابن عباس: {إِلَّا أَمَانِيَّ} ، يقول: إلا قولًا يقولونه بأفواههم كذبًا).

وقال مجاهد: {إِلَّا أَمَانِيَّ} إلا كذبًا).

2 -

قال قتادة: {إِلَّا أَمَانِيَّ} ، يقول: يتمنون على الله ما ليس لهم). وقال: (يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم). وقال ابن عباس: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} ، يقول: إلا أحاديث). وقال أبو العالية: (يتمنون على الله ما ليس لهم).

وقال مجاهد: (أناس من يهود، لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، يقولون: هو من الكتاب. أماني يتمنونها).

3 -

قال ابن زيد: (تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم).

واختار ابن جرير القول الأول.

وقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} .

أي: يشكون.

قال ابن عباس: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أي: ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظن). وقال مجاهد:{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} : يكذبون).

وقال أبو العالية وقتادة: (يظنون الظنون بغير الحق).

وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا

}.

قال الإمام البخاري رحمه الله في كتابه خلق أفعال العباد: حَدثنا يحيى ثنا وكيع عن

ص: 310

سفيان عن عبد الرحمن بن علقمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: [{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} قال: نزلت في أهل الكتاب](1).

وقوله: {فَوَيْلٌ} .

قد اختلف فيه على أقوال:

1 -

قال ابن عباس: {فَوَيْلٌ} ، يقول: فالعذاب عليهم). وقال: (الويل: المشقة من العذاب).

2 -

قال أبو عياض: (الوَيْلُ: ما يسيل من صديدٍ في أصل جهنم). وقال أيضًا: (صهريج في أصل جهنم، يسيل فيه صديدهم). وقال أيضًا: (الويل: وادٍ من صديد في جهنم).

3 -

وقيل: الويل جبلٌ في النار. أو واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ إلى قعره. ولا يصح ما ذكر في ذلك مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

4 -

قال الخليل: (الويل شدة الشر). وقال الأصمعي: (الويل تفجُّعٌ، والوَيْحُ ترحُّمٌ).

5 -

قال ابن عرفة: (الويل: الحزن).

6 -

قال سيبويه: (وَيْلٌ، لمن وقع في الهلكة، وَوَيحٌ زجرٌ لمن أشرف على الهلكة).

قلت: والذي يجمع هذه الأقوال أن كلمة (ويل) هي كلمة عذاب وهلاك أوعد الله به من هددهم في كتابه. والعرب تقول وَيْلٌ لزيد وَوَيْلًا لزيد فالرفع على الابتداء والنَّصْب على إضمار الفعل، والتقدير: ألزمهم الله وَيْلًا.

وقوله: {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} .

يقصد به: الذين حرَّفوا التوراة من يهود بني إسرائيل، وكتبوا كتابًا على ما تأَوَّلوه من تأويلاتهم وأهوائهم ثم باعوه من قوم جهال بعرض من الدنيا خسيس.

(1) حديث صحيح. رواه البخاري في "خلق أفعال العباد" ص (54).

ص: 311

فقد أخرج الطبراني بسند حسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن بني إسرائيل كتبوا كتابًا فاتبعوه، وتركوا التوراة](1).

وكذلك أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية بسند صحيح عن خباب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن بني إسرائيل لما هلكوا قصّوا](2).

قال المناوي: (أي لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص، وعوّلوا عليها، واكتفوا بها).

وقال الألباني: (ولينظر المؤمن العاقل في حال كثير من المسلمين اليوم، فقد أصابهم ما أصاب من قبلهم، فقد أخلد وعاظهم إلى القصص، وأعرضوا عن العلم النافع والعمل الصالح، مصداقًا لقوله عليه السلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم .. ]).

وأما أقوال المفسرين في هذه الآية فمتشابهة. فإلى شيء من تفصيلها:

1 -

قال السدي: (كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم، يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا به ثمنًا قليلًا).

2 -

قال ابن عباس: (الأميون قوم لم يصدِّقوا رسولًا أرسله الله، ولا كتابًا أنزله الله، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سِفْلة جُهّال: هذا من عند الله، . قال: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}. قال: عَرَضًا من عَرَضِ الدنيا).

3 -

قال مجاهد: (هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله، ثم يحرّفونه).

4 -

قال قتادة: (وهم اليهود. كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتابًا بأيديهم، ليتأكّلُوا الناس، فقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله).

5 -

قال أبو العالية: (عَمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نَعْت محمد صلى الله عليه وسلم فحرّفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عَرَضًا من عرض الدنيا، فقال:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} .

وقوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} .

أي: العذاب في جهنم لأولئك اليهود الذين حرّفوا الكتاب كلام الله.

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني بإسناد حسن. انظر صحيح الجامع (2040).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(رقم - 3705)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 362)، وانظر صحيح الجامع (2041)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1618).

ص: 312

وقوله: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} . قال أبو العالية: (يعني: من الخطيئة).

وقال ابن عباس: {فَوَيْلٌ لَهُمْ} ، يقول: فالعذاب عليهم. قال يقول: من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب"، يقول: مما يأكلون به من السِّفْلة وغيرهم {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} .

قلت: وفيه تحذير لهذه الأمة من سؤال اليهود أو اعتماد ما في كتابهم المحرّف وقد أبدل الله هذه الأمة بالقرآن وحفظ تفسيره وفهمه إلى يوم القيامة.

قال الزهري: (أخبرني عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على نبيه أحدثُ أخبار الله، تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ؟ وقد حدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله، ليشتروا به ثمنًا قليلًا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أُنزل إليكم)(1).

80 -

82. قوله تعالى: {وَقَالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}

في هذه الآياتِ: يخبر تعالى عن اليهود فيما ادعوه من النجاة من النار بعد أن تلاقي أجسامهم أيامًا معدودة لا تزيد عن أربعين يومًا، فطالبهم سبحانه بإخراج وثيقة الضمان وإلا فهم كاذبون. بلى من كان على الشرك والتكذيب بالنبوة ومات على ذلك فالنار موعده خالدًا فيها. وأما المؤمنون أهل العمل الصالح فهم أصحاب الخلود في الجنان.

فإلى تفصيل ذلك من أقوال أئمة التفسير:

(1) رواه البخاري من طرق عن الزهري. وانظر تفسير ابن كثير، سورة البقرة آية 78 - 79.

ص: 313

1 -

قال ابن عباس: {وَقَالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} ، قال ذلك أعداء الله اليهود، قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلّة القسم، الأيامَ التي أصبنا فيها العجلَ: أربعين يومًا، فإذا انقضت عنّا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب والقسم).

2 -

قال السدي: (قالت اليهود: إن الله يُدْخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا، نادى منادٍ: أخرجوا كُلَّ مختون من ولد بني إسرائيل.

فلذلك أمِرنا أن نختن. قالوا: فلا يَدَعون منا في النار أحدًا إلا أخرجوه).

3 -

قال أبو العالية: (قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذِّبنا أربعين ليلة، ثم يخرجنا. فأكذبهم الله).

4 -

قال قتادة: (قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدد الأيام التي عَبَدْنا فيها العجل).

5 -

قال الضحاك: قال ابن عباس: (زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، التي هي ثابتة في أصل الجحيم. وقال أعداء الله: إنما نعذَّب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتَهْلِك. فذلك قوله تعالى: {وَقَالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} .

في حين خفّض آخرون من يهود المكر والكفر مكوثهم في جهنم إلى سبعة أيام، كما:

6 -

قال مجاهد: (كانت اليهود تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذَّب مكان كل ألف سنة يومًا). قال: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة من الدهر. وسمّوا عِدّة سبعة آلاف سنة، من كل ألف سنة يومًا).

7 -

وقال ابن عباس: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ويهودُ تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يُعَذَّبُ الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا، يومًا واحدًا في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {وَقَالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الآية).

وقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

التأويل: قل يا محمد لمعشر اليهود الذين يزعمون أنهم ناجون من النار بعد عدة

ص: 314

أيام، أأخذتم بهذا من الله ميثاقًا وعقدًا والله لا يخلف ميثاقه ولا ينقض عهده وعقده، أم تجترئون بالباطل على ربكم؟ !

وقد جاءت أقوال أهل التفسير على ذلك:

1 -

قال ابن عباس: (لما قالت اليهود ما قالت، قال الله جل ثناؤه لمحمد، قل: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}، يقول: أدَّخرتم عند الله عهدًا؟ يقول: أقلتم لا إله إلا الله، لم تشركوا ولم تكفروا به؛ فإن كنتم قُلتموها فأرجوا بها، وإن كنتم لم تقولوها، فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلا الله، ولم تشركوا به شيئًا، ثم مُتُّم على ذلك، لكان لكم ذُخْرًا عندي، ولم أخلفْ وعدي لكم: أنَّي أجازيكم بها).

2 -

قال مجاهد: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} ، أي: مَوْثِقًا من الله بذلك أنه كما تقولن).

3 -

قال قتادة: (قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تَحِلَّة القسم، عدَّةَ الأيام التي عبدنا فيها العجل، فقال الله: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}، بهذا الذي تقولونه؟ ألكم بهذا حُجَّة وبرهان؟ فلن يُخلف الله عهده، فهاتوا حجتكم وبرهانكم، أم تقولون على الله ما لا تعلمون).

4 -

قال السدي: (لما قالت اليهود ما قالت: قال الله عز وجل: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} وقال في مكانٍ آخر: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ، ثم أخبر الخبر فقال:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} .

وقوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} .

تكذيبٌ لليهود بما زعموا، وتأكيد لمنهج النجاة في الآخرة: لا إله إلا الله، ووعيد للآثمين المعاندين لله ورسله بالخلود في النار.

قال ابن عباس: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} ، أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كُفره بما لهُ من حسنة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

ص: 315

وأما السيئة التي ذكرت في النص فلها تأويلان:

1 -

التأويل الأول: السيئة بمعنى الشرك.

قال قتادة: (أما السيئة فالشرك). وقال مجاهد: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} : شركًا).

2 -

التأويل الثاني: السيئة بمعنى الكبيرة من الذنوب.

قال السدي: (أما السيئة: فهي الذنوب التي وعد عليها النار).

وقال الحسن: (السيئة: الكبيرة من الكبائر).

فائدة: أمّا {بَلَى} فهي إقرار في كل كلام في أوله جَحْد، كما "نعم" إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه. وأصلها "بل" التي هي رجوع عن الجحد المحض نحو قولك:"ما قام عمرو بَلْ زيد". فزيدت فيها الياء لِيَصلح عليها الوقوف. فتصير "بلى" رجوعًا عن الجحد فقط، وإقرارًا بالفعل الذي بعد الجحد. قال ابن جرير:(فدلّت "الياء" منها على معنى الإقرار والإنعام. ودل لفظ "بل" على الرجوع عن الجحد).

وقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} .

التأويل: اجتمعت عليه تلك الخطيئة فمات عليها ولم يتدارك نفسه بالتوبة والإنابة.

وقد جاءت أقوال المفسرين على ذلك:

1 -

قال ابن عباس: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} : يحيط كفرُه بما له من حسنة).

2 -

قال مجاهد: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} : ما أوجب الله فيه النار).

3 -

قال الضحاك: (مات بذنبه). وقال الربيع: (مات عليها). وقال: (هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب).

4 -

قال قتادة: (أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة).

5 -

قال الحسن: (كل آية وعد الله عليها النار، فهي الخطيئة).

6 -

قال السدي: (فمات، ولم يتب).

7 -

قال ابن جريجٍ: قلت لعطاء: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} ، قال: الشرك، ثم تلا {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} .

ص: 316

أخرج الإمام أحمد والطبراني بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إياكم ومحقَّراتِ الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنَه، كرجُل كان بأرضٍ فلاةٍ فحضر صنيعُ القوم، فجعل الرجل يجيءُ بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا من ذلك سَوادًا وأجَّجُوا نارًا فأنضجوا ما فيها](1).

وله شاهد عندهما وعند البيهقي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه بلفظ: "إياكم ومحقَّراتِ الذنوب، فإنما مثلُ محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعُود، وجاء ذا بعودٍ، حتى حملوا ما أنضَجُوا به خبزهم، وإن محقّرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه] (2).

وقوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

التأويل: لقد صار هؤلاء الذين آثروا ما يسخط الله من القول والعمل على ما يحبّ أصحابًا للنار لملازمتهم لأعمال أهلها الذين سيقيمون فيها.

قال ابن عباس: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: خالدون أبدًا). وقال السدي: (لا يخرجون منها أبدًا).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

قال ابن عباس: (أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجَنَّة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير - والشرِّ مقيم على أهله أبدًا، لا انقطاع له أبدًا). ولا شك أن أول من خوطب بهذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وفي الصحيحين والمسند وبعض السنن عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا دخل أهل الجَنَّة الجَنَّة، وأهل النار النار، يُجاء بالموت كأنه كبش أملحُ، فيوقف بين الجَنَّة والنار، فيقال: يا أهل الجَنَّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئِبُّون، فينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، فينظرون، فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (1/ 402 - 403)، وأخرجه الطبراني (10500). وانظر صحيح الجامع -حديث رقم- (2684).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد والطبراني والبيهقي من حديث سهل بن سعد. انظر مسند أحمد (5/ 331) والطبراني في الصغير (904)، والمرجع السابق (2683).

ص: 317

فيذبح، ويقال: يا أهل الجَنَّة خلودٌ ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت" (1).

38 -

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} .

في هذه الآية: ذكر الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل أن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والقرابة والأرحام واليتامى والمساكين ويتخيروا القول الحسن لسائر الناس، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فما وفى منهم إلا قليل.

والميثاق مِفْعال من التوثّق وتأكيد القول بيمين ونحوه، والمعنى: واذكروا أيضًا يا معشر بني إسرائيل إذ أخذنا ميثاقكم أن تخلصوا العبادة لله وحده، ولا تشركوا به شيئًا. فهذا حق الله سبحانه عليكم وعلى جميع العباد كما قال جل ذكره في سورة الأنبياء:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .

وكذلك في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .... } .

ثم عطف على أعلى الحقوق وأعظمها - وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له - حق الوالدين وذوي القربى ثم اليتامى والمساكين، كما قال جل ذكره في سورة لقمان:{اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} . وكذلك في سورة الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى أن قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ .... } .

ويشمل حق الوالدين فعل المعروف لهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذّلّ رحمةً بهما، والتحنُّن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، ونحو ذلك مما هو فيه شريعة الرسل جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: [قلت: يا رسول الله، أي العمل

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (6544)، (6348) - كتاب الرقاق، وأخرجه مسلم (2849) - كتاب الجَنَّة ونعيمها. ح (40)، ح (41)، ورواه أحمد.

ص: 318

أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: برّ الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله] (1).

وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحقّ بِحُسْنِ صحابتي؟ قال: أُمُّك، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثمَّ أمُّكَ، قال: ثمَّ مَنْ؟ قال: ثمَّ أمُّكَ، قال: ثمَّ مَنْ؟ قال: ثم أبوك" (2).

فائدة: قوله تعالى: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} قيل: خبرٌ بمعنى الطلب، وهو أَكد، حكاه الزمخشري. وقيل: أصله "أن لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ" كما بقراءة بعض السلف، فحذفت "أن" فارتفع. وقيل بل هو في قراءة أبيّ وابن مسعود:{لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} . وقيل {لَا تَعْبُدُونَ} مرفوع على أنه قسم، والتقدير: والله لا تعبدون إلا الله. ذكره القرطبي عن سيبويه.

و{الْقُرْبَى} بمعنى القرابة، وهو مصدر، والمعنى: وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم. و"اليتامى" جميع يتيم ويدخل في ذلك المذكور والإناث.

قال القرطبي: (واليُتْم في بني آدم بفقد الأب، وفي البهائم بفقد الأم).

و{وَالْمَسَاكِينِ} جمع مسكين، وهو المتخشِّع المتذلِّل من الفاقة والحاجة، والمَسْكَنَة هي ذُل الحاجة والفاقة. فيكون المعنى كما قال ابن جرير:(وبذي القربى: أنَّ تصلوا رحمه، وتعرفوا حقه، وباليتامى: أنْ تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة، وبالمساكين: أن تُؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم).

وفي المسند وجامع الترمذي بسند جيد عن أبي هريرة مرفوعًا: [تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر](3).

وله شاهد عند الطبراني بسند صحيح من حديث عمرو بن سهل بلفظ: [صِلة القرابة

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (527)(5970)(7534)، وصحيح مسلم (85).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (5971) - كتاب الأدب، وصحيح مسلم -حديث رقم- (2548) - كتاب البر والصلة والأدب.

(3)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (2/ 374)، وجامع الترمذي (1/ 357 - 358)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (276).

ص: 319

مثراةٌ في المال، محبَّةٌ في الأهل، منسأة في الأجل] (1).

وفي الصحيحين عن زينبَ الثقفيَّة امرأةِ عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تصدَّقْنَ يا معشر النساء! ولو من حُلِيِّكُنَ. قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فائته فسله، فإن كان ذلك يُجْزي عني، وإلا صرفتها إلى غيركم. فقال عبد الله: بل ائتيه أنت فانطلقْتُ، فإذا امرأةٌ من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاجتها حاجتي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُلقيت عليه المهابة، فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين في الباب، يسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجر القرابة وأجر الصدقة" (2).

وفي المسند بسند صحيح عن سلمانَ بن عامرٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال:[الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة](3).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الساعي على الأَرْمَلَة والمِسْكين، كالمجاهد في سبيل الله - وأحْسِبُهُ قال: - وكالقائم لا يَفتُرُ وكالصائم لا يُفطرُ](4).

وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} .

التقدير: قولوا للناس قولًا ذا حسن، وإنما نُصب "حُسْنًا" على المصدر. وقد قرأها قراء الكوفة غير عاصم "حَسَنًا"، في حين قرأها قراء المدينة "حُسْنًا". قال الأخفش: هما بمعنىً واحد، مثل البُخْل والبَخَل، والرُّشْد والرَّشَد. وأما أقوال أئمة التفسير فيها فمتقاربة يزيد أحدهم في تفسيره وضوحًا على الآخر:

1 -

قال ابن عباس: (أمرهم أيضًا بعد هذا الخُلُق: أنْ يقولوا للناس حسنًا، أن يأمروا بـ "لا إله إلا الله" من لم يقُلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك

(1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (3662)، ورواه أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (1456) - كتاب الزكاة، وصحيح مسلم -حديث رقم- (1000) - كتاب الزكاة.

(3)

حديث صحيح. رواه أحمد (4/ 17)، ورواه النسائي (5/ 92)، والترمذي (658)، وابن خزيمة (2385)، انظر صحيح الترغيب (1/ 883)، كتاب الصدقات.

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (2982) - كتاب الزهد. باب فضل الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم.

ص: 320

قُرْبةٌ من الله جل ثناؤه. وقال: الحسن أيضًا، ليِّن القول، من الأدب الحسن الجميل والخُلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه).

2 -

قال أبو العالية: (قولوا للناس معروفًا). وقال سفيان الثوري: (مُروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر).

3 -

قال ابن جريجٍ: (قولوا للناس صدقًا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيِّروا نعته).

4 -

قال أبو العالية: (قولوا لهم الطيِّب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به).

والخلاصة كما قال القرطبي رحمه الله: (وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليِّنًا ووجهه منبسطًا طَلْقًا مع البَرِّ والفاجر، والسُّنيّ والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أن يُرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُوْلَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}. فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لا تُحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق](1).

وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} .

المعنى: أقيموا الصلاة المكتوبة بحقوقها: بأركانها وواجباتها. وأدوا الزكاة المفروضة عليكم: طاعةً لله وإخلاصًا له طيبة بها أنفسكم.

قال ابن مسعود: (إقامة الصلاة تمامُ الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها).

قال ابن عباس: (الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاس). وقال: (إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، وهي سُنَّة كانت لهم غير سُنّة محمد صلى الله عليه وسلم. كانت زكاة أموالهم قربانًا تهبط إليه نار فتحملها، فكان ذلك تقبُّله. ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبَّل، وكان الذي قرّب، منْ مكسب لا يحلُّ: من ظُلْم أو غَشْم، أو أَخْذٍ بغير ما أمره الله به وبيّنه له).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (2626). ورواه أحمد في المسند -حديث رقم- (21008). وانظر صحيح الجامع (7122).

ص: 321

قلت: الله أعلم بصحة ذلك فليس لدينا تفصيل من ديننا تقوم به الحجة. والخلاصة كما قال القاسمي رحمه الله: (المراد الصلاة التي كانوا يصلونها، والزكاة التي كانوا يخرجونها).

وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} .

المقصود نكث يهود بني إسرائيل العهد السابق ونقضهم الميثاق، فبدّلوا وغيّروا وتركوا. قال ابن عباس:{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} يقول: "أعرضتم عن طاعتي، {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} قال: القليل الذين اخترتهم لطاعتي، وسيحل عقابي عمّن تولى وأعرض عنها، يقول: تركها استخفافًا بها).

وقيل: بل الخطاب للأحفاد الذين كانوا بين ظهراني مُهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل لنقضهم العهد الذي أخذ عليهم في التوراة وركوبهم المعاصي والآثام.

84 -

86. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}.

في هذه الآياتِ: المراد بنو إسرائيل ومَنْ بعدهم، فإن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أحسن حالًا من آبائهم، بل كانوا متورِّطين في تحالفات قتال مع الأوس والخزرج ضد بعضهم. فبنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو قريظة والنضير حلفاء الأوس، فإذا نشبت الحرب قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال. ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكَّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملًا بحكم التوراة.

ص: 322

فقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} .

فيه دلالة أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة.

قال قتادة: (لا يقْتُلْ بعضكم بعضًا

ونفسك يا ابن آدم أهل ملَّتك).

وقال أبو العالية: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضًا، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} ، يقول: لا يخرج بعضكم بعضًا من الديار).

وقال قتادة: (لا يقتل بعضكم بعضًا بغير حق

فتسفك يا بن آدم دماء أهل ملَّتك ودعوتك).

وقوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)} .

قال أبو العالية: (يقول: أقررتم بهذا الميثاق، وأنتم شهود). وقيل المراد: وأنتم شهداء بقلوبكم على هذا. وقيل: بل الشهادة بمعنى الحضور، أي تحضرون سفك دمائكم، وإخراج أنفسكم من دياركم.

وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .

التقدير: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم. قال ابن عباس: (أَنَّبَهُم الله بذلك من فعلهم، وقد حُرِّم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقي: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة وهم حلفاء "الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يُظَاهر كلّ واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بيمهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شِرْكٍ يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنَّة ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا، ولا حلالًا ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التوراة وأخذًا به، بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا مَنْ قَتَلوا منهم فيما بينهم، مظاهرةً لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك: {أَفَتُؤْمِنُونَ

ص: 323

بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي: تفادونه بحكم التوراة، وتقتلونه وفي حكم التوراة أن لا يُقتَل، ولا يُخْرَج من داره، ولا يُظاهَر عليه من يشرك بالله، ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة).

وقال السُّدّي: (كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يَقْتَتِلون في حرب سُمَير، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفاءهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، ويغلبونهم، فيخربون ديارهم، ويخرجونهم منها، فإذا أُسِرَ رجلٌ من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه، فتعيَّرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أُمِرْنا أن نفديهم، وحُرّم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تُسْتَذَل حلفاؤنا. فذلك حين عيّرهم الله تبارك وتعالى، فقال تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية).

وقال أبو العالية: (كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قومًا أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم).

وقوله: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .

فالعدوان مِنَ التَعدِّي والظلم ومجاوزة الحد.

وأما {تَظَاهَرُونَ} فمعناها تتعاونون، مشتق من الظَّهر، لأن بعضهم يقوي بعضًا فيكون له كالظَّهر. والإثم: الفعل المستحق صاحبه للذم.

وقد قرأ أهل المدينة وأهل مكة {تظَّاهرون} بالتشديد، والأصل تتظاهرون.

في حين قرأ أهل الكوفة {تظاهرون} بالتخفيف. وكلاهما بمعنى واحد.

وقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} .

قال مجاهد: (يقول: إن وَجَدْتَه في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك). وكان قتادة يقول في قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} : (فكان إخراجهم كفرًا، وفداؤهم إيمانًا).

وهذه الآية تدل على خيانة اليهود لميراثهم ونقضهم عهود التوراة عليهم، ومن ثمَّ

ص: 324

فلا يؤتمنون على النقل منها ولا التحدث بما فيها، فهم متّهمون بذلك الكذب والمكر إلى يوم القيامة.

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمة أن تسلك طريقهم وتشابه مسلكهم.

فقد أخرج البيهقي بسند حسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أتيتُ ليلةَ أُسريَ بي على قومٍ تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلَّما قرضتْ وفَتْ، فقلتُ يا جبريلُ من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتِكَ الذين يقولون ما لايفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به" (1).

وقد قرأ حمزة "أَسْرى"، في حين هي في قراءة الجماعة {أُسَارَى} وهي في محل نصب حال. وقرأ نافع وحمزة والكسائي {تُفادوهم} ، في حين قرأها الباقون "تَفْدوهم" من الفداء. والأسير مشتق من الإسار، وهو القِدّ الذي يشُدّ به المحمل فَسمِّيَ أسيرًا؛ لأنه يشد وثاقه، ومن ثم فإن العرب تسمي كل أَخيذ أسيرًا، وإن لم يؤسر.

وقوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

والخزي الذي أصابهم في الدنيا بسبب معصيتهم على ثلاثة أنواع:

1 -

هو حُكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من أخذ القاتل بمن قتَل، والقَوَد به قصاصًا، والانتقام للمظلوم من الظالم.

2 -

هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم، ذلَّةً لهم وصَغارًا.

3 -

وهو إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النضيرَ من ديارهم لأول الحشر، وقتل مقاتلة قُريظة وسبي ذراريهم.

وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

فقد وعدهم الله النار في الآخرة مقابل تماديهم بالبغي والعناد والكفر، فهو سبحانه يحصي عليهم ما اقترفوه ليجدوه في صحفهم يوم القيامة.

(1) حديث حسن. رواه البيهقي بسند حسن من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (128).

ص: 325

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} .

قال قتادة: (استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة).

فلا يُفَتَّرُ عنهم العذاب ساعة واحدة يوم يُقْتَصُّ منهم في نار جهنم، وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب المستمر ولا يجيرهم منه.

87 -

89. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}.

في هذه الآيات: يخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة ثم أردف الرسل بعده على منهاجها - منهاج الدين الحق -، وأَتى عيسى الحجج وأظهر على يديه دلائل النبوة وأيده بجبريل عليه السلام، ثم هؤلاء اليهود كلما جاءهم رسول بغير ما تهواه أنفسهم لجؤوا إلى البغي والتكبر والقتل. وقالوا: قلوبنا في أغطية بل ختم الله عليها وحجب عنها الإيمان. ولما جاءهم القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا يستطيلون على المشركين باقتراب نبي يبعث يقتلونهم معه تنكروا له وكفروا به، فلعنة الله على الكافرين.

فقوله: {وَآتَيْنَا} بمعنى: أنزلنا، وقوله:{وَقَفِيِّنَا} بمعنى: وأردفنا. من قَفَوْتُ فلانًا: إذا صرت خلف قفاه. قال ابن جرير: (وإنما يعني جل ثناؤه بقوله: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}، أي: أتبعنا بعضهم بعضًا على منهاج واحد وشريعة واحدة. لأنَّ كلَّ من بعثه الله نبيًّا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى بن مريم، فإنما بعثه بأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة، والعمل بما فيها، والدعاء إلى ما فيها).

ص: 326

وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} .

أي: أعطيناه الحجج وما أظهر الله على يديه مما يدلى على نبوته: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، وغير ذلك.

قال ابن عباس: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أي: الآيات التي وضع على يديه: من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا بإذن الله، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب ممّا يدّخرون في بيوتهم، وما ردَّ عليهم من التوراة، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه).

وقوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} .

أي: قوّيناه، وأعنّاه بجبريل عليه السلام.

قال الضحاك: ({وَأَيَّدْنَاهُ} يقول: نصرناه). ومنه قولهم رجل ذو أيْد: أي ذو قوة. ولقد اختلف في روح القدس على أقوال:

1 -

القول الأولى: جبريل عليه السلام. قال قتادة: (هو جبريل). وقال الضحاك: (روح القدس: جبريل). وقال الربيع: (أيد عيسى بجبريل، وهو روح القدس).

2 -

القول الثاني: الإنجيل.

قال ابن زيد: (أيد الله عيسى بالإنجيل رُوحًا، كما جعل القرآن روحًا، كلاهما روح الله، كما قال الله:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} .

3 -

القول الثالث: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى.

قال ابن عباس: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} : هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى).

ولا شك أن القول الأولى هو أصح هذه الأقوال. فروح القدس هنا هو جبريل عليه السلام. ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة المائدة: {إِذْ قَال اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ

(110)} فلو كان الروح الذى أيَّده به هو الإنجيل لكان ما بعده تكرير قول لا معنى له كما ذكر ابن جرير.

وقد سمى الله جبريل روحًا لأنه كان بتكوين الله له روحًا من عنده من غير ولادة والد

ص: 327

ولدَه (1)، ثم أضافه إلى القدس وهو الطهر. وإن كان في أقوال المفسرين أقوال أخرى للقدس.

فقد روي عن السُّدي قوله: (القدس: البركة). وقال أبو جعفر: (القدس: وهو الرب تعالى ذكره). وقال ابن زيد: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ، قال: الله، القُدُس. وأيّد عيسى بروحه، قال: نَعْتُ الله، القُدُس. وقرأ قول الله جل ثناؤه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ

(23)}، قال: القدس والقدُّوس، واحد). وقال كعب:(الله، القدس).

والخلاصة: إن روح القدس هو جبريل عليه السلام، وعليه تدل السنة الصحيحة:

فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن البراء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن روحَ القدس معك ما هاجَيْتَهُم](2).

وهو في الصحيحين والمسند عنه بلفظ: [اهْجُ المشركين فإن روح القدس معك](3).

والخطاب لحسان بن ثابت شاعر الإسلام الأول. وفي لفظ من طريق عائشة: [اهج قريشًا فإنه أشد عليهم من رشق النبل](4).

ورواه مسلم عنها بلفظ: [إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافَحْتَ عن الله ورسوله. قاله لحسان](5).

وعند أبي نعيم في الحلية بسند صحيح عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن روح القدس نفث في روعي، أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتَسْتَوْعِبَ رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب

] لحديث (6).

(1) وكذلك عيسى عليه الصلاة والسلام سُمي روح الله.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (3/ 487) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (801) باللفظ السابق، وبلفظ:[اهج المشركين، فإن جبريل معك]. وانظر مسند أحمد (4/ 286).

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (3213)، كتاب بدء الخلق، وصحيح مسلم -حديث رقم- (2486)، كتاب فضائل الصحابة.

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2490) في الفضائل، وصحيح الجامع (2520).

(5)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2490) في فضائل الصحابة، وصحيح الجامع (2082).

(6)

حديث صحيح. أخرجه أبو نعيم عن أبي أمامة رضي الله عنه. انظر المرجع السابق (2081).

ص: 328

وقوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} .

الخطاب موجه إلى اليهود من بني إسرائيل، وقد آتى الله موسى التوراة نعمة عظيمة منه سبحانه ليبين لهم طريق النجاة وسعادة الدنيا والآخرة، ثم تابع عليهم من بعده بالرسل، وآتى عيسى بن مريم البينات والحجج وأيَّده بروح القدس، ثم هؤلاء اليهود كلما جاءهم رسول بغير ما تهواه أنفسهم لجؤوا إلى البغي والتكبر والقتل.

قال الزمخشري: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} : إنما لم يقل وفريقًا قتلتم؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضًا؛ لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر).

ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجدُ ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوانُ وجدتُ انقطاعَ أبهَري من ذلك السُّم](1).

وأصل الهوى الميل إلى الشيء، ويجمع على أهواء. قال القرطبي:(وسمّيَ الهوى هوىً لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه، وهذه الآية من ذلك. وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر: فَهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت. وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: والله ما أرى ربك إلا يُسارع في هواك. أخرجهما مسلم).

وقوله: {وَقَالوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} .

قرأها عامة القراء {غُلْفٌ} بتسكين اللام، في حين قرأها ابن عباس والأعرج وابن مُحَيْصِن {غُلُفٌ} وبضم اللام.

والمعنى إذا قرئت بسكون اللام كأنهم قالوا: قلوبنا في أكنَّةٍ وأغطية، فهي جمع أغلف، وهو الذي في غلاف وغطاء. فإلى ذكر من قال ذلك:

1 -

قال ابن عباس: {وَقَالوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي: في أكنة). وقال: (أي: في غطاء).

وقال: (فهي القلوب المطبوع عليها). وقال السدي: (عليها غلاف، وهو الغطاء).

2 -

قال مجاهد: {وَقَالوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} : عليها غشاوة).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (4428) - كتاب المغازي.

ص: 329

3 -

وقال قتادة: (أي لا تفقه). وقال: (هو كقوله: {قُلُوبُنُا فِي أَكِنَّةٍ}).

و"أما إذا قرئت {غُلُفٌ} فالمعنى كما تأولوها: قلوبنا غُلُفٌ للعلم، بمعنى أنَّها أوعية. والغلف بهذا التأويل جمع غلاف. قال عطية:(أوعية للذكر). وقال: (أوعية للعلم).

وقال ابن عباس: (مملوءة علمًا، لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره).

وقيل بل المعنى: (قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم قول محمد) ذكره القرطبي.

واختار ابن جرير القراءة الأولى فهي أشهر بين القراء وأهل التأويل. في حين سكت عن الترجيح القرطبي وابن كثير.

وقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} .

يعني أقصاهم وأبعدهم وطردهم وأهلكهم وأخزاهم سبحانه بما جحدوا آياته وكتبه وقتلوا رسله وأنبياءه. وأصل اللَّعن في كلام العرب الطرد والإبعاد. أي ليس الأمر كما ادّعوا، بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها فلا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا.

وقوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} أي: بالحق. وفيه أكثر من معنى:

1 -

قليل منهم من يؤمن. قال قتادة: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} : فلعمري لمن رَجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رَهْطٌ يَسير). وقال:(لا يؤمن منهم إلا قليل).

2 -

لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم. قال مَعْمَر: (المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره). قال ابن كثير: (وقيل: فقليل إيمانهم. بمعنى أنهم يؤمنون بما جاء به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمانٌ لا ينفعهم؛ لأنه مغمورٌ بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم).

3 -

لا يؤمنون بشيء أبدًا. قال الواقدي: (معناه لا يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا، كى، تقول: ما أقلَّ ما يفعل كذا، أي لا يفعله البتّة). وقال الكسائي: (تقول العرب مَرَرْنا بأرض قلَّ ما تُنبت الكراث والبصل، أي لا تنبت شيئًا).

ونصب قوله: {فَقَلِيلًا} لأنه نعت للمصدر المحذوف، والتقدير: فإيمانًا قليلًا ما يؤمنون.

ص: 330

وقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} .

المعنى: لما جاء اليهودَ من بني إسرائيل - الذين تقدم وصفهم - القرآن الذي نزّله الله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو مصدّق لما معهم من الكتب.

قال الربيع: (وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل).

وقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} .

أي كانوا قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم.

وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .

قال ابن إسحاق: (وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه لنا لما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهلَ شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل الآياتِ من البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ})(1).

قال ابن جرير: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} : فَخِزْيُ الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحق عليهم لله ولأنبيائه، المنكرين لما قد ثَبَت عندهم صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).

90 -

قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ

(1) حديث حسن. انظر الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - البقرة (آية 89). فإن ابن إسحاق إذا صرح بالتحديث فحديثه حسن كما في الميزان للذهبي.

ص: 331

مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}.

في هذه الآية: يخبر تعالى عن خسارة صفقة اليهود بشرائهم الحق بالباطل وكتمانهم خبر محمّد صلى الله عليه وسلم كبرًا وحقدًا وحسدًا، ليجمعوا بين تحريفهم التوراة وكفرهم بالقرآن ثم ينتظرهم في الآخرة عذاب أليم.

فقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا} .

أي: ساء ما اشتروا به أنفسهم، فقد شروا الحق بالباطل وكتموا خبر محمد صلى الله عليه وسلم ظلمًا وحسدًا، لأن الله اختاره من العرب.

قال مجاهد: (يهود شروا الحق بالباطل، وكتمانَ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يُبَيِّنوه).

وقال السدي: (بَغَوْا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟ فحسدوه أن يُنَزِّلَ الله من فضله على من يشاء من عباده).

وقوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} . فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: (فالغضب على الغضب، غضبُه عليهم فيما كانوا ضيّعوا من التوراة وهي معهم، وغضبٌ بكفرهم بهذا النبي الذي أحدثَ الله إليهم).

2 -

قال عكرمة: (كفرٌ بعيسى، وكفرٌ بمحمد صلى الله عليه وسلم).

3 -

قال الشَّعْبي: (الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمنًا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما، فله أجران. ورجل كان كافرًا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فله أجْر. ورجل كان كافرًا بعيسى، فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرًا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فباء بغضب).

4 -

قال قتادة: (غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم).

5 -

قال مجاهد: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ} اليهود، بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم، {عَلَى غَضَبٍ} ، جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بما جاء به).

ص: 332

6 -

قال السدي: (أما الغضب الأول فهو حين غضب الله عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} .

المعنى: إن للجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عذابًا من الله إما في الآخرة، أو يضاف له عذاب في الدنيا. قال القرطبي:(و {مُهِينٌ} مأخوذ من الهوان، وهو ما اقتضى الخلود في النار دائمًا بخلاف خلود العصاة من المسلمين، فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير، كرجم الزاني وقطع يد السارق).

أخرج الحاكم بسند صحيح عن خزيمة بن ثابت رضي إلله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أيُّما عبدٍ أصاب شيئًا مما نهى اللهُ عنه، ثم أقيمَ عليه حَدُّه، كفِّر عنه ذلك الذَّنْبَ]- ورواه أحمد (1).

ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الكبير عن خزيمة بن معمر الأنصاري قال: [رجمت امرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: حبط عملها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هو كفارة ذنوبها، وتحشر على ما سوى ذلك](2).

وأما الكفار الذين تكبّروا على الحق، وقابلوا أهله بالكبر والبغي والحسد، فأولئك يحشرون ذليلين صاغرين مهانين.

فقد أخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي في الجامع بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحْشَرُ المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ في صُوَرِ الناس، يعلوهم كلُّ شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجنًا في جهنّم، يقال له: بُولَس، فيعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخَبَال: عصارة أهل النار](3).

91 -

92. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 388)، وأحمد (5/ 214 - 215)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1755). وله شواهد كثيرة في الصحيحين وغيرهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني في الكبير (3794)، وانظر السلسلة الصحيحة (4/ ص 349).

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 179)، والترمذي (2492)، وإسناده حسن رجاله ثقات.

ص: 333

قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}.

في هذه الآياتِ: وإذا قيل لليهود ونظرائهم من أهل الكتاب آمنوا بالوحي النازل على محمد واتبعوه قالوا بل نؤمن بالتوراة والإنجيل - الكتابين اللذين أنزل علينا - مع أن القرآن يصدق الكتب السابقة قبل تحريفها. فوبخهم الله بقوله لهم: فَلِمَ تتولون قتلة الأنبياء من أجدادكم إن كنتم مؤمنين حقًّا. ولقد جاء موسى أجدادكم بالحق ثم غافلوه وعبدوا العجل ظلمًا وبغيًا وأنتم على منهاجهم.

فقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} . يعني اليهود وأمثالهم من أهل الكتاب. {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي: على محمد صلى الله عليه وسلم، فصدقوه واتبعوه. {قَالوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعني التوراة والإنجيل. {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}. قال قتادة:(يقول: بما بعده).

وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} .

أي: أنَّ القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة والإنجيل قبل تحريفها، فَكُتُبُ الله يُصدِّق بعضها بعضًا، فنُصب {مُصَدِّقًا} على الحال.

ثم قال تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

قال السدي: (يعيّرهم الله تبارك وتعالى. والخطاب لليهود الذين أدركوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم، وإنما قال {تَقْتُلُونَ} لأن اليهود المتأخرين كانوا على منهاج أسلافهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا، فكانوا متولين لأوائلهم قتلة الأنبياء، فخوطِبَ الأحفاد بصفة الآباء نفسها. والتقدير: إن كنتم مؤمنين - كما تزعمون - فلم تتولّون قتلة أنبياء الله؟ أي: ترضون أعمالهم ومسلكهم.

ثم قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} .

فمن البينات التي جاء بها موسى مما يدل بها على صحة نبوته: العصا التي تحولت ثعبانًا، ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين، وفَلْق البحر ومصير أرضه له طريقًا يبسًا، والمن والسلوى، والغمام، والجراد والقُمَّل والضفادع، وغير ذلك.

ولكنهم مع ذلك استزلهم الشيطان فاتخذوا العجل معبودًا من دون الله بعدما ذهب

ص: 334

موسى عنهم إلى الطور لمناجاة ربه عز وجل. قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ .... } [الأعراف: 148].

وقوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} .

أي: في اتخاذ العجل تعبدونه دون الله وحده لا شريك له، وقد ظهرت لكم الآياتِ الواضحات التي تدلكم على وجوب تنزيهه سبحانه وإفراده بالتعظيم والعبادة.

قال القرطبي: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} توبيخ، و {ثُمَّ} أبلغ من الواو في التقريع، أي بعد النظر في الآياتِ والإتيان بها اتخذتم. وهذا يدلّ على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآياتِ، وذلك أعظم لجرمهم).

وفي التنزيل: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149].

93 -

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} .

في هذه الآية: يخاطب الله سبحانه يهود بني إسرائيل ويعدّد عليهم مخالفاتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع سبحانه الطور عليهم فقبلوا ذلك ثم عتوا وتمردوا كما مضى ذكره. و {قَالوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} استكبارًا منهم وسوء اتباع. ثم {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي: أشربوا حبّه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.

فعن قتادة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} قال: (أشربوا حُبَّه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم). وقال أبو العالية: (أشربوا حُبَّ العجل بكفرهم).

فقال سبحانه: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . أي: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل: بئس الأمر يأمركم به إيمانكم، من قتل الأنبياء والتكذيب بالكتب وكفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تجدونه في التوراة وتجحدون أمره وتشوهون معالمه وصفاته بالتغطية والكذب والافتراء. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: تهكّم بهم وتوبيخ لشأنهم، فالتوراة لا تأمر بهذا المنهج الفاسد الذي ارتضوه صفة لهم على مر الزمان.

ص: 335

94 -

96. قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}.

في هذه الآياتِ: يحتج الله سبحانه على اليهود الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه البيِّنة التي تفضح سرائرهم ومنهاج أحبارهم وعلمائهم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فإنه بتمنيكم الموت بصدق وحصولكم عليه، تصيرون بعده إلى الراحة من تعب الدنيا ونَصَبها وكدَر عيشها، والفوز بجوار الله ورضوانه ونعيم جنانه كما تدّعون! فامتنع اليهود من الإجابة لذلك كما امتنع النصارى عن المباهلة خشية الخزي والفضيحة. فإنهم لن يتمنوا الموت، بل هم من أشد الأمم حرصًا على الحياة.

فعن ابن عباس: (لو تمنى اليهود الموت لماتوا). وقال: (لو تمنوا الموت لشرق أحدُهم بريقه).

وقال أيضًا: (لو تمنوه يوم قال ذلك لهم، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلَّا مات).

وأما سبب سؤالهم تمني الموت ففيه أقوال:

1 -

القول الأول: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.

قال ابن عباس: (قال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذبُ).

2 -

القول الثاني: قيل لهم ذلك حين ادّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولا يدخل الجَنَّة إلا من كان هودًا أو نصارى.

فَعن قتادة: (قوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ

ص: 336

النَّاسِ، وذلك أنهم قالوا:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} ، وقالوا:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فقيل لهم: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

وقوله: {خَالِصَةً} أي: صافية. قال ابن عباس: (خاصة لكم). وفي قوله: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} قال: (يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم، وأن الدار الآخرة لكم دونهم). وفي قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} قال: (فسلوا الموت)،

ثم قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} .

قال ابن عباس: (فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: بعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك). وقال أيضًا: (لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنَّوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنَّونه أبدًا بما قدمت أيديهم). قال ابن جريج: (وكانت اليهود أشدَّ فرارًا من الموت، ولم يكونوا ليتمنَّوه أبدًا).

وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} .

أي: بما أسلفت أيديهم وبما عرفوا عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا. قال ابن جريجٍ: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} : إنهم عرفوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيٌّ، فكتموه).

ثم قال سبحانه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . أي: بهم.

قال القاسمي: (تذييل للتهديد. والتنبيه عاى أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم، ونفيه عمن سواهم).

وهذه الآية تشبه الآية التي في سورة الجمعة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .

ثم قال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} .

قال ابن عباس: (يعني اليهود).

والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنك يا محمد لتجدن هؤلاء اليهود أكثر الناس حرصًا على الدنيا وأشدهم كراهية للموت. قال ابن جرير:(لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل).

ص: 337

وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} .

يعني: هم على الدنيا أشد حرصًا من المشركين وكذلك كراهيتهم للموت أشد. والسّر أن اليهود يؤمنون بالبعث والعذاب الذي أعدّ لهم ولأمثالهم، وأما المشركون لا يؤمنون ببعث ولا عقاب.

وعني بالمشركين في هذه الآية المجوس أو الذين ينكرون البعث، فإلى ذكر أقوال أهل التفسير:

1 -

قال أبو العالية: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} : يعني: المجوس).

2 -

قال ابن زيد: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} ، قال: يهود، أحرصُ من هؤلاء على الحياة).

3 -

وقال سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس:({وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما لَه في الآخرة من الخزي، بما ضيّعَ مما عنده من العلم).

وقوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} .

يخبر تعالى عن هؤلاء اليهود الخاطئين بأن أحدهم يتمنى لو يعمر ألف سنة، فقد حَبّبَتْ إليهم الخطيئة طول العمر، حتى جعل من تأسّى بهم من المشركين في ذلك تحية بعضهم لبعض:"عشرة آلاف عام" حرصًا منهم على الحياة. فإلى أقوال أئمة التفسير في ذلك:

1 -

قال ابن عباس في قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} ، قال. (هو قول الأعاجم:"سال زه نوروز مهرجان حر"). وقال سعيد بن جبير: (هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس: "زه هزار سال". يقول: عشرة آلاف سنة).

2 -

وقال قتادة: (حَبَّبَتْ إليهم الخطيئة طولَ العمر).

3 -

وقال ابن زيد: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} حتى بلغ {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} ، يهودُ، أحرص من هؤلاء على الحياة وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة).

ص: 338

وقوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} .

التفسير: وما طول العمر بمبعدِه من عذاب الله، ولا منحِّيه منه، فإنه لا بد للعمر من الفناء، وهذه الدنيا لا تدوم لأحد، ثم المصير إلى الله الواحد الأحد. وتفصيل ذلك:

1 -

فعن ابن عباس: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} ، أي: ما هو بمنحِّيه من العذاب).

وقال أبو العالية: (يقول: وإن عُمِّر، فما ذاك بمُغيثه من العذاب ولا منجيه).

2 -

قال ابن عباس: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} ، فهم الذين عادَوا جبريل عليه السلام.

3 -

وقال ابن زيد: (ويهود أحرصُ على الحياة من هؤلاء. وقد ودّ هؤلاء لو يعمَّر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب، لو عُمِّر كما عمّر إبليس لم ينفعه ذلك، إذ كان كافرًا، ولم يزحزحه ذلك من العذاب).

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .

أي: خبير ذو إبصار بما يعمل عباده، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وهو لها حافظ ذاكر حتى يوافيهم جزاءها يوم القيامة.

97 -

98. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}.

في هذه الآيات: إعلان يهود السافر عداءهم لجبريل عليه السلام صاحب الوحي الذي فيه حياة البِشر والسعادة في الدارين، وبراءة الله تعالى ممن عاداه وملائكته ورسله وجبريل وميكال.

قال ابن جرير: (أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدُوٌّ لهم، وأن ميكائيل وليٌّ لهم).

ص: 339

قلت: وقد ثبت في السنة الصحيحة نزول هذه الآياتِ بعد مناظرة جرت بين اليهود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته، وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد والطبراني بسندٍ حسن عن ابن عباس قال: [أقبلت يهودُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنَّ عرفنا أنك نبي واتَّبَعْناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال:{وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . قال: "هاتوا". قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ . قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه. قالوا: أخبرنا كيف تُؤنِّثُ المرأة وكيف تذكر؟ قال: يلتقي الماءان، فإذا علا ماءُ الرجل ماءَ المرأة أذكرت، وإذا علا ماءُ المرأة ماء الرجل أنثت. قالوا: أخبرنا ما حرَّم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عِرْقَ النَّسا، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا - قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل - فحرَّم لحومها، قالوا: صدقتَ. قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قالْ مَلَكٌ من ملائكة الله عز وجل، موكَّلٌ بالسحاب، بيده - أو في يده - مِخْراقٌ من نار يَزْجُرُ به السحاب، يسوقُه حيث أمره الله تعالى. قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته. قالوا: صدقت. قالوا: إنما بقيت واحدة، وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل عليه السلام. قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عَدُوُّنا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقَطْرِ والنبات لكان، فأنزل الله تعالى:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} إلى آخر الآية" (1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والطيالسي والبيهقي بسند حسن عن شهر بن حوشب عن ابن عباس، أنه قال: [حضرتْ عصابة من اليهود رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدّثنا عن خِلالٍ نسألك عنهنّ، لا يعلمهن إلا نبيّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سَلُوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمّة الله وما أخذ يعقوبُ على بنيه، لئن أنا حدَّثتُكم شيئًا فعرفتموه لتتابِعنّي على الإسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني عما شئتم. فقالوا: أَخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن، أخبرنا أيّ الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف

(1) حسن لغيره. أخرجه أحمد (1/ 274) والترمذي (3117)، وله طرق عند الطيالسي وابن جرير وابن سعد. فهو حسن لغيره لكثرة شواهده، وبعض أجزائه في صحيح البخاري.

ص: 340

يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأميّ في التوراة، ومن وليه من الملائكة؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم عهدُ إلله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنِّي؟ فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. فقال: نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل: يعقوب، مَرِض مرضًا شديدًا، فطال سُقْمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقمه ليُحَرِّمَنَّ أحبّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبَّ الطعام إليه لحم الإبل، وأحبُّ الشراب إليه ألبانها. فقالوا: اللهمَّ نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أُشهدك عليهم. وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيّهما علا كان له الولدُ والشَّبَهُ بإذن الله عز وجل، فإذا علا ماء الرجل ماءَ المرأة كان الولد ذكرًا بإذن الله، وإذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل. قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهدْ، قال: وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبيّ الأميّ تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ . قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قالوا: أنت الآن، فحدِّثنا من وليُّكَ من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: فإن وليِّي جبريل، ولم يبعث الله نبيًّا قط إلا وهو وليّه. قالوا: فعندها نفارقُك، ولو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك وصدّقناك. قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فعندها باؤوا بغضب على غضب] (1).

وفي رواية عن ابن جرير عن شهر بن حوشب مرسلًا: [قالوا: فأخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل، وهو الذي يأتيني؟ قالوا: اللهم نعم، ولكنه عدو لنا، وهو ملك إنما يأتي بالشدَّة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله تعالى فيهم:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} إلى قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2).

وله شاهد عند ابن جرير عن مجاهد قال: (قالت يهود: يا محمد ما ينزل جبريل إلا

(1) حديث حسن. انظر مسند أحمد (1/ 273 - 278)، وأخرجه الطيالسي (2731) والبيهقي في "الدلائل"(6/ 266) ورجاله ثقات. فإن شهر بن حوشب صدوق يخطئ، وقد توبع من روايات ابن جرير. انظر تخريج أحاديث تفسير ابن كثير - عبد الرزاق مهدي. (ج 1/ ص 297)، ويشهد له ما قبله.

(2)

أخرجه الطبري في "التفسير" -حديث رقم- (1609)، وهذا مرسل، ولكنه ورد موصولًا.

ص: 341

بشدَّة وحرب وقتال، وإنه لنا عدوّ. فنزل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ

} الآية).

الحديث الثالث: وقال البخاري: (قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}، قال عكرمة: جَبْر، ومِيك، وسَرافِ: عبد. وإيل: الله (1). حدثنا عبد الله بن منير، سَمِعَ عبد الله بن بَكْر، حدثنا حُميدٌ، عن أنس بن مالك، قال: سَمعَ عبد الله بن سلام بمَقْدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يَخْتَرِفُ (2). فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبيٌّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجَنَّة؟ وما يَنْزِعُ الولدَ إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفًا. قال: جبريلُ؟ قال: نعم. قال: ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} . أما أول أشراط الساعة، فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أَوَّل طعام يأكلهُ أهل الجَنَّة، فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة، نزع الولدُ، وإذا سبق ماءُ المرأة ماء الرجل نزعتْ. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهُت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يَبْهَتُوني. فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ رجل عبد الله بن سَلام فيكم؟ قالوا: خيرُنا وابن خيرنا، وسَيِّدُنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام! فقالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقالوا: هو شرُّنا وابن شرِّنا. وانتقصوه. فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله] (3).

ومفهوم الآية: انتصار من الله سبحانه للروح الأمين جبريل عليه السلام ضدّ يهود المكر والكفر، فإن من عادى جبريل - وهو الذي نزل بالذكر الحكيم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عادى جميع الملائكة، كما أن من عادى رسولًا فقد عادى جميع الرسل، فإن الإيمان بالملائكة يستلزم توقيرهم جَميعهم، كما أن الإيمان بالرسل يستلزم الإيمان بجميع الرسل.

وفي التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ

(1) أسند الطبري (1631)، عن عكرمة قوله:"جبر" عبد، "إيل" الله، و"ميكا" عبيد، "إيل" الله. وأسند (1624) عن ابن عباس: جبريل عبد الله، وميكائيل عُبيد الله، وكل اسم"إيل" فهو "الله".

(2)

خَرْف الثمار: جناها.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (3329)، ومسند أحمد (3/ 108)، وروى مسلم نحوه.

ص: 342

الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151].

وعن الربيع: ({فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} يقول: نزل الكتاب على قلبك جبريل).

وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} .

يعني أن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه.

وفي التنزيل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. وكذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192 - 194].

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: [قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا

} [مريم: 64](1).

وأخرج البخاري وابن حبان وغيرهما عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من عادى لي وليًا فقد بارزني بالحرب](2). وفي لفظ: [فقد آذنته بالحرب].

وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} .

يعني: القرآن يصدق ما سل من الكتب أمامه بموافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وهي تصدّقه.

قال ابن عباس: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، يقول لما قبله من الكتب التي أنزلها الله، والآيات، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم).

وقال قتادة: ({مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}: من التوراة والإنجيل).

وقوله: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .

أي دليل وبرهان للمؤمنين ويحمل البشرى بالسعادة في الدارين لهم.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4731)، كتاب التفسير. سورة كهيعص.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6502)، كتاب الرقاق - باب التواضع، وأخرجه ابن حبان (347)، وهو جزء من حديث طويل.

ص: 343

قال ابن جرير: (وإنما سَمَّاه الله جل ثناؤه {وَهُدًى} لاهتداء المؤمن به. و"اهتداؤه به" اتخاذه إيَّاه هاديًا يتبعه، وقائدًا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه).

والهادي من كل شيء: ما تقدم أمامه. ومنه قول العرب لأوائل الخيل "هواديها" لتقدمها أمامها وكذلك قيل للعنق: "الهادي" لتقدمها أمام سائر الجسد.

قال قتادة: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} . لأن المؤمن إذا سمع القرآن حَفظه ووعاه، وانتفع به واطمأن إليه، وصدَّق بموعود الله الذي وعد فيه، وكان على يقين من ذلك).

وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} .

التأويل: من كان عدوًا لله عاداه وعادى جميع ملائكته ورسله. وقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال} هو من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة، في عموم الرسل، ثم خُصِّصا بالذكر لاقتضاء السياق ذلك، فإن الآية في معرض الانتصار لجبريل، وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل لزعم اليهود أنه وليهم، فأخبرهم تعالى بذلك أن معاداة أحدهما معاداة للآخر، بل وهي معاداة لله ولجميع ملائكته ورسله فإن الله لا يحب الكافرين.

فائدة: لعلماء اللسان في جبريل عليه السلام لغات:

(1 - جِبريل: لغة أهل الحجاز. 2 - جَبْرِيل: قراءة الحسن وابن كثير. 3 - جَبْرَئِل: قراءة أبي بكر عن عاصم. 4 - جَبْرَئيل: قراءة أهل الكوفة. 5 - جبرائِل: قراءة عكرمة. 6 - جبرييل: قراءة الأعمش.7 - جَبْرَئين. 8 - جِبرين: قراءة بني أسد). وبنحوه قرئ: (ميكاييل، وميكائيل، وميكال، وميكئيل، وميكاءَل). ذكره القرطبي.

99 -

101. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}.

قال ابن جرير: (يعني جل ثناؤه بقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، أي:

ص: 344

أنزلنا إليك يا محمد علاماتٍ واضحات دالّات على نُبوّتك. وتلك الآياتِ ما حَواه كتابُ الله الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدّلوه، من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فكان، في ذلك من أمره، الآياتِ البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدْعُهُ إلى إهلاكها الحسدُ والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديقُ من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآياتِ التي وصفتُ، من غير تعلُّم تعلَّمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدمي).

قال ابن عباس: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} يقول: فأنت تتلوه عليهم، وتخبِرُهم به غدُوةً وعشيةً وبين ذلك، وأنت عندهم أميّ لم تقرأ كتابًا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وتبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون).

وقوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} .

يعني: ما يجحد بهذه الدلائل البينات على صدقك ونبوتك إلا الخارج من هؤلاء الأحبار عن دينه.

وقوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

قال ابن عباس: (قال مالك بن الصيف - حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه -: والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ له علينا ميثاقًا! فأنزل الله جل ثناؤه: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}).

قال القرطبي: (أوكلما: الواو واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ}، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ}. وعلى ثُمّ كقوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} هذا قول سيبويه). والتقدير: وَإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور

قالوا: سمعنا وعصينا، وكلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم.

وقال ابن جرير: (وأما "النَّبْذُ" فإن أصله - في كلام العرب - الطَّرْح

ومنه سمي

ص: 345

النبيذ "نبيذًا" لأنه زبيب أو تَمْر يُطرح في وعاء ثم يعالج بالماء). والمعنى طرحه فريق منهم وتركه ونقضه ورفضه.

وعن قتادة: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} يقول: نقضه فريق منهم).

قال ابن جريجٍ: (لم يكن في الأرض عهد يعاهِدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غدًا).

وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

قال القاسمي: (دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون). ففي الآية أن الكثرة في الغالب مذمومة، والقلة المؤمنة خير من كثرة لا يستقيم إيمانها.

وقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} .

قال السدي: (لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} .

يعني: يصدق بما معهم مما أنزل عليهم من التوراة.

وقوله: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ} .

الفريق الجماعة، لا واحدَ له من لفظه. يعني جحدوه وكذبوه بغيًا وحسدًا.

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني: علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة. وقوله: {كِتَابَ اللَّهِ} يعني: التوراة.

وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} .

يعني: أعرضوا عنه ورفضوه. والعرب تقول لكل رافض أمرًا: جعله وراء ظهره، أو جعله منه بِظَهْر. {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: قال السدي: (لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. فذلك قول الله: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}).

وقال قتادة: (أي أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا).

102 -

103. قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا

ص: 346

كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}.

في هذه الآياتِ: إن الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين مضى وصفهم بأنهم نبذوا التوراة وراء ظهورهم تجاهلًا ومكرًا، وجحدوا ما يعلمون فيها من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، فرفضوا القرآن الذي نزل إليه وقد أخذ عليهم الميثاق بالعمل بما فيه وتصديقه، هؤلاء أخبر الله عنهم أنهم اتبعوا السحر أيضًا، وما كانت الشياطين تتلو في عهد سليمان وتدعو إليه من اتباع الشهوات، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، يعلمهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت، ليفرقوا بالسحر بين المرء وزوجه، وليفسدوا في الأرض ويضيعوا الإيمان.

قال السّدّي: (عارضت اليهود محمدًا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحرِ هاروت وماروت) ذكره القرطبي.

وقال ابن عباس: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} الآية: وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد فئام من الجن والإنس، واتبعوا الشهوات، فلما أرجَعَ الله إلى سليمان ملكَه، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه. وتوفي سليمان عليه السلام حِدْثَان ذلك، فظهر الإنس والجنّ على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتابٌ من الله نزل على سليمان أخفاه عنّا. فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنزل الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أي: واتبعوا الشهوات التي كانت تتلو الشياطين، وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله) ذكره ابن كثير.

ص: 347

ثم ذكر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: (كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان، ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل به. قال: فأكفره جُهَّال الناس وسبّوه، ووقَفَ علماؤهم، فلم يزل جُهَّال الناس يسبُّونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} .

قال ابن جرير: (و {عَلَى} ههنا بمعنى "في" أي: تتلو في ملك سليمان).

ثم أورد ابن جرير بإسناد على شرط البخاري عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:(كان سليمان عليه السلام، إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة - وهي امرأته - خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة (1) ذات يوم خاتَمَهُ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه ولَبِسَهُ. فلما لَبِسَهُ دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي. فقالت: كذبتَ، لست سليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين، فكتبتْ في تلك الأيام كتبًا فيها سِحْرٌ وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرؤوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال: فبرئ الناس من سليمان عليه السلام وكفروه، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} ).

وقوله: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} .

قال السدي: (على عهد سليمان). والمقصود: أنَّ اليهود بعد إعراضهم عن التوراة وكفرهم بالقرآن اتبعوا أخبار الشياطين التي كانت تحدث بها من عهد سليمان.

وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} .

قال السدي: (كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم. فتحَدِّثُ الكهنةُ الناس فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أَمِنتَهم الكهنة

(1) اسم امرأة سليمان عليه السلام، وهذا الإسناد على شرط البخاري، فيكون ابن عباس بذلك قد حدث به عن كتب الأقدمين. انظر تحقيق تفسير ابن كثير - المهدي - البقرة (102).

ص: 348

كذبوا لهم، وأدخلوا فيه غيوه، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجنّ تعلم الغيب، فبعث سليمانُ في الناس، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق. وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربتُ عنقه. فلما مات سليمان عليه السلام، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخَلَفَ من بعد ذلك خلفٌ، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفِروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان، وقام ناحية، فقالوا له: فادن، فقال: لا، ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السِّحر، ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب. فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول الله تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} ).

وقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} .

قال الحسن البصري رحمه الله: (وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود).

وذلك أن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام، وسليمان بن داود بعده. وفي التنزيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

} [البقرة: 246].

وقال قوم صالح لنبيهم: {قَالوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153]. وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام.

والسحر لغة: ما خفي ولطُف سببه. قال الرازي: (السِّحر: الأُخْذَةُ وكل ما لطف مأخذه ودقَّ فهو سحر).

وقال أبو عبيد: (أصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره). والسحر في الاصطلاح الشرعي: هو ما كان من عمل فيه اتصال بالشياطين بقصد الفتنة أو الاعتماد على غير الله سبحانه في الدواء وجلب الشفاء.

قال الليث: (السحر عمل يتقرب فيه إلى الشيطان، وبمعونة منه).

ص: 349

وفي التنزيل: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن. ولو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر الله تعالى بالاستعاذة منه. وقد حرّم الله السحر في كل الأديان، قال تعالى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].

وقد نص أصحاب أحمد أنه يكفر بتعلمه وتعليمه. وذهب إلى كفر الساحر مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله.

وقال الشافعي: (إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر، مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته كفر).

وقوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} .

وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أن السحر نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله، فيكون تأويل الآية: وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، يعلمهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت. فتكون (ما) نافية. قال عطية: (ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر).

قال مجاهد: (كانت الشياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مئتين مثلها. فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطيق فعلمته الناس وهو السحر).

أخرج البخاري في صحيحه من حديث عكرمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: [إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كانه سلسلة على صفوان (1)، فإذا فزِّعَ عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ونشر سفيان أحد رواة الحديث بيده فحرفها ونشر بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن

(1) أي: تجر على حجر أملس.

ص: 350

يدركه فيكذب معها مئة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء] (1).

قلت: وهذا هو أفضل التفاسير وأقواها في شأن هاروت وماروت، وقد وردت أخبار عند المفسرين مفادها أن هاروت وماروت ملكان أذن الله لما بتعليم الناس السحر، أو هما قبيلان من الجن، إلى غير ذلك مما ينافي الشريعة أو لا تقوم به الحجة.

وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} .

قال ابن عباس: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} : وذلك أنهما عَلِما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر).

وقال ابن جريجٍ: (لا يجترئ على السحر إلا كافر). وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار.

وعن قتادة: ({إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي: بلاء).

وفي صحيح مسلم عن بعض أمهات المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من أتى عرافًا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا](2).

وفي مسند أحمد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد](3).

وفي لفظ: [من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضًا، أو أتى امرأة في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد](4).

وقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} .

قال المقدسي: (السِّحر عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4701)، كتاب التفسير، وكذلك (7481)، كتاب التوحيد.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (2230)، كتاب السلام، ورواه أحمد وغيره، انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5816).

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (5813)، وكتابي أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (1/ 476) لتفصيل البحث.

(4)

حديث صحيح. ورواه أهل السنن، انظر تخريج المشكاة (551)، والمرجع السابق (1/ 526).

ص: 351

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول ما صنعتَ شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت](1).

وله شاهد عند ابن حبان من حديث أبي موسى الأشعري بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أصبح إبليس بث جنوده، فيقول: من أضلَّ اليوم مسلمًا ألبستُه التاج، فيخرج هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته، فيقول: أوشك أن يتزوج. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه، فيقول: يوشك أن يَبَرَّهما. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت ويلبسه التاج](2).

وقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .

قال سفيان الثوري: (إلا بقضاء الله). وقال محمد بن إسحاق: (إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد).

وقال الحسن البصري: (نعم، من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يُسلط، ولا يستطيعون ضرَّ أحد إلا بإذن الله، كما قال الله تعالى). وفي رواية عن الحسن قال: (لا يضر هذا السحرُ إلا من دخل فيه).

وقوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} .

قال القرطبي: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعًا قليلًا في الدنيا. وقيل: يضرهم في الدنيا، لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه؛ لأنه يُؤدَّب ويُزجَر، ويلحقه شؤم السحر).

وقوله: ({وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} .

قال ابن عباس: (من نصيب). وقال قتادة: (وقد علم أهل الكتاب فيما عهد إليهم: أن الساحر لا خلاق له في الآخرة). وقال الحسن: (ليس له دين). وقال ابن جريجٍ:

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2813)، ومسند أحمد (3/ 314)، (3/ 332).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في صحيحه (رقم - 65)، وانظر صحيح الجامع -حديث رقم- (1522)، وكتابي أصل الدين والإيمان (2/ 1345) لتفصيل البحث في أساليب الشيطان.

ص: 352

(من قِوام). قلت: فدل هذا على تحريم السحر في كل الأديان التي نزلت على الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. قال تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].

وفي صحيح البخاري عن بَجالة بن عَبَدة قال: (كتب عمر بن الخطّاب أن اقتلوا كلَّ ساحر وساحرة)(1). قال: (فقتلنا ثلاث سواحر)(2).

والمشهور عن أحمد أنَّه يقتل دون استتابة، وهو قول مالك، لأنَّ علم السحر لا يزول بالتوبة. وفي رواية عن أحمد أنَّه يستتاب فإن تاب قبلت توبته وهو قول الشافعي، قالوا: لأنَّ ذنبه لا يزيد عن الشرك، والشرك تقبل توبة صاحبه، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم.

وقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].

قال ابن جرير: (ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر، لو كان يعلم سوء عاقبته).

ثمَّ ذكر قول السدي: (يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم).

وقال ابن كثير: (يقول تعالى: {وَلَبِئْسَ} البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علمٌ بما وُعظوا به).

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103].

المعنى: لو أنهم صدقوا الله الإيمان والتقوى، فعظموا أوامره واجتنبوا نواهيه، لكان مثوبة الله على ذلك خيرًا لهم مما رضوا لأنفسهم من السقوط في معصيته، نحو قوله سبحانه في سورة القصص:{وَقَال الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80].

وعن قتادة: (قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يقول: ثوابٌ من عند الله).

وقال السدي: (أما "المثوبة" فهو الثواب). وقال الربيع: (يقول: لثَواب من عند الله).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (6/ 184)، (6/ 185) - في فرض الخمس، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. وانظر مسند أحمد (1/ 190).

(2)

لم يذكرها البخاري. وانظر سنن الترمذي (1586)، ومسند أحمد (1/ 190 - 191)، و"الأموال" - لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 40)، وسنن أبي داود (3043).

ص: 353

104 -

105 قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .

في هذه الآيات: يخاطب الله سبحانه عباده المؤمنين محذرًا لهم أن يتشبهوا بالكافرين في طريقة كلامهم أو فعالهم. فإن الكفرة لا يتمنون بالمؤمنين أن يختصهم الله بفضل منه ورحمة.

قال ابن كثير: (وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص - عليهم لعائن الله - فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا. يقولون: راعنا. ويورون بالرّعونة، كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46]. وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سلّموا إنما يقولون: السام عليكم. والسام هو: الموت. ولهذا أمرنا أن نَرُدّ عليهم بـ"وعليكم").

وحقيقة "راعنا" في اللغة أَرْعِنا ولْنَرْعَك، أي احفظنا ولنحفظك، وارقبنا ولنرقبك، وربما كانت من أرعنا سمعك والمراد فرّغ سمعك لنا ولا شك أن في هذا جفاء، فأمر الله المؤمنين بمخالفتهم واختيار أحسن الألفاظ وأرقها.

قال ابن عباس: (كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا. على جهة الطلب والرّغبة - من المراعاة - أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سَبًّا، أي اسمع لا سمِعتَ، فاغتنموها وقولوا: كنا نَسُبُّهُ سِرًّا فالآن نَسُبُّهُ جهرًا، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونُهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه) ذكره القرطبي.

ص: 354

وقد وردت تفاسير متنوعة في معنى "راعنا" ذكرها ابن جرير، منها:

1 -

عن مجاهد: ({لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]: لا تقولوا خِلافًا).

2 -

عن ابن عباس: (أرْعِنا سمعك). وقال مجاهد: (اسمع منا ونسمع منك). وقال الضحاك: (كان الرجل من المشركين يقول: أرعِني سمعك).

3 -

عن قتادة: (قول كانت تقوله اليهود استهزاءً، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم).

وقال عطية: (كان أناس من اليهود يقولون: أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين. فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}، كما قالت اليهود والنصارى).

4 -

قال ابن زيد: (هذا الراعن - والراعن: الخطّاء - قال: فقال للمؤمنين: لا تقولوا: خطّاء، كما قال القوم، وقولوا: {انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} قال: كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكلِّمونه، ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم).

5 -

قال عطاء: (كانت لُغَةً في الأنصار في الجاهلية). وقال أبو العالية: (إن مشركي العرب كانوا إذا حدّث بعضهم بعضًا يقول أحدهم لصاحبه: أرْعِني سمعك! فنهوا عن ذلك). قال ابن عباس: (وإنما {رَاعِنَا} كقولك: عاطنا).

6 -

وقال ابن جريج: ({رَاعِنَا}، قولُ الساخر. فنهاهم أن يسخروا من قول محمَّد صلى الله عليه وسلم).

قال ابن جرير: (والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم راعنا. لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولوها لنبيّه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا تقولوا للعنب الكَرْمُ ولكن قولوا: الحَبَلَة. ولا تقولوا: عبدي ولكن قولوا: فتايَ).

قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بالنهي عن التشبه بالكفار في طريقة كلامهم ولباسهم وحياتهم.

ففي المسند للإمام أحمد، بسند حسن، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بُعِثْتُ بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبدَ الله وحده لا شريك له.

ص: 355

وجُعِلَ رِزْقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلَّة والصَّغار على من خالف أمري، ومن تَشبَّه بقوم فهو منهم] (1).

وفي سنن أبي داود عن أبي النضر هاشم بن القاسم، به:[من تشبّه بقوم فهو منهم](2).

وفي الصحيحين والمسند عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المرءُ معَ من أحَبّ](3).

وذكر ابن أبي حاتم عن عبد الله بن المبارك، عن مسعر، عن مَعْن وعون - أو أحدهما - أن رجلًا أتى عبد الله بنِ مسعود، فقال: اعْهَدْ إليّ. فقال: (إذا سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَأَرْعِها سمعك، فإنَّه خير يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه).

وقوله: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} .

قال مجاهد: (فهِّمنا، بَيِّن لنا يا محمَّد).

قال ابن جرير: (قولوا أيها المؤمنون لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم: انْظرْنا وارقبنا، نفهم ونتبين ما تقول لنا، وتُعَلِّمنا).

وقوله: {وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104].

أي: اسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم، وافهموه، واعلموا أن العذاب الموجع سينزل بالكافرين الجاحدين.

قال السدي: ({وَاسْمَعُوا}: اسمعوا ما يقال لكم).

وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105].

يخبر تعالى المؤمنين عن شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذّر سبحانه من مشابهتهم، وأمر المؤمنين أن يقطعوا المودة بينهم وبينهم، فهم يتمنون لو لم ينزل الله الفرقان عليكم، حسدًا وبغيًا منهم لكم.

ثمَّ قال سبحانه: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 50)، و (2/ 92). ورواه ابن أبي شيبة (5/ 313).

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (4031) بإسناد فيه لين، لكن له شواهد تقويه.

(3)

حديث صحيح. رواه أحمد والشيخان، ورواه أكثر أهل السنن. انظر صحيح الجامع (6565).

ص: 356

لقد اختصكم الله - أيها المؤمنون - بشرع الكمال والجمال دون غيركم، رحمة منه بكم وتفضيلًا وتكريمًا، فاحرصوا على هذا الدين وأقيموه في حياتكم فهو سرّ سعادتكم.

قال ابن جرير: (تعريضٌ من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية، تَفَضُّل منه، وأنّ نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهبُ منه يختص بها من يشاء من خلقه).

106 -

107. قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106 - 107].

في هذه الآيات: إثبات نسخ بعض الآيات بحكمة الله تعالى، فهو الملك الحكيم العلم القدير، وما لكم معشر المؤمنين من دون الله من ولي ولا نصير.

قال ابن عباس: ({مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}، يقوله: ما نبدِّل من آية). وقال السدي: (أما نَسخها، فقبضها). وقال مجاهد: (نثبت خَطَّها، ونبدل حكمها).

وأصل النسخ من "نسخ الكتاب"، وهو نقله من نُسخة إلى أخرى غيرها. ومثله يكون نسخ الحكم إلى غيره، وهذ المعنى يشمل التفاسير الثلاثة السابقة.

قال ابن جرير: ({مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: ما ننقُلْ من حُكْم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. وذلك أن يحوّل الحلال حرامًا، والحرام حلالًا، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ).

وقوله: {أَوْ نُنْسِهَا} .

قرئ على وجهين: "نَنسأَها" و"نُنْسها". فالأولى قراءة جماعة من الكوفة والبصرة.

والثانية قراءة أهل المدينة والكوفة.

1 -

فعلى القراءة الأولى يكون المعنى: نؤخرها. قال ابن عباس: ({مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدّلها).

ص: 357

وقال مجاهد: ({أَوْ نُنْسِهَا}: نثبت خطها ونبدل حكمها). وقال عطاء: ({أَوْ نُنْسِهَا}: نؤخِّرُها ونُرْجئها). وقال عطية: (نؤخرها فلا ننسخها).

وقال أبو العالية: (أي نؤخرها عندنا). وقال الضحاك: ({مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}: يعني الناسخ من المنسوخ).

ويروي ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} أي: نؤخرها) ذكره ابن كثير.

2 -

وعلى القراءة الثانية: {أَوْ نُنْسِهَا} . قال قتادة: (كان الله عز وجل: يُنسي نبيّه صلى الله عليه وسلم ما يشاء، وينسخ ما يشاء). وقال الحسن: (إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنًا ثمَّ نَسِيه).

يروي ابن جرير بإسناده إلى القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيِّب يقرأ: {أَوْ نُنْسِهَا} قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيِّب ولا على آل المسيّب، قال الله جل ثناؤه:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ. . .} [الكهف: 24].

أخرج البخاري عن ابن عباس قال: قال عمر (أقرؤنا أُبيّ، وأقضانا عليّ، وإنا لندَعُ من قول أُبيّ، وذاك أن أبيًّا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (1).

وفي رواية: (قال عمر: أبيٌّ أقرؤنا وإنا لنَدَعُ من لَحْنِ أُبَيٍّ، وأُبَيٌّ يقول: أَخذْتُهُ مِنْ في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أَتْرُكُهُ لِشيءٍ، قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا})(2).

وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} .

أي: في الحكم والمنفعة والرفق والتخفيف. وتفصيل ذلك:

1 -

عن ابن عباس: ({نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم).

2 -

وقال قتادة فيها: (يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، فيها أمر، فيها نَهي).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4481) - كتاب التفسير.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5005) - كتاب فضائل القرآن.

ص: 358

3 -

وقال السدي: (يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو مثل التي تركناها).

4 -

وقال مجاهد: (كان عبيد بن عمير يقول: {نُنْسِهَا}: نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها).

و{نَأْتِ} جواب الشرط، و {نُنْسِهَا} عطف على {نَنْسَخْ} ، وحذفت الياء للجزم.

قال القرطبي: (وهذه آية عظمى في الأحكام. وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدًا يأمر أصحابه بشيء ثمَّ ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضًا، فأنزل الله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} وأنزل {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}).

ثمَّ قال: (معرفة هذا الياب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البَخْتَرِيّ قال: دخل عليّ رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوّف الناس، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجلٌ يُذكّر الناس، فقال: ليس برجل يذكّر الناس! لكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ ! فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تُذَكِّر فيه. في رواية أخرى: أعلمتَ الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكتَ وأهلكتَ).

ثمَّ ذكر خلاصة مَفهوم النسخ في كلام العرب وأنه على وجهين:

الوجه الأوّل: النقل، كنقل كتاب من آخر. وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخًا، أي من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العِزّة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] أي نأمر بنسخه وإثباته.

الوجه الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما: إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخَتِ الشمسُ الظلَّ إذا أذهبته وحلّت محله، وهو معنى قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} . وفي صحيح مسلم: [لم تكن نبوة قط إلا تناسخت]، أي: تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الأمّة. قال ابن فارس: النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمرًا

ص: 359

كان من قبل يُعمل به ثمَّ تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر ثمَّ ينسخ بأخرى. وكل شيء خلف شيئًا فقد انتسخه، يقال: انتسخت الشمس الظلَّ، والشيبُ الشباب. وتناسخُ الورثة: أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخُ الأزمنة والقرون.

الثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] أي: يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله.

وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

أي: من نسخ الأحكام وتبديلها واختيار أنفع منها وما هو أخف على العباد.

وقوله قعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 107].

يرشد سبحانه عباده بهذا إلى أنَّه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الإيجاد والاختراع، والملك والسلطان، ونفوذ الأمر والإرادة، فكما أنَّه تعالى يخلق ما يشاء، ويُسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويُصِحّ من يشاء، ويُمرِض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويَخْذُلُ من يشاء، فكذلك فإنَّه سبحانه يحكم في عباده بما يشاء، فيحلّ ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

والآية ردّ على اليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - وقد وقع النسخ في الكتب المتقدمة والشرائع الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرّم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثمَّ نسخ حِلَّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحًا لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها.

وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثمَّ نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عَبَدَ العجل منهم، ثم رَفَعَ عنهم القتل، كيلا يستأصلهم القتل. وفي القرآن من النسخ ما اتفقت عليه كلمة أهل العلم: كنسخ العدة بالحول إلى أربعة أشهر وعشر، وكذلك أمر تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وكذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، وكذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأمور.

ص: 360

وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .

أي: ليس لكم، أيها المؤمنون، بعد الله من قيّم بأمركم، ولا نصير فيؤيدكم ويقوّيكم، فيعينكم على أعدائكم. ذكره ابن جرير.

108.

قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108].

في هذه الآية: ينهى الله سبحانه عباده المؤمنين عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل حدوثها، وعن تقليد اليهود الذين أكثروا السؤال لموسى عليه السلام تنطعًا وشعورًا بالترف وقلة المسؤولية.

قال القرطبي: ({أَمْ تُرِيدُونَ} هذه "أمْ" المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل تريدون، ومعنى الكلام التوبيخ).

يروي ابن جرير عن ابن عباس: (قال رافع بن حُرَيْملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزِّله علينا من السماء نقرؤه، وفجِّر لنا أنهارًا، نَتَّبِعكَ ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}، الآية).

وعن قتادة قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} قال: (وكان موسى يُسأل، فقيل له: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}).

قال ابن كثير: (والمراد أن الله ذمّ من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتًا وتكذيبًا وعنادًا).

قلت: ولا شك أن الخطاب بهذه الآية يمتد إلى الكافرين ولا يقتصر على المؤمنين. ففي التنزيل: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]. أي: إن تسألوا عنها بعد نزولها وحدوثها.

ص: 361

وقد استفاضت السنة الصحيحة بهذا المعنى، وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأوّل: أخرج البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الله كَرِهَ لكم ثلاثًا: قيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن أعظمَ المسلمين جُرْمًا مَنْ سألَ عن شيءٍ لمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ من أجل مسألتهِ](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [دعوني ما تَرَكْتُكُمْ، فإنما هلكَ من كان قبلكم سؤالهُم واختلافُهُم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم](3).

وأصله في صحيح مسلم عنه قال: [خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! قد فُرِض عليكم الحجُّ فحُجُّوا. فقال رجل: أكُلَّ عام؟ يا رسول الله! فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلتُ: نَعَمْ، لوجَبَتْ، ولما استطعتم، ثمَّ قال: ذروني ما تركْتُكُمْ، فإنما هَلَكَ من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه](4).

الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث سهل بن سعد: [أن عُوَيْمِرًا العَجْلانِيَّ جاء إلى عاصم بن عديٍّ الأنصاريِّ فقال له: أرأيت يا عاصمْ! لو أن رجلًا وجد مع امرأته رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فتقتلونَهُ؟ أم كيف يفعل؟ فاسْئَل لي عن ذلك - يا عاصم! رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل عاصمٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. .](5).

الحديث الخامس: أخرج الإمام مسلم أيضًا في صحيحه عن أنس قال: [نُهينا أن

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (1477)، كتاب الزكاة، ورواه مسلم.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (7289)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ورواه مسلم (2358)، وأحمد (1/ 176)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (7288)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1337) - كتاب الحج. باب فرض الحج مرة في العمر.

(5)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1492) - كتاب اللعان، وانظر صحيح البخاري (5259).

ص: 362

نَسْأَل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ، فكان يُعْجِبنا أن يجيءَ الرجل من أهل البادية، العاقِلُ، فَيَسْألَهُ ونحن نسمع] (1).

وله شاهد عند أبي يعلى عن البراء بن عازب قال: [إن كان ليأتي عليَّ السنة، أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء، فَأتهيَّبُ منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب](2).

الحديث السادس: أخرج البزّار بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:[ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلها في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. . .} [البقرة: 219]. و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ. . .} [البقرة: 217]، و {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى. . .} [البقرة: 220]. يعني هذا وأشباهه] (3).

وقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} .

قال أبو العالية: (يقول: يتبدل الشدة بالرخاء).

واستبعد ابن جرير هذا التفسير وقال: (إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله {الْكُفْرَ} بمعنى الشدة في هذا الموضع، وبتأويله {بِالْإِيمَانِ} في معنى الرخاء: ما أعدّ الله للكفار في الآخرة من الشدائد، وما أعدّ الله لأهل الإيمان فيها من النعيم).

والمعنى: ومن يختر الكفر بديلًا عن الإيمان فقد عدل عن الصراط المستقيم إلى الجهل والضلال. لذلك قال تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} . قال الراغب: (فإن قيل ما فائدة قوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ} إلخ ومعلوم أنَّه بدون الكفر يضل الإنسان سواء السبيل فكيف بالكفر؟ قيل معنى ذلك: من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنَّه قد ضل، قبلُ، سواء السبيل، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان. ومعناه: لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان. قال: ووجه آخر، وهو أنَّه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام، بعد حصول ما تسكن النفس إليه، كفرًا، إذ هي مؤدية إليه) ذكره القاسمي.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (12) كتاب الإيمان. باب السؤال عن أركان الإيمان.

(2)

إسناده صحيح على شرط مسلم وله شواهد كثيرة. أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده.

انظر تفسير ابن كثير - تحقيق المهدي - حديث رقم (559).

(3)

رواه البزار، وأورده الحافظ ابن كثير في التفسير. انظر المرجع السابق.

ص: 363

109 -

110. قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

في هذه الآيات: يوجّه الباري عز وجل عباده المؤمنين إلى أخذ الحذر من مداخل الكفار من أهل الكتاب، ويكشف لهم عن ما تنطوي عليه أنفسهم من العداوة والبغضاء والغل والمكر والحسد، ثمَّ يأمر سبحانه عباده المؤمنين بالصفح والعفو حتى ينزل الفرج من الله بالنصر والظفر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاستعداد للقاء الله جل ذكره.

وقوله: {وَدَّ} . أي: تمنى.

و{كُفَّارًا} مفعول به ثان لـ {يَرُدُّونَكُمْ} .

وقوله: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} . أي: من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمروا به، وإنما فاضت به نفوسهم المريضة.

قال ابن عباس: (إن رسولًا أميًّا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات، ثمَّ يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا، وكذلك قال الله تعالى: {كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يقوله: من بعد ما أضاء لهم الحق، لَمْ يَجْهلوا منه شيئًا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فَعَيَّرهم ووبَّخَهم ولامهم أشدَّ الملامة).

وقال الربيع بن أنس: ({مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}: من قِبَلِ أنفسهم).

وقال أبو العالية: ({مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}: من بعد ما تبيّن أن محمدًا رسول الله يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسدًا وبغيًا، إذ كان من غيرهم).

والحسد نوعان: مذموم ومحمود. فالمذموم ما كان فيه تمني زوال نعمة الله عن

ص: 364

أخيك المسلم، لتعود إليك أو لا تعود، وقد ذمّ الله هذا النوع بقوله:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .

قال القرطبي: (وإنما كان مذمومًا لأنَّ فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق).

وأما المحمود فهو بمعنى الغبطة. وهو تمني الحصول على النعمة التي على أخيك دون أن تزول عنه. فإن كان في العمل الصالح والمعالي فهو من المنافسة المحمودة كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] فيجوز تسميته بالمنافسة. وقد صنف الإمام البخاري في صحيحه بابًا سمّاه: "باب الاغتباط في العلم والحكمة"، وبابًا سماه:"باب اغتباط صاحب القرآن"، روى فيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا حَسَدَ إلا على اثنتين، رجُلٌ آتاه اللهُ الكتابَ وقام به آناءَ الليل، ورجلٌ أعطاه الله مالًا فهو يتصدّق به آناء الليل وآناء النهار](1).

وكذلك روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رَجُلٌ عَلّمَهُ الله القرآنَ فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمِعَهُ جارٌ له فقال: ليتني أُوتيتُ مِثْلَ ما أوتِيَ فلانٌ فَعَمِلْتُ مِثلَ ما يَعْمَلُ، ورجل آتاه الله مالًا فهو يُهلِكُهُ في الحق، فقال رجل: لَيْتَني أوتيتُ مِثلَ ما أوتيَ فلانٌ، فعملتُ مثلَ ما يعمل](2).

وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

يشبه قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عروة بن الزبير: أن أسامة بن زيد أخبرهُ، قال:[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى. قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش](3).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (5025)، كتاب فضائل القرآن. باب اغتباط صاحب القرآن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة. انظر صحيح البخاري - حديث رقم - (5026)، كتاب فضائل القرآن. الباب السابق.

(3)

صحيح الإسناد، أورده ابن كثير في التفسير (564) في سورة البقرة، آية (109). من حديث عروة.

ص: 365

والحديث السابق أورده البخاري في صحيحه ضمن حديث طويل عن أسامة بن زيد وفيه: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا. . .} الآية. [آل عمران: 186]، وقال الله:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العَفْو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا فقتل الله به صناديدَ كفار قريش قال ابنُ أُبيٍّ ابنُ سَلُول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجّه. .] (1). أي ظهر وجهه، فأظهروا الإِسلام وأبطنوا النفاق والكفر.

قلت: وقد صحت رواية في أسباب نزول هذه الآية عن الزهري من رواية ابن أبي عاصم، عن عروة عن أسامة بن زيد أنَّه أخبره:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار فقال لسعد: ألم تسمع ما قال أبو الحباب - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا، فقال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن أهل الكتاب والمشركين، فأنزل الله عز وجل: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}](2).

ولا شك أن هذا الأمر بالعفو والصفح عن المشركين كان في أول الإِسلام، أيام غربته الأولى، ثمَّ أكرم الله المؤمنين بالشوكة ونزول آية السيف.

قال ابن عباس: ({فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}: نسخ ذلك قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. . .} [التوبة: 5]، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. .}، إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فنسخ هذا عفوَه عن المشركين).

وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وقتادة: (إنها منسوخة بآية السيف).

ولا ريب أن قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} يرشد إلى ذلك.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (4566) كتاب التفسير، ضمن حديث طويل عن آية آل عمران (186).

(2)

الحديث في الصحيح من طريق شعيب بن أبي حمزة بهذا السند، لكن ليس في الصحيح سبب النزول. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (4566)، وانظر للرواية السابقة: الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - سورة البقرة، آية (109).

ص: 366

وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110].

فيه توجيه من الله سبحانه للمؤمنين للاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بخير العاقبة في الدار الآخرة، حتى يأذن الله سبحانه لهم بالنصر والتمكين. فإن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لمن أجَلِّ الأعمال أيام غربة الإِسلام. كما قال تعالى في سورة النساء:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ. . .} [النساء: 77].

وعن الربيع: (قوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}، يعني: تجدوا ثوابه عند الله). وفي بعض الآثار: (إن العبد إذا مات قال الناس ما خَلّف! وقالت الملائكة ما قدَّم! ؟ ).

وفي صحيح البخاري وسنن النسائي عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أيُّكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منّا من أحد إلا ماله أحبُّ إليه من مال وارثه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله. مالُك ما قدَّمت ومالُ وارثك ما أخّرت].

هذا لفظ النسائي، ولفظ البخاري:[قال عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيّكم مال وارثِه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منّا أحدٌ إلا ماله أحبُّ إليه، قال: فإن ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخَّر](1).

قال أبو العتاهية:

اسعَدْ بِمالِكَ في حياتك إنما

يبقى وراءك مصلحٌ أو مفسدُ

وإذا تركت لمفسدٍ لم يبقه

وأخو الصلاح قليله يتزيّد

وإن استطعت فكن لنفسك وارثًا

إن المورّث نفسه لمسدّد

وقال آخر:

وَلَدَتْكَ إذْ وَلَدَتْكَ أمُّك باكيًا

والقومُ حَوْلَكَ يضحكون سرورًا

فاعمل ليومٍ تكون فيه إذا بَكَوْا

في يوم موتك ضاحكًا مسرورًا

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

فيه وعد ووعيد وأمر وزجر.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري - (6442) - كتاب الرقاق. باب ما قدّم من ماله فهو له.

ص: 367

قال ابن جرير: (وذلك أنَّه أعلم القوم أنَّه بصير بجميع أعمالهم، ليجدّوا في طاعته، إذ كان ذلك مذخورًا لهم عنده حتى يُثيبهم عليه، كما قال: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}، وليحذروا معصيته، إذ كان مطّلعًا على راكبها، بعد تقدُّمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوْعَدَ عليه ربُّنا جل ثناؤه فمنهي عنه، وما وَعَدَ عليه فمأمور به. أما قوله: {بَصِيرٌ}، فإنَّه "مُبْصر" صُرِفَ إلى {بَصِيرٌ}، كما صُرِفَ "مُبْدع" إلى "بديع" و"مؤلم" إلى "أليم").

111 -

113. قوله تعالى: {وَقَالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَال الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.

في هذه الآيات: يخبر سبحانه وتعالى عن غرور اليهود والنصارى حين ادّعت كل طائفة منهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها فأكذبهم الله بغرورهم، كما أكذبهم حين قالوا:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. . .} [المائدة: 18]، ثمَّ الفصل بينهم يوم القيامة.

والهود: جم هائد، وهو التائب الراجع إلى الحق. أو أن يكون مصدرًا عن الجميع، وقيل: المراد إلا من كان يهودًا. وهذا ما عناه القوم وحلّقوا فيه بأمانيهم. قال قتادة: ({تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}: أماني يتمنَّونها على الله كاذبة).

وقال الربيع: (تمنوا على الله بغير الحق).

قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . قال قتادة: (هاتوا بَيِّنَتَكُمْ). وقال السدي: (هاتوا حُجَّتَكُم). وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني: في دعواكم.

قال الرازي: (دلت الآية على أن المدعي سواء ادّعى نفيًا أو إثباتًا، فلا بد له من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد).

ص: 368

وقال الزمخشري: (وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وإن كل قول لا دليل عليه، فهو باطل غير ثابت).

ثمَّ قال سبحانه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}

أي: أخلص دينه لله تعالى. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: متبع فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه.

وقوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} يعني: القبول وتلقي العمل ورفعه. فإن للعمل المتقبل شرطين: الأوّل: أن يكون خالصًا لله وحده. والثاني: أن يكون موافقًا لمنهاج الشريعة.

ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد](1). ورواه البخاري وأحمد عنها بلفظ: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد](2). وقوله "بلى" تكذيب وردّ لهم. أي ليس الأمر كما تقولون وتدّعون.

ومعنى {أَسْلَمَ} : استسلم وخضع. وقيل: أخلص عمله. قال القرطبي: (وخصّ الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يُرى من الإنسان، ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العِزُّ والذُّل. والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء، ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد). وجملة {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في محلّ نصب حال.

قال ابن جرير: (يعني بقوله جل ثناؤه: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، فللمسلم وجْهَه لله محسنًا، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه، عند الله في معاده).

وقوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} .

يعني: على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون، من عقاب وعذاب جهنم، بل هم آمنون بإخلاصهم وصواب توجههم إلى الله سبحانه. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1718) كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور. ورواه أحمد. انظر صحيح الجامع -حديث رقم- (6274).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (2697) ومسند أحمد (6/ 240). ورواه مسلم أيضًا في الباب السابق بهذا اللفظ. وانظر صحيح الجامع -حديث رقم- (5846).

ص: 369

ما خلّفوا وراءهم في هذه الحياة الدنيا، ولا أن يمنعوا من النعيم المقيم الذي أعدّه الله لأوليائه وأهل طاعته.

وقوله: {وَقَالتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} .

يبين سبحانه وتعالى في هذه الآية تناقض الفريقين من أهل الكتاب وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم.

قال مجاهد: (قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء). وقال قتادة: ({وَقَالتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ}، قال: بلى، قد كانت أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا. {وَقَالتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} قال: بلى، قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا).

وقوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} .

قال ابن عباس: (أي كلٌّ يتلو في كتابه تصديق ما كفر به، أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديقُ موسى وما جاء به من التوراة من عند الله، وكلٌّ يكفر بما في يد صاحبه).

ثمَّ قال تعالى: {كَذَلِكَ قَال الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} .

وفيه عند المفسرين أقوال:

1 -

عن الربيع: {قَال الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} ، قال:(وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم).

2 -

عن ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: (أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والإنجيل).

3 -

وقال السدي: (هم العرب، قالوا: ليس محمَّد صلى الله عليه وسلم على شيء).

وقال ابن جرير: (وقال بعضهم: عنى بذلك مُشركي العرب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، فنسبوا إلى الجهل، ونُفي عنهم من أجل ذلك العلم).

وبالجمع بين الأقوال: فإن أهل الكتاب قد أتوا من قِيل الباطل والافتراء على الله

ص: 370

وجحود نبوة الأنبياء والرسل مثل ما قال أهل الجهل بالله وكتبه ورسله ممن لم يبعث الله لهم رسولًا ولا أنزل عليهم كتابًا. وهو اختيار ابن جرير.

وقوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: إنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العَدْل، الذي لا يجورُ فيه ولا يظلم مثقال ذرة).

قال تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].

وقال في سورة سبأ: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26].

114.

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .

في هذه الآية: تهديد ووعيد لمن منع مساجد الله أن يُعَظَّم فيها ويذكر فيها وتعلّم فيها علوم كتابه وهدي نبيّه صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء سيبقون على خوف عند دخولها مما يمكن أن ينزل بهم، فلهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

المساجد: جمع مسجد، وهو كل موضع عُبِد الله فيه، وفي الآية أكثر من تأويل:

التأويل الأوّل: المقصود النصارى، والمسجد بيت المقدس.

قال مجاهد: ({وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}: النصارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يُصَلّوا فيه). وقال ابن عباس: (إنهم النصارى). وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله،

التأويل الثاني: قيل بل هو بُخْتَنَصَّر وجنده ومن أعانهم من النصارى، والمسجد مسجد بيت المقدس. فعن قتادة في تفسير الآية قال:(أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بُغض اليهود على أن أعانوا بُخْتَنَصَّر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس). وفي رواية: (هو بختنصَّر وأصحابه، خرّب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى).

ص: 371

وقال السدي فيها: (الرُّوم، كانوا ظاهروا بختنصَّر على خراب بيت المقدس حتى خرّبه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا).

التأويل الثالث: قيل بل المقصود مشركو قريش إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام.

قال ابن زيد فيها: (هؤلاء المشركون، حيث حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة، حتى نحر هديه بذي طُوىً وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يُرَدُّ عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصدُّه! وقالوا: لا يدخل علينا مَنْ قَتَلَ آباءنا يوم بدر وفينا باقٍ! ). وهو اختيار ابن كثير. واستبعد ابن جرير هذا القول، واحتج بأن قريشًا لم تسعَ في خراب الكعبة، ورجح القول الأوّل.

قلت: والآية عامة، والأولى أن تبقى كذلك عامة في حق كل من منع مساجدَ الله أن يعظَّم فيها ويذكَر فيها وتُعَلَّم فيها علوم كتابه وهدي نبيّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك اختار القرطبي رحمه الله، أن المراد مَنْ منع مِن كل مسجد إلى يوم القيامة، لأنَّ اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف، والله تعالى أعلم. ثمَّ قال:(خراب المساجد قد يكون حقيقيًّا كتخريب بُخْتَ نَصَّر والنصارى بيت المقدس على ما ذُكر أنهم غَزَوا بني إسرائيل مع بعض ملوكهم - قيل: اسمه نطوس بن اسبيسانوس الرومي فيما ذكر الغزنَوِيّ - فقتلوا وسَبَوْا، وحرقوا التوراة، وقذفوا في بيت المقدس العَذِرة وخربوه. ويكون مجازًا كمنع المشركين المسلمين حين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإِسلام فيها خراب لها).

وقوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} .

خبرٌ من الله سبحانه بأن عقوبة أولئك المخربين لبيوته المانعين فيها ذكره أن حرّم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها، إلا على خوف ووجل من العقوبة أن تنزل بهم.

فعن قتادة: ({مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}، وهم النصارى، فلا يدخلون المسجد إلا مُسارقةً، إنْ قُدِر عليهم عوقبوا). قال السدي: (فليس في الأرض روميٌّ

ص: 372

يدخلها اليوم إلا وهو خائف أن تُضربَ عنقه، أو قد أخِيف بأداء الجزية، فهو يؤدِّيها).

وقال ابن زيد: (نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحُجُّ بعد العام مشوك، ولا يطوف بالبيت عُريان". قال: فجعل المشركون يقولون: اللهم إنا منعنا أن نَنْزِل).

وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .

يعني: القتل والسباء في الدنيا، أو الذلة والصغار بأداء الجزية، ونار جهنم في الآخرة.

قال قتادة فيها: (يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون). وقال السدي: (أما خِزيهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المهديُّ وفتحت القسطنطينية قتلهم. فذلك الخزي. وأما العذاب العظيم، فإنَّه عذاب جهنم الذي لا يخفّف عن أهله، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية: لهم في الدنيا الذّلة والهوانُ والقتل والسَّبْي - على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم في خرابها، ولهم، على معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم في الأرض فسادًا، عذابُ جهنم، وهو العذاب العظيم).

115.

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .

في هذه الآية: يُسَلّي الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم، وقد مكثوا بمكة يصلون إلى بيت المقدس والكعبة أمامهم، وكذلك مكثوا ستة عشر شهرًا تقريبًا يصلون إليه بالمدينة حتى حولهم ربهم سبحانه إلى الكعبة.

قال ابن عباس: (أول ما نُسِخَ من القرآن فيما ذكر لنا - والله أعلم - شأن القِبلة. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى نحو بيت المقدس، وتَرَك البيت العتيق، ثمَّ صرفه إلى البيت العتيق ونسخها. فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ})(1).

(1) ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ بإسناد حسن، رجاله ثقات. انظر تحقيق تفسير ابن كثير - المهدي - آية البقرة (115).

ص: 373

وقوله: {فَأَيْنَمَا} . يعني: حيثما. وقوله {فَثَمَّ} . يعني هنالك. وقوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . قال مجاهد: (قبلة الله). وقيل: فثم الله تبارك وتعالى. وقيل: يعني رضا الله. وقيل: وجه الله صفة له.

وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية على عدة أقوال:

القول الأوّل: استنكار اليهود تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فأنزل الله الآية.

قال ابن عباس: (فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} فأنزل الله عز وجل: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}).

فيكون تأويل الآية: (يقول سبحانه: المشارقُ والمغارب كلها لي، أصْرفُ وجوهَ عبادي كيف أشاء منها، فحيثما تُوَلوا فثم وجه الله).

القول الثاني: أنزلت قبل أن يفرض الله القبلة على نبيّه صلى الله عليه وسلم نحو البيت الحرام، فكان لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب.

قال قتادة: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} : هي القبلة، ثمَّ نسختها القبلة إلى المسجد الحرام).

القول الثالث: أنزلت في التطوع، إذْنًا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يصليها حيث توجه في مسيره في سفره، وحال المسايفة، وفي شدة الخوف والتقاء الزحوف في الفرائض.

ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وهو مُقْبِلٌ مِنْ مكَّةَ إلى المدينة، على راحلته حيثُ كان وجْهُه. قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}](1).

القول الرابع: قيل بل نزلت في قوم عُمِّيت عليهم القبلة فصلوا على أنحاءٍ مختلفة.

أخرج ابن ماجة والترمذي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: [كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلًا، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدًا يصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذ نحن قد صلينا إلى غير القبلة. فقلنا: يا

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (700) ح (33). كتاب صلاة المسافرين. باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. ورواه أحمد والنسائيُّ والترمذي.

ص: 374

رسول الله، لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ] (1).

وعند ابن مَرْدُويه عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة، فصلوا لغير القبلة. ثمَّ استبان لهم بعدما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة، فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ})(2).

القول الخامس: قيل بل نزلت في النجاشي مات قبل أن يصلي إلى القبلة.

قلت: والراجح عندي القول الثالث والرابع من الأقوال، فإن القول الثالث ثبت البيان فيه في خبر السنة الصحيحة، وقد صنف بذلك الإمام مسلم في صحيحه بابًا لذلك، وروى فيه خبر نزول الآية، ثمَّ روى عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال:[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبِّح على الراحلة قِبَلَ أيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، ويوتِرُ عليها، غيرَ أنَّه لا يصلي عليه المكتوبة](3).

فيدل على جواز صلاة النافلة أينما توجه العبد وهو راكب في السفر أو الغزو، كما أن القول الرابع يدلّ على أنَّه لا إعادة على من بذل وسعه لمعرفة القبلة في الفريضة فصلاها لغير القبلة، فصلاته صحيحة، ويؤيد ذلك ما أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما بين المشرق والمغرب قبلة](4). وفي لفظ:

[ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة، وأهل الشام، وأهل العراق](5).

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (345) وابن ماجة (1020) والطبري (1843)، وفي سنده ضعيف وهو أشعث بن سعيد السمان، ولكن كثرت شواهده من طرق مختلفة وإن كانت لا تخلو من نظر، والحديث بمجموعها حسن أو يقرب من الحسن والله أعلم.

(2)

إسناده واه لأجل الكلبي، ولكنه والذي قبله كما قال الحافظ ابن كثير:(وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشدّ بعضها بعضًا). وانظر تفسير ابن كثير - تحقيق عبد الرزاق المهدي. البقرة (115).

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (700) ح (39). كتاب صلاة المسافرين.

(4)

حديث حسن. انظر سنن الترمذي -حديث رقم- (344). وصحيح الجامع (5460).

(5)

حسن بشواهده. انظر سنن الترمذي -حديث رقم- (342)، وسنن ابن ماجة -حديث رقم- (1511) والمرجع السابق، وذكره ابن كثير في التفسير. سورة البقرة: الآية (115).

ص: 375

قال ابن عمرة (إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة، إذا استقبلت القبلة)(1). وقال مجاهد: ({فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}: قبلةُ الله، فأينما كنتَ من شرق أو غرب فاستقبلها). وقال: (حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها. قال: الكعبة). أي أن التوجه إليها ممكن من كل بقاع الأرض. وروي عنه أيضًا أن الدعاء داخل في مفهوم هذه الآية، أي: أينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي، أستجيب لكم دعاءكم. قال ابن جريج:(قال مجاهد: لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .

قال ابن جرير: (يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير. وأما قوله: {عَلِيمٌ} فإنه يعني: أنَّه عليم بأفعالهم، لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم).

116 -

117. قوله تعالى: {وَقَالوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

في هذه الآيات: ردٌّ على النصارى، ومن أشبههم من اليهود ومشركي العرب، ممن جعل الملائكة بنات الله، فأكذب الله جميعهم بدعواهم الكذب أن لله ولدًا. {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا. فهو المبدع لكل شيء في السماوات والأرض، وأمره لا يزيد على قوله {كُنْ} فيكون.

وفي التنزيل: {وَقَالوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَال هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88: 95].

(1) المرجع السابق. قال الترمذي: (وقد روي عن غير واحد من الصحابة: "ما بين المشرق والمغرب قبلة").

ص: 376

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .

فأخبر بذلك سبحانه أنَّه السيد العظيم الأحد الذي لا نظير له ولا شبيه، وكل ما سواه مخلوق له، فكيف يكون له منها ولد، وله ما في السماوات وما في الأرض.

قال ابن جرير: (ومعنى ذلك: وكيف يكون المسيح لله ولدًا، وهو لا يخلو: إما أن يكون في بعض هذه الأماكن، إمّا في السماوات، وإمّا في الأرض، ولله ملِك ما فيهما، ولو كان المسيح ابنًا كما زعمتم، لم يكن كسائر ما في السماوات والأرض من خلقه وعبيده، في ظهور آيات الصنعة فيه).

أخرج البخاري في تفسير هذه الآية من سورة البقرة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تبارك وتعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولدٌ فسبحاني أن أتخذ صاحِبةً أو ولدًا](1).

وكذلك أخرج البخاري رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:[قال الله تعالى: كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أوَّل الخلق بأهْوَنَ عَليَّ من إعادتِه، وأما شتْمُهُ إيَّايَ فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصَّمد، لم ألِدْ ولمْ أُولدْ، ولم يَكُنْ لي كُفُوًا أحد](2).

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا أحدَ أصبرُ على أذى سَمِعَه من الله، إنهم يجعلون له ولدًا، وهو يرزقهم ويعافيهم](3).

وقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} .

فيه أقوال:

1 -

قال مجاهد: (مطيعون. قال: طاعة الكافر في سُجود ظلّه). وفي رواية: (بسجود ظله وهو كاره).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (4482) - كتاب التفسير، سورة البقرة (116).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (4974) - كتاب التفسير، سورة الإخلاص.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (6099)، وصحيح مسلم -حديث رقم- (2804)، والبيهقيُّ في "الأسماء والصفات"(1064).

ص: 377

2 -

قال السدي: (كل له مطيعون يوم القيامة).

3 -

قال عكرمة: (كل مقرٌّ له بالعبودية).

4 -

وقال الربيع: (كل له قائم يوم القيامة).

قال ابن جرير: (ولـ {القنوت} في كلام العرب معانٍ: أحدها: الطاعة، والآخر: القيام، والثالث: الكف عن الكلام والإمساك عنه). ثمَّ اختار أن المعنى في الآية هنا الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية، بشهادة أجسامهم، بما فيها من آثار الصنعة والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها.

وكذلك ذهب الحافظ ابن كثير حيث قال: (القنوت هو الطاعة والاستكانة إلى الله، وذلك شرعي وقَدَري، كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ})[الرعد: 15]).

وقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . أي: مبدعها.

وإنما هو "مُفْعِل" أي مُبْدع، فصرف إلى "فعيل" أي بديع. كما صرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى سميع. قال الربيع:({بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، يقول: ابتدع خلقها، ولم يشركه في خلقها أحد). وقال السدي: (ابتدعها، فخلقها، ولم يُخْلق قبلها شيء فيتمثَّل به).

والمبدع هو المحدث ما لم يسبق إليه. ومنه سمي المبتدع في الدين مبتدعًا، وما أحدثه يسمى بدعة، كما في صحيح مسلم:[فإن كل محدثة بدعة](1).

قال الحافظ ابن كثير في التفسير: (والبدعة على قسمين، تارة تكون بدعةً شرعية، كقوله: "فإن كلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (2). وتارة تكون بدعةً لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن جَمْعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نِعْمَت البدعة هذه).

(1) حديث صحيح. وهو بعض حديث أخرجه الإمام مسلم، وسيأتي بتمامه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن -حديث رقم- (46) بسند صحيح، وسيأتي.

ص: 378

وقوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

بيان من الله سبحانه لكمال قدرته وعظيم سلطانه. فيقول للأمر: كن، أي: مرة واحدة، فيكون كما أراد سبحانه ووفق ما أراد.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

3 -

وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50].

وقد خلق سبحانه عيسى عليه السلام من قبل بكلمة: كنْ. فكان كما أمره الله تعالى، قال جل ذكره:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

118.

قوله تعالى: {وَقَال الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَال الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .

في هذه الآية: ظهور العتو والعناد وسؤال ما لا حاجة فيه من كفار العرب كما ظهر ذلك في أمم أهل الكتابين، فقد تشابه القوم في الضلال.

وقد اختلف المفسرون في المقصود بقوله تعالى: {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} على أقوال:

1 -

قال مجاهد: ({وَقَال الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: النصارى). واختاره ابن جرير.

2 -

قال ابن عباس: (هم اليهود). وعن محمَّد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس قال: (قال رافع بن حُرَيملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ كنت رسولًا من عند الله كما تقول، فقل لله عز وجل فليكلِّمنا حتى نسمع كلامه! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله: {وَقَال الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} الآية كلها).

3 -

وقال قتادة: (هم كفار العرب). وهو اختيار ابن كثير.

ص: 379

وقوله: {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} .

أي: فهلاّ يكلمنا الله ويؤتينا آية كما أوتي الرسل. وقيل المعنى: (أي يخاطبنا بنبوتك يا محمَّد) حكاه القرطبي.

ثمَّ اختلفوا بناء على ما سبق في قوله: {كَذَلِكَ قَال الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} على أقوال:

1 -

قال مجاهد: (هم اليهود).

2 -

قال قتادة: (يعني اليهود والنصارى وغيرهم). وبنحوه قال السدي: (قالوا: - يعني العرب - كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم).

3 -

قيل بل هم الأمم السالفة. وعني بالذين لا يعلمون: اليهود والنصارى.

قلت: ويبدو أن المقصود بـ {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} هم مشركو العرب، فإن طلبهم الذي طلبوه قد تكرر في القرآن في آيات كثيرة:

1 -

قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 124].

2 -

وقال في سورة الإسراء: {وَقَالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] إلى قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93].

3 -

وقال في سورة الفرقان: {وَقَال الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا. . .} [الفرقان: 21].

4 -

وقال في سورة المدثر: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52].

فهذه الخصال من العتو والعناد وسؤال ما لا حاجة فيه قد تكررت من كفار العرب ومشركيهم، كما ظهرت قبلهم في الأمم الخالية من أهل الكتابين، كما قال سبحانه:{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. . .} [النساء: 153]

وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].

أي: في الكفر والعناد والتنطع.

ص: 380

قال الفراء: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} في اتفاقهم على الكفر). وقيل: (في التعنيت والاقتراح وترك الإيمان) ذكره القرطبي. وقال ابن كثير: (أي أشْبَهَتْ قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53].

وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . أي: يتعظون بأخبار من سبقهم فيؤمنون بالله ورسله بصدق ويقين لئلا ينزل بهم ما نزل بالمكذبين والمعاندين.

119.

قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} .

في هذه الآية: إعلام الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أنَّه مرسل بالحق بالبشارة والنذارة، وإنما الهداية بيد الله، ولا عليك شأن المتكبرين والمعاندين.

أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: [أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وحِرْزًا للأميّين، أنت عبدي ورسولي، سَمَّيْتُك المتوكل، ليس بفَظّ ولا غليظٍ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يَدْفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيمَ به المِلَّةَ العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويُفْتَحُ بها أعينٌ عُمْيٌ، وآذانٌ صُمٌّ، وقلوب غُلْف] (1).

وفي لفظ: (فيفتح به أعينًا عُمْيا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفًا).

وقوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} .

أي: إنما عليك البلاغ والإنذار، ولست مسؤولًا عمن كفر وعن مصير من كفر.

وقرأ بعض أهل المدينة: {وَلَا تُسْأَلُ} جزمًا، في حين قرأها أُبيّ بن كعب: "وما

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (2125) كتاب البيوع، و (4838) كتاب التفسير، ورواه أحمد في المسند (2/ 174).

ص: 381

تُسْأَلُ"، وذكر ابن جرير أنها في قراءة ابن مسعود: "ولن تُسألَ"، والقراءة المشهورة هي قراءة قرّاء الأمصار:{وَلَا تُسْأَلُ} .

120 -

121. قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

في هذه الآيات: يخبر الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن طبيعة اليهود والنصارى، بأنهم لا يرضون عنك أبدًا حتى توافق طريقتهم وأهواءهم، وتترك ما أنت عليه من الحق لأجلهم، ومن ثمَّ فإن الخير لك ولأمتك في خلافهم وعدم مشابهتهم، وتعظيم الوحي والهدى الذي اختصك الله به لجمع الخلق كلهم ولو كره المبطلون.

قال القرطبي: (المعنى: ليس غرضهم يا محمَّد بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا، بل لو أتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإِسلام واتباعهم).

والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله، فالملة هي الدين، وجمعها المِلَل.

وقوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} .

أي: بيان الله هو الحجة وهو القضاء الفصل وإليه التحاكم، وفي ذلك تكذيب لادعائهم أنَّه لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى.

وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .

هو تهديد ووعيد، وتحذير شديد، من الله سبحانه للأمة إذا اتبعت طرائق اليهود والنصارى بعدما علموا من القرآن والسنة، والخطاب وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الأمة به مرادة.

قال ابن كثير: (وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله تعالى: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، حيث أفردَ الملّة، على أن الكفر كلّه ملّة واحدة، كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}).

ص: 382

فقد ذهب أبو حنيفة والشافعيُّ وأحمد إلى ذلك، وكذلك استدلوا بالحديث:[لا يتوارث أهل ملتين](1) على أن المراد به الإِسلام والكفر. بدليل قوله عليه السلام: [لا يرث المسلم الكافر](2)، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار.

وفي قوله تعالى: {مِنَ الْعِلْمِ} .

سُئل أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، قيل: بم كفَّرته؟ فقال: (بآيات من كتاب الله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} والقرآن من علم الله. فمن زعم أنَّه مخلوق فقد كفر).

قال الرازي: (في الآية دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلًا. فمن هذا الوجه تدل على بطلان التقليد).

وختام الآية: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} . يلي أمرك {وَلَا نَصِيرٍ} يدفع عنك عقابه.

قال القاسمي: (وإنما أوثِر خطابه صلى الله عليه وسلم ليدخل دخولًا أوليًّا مَن اتبع أهواءهم بعد الإِسلام من المنافقين تمسكًا بولايتهم، طمعًا في نصرتهم).

وفي فتح البيان ما نصّه: (وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتنصدع منه الأفئدة، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه، والقائمين ببيان شرائعه - ترك الدهان لتاركي العمل بالكتاب والسنة، المؤْثرين لمحض الرأي عليهما).

وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} .

قال قتادة: (هؤلاء أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بكتاب الله وصدقوا به).

وقيل: بل المراد علماء بني إسرائيل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، فأقرّوا بحكم التوراة وامتثلوا ما جاء بها من الأمر باتباع محمَّد صلى الله عليه وسلم وتصديقه. قال ابن زيد في الآية:(من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود، فأولئك هم الخاسرون). وهو اختيار ابن جرير.

(1) حديث صحيح. رواه الترمذي في السنن عن جابر، والنسائيُّ والحاكم عن أسامة. وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7489).

(2)

جزء من حديث في الصحيحين والسنن عن أسامة بلفظ: [لا يرث الكافرُ المسلم، ولا المسلم الكافر] ورواه أحمد أيضًا. انظر صحيح الجامع -حديث رقم- (7562).

ص: 383

وقوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: (يتبعونه حق اتباعه). قال: (يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرِّفونه).

2 -

وقال ابن مسعود: (والذي نفسي بيده، إنّ حقَّ تلاوته: أن يُحل حلاله ويحرِّم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرِّف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوّل منه شيئًا على غير تأويله). وعن مجاهد: ({يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قال: عملًا به). قال: (يعملون به حقّ عمله). وقال عطاء: (يتبعونه حق اتباعه، يعملون به حق عمله).

3 -

عن قيس بن سعد: ({يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}، قال: يتبعونه حق اتباعه، ألم تر إلى قوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} يعني الشمسَ إذا تبعها القمر).

4 -

وقال الحسن: (يعملون بمُحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكِلون ما أشكل عليهم إلى عالمه).

5 -

وقال آخرون: (يقرؤونه حق قراءته).

أخرج ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد، عن أبيه، عن عمر بن الخطّاب:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قال: (إذا مَرَّ بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مرّ بذكر النار تعوذ بالله من النار). ذكره ابن كثير.

قلت: ويؤيده ما في صحيح الإمام مسلم من حديث حذيفة قال: [كان إذا مرَّ بآية خوفٍ تعوَّذ، وإذا مرَّ بآية رحمة سألَ، وإذا مرّ بآيةٍ فيها تنزيهُ الله سبّح](1).

وقال أبو موسى الأشعري: (من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة) ذكره القرطبي.

قلت: وكل هذه الآثار والتفاسير تتدفق من مفهوم قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} .

وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} .

خبر عن {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} .

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (772) - كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل. ورواه أحمد وأصحاب السنن. انظر صحيح الجامع (4658).

ص: 384

قال ابن زيد: (من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل وبالتوراة، وإن الكافر بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر، كما قال جل ثناؤه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}).

وفي التنزيل: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. . .} [المائدة: 68].

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. . .} [المائدة: 66].

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. . .} [الأعراف: 157].

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 52: 54].

وفي الصحيح: [ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجُلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران. .] الحديث (1).

وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .

قال ابن زيد: (من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}).

وفي التنزيل نحوه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ. . .} [هود: 17].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: [والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثمَّ يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار](2).

122 -

123. قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد والشيخان وأكثر أهل السنن. انظر صحيح مسلم (154) من حديث أبي موسى، كتاب الإيمان، وقد مضى بتمامه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة. انظر صحيح مسلم - حديث رقم - (153) - كتاب الإيمان، ومسند أحمد (2/ 350).

ص: 385

فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}.

في هذه الآيات: توجيه الله تعالى بني إسرائيل لذكر نعمته عليهم وعلى آبائهم وكيف فضلهم على عالمي أهل زمانهم. وتنبيه لهم لسلوك طريق التقوى والاستعداد ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

لقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة، ثمَّ كررت هنا ليختم بها الأوامر والوصايا مرة أخرى.

قال القاسمي: (قال القاضي: ولما صدّر قصتهم بالأمر بذكر النعم والقيام بحقوقها، والحذر من إضاعتها والخوف من الساعة وأهوالها - كرر ذلك وختم به الكلام معهم، مبالغة في النصح وإيذانًا بأنّه فذلكة القضية والمقصود من القصة).

وقال ابن كثير: (وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمْرَه وأمته. فحذّرهم من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم، من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم. ولا يحمِلهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه، والحيدة عن موافقته، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين).

124.

قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .

في هذه الآية: اختبار الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام ببعض التكاليف الشرعية، وأختياره لمقام الإمامة في الدين، وتقريره تعالى أنَّه لا تكون النبوة والإمامة للظالمين.

فقوله: {ابْتَلَى} .

أي: اختبر. ومنه قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]. يعني: اختبروهم.

قال ابن جرير: (وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارًا بفرائض فرضها

ص: 386

عليه، وأمرٍ أمره به. وذلك هو "الكلمات" التي أوْحَاهنّ إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانًا منه له واختبارًا).

وأما صفة هذه "الكلمات" موضع الابتلاء، ففي ذلك أقوال عند المفسرين:

القول الأوّل: هي شرائع الإِسلام، وهي ثلاثون سهمًا.

قال ابن عباس: (ما ابتُلي أحدٌ بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم، ابتلي بالإِسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، فذكر عشرًا في "براءة" فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} إلى آخر الآية، وعشرًا في "الأحزاب": {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}، وعشرًا في "سورة المؤمنين" (1 - 9) إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، وعشرًا في {سَأَلَ سَائِلٌ} [22 - 34]:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ).

القول الثاني: هي خصال عشر من سُنن الإِسلام.

فعن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس:({وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}، قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمسٌ في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قصُّ الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسِّواك، وفَرْق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحَلق العانة، والخِتان، ونتف الإبط، وغَسل أثر الغائط والبول بالماء).

وذكر ابن جرير أثرًا آخر بسنده عن مطر، عن أبي الجلد قال:(ابتلي إبراهيم بعشرة أشياءَ، هن في الإنسان، سُنَّة: الاستنشاق، وقصّ الشارب، والسِّواك، ونتْف الإبط، وقَلْم الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحَلْقُ العانة، وغسل الدبر والفرج).

قلت: وهذه الأمور مذكورة في السنة الصحيحة. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت:[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَشْرٌ من الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاء اللحية، والسِّواك، واستنشاق الماء، وقصُّ الأظفار، وغَسْلُ البَراجم، ونَتْفُ الإبط، وحَلْقُ العانة، وانتقاص الماء. قال مصعب: ونسيتُ العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء](1).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (261)، وسنن أبي داود (53)، وسنن الترمذي (2758).

ص: 387

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الفطرة خمس: الخِتان، والاستحداد، وقصُّ الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط](1).

القول الثالث: قيل بل الكلمات التي ابتلي بهنّ عشرُ خِلال، بعضهُنّ في تطهير الجسد، وبعضهن في مناسك الحج.

قال الربيع: (فالكلمات: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}، وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الآية، وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} الآية. قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتُلي بهن إبراهيم).

قال ابن عباس: (فمنهن: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، ومنهن:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} ، ومنهن الآيات في شأن النسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرِّزق الذي رُزق ساكنو البيت، ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذريتهما عليهما السلام.

القول الرابع: قيل بل هي مناسك الحج خاصة.

قال ابن عباس: (إن الكلمات التي ابتُلي بها إبراهيم، المناسك). قال: (مناسك الحج). وفي رواية: (منهن مناسك الحج).

القول الخامس: قيل بل هي أمور، منهن الختان.

فعن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي:({وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: منهن الختان).

القول السادس: قيل بل ذلك الخلال الستّ: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن.

قال الحسن: (إي والله، ابتلاه بأمرٍ فصَبَرَ عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسنَ في ذلك، وعَرَف أن ربَّه دائم لا يزول، فوجَّه وجهَه للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين، ثمَّ ابتلاه بالهجرة، فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله، ثمَّ ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك، فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5891)، وأخرجه مسلم (257).

ص: 388

القول السابع: عن السدي: (الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيمَ ربُّه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ. . .}).

قلت: وكل هذه الأقوال لا مانع من دلالتها على الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقام بمقتضاها أحسن القيام حتى استحق ثناء الله عليه وعلو ذكره بين الملائكة والمؤمنين.

وقوله: {فَأَتَمَّهُنَّ} .

قال ابن عباس: (أي فأدّاهن). وقال قتادة: (أي عمل بهنّ فأتمهن).

وقوله: {قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} .

قال الربيع: (ليؤتم به ويقتدى به).

وقوله: {قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} .

قال الربيع: (يقول: فاجعل من ذريتي من يُؤتم به، ويقتدى به).

يعني: فاجعل مثل الذي جعلتني به، من الإمامة للناس، يكون كذلك من ذريتي. قال ابن كثير:(سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته، فأجيب إلى ذلك، وأُخبرَ أنَّه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يُقتدى بهم).

قال تعالى في سورة العنكبوت: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ. . .} .

فاستجاب الله سبحانه له، فكل نبي أرسله أو كتاب أنزله بعد إبراهيم، ففي ذريته عليه وعلى الأنبياء صلوات الله وسلامه.

وقوله: {قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .

يعني أن الظالم لا يكون إمامًا لأهل الخير.

قال ابن جرير: (لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به). فهو خبر من الله سبحانه عن أن الظالم لا يكون إمامًا يَقتدي به أهل الخير.

وأما العهد الذي حرمه الله على الظالمين ففيه أقوال:

القول الأوّل: (العهد) النبوة. يعني لا ينال النّبوةَ أهلُ الظلم والشرك.

ص: 389

فعن السدي: ({قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، يقول: عهدي، نبوّتي).

القول الثاني: {العهد} عهد الإمامة. يعني لا أجعل من كان من ذريتك ظالمًا، إمامًا لعبادي يُقتدى به.

فعن مجاهد: (قال الله: {لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، قال: لا يكون إمامٌ ظالمًا).

وفي رواية: (قال: لا يكون إمامٌ ظالم يقتدى به) أو قال: (لا أجعل إمامًا ظالمًا يقتدى به). وفي رواية: (قال: لا يكون إمامًا ظالم). وقال عطاء: (فأبى أن يجعل من ذريته ظالمًا إمامًا). وقال ابن جُريج لعطاء: ما عهده؟ قال: (أمره).

القول الثالث: قيل بل المعنى: لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.

فعن ابن عباس فيها قال: (يعني: لا عهدَ لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه).

وقال: (ليس للظالمين عهدٌ، وإن عاهدتهُ فانقضه). وقال ابن عباس: (ليس لظالم عهدٌ).

القول الرابع: {العهد} في هذه الموضع: الأمان.

فتأويل الكلام حينئذ: لا ينال أماني أعدائي، وأهل الظلم لعبادي. أي: لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة.

فعن قتادة: ({قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، ذلكم عند الله يوم القيامة، لا ينال عَهده ظالم"، فأما في الدنيا، فقد نالوا عهد الله، فوارثوا به المسلمين وَغازَوْهم وناكحوهم به. فلما كان يوم القيامة قَصَرَ الله عهده وكرامته على أوليائه).

وقال أيضًا: (لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم، وأكل به وعاش). وعن إبراهيم نحوه وقال في آخره: (فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمِن به، وَأكل وأبصر وعاش).

ولا شك أن الآية فيها إعلام من الله لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به، ويجور عن قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباده. كما قال مجاهد فيها:(إنه سيكون في ذريتك ظالمون).

القول الخامس: قيل بل {العهد} هنا دين الله.

فعن الربيع قال: (قال الله لإبراهيم: {لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ، فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده، دينُه. يقول: لا ينال دينُه الظالمين. ألا ترى أنَّه قال: {وَبَارَكْنَا

ص: 390

عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق).

وقال الضحاك فيها: (لا ينال عهدي عدوٌّ لي يَعْصيني، ولا أَنْحَلُها إلا وليًّا لي يطيعني).

وخلاصة القول: إن الآية تحتمل في مفهومها كل ما سبق، فلا ينال النبوة أهل الظلم والشرك، كما لا يكون ظالم إمامًا للمسلمين يقتدى به، فإن ظهر وتغلب فلا طاعة إلا بالمعروف، ولا أمان لظالم في الآخرة، ودين الله لا ينال الظالمين.

قلت: وفي الآية نكتة بديعة من نكت علم السياسة الشرعية. فقوله تعالى: {لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ} دليل على أن العدل والعلم بالكتاب والسنة شرط من شروط اختيار المسلمين للإمام الأعظم، فلا بد للحاكم أو الخليفة من العلم بالعدل الذي دلّ عليه الكتاب والسنة الصحيحة، وأن يكون ممن يمتثلون ذلك في حياتهم وسيرتهم ورعايتهم.

فإن حصل وتغلب الظالم وظهر على الأمة فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل.

فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثَ جيشًا وأمَّرَ عليه رجلًا، فأوقد نارًا وقال: ادخلوها، فأرادوا أن يدخلوها. وقال آخرون: إنما فررنا منها. فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة. وقال للآخرين: لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف](1).

قال ابن خُوَيْزٍ مَنْداد المالكيّ: (الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكمًا ولا مفتيًا ولا إمام صلاة ولا شاهدًا ولا راويًا).

وأصل "الذّرية" من الذَّر. قال القرطبي: (لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذَّرِ حين أشهدهم على أنفسهم). وقيل: بل هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا خَلَقهم، ومنه الدرية وهي نسل الثقلين. وقال الخليل:(إنما سُمُّوا ذُرِّية، لأنَّ الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (7257) كتاب أخبار الآحاد، ورواه مسلم (1840) في كتاب الإمارة بلفظ آخره:(لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف).

ص: 391

وأما نصب {الظَّالِمِينَ} فلأن العهدَ هو الذي لا ينال الظالمين. وذُكر أنَّه في قراءة ابن مسعود: "لا ينال عهدي الظالمون" يعني: لا ينال الظالمون عهدَ الله. حكاه ابن جرير.

125.

قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .

في هذه الآية: إخباره تعالى عن جَعْله البيت للحج، يحج الناس إليه ويتخذون من مقام إبراهيم مصلى، وقد طهره إبراهيم وإسماعيل من ألوان الشرك بأمر الله.

فقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً} .

أي: مرجِعًا للناس ومعاذًا، يأتونه كلّ عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرًا.

وحول هذا المعنى مدار أقوال المفسرين. وتفصيل ذلك:

1 -

قال مجاهد: ({وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}، قال: لا يقضون منه وَطَرًا).

وقال: (يثوبون إليه، لا يقضون منه وطرًا).

2 -

قال ابن عباس: (لا يقضُون منه وَطرًا، يأتونه، ثمَّ يرجعون إلى أهليهم، ثمَّ يعودون إليه).

3 -

قال السدي: (أما المثابة، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرّةً أن يعود إليه).

4 -

قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} ، قال:(لا ينصرِف عنه منصرف وهو يرى أنَّه قد قضى منه وطرًا).

5 -

وقال سعيد بن جبير: (يَحُجُّون ويثوبون). وقال: (يحجّون ثمَّ يحجّون، ولا يقضون منه وطرًا).

6 -

وقال قتادة: (مجمعًا). وقال ابن زيد: (يثوبون إليه من البلدان كلِّها ويأتونه).

وقوله: {وَأَمْنًا} .

يعني: مَعاذًا لمن استعاذ به. كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ

ص: 392

النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ. . .} [العنكبوت: 67]. وأما أقوال أئمة التفسير فيها:

1 -

قال ابن زيد: (من أمّ إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتلَ أبيه وأخيه فلا يعرضُ له).

2 -

وقال السدي: (من دخله كان آمنًا). وقال مجاهد: (تَحْريمُه، لا يخافُ فيه من دخله).

3 -

وقال الربيع: (أمنًا من العدو أن يَحمل فيه السلاح، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناسُ من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن).

وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .

القراءة المشهورة الراجحة لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا} هي بكسر الخاء، وهي قراءة عامة قراء الكوفة والبصرة ومكة، وبعض قراء المدينة. وأما القراءة بفتح الخاء فبعيدة تخالف الأمر الإلهي للمؤمنين باتخاذ مقام إبراهيم مصلى.

فقد أخرج البخاري في صحيحه، عن أنس قال:[قال عُمَرُ رضي الله عنه: وافَقْتُ اللهَ في ثلاثٍ - أو وافقني ربي في ثلاث - قلتُ يا رسول الله لو اتَّخَذْتَ من مقام إبراهيم مصلَّى؟ فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. وقلت: يا رسول الله يَدْخُلُ عليك البَرُّ والفاجِر فلو أَمَرْت أمَّهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني مُعَاتَبَةُ النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ نسائه فدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ قُلْتُ: إن انْتَهَيْتُنَّ أو لَيُبَدِّلَنَّ الله رسولَهُ صلى الله عليه وسلم خيرًا منكنَّ، حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عُمَرُ، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يَعِظُ نِساءَهُ حتى تَعِظَهُنَّ أنتَ؟ فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ}](1).

ورواه البخاري أيضًا في كتاب الصلاة من حديث أنس بلفظ: [قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله! لو اتَّخَذْنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يَحْتَجِبْنَ فإنَّه يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم في

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4483)، كتاب التفسير. باب:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . {مَثَابَةً} : يثوبون: يرجعون. وروى نحوه في كتاب الصلاة.

ص: 393

الغَيْرَةِ عليه، فقلت لهن:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} فنزلت هذه الآية] (1).

ورواه مسلم عن عمر بلفظ: [وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم](2).

وأما مفهوم: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} ففيه أقوال:

1 -

قال ابن عباس: (الحج كله مقامُ إبراهيم). وقال مجاهد: (الحج كله).

2 -

قال مجاهد: (مقامه: جمعٌ وعَرفة ومِنىً).

3 -

وقال الشَّعبي: (نزلت عليه وهو واقف بعرفةَ، مقام إبراهيم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}). وقال عطاء، عن ابن عباس:(مقامه، عرفة).

4 -

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(في قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، قال: الحرمُ كله {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}).

5 -

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:(جعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. فلما ارتفع البنيان، وضعُف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}).

6 -

عن السدي: ({وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وهو الصلاة عند مَقامه في الحج). وقال الربيع: (فهم يصلون خلف المقام).

والراجح من هذه الأقوال هو أن مقام إبراهيم هو المقام المعروف بهذا الاسم، في المسجد الحرام، والذي أمر الله المؤمنين باتخاذه مصلى، وبذلك ثبت في أسباب نزول هذه الآية كما ورد في الصحيحين.

وفي صحيح البخاري عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: [قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا، وصلّى خلف المقام ركعتين](3).

وفي صحيح مسلم من حديث جابر - في حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: [حتى إذا أتينا البَيْتَ

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (402) كتاب الصلاة. باب ما جاء في القبلة.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (2399)، كتاب فضائل الصحابة.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر. انظر صحيح البخاري (1627)، كتاب الحج. باب من صلى ركعتي الطواف خَلْفَ المقام.

ص: 394

مَعَهُ، استلم الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا، ثمَّ تَقَدَّمَ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فجعل المَقَامَ بينه وبين البيت. .] (1).

قال الحافظ ابن كثير: (المراد بالمقام: إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه، ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلّما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فَرَغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدران الكعبة، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت، من رواية ابن عباس عند البخاري. وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها).

ثمَّ ساق أثرًا عن أنس بن مالك قال: (رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلام، وأخمص قدميه، غير أنَّه أذهبه مسح الناس بأيديهم).

ثمَّ قال: (وقد كان هذا المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب).

وإنما أخّره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، كما قال مجاهد:(أوّل من أخّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه).

وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن عائشة رضي الله عنها: [إنَّ المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمان أبي بكر رضي الله عنه، ملتصقًا بالبيت، ثمَّ أخَّرَه عمر بن الخطاب رضي الله عنه](2).

وقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} .

التأويل: أمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت الحرام للطائفين من الأصنام وعبادة الأوثان وألوان الشرك بالله سبحانه.

فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما عَهده؟ قال: (أمره). وقال ابن زيد:

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1218)، كتاب الحج. باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

حسن الإسناد، وله شواهد، ولذلك صححه ابن كثير في التفسير - سورة البقرة - آية (125).

ص: 395

({وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ}، قال: أمرناه). فإن قال قائل هل كان في زمانهما شرك وعبادة أوثان؟ ! فالجواب من أحد وجهين:

الوجه الأوّل: يعني ابنيا بيتي مطهرًا من الشرك والرَّيب. كما في التنزيل: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ. . .} [التوبة: 109].

وبنحوه جاء عن السدي: ({وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ}، يقول: ابنيا بيتي للطائفين).

الوجه الثاني: قيل بل الأمر بتطهير مكان البيت قبل بنائه مما كان لحق به من أوثان أهل الشرك على عهد نوح ومن قبله.

قال ابن زيد: ({أَنْ طَهِّرَا}، قال: من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها).

وقال مجاهد: (من الشرك). وقال عطاء، عن عبيد بن عمير:(من الأوثان والرَّيب). وعن مجاهد أيضًا: ({طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}، قال: من الأوثان). وقال قتادة: (من الشرك وعبادة الأوثان وقول الزور).

قلت: ولكن هذا الوجه من التأويل لا دليل عليه من التنزيل أو السنة الصحيحة. فالراجح الوجه الأوّل، وملخصه أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له، للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود.

وقوله: {لِلطَّائِفِينَ} فيه قولان

القول الأوّل: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غُرْبَةٍ.

فعن سعيد بن جبير في قوله: {لِلطَّائِفِينَ} ، قال:(من أتاه من غُرْبة).

القول الثاني: قيل بل "الطائفون" هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله. واختاره ابن جرير.

قال عطاء: (إذا كان طائفًا بالبيت فهو من الطائفين).

وقوله: {وَالْعَاكِفِينَ} يعني المقيمين به. ومنه قيل للمعتكف "معتكف" لأجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه. ثم المعني بالعاكفين عند المفسرين على أقوال:

ص: 396

القول الأوّل: عني به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة.

قال عطاء: (إذا كان طائفًا بالبيت فهو من الطائفين، وإذا كان جالسًا فهو من العاكفين).

القول الثاني: {العاكفون} هم المعتكفون المجاورُون.

قال مجاهد: ({طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ}، قال: المجاورُون).

القول الثالث: {العاكفون} ، هم أهل البلد الحرام.

قال سعيد بن جبير: ({وَالْعَاكِفِينَ}، قال: أهل البلد). وقال قتادة: (العاكفون، أهلُه).

القول الرابع: {العاكفون} . هم المصلُّون.

قال ابن جريج، قال ابن عباس:(العاكفون، المصلون).

واختار ابن جرير القول الأوّل، يعني الجالس المقيم في البيت مجاورًا فيه بغير طواف ولا صلاة. ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم بسنده عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت، قال: قلت لعبد الله بن عُبيد بن عُمير: ما أراني إلا مُكَلِّم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يُجْنِبُون ويُحْدِثون. قال:(لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون)(1).

وفي صحيح البخاري عن نافع قال: (أخبرني عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ أنَّه كان ينام وهو شابٌّ أعزَبُ لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم)(2).

وقوله: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .

يعني: الجماعة الراكعين فيه والساجدين فيه لله عز وجل.

وقيل بل المقصود المصلون. قال عطاء: (إذا كان يصلي فهو من "الركع السجود").

(1) ذكره الحافظ ابن كثير في التفسير، قال: ورواه عبد بن حميد. سورة البقرة (آية 125).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه من حديث نافع عن ابن عمر. انظر صحيح البخاري - حديث رقم - (440)، كتاب الصلاة، باب نوم الرجال في المسجد.

ص: 397

وقال قتادة: ({وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، أهل الصلاة). ولا تعارض بين القولين.

وفي التنزيل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].

وقد استدلّ الشافعي وأبو حنيفة بهذه الآية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت. قال الشافعي رحمه الله: (إن صلى في جوفها مستقبلًا حائطًا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئًا). وقال مالك: (لا يصلي فيه الفرض ولا السنن، ويصلي فيه التطوع، غير أنَّه إن صلّى فيه الفرض أعاد في الوقت).

قلت: ولا دليل يمنع من الصلاة داخل الكعبة، أو التفريق بين الفرض والنافلة، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلها ولم ينقل عنه أنَّه فرّق بين فريضة أو نافلة لمن صلى فيها.

ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فنزل بِفِنَاءِ الكعبة، وأرسل إلى عثمان بن طلحة، فجاء بالمِفْتَحِ، ففتح البابَ، - قال -: ثمَّ دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلالٌ وأسامةُ بنُ زَيْدٍ وعُثْمانُ بنُ طلحة، وأمر بالباب فأغلِقَ، فلبثوا فيه مَلِيًّا ثمَّ فَتَح الباب. قال عبد الله: فبادرت الناس، فَتَلَقَّيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خارِجًا، وبلالٌ على إِثْرِه، فقلت لبلال: هل صلّى فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: أين؟ قال: بين العمودَيْنِ تلِقاء وجهِه، قال: ونسيت أن أَسْأَلَهُ: كم صلّى](1).

وقد اختلف العلماء أيّما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك: (الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل). وذُكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد. والجمهور على أن الصلاة أفضل. حكاه القرطبي.

126.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (1329)، كتاب الحج. باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها. وهناك أحاديث في الباب أخرى تثبت صلاته صلى الله عليه وسلم فيها.

ص: 398

مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَال وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

في هذه الآية: دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش، وفي أن يبقى البلد المبارك - مكة - آمنًا من الجبابرة وأهل الظلم أن يسلّطوا عليه، وآمنًا من عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان، من خسف وائتفاك وغرق، وغير ذلك من سخط الله وَمَثُلاته التي يُنزلها بسائر البلاد غيره.

فلم تزل مكة بعد ذلك حرمًا من الجبابرة والمتسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تصيب البلاد. قال القرطبي:(وجعل في النفوس المتمرّدة من تعظيمها والهيبةِ لها ما صار به أهلها متميّزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى. ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيدَ ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب).

ثمَّ إن مكة كانت حلالًا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، فصارت بدعوته حرامًا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْنًا بعد أن كانت حلالًا. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأوّل: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن زيد بن عاصم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن إبراهيم حرَّم مكةَ ودعا لأهلها، وإني حرّمت المدينةَ كما حرَّم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومُدِّها بمِثْلَي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني حرَّمت المدينة ما بينَ لابتَيْها، لا يُقْطع عِضَاهُهَا (2) ولا يُصادُ صيدها](3).

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس، يقول: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحةَ: التَمِسْ لي غلامًا من غِلمانِكُمْ، يَخْدُمُني، فخرج بي أبو طلحة يُرْدِفُني

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1360)، كتاب الحج. باب فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها.

(2)

العِضاهة: أعظم الشجر، أو الخمط. أو كل ذات شوك.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (1362)، كتاب الحج - الباب السابق.

ص: 399

وراءه، فكنت أخدُم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، وقال في الحديث: ثمَّ أقبل، حتى إذا بدا له أُحُدٌ قال: هذا جبل يُحِبُّنا ونُحِبُّه. فلما أشرف على المدينة قال: اللهم! إني أُحَرِّمُ ما بين جَبَلَيْها مثلَ ما حرّم به إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكة، اللهم! بارِك لهم في مُدِّهم وصاعهم] (1).

الحديث الرابع: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: [إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يَحِلَّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يَحِلَّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضَدُ شوكه، ولا يُنَفَّرُ صيدُه، ولا تُلتقط لُقَطَتُه إلا من عرّفها، ولا يختلى خلاها. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذْخر فإنَّه لقَينهم ولبيوتهم. فقال: إلا الإذخِرَ](2).

ولا منافاة بين الحديث الرابع وما قبله، فإنَّه جاء فيه أن الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، في حين جاء في الأحاديث قبله أن إبراهيم حرّمها. ووجه الجمع: إن إبراهيم عليه السلام بلَّغ عن الله حُكمه فيها وتحريمه إياها منذ خلق السماوات والأرض.

قال ابن كثير: (لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنَّه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدمَ لَمُنْجَدِلٌ في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، الآية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره).

وقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} .

أي: من الخوف، لا يَرْعَبُ أهله. وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا. كما قال تعالى في سورة آل عمران:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} . وفي سورة العنكبوت: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك. انظر صحيح البخاري (3893)، وصحيح مسلم (1365) واللفظ له، الباب السابق.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (1834)، وصحيح مسلم (1353)، ومسند أحمد (1/ 315 - 316). والإذخر: نبات عشبي من فصيلة النجيليات له رائحة ليمونية عطرة.

ص: 400

وفي صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يحلُّ لأحَدِكُمْ أن يحمِلَ بمكةَ السلاح](1).

وقوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

قال القاسمي في التفسير: (إنما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك، لأنَّ مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر، فاستجاب الله تعالى له، فصارت يُجْبى إليها ثمرات كل شيء {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} بدل من {أَهلَهُ} وبدل البعض، يعني: ارزق المؤمنين من أهله خاصة. وإنما خصّهم بالدعاء إظهارًا لشرف الإيمان، واهتمامًا بشأن أهله، ومراعاة لحسن الأدب في المسألة. حيث ميّز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين، في باب الإمامة، في قوله: {لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ}).

وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} .

اختلف فيه أهل التفسير من قائله:

القول الأوّل: هو قول ربنا تعالى ذكره. والتأويل: من كفَرَ فأمتعه قليلًا برزقي من الثمرات في الدنيا، إلى أن يأتيه أجله. وقرأها أصحاب هذا القول:{فَأُمَتِّعُهُ} .

فعن أبي بن كعب في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} ، قال:(هو قول الرب تعالى ذكره). وقال ابن إسحاق فيه: (وعَدَلَ الدَّعْوة (2) عمن أبى الله أن يجعل له الولاية، انقطاعًا إلى الله ومحبة، وفراقًا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنَّه كائن منهم ظالمٌ لا ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره قال الله:{وَمَنْ كَفَرَ} - فإني أرزق البرّ والفاجر - {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} ).

القول الثاني: بل هو قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام. قيل هو على وجه المسألة منه ربّه أن يرزق الكافر أيضًا من الثمرات بالبلد الحرام كما يرزق المؤمن ويُمتعه قليلًا.

وقرأها هؤلاء {فَأُمَتِّعُهُ} وكذلك {ثُمَّ اضْطَرَّهُ} على وجه الدعاء من إبراهيم لهم والمسألة. حكاه الطبري.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (1356)، كتاب الحج، باب النهي عن حمل السلاح بمكة، من غير حاجة.

(2)

يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

ص: 401

قال أبو العالية: (كان ابن عباس يقول: ذلك قولُ إبراهيم، يسأل ربَّهُ أنَّ من كفر فأمْتِعه قليلًا).

واختار ابن جرير قول أبي بن كعب والقراءة الأولى فهي المشهورة التي قامت بها الحجة بالنقل المستفيض. قال: (فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم، قد أجبتُ دعوتكَ، ورزقت مُؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم، متاعًا لهم إلى بلوغ آجالهم، ثمَّ أضْطر كفارهم بعد ذلك إلى النار).

وقوله: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} .

أي: أجعل رزقي له من ذلك متاعًا مؤقتًا إلى وقت مماته. وقيل: فأمتعه بالبقاء في الدنيا. وقيل: فأمتعه في كفره قليلًا بمكة حتى أبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم فيقتله أو يجليه. والتأويل الأوّل أصوب ويدل عليه السباق.

قال مجاهد: ({وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا}، يقول: ومن كفر فأرزقه أيضًا).

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليس أحدٌ أصبرَ على أذىً سمِعَهُ مِن الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم](1).

وفي لفظ: [ما أحدٌ أصبرَ على أذى سمعه من الله، يَدَّعون له الولدَ ثمَّ يعافيهم ويرزقهم](2).

وفي لفظ لمسلم: [لا أحدَ أصبرُ على أذىً يسمعه من الله عز وجل، إنه يُشْرَكُ به، ويُجْعَلُ له الولد، ثمَّ هو يعافيهم ويرزقهم].

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلتْهُ. قال: ثمَّ قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](3).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (6099)، كتاب الأدب، واللفظ له، ورواه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2804) في صفات المنافقين.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (7378)، كتاب التوحيد، وانظر صحيح مسلم (2804) ح (50)، كتاب صفات المنافقين، الباب السابق.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4686)، كتاب التفسير، ورواه مسلم برقم (2583).

ص: 402

وقوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} .

قال ابن جرير: (ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها). وهو من الاضطرار: أي الإكراه.

وفي التنزيل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)} [الحج].

وفيه أيضًا: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]. {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48].

وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

قال النسفي: (المرجع الذي يصير إليه النار فالمخصوص بالذم محذوف).

127 -

128. قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}.

في هذه الآيات: ذكر رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قواعد البيت يرجون القبول بذلك من الله السميع العليم. وهم يدعونه الثبات على الإسلام والذرية الصالحة، وأن يبين لهم أمر مناسك دينهم ويتوب عليهم إنَّه هو التواب الرحيم.

والقواعد: جمع قاعدة، وهي السارية والأساس.

قال البخاري رحمه الله في صَحيحه: باب: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . {الْقَوَاعِدَ} : أساسُه، واحدَتها قاعدة. {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ

} [النور: 60]. واحِدَتُها قاعِدُ.

ثم روى عن عائشة رضي الله عنها زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألم تَرَيْ أنَّ قومك بَنَوا الكعبةَ واقتصروا عَنْ قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله، ألا تَرُدّها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حِدْثانُ قومِك بالكفر. فقال عبد الله بن عُمَرَ: لئن كانت عائشة

ص: 403

سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَرَك استِلامَ الرّكْنين اللّذين يليان الحِجْرَ إلا أن البيت لم يتمَّم على قواعد إبراهيم] (1).

وفي صحيح البخاري عن عائشة -أيضًا- رضي الله عنها قالت: [قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لولا حداثَةُ قومِكِ بالكفر لنقضتُ البيتَ ثمَّ لبَنَيْتُهُ على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن قُرَيشًا استَقْصَرَتْ بناءَه وجعلت له خَلْفًا. قال أبو معاوية: حَدَّثنا هشام: خلْفًا يعني بابًا](2).

وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عُروة، عن عائشة رضي الله عنها:[أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشةُ، لولا أن قومَك حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمَرتُ بالبيت فَهُدِمَ فأدخلت فيه ما أُخرِج منه، وألزقته بالأرض، وجعلتُ له بابين، بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم". فذلك الذي حمل ابنَ الزبير على هدْمه. قال يزيد: وشهدت ابنَ الزبير حين هدمه وبناه، وأدْخَلَ فيه من الحِجْرِ، وقد رأيت أساسَ إبراهيمَ حجارة كأسنمة الإبل، قال جرير: فقلت له: أين مَوضِعُهُ؟ قال: أُريكَهُ الآن، فَدَخَلْتُ معه الحِجْرَ فأشار إلى مكانٍ فقال: ها هُنا. قال جرير: فَحَزَرْتُ من الحِجر ستَّةَ أذرُع أو نحْوها](3).

وقوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} .

فهما في عمل صالح، ومع ذلك فهما يخافان الله ألا يتقبل، فيلجآن إليه بالدعاء أن يمتن سبحانه بالقبول.

يروي ابن أبي حاتم عن وُهَيْب بن الورد: (أنه قرأ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقَبَّلَ منك).

وهذه الآية كقوله تعالى في سورة "المؤمنون": {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} . أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات وقلوبهم خائفة أن لا يتقبل منهم.

(1) حديثٌ صحيحٌ. انظر صحيح البخاري (4484)، كتاب التفسير. وانظر (126) كتاب العلم.

(2)

حديثٌ صحيحٌ. انظر صحيح البخاري (1585)، كتاب الحج، وانظر (1584)، (1583).

(3)

حديثٌ صحيحٌ. انظر صحيح البخاري (1586)، كتاب الحج. وانظر صحيح مسلم (1333).

ص: 404

أخرج الإمام أحمد فيِ المسند عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: [سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرفون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات](1).

فهذه صفات المؤمنين كما وصفهم بذلك ربهم عز وجل، وإمامهم بذلك الأنبياء والرسل من قبل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهذا إبراهيم وإسماعيل يرفعان أعمدة البيت ويؤسسان قواعده ويسألان الله سبحانه الرضى والقبول.

أخرج البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير: قال ابن عباس: [أوَّلَ ما اتَّخَذَ النساءُ المِنْطَقَ من قِبَلِ أُمِّ إسماعيل، اتخَذَتْ مِنْطقًا لِتُعَفِّيَ أثَرَها على سارَة، ثم جاء بها إبراهيمُ وبابنِها إسماعيلَ وهيَ تُرضِعُهُ حتى وضعَهُما عند البيت عِندَ دَوحَةٍ فوق الزمزَمِ في أعلى المسجد وليس بمكةَ يومئذ أحَدٌ، وليس بها ماءٌ فَوَضَعَهُما هُنالك، ووضَعَ عنْدَهُما جِرابًا فيه تَمْرٌ وسِقاءً فيه ماءٌ ثمَّ قَفَّى إبراهيم مُنطَلِقًا، فتَبِعَتْهُ أمُّ إسماعيلَ فقالت: يا إبراهيمُ، أين تذهَبُ وتترُكُنا في هذا الوادي الذي ليسَ فيه أنيسٌ ولا شيءٌ؟ فقالت له ذلك مِرارًا، وجعل لا يَلْتَفِتُ إليها فقالت له: آللهُ أمركَ بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يُضَيّعُنا، ثم رَجَعَتْ، فانطلق إبراهيمُ حتى إذا كان عند الثَّنِيةِ حيثُ لا يرَوْنَهُ استقبل بوجهِه البيتَ ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} .

وجعلت أمُّ إسماعيلَ تُرْضِعُ إسماعيلَ وتَشرَبُ من ذلك الماء حتى إذا نفِدَ ما في السِّقَاء عطِشَتْ وِعَطِشَ ابنُها فجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال: يتلَبط- فانطلقت كراهية أن تَنْظُرَ إليه، فوَجدَتِ الصفا أقربَ جبلٍ في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تَنْظُرُ هل ترى أحدًا فلم ترَ أحدًا، فهَبَطَتْ من الصَّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرَفَ دِرْعِها ثم سَعَتْ سَعْيَ الإنسانِ المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا، ففعلت ذلك سَبْعَ مرّات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلك سَعْيُ الناس بينهما"، فلما أشرفت على المَرْوَةِ سَمِعَتْ صوتًا فقال: صَهٍ، تريدُ نَفْسَها، ثم تَسَمعَتْ فَسَمِعَتْ أيضًا، فقالت: قد أسمعت إنْ كان عِندكَ غُواثٌ، فإذا هِيَ بالمَلَكِ عندَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقبهِ -أو قال: بجناحِه-

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (6/ 159، 205)، ورواه الترمذي (3175) وسنده حسن.

ص: 405

حتى ظهر الماء فجعلت تُحَوِّضُهُ وتقول بيدها هكذا، وجَعَلتْ تَغْرِفُ من الماء في سِقائِها وهوَ يفورُ بَعْدَما تَغْرِفُ. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللهُ أمَّ إسماعيلَ لو تركتْ زمزم -أوْ قال: لوْ لمْ تَغْرِف من زَمْزَمَ- لكانت زمزمُ عَينًا مَعِينًا"، قال: فشربَتْ وأرضَعَتْ ولدَها، فقال لها المَلَكُ: لا تخافوا الضيْعَةَ، فإن هذا بيتُ الله يبني هذا الغلامُ وأبُوه، وإن الله لا يُضِيعُ أهْلَه. وكان البيت مُرْتَفِعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيولُ فتأخُذُ عن يمينهِ وشمالهِ، فكانت كذلك حتى مَرتْ بهم رُفْقَة من جُرْهُمَ -أوْ أهل بَيْتٍ من جُرْهم- مقبلين من طريق كَدَاءً فنزلوا في أسفل مكَّةَ فَرَأوْا طائرًا عائِفًا فقالوا: إنّ هذا الطائرَ ليدورُ على ماءً، لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّيْن فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا -قال: وأم إسماعيل عِنْدَ الماء- فقالوا: أتَأذَنِينَ لنا أن نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قالت: نَعَمْ، ولكِنْ لا حَقَّ لكم في الماء، قالوا: نَعَمْ. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألْفى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تُحِبُّ الأنْسَ" فنزلوا وأرسلوا إلى أهْلِيهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهلُ أبياتٍ مِنْهُم، وشبَّ الغلام وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ منهم، وأنْفسَهُمْ وأعْجَبَهُمُ حين شَبَّ، فلما أدْركَ زَوَّجوه امرأةً منهم، وماتت أمُّ إسماعيلَ فجاء إبراهيمُ بعدما تَزَوَّجَ إسماعيل يُطالِعُ تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إسماعيلَ، فسألَ امرأتَهُ عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عَيْشِهِمْ وهيئتهِمْ، فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحنُ في ضيقٍ وشِدَّة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجُكِ اقرَئي عليه السلام وقولي له يُغيِّرُ عَتبَةَ بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنَسَ شيئًا فقال: هل جاءكم مِنْ أحد؟ قالت: نَعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا فَسَألنا عنكَ فأخْبَرْتُهُ، وسألني كيف عَيْشُنا، فأخْبَرْتُه أنّا في جَهْدٍ وشِدَّة، قال:

فهَلْ أوصاكِ بشيءٍ؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأَ عليكَ السَّلامَ ويقول: غَيِّرْ عَتبَةَ بابِك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحَقِي بأهلك فطلَّقها.

وتزوج منهم امرأة أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أَتاهُم بَعْدُ فلم يَجِدْهُ، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عَيْشِهم وهيئتِهم، فقالت: نحن بِخيْرٍ وسَعَة، وأثْنَتْ على الله عز وجل، فقال: ما طَعامُكم؟ قالت: اللحْمُ، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماءُ، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكُنْ لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه".

قال: فهُما لا يخْلو عليهما أحَدٌ بغير مكّةَ إلا لمْ يوافِقاه، قال: فإذا جاء زوجُك

ص: 406

فاقْرئي عليه السلام ومُريه يُثْبِتُ عَتبَةَ بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخٌ حَسَنُ الهيئة -وأثْنَتْ عليه- فسألني عَنكَ فَأخْبَرْتُهُ، فسألني كيف عَيْشُنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليكَ السَّلامَ ويأمرك أن تُثْبِتَ عَتبةَ بابك، قال: ذاك أبي وأنت العَتبَةُ، أَمَرَني أن أمْسِكَكِ، ثم لبثَ عَنْهُم ما شاءَ اللهُ ثم جاءَ بعد ذلك وإسماعيلُ يَبْرِي نَبْلًا له تحت دَوْحةِ قريبًا من زَمْزَمَ، فلمَّا رآه قام إليه فصَنَعَا كما يصنعُ الوالِدُ بالوَلَدِ والولَدُ بالوالدِ، ثم قال: يا إسماعيلُ، إن الله أمرني بأمْرٍ، قال: فاصْنَعْ ما أمَرَكَ ربُّكَ، قال: وتُعِينُنِي؟ قال: وأعِينُكَ، قال: فإن الله أمرني أن أبْنِيَ هاهُنا بَيْتًا -وأشارَ إلى أكمَةٍ مُرْتَفِعَةِ على ما حَوْلها- قال: فَعِنْدَ ذلك رَفَعا القواعِدَ من البيتِ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارة وإبراهيمُ يبنِي حتى إذا ارتفع البناءُ جاء بهذا الحَجَر فَوَضَعَهُ له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوِلُهُ الحجارة وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

قال: فجعلا يبنِيَان حتى يَدُورَا حول البيت وهما يقولان:

{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ] (1).

وفي رواية: [فقال: يا إسماعيل: إن ربَّك أمَرَني أن أَبْنِيَ له بيتًا، قال: أطِعْ ربَّكَ، قال: إنَّه قد أمرني أن تُعينَني عليه، قال: إذَنْ أفعلَ، أو كما قال: قال: فقاما فجعل إبراهيمُ يبني، وإسماعيل يناوِلهُ الحجارةَ ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال: حتى ارتفعَ البناءُ وضَعُفَ الشَّيخُ عن نَقْلِ الحِجارة فقام على حَجَر المَقام فجعل يناولُهُ الحِجارة ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}](2).

وفي صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: [قلت: يا رسول الله، أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرض أوّلُ؟ قال: المسجدُ الحرامِ، قال: قلت: ثمَّ أيُّ؟ قال: المسجدُ الأقصى، قلت: كم كانَ بينَهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلهْ فإن الفَصلَ فيه](3).

وبقيت الكعبة كذلك من أيام إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، إلى قُبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فيوم كان عليه الصلاة والسلام في الخامسة والثلاثين من عمره، قامت

(1) حديثٌ صحيحٌ. انظر صحيح البخاري (3364) -كتاب أحاديث الأنبياء. وانظر (3365) أيضًا.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (3365) - في آخر الحديث، كتاب أحاديث الأنبياء.

(3)

حديثٌ صحيحٌ. انظر صحيح البخاري (3366) -كتاب أحاديث الأنبياء، وانظر (3425).

ص: 407

قريش بتجديد بناء الكعبة حيث لم يكن لها سقف يغطيها، فاعتدى عليها نفر من اللصوص فسرقوا كنزها الذي كان في جوفها، كما كان قد جرف مكة سيل عرم قبل البعثة بخمس سنين، انحدر إلى البيت الحرام، أوشكت معه الكعبة على الانهيار، فرأت قريش تجديد بنائها، وتحديث إنشائها، واتفقوا ألا يُدخلوا في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخلوا فيها مهرَ بغي، ولا بيعَ ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها.

قال ابن إسحاق: (فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يَهُمُّون بذلك ليَسْقُفوها، ويهابون هَدمَها، وإنما كانت رَضْمًا (1) فوق القامة، فأرادوا رَفْعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا سَرَقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة، وكان الذي وُجِدَ عنده الكنز دُوَيكَ -مولى بني مُليح بن عمرو من خزاعة- فقطعت قريش يده. ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دُوَيك).

أخرج الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح، من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه قال: [كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم، وكانت قدر ما يفتحها العناقة، وكانت غير مسقوفة، إنما توضع ثيابها عليها ثم تسدل سدلًا عليها، وكان الركن الأسود موضوعًا على سورها تأدبًا، وكانت ذات ركنين كهيأة الحلقة.

فأقبلت سفينة من أرض الروم، حتى إذا كانوا قريبًا من جُدَّة، تكسرت السفينة، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها، فوجدوا روميًا عندها، فأخذوا الخشب أعطاهم إياه.

وكانت السفينة تريد الحبشة، وكان الرومي الذي في السفينة نجارًا، فقدموا، وقدموا بالرومي، فقالت قريش: نبني بهذا الخشب الذي في السفينة بيت ربنا.

فلما أرادوا هدمه، إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الحائر، سوداء الظهر، بيضاء البطن، فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدمه أو يأخذ من حجارته، سعت إليه فاتحة فاها.

فاجتمعت قريش عند المقام، فَعَجُّوا إلى الله عز وجل فقالوا: رَبَّنا لم ترع، أردنا تشريف بيتك، فإن كنت ترضى بذلك، وإلا فافعل ما بدا لك. فسمعوا خوارًا في

(1) أي حجارة فوق بعضها دون ملاط يلحم بعضها على بعض.

ص: 408

السماء، فإذا بطائر أسود الظهر، أبيض البطن والرجلين، أعظم من البشر، فغرز مخاليبه في رأس الحية، حتى انطلق بها يجر ذنبها، أعظم من كذا وكذا ساقطًا، فانطلق نحو أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا.

فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد، وعليه نمرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه، فتُرى عورتُه من صغر النمرة، فنودي يا محمد، خمِّر عورتك، فلم ير عريانًا بعد ذلك، وكان يرى بين بناء الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين، وبين مخرجه وبنيانها خمس عشرة سنة] (1).

وكان الوليد بن المغيرة المخزومي هو الذي ابتدأ في هدمها ثم تبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شيء، ولم يزالوا في الهدم حتى نقضوها واستأنفوا بناءها من جديد، فجزؤوا البناء وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها، فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة وأخذوا يبنونها وقد تولّى البناء بَنَّاءٌ روميّ اسمه باقوم.

أخرج البخاري من حديث جابر قال: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إزارك، فجعلته على منكبك، دون الحجارة، قال: فحلَّهُ، فجعله على منكبه، قال: فسقط مغشيًا عليه، فما رُئيَ بعد ذلك اليوم عريانًا](2).

ولما بلغوا موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا حتى كاد أن يتحول إلى قتال: إلا أن أبا أميَّة بن المغيرة المخزومي اقترح تحكيم أول داخل من باب الصفا، وشاء الله أن يكون محمدًا، فلما رأوه هتفوا هذا الأمين، ارتضيناه حكمًا.

أخرج الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، من حديث عليّ قال: [لما أرادوا أن يرفعوا الحجر "يعني قريشًا" اختصموا فيه، فقالوا: يحكم بيننا أول رجل

(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، وأحمد طرفًا منه، ورجالهما رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع (3/ 289). وانظر صحيح السيرة- إبراهيم العلي- ص 47. والرضم: الصخور. والنمرة: الكساء المخطط. وانظر الحديث الذي بعده.

(2)

حديثٌ صحيحٌ. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (364) كتاب الصلاة، باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها. ورواه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (340) في الحيض، باب الاعتناء بحفظ العورة، وأحمد في المسند (3/ 310 - 313).

ص: 409

يخرج من هذه السكة، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم، فجعلوه في مرط، ثم رفعه جميع القبائل كلها، ورسول الله يومئذ رجل شاب يعني قبل البعثة.

وفي رواية قال: لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد دخل قالوا: قد جاء الأمين] (1).

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن](2).

قال ابن إسحاق: (وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا، وكانت تُكسى القباطيّ، ثم كسيت بعدُ البرودَ، وأوّلُ من كساها الديباج الحجاج بن يوسف).

ولم تنزل الكعبة كذلك على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين، في آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا ملصقين بالأرض، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تزل كذلك مُدّة إمارته حتى قتله الحجاج، فردّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك.

ففي صحيح مسلم عن عطاء قال: [لما احترقَ البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشَّام، فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدِمَ النَّاسُ الموسم يريد أن يُجَرِّئهم -أو يُحَرِّبهم- على أهل الشَّام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها، أو أُصلح ما وهي منها؟ قال ابن عباس: إنَّه قد فُرِقَ لي رأي فيها، أرى أن تُصلِحَ ما وَهى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه، وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبُعِثَ عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رَضِيَ حتى يُجَدّده، فكيف بيت ربكم عز وجل؟ إني مستخير ربي ثلاثًا، ثم عازم على أمري. فلما مضت ثلاث، أجمع رأيه على أن ينقُضَها. فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء، حتى صَعِدَه رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدةً يُسَتَّر عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي

(1) انظر المطالب العالية (4267)، ومجمع الزوائد (8/ 229). ومسند أحمد (3/ 425).

(2)

حديثٌ صحيحٌ. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (2277)، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.

ص: 410

الله عنها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس حديثٌ عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّي على بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحِجْر خمسة أذرع، ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه". قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى له أُسًّا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعًا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عَشْرة أذرع، وجعل له بابين، أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قتل ابن الزبير، كتب الحجّاج إلى عبد الملك يُخْبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العُدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فَأقِرَّه. وأما ما زاد فيه من الحِجر فَرُدَّهُ إلى بنائه، وسُدَّ الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه] (1).

وأما قريش فقد كانت رفعت بابها كبرًا وبغيًا وتحكمًا بالبيت ألا يدخلها إلا من أرادوا. ففي رواية للحديث السابق: [قال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تدرينَ لم كان قومُكِ رفعوا بابها؟ قالت: قلت: لا، قال: تَعَزُّزًا أن لا يدخلَها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أرادَ أن يدخُلَها يدعُونَه يرتقي، حتى إذا كادَ أن يدخُلَ دفعوه فسقط].

ثم إن عبد الملك ندم على ما فعل، لما جاءه من يؤكد له حديث عائشة، وكان عبد الملك يزعم أن ابن الزبير لم يسمع ذلك من عائشة.

ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عُبيد قال: [وَفَدَ الحارثُ بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خِلافته، فقال عبد الملك: ما أظنُّ أبا خُبَيْبٍ يعني ابن الزبير سمعَ من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: بلى! أنا سَمِعْتُهُ منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا من بُنْيان البيت، ولولا حداثَةُ عَهْدِهم بالشِّرك أعدْتُ ما تركوا منه، فإن بدا لِقومك، مِن بعدي، أن يبنُوه فَهَلُمِّي لأُرِيك ما تركوا منه". فأراها قريبًا من سبعة أذرع.

قال عبد الملك للحارث: أنت سَمِعْتَها تقولُ هذا؟ قال: نَعَم، قال: فنكت ساعةً بعصاه ثم قال: وَدِدْتُ أني تَرَكْتُهُ وما تَحمَّل] (2).

وفي رواية: (قال: لو كنتُ سَمِعْتُهُ قبل أن أهْدِمَهُ، لتركتُهُ على ما بنى ابن الزبير).

(1) حديثٌ صحيحٌ. أخرجه مسلم (1333) -كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها.

(2)

حديثٌ صحيحٌ. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (1333) ح (403). كتاب الحج.

ص: 411

وقد كره بعض العلماء تغيير الحال مرة أخرى في شأن الكعبة، كما ذُكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي -أنه سأل الإمام مالكًا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله مَلْعَبَةً للملوك، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها. فترك ذلك الرشيد. نقله عياض والنَّووي- كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير، ثم قال:(ولا تزال -والله أعلم- هكذا إلى آخر الزمان، إلى أن يخرِّبَها ذو السُّوَيقتين من الحبشة. كما ثبث ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُخرِّب الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبشة] (1). أخرجاه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: [كأنى به أسودَ أفحَجَ، يقلعها حجرًا حجرًا](2). رواه البخاري).

والحديث السابق له شاهد في مسند أحمد ومعجم الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يُخَرِّبُ الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبشة، ويسلبها حِلْيَتَها، ويُجَرِّدُها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أُفَيْدَع يضرب عليها بمسحاته ومعْوَلِه](3).

والفَدَعُ: زيغٌ بين القدم وعظم الساق. والمسحاة: المجرفة من الحديد. والمعول: الفأس العظيمة التي ينقر بها الصخر. ورجّح ابن كثير أن هذا الخراب للكعبة إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، محتجًا بما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَيُحَجَّنَ البيت وَلَيُعْتَمرَنّ بعد خروج يأجوجَ ومأجوج](4).

وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

قال ابن عباس: (يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء).

وقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} .

قال ابن جرير: (يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري، (1591) ومسلم (2909)، وأحمد (2/ 310).

(2)

حديثٌ صحيحٌ. أخرجه البخاري -حديث رقم- (1595) - والأفحج: الذي في رجليه اعوجاج. وقيل: الفحج: تباعد ما بين الساقين.

(3)

حسن لشواهده. أخرجه أحمد في المسند (2/ 220)، والطبراني كما في المجمع (7/ 298).

(4)

حديثٌ صحيحٌ. أخرجه البخاري في الصحيح (1593) في كتاب الحج، ورواه أحمد (3/ 27).

ص: 412

لا نُشْرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك).

وقيل: {مُسْلِمَيْنِ لَكَ} يعني: مخلصين لك. ذكره ابن أبي حاتم عن معقل بن عبيد الله، عن عبد الكريم. وذكر عن سلام بن أبي مطيع قوله فيها:(كانا مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات).

وقال السدي: ({وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} يعنيان: العرب) واستبعده شيخ المفسرين الإمام ابن جرير وقال: (والصَّواب أن يعمَّ العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل). واختار الحافظ ابن كثير أن تخصيص العرب كما ذكر السدي لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب. ولهذا قال بعده:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم وقد بعث فيهم كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} . ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود، لقوله تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} .

قال القرطبي رحمه الله: ({وَمِنْ} في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين).

والأمة هنا الجماعة من الناس. قال القاسمي: (وإنما خصّا الذرية بالدعاء، لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع).

وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} .

أي: أظهرها لأعيننا حتى نراها. وفيه أكثر من تأويل.

التأويل الأول: هي مناسك الحج ومعالمه.

فعن قتادة: ({وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قال: فأراهما الله مناسكهما: الطَّوافَ بالبيت، والسعيَ بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جَمعٍ، ورَميَ الجمار، حتى أكمل الله الدين- أو: دينه). وقال: (أرنا نُسكنا وحجنا).

وروى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس قال: (إن إبراهيم لما أريَ أوامر المناسك، عرضَ له الشيطان عند المسعى، فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به مِنى، فقال: هذا مُنَاخ الناس. فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرّض له الشيطان، فرماه بسبع حَصَيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حَصَيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة القصوى، فعَرَض له الشيطان، فرماه

ص: 413

بسبع حَصَيات حتى ذهب، فأتى به جمعًا، فقال: هذا المشعر. ثم أتى به عرفة، فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟ ).

التأويل الثاني: أرنا كيف نُنْسِكُ لك يا ربنا نَسائكنا، فنذبحها لك.

فعن عطاء: ({وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قال: ذبحنا). أو قال: (مذابحنا). وقال عبيد بن عمير: (أرنا مذابحنا).

التأويل الثالث: علمنا مناسكنا.

قال ابن جريج: (أخرجها لنا، علمناها).

وروى ابن جرير من طريق ابن المسيب قال: قال علي بن أبي طالب: (لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: "فعلتُ أي رب، فأرنا مناسِكنا" -أبرزها لنا، علّمناها- فبعث الله جبريل، فحجّ به).

قال مجاهد: فأتاه جبريل فأتى به إلى البيت، فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد، وأتَمَّ البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه، فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله. ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله. ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبِّر وارْمِه. فكبَّر ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما حاذى به جبريل وإبراهيم، قال له: كبِّرْ وارْمِه. فكبَّر ورماه، فذهب الخبيث إبليس. وكان الخبيث أراد أن يُدْخِلَ في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام. وأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات، قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات، قال: نعم).

وأصل {المنسِك} في لغة العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل. قال ابن جرير: (ولذلك سميت "المناسكُ" "مناسكَ"، لأنها تُعتاد، ويتردد إليها بالحج والعمرة، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله). وقال القرطبي: (يقال: إن أصل النُّسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدًا).

وقوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .

أصل التوبة الأوبة من مكروه إلى محبوب. وتوبة العبد إلى ربه تعني أوبته مما

ص: 414

يسخط الله بالإقلاع عن الذنب، والندم على ما حصل منه من التقصير والزلل، والعزم على ألا يعود. وتوبة الرب سبحانه صفحه من عبده وعفوه عن جرمه.

وقد قيل في دعاء إبراهيم وإسماعيل وسؤالهما التوبة هنا في مقام رفع قواعد البيت، أنه ليتخذ سنة من بعدهما، في تلك البقعة الطاهرة، أو عنيا بقولهما {وَتُبْ عَلَيْنَا} أي: على الظلمة من أولادنا وذريتنا. ذكره ابن جرير.

وقال القاسمي: (هذا الدعاء استتابة لما فرط من التقصير. فإن العبد، وإن اجتهد في طاعة ربه، فإنّه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه، إما على سبيل السَّهو والنسيان، أو على سبيل ترك الأَوْلى. فالدعاء منهما، عليهما السلام، لأجل ذلك).

قلت: وهذا معنى بديع، وهو أقرب للسياق، وخاصة أنَّهما قدَّما القول أثناء رفع قواعد البيت:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فهما في عمل صالح ومع ذلك يخافان أن لا يتقبل منهما، فالعبد الصالح ينظر في أعماله بمنظار دقيق هو منظار الصديقين والأولياء، أهل الخشية والرقة والرجاء.

وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .

أي: العائد على عبادك بالفضل والمغفرة والعفو رحمة منك وكرمًا.

أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال: [إنا كنا لنعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة "رب اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم"](1).

129.

قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} .

في هذه الآية: إخبارٌ من الله سبحانه عن تمام دعوة إبراهيم لهذه الأمة، في أن يبعث فيهم رسولًا من ذريته عليه الصلاة والسلام، يقيم فيهم الحق ويدعوهم إلى دين التوحيد الذي كان عليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فوافقت هذه الدعوة المستجابة قدَر الله في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافّة وإلى سائر الإنس والجن.

(1) حديثٌ صحيحٌ. رواه الترمذي من حديث ابن عمر. انظر سنن الترمذي (1/ 183) - تحقيق الألباني.

ص: 415

وقد جاء ذلك في السنة الصحيحة في أحاديث، منها:

1 -

أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي أمامة قال: [قلت: يا نبي الله! ما كان أول بدء أمرك قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشَّام](1).

2 -

أخرج ابن عساكر في "التاريخ" عن عبادة بن الصامت: [قيل: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال: نعم. أنا دعوة أبي إبراهيم، وكان آخر من بشَّرَ بي عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام](2).

3 -

أخرج الإمام أحمد وابن حبان عن العرباض بن سارية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسَأُنبِّئُكُم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرَين](3).

قال الحافظ ابن كثير في التفسير: (قيل كان منامًا رأته حين حملت به، وقصَّته على قومها، فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئةً. وتخصيص الشَّام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشَّام، ولهذا تكون الشَّام في آخر الزمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها. ولهذا جاء في الصحيحين: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". وفي صحيح البخاري: "وهم بالشام")(4).

وعن قتادة: ({رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، قال: ففعل الله ذلك، فبعث فيهم رسولًا عن أنفسهم يَعرفون وجهه ونَسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد). وقال الربيع: (هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: قد استجيب ذلك، وهو في آخر الزمان).

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (5/ 262). وانظر السلسلة الصحيحة (1546).

(2)

حديث حسن لما قبله. انظر المرجع السابق، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (1476).

(3)

حديثٌ صحيحٌ بشواهده. أخرجه أحمد في المسند (4/ 127 - 128)، وابن حبان (6404)، وابن أبي عاصم في السنة (409). وله شواهد كثيرة.

(4)

انظر: تفسير ابن كثير. سورة البقرة، آية (129).

ص: 416

وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} .

يعني: يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه.

وقوله: {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} .

يعني: القرآن والسنة.

قال ابن زيد: ({وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}، القرآن). وقال قتادة: ({وَالْحِكْمَةَ}: أي السُّنة). وذكر ابن جرير عن ابن وهب قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: (المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له).

ثم ذكر قول ابن زيد: ({وَالْحِكْمَةَ} الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم، يعلمهم إياها. قال: و ({وَالْحِكْمَةَ}، العقلُ في الدّين وقرأ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. وقال عيسى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}، قال: وقرأ ابن زيد: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}، قال: لم ينتفع بالآيات، حيث لم تكن معها حكمة. قال: {وَالْحِكْمَةَ} شيء يجعله الله في القلب، ينوِّر له به).

قلت: ولا منافاة بين القولين، فالفقه في الدين لا يكون إلا عن طريق السنة، ففيها بسط الأحكام والقواعد الشرعية وفهم مجمل القرآن.

أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، من حديث المقدام بن معديكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ألا إني أوتيتُ الكتاب ومثله معهُ، ألا يوشكُ رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلالِ فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه، ألا لا يحلُّ لكم لحمُ الحمار الأهلي، ولا كل ذي نابٍ من السَّبُعِ، ولا لُقطةُ معاهَدٍ، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يُقروه، فإن لم يُقروه فله أن يغصبهم بمثل قراه](1).

فاشتمل هذا الحديث العظيم على بيان بعض الأحكام الشرعية التي لا تعرف إلا من الحكمة، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الوحي الثاني من الله رب العالمين.

(1) حديثٌ صحيحٌ. أخرجه أبو داود في السنن (4604) -كتاب السنة، باب في لزوم السنة، وانظر صحيح أبي داود (3848)، ورواه أحمد. انظر تخريج المشكاة (163)، وصحيح الجامع (2640).

ص: 417

وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ} .

قال ابن عباس: (يعني بالزكاة، طاعةَ الله والإخلاص).

وقال ابن جريج: (يطهّرهم من الشرك، ويخلِّصهم منه). وهي من التزكية: أي التطهير.

وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

أي: القوي لا يعجزه شيء، والغالب على أمره، والحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

130 -

132. قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَال لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}.

في هذه الآيات: تعظيم الله تعالى ملة إبراهيم، ملة التوحيد وإفراد الله بالتعظيم، وتسفيه من رغب عنها وتوعده بالهلاك المبين. وإخبار الله تعالى عن وصية إبراهيم لبنيه بإقامة الدين والموت على الإسلام واليقين.

فقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} .

يعني: يزهد بها وهي الدين الحق.

قال قتادة: (قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}، رغب عن ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية، بدعةً ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم -يعني الإسلام- حنيفًا، كذلك بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم).

وقوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} .

يعني: إلا من أخطأ حظ نفسه. قال ابن زيد: (إلا من أخطأ حظّه).

قال أبو العالية: (نزلت هذه الآية في اليهود، أحدثوا طريقًا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه). وبه قال قتادة.

ص: 418

وفي التنزيل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 67 - 68].

وقوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} .

يعني: اخترناه واجتبيناه للخُلّة، وجعلناه إمامًا لمن بعده إلى يوم القيامة.

وقوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} .

يعني: أهل الدرجات العلا. فالصالح المؤدي حقوق الله تعالى.

قال القاسمي: (وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح، حيث جعله من المتصفين بها، فهو حقيق بالإمامة، لعلو رتبته عند الله في الدارين، ففي ذلك أعظم ترغيب في أتباع دينه والاهتداء بهديه، وأشدّ ذمّ لمن خالفه).

وقوله تعالى: {إِذْ قَال لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالمِينَ (131)} .

قال النسفي: ({إِذْ قَال لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}: أذعن أو أطع أو أخلص دينك لله. {قَال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالمِينَ} أي: أخلصت أو انقدت).

وقوله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} .

فيه تأويلان:

التأويل الأول: وصى بهذه الكلمة: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالمِينَ} أي: عهد إليهم بذلك وأمرهم به.

قال ابن عباس: (وصّاهم بالإسلام، ووصّى يعقوبُ بمثل ذلك). وقال قتادة: (يقول: ووصى بها يعقوبُ بنيه بعد إبراهيم). واختاره ابن جرير.

التأويل الثاني: قيل المراد أنه وصى بهذه الملة، وهي الإسلام لله.

قال القرطبي: ({وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ}، أي: بالملّة).

وبنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع. قيل: كان له سنتان. ووُلد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، وقيل: مات وله مئة وسبع وثلاثون سنة. وقيل: مئة وثلاثون، وكان سنّه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعًا وثمانين سنة. وإسحاق أمه سارة، قيل: عاش إسحاق مئة وثمانين

ص: 419

سنة، ومات بالأرض المقدسة ودُفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. وأما يعقوب: فقيل وُلد بعد موت جدّه إبراهيم. والراجح أنه ولد في حياته لتتم البشرى التي بشره الله فيها بقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} . وقيل: عاش يعقوب عليه السلام مئة وسبعًا وأربعين سنة ومات بمصر.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27].

2 -

وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً

} [الأنبياء: 72]. قال ابن كثير: (وهذا يقتضي أنه وجد في حياته).

وقوله: {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} .

يعني: اختار واجتبى لكم هذا الدين.

وقوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

يعني: الزموا الإسلام ولا تفارقوه فإنكم لا تدرون متى تكون مناياكم. قال ابن جرير: (فلا تفارقوا الإسلام، فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم، فتموتوا وربكم ساخط عليكم، فتهلكوا).

وقال ابن كثير: (أي: أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويُبعث على ما مات عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قَصَد الخير وُفِّقَ له ويُسِّر عليه. ومن نوى صالحًا ثُبِّتَ عليه).

قلت: ويستثنى من ذلك النفاق والرياء، فإنه قد يكشف الله حال صاحبه آخر أيام حياته أو عند الغرغرة والاحتضار.

ففي الصحيحين واللفظ للبخاري من حديث عبد الله، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: [إنّ أحدكم يُجْمَعُ في بطنِ أمه أربعين يومًا، ثم علقةً مثلَ ذلكَ، ثم يكون مضغةً مثلَ ذلك، ثم يَبْعَثُ الله ملكًا فيُؤْمر بأربعة: برزقِهِ، وأجَلِهِ، وشقِيٌّ أو سعيدٌ، ثم يُنْفَخُ فيه الروح. فوالله إِن أحدَكم أو الرجلَ ليعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكونُ بينه وبينها غيرُ ذِراع أو باع، فيَسْبقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخُلُها، وإن الرَّجُلَ ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكونُ بينه وبينها غيرُ ذراع أو

ص: 420

ذِراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها] (1).

وقد جاءت رواية مفسرة لمجمل هذا الحديث موضحة مُبَيِّنة ذكرها البخاري من حديث سهل بن سعد وفيها: [إن الرجل ليعمل عملَ أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عملَ أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة](2).

ولا شك أن المقصود هو النفاق والرياء، فلا يطلع على ذلك ولا يعلمه إلا الله. فهي أمراض أصابت القلب وتركها صاحبها وأهملها، حتى إذا ترعرعت وغطت على القلب صارت عقبة أمام صاحبها عند الاحتضار، فعجز عن المنطق أثناء النزع بلا إله إلا الله.

وفي التنزيلِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].

133 -

134. قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَال لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}.

في هذه الآيات: توبيخ لأهل الكتاب في تكذيبهم، فقد مات يعقوب على الدين الحق، دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم الصلاة والسلام، ومضى أبناؤه على وصيته لهم بذلك، ثم لكل أمة ما كسبت ولا تسألون عما كانوا يعملون.

فعن الربيع: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} ، يعني: أهل الكتاب). والمراد: أكنتم معشر اليهود والنصارى حاضرين احتضار يعقوب وما أوصى به! ؟ وهو على جهة التوبيخ لهم في افتراءاتهم وتكذيبهم. قال القاسمي: (أي ما كنتم حاضرين حينئذ، فـ "أم" منقطعة مقدّرة بـ "بل" والهمزة، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (6594) كتاب القدر، وصحيح مسلم- حديث رقم- (2643)، ومسند أحمد (1/ 382).

(2)

حديث صحيح انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (2898)، كتاب الجهاد والسير، وصحيح مسلم -حديث رقم- (112)، ومسند أحمد (5/ 335).

ص: 421

وقال النسفي: (أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار .... أو متصلة ويقدر قبلها محذوف، والخطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا على اليهودية، كأنه قيل أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت). وشهداء: جمع شاهد، أي حاضر.

وقوله: {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} .

يعني: مقدماته وأسبابه، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئًا.

وقوله: {إِذْ قَال لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} .

أي: من بعد وفاتي. {قَالوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} . قال ابن كثير: (وهذا من باب التغليب، لأن إسماعيل عمه). قال النحاس: (والعرب تسمي العَمَّ أبًا) نقله القرطبي.

فكان أبناء يعقوب عليه السلام حالة احتضار والدهم عند أحسن الظن، قالوا:{نَعْبُدُ إِلَهَكَ} فأروه ثبوتهم على الدين الحق دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم الصلاة والسلام، وأقروا عينه بمعرفتهم بالله تعالى.

وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أنه استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجَدَّ أبا وحجب به الإخوة، وهو قول الصديق رضي الله عنه حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير. ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري، وطاووس، وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف. وقال مالك والشافعي وأحمد - في المشهور عنه -: أنه يقاسم الإخوة، وحكي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود يزيد بن ثابت، وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن.

وقوله: {إِلَهًا وَاحِدًا} .

يعني: نفرده بالعبادة والتعظيم. قيل {إِلَهًا} بدل من {إِلَهَكَ} . وقيل: حال.

وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .

أي: مطيعون خاضعون. الجملة مبتدأ وخبر، وهي على الحال من فاعل نعبد.

ص: 422

والإسلام هو دين الأنبياء جميعًا. وفي التنزيل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخوة، والأنبياء إخوة لِعَلاّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد](1). وبنو العلاّت: هم أبناء الرجل الواحد من أمهات شتى.

وقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} .

يعني: مضت. {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} فلا يفيدكم الانتساب إلى الأنبياء والصالحين ما لم تكونوا على منهاجهم. {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

أخرج الإمام أحمد والنسائي والبيهقي بسند صحيح عن أُبَيّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[انتسب رجلان على عهد موسى، فقال أحدهما: أنا فلان بنُ فلانٍ، حتى عَدَّ تسعةً فمن أنتَ لا أمَّ لك؟ قال: أنا فلانُ بنُ فلانٍ ابنِ الإسلام. فأوحى الله إلى موسى أن قل لهذين المنتسبين: أما أنت أيها المنتسب إلى تسعةٍ في النار فأنت عاشرهم في النار، وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة](2).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: [ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه](3).

135.

قوله تعالى: {وَقَالوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} .

في هذه الآية: إثبات الله تعالى الهداية في ملة إبراهيم عليه السلام، ملة التوحيد ونبذ الشرك والآثام.

قال ابن عباس: (قال عبدُ الله بن صُوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهُدى إلا ما نحن عليه! فاتّبِعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (3443)، كتاب أحديث الأنبياء، ورواه مسلم في الصحيح برقم (2365) في الفضائل.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 128)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 88/ 1)، وقال الألباني: وهذا إسناد صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1270).

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2699) ومسند أحمد (2/ 252)، وهو جزء من حديث طويل.

ص: 423

فيهم: {وَقَالوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ).

وقوله: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} .

أي: مستقيمًا. قال مجاهد: (مخلصًا). وقال ابن عباس: (حاجًّا). وقال أبو العالية: (الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته. ويرى أن حجّه عليه إن استطاع إليه سبيلًا). وقال الربيع: (حنيفًا: أي متبعًا).

وقال أبو قلابة: (الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم).

وقال قتادة: (الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله، يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات، والخالات والعمات، وما حرّم الله عز وجل، والختان).

قلت: والذي ذكره قتادة شامل واسع، يدلس على ملة إبراهيم ملة التوحيد وإفراد الله سبحانه بالتعظيم والتوحيد والعبادة والطاعة.

136.

قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} .

في هذه الآية: دعوة الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان به وبجميع أنبيائه ورسله، وعدم التفريق في ذلك بين أحد منهم.

قال قتادة: (أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرقوا بين أحد منهم).

وفي التنزيل: ({إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151].

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [كان أهل الكتاب يقرؤون التوراةَ بالعبرانية ويفسِّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 424

لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية] (1).

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كان يقْرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية التي في البقرة. وفي الآخرة منهما: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52]}] (2).

وأما الأسباط فهم اثنا عشر رجلًا من ولد يعقوب عليه السلام. وَلَدَ كُلُّ رجل منهم أمّة من الناس، فسموا "أسباطًا". وفي التنزيل: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا

} [الأعراف: 160].

قال قتادة: (الأسباط: يوسف وإخوته، بنو يعقوب. ولد اثني عشر رجلًا، فولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسموا "أسباطًا").

وقال الخليل بن أحمد: (الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل).

وقال القرطبي: (وسمّوا الأسباط من السَّبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون).

قال: (والسِّبْطُ الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد). وقيل: أصله من السَّبَط: الشجر، فهم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدةُ سَبطة. وفي الأثر عن ابن عباس:(كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمد عليهم الصلاة والسلام).

وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .

أي: منقادون. قال النسفي: (لله مخلصون).

137 -

138. قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}.

في هذه الآيات: إثبات منهاج الرسل في الإيمان، وأن المعرضين عنه قد شقوا

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4485) كتاب التفسير، ورواه في كتاب التوحيد (7542).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (727)، كتاب صلاة المسافرين، ورواه أبو داود (1259).

ص: 425

طريقًا من طرق الشيطان، فإن الدين الحق هو دين الفطرة الذي فطر الله الناس عليه وهو دين الإسلام.

قال ابن عباس: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} : أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى، وأنَّه لا يقبل عملًا إلا به، ولا تحرُم الجنة إلا على من تَركه).

والمعنى: إن صدّق الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بجميع كتب الله ورسله دونما تفريق بين أحد منهم فقد أصابوا الحق ورشدوا. وإن تولوا وأعرضوا {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} . قال قتادة: (أي: في فراق). يعني في مخالفة ومنازعة. قال زيد بن أسلم: (الشقاق المنازعة). وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي. قال القرطبي: (وأصله من الشِّق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شِقّ صاحبه).

وقيل: بل الشقاق مأخوذ من فِعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشقّ على صاحبه.

قلت: وبالجمع بين هذه الأقوال يكون المعنى: إن من أعرض عن منهاج الرسل في الإيمان فقد شق طريقًا غير طريقهم وفارقهم إلى طرق وسبل الشياطين.

وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} .

يعني: سيكفي الله رسولَه عدوَّه، وسيخذل من عانده وخالفه.

قال ابن جرير: (ففعل الله بهم ذلك عاجلًا، وأنْجز وعده، فكفى نبيّه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إياه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجاز بعضًا، وأذلّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار).

وقال القرطبي: (وكان ذلك في قتل بني قَيْنُقَاع وبني قُريظة وإجلاء بني النضير).

وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

أي: {وَهُوَ السَّمِيعُ} سبحانه لما يقولون لك بألسنتهم وما يخرج من أفواههم من الجهل والكفر والدعوة إلى الضلال، {الْعَلِيمُ} بما انطوت عليه قلوبهم من الغسل والمكر والحسد.

وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} .

قيل دين الله، وقيل فطرة الله. وتفصيل ذلك:

ص: 426

1 -

فعن قتادة: ({صِبْغَةَ اللَّهِ} قال: دين الله). وقال أبو العالية: ({صِبْغَةَ اللَّهِ}: دين الله. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}، قال: ومن أحسن من الله دينًا).

2 -

وعن مجاهد: {صِبْغَةَ اللَّهِ} ، قال: فطرة الله التي فطر الناسَ عليها). وقال: (الصبغة: الفطرة). وقال: (الإسلام، فطرة الله التي فطر الناس عليها). وقال ابن جريج: (دين الله، ومن أحسن من الله دينًا. قال: هي فطرة الله).

وبالجمع بين القولين يكون المعنى: بل نتبع فطرة الله وملته التي خلق عليها خلقه، وذلك الدين القيم. قال بعض أهل اللغة:"صبغة" بدلٌ من"ملّة". وقال الكسائي: (وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الإغراء أي الزموا. ولو قرئت بالرَّفع لجاز، أي هي صبغة الله).

قال ابن جرير: (الصبغة: صبغة الإسلام. وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تُنَصِّرَ أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية). وقد جاءت بذلك الآثار:

1 -

روى شيبان عن قتادة قال: (إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودًا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم نصارى، وإن صبغة الله الإسلام).

2 -

قال ابن عباس: (هو أن النصارى كانوا إذا وُلد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودِيّة، فصبغوه بذلك ليطهّروه به مكان الخِتان، لأن الختان تطهر، فإذا فعلوا ذلك قالوا: الآن صار نصرانيًّا حقًّا).

فرد الله عليهم بأن صبغةَ الله أحسن صبغة، وهي الإسلام. قال القرطبي:(فَسمِّيَ الدين صبغة استعارة ومجازًا من حيث تظهر أعماله وسِمته على المتديِّن، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب).

وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} .

أمرٌ من الله لنبيّه أن يقول للذين قالوا: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} . والتقدير: قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفًا، صبغَةَ الله، لا نستكبر عن أمره أو الإقرار برسالته رسله، كما استكبرت اليهود والنصارى فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكبارًا وبغيًا وحسدًا، وضيّعوا أعمالهم باستكبارهم.

أخرج البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثل المسلمين واليهود والنصارى

ص: 427

كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملًا إلى الليل فعمِلوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر آخَرين فقال: أَكْمِلوا بقية يومِكم ولكم الذي شرطت، فَعَمِلوا حتى إذا كان حين صلاة العَصرِ قالوا: لكَ ما عملنا، فاستأجر قومًا فعمِلوا بقيةَ يومهم حتى غابت الشَّمس، واستكملوا أَجْر الفريقين] (1).

وفي رواية: (فذلك مثلهم ومثَلُ ما قبلوا من هذا النور).

139 -

141. قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالنَا وَلَكُمْ أَعْمَالكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}.

في هذه الآيات: تكذيبُ الله المعاندين المغرورين من أهل الكتاب، الذين ادَّعوا أن الأنبياء كانوا على دينهم وطريقتهم، وتأكيده تعالى أن رسله جميعًا كانوا على ملة التوحيد وإفراد الله بالتعظيم، وأن الانتساب النافع هو أتباع سبيل المرسلين.

فقوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} .

قال مجاهد: (قل: أتخاصموننا). وقال ابن عباس: (أتجادلوننا). قال الحسن: (كانت المحاجة أن قالوا: نحن أولى بالله منكم، لأنّا أبناء الله وأحباؤه). وقيل: لتقدّم آبائنا وكتبنا، ولأنا لم نعبد الأوثان. فكان الجواب من الله: قل يا محمد لهؤلاء المغرورين أنه لا تأثير لقدم الدين، بل لا بد من متابعة أوامر الله المتجددة والإيمان بكلِّ رسله وأنبيائه، فهو ربنا وربكم، ولا يستكبر عن عبادته إلا هالك.

وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} .

قال ابن جرير: (تزعمون أنكم أولى بالله منا، لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحن

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (558)، كتاب مواقيت الصلاة، والرواية الأخرى (2271) كتاب الإجارة.

ص: 428

مخلصون له العبادة، لم نشرك به شيئًا، وقد أشركتم في عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنّى تكونون خيرًا منا، وأولى بالله منا؟ ).

أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد بن أبي فضالة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا جمع الله الأولين والآخرين، ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عملهُ لله أحدًا فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك](1).

وقال الجنيد: (الإخلاص سِرٌّ بين العبد وبين الله، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوىً فيميله).

وقوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} .

التقدير: أتحاجوننا في الله، أم تقولون في هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام: إنهم كانوا على دينكم وملتكم وطريقتكم. {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} : تقرير وتوبيخ لهم في زعمهم وادعائهم، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا هودًا أو نصارى بل على ملة التوحيد وإفراد الله سبحانه بالتعظيم، دون تعصب أو كبر أو جدل.

وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} .

قال الحسن البصري: (كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين الإسلام، وإن محمدًا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك).

وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} .

تهديد ووعيد وتحذير شديد، فإن الله سبحانه قد أحاط بكلِّ شيء علمًا، وهو عليم بأعمالكم وما تخفي صدوركم.

وقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} . يعني: مضت.

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3154)، وابن ماجه (4203). انظر صحيح سنن الترمذي (2521). ورواه أحمد. انظر تخريج المشكاة (5318)، وصحيح الجامع (496).

ص: 429

وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

قال ابن كثير: (لهم أعمالهم ولكم أعمالكم. وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله واتباع رسله، الذين بعثوا مبشِّرين ومنذرين، فإنّه من كفر بنبيّ واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين).

وقال القرطبي في هذه الآية: (كرّرها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أخرى، فوجب التأكيد، فلذلك كرّرها).

142 -

143. قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

في هذه الآيات: استنكار اليهود تحول القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، وإثبات منهاج الوسطية لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن الله تعالى لا يضيع أجر أهل الإيمان.

والسفهاء: الجهال، سموا كذلك لأنهم سفهوا الحق. وهم المشركون واليهود والمنافقون. وتفصيل ذلك من أقوال المفسرين:

1 -

عن مجاهد: ({سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ}، قال: اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس). وقال البراء: (أهل الكتاب). وقيل: (أحبار يهود).

ص: 430

2 -

عن السدي قال: (نزلت: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}، في المنافقين).

3 -

قال الزجّاج: (المراد بالسفهاء ها هنا مشركو العرب).

واختار ابن جرير أنها في اليهود وأهل النفاق. قال: (وإنما سمّاهم الله عز وجل {سُّفَهَاءُ} لأنهم سفِهوا الحق. فتجاهلت أحبارُ اليهود، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل، وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا). في حين اختار ابن كثير أنها عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم.

قلت: وقد جاء في السنة الصحيحة ما يدل على سبب نزول هذه الآية:

1 -

قال ابن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. فقال رجال من المسلمين: وَدِدْنا لو علمنا علم من مات قبل أن نصرف إلى القبلة، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. وقال السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. فأنزل الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} إلى آخر الآية](1).

2 -

وفي صحيح البخاري عن البراء رضي الله عنه: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يُعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنَّه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوَّلَ قِبَلَ البيت رجالًا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}](2).

3 -

أخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن أبي إسحاق، عن البراء قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان يحبّ أن

(1) لباب النُّقول في أسباب النزول للحافظ السيوطي. وإسناده حسن ورجاله ثقات. انظر الصحيح المسند من أسباب النزول -الوادعي- سورة البقرة (142). وأورده الحافظ ابن كثير بلفظ قريب.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4486) كتاب التفسير، وانظر رقم (40) كتاب الإيمان.

ص: 431

يُوَجَّهَ نحو الكعبة، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: فَوُجهَ نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس -وهم اليهود -: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ؟ فأنزل الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ] (1).

4 -

أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال:[بينما الناس بِقُباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشَّام فاستداروا إلى الكعبة](2).

قال الحافظ ابن كثير: (وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدَّم نزوله وإبلاغه، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، والله أعلم).

وقوله: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} .

رُوي عن ابن عباس: أن القائلين هم اليهود، وعن الحسن: أنهم مشركو العرب، وعن السدّي: أنهم المنافقون.

قال الراغب: (ولا تنافي بين أقوالهم، فكلٌّ قد عابوا، وكل سفهاء).

وقال القاسمي: (ومدار الإنكار، إن كان القائلون هم اليهود، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم. وإن كان غيرهم، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه).

وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

مفهومه: إنّ الحكم والتصرف والأمر لله، فحيثما وجَّهنا سبحانه توجّهنا، فنحن عبيده وخدّامه وفي تصرفه فله الأمر وعلينا الامتثال.

قال القرطبي: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم، والله تعالى أعلم. والصراط: الطريق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه).

وفي المسند عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنهم لا يحسدوننا على شيء

(1) إسناده حسن، ورجاله ثقات. وأورده ابن كثير في التفسير، ويشهد له ما قبله.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (403)، (4491)، ومسلم (526)، ورواه أحمد (2/ 16).

ص: 432

كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين] (1).

وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .

الوَسَط: العدْل. فوصفت هذه الأمة به لأنها جانَبَت الغلو والتقصير، فلم تَغْلُ غُلُوَّ النصارى في أنبيائهم، ولم تُقَصِّر تقصير اليهود في أنبيائهم. ومنه الصلاة الوسطى -صلاة العصر- توسطت الصلوات، ومنه الكعبة في وسط الأرض. فكما أن الكعبة التي حُوِّلتم إليها وسط الأرض، فكذلك أنتم وسط الناس، ووسط الأمم، جعلناكم أمة وسطًا، أي دون الأنبياء وفوق الأمم، لتشهدوا للأنبياء يوم القيامة عند تكذيب الأمم لهم.

أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيقال لهم: هل بلَّغكم بهذا؟ فيقولون: لا، فَيُقال له: من يشهدُ لكَ؟ فيقول: محمدٌ وأمته، فيدعى محمدٌ وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيُقال: وما عِلْمُكُم بذلك؟ فيقولون: جاءنا نبيّنا، فأخبرنا أن الرسل قد بلّغوا فصدّقناه، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}](2).

وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -أيضًا- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغْتَ؟ فيقولُ: نعم يا ربِّ، فتسْألُ أمَّتُهُ: هل بَلغَكُم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: مَنْ شهودُكَ؟ فيقول؟ محمدٌ، وأمَّتُهُ، فَيُجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلًا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}](3).

وفي رواية أحمد: [يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيُدعى قومه فيقال لهم: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد. فيقال

(1) حديث حسن. رواه أحمد في المسند (1/ 135 - 136) بأتم منه. وبعضه في الصحيح.

(2)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (3/ 38)، وصحيح الجامع (7889)، ورواه النسائي.

(3)

حديث صحيح. رواه البخاري (7349)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ورواه أحمد (3/ 58).

ص: 433

لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . قال: الوسطُ. العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، قال: ثم أشهد عليكم].

قلت: وهذه الصفة لهذه الأمة بالشهادة على الناس هي في الدنيا كما هي في الآخرة، وفي ذلك أحاديث من السنة الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: [مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثني عليها خيرًا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وجبتْ، ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شرًا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ. فقال عمر: فِدىً لك أبي وأمي! مُرَّ بجنازة فأثني عليها خيرًا فقلت: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ، ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شرًا، فقلت: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي الأسود أنه قال: [أتيت المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرض، فهم يموتون موتًا ذريعًا، فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرّت به جنازة، فَأُثْنِيَ على صاحبها خيرًا، فقال: وَجَبَتْ وَجَبَتْ. ثم مُرَّ بأخرى فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر رضي الله عنه: وَجَبَت. ثم مُرَّ بالثالثة فأُثْنِيَ عليها شرًا، فقال عمر: وجبتْ. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّما مسلم شَهِدَ له أربعة بخير أدخله الله الجنة. قال فقلنا: وثلاثة؟ قال: فقال: وثلاثة. قال فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان. ثم لم نسأله عن الواحد](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأَدْنَيْنَ أنهم لا يعلمون منه إلا خيرًا، إلا قال الله تعالى وتبارك: قد قبلت قولكم، أو قال: بشهادتكم، وغفرت له ما لا تعلمون](3).

(1) انظر: صحيح البخاري (3/ 177 - 178)، وصحيح مسلم (949)، كتاب الجنائز، واللفظ له.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 21، 45)، وأخرجه البخاري (1368) وغيره.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 242)، ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 378)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (46).

ص: 434

الحديث الرابع: أخرج ابن ماجة وأحمد، عن أبي بكر بن أبي زهير الثَّقفيُّ، عن أبيه، قال:[سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباوَة يقول: يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيِّئ، أنتم شهداء الله في الأرض](1). والنَّباوة من الطائف.

الحديث الخامس: أخرج الحافظ أبو بكر بن مَرْدَويه عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أنا وأمتي يوم القيامة على كَوْم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحدٌ إلا وَدَّ أنه مِنّا. وما من نبي كذّبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل](2).

وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} .

إن تشريع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فيه اختبار الصدق في طاعة الله من النفاق والكذب، ليظهر حال من يمتثل أمر الله ويتابع رسوله، ممن يكبِّر عليه الأمر فيخالف أو يرتد عن دينه. {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي: تحويل القبلة. ذكره ابن عباس ومجاهد.

والتقدير في العربيّة: وإن كانت التحويلة. قال الأخفش: (أي وإن كانت القِبْلة أو التحويلة أو التَّوْلية لكبيرة).

وقوله: {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} .

قال القرطبي: (أي خلق الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}). والتقدير: آمنوا وصدقوا الله فهداهم وزادهم إيمانًا. وفي التنزيل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى

} [فصلت: 44]. وقال جل ذكره: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجه في السنن (4221)، وأحمد في المسند (3/ 416). وصحح إسناده البوصيري في "الزوائد". وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3400).

(2)

إسناده فيه راو لم يسمَّ، إلا أن له طرقًا أخرى وشواهد. وانظر الأحاديث قبله.

ص: 435

وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .

يعني: صلاتكم إلى القبلة السابقة -بيت المقدس-.

قال ابن عباس: ({وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، أي: بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى). أي ليُعْطِيَنَّكم أجرهما جميعًا.

وقال الحسن: (أي: ما كان الله ليضيع محمدًا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف).

خرّج الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس قال: [لما وُجّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يُصَلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية](1).

قال القرطبي: (فسمّى الصلاة إيمانًا لاشتمالها على نيّة وقول وعمل. وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} .

قال أبو عمرو بن العلاء: (الرأفة أكثر من الرحمة). وقال ابن جرير: ({الرأفة} أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة. وأما {الرحيم}: فإنّه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة).

أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سَبْي، فإذا امرأة من السَّبيَّ تَحْلُبُ ثَدْيَها تَسْقي، إذا وَجَدَتْ صبيًّا في السبي أخَذَتْهُ، فألصَقَتْهُ ببطنها وأرضَعَتْهُ، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أتُرَون هذه طارِحةً ولدَها في النار؟ قلنا: لا، وهي تَقْدِرُ على أن لا تَطْرَحَهُ، فقال: للهُ أَرْحَمُ بعباده من هذه بولدها] (2).

أخرج الحافظ العراقي في "المجلس من الأمالي" عن أنس بن مالك مرفوعًا: [والذي نفسي بيده، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافّة](3).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2365)، ورواه البخاري كما مضى نحوه.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (5999). كتاب الأدب. باب رحمة الولد وتقبيله ومُعَانقته.

(3)

حديث صحيح. وله شاهد أخرجه ابن المبارك في الزهد. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (167).

ص: 436

144.

قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} .

في هذه الآية: إخبارُ الله تعالى عن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم التوجه إلى الكعبة في الصلاة وموافقة الله رغبته بذلك. وتهديد ووعيدٌ لمن جحد ذلك من أهل الكتاب أو استكبر عنه فأنكره بغيًا وحسدًا.

قال قتادة: (كان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه في السماء، يحب أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرفه الله إليها). وفي رواية: (فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يُصَلّي نحو بيت المقدس، يَهوَى ويشتهي القبلةَ نحو البيت الحرام، فوجَّهَهُ الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها).

أخرج الترمذي بسند صحيح عن البراء بن عازب قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها! {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل ثم خرج بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنَّه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة](1).

قال ابن عباس: (كان أول ما نُسِخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي

(1) حديث صحيح. ورواه ابن ماجه وأحمد. انظر الصحيح المسند من أسباب النزول. البقرة (144).

وانظر صحيح سنن الترمذي (2363) -كتاب التفسير- عند هذه الآية.

ص: 437

كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، وقال الله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} ).

أخرج الحافظ أبو بكر بن مَرْدَويه عن نويلة بنت مسلم قالت: [صلينا الظهر -أو العصر- في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء (1) فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحوّل النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، فصلينا السَّجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام، فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أولئك رجال يؤمنون بالغيب](2).

وله شاهد عنده عن عُمارة بن أوس، قال:[بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع، إذ نادى منادٍ بالباب: إن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة. قال: فأشهد على إمَامنا أنه انحرف فتحوَّل هو والرِّجال والنساء والصبيان -وهم ركوع- نحو الكعبة](3).

وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .

الشطر: النحو والقصد والتِّلقاء.

قال الحافظ ابن كثير: (أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ولا يستثنى من هذا شيء، سوى النافلة في حال السفر، فإنّه يصليها حيثما توجه قالبه، وقَلْبُه نحو الكعبة. وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال. وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها).

وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} .

قال السدي: (أنزل ذلك في اليهود). وقال القرطبي: (يريد اليهود والنصارى). ثم ذكر جوابين عن كيفية علمهم بتحويل القبلة.

(1) أي المسجد الأقصى. وإيلياء هي بيت المقدس.

(2)

أخرجه الحافظ ابن مردويه كما ذكر ابن كثير في التفسير. وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 530) وقال الهيثمي في "المجمع"(2/ 14): ورجاله موثقون.

(3)

حديث حسن. أخرجه أبو يعلى (1509)، والطبراني في "المعجم الكبير"، انظر المرجع السابق.

ص: 438

الأول: أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيّ علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به.

الثاني: أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة.

قلت: وقد يكون تحويل القبلة مذكورًا في كتبهم أنه سيكون في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم يتكاتمونه بغيًا وحسدًا. فإن الآية تحتمل مثل هذا التأويل.

وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} .

تهديد ووعيد لمن جحد وأنكر منهم واستكبر. فهو إعلام بأن الله تعالى لا يغفل عن أعمال العباد ولا يُهملها وسيكشفها لهم يوم يلقونه.

145.

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} .

في هذه الآية: الكفر والعناد والمكر متأصل في يهود، لأنهم كفروا وقد تبيّن لهم الحق. فلا تنفعهم الآيات والعلامات ولو جئتهم بكلِّ دليل على النبوة والوحي والحقُّ. كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]. وفي الآية تحذير شديد من أتباع أهواء أهل الكتاب.

وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ].

إخبار عن صدق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأوامر الله وشدة تمسكه بها. قال ابن كثير: (كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم، فهو أيضًا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنَّه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، وما كان متوجهًا إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى).

ص: 439

وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} .

الخطاب للرسول والمراد به الأمة. فإن زلة العالم ليست كزلة غيره.

قال الراغب: (نبه أن اتباع الهوى بعد التحقق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة. قال: فذو المنزلة الرفيعة إلى تحذير الإنذار عليه أحوج، حفظًا لمنزلته وصيانة لمكانته).

وقال القاسمي: (دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم. لأن قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} يدل على ذلك. ذكره الرازي).

أخرج الدارمي في سننه بسند جيد عن زياد بن حُدَيْر قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدمُ الإسلام؟ قال: قلتُ: لا. قال: (يهدمه زلّةُ العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين).

146 -

147. قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}.

في هذه الآيات: المراد علماء اليهود وأحبارهم، وعلماء النصارى، يعرفون صحة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده، فالحذر كل الحذر من تقليدهم في اتباعهم الهوى.

قال قتادة: ({الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة). وقال السدي: (يعرفون الكعبة هي قبلة الأنبياء، كما يعرفون أبناءهم).

قال ابن كثير: (والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا). يعني هو صحيح كمعرفة الأب بولده. قال القرطبي: (ورُوي أن عمر قال لعبد الله بن سَلام: أتعرفُ محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينَه في سمائه إلى

ص: 440

أمينه في أرضه بنعته فعرفتُه، وابني لا أدري ما كان من أمّه).

أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند حسن عن أبي رمثة التَّيميّ قال:[أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابن لي، فقال: ابنك هذا؟ قلت: أشهد به. (وفي رواية: فقال: ابنك هذا؟ قلت: إي ورب الكعبة، قال: ابن نفسك؟ قلت: أشهد به) قال: فإنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه](1).

وقد يكون المعنى: يعرفون خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفاته وقبلته كما يعرفون أبناءهم من بين جميع الناس، فلا أحد يمتري في معرفة ابنه من بين ألوف الناس، ومع هذا: قال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . قال مجاهد: (يكتمون محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل). وقال الربيع: (يعني القبلة).

وقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .

قال الربيع: (يقول: لا تكنْ في شك، فإنها قبلتك وقبلةُ الأنبياء من قبلك). أي لا تكونن من الشاكين. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمّته.

وأصل المِرْية في لغة العرب: الشك. يقال: امترى فلان في كذا إذا اعترضه اليقين مرة والشك أخرى، فدافع إحداهما بالأخرى. ومنه المِراء في الشيء، لأن كل واحد منهما يشك في قول صاحبه.

قال الراغب: (ليس هذا بنهي عن الشك لأنه لا يكون بقصد من الشاكّ، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها. وعلى ذلك قوله: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}).

148.

قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} .

في هذه الآية: تقديرُ الله تعالى أن لكل ملة قبلة ووجهة، وأن الهداية بيد الله فاستبقوا الخيرات، وإليه سبحانه المرجع والحساب.

فقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} - فيه أقوال متقاربة:

(1) حسن الإسناد. أخرجه أحمد في المسند (2/ 227)(2/ 228)، (5/ 81). وهو حديث حسن.

ص: 441

1 -

قال ابن عباس: ({وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} يعني بذلك أهل الأديان. يقول: لكل قبلة يرضونها، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون). وقال أبو العالية: (لليهودي وجهةٌ هو مولِّيها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة).

2 -

وقال الحسن: (أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة).

قال القرطبي: (والمراد القبلة، أي إنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تَتَّبعُ قبلتهم، ولكل وجهةٌ إما بحق وإما بِهوىً).

وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} .

قال الربيع: (يقول: فسارعوا في الخيرات).

وقال قتادة: (يقول: لا تُغْلَبُنَّ على قبلتكم). وقال ابن زيد: ({فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، قال: الأعمال الصالحة).

والمعنى: سارعوا أيها المؤمنون إلى الامتثال وفعل الصالحات وتزوّدوا لآخرتكم ولا تستهوينكم يهود فتضيعوا كما ضاعوا وكما ضاعت الأمم قبلكم، وحافظوا على قبلتكم التي هداكم الله لها وضل عنها أهل الكتاب.

وفي التنزيل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا

} [المائدة: 48].

وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} .

قال السدي والحسن: (يعني يوم القيامة). فهو القدير سبحانه على جمعكم وحشركم وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.

149 -

150. قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ

ص: 442

حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}.

في هذه الآيات: تأكيد جديد لأمر تحويل القبلة ليغيظ أكثر من استكبر عن طاعة الله من أهل الكتاب، وليعلن نسخ القبلة إلى يوم القيامة.

قال القرطبي: (قيل: هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها، لأن موقع التحويل كان صعبًا في نفوسهم جدًّا، فأكّد الأمر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه. وقيل أراد بالأول: وَلِّ وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا صلّيت تلقاءها. ثم قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. ثم قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يعني: وجوب الاستقبال في الأسفار، فكان هذا أمرًا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض).

فخلاصة ما ذكر القرطبي في الآية: أن الأول لمن هو بمكة، والثَّاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار. ورجحه القرطبي.

في حين وجّه المعنى فخر الدين الرازي إلى أن الأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثَّاني لمن هو في مكة غائب عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان.

قال ابن جرير: ({وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}: ومن أي موضع خَرَجْت إلى أي موضع وجَّهت، فولّ يا محمد وجهك -يقول: حوِّل وجهك. قال: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: وإن التوجه شطرَه للحق الذي لا شك فيه من عند ربك، فحافظوا عليه، وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله). وأما قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فالمعنى: ليس الله بساهٍ عن أعمالكم ولا يغفل عنها، بل هو محصيها لكم، حتى يوافيكم بها يوم القيامة.

وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .

يعني: من أي بقعة شخصت ومن أي مكان خرجت فقبلة صلاتك إلى البيت العتيق.

وكذلك أنتم أيها المؤمنون: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .

وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} .

التأويل: لئلا يحتج عليكم أحد في التولي إلى غيره. فإن اليهود يقولون: يجحد

ص: 443

ديننا ويتبع قبلتنا. والمشركون يقولون: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته.

قال قتادة: (قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، يعني بذلك أهل الكتاب. قالوا - حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه).

وقوله: {لَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .

قال الربيع: (يعني مشركي قريش). وقال مجاهد: (هم مشركو العرب). قال: (حجتهم قولهم: قد راجعتَ قبلتنا). أو قال: (قد رجَعت إلى قبلتنا). وقال قتادة وابن نجيح، عن مجاهد: (هم مشركو العرب، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} .

وقوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} .

يعني: الناس {وَاخْشَوْنِي} أي: أفردوا الله تعالى بالخوف والتعظيم، ولا تخشوا شبه المبطلين والظَلَمَة المتعنتين.

وقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} .

قال الزجاج: (إتمام النعمة الهداية إلى القبلة).

وقال سعيد بن جبير: (ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخلَه الجنة).

وقال ابن كثير: (أي: ولأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها).

وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} .

يعني: إلى ما خصصناكم به من بين الأمم وشرفناكم به.

قال النسفي: (ولكي تهتدوا إلى قبلة إبراهيم). وقال ابن جرير: (وكي ترشدوا للصواب من القبلة). وقال القاسمي: ({وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} للصراط المستقيم بالتوجه إليها، فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة).

ص: 444

151 -

152. قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}.

في هذه الآيات: يُذكِّر سبحانه المؤمنين ببعض نعمه الجليلة عليهم، فإن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في حياتهم هي من أكبر هذه النعم، وقد عادت عليهم بالرفعة والشرف، كيف لا والمشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد لغيرهم، فامتن الله تعالى عليهم وبعثه من بينهم ومن واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب.

وقوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} .

يعني: يقرأ عليكم القرآن العظيم، وهو أكبر معجزة باقية في هذا الوجود.

قال القاسمي: (ولأنَّه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم، ومجامع الأخلاق الحميدة، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة).

وقوله: {وَيُزَكِّيكُمْ} .

أي: يطهركم من دنس الشرك والجاهلية والأخلاق الذميمة والأفعال المشينة.

وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} .

يعني: القرآن، {وَالْحِكْمَةَ} يعني السنة (1).

وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} .

قال ابن كثير: (فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسَفَّهون بالقول الفَرِيّ، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمْنِ سفارته إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء. فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقم لهجة).

وفي التنزيل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران].

(1) قال الشافعي رحمه الله: (الحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم).

ص: 445

فائدة: ليس في الآية تكرار، فالتلاوة غير التعليم. ومن ثَمَّ فإن الحكمة تشتمل على العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها.

وقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} .

يعني: اذكروني بالطاعة أذكركم بالرحمة والمغفرة. وفيه أقوال متقاربة:

1 -

قال سعيد بن جبير: (اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي). وفي رواية: (برحمتي).

2 -

قال الحسن البصري: (اذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي).

3 -

قال ابن عباس: (ذِكْرُ الله إياكم أكبر من ذكركم إياه).

4 -

قال الربيع: (إن الله ذاكرُ من ذكره، وزائدُ من شكره، ومعذِّبُ من كفره).

5 -

قال السدي: (ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمة، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب).

وقد حفلت السنة الصحيحة بروائع في هذا المعنى، ومن ذلك هذه الأحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم -واللفظ للبخاري- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يقول الله تعالى: أنا عِنْدَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتهُ في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن تقرب شِبْرًا إليَّ تَقَربْتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّبَ إلي ذِراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هَرْولة](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: عبدي إذا ذكرتني خاليًا ذكرتُكَ خاليًا، وإذا ذكرتني في ملأٍ ذكرتك في ملأٍ خيرٍ منهم وأكبر](2).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (7405)، كتاب التوحيد، وصحيح مسلم -حديث رقم- (2675)، كتاب الذكر والدعاء.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد والبزار من حديث أنس. وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة كما مضى. انظر صحيح الجامع (4200).

ص: 446

الحديث الثالث: أخرج الطبراني بسند حسن عن معاذ بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال الله تعالى: لا يذكرني عبدٌ في نفسه إلا ذكرتهُ في ملأٍ من ملائكتي، ولا يذكرني في ملأٍ، إلا ذكرتُه في الرفيق الأعلى](1).

وقوله: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} .

الشكر: معرفة الإحسان والتحدث به. وأصله في اللغة الظهور. ومفهومه: نطق العبد باللسان وإقرارٌ بالقلب بإنعام الرب سبحانه مع التقرب إليه بالطاعات.

ولذلك جاء في تفسير قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

} [آل عمران: 102]. عن بعض السلف قوله: (هو أن يُطاع فلا يُعْصى، ويذكر فلا ينسى، ويُشْكر فلا يُكْفَر).

وفي التنزيل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند حسن عن النُّعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب](2).

وعند ابن ماجه بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله تعالى على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ](3).

وفي المسند وسنن النسائي عن والد أبي الأحوص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إذا آتاك الله مالًا فَلْيُرَ أثَرُ نعمةِ الله عليك وكرامته](4).

وله شاهد عند الطبراني من حديث زهير بن أبي علقمة ولفظه: [إذا آتاك الله مالًا فَلْيُرَ

(1) حديث حسن. انظر تخريج الترغيب (2/ 127)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (4211).

(2)

حديث حسن. انظر مسند أحمد (5/ 211)، (2/ 295)، وصحيح ابن حبان (2070)، وانظر السلسلة الصحيحة (417)، وكتابي أصل الدين والإيمان (2/ 927).

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (3805) في السنن، باب فضل الحامدين، انظر صحيح ابن ماجة (3067)، وانظر صحيح الجامع (5439)، وكتابي أصل الدين والإيمان (1/ 318).

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (252)، والمرجع السابق (1/ 318).

ص: 447

عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس] (1).

وقوله: {وَلَا تَكْفُرُونِ} .

نهيٌ عن ستر النعمة، أي لا تكفروا نعمتي وأياديَّ.

153 -

154. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}.

في هذه الآيات: يحث الله سبحانه عباده المؤمنين على طاعته واحتمال الأذى والمكروه على الأبدان والأموال، فإن القائم على أوامر الله وتعظيمها لا بد أن يُبتلى، ومن ثم فلا بد له من الصبر، وخير الأعمال التي تعين علي الصبر الصلاة والذكر والدعاء. وفي الآيات إثبات لحياة الشهداء عند رب العالمين.

قال الربيع: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنها عون على طاعة الله).

أخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حذيفة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَهُ أمر صلى](2).

والعبد إما أن يكون في نعمة فيشكرها، أو يكون في نازلة فيصبر عليها.

ففي صحيح مسلم من حديث صُهَيْب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[عجبًا لأمر المؤمن، إن أمْرَه كلَّهُ له خير، وليسَ ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شَكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرّاء صَبَر، فكان خيرًا له](3).

والصبر أنواع:

1 -

صبر على ترك المحارم والآثام.

2 -

صبر على الطاعات والقربات ولوازم الإيمان.

3 -

صبر على المصائب والآلام والأسقام.

(1) حديث صحيح. انظر: "مجمع الزوائد"(5/ 132) ورجاله ثقات كما قال الهيثمي. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1320)، والمرجع السابق (1/ 318).

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد (5/ 388)، وله شواهد.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2999)، كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير.

ص: 448

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (الصبر في بابين: الصبر لله بما أحبَّ وإن ثَقُلَ على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء).

والصبر على الطاعات له مكانة كبيرة لأنه هو المقصود. قال شيخ الإسلام: (الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة: أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية. ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية).

وفي المسند للإمام أحمد، بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرةُ الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط](1).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

يعني: ينصرهم ويعينهم ويثبتهم.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [

وَمَنْ يَستَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، ومن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، ومن يتصَبَّر يُصَبِّره الله. وما أعطي أحدٌ عطاء خيرًا وأوسعَ من الصبر] (2).

وقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} .

خبر من الله سبحانه أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون وينعمون. و {أَمْوَاتٌ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هم". وكذلك الأمر في "أحياء".

أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، بسند صحيح من حديث عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لما أصيب إخوانكم بأُحد، جعل الله أرواحهم في جوف طير خُضْرٍ ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، معلقةٍ في ظل العرش .. ] الحديث (3).

(1) حديث صحيح. رواه أحمد بإسناد صحيح. انظر صحيح الجامع (2615)، وهو في صحيح مسلم (251) -كتاب الطهارة- باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره.

(2)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (555) وهو جزء من حديث طويل، ورواه البخاري.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند، وأبو داود في السنن -حديث رقم- (2520). وانظر =

ص: 449

وفي الموطأ عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه](1).

ورواه الإمام أحمد، عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ:[نسَمَةُ المؤمن طائر تَعَلَّقَ في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه](2).

قال الحافظ ابن كثير: (ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا، وإن كان الشهداء قد خُصِّصُوا بالذكر في القرآن، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيمًا).

وقوله: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} .

قال ابن جرير: (ولكنكم لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به).

وقال النسفي: (لا تعلمون ذلك لأن حياة الشهيد لا تعلم حسًّا).

وعن الحسن: (أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوًا وعشيًّا فيصل إليهم الوجع).

وعن مجاهد قال: (يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها).

وقيل: إن هذه الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلًا.

155 -

157. قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}.

في هذه الآيات: أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون الحياة الدنيا اختبارًا لعباده

= صحيح الجامع (5081) وهو جزء من حديث أطول، وسيأتي بتمامه إن شاء الله.

(1)

حديث صحيح. انظر موطأ مالك (1/ 240) ومسند أحمد (3/ 455)، وهو حديث صحيح.

(2)

انظر المرجع السابق، وكتابي أصل الدين والإيمان (2/ 879) لمزيد من التفصيل في البحث.

ص: 450

وامتحانًا وابتلاءً، فهو يُقَلّبهم جل ثناؤه بين ألوان من السراء والضراء، فتارة بالخوف وتارة بالجوع، وتارة بنقص الأموال والأنفس والثمرات، ثم إن العقبى للصابرين المسترجعين.

فقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} .

قال الراغب: (هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها).

وفي التنزيل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

قال ابن عباس: (أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دارُ بلاء، وأنَّه مبتليهم فيها، وأمرَهم بالصبر، وبشّرهم فقال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} ، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصفوته، لتطيب أنفسهم، فقال:{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} .

وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} .

أي: لنختبرنكم. {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} قال ابن عباس: (أي خوف العدو والفزع في القتال). {وَالْجُوعِ} ، قال ابن عباس:(يعني المجاعة بالجدب والقحط). {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} أي: ذهاب بعضها، إما بسبب الاشتغال بقتال الكفار أو بالجوائح المتلفة أو الخسارة في التجارة.

{وَالْأَنْفُسِ} قال ابن عباس: (بالقتل والموت في الجهاد). وقال الشافعي: (يعني بالأمراض). وقال ابن كثير: (كموت الأصحاب والأقارب والأحباب).

{وَالثَّمَرَاتِ} قال ابن عباس: (المراد قلة النبات وانقطاع البركات). وقال الشافعي: (المراد موت الأولاد، وولد الرجل ثمرة قلبه). وقال ابن جرير: (جُدوب تحدُث فتنقص لها ثماركم). وقال ابن كثير: (أي: لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها).

وقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} .

أي: بالثواب العظيم والأجر الكريم.

والصبر أصله الحبس. قال القرطبي: (لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الأولى. كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

ص: 451

قال: (أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدلس على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك، ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بدّ للأحمق منه بعد ثلاث).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .

المصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر. والخطاب للمؤمنين، فهذه صفتهم إذا نزل بهم مكروه تَسَلّوا بقولهم هذا عمّا أصابهم، وعلموا أنهم ملك لله يتصرف بهم كيف يشاء، ويقلبهم في أحوال شتى من الاختبار كما يريد.

وقد جاءت السنة الصحيحة بجزيل الثواب لمن استرجع عند المصيبة، وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، والبيهقي في سننه، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم اؤْجُرْنِي في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا أخلف الله له خيرًا منها. قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير عن أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيور، فقال: أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغَيْرَةِ](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أم سلمة قالت: [أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا سُرِرْتُ به. قال: "لا يصيب أحدًا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهم اؤجُرْني في مصيبتي، وأخْلفْ لي خيرًا منها، إلا فُعِلَ ذلك به". قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم اؤجُرْني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدّتي استأذن عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغُ إهابًا لي، فغسلت يدي من القرَظ، وأَذِنْتُ له، فوضعت له وسادة أدَم حشْوها ليفٌ، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (3/ 37)، ومسند أحمد (6/ 309)، والبيهقي (4/ 65).

ص: 452

من مقالته قلت: يا رسول الله، ما بي أن لا تكون بك الرغبة فيَّ، ولكني امرأة فِيَّ غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني الله به، وأنا امرأة قَدْ دَخَلْتُ في السنّ، وأنا ذات عيال، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يُذهبها الله عز وجل عنك. وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي. قالت: فقد سَلَّمْتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أم سلمة بعدُ: أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سنان قال: [دفنت ابنًا لي، فإنى لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة - يعني الخولاني - فأخرجني، وقال لي: ألا أُبَشِّرُك؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرْزب، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: يا ملك الموت، قبضتَ ولد عبدي؟ قبضتَ قُرَّة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم. قال: فما قال؟ قال: حَمِدك واسترجع. قال: ابنوا له بيتًا في الجَنَّة، وسمُّوه بيت الحمد](2).

وقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} .

قال القرطبي: (هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة).

قال سعيدِ بن جبير: (ما أُعطي أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمع إلى قوله:{يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} ).

وقال الزجاج: (الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن).

وفي صحيح البخاري: (وقال عمر رضي الله عنه نِعم العِدلان ونِعم العِلاوة: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}).

(1) جيد. أخرجه أحمد (4/ 27 - 28) وإسناده قوي رجاله ثقات. وأخرجه أبو داود (3119) وله شواهد، انظر ما قبله. والإهاب: الجلد ما لم يدبغ، والقرظ: ورق السَّلَم يدبغ به.

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (4/ 415)، والترمذي في الجامع (1021)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1408).

ص: 453

أراد بالعِدلين الصلاة والرحمة، وبالعِلاوة الاهتداء. قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.

فائدة: المصيبة في الدين هي من أعظم المصائب، وقد جاء في الحديث:[إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ فليذكر مصيبتَهُ بي، فإنها من أعظم المصائب](1).

قال ابن عبد البر: (وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوَحْيُ وماتت النبوة).

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .

قال ابن جرير: (المصيبون طريق الحق، والقائلون ما يُرْضي عنهم، والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب).

قال ابن عباس: (أخبر الله أن المؤمن إذا سَلّم الأمرَ إلى الله، ورجع واسترجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاةُ من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى).

158.

- قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} .

في هذه الآية: تأكيد أمر السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، ومن زاد من عمل مما لم يجب عليه من طواف وغيره فإن الله يجزي على العمل القليل بالكثير فضلًا منه وكرمًا.

و{الصَّفَا} في كلام العرب جمع "صَفاة": وهي الصخرة الملساء. و {وَالْمَرْوَةَ} : الحصاة الصغيرة، يجمع قليلها "مَرَوات"، وكثيرها "المرْو".

والمراد بالصفا والمروة في الآية الجبلان المسمّيان بهذين الاسمين اللذين في الحرم، دون غيرهما من الأصفاء والمرْو.

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن عدي والبيهقي من طريق ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع -حديث رقم- (344).

ص: 454

قال مجاهد: ({إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}: من الخبر الذي أخبركم عنه).

والمقصود: إن السعي بين الصفا والمروة من مشاعر الحج التي أمر الله بها عباده المؤمنين. وقد جاء تفصيل ذلك في أحاديث من السنة الصحيحة:

الحديث الأول: يروي البخاري في صحيحه عن عاصم بن سُليمان قال: سألت أَنَسَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه عن الصفا والمروة، فقال:[كنا نَرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلامُ أمْسَكْنا عنهما، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ}](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري عن الزُّهري: قال عُروة: سَألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيتِ قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فوالله ما على أحد جُناح أن لا يطوفَ بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلتَ يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوَّلْتَها عليه كانت لا جُناحَ عليه أن لا يتطوَّف بهما، ولكنها أُنْزِلتْ في الأنصار، كانوا قبلَ أن يُسلموا يُهِلُّون لمناةَ الطاغيَةِ التي كانوا يعبدونها بالمُشَلَّل، فكان مَنْ أهَلَّ يَتَحَرَّجُ أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما أسْلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنّا نتحَرَّجُ أن نطوفَ بينَ الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحدٍ أن يتركَ الطواف بينهما. قال: ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا العِلم ما كنت سَمِعْتُه، ولقد سمعت رجالًا من أهل العلم يذكرون: أنَّ الناس - إلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عائشةُ - مِمَّنْ كان يُهِلُّ بمناةَ، كانوا يطوفون كلُّهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يَذْكُرِ الصفا والمَرْوة في القرآن، قالوا: يا رسول الله كنا نطوف بالصفا والمروة، وإنّ الله أنزلَ الطواف بالبيت فلما يذكر الصفا فهل علينا من حَرَج أنْ نطوفَ بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قال أبو بكر: فأسْمَعُ هذه الآية نزلت في الفريقين كِلَيْهِما، في الذين كانوا يتحرّجون أن يَطَّوَّفُوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوَّفون، ثم تَحرّجوا أن يطّوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا،

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (4496)، كتاب التفسير. ورواه الإمام مسلم.

ص: 455

حتى ذكر ذلك بعدَ ما ذكر الطواف بالبيت] (1).

الحديث الثالث: روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - في حجة الوداع - وفيه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت وصلى عند مقام إبراهيم -: [ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، "أبدأ بما بدأ اللهُ به" فبدأ بالصفا، فرقي عليه

] الحديث (2).

وفي رواية عند النسائي: (ابدؤوا بما بدأ الله به)(3).

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن حبيبة بنت أبي تَجْرَاة، قالت:[رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعى يدورُ به إزارُه، وهو يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"](4).

وله شاهد عنده عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنَّها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول:[كتِبَ عليكم السعي، فاسعوا](5).

فائدة: استدل بهذا الحديث من يرى أن السعى بين الصفا والمروة ركنٌ من أركان الحج. كما هو مذهب الشافعي والمشهور عن مالك ورواية عن أحمد.

الحديث الخامس: روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: [رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يَرْمي على راحلته يوم النَّحر، ويقول: لِتأخذوا مناسِكَكُم، فإني لا أدري لَعَلِّي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه](6).

فكل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذه الناس عنه في مناسكهم فهو واجب، وقد سعى صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة. وقد تقدم أن أصل السعي بين الصفا والمروة هو فعل هاجر أم

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (1643)، كتاب الحج. باب وجوب الصفا والمروة، وَجُعِلَ من شعائر الله.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1218)، كتاب الحج. باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه النسائي في "الكبرى"(2967) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به. وانظر صحيح مسلم (1218) لتفصيل السعي بين الصفا والمروة.

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (6/ 421)، ورواه الحاكم (4/ 70)، وله شواهد.

(5)

حديث صحيح. رواه أحمد. وانظر مستدرك الحاكم (4/ 70)، والحديث الذي قبله.

(6)

صحيح مسلم (1297) كتاب الحج، في بيان قوله صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا عني مناسككم".

ص: 456

إسماعيل حين تركها إبراهيم عليه الصلاة والسلام امتثالا لأمر ربه - عند البيت، وليس بمكة يومئذ أحد ولا ماء، فقامت تسعى حين نفد ماؤها سعي الإنسان المجهود متذللة خائفة وجِلة مضطرة فقيرة إلى الله سبحانه، حتى فرّج الله كربتها، وآنس وحشتها، وكشف مصابها (1). قال الحافظ ابن كثير:(فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذُلّه وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه).

وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} .

فيه أقوال:

1 -

قيل: زاد في طَوافه بينهما على قدر الواجب، ثامنة وتاسعة. قلت: وهذا قول بعيد.

2 -

قيل: يطوف بينهما في حجَّةِ تطوع أو عُمْرة تطوع.

قال ابن زيد: (من تطوع خيرًا فاعتمر فإن الله شاكر عليم. قال: فالحج فريضة، والعمرة تطوع، ليست العمرة واجبةً على أحد من الناس).

3 -

قيل: السعي بينهما تطوع ومستحب. وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين. وَرُوِيَ عن أنس وابن عمر وابن عباس. قال القرطبي: (واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}). قال مجاهد: (من تطوع خيرًا فهو خيرٌ له، تطوّعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت من السنن).

4 -

قيل: المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات. ذكره الرازي.

قال القاسمي: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي: من فعل خيرًا فإن الله يشكره عليه ويثيبه به).

قلت: والراجح من الأحاديث المتقدمة أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، فيكون قوله تعالى:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} محمولًا على زيادة الطاعات والقربات هناك وذلك في سائر العبادات.

(1) قال طُليب: (رأى ابن عباس قومًا يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمّكم أم إسماعيل) ذكره القرطبي.

ص: 457

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} .

أي: يثيب ولا يظلم مثقال ذرة، عليم بفعل عباده وما أعدَّ لهم من الثواب على الطاعات والقربات.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَال ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40].

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يَظْلِمُ مؤمنًا حسنةً، يُعْطي بها في الدنيا ويَجْزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعَمُ بحسنات ما عَمِلَ بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكنْ له حسنةٌ يُجزى بها](1).

وفي لفظ: [إن الكافر إذا عملَ حسنة أُطْعِمَ بها طُعْمَةً من الدنيا، وأما المؤمنُ فإن الله يَدَّخِرُ له حسناته في الآخرة ويُعْقِبُهُ رِزْقًا في الدنيا، على طاعته].

159 -

162. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}.

في هذه الآياتِ: يهدّد الله تعالى ويتوعَّد من كتم ما جاء به الرسل من الحق والهدى من بعد ما بَيَّنَهُ للناس في كتبه، ويخبر أن أولئك تنالهم لعنة الله ولعنة اللاعنين. إلا من تدارك نفسه بإصلاح ما أفسد وعاد فبَيَّنَ الحق المبين. وقد كتب الله الشقوة في النار والخلود على الكافرين.

فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} .

قال مجاهد: (هم أهل الكتاب). وقال الربيع: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2808) كتاب صفات المنافقين - باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.

ص: 458

وَالْهُدَى}. قال: كتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، فكتموه حسدًا وبغيًا). وقال قتادة:(أولئك أهل الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل).

وقال أبو العالية: (نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} .

فيه أقوال في تأويل اللاعنين:

1 -

القول الأول: الدواب والبهائم.

قال مجاهد: (تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاء الله من الخنافس والعقارب تقول: نُمْنَعُ القطرَ بذنوبهم). وفي رواية: (مُنِعْنا القطرَ بخطايا بني آدم). قال: (اللاعنون: البهائم). وقال: (البهائم: الإبل والبقر والغنم، فتلعن عُصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض). وقال عكرمة: (هم الحشرات والبهائم ثم يصيبهم الجدْب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعثونهم).

2 -

القول الثاني: الملائكة والمؤمنون.

قال قتادة: (يقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين).

3 -

القول الثالث: كل ما عدا بني آدم والجن.

قال الضحاك: (الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق، فيصيح صيحة، يسمع صوتَه كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه).

واختار ابن جرير القول الثاني: أنَّ المقصود باللاعنين "الملائكة والمؤمنون" واستدل بالآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . ولكن يبدو أن الآية تشمل أكثر من ذلك كما ذكر ابن كثير فقال: (وهم كل فصيح وأعجمي، إما بلسان المقال أو الحال، أو لو كان له عقل، أو يوم القيامة، والله أعلم). وفي الحديث: [إن العالم يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر](1).

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (5/ 196)، وأخرجه أبو داود في السنن (3641) بسند حسن عن أبي الدرداء مرفوعًا ضمن حديث طويل.

ص: 459

وقد استفاضت السنة الصحيحة بنحو هذا مما يخص تفسير هذه الآية. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الشيخان وابن ماجة - واللفظ له - عن أبي هريرة قال: [والله! لولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدّثت عنه (يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم) شيئًا أبدًا. لولا قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِن الْكِتَابِ}. إلى آخر الآيتين](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما مِن رَجُلٍ يحفَظُ عِلمًا فَيَكْتُمُهُ، إلا أُتِيَ به يوم القيامة مُلجَمًا بلجامٍ من النار](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من سُئِل عن علمٍ فكتمه، ألجمَهُ الله يوم القيامة بلجامٍ من نار](3).

وفي رواية: [من سُئِلَ عن علم يعْلَمُهُ فكتَمَهُ، أُلجم يوم القيامة بلجام من نار].

وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} .

قال قتادة: (يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله، وبيّنوا الذي جاءهم من الله فلم يكتموه ولم يجحدوا به، أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم).

فهو استثناء لمن رجع عن ذلك الكتمان، وأصلح حاله وصلته بالله سبحانه، وبيَّن للناس ما علّمه الله من العلم والفهم والبيان، فإن الله تعالى يتلقاه بتوبته وعفوه.

قال الحافظ ابن كثير: (وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة، إذا تاب إلى الله تاب الله عليه).

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .

يخبر تعالى عن حال من كَفَرَ ومات على كفره وجحوده الحق أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم،

(1) انظر: صحيح سنن ابن ماجة، (211). باب من سئل عن علم فكتمه. وهو في الصحيحين.

(2)

حديث حسن. انظر صحيح سنن ابن ماجة (210). الباب السابق.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (6160)، وصحيح سنن ابن ماجة (212)، (213).

ص: 460

بأنه ينال من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي قوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} : أكثر من تأويل:

التأويل الأول: المراد أهل الإيمان بالله ورسوله دون سائر البشر.

فعن قتادة: (يعني بـ {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}: المؤمنين).

التأويل الثاني: قيل بل ذلك يوم القيامة، يُوَقَّفُ على رؤوس الأشهاد الكافرُ فيلعنه الناس كلهم.

قال أبو العالية: (إن الكافر يُوقَفُ يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون).

التأويل الثالث: قيل بل هو قول كل قائل: "لعن الله الظالم" فيلحق ذلك كل كافر، لأنه من الظلمة.

قال السدي: (فإنه لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: "لعن الله الظالم"، إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر؛ لأنه ظالم، فكل أحد من الخلق يلعنه).

واختار ابن جرير قول من قال: عنى بذلك جميع الناس، وهو قول قوي يقتضيه السياق. فالناس تلعن الظالم والظالمين. قال القرطبي: (والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرّر ويتألّم قلبه، فيكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25].

قلت: ولا خلاف بين العلماء في لسْ الكفار جملة من غير تعيين. وأما الكافر المعين فاختلفوا فيه. قال ابن العربي: (قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعَيَّن لا يجوز لعنه، لأن حاله عند الموافاة لا تُعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة: الموافاة على الكفر). وقالت طائفة أخوى: بل يجوز لعن الكافر المعيق. واختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي، واحتج بحديث ضعيف:[اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني](1).

قلت: والراجح أنه يجوز لعن الكافر المعين الذي يجاهر بالكفر والمعصية وإشاعة المنكر أو الباطل في الأرض. ويستدل لهذا بالحديث التالي:

(1) حديث منكر. قال البخاري: (حديث مقلوب)، رواه الروياني في مسنده وفيه متروك.

ص: 461

أخرج البخاري في صحيحه عن عمرَ بن الخطاب: [أنَّ رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمُه عبدَ الله، وكان يُلَقَّبُ حِمارًا، وكان يُضحِكُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جَلَدَه في الشراب، فَأُتيَ به يومًا فأمَرَ به فَجُلِدَ، قال رجل من القوم: اللهم العَنْهُ، ما أكثرَ ما يُؤْتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علِمْتُ، أنه يُحِبُّ الله ورسولَه](1).

قالوا: فعلّة المنع من لعنه بأنه يحب الله ورسوله. قال ابن كثير: (فدلَّ على أن من لا يحب الله ورسوله يُلْعَنُ، والله أعلم).

وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} .

قال أبو العالية: (خالدين في جهنم، في اللعنة، لا يُنْظرون فيعتذرون، كقوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36]).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36].

2 -

وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56].

163.

قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} .

في هذه الآية: يخبر سبحانه وتعالى عن نفسه، بأن الإله الحق الواحد الأحد، لا شريك له ولا عديل له، ولا يوصف غيره بهذين الاسمين. الرحمن الرحيم.

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجَنَّة](2).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (6780) كتاب الحدود، باب ما يُكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج من المِلَّة.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (94). ورواه البخاري برقم (2388)، (3222) بنحوه.

ص: 462

وفي مسند أحمد وسنن أبي داود من حديث معاذ مرفوعًا: [من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجَنَّة](1).

164.

قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} .

في هذه الآية: يذكر الله سبحانه بعض الأدلة على تفرده بالإلهية، بعد أن أخبر في الآية السابقة أنه الإله الواحد الأحد الرحمن الرحيم لا شريك له، فبين جل ثناؤه أن خلق السماوات والأرض، وما فيهما، مما ذرأ وبرأ، يدل على وحدانيته جل ذكره.

فقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

قال ابن كثير: (تلك في ارتفاعها واتساعها وكواكبها السّيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقِفارها ووِهادها وعمرانها وما فيها من المنافع).

وقال القرطبي: (فآية السماوات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ودلّ ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبيٌّ فتُحدِّي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزًا. ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نَيِّرة وممحوَّة آية ثانية. وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها).

وقوله: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} .

قال ابن جرير: (تعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس).

قلت: والمعنى: يجيء هذا ثم يذهب، ويخلفه الآخر ويعقبه. هذا مع اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والليل جمع ليلة، ويجمع أيضًا ليالي وليال.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3116)، وأحمد في المسند (5/ 233)، (5/ 247).

ص: 463

وفي التنزيل: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40].

وقوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} .

وآية ذلك: تسخير الله لهذه السفن حتى تجري على وجه الماء وتقف عليه رغم ثقلها وأثقالها، ينفع الله الناس بها في سفرهم وسياحتهم وتجارتهم.

والفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويُذَكر ويؤنث. وأول من صنعها نوح عليه السلام بأمر الله تبارك وتعالى.

وفي الآية دليل على جواز ركوب البحر مطلقًا للتجارة أو العبادة - كالحج والجهاد، وللرجال والنساء، وقد أجاز الله ورسوله التطهر بمائه والأكل من لحمه والانتفاع بزينته.

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].

أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والشافعي ومالك وغيرهم عن أبي هريرة قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتَتُه](1).

وفي الصحيحين والمسند، واللفظ للبخاري، عن أم حرام بنت ملحان قالت: [نام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا قريبًا مني ثم استيقظ يتبسم فقلت: ما أضحكك؟ قال: ناس من أمتي عُرِضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة. قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنَّتِ من الأولين. فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (83) والترمذي (69) والنسائي (1/ 50) وابن ماجة (386) وأحمد (2/ 237) والشافعي (1/ 19) ومالك (1/ 22).

ص: 464

غزوهم قافلين فنزلوا الشام فقربت إليها دابة لتوكبها فصرعتها فماتت] (1).

قلت: أما عند هيجان البحر واشتداد تلاطم أمواجه فإن ركوبه غير جائز.

أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي عمران الجوني عن بعض أصحاب محمد مرفوعًا: [من بات فوق بيت ليس له إجّار - أي سور - فوقع فمات فبرئت منه الذمة، ومن ركب البحر عند ارتجاجه فمات فقد برئت منه الذمة](2).

وقوله: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} .

إن في المطر النازل من السماء آية عظيمة توجب تعظيم الله وحده المنعم المتفضل.

قال ابن جرير: (وإحياؤها عمارتها، وإخراج نباتها).

وفي التنزيل: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 33 - 36].

وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} .

قال القاسمي: (من العقلاء وغيرهم).

وقال ابن جرير: (والدابة: اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه علي الأرض). وفي التنزيل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].

وقوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} يعني: هبوبها باختلاف مهابِّها.

قال ابن كثير: (أي: فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشِّرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تُفَرِّقُه، وتارة تُصَرِّفه، ثم تارة تأتي من الجنوب - وهي الشامية - وتارة تأتي من ناحية اليمن، وتارةً صَبَا وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة، وتارة دَبُورًا، وهي غربية تنفذ من ناحية دُبُر الكعبة، والرياح كلها تسمى بحسب مرورها على الكعبة).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2799) و (2788). ومسلم (1912)، وأحمد (1/ 366).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 79)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (828).

ص: 465

وقوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} .

يعني: السائر بين السماء والأرض إلى حيث يشاء الله ويأمر من الأراضي والأماكن. وسُمي السحاب سحابًا لانسحابه في الهواء. والسحاب جمع سحابة. وفي التنزيل: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ

} [فاطر: 9]. وقال: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بَيْنا رجُلٌ بفلاةٍ من الأرض، فسَمع صوتًا في سَحَابة: اسْقِ حديقة فلان. فتنحّى ذلك السَّحَابُ، فأفرَغ ماءَه في حَرّة، فإذا شَرْجَةٌ من تلك الشِّراج قد استوعبتْ ذلك الماءَ كلَّه، فتتبَّعَ الماءَ، فإذا رجل قائم في حديقته يُحَوِّلُ الماء بِمِسْحاتِه، فقال له: يا عبدَ الله! ما اسمُكَ؟ قال: فلانٌ، للاسم الذي سَمعَ في السَّحابة، فقال له: يا عبدَ الله! لم سَأَلْتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السَّحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسْقِ حديقة فلان، لاسمك، فما تصنَعُ فيها؟ قال: أمّا إذْ قُلْتَ هذا، فإني أنْظُرُ إلى ما يخرج مِنْها، فأتَصَدَّقُ بِثُلثه، وآكُلُ أنا وعِيالي ثلُثًا، وأَرْدُّ فيها ثُلُثَه](1).

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مَخيلَةً في السماء أَقْبل وأدْبر، ودخل وخرج، وتَغَيَّرَ وجهه، فإذا أمطرت السماء سُرِّيَ عَنْه، فَعَرَّفَتْهُ عائشةُ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أدري لعلَّه كما قال قَوْمٌ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الآية" (2).

قلت: ومن السنة إذا هاجت الريح أن يسأل المسلم الله تعالى من خيرها ويستعيذ من شرها. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [الريحُ من رَوْحِ الله (قال سلمة: فرَوْحُ الله) تأتي بالرحمة، وتأتي

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2984) كتاب الزهد. باب فضل الإنفاق على المساكين وابن السبيل.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (3206) كتاب بدء الخلق. و (4829) كتاب التفسير. ورواه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (899).

ص: 466

بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها] (1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئًا في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من شرِّها. فإن مطر قال: اللهم صَيِّبًا هنيئًا" (2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسالكَ من خير هذا الريح، وخيرِ ما فيها، وخير ما أُمرتْ به، ونعوذ بك من شرِّ هذا الريح، وشرِّ ما فيها، وشرِّ ما أمرت به](3).

وقوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

قال المهايميّ: (وكيف ينكرون وجود الله، وتوحيده، ورحمانيته، ورحيميته، وقد دَلَّ عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات؟ ثم قال: أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان

فلا بد لهما من محدِث

والمحدث لا بد أن يكون قديمًا قطعًا للتسلسل. وعلى التوحيد، فلأن إله السماوات لو كان غير إله الأرض دم يرتبط منافع أحدهما بالآخر. ثم قال: وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السماوات ولا بدَّ لهما من محرك

وعلى التوحيد، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له، فيلزم اجتماعهما وهو محال. ثم قال: وأما دلالة الفلْكِ على وجود الإله، فلأنها أثقل من الماء فحقها الرسوب فيها، فإمساكها فوق الماء من الله. ثم قال: وعلى التوحيد: فلأن إله الفلك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه. وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك، قال: وعلى الرحمتين: فلأنه رحم المسافرين بالتجارات، والمسافَر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها. وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله، فلأنه أثقل من الهواء، فوجوده في مركزه لا يكون إلَّا من الله. وعلى التوحيد: فلأن إله

(1) حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود (4250)، باب ما يقول إذا هاجت الريح. ورواه ابن ماجة.

(2)

حديث صحيح. انظر المرجع السابق -حديث رقم- (4252)، والكلم الطيب (155).

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (7192) وتخريج "مشكاة المصابيح"(1518)، ورواه أحمد.

ص: 467

الماء لو كان غير إله الهواء، لمنع من التصرف في ملكه. وعلى الرحمتين: فلأنه أحيا به الأرض معاشًا للحيوانات، وبثّ به الدواب تكميلًا لمنافع الإنسان. وأما دلالة تصريف الرياح على وجوه الإله، فلأنها حادثة تحدث هذه مرَّة وهذه أخرى، وقد يعدم الكلّ، فلا بد من محدث، فإن كان حادثًا افتقر إلى قديم. وعلى التوحيد: فلأنه لو كان لكل ريح إله لأمكن للكل أن يأتي بما له، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخلّ بالنظام. وعلى الرحمتين: فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي الأشجار والثمار. وأما دلالة السحاب على وجود الإله، فلأنه لو كان ثقيلًا لنزل، أو كان خفيفًا لصعد، لكنه يصعد تارة وينزل أخرى فهو من الله تعالى، وأما على التوحيد فلأن إله السحاب لو كان غير إله السحاب الآخر، لأمكن لكل واحدٍ أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز. وعلى الرحمتين فلأنّ منها الأمطار .. ) ذكره القاسمي.

قلت: ولا شك أن الآياتِ الدالة على وحدانيته سبحانه والتي تستلزم إفراده بالعبادة والتعظيم لا حصر لها، وإنما خصَّ تعالى هذه الثمانية بالذكر لأنَّها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعمًا على العباد تلتصق بحياتهم ولا تنفك عنها.

165 -

167. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَال الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.

في هذه الآياتِ: يخبر تعالى عن حال من أشرك به في الدنيا، فجعلوا له أشباهًا وأمثالًا يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه.

والنِّد: العدل. وفي الأنداد أكثر من تأويل:

التأويل الأول: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.

قال مجاهد: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} : مباهاةً ومضاهاةً للحق بالأنداد، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} ، من الكفار لأوثانهم). وقال الربيع: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ

ص: 468

اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، قال: هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} ، أي: من الكفار لأوثانهم). وقال ابن زيد: (هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتهم).

التأويل الثاني: قيل بل الأنداد سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى.

قال السدي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، قال: الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله).

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: [قلت: يا رسول الله، أي الذَّنْبَ أعظم؟ قال: أنْ تجعل لله ندًّا وهو خلقك](1).

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} .

لتمام معرفتهم بالله سبحانه وأسمائه وصفاته.

وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} .

التقدير: لو عاينوا العذاب لعلموا أن القوة لله جميعًا، أي الحكم له والأمر تحت سلطانه وقهره لا شريك له. قال الزهري وقتادة:(الإضمار أشد للوعيد). وهي في قراءة أهل المدينة والشام: {ولو ترى} . وفي قراءة أهل مكة والكوفة {ولو يرى} .

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} .

التأويل: أي لو يعلمون ما سيعاينونه وما سيحل بهم من الأهوال والفظائع المؤلمة لانتهوا عن كفرهم وشركهم.

وقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} .

فيه أقوال:

1 -

قال قتادة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} وهم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرك، {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} ، وهم الأتباع الضعفاء. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} ).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (4477) و (4520). وأخرجه مسلم في الصحيح (76)، ورواه أحمد في المسند (1/ 434).

ص: 469

وقال الربيع: (تبرأت القادة من الأتباع يوم القيامة).

وقال عطاء: (تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم).

2 -

قال السدي: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} ، أما {الَّذِينَ اتُّبِعُوا} فهم الشياطين تبرؤوا من الإنس).

3 -

قال الحافظ ابن كثير: (تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا، فتقول الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]، ويقولون: {قَالوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41]. والجن أيضًا تتبرأ منهم، ويتنصَّلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6].

قلت: والراجح أن الآية عامة في كل متبوع يعظم من دون الله، ويُطاع على حساب شريعة الله وأوامره. وفي التنزيل:

1 -

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82].

2 -

{وَقَال الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} [إبراهيم: 22].

3 -

{وَقَال إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)} [العنكبوت: 25]. قاله الخليل لقومه.

4 -

{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَال الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَال الَّذِينَ

ص: 470

اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَال فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31 - 33].

أخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي في الجامع بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ في صُور الرجال، يغشاهم الذُّلُّ من كل مكان، يُساقون إلى سجنٍ في جهنم يُسمى بُولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقَوْنَ من عُصَارة أهل النار، طينة الخبال](1).

وأخرج الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي عن أبي سعيد بن أبي فضالة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا جمع الله الأولين والآخرين، ليوم لا ريبَ فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عملهُ لله أحدًا فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك](2).

وقوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} .

فيه أكثر من تأويل:

1 -

قال مجاهد: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: الوصال الذي كان بينهم في الدنيا).

قال: (تواصلهم في الدنيا). وقال: (المودّة). وقال أيضًا: (تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا).

2 -

قال قتادة: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} ، أسبابُ الندامة يوم القيامة، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابّون بها، فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثم يوم القيامة يكفر بعضُكم ببعض، ويلعن بعضُكم بعضًا، يتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، فصارت كل خُلّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين).

3 -

قال ابن عباس: (يقول: تقطعت بهم المنازل). وقال الربيع بن أنس: (الأسباب: المنازل)،

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند، والترمذي في السنن (2492). انظر صحيح سنن الترمذي (2025). وانظر صحيح الجامع (7896)، وتخريج المشكاة (5112).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (4203)، والترمذي في الجامع (3154). انظر صحيح الترمذي (2521). وانظر صحيح الجامع (496)، وتخريج المشكاة (5318).

ص: 471

4 -

وقال ابن عباس: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: الأرحام).

5 -

قال السدي: (أما {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، فالأعمال). يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا. وقال ابن زيد: (أسباب أعمالهم، فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وثيقةً، فيأخذون بها فينخون، والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار).

قلت: وبالجمع بين هذه الأقوال، فإن الكفار حين عاينوا عذاب الله، تقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص كما تقطعت بهم المودة والمنازل والأعمال، فلم يجدوا عن النارَ مَعْدِلًا ولا مفرًا ولا مَصْرِفًا.

وقوله: {وَقَال الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} .

قال قتادة: (أي: لنا رجعة إلى الدنيا). وقال الربيع: (قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا).

والمعنى: تمنى هؤلاء الأتباع عودة إلى الدنيا ليتبرؤوا من ساداتهم ورؤسائهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم حين عاينوا عذاب الله، وليفردوا الله بالتوحيد والتعظيم والعبادة، ولكنهم كاذبون في ذلك، فلو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه كما أكد الله ذلك في سورة الأنعام.

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} .

قال الربيع: (فصارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة).

وقال السُّدي: (الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجَنَّة).

و{حَسَرَاتٍ} في محل نصب حال، والحسْرة أعلى درجات الندامة. والتحسُّر: التلَهُّف.

قال القرطبي: (ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، فتكون {حَسَرَاتٍ} المفعول الثالث).

وهي من حَسِرَ في لغة العرب من الشيء الحسير الذي انقطع وذهبت قوته. أو من حَسَرَ: كشف، والانحسار: الانكشاف.

ص: 472

وقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} .

دليل على خلود الكفار فيها، وهو قول أهل السنة والجماعة. وفي التنزيل: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ

} [الأعراف: 40].

168 -

169. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168، 169].

في هذه الآياتِ: يمتن الله سبحانه على الناس -بعد أن بيّن لهم أنه لا إله إلا هو، وأنه وحده المستحق للتعظيم، وأن من عظّم ما سواه فإن مصيره إلى الحسرة والندامة- بأن أباح لهم أن يتمتعوا بما أخرج لهم من نبات الأرض والرزق الطيب الحلال، وحذّرهم من اتباع مسالك الشيطان وأساليبه، فهو العدو المبين في عداوته الذي يدعو إلى الشرك والفحشاء.

وقوله: {حَلَالًا} حال، وقيل مفعول. قال القرطبي:(وسُمِّي الحلال حلالًا لانحلال عقدة الحَظْر عنه). وقال سهل بن عبد الله: (النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم). وقال أبو عبد الله الساجي واسمه سعيد بن يزيد: (خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السُّنة، وأكل الحلال). وقال سهل: (ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالًا حتى يصفُوَ من ستّ خصال: الربا والحرام والسُّحت والغُلول والمكروه والشبهة).

أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يأتي على الناس زمانٌ ما يبالي الرجل من أين أصاب المال؟ من حلال أو حرام](1).

ورواه البخاري عنه بلفظ: [ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِنْ حلال أمْ مِنْ حرام](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في السنن. انظر صحيح سنن النسائي -حديث رقم- (4149).

وأخرجه أحمد وغيره. انظر صحيح الجامع (7880)، وتخريج الترغيب (3/ 14).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (2083)، كتاب البيوع، وانظر -حديث رقم- (2059) منه.

ص: 473

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}

فيه أكثر من تأويل:

1 -

خطوات الشيطان: عمله. قال ابن عباس: (قوله: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، يقول: عمله).

2 -

خطوات الشيطان: خطاياه. قال مجاهد: (خطيئته). وقال: (خطاياه). وقال الضحاك: (خطايا الشيطان التي يأمر بها).

3 -

خطوات الشيطان: طاعته. قال السدي: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، يقول: طاعته).

4 -

خطوات الشيطان: النذورُ في المعاصي. قال أبو مجلز: (هي النذور في المعاصي).

قلت: ولا شك أن اللفظ عام في كل مسالك الشيطان وطرائقه وأساليب ضلاله ودعوته إلى كل ما عدا السُّنن والشرائع من البدع والمعاصي.

كما قال قتادة: (كل معصية دئه فهي من خطوات الشيطان). وقال عكرمة: (هى نَزَغات الشيطان).

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حِمَارٍ المُجَاشِعيِّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خُطَبته:[ألا! إنّ ربي أمَرَني أَنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُم مما عَلَّمَني، يومي هذا، كُلُّ مال نَحلْتُهُ عبدًا، حلالٌ، وإني خلقت عبادي حُنَفاء كُلَّهم، وإنهم أتَتْهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أَحْلَلْتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِل به سلطانًا](1).

وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

أي: شديد العداوة يريد الفساد لكم.

وفي التنزيل:

1 -

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268].

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (2865)، كتاب الجَنَّة ونعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجَنَّة وأهل النار، وهو جزء من حديث طويل.

ص: 474

2 -

{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60].

3 -

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].

4 -

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

قلت: والتحصن من هذا العدو الماكر يكون بذكر الله عز وجل واللهفة إلى طاعته، فإن ذكر الله تعالى حصن المؤمن الحصين، والعمل الصالح سور متين.

أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: [وآمركم أن تذكروا الله، فإن مَثَلَ ذلك كمثل رجل خرج العدوّ في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله] الحديث (1).

وقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} .

قال السدي: (أمّا "السوء"، فالمعصية، وأما "الفحشاء"، فالزنا).

وسميّ السوء سوءًا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وأما لفظ "الفحشاء" فأصله قبح المنظر، ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني.

قال القرطبي: (والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء). وقال مقاتل: (إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى، إلا قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} فإنه منع الزكاة).

وقيل: السوء ما لا حدّ فيه، والفحشاء ما فيه حد.

قلت: ويبدو أن لفظة الفحشاء في الآية في عطفها على السوء يدل على أنَّها تشير إلى ما هو أقبح من السوء وأغلظ، وقد اشتهرت في القرآن بدلالتها على الزنا ونحوه.

وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} .

يدل على ما هو أخطر من السوء والفحشاء. قال ابن كثير: (وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا).

(1) أخرجه الترمذي في السنن (2863) وقال: حسن صحيح غريب. وانظر صحيح الجامع (1724).

ص: 475

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ](1).

ورواه أبو داود بلفظ: [من صنع أمرًا على غير أمرنا فهو ردٌّ](2).

وأخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي بَرْزَة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنما أخشى عليكم شهوات الغَيِّ في بطونكم وفروجكم، ومُضِلات الهوى](3).

170 -

171. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}.

في هذه الآياتِ: وإذا قيل لهؤلاء الكفار اتركوا ما أنتم عليه من الضلال وأذعنوا للحق، قالوا بل نأتم بآبائنا فنمضي على ما وجدناهم عليه، مع أن آباءهم كانوا على جاهلية وليس لهم فهم ولا هداية. إن مثل الذين كفروا في جهلهم وضلالهم وغيهم كمثل الدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها فإذا نعق بها راعيها ودعاها إلى ما يرشدها فإنها تسمع صوتًا ولا تمْقه قولًا ولا معنى.

قال ابن عباس: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم "اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغَّبَهُم فيه، وحذرهم عقاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة، ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنزل الله في ذلك من قولهما:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} .

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم -حديث رقم- (1718)، كتاب الأقضية. وفي لفظ:[من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ]. من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4606). وانظر تخريج الترغيب (1/ 47) كتاب السنة.

الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدع والأهواء. ورواه ابن ماجة في السنن (14).

(3)

حديث صحيح. رواه أحمد، ورواه الطبراني في "معاجمه الثلاثة". انظر صحيح الترغيب (1/ 50).

ص: 476

وقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} .

فيه تأويلان:

1 -

قال مجاهد: ({الَّذِي يَنْعِقُ}، الراعي {بِمَا لَا يَسْمَعُ} من البهائم).

وعن عكرمة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} ، قال: مَثَلُ البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول).

وقال الربيع: (هو مثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له).

وقال قتادة: (مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له).

2 -

قال ابن زيد: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} ، قال: الرجل الذي يصيح في جوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له "الصدى". فمثل آلهة هؤلاء لهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يسمع إلا دعاءً ونداءً).

قال ابن جرير: (وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم له من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء. فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها، ولا ينفعه شيء).

قلت: وكلا التأويلين يحتملهما البيان الإلهي وإن كان ابن جرير وابن كثير قد اختارا التأويل الأول.

وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} .

هو مثل لهؤلاء الكفار.

قال قتادة: (يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه، عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه، بُكم عن الحق فلا ينطقون به). وقال ابن عباس: (لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه).

فائدة: في الآية ذم للتقليد، فالتقليد ليس سبيلًا للعلم. قال القرطبي: (التقليد

ص: 477

ليس طريقًا للعلم ولا مُوصّلًا له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء).

قلت: أما العامي فيقصد أعلمَ أهل زمانه في بلده فيسأله عن نازلته، وهذا طرف من الاجتهاد يجب على العامي الذي لا قدرة له على طلب العلم أو الاستنباط. وأما طالب العلم فيجب عليه معرفة أصول دينه وفروعه الضرورية بالدليل، وقد يحتاج العالم أحيانًا إلى تقليد عالم مثله في أمر خفي عليه دليله، وخشي فوات الوقت وضياع الحكم.

وقوله: {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} .

أي: لا يعلمون ولا يفهمون، فقد أعماهم الضلال. وفي التنزيل:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} [الأنعام: 39].

172 -

173. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}.

في هذه الآيات: يأمر الله تعالى عباده بالأكل من الطيبات والامتناع عن المحرمات، وأن يشكروه سبحانه على ما أنعم به عليهم، فإن الحمد والشكر أفضل عنده سبحانه من النعم. وأن يجتنبوا ما حرم عليهم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه، فمن وقع في الضائقة فلا حرج عليه والله غفور رحيم.

أخرج الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أنعم الله على عبد نعمة فحمدَ الله عليها، إلا كان ذلك الحمد أفضلَ من تلك النعمة](1).

وعند ابن ماجة بسند حسن عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أنعم الله تعالى

(1) حديث حسن. رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند حسن. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (5438)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 318) لتفصيل الحديث.

ص: 478

على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ] (1).

وفي الآية مخالفة لما كانوا عليه في الجاهلية من اعتقاد تحريم بعض الطيبات طاعة منهم للشيطان، واتباعًا لمنهج الآباء دون علم. فبيّن لهم سبحانه أنه أطاب لهم الحلال من المطاعم والمشارب وحرّم عليهم الخبيث منها، وربط استجابة الدعاء بامتثال أمره في ذلك.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . ثم ذكر الرجل لطيل السفر أشعثَ أغبرَ يَمُدُّ يديه إلى السماء: يا ربّ، يا ربّ، ومطعمُهُ حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك] (2).

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين، فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبَه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان).

ثم فصل سبحانه في بيان أهم المحرمات التي لا بد من العلم بها فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} .

والميتة: هي التي تموت حَتْفَ أنفها من غير تَذْكيةٍ، سواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة، أو قد عدا عليها السَّبُع.

قال القرطبي: (الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يُذبح، وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها).

قلت: وقد دخل التخصيص على هذه الآية من السنة المطهرة، فاستثني الحوت والجراد من الميتة، واستثني الكبد والطحال من الدم.

ففي سنن ابن ماجة والبيهقي ومسند أحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا:

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (3805)، باب فضل الحامدين. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3067)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5439).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1015)، وسنن الترمذي (2989)، ومسند أحمد (2/ 328).

ص: 479

[أُحِلّت لنا مَيْتَتان ودمان: أما الميتتان فالحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال](1).

وأما لحم الخنزير فحرام وشحمه كذلك مثله، سواء ذُكّي الخنزير أو مات حَتْفَ أنفه.

وقوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} فيه أقوال متقاربة:

1 -

عن ابن عباس، قال:(ما أهل به للطواغيت). وقال: (يعني: ما أهل للطواغيت كلها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر).

2 -

عن قتادة، قال:(ما ذبح لغير الله).

3 -

عن الربيع، قال:(ما ذكر عليه غير اسم الله). وقال ابن زيد: (ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها ويسمون أسماءها عليها. قال: يقولون: "باسم فلان"، كما تقول أنت: "باسم الله").

ويستثنى بذلك أهل الكتاب لمجيء النص بالإذن بالأكل من ذبائحهم. وقد أورد ابن جرير بسنده إلى حيوة، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا:(أحِلّ لنا ما ذُبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز أو لحم، فإنما هو طعام أهل الكتاب). قال حيوة: (قلت: أرأيت قول الله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}؟ قال: إنما ذلك المجوس وأهلُ الأوثان والمشركون).

والإهلال: رفع الصوت والجهر به عند الذبح، ومن ذلك قيل للملبِّي في حجّه أو عمرته "مُهِلّ".

وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} .

قال ابن جرير: (فمن حلت به ضرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فلا إثم عليه في أكله إن أكله). وفيه أقوال متقاربة عند أئمة التفسير:

1 -

قال مجاهد: (قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، قال: الرجل يأخذه العدو فيدعونه إلى معصية الله).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (208)، وسنن البيهقي (254/ 1). ورواه أحمد وابن ماجة.

ص: 480

وقال: (غير قاطع سبيل، ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة).

2 -

وعن سعيد: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} ، قال:(هو الذي يقطع الطريق، فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ الخمر).

3 -

وقال قتادة: (غير باغ في أكله، ولا عادٍ: أنَّ يتعدى حلالًا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة).

4 -

وقال السدي: (أما {باغ}، فيبغي فيه شهوته. وأما {العادي}، فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته).

فائدة: لو وجد المضطر ميتة وطعام غيره بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فله أن يأكل طعام غيره ويحرم عليه أكل الميتة. ذكره القرطبي، وأما ضمان الطعام ففيه روايتان عن مالك.

وفي مسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة بسند جيد عن عبَّاد بن شُرَحبيل الغُبَريّ قال: [أصابنا عامٌ مخمصة، فأتيت المدينة، فأتيت حائطًا، فأخذت سنبلًا ففركتُه وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل: ما أطعمته إذْ كان جائعًا - أو ساغبًا - ولا عَلَّمته إذ كان جاهلًا. فأمره فردَّ إليه ثوبه، وأمر له بوسْق من طعام أو نصف وَسْق](1).

وفي سنن أبي داود والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: [سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلَّق، فقال: من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خُبْنَةً، فلا شيء عليه

" (2).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

يعني: فيما أكل من اضطرار.

قال سعيد بن جبير: (غفور: لما أكل من الحرام. رحيم: إذ أحلَّ له الحرام في الاضطرار).

(1) إسناده جيد. رواه أحمد في المسند (4/ 166)، وأبو داود في السنن (2620)، وابن ماجة (2298)، ورواه البيهقي والحاكم. وانظر صحيح أبي داود (2281).

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (1710)، وأخرجه الترمذي (1289)، ورواه النسائي وله شواهد.

ص: 481

174 -

176. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}.

في هذه الآياتِ: الخطاب لأحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونبوته، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة، وقد توعدهم الله سبحانه مقابل تحريفهم لكتبه وأخذهم على ذلك المال والسحت نار جهنم يأكلونها في بطونهم يوم القيامة إضافة إلى سخط الله عليهم. فالله نزل الكتاب بالحق والذين كتموا هذا الوحي وشوهوه هم في عداوة وبغي وظلم.

فعن قتادة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم وبين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره).

وقال السدي: (فهؤلاء اليهود، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} .

قال السدي: (وأخذوا عليه طعمًا قليلًا، فهو الثمن القليل). قال الحافظ ابن كثير: (فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك).

وقوله: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} .

قال الربيع: (ما أخذوا عليه من الأجر).

والمعنى: إن هؤلاء اليهود قد رضوا بالخسيس من الرشوة يُعْطَونها مقابل كتمان الحق وأمر النبوة، فهم بذلك يأكلون في بطونهم ما يوردهم نار الجحيم والعذاب الأليم. وفي الصحيحين عن أم سلمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إن الذي يأكل أو

ص: 482

يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يُجَرْجِرُ في بطنه نار جهنم] (1).

وقوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} .

يعني: لا يكلمهم كلام تشريف ومدح وثناء، بل كلام إهانة وتوبيخ وتجريح، هم وأمثالهم.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، ومَلِكٌ كذاب، وعائل مستكبر](2).

وفي سنن النسائي وصحيح ابن خزيمة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجَنَّة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى](3).

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

يعني: موجع.

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} .

يعني: اعتاضوا عن الهدى وبيان الحق والعلم الذي في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبيان بعثته ورسالته والأمر باتباعه إلى التكذيب به والكفر بنبوته. فاعتاضوا عن المغفرة بالعذاب.

وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال قتادة: (فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار). وقال: (فما أجرأهم عليها).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5634)، وأخرجه مسلم برقم (2065)، واللفظ لمسلم، ورواه مالك في الموطأ.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (107)، والنسائي (5/ 86)، وأحمد (2/ 433)، وغيرهم.

(3)

إسناده جيد. رواه النسائي (1/ 357)، وأحمد (2/ 134)، وابن خزيمة في "التوحيد"(235)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (674).

ص: 483

2 -

قال مجاهد: (ما أعملهم بالباطل). يعني: ما أعملهم بأعمال أهل النار.

3 -

قال السدي: (هذا على وجه الاستفهام. يقول: ما الذي أصبرهم على النار).

4 -

قال الحسن: (والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار). على وجه التعجب.

وقوله تعالى: . {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .

المعنى: إن الله تعالى أنزل الكتب على رسله بالحق، وهؤلاء كتموا العلم الذي فيها بغيًا وظلمًا.

قال السدي: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ، يقول: هم اليهود والنصارى. يقول: هم في عَداوة بعيدة).

177.

قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَال عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} .

في هذه الآية: لما شقّ على طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين الأمر بالتحول إلى القبلة الجديدة، أنزل الله بيان المراد بذلك، الا وهو طاعة الله عز وجل، فإنها فوق كل شيء، فامثتال أوامره سبحانه أعز لديه من التوجه إلى المشرق أو المغرب.

قال ابن عباس: (ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا، فهذا منذ تحوّل من مكة إلى المدينة، ونزلت الفرائض، وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها). وقال مجاهد: (ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله).

وقال الربيع: (كانت اليهود تصلي قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق، فنزلت: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}). واختاره ابن جرير.

ص: 484

وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

} قال الثوري: (هذه أنواع البر كلها).

وقوله: {وَآتَى الْمَال عَلَى حُبِّهِ} ، قال عبد الله بن مسعود:(أي: يؤتيه وهو صحيح شحيح، يأمل العيش ويخشى الفقر)(1).

وذكر ابن جرير بسنده إلى إسماعيل بن سالم، عن الشعبي، سمعته يُسأل: هل على الرجل حق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية: {وَآتَى الْمَال عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} .

وقد حفلت السنة الصحيحة من ذلك المعنى بالسيل الوفير، ومن ذلك:

الحديث الأول: أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر](2).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة](3).

ورواه الطبراني في الأوسط بِسند حسن عنه ولفظه: [صدقة ذي الرحم على ذي الرحم صدقة وصلة].

وقوله: {وَابْنَ السَّبِيلِ} .

يعني: المسافر المجتاز الذي انقطع وفرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده، ويدخل في ذلك الضيف.

قال مجاهد: ({وَابْنَ السَّبِيلِ}: الذي يمر عليك وهو مسافر).

وقال ابن عباس: (ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين).

وقال ابن كثير: (وكذا الذي يريد سفرًا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه).

(1) حديث موقوف. رواه الحاكم في المستدرك (2/ 272 - 273).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1419)، ومسلم (1032)، ورواه أحمد في المسند (2/ 25)، وأكثر أهل السنن.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 17)، والترمذي (658)، والنسائي (5/ 92)، وابن ماجة (1844). ورواه ابن خزيمة (2385)، ورواه الطبراني في "الأوسط". انظر تخريج "الإرواء"(875).

ص: 485

وقوله: {وَالسَّائِلِينَ} .

قال عكرمة: (الذي يسألك). والمقصود الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات.

وقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} .

المقصود فك الرقاب من العبودية، وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها ساداتهم.

أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة حق على الله تعالى عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتَبُ الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف](1).

وقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} .

أي: أقام الصلاة بحدودها وأركانها، وأعطى الزكاة كما فرضها الله وبينها، وكما جاء تفصيل ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} .

قال الربيع بن أنس: (فمن أعطى عهد الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم غدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤْتُمِنَ خان](2).

وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

عن السدي، عن مرّة، عن عبد الله قال:(البأساء الجوع، والضراء المرض).

2 -

قال قتادة: (كنا نُحدَّث أن البأساء البؤس والفقر، وأن الضراء السُّقم).

(1) حديث حسن. رواه الترمذي في السنن -حديث رقم- (1655)، ورواه النسائي وابن ماجة والحاكم.

انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (3045).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (33)، (2682)، وأخرجه مسلم (59)، وأحمد (2/ 357).

ورواه أكثر أهل السنن. وله رواية أخرى وفيها: (وإذا خاصم فجر).

ص: 486

3 -

عن الربيع قال: (البؤس: الفاقة والفقر، والضراء: في النفس، من وجع أو مرض يصيبه في جسده).

والنصب في لفظ: {وَالصَّابِرِينَ} على المدح أو الاختصاه. والتقدير: وأمدح الصابرين أو أخصّ الصابرين بالثناء.

وقوله: {وَحِينَ الْبَأْسِ} .

قال قتادة: (أي عند مواطن القتال). وقال الربيع: (عند لقاء العدو). فهم الصابرون في وقت البأس، وقت شدة القتال في الحرب.

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .

قال الحسن: (هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء).

فلما اتصفوا بهذه الصفات التي مدحها الله كانوا من الصادقين في إيمانهم، إذ حققوا ذلك بأقوالهم وأفعالهم، فاتقوا المحارم وفعلوا الطاعات فكانوا بصدق هم المتقين.

178 -

179. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}.

في هذه الآياتِ: أَمْرُ الله تعالى عباده المؤمنين بوجوب القصاص في الدماء، فالحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فإن حصل شيء من العفو فهو خير وإحسان، ومن اعتدى فله عذاب اليم. وإن في إقامة منهج القصاص حفظ حياة العباد، فاتقوا الله يا أولي الالباب.

ومعنى القصاص: الاتِّباع، فهو مأخوذ من قصِّ الأثر أي اتِّباعه، ومنه القاصّ: لأنه يتبع الآثار والأخبار. قال القرطبي: (فكأن القاتل سلك طريقًا من القتل فقُصَّ أثره فيها ومشي على سبيله في ذلك، ومنه:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] وقيل:

ص: 487

القصّ القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القِصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به).

أخرج البخاري والنسائي والدَّارقطني عن ابن عباس قال: [كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفْوُ أن يقبل الدية في العمد، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كتب على من كان قبلكم، {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قتل بعد قبول الدية](1).

وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} .

يعني: العدل في القصاص دون تجاوز أو اعتداء. فقد كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضريُّ القرظي لا يُقْتل به، بل يفادى بمئة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضريَّ قُتل به، وإن فادَوْه فَدَوْه بمئتي وسق من التمر ضعف دية القُرَظي، فأمر الله بالعدل في القصاص.

وعن سعيد بن جبير، في قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} : (يعني إذا كان عمدًا، الحر بالحر. وذلك أن حَيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعفهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرّ منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} منها منسوخة، نسختها {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] (2).

وعن ابن عباس: (قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ، وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فأنزل الله:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} ، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم

(1) موقوف صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4498)، والنسائي في الكبرى (6983)، والدارقطني (3/ 199).

(2)

رواه ابن أبي حاتم، وأورده الحافظ ابن كثير في التفسير.

ص: 488

ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس، رجالهم ونساؤهم).

فائدة (1): المسلم لا يقتل بالكافر.

ففي صحيح البخاري عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ولا يقتل مسلم بكافر](1).

ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وإن كان ذهب أبو حنيفة إلى أنه يقتل به، محتجًا بعموم آية المائدة، ولكن الحديث مخصص لذلك وهو الحجة عند الفقهاء.

فائدة (2): الجماعة يقتلون بالواحد.

وهو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلفم، وقال:(لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم). قلت: ولا شك أنه يرجع إلى تقدير الإمام.

فائدة: (3): لا يقتل الوالدُ بالولد.

والحجة في ذلك ما رواه أبو داود عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يُقتل الوالدُ بالولد" (2). وله شاهد في المسند وجامع الترمذي من حديث عمر أيضًا بلفظ: [لا يُقاد الوالدُ بالولد](3).

وقوله: {عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .

قال ابن عباس: (هو العمد، يرضى أهله بالدية، واتباع بالمعروف: أمر به الطالب، وأداء إليه بإحسان من المطلوب). وقال: (أن يطلب هذا بمعروف ويؤدي هذا بإحسان). وقال الحسن: (أخذ الدية عفوٌ حسن).

وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} .

يعني: الدية.

قال ابن عباس: (كان من قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل، لا تقبل منهم الدية، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} إلى آخر الآية، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ

(1) حديث صحيح. رواه البخاري (111)، ومسلم (1370)، وأحمد (1/ 81)، وأهل السنن.

(2)

حديث صحيح. ورواه الترمذي عن ابن عباس. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (1130)، وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7626).

(3)

حديث صحيح. انظر المرجع السابق، رقم (7621). وانظر صحيح سنن الترمذي (1129).

ص: 489

مِنْ رَبِّكُمْ}، يقول: خفف عنكم، وكان على مَنْ قبلكم أنَّ الدية لم تكن تقبل، فالذي يقبل الدية ذلك منه عفوٌ).

وقال قتادة: (لم يكن لمن قبلنا دية، إنما هو القتل، أو العفو إلى أهله).

فائدة: ذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعي أنه إذا قُتل الرجل أو المرأة وله أولاد كبار وصغار أن للكبار أن يقتلوا القاتل ولا ينتظر بلوغ الصغار.

وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

أي: اعتدى بالقتل وغيره بعد أخذه الدية.

قال مجاهد: ({فَمَنِ اعْتَدَى}، بعد أخذ الدية، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}).

وقال قتادة: (هو القتل بعد أخذ الدية).

وأما العذاب الأليم، فهو القتل في عاجل الدنيا. وقيل هو عذاب الآخرة. وقيل هي عقوبة يقدرها السلطان. فالأول قاله عكرمة، والثاني ذكره ابن كثير، والثالث ذكره ابن جريج.

وقال الحسن: (تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يُقتل به). وذلك في رجل قَتل فأخذت منه الدية ثم إن وليه قتل القاتل.

وقال مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة. وقال قتادة والسُّدي: عذابه أن يُقتل البتة، ولا يمكِّن الحاكمُ الوليَ من العفو.

فائدة: إذا عفا ولي الدم عن القصاص والدية أطلق القاتل كما ذهب الشافعي وأحمد. أما إن كان مشهورًا بالقتل فللحاكم أن يؤدبه بشيء يزجره. ويه قال أبو ثور وأشار إلى حبسه - واستحسنه القرطبي.

وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} .

قال مجاهد: (نكالٌ، تَناهٍ).

وقال قتادة: (جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالًا، وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمَّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض، وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهى الله عن أمرٍ قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين، والله أعلم بالذي

ص: 490

يُصلح خلقَه). وقال: (قد جعل الله في القصاص حياة، إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل). وقال ابن جريجٍ: (حياةٌ: مَنعةٌ).

وقال السدي: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، يقول: بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته).

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

أي: تتقون القصاص، فتنتهون عن القتل.

قال ابن زيد: (لعلك تتقي أن تقتله، فتقتل به).

180 -

182. قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}.

في هذه الآياتِ: وجوب الوصية للقرابة المحتاجين الذين لا يرثون، ومن بدّل الوصية فإنما إثمه على نفسه، ومن أصلح ما أفسده غيره في وصيته فلا إثم عليه، والله غفور رحيم.

قال الحافظ ابن كثير: (اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين. وقد كان ذلك واجبًا - على أصح القولين - قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخَتْ هذه، وصارت المواريث المقدّرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ولا تحمل مِنَّة الموصي).

قلت: والراجح أنَّها غير منسوخة، فيجب على المريض المحتضر أن يوصي لأقربائه الذين لا يرثون منه لعموم هذه الآية، فيوصي من ضمن الثلث ولا يجوز الزيادة عليه، بل الأفضل أن ينقص منه.

فقد أخرج الإمام أحمد والشيخان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال:

ص: 491

[وددت أن الناس غضّوا من الثلث إلى الربع في الوصية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الثلث كثير](1).

وأما الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون من الموصي، فلا تجوز؛ لأنَّها منسوخة بآية الميراث، وقد بيّن ذلك رسول الله أتمّ البيان في خطبته في حجة الوداع فقال:[إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث](2).

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: (كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع).

وقال ابن عباس والحسن: (نُسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة "النساء" وثبتت للأقربين الذين لا يرثون). وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم.

قلت: والخلاصة أن الآية هي الناسخة للحديث إن صحّ ادعاء النسخ، وإلا فلا تعارض بينهما، فالحديث يشير إلى الورثة والآية تشير إلى الوالدين أو الأقريين إن لم يكونوا من الورثة. قال الضحاك:(إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية).

وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل: (من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماضٍ لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر).

وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} .

قال ابن عباس: (يعني مالًا).

قال شيخ المفسرين - الإمام ابن جرير رحمه الله: (فكلّ من حضرته منيَّتُه وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجب عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف، كما قال الله جل ذكره وأمرَ به).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2029، 2076)، والشيخان، والبيهقي (6/ 269) وغيرهم.

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (3565)، وأحمد (4/ 186)، والترمذي (2121)، والنسائي (6/ 247)، وابن ماجة (2712) من حديث عمرو بن خارجة.

ص: 492

وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} .

يعني: بالرفق والإحسان.

قال الحسن: (أن يوصي لأقربيه وصيّة لا تجحف بورثته، من غير إسراف ولا تقتير).

وفي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص قال: [مَرِضت بمكة مرضًا فأشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: يا رسولَ الله، إن لي مالا كثيرًا وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدَّق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: الثلث كبير، إنك إن تركْتَ ولدكَ أغنياءَ خيرٌ من أن تَتْرُكَهُم عالة يتكففون الناس .... ](1).

وقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} .

يعني: حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.

وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} .

قال قتادة: (من بدّل الوصية بعدما سمعها، فإثم ما بدَّل عليه).

وقال ابن عباس: (وقد وقع أجر الموصي على الله وبرئ من إثمه، وإن كان أوصى في ضرار لم تجز وصيته، كما قال الله:{غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12].

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

يعني: قد اطلع على ما أوصى به الميت، وعلم ما أراده المبدل وما أخفاه في صدره من الجور والحيف.

وقوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال مجاهد: (هذا حين يُحْضَرُ الرجل وهو في الموت، فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل، وإذا قصر عن حق قالوا: افعل كذا، أعطِ فلانًا كذا).

2 -

قال ابن عباس: (يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها، فليس على

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6733)، كتاب الفرائض، باب ميراثِ البنات.

ص: 493

الأولياء حرجٌ أن يردوا خطأه إلى الصواب). وكان قتادة يقول: (من أوصى بجورٍ أو حيْف في وصيته فردها وَليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين، إلى كتاب الله وإلى العدل، فذاك له).

3 -

قال ابن جريجٍ: (قلت لعطاء قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا}، قال: الرجل يحيف أو يأثم عند موته، فيعطي ورثته بعضَهم دون بعض، يقول الله: فلا إثم على المصلح بينهم).

4 -

عن ابن طاووس، عن أبيه قال:(هو الرجل يوصي لولد ابنته). والمقصود ليزيد ابنته من الإرث. والجنف، كما قال ابن عباس والضحاك: الخطأ، والإثم: العمد. وفي الأثر الموقوف عن ابن عباس: (الجنف في الوصية من الكبائر)(1).

وقوله: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} .

أي: أعاد الأمر إلى العدل في الوصية على الوجه الشرعي، وهذا ليس من التبديل في شيء، لذلك قال:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} .

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

قد يغفر للموصي ما حدثته نفسه من الجنف والإثم، رحيم بالمصلح بما قام فيه من عمل لإعادة الأمر إلى حدوده الشرعية.

183.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} .

في هذه الآية: يوجه الله سبحانه الخطاب إلى المؤمنين - الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا وامتثلوا - إلى فريضة الصيام، التي كتبها الله على من قبلهم من الأنام، لينالوا بذلك تقوى الله عز وجل.

وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} .

أي: فرض عليكم صيام شهر رمضان كل عام.

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "الكبرى"(11092) عن ابن عباس موقوفًا. وأخرجه عبد الرزاق (16456) وإسناده صحيح.

ص: 494

والصوم في لغة العرب: الإمساك. قال الخليل: (الصوم قيام بلا عمل). والعرب تقول: صام الفرس، إذا قام على غير اعتلاف. وصام النهار، إذا قام قائم الظهيرة واعتدل. والصوم أيضًا ركود الرياح.

قال أبو عبيدة: (كل ممسك عن طعام أو كلام أو سَيْر فهو صائم).

وفي التنزيل: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} . قال ابن عباس: (صمتًا).

وأما الصوم في الاصطلاح الشرعي: فهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع والمفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.

ويدخل في ذلك اجتناب الغيبة والفحش والكذب وغير ذلك من سيِّيء الأخلاق.

فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَهُ وشرابَهُ](1).

وروى ابن خزيمة بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تسابَّ وأنت صائم، فإن سابك أحد فقل: إني صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس](2).

وكذلك في صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ربّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، وربّ قائم حظه من قيامه السهر](3).

وقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال مجاهد: (كتب الله عز وجل صومَ شهر رمضان على كل أمة).

2 -

قال السدي: (أما الذين من قبلنا: فالنصارى، كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان).

وقال الربيع: (كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1903) كتاب الصوم. ورواه في كتاب الأدب (6057) بلفظ: [من لم يدع قول الزور والعمل به، والجَهْلَ، فليس لله حاجةٌ أن يدعَ طعامه وشرابَه].

(2)

حديث حسن. انظر تخريج صحيح الترغيب (1/ 1075)، كتاب الصوم. ترهيب الصائم من الغيبة والفحش. وروى نحوه ابن حبان والحاكم بسند صحيح.

(3)

حديث صحيح. رواه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم والبيهقي. انظر المرجع السابق (1/ 1076).

ص: 495

3 -

قال مجاهد: (أهل الكتاب). يعني هم المقصود بالذين من قبلكم.

4 -

قال قتادة: (كتب شهرُ رمضان على الناس، كما كُتب على الذين من قبلهم. قال: وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر).

5 -

وروي عن معاذ وابن مسعود: (أن الصيام كان أولًا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهرٍ ثلاثةُ أيام).

قال الضحاك: (لم يزل هذا مشروعًا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان).

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

ترجّ في حقهم. وفيه عندي أربعة تفاسير:

الأول: لعلكم تضعفون. فكلما قل الأكل ضعفت الشهوة وقلت المعصية.

ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: [يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء](1).

الثاني: لتتقوا المعاصي والوقوع بها أثناء صومكم، فيَستفيد المتقون من ذلك دائمًا.

الثالث: قيل بل المعنى: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. قال ابن جرير: يقول: (فرضت عليكم الصوم والكف عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم). ثم ذكر قول السدي: (يقول: فتتقون من الطعام والشراب والنساء مثل ما اتقوا - يعني: مثل الذي اتقى النصارى من قبلكم).

الرابع: قيل بل هي على العموم، فإن التقوى لا حدود لها، ولا لآفاقها.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، مرتين. والذي نفس محمد بيده، لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1905)، وأخرجه مسلم (1400)، ورواه أحمد في المسند (1/ 378)، وأصحاب السنن.

ص: 496

يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه] (1).

وكلها تفاسير يحتملها البيان الإلهي، وإن كان التفسير الرابع أشملها.

184.

قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} .

في هذه الآية: الصيام أيام معدودات، فمن منعه المرض أو السفر فعدة من أيام أخر، ومن أطاقه بمشقة هرم أو عجز أو شيخوخة ففدية طعام مسكين، ولهم ترك الصيام ولا قضاء عليهم، فمن زاد في الإطعام فهو خير، كما أن الصيام خير من الإفطار والفدية التي كانت أول الإسلام.

وقوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} .

يعني: أيام شهر رمضان.

قال ابن جرير: (وأما "المعدودات"، فهي التي تعدّ مبالغها وساعاتُ أوقاتها. ويعني بقوله: {مَعْدُودَاتٍ}، محصيات).

وقوله: {أَيَّامًا} ، قيل: مفعول به ثان لـ: {كُتِبَ} ، قاله الفراء، وقيل: بل نُصب على الظرف، والتقدير: كتب عليكم الصيام في أيام. وقيل: بل نصب بفعل محذوف، والتقدير: كتب عليكم أن تصوموا أيامًا.

وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .

أما قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، أي: يستطيعونه بمشقة. فقد كان المريض والمسافر لا يصومان للمشقة بل يفطران ويقضيان. وأما الصحيح الذي يطيق الصيام

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2704)، طبعة دار السلام - الرياض. كتاب الصيام. باب فضل الصيام، ورواه البخاري وابن خزيمة وكثير من أهل السنن.

ص: 497

فكان مخيَّرًا بين الصيام والإطعام، وذلك في بداية الإسلام. ورجح الله سبحانه أن الصيام أفضل الاختيارين بقو له:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .

قال مجاهد: (من الإفطار والفدية).

ويبدو أن حكم الفدية لمستطيع الصوم قد نستن بالقرآن، بقوله تعالى في الآية بعدها:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . وبقيت الآية الأولى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} دون نسخ في حق من لا يستطيع الصوم. وقد عرف ذلك ابن عباس من السنة لا من القرآن.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عطاء: أنَّه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: [ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا](1).

وفي رواية عزرة، فصّل ابن عباس بقوله:[أن الآية نزلت في الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان (2) - أي يستطيعان - الصوم ثم نسخت. قال: وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا كل يوم مسكينًا].

إذن، يبدو في التحقيق الحديثي أن الآية تعرضت لنسخ جزئي، فمن استطاع الصيام صغيرًا كان أو كبيرًا، شيخًا أو عجوزًا، ذكرًا أو أثنى، وجب عليه الصيام ولا رخصة، وأما من عجز عنه فله الفدية.

ويؤيد هذا ما أخرج الستة إلا ابن ماجة عن سلمة بن الأكوع قال: [لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يُفطرَ ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها](3).

قلت: وهذه خلاصة مفيدة جدًّا في فهم هذه الآية وعلاقتها بما بعدها، فإن صفحات كثيرة جدًّا قد ضمتها كتب الفقه والتفسير لا تكاد تصل معها إلى مخرج وفهم يريح من عناء الاختلاف، فلله الحمد والمنة.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4505)، كتاب التفسير.

(2)

فالشيخ المستطيع والعجوز المستطيعة يجب الصيام في حقهما ولا رخصة.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4507)، كتاب التفسير. ورواه مسلم وأكثر أهل السنن.

ص: 498

وقوله: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح. ذكره الدارقطني عن ابن عباس.

2 -

الواجب لذلك مدّ قمح أو غيره من سائر الأقوات.

3 -

كان ذلك نصف صاع من قمح، أو صاعًا من تمر أو زبيب.

قال أبو حنيفة: (كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع برّ). ذكره القرطبي.

وروى الشافعي عن نافع: أنَّ ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها؟

قال: [تُفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينًا مدًّا من حنطة].

قلت: الراجح أنه يكفي مدّ قمح، والمدّ ربع صاع، وهو ما تحمله كفيّ الرجل المعتدل الخلقة، وبه قال مالك والشافعي. قال مالك:(مدُّ بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يوم أفطره). ورُوي عن أبي هريرة قال: (من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مُدٌّ من قمح). وروي عن أنس بن مالك: (أنه ضَعُفَ عن الصوم عامًا فصنع جَفْنَةً من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينًا فأشبعهم) ذكره والأثر الذي قبله القرطبي. والجفنة: كالقصعة، وعاء يوضع فيه الطعام.

وأما التمر والزبيب فعادة يضاعف ذلك باستقراء النصوص المختلفة في الأحوال الأخرى، فيكفي نصف صاع، والله أعلم.

وقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

عن ابن عباس: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} ، فزاد طعامَ مسكين آخر، {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ).

2 -

عن مجاهد: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} ، قال: من أطعم المسكين صاعًا).

3 -

قال السدي: (فإن أطعم مسكينين فهو خير له).

4 -

عن ابن طاووس، عن أبيه، قال:(إطعامُ مساكين عن كل يوم، فهو خير له).

5 -

قال ابن شهاب: (يريد أن من صام مع الفدية فهو خير له).

قلت: وكلها تفاسير يحتملها البيان الإلهي المعجز في كلامه ومفهومه.

ص: 499

وقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

يعني: الصيام خير من الإفطار والفدية التي كانت في أولى الإسلام. قال السدي: (ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له). وقال ابن شهاب: (أي: إن الصيام خير لكم من الفدية). وبنحوه قال مجاهد.

185.

قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} .

في هذه الآية: شهر رمضان شهر نزول القرآن كتاب الله العظيم، فيه الهدي والتشريع الكريم، فمن أدرك الشهر فليصمه ومن عذره السفر أو المرض فعدة من أيام أخر، وما جعل الله عليكم من حرج، فأكملوا العدة واشكروا الله العظيم.

قال ابن عباس: (أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزّة، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس). وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس، قال:(نَزَل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر، إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يحدث لنبيّه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32، 33].

وفي التنزيل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]: . {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3].

قلت: والذي قاله ابن عباس ليس بالمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيبقى مفهوم النزول للقرآن في ليلة القدر في علم الله، فهو تعالى أعلم.

وقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ} .

يعني: رشادًا للناس إلى سبيل الحق ومنهج النجاة.

ص: 500

وقوله: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .

قال السدي: (فبينات من الحلال والحرام). والفرقان: الفصل بين الحق والباطل، والبينات: الواضحات. والهدى: حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه وتفاصيل شرعه الحكيم.

وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

فيه أقوال:

1 -

عن ابن عباس: (هو إهلاله بالدار. يريد: إذا هلَّ وهو مقيم).

وقال: (فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم، أقام أو سافر. وإن شهده وهو في سفر، فإن شاء صام وإن شاء أفطر).

2 -

قال أبو حنيفة وأصحابه: (من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فعليه صومه).

3 -

عن عبيدة، قال:(من شهد أول رمضان فليصم آخره).

4 -

عن إبراهيم: (إذا أدركك رمضان فلا تسافر فيه، فإن صمت فيه يومًا أو اثنين ثم سافرت، فلا تفطر، صمه).

قلت: لا دليل على استحباب الإقامة في رمضان، فله أن يسافر بتجارة أو سياحة أو أمر يحتاجه، ومن ثمّ فإن الرخصة قائمة في حق المسافر للإفطار. ويبقى معنى الآية: من شهد إثبات رمضان وهو صحيح مقيم وجب عليه الصوم، وقد مضى القول أن هذه الآية نسخت الإباحة المتقدمة في الإفطار والفدية لمستطيع الصوم.

وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

قال الحسن: (إذا لم يستطع المريضُ أن يصلي قائمًا أفطر. قال: إذا جهده الصوم).

وذهب الشافعي إلى أن ذلك كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة.

قلت: فإن صام المريض صح صومه، ولكن يكره إذا كان يشق عليه ويزيد من مرضه، كما يكره هنا إعراضه عن الرخصة، وقد ثبت في الحديث:[إن الله تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه]. وفي رواية: [كما يكره أن تؤتى

ص: 501

معصيته] (1). وكذلك المسافر يصح صومه، لكن يكره عند المشقة والتعرض للتهلكة. ورأى أبو حنيفة ومالك والشافعي أن الصيام أفضل لمن قوي عليه، ولكن لا دليل على هذا التفضيل بل تبقى رخصة يقدرها صاحبها. فإلى ذكر بعض أدلة ذلك:

الدليل الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: [غَزَوْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسِت عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رمضان، فَمِنّا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائمُ على المفطر، ولا المفطر على الصائم](2).

وفي رواية: [كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر. على الصائم، يرون أن مَنْ وجد قوةً فصام، فإن ذلك حسن، ويَرون أن من وجد ضعفًا فأفطر، فإن ذلك حسن].

الدليل الثاني: روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت:

[سأل حمزةُ بن عمرٍو الأسلَمِيُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: عن الصيام في السفر؟ فقال: إنْ شئْتَ فَصُمْ، وإن شِئْتَ فأفْطِر](3).

وفي رواية: [هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه].

الدليل الثالث: روى مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، في حرٍّ شديد، حتى إن كان أحدُنا ليضَعُ يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائمٌ، إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بنُ رواحة](4).

وأما إن كانت مصلحة الجماعة أو الجيش في الإفطار فيجب ذلك في السفر للإجهاز بقوة على العدو وحماية مستقبل بلاد المسلمين ودينهم.

ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: [سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا مَنْزِلًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم دنوتم من عدوكم، والفِطر

(1) حديث صحيح. رواه أحمد (2/ 101)، وابن حبان (2742)، من حديث ابن عمر. وله شاهد من حديث ابن عباس عند ابن حبان (354)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11880) بإسناد صحيح. ورواه البيهقي. انظر صحيح الجامع (1881)، (1882).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1116)، كتاب الصيام.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1221)، كتاب الصيام.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1122)، كتاب الصيام. باب التخير في الصوم والفطر في السفر.

ص: 502

أقوى لكم، فكانت رُخْصَةً، فمنّا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلًا آخر، فقال: إنكم مُصَبِّحو عَدُوِّكم، والفِطْرُ أقوى لكم، فأفطروا. وكانت عَزْمَةً، فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيْتُنَا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، في السفر] (1).

وفي غير ظروف الجهاد والغزو، فإن للمفطر في السفر الأجر الأكبر إذا تولى العمل وخدمة أصحابه ومن خرج معه صائمًا.

ففي صحيح مسلم عن أنس قال: [كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السَّفر، فمنّا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا مَنْزِلًا في يوم حار، أكثَرُنا ظِلًا صاحبُ الكِساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُّوَّامُ، وقام المفطرون، فضَربوا الأبنية وسَقَوا الرِّكاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر](2).

وقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

لا يجب فيها التتابع، وهو قول الجمهور. ويشهد له قوله تعالى بعده:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .

قال ابن عباس: (اليسر الإفطار في السفر، والعسر الصيام في السفر).

وقال مجاهد: (هو الإفطار في السفر، وجعل عدةً من أيام أخر).

وعن أبي حمزة قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر؟ فقال: يسرٌ وعُسرٌ. فخذ بيسر الله). وقال قتادة: (فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم).

وفي الصحيحين والمسند عن أنس عن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[يسِّروا ولا تُعَسِّروا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّروا](3).

وفي الصحيحين أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: [بَشِّرا ولا تُنَفِّرَا، ويسّرا ولا تعسّرا، وتطاوعا ولا تختلفا](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1120)، كتاب الصيام. باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل.

(2)

حديث صحيح. رواه مسلم (1119)، كتاب الصيام، الباب السابق.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (69)، وأخرجه مسلم (1734)، ورواه أحمد (3/ 131).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6124)، ومسلم (1733)، وأخرجه أحمد (4/ 417).

ص: 503

وفي المسند من حديث أبي قتادة، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسرُهُ](1).

وقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} .

قال الضحاك: (عدة ما أفطر المريض والمسافر).

وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} .

قال سفيان: (بلغنا أنه التكبير يوم الفطر). وقال ابن زيد: (ينبغي لهم إذا غدوا إلى المصلّى كبروا، فإذا جلسوا كبروا، فإذا جاء الإمام صمتوا، فإذا كبر الإمام كبروا، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد).

فالتكبير هنا فيه تعظيم الله بما أنعم سبحانه من الهداية إلى أجمل الشرع وأكمله، وبما كتب فيه من صوم شهر رمضان وأعان عليه، فله الثناء والتعظيم وحده لا شريك له، وله الحمد والشكر والمنة، وهو مفهوم قوله تعالى في ختام الآية:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، فاشكروه وأفردوه بكمال الحمد فهو البر الشكور.

186.

قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} .

في هذه الآية: تنبيه الله العباد لقربه منهم، فإنه يجيب دعوة داعيهم، فليستجيبوا لأمره لعلهم يفلحون.

أخرج الإمام أحمد والشيخان واللفظ لأحمد، عن أبي موسى الأشعري قال: [كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فجعلنا لا نصعد شرفًا، ولا نعلو شرفًا، ولا نهبط واديًا، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا، فقال: يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 479)، وصحح إسناده الحافظ في "الفتح"(1/ 94).

ص: 504

أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. يا عبد الله بن قيس! ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله] (1).

قيل: نزلت الآية في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ أو في قوم سألوه أي ساعة يدعون الله فيها. فأخبرهم الله سبحانه أنه قريب من عباده وهو معهم إذا دعوه.

وفي المسند عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني](2).

والمراد أنه تعالى لا يخيب دعاء داع، ولا يشغله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء، حيي كريم يستحي من عبده أن يرده خائبًا وقد رفع إليه يديه.

أخرج أبو داود والترمذي وأحمد عن سلمان الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين](3).

وفي رواية: [إن الله تعالى حييٌّ كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صِفرًا خائبتين].

وفي مسند الإمام أحمد بسند حسن عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما مِنْ مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يُعَجِّلَ له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر](4).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل، يقول: دعوتُ فلم يُستجب لي](5).

قال السدي: (ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6610)، ومسلم (2704)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 402).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 210). وأخرجه مسلم (2686)، والترمذي (2388)، وأحمد أيضًا (2/ 445) و (2/ 339) من حديث أبي هريرة.

(3)

حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (1488)، والترمذي (3551)، وابن ماجة (3863)، ورواه أحمد في المسند (3/ 438).

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 18)، والبخاري في "الأدب المفرد"(710)، ورواه البزار.

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6340)، وأخرجه مسلم (2730)، ورواه أحمد.

ص: 505

هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذَخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروهًا).

وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} .

يعني: بالطاعة. قال مجاهد: (فليطيعوا لي. قال. الاستجابة: الطاعة). وذهب أبو رجاء الخراساني: ({فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}، قال: فليدعوني. {وَلْيُؤْمِنُوا بِي}، قال: أني أستجيب لهم).

قال ابن جرير: (وأما قوله: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي}. فإنه يعني: وليصدِّقوا. أي: وليؤمنوا بي، إذا هم استجابوا لي بالطاعة، أني لهم من وراء طاعتهم لي في الثواب عليها، وإجزالي الكرامةَ لهم عليها).

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .

قال الربيع: (لعلهم يهتدون).

قال الحافظ ابن كثير: (وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر).

ثم ذكَر حديثًا رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن غير أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين](1).

187.

قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ

(1) حديث حسن بشواهده. أخرجه الترمذي (3598)، وابن ماجة (1752)، وأحمد (2/ 305)، وله شاهد عند البيهقي من وجه آخر عن عطاء عن أبي هريرة بنحوه.

ص: 506

عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}.

في هذه الآية: إباحة النساء ليلة الصيام، والأكل والشرب حتى الفجر ثم الإمساك إلى الغروب، وتعظيم حرمات الله في المساجد.

والرفث هنا: الجماع، وكان في بدء الإسلام إذا أفطر الصائم حلّ له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء، فمتى نام أو صلى العشاء حَرُم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فنزلت هذه الآية تخفيفًا من الله ودفعًا للمشقة.

أخرج البخاري في صحيحه عن البراء رضي الله عنه قال: [كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فَحَضَرَ الإفطارُ فنام قبل أن يفطرَ لم يأكل ليلته ولا يَوْمَهُ حتى يُمسيَ، وإنَّ قَيْسَ بن صِرْمَةَ الأنصاريَّ كان صائمًا، فلما حضَرَ الإفطار أتى امرأتَه فقال لها: أعندك طعامٌ؟ قالت: لا، ولكنْ أنْطلقُ فاطلُبُ لكَ -وكان يَوْمَهُ يَعْمَلُ فغلبته عَيْناه- فجاءتْه امرأتُه فلما رأته قالت: خَيْبَةً لك، فلما انتصف النّهار غُشيَ عليه فَذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ففرحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (1).

وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} . قال ابن عباس ومجاهد: (يعني هنَّ سَكَنٌ لكم، وأنتم سكنٌ لهن). وقال الربيع بن أنس: (هن لحافٌ لكم، وأنتم لحاف لهن).

وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} .

فيه سبب صحيح للنزول: فقد أخرج البخاري في صحيحه عن البراء رضي الله عنه قال: [لما نزل صومُ رمضانَ كانوا لا يقربون النساء رمضان كُلَّه، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1915)، كتاب الصوم، ورواه أحمد (4/ 295)، والترمذي (2968)، وأبو داود (2314)، والنسائي (4/ 147 - 148)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (4508)، في كتاب التفسير، عند هذه الآية، من حديث البراء رضي الله عنه. وانظر الحديث السابق نحوه.

ص: 507

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال:(كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلّوا العشاء، حَرُم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية)(1).

وقوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} .

قال ابن عباس: (يعني الولد). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (يعني الجماع). وقال قتادة: (وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم. أو قال: ما أحل الله لكم). وقال ابن عباس في رواية: (ليلة القدر).

قال ابن جرير: (وإنما يريد الله تعالى ذكره: اطلبوا الذي كتبتُ لكم في اللوح المحفوظ أنه يباحُ فيطلق لكم. وطلب الولد إنْ طلبه الرجل بجماعه المرأة، مما كتب الله له في اللوح المحفوظ. وكذلك إن طلب ليلة القدر، فهو مما كتب الله له. وكذلك إن طلب ما أحل الله وأباحه، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ).

قلت: والراجح من السياق صرف الآية إلى الجماع وطلب الولد ومباشرة الرخصة بذلك.

وقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .

أخرج البخاري عن سَهْلِ بن سَعْدٍ قال: [أُنْزِلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ}، وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوْمَ ربطَ أحَدُهُمْ في رجْليه الخيطَ الأبيضَ والخيطَ الأسودَ، ولا يزال يأكُلُ حتى يتبَيَّنَ له رؤيتُهُما. فَأنزَلَ الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنما يعني الليلَ من النهار](2).

وأخرج البخاري عن عَدِيِّ بن حاتمٍ رضي الله تعالى عنه قال: [قلت: يا رسول الله، ما الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما الخَيْطانِ؟ قال: إنك لَعَرِيضُ القفا إن أَبْصَرتَ

(1) أخرجه الطبري (2948)، وفيه إرسال، لكن له شواهد ترقى به للحسن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4511)، كتاب التفسير. وانظر الأحاديث قبله.

ص: 508

الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سوادُ الليل وبياضُ النهار] (1).

وفي رواية عن الشَّعبيّ عن عدي قال: [أخذ عَدِيٌّ عِقالًا أبيضَ وعِقالًا أسْوَدَ، حتى كان بعض الليل نظرَ، فلم يَسْتَبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله، جعلت تحت وسادتي، قال: إن وسادَك إذًا لعريض: أن كان الخيطُ الأبيضُ والأسود تحت وسادتكَ].

والمعنى: إنْ كان ليسع الخيطين: الأسود والأبيض المرادين هنا وهما بياض النهار وسواد الليل، فإنّ وسادك بعرض المشرق والمغرب.

قلت: والآية تدل على استحباب السحور، فإن إباحة الأكل إلى طلوع الفجر يقتضي ذلك، وقد جاءت السنة الصحيحة بالحث على السحور وبيان أنه بركة. والبركة هنا -كما تشير النصوص- أربعة أنواع:

الأول: بركة امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تسحّروا فإن في السحور بركة](2).

الثاني: بركة مخالفة أهل الكتاب.

ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ فَصْلَ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر](3).

الثالث: بركة يجعلها الله في هذا الطعام يعين بها الصائم.

ففي صحيح أبي داود عن العرباض بن سارية، قال:[دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان، فقال: هُلُمَّ إلى الغَداء المبارك](4).

الرابع: بركة صلاة الله والملائكة على المتسحرين.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4510)، كتاب التفسير، وانظر الحديث الذي قبله.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095)، وأحمد (3/ 215) وأكثر أهل السنن.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1096)، وأحمد في المسند (4/ 202)، وأبو داود (2343)، والترمذي في السنن -حديث رقم- (708).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2344)، باب من سمى السحور الغداء، ورواه أحمد (4/ 127)، والنسائي (4/ 145)، وانظر صحيح أبي داود (2054).

ص: 509

ففي مسند الإمام أحمد بسند حسن عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [السَّحور بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلّون على المتسحرين](1).

ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر.

ففي الصحيحين عن زيد بن ثابت قال: [تسحّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة. قال أنس: قلت لزيد: كما كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية](2).

كما يستحب تعجيل الإفطار مجرد غياب الشمس.

ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر](3).

وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} .

يعني: حتى يطلع الفجر.

ففي الصحيحين عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذّن حتى يطلعَ الفجر](4).

فائدة (1): الفجر الذي يحرّم هو الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال وينتشر، وليس الفجر الذي يسطع في السماء.

قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: (هما فجران، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحلّ ولا يحرّم شيئًا، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرّم الشراب. قال عطاء: فأما إذا سطع سطوعًا في السماء، وسطوعه أن يذهب في السماء طولًا، فإنه لا يحرّم به شراب

(1) حسن لشواهده. أخرجه أحمد (3/ 44)، وكذلك (3/ 12)، وله شواهد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1921) عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت، ورواه مسلم في صحيحه برقم (1097).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (1957)، كتاب الصوم. باب تعجيل الإفطار.

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (623)، وكذلك (919)، ورواه مسلم (1092).

ص: 510

للصائم ولا صلاة، ولا يفوت به الحج، ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال، حَرُم الشراب للصيام وفات الحج) (1).

وقد جاءت السنة الصحيحة توضح هذا المعنى وتدل على الفجر الصحيح، وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الحاكم وعنه البيهقي بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الفَجْرُ فَجْران، فَجْرٌ يُقال لَهُ: ذَنَبُ السِّرْحَانِ، وهو الكاذِبُ يذهبُ طولًا، ولا يذهب عَرْضًا، والفجرُ الآخرُ يذهب عَرْضًا، ولا يذهب طولًا](2).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود والتومذي وابن خزيمة والدارقطني من طريق عبد الله بن النعمان السُّحَيمي قال: [أتاني قيس بن طَلْق في رمضان في آخر الليل، بعدما رفعت يدي من السحور لخوف الصبح، فطلب مني بعض الإدام، فقلت له: يا عماه! لو كان بقي عليك من الليل شيء لأدخلتك إلى طعام عندي وشراب، قال: عندك؟ فدخل، فقربت إليه ثريدًا ولحمًا ونبيذًا، فأكل وشرب، وأكرهني فأكلت وشربت، وإني لوجل من الصبح، ثم قال: حدثني طلق بن علي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا واشربوا، ولا يَهيدَنَّكُم الساطِعُ المُصَعَّدُ، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"](3).

وقوله: "ولا يهيدَنَّكُم": أي لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمتنعوا به عن السحور، فإنه الصبح الكاذب. وأصل "الهيد" لغة: الحركة.

الحديث الثالث: روى مسلم عن سَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يمنعكم من سَحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق](4).

فائدة (2): الوقت الاحتياطي لمن احتاج السحور وقد غلبه أذان الفجر.

(1) ذكره الحافظ ابن كثير في التفسير وقال: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 191)، وعنه البيهقي (1/ 377)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2002).

(3)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (1/ 369 - 370)، والترمذي (733)، وابن خزيمة (1930)، وحسّنه الألباني في المرجع السابق السلسلة الصحيحة- (2031).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1094)، وأبو داود في السنن (2346)، والترمذي في الجامع (706)، وأحمد في المسند (5/ 13).

ص: 511

هناك مخصصات من السنة الصحيحة لعموم الآية: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، كمن استيقظ متأخرًا على سماع أذان الفجر، أو غُلبت امرأة خلال إيقاظها أهلها وتحضير طعامها لأولادها، أو احتاج متسحر أن يكمل ما في فمه ويشرب عليه الماء، ونحو ذلك، فإن السنة الصحيحة قد أعطته فرصة أخرى إلى وقت إقامة صلاة الفجر. فإلى ذكر بعض أدلة ذلك.

الدليل الأول: أخرج ابن جرير بسند حسن عن أبي أمامة قال: [أقيمت الصلاة والإناء في يد عمر، قال: أشربها يا رسول الله؟ قال: نعم. فشربها](1).

الدليل الثاني: أخرج الطيالسي والطبراني بسند جيد عن ابن عمر قال: [كان علقمة بن علاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رويدًا يا بلال! يَتَسحَّرُ علقمة، وهو يتسحّر برأس](2).

الدليل الثالث: أخرج الطحاوي عن حبان بن الحارث قال: [تسحرنا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما فرغنا من السحور أمر المؤذن فأقام الصلاة](3).

الدليل الرابع: أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه](4).

قال عمار -أحد رواة الحديث عن أبي هريرة-: (وكانوا يؤذنون إذا بزغ الفجر).

وقال هشام بن عروة: (كان أبي يفتي بهذا). وإسناده صحيح على شرط مسلم.

وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .

يعني: المسارعة إلى الإفطار عند غروب الشمس.

(1) إسناده حسن. أخرجه ابن جرير (3/ 527/ 3017) بإسنادين عنه، وهو حديث حسن.

(2)

حسن في الشواهد. أخرجه الطيالسي (885)، والطبراني في "الكبير" كما في "المجمع"(3/ 153).

(3)

حديث حسن. أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 106)، والمخلص في "الفوائد المنتقاة"(8/ 11/ 1)، ورجاله ثقات. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة عقب الحديث (1394).

(4)

أخرجه أبو داود (1/ 549)، وأحمد (2/ 423)، والحاكم (1/ 426)، والبيهقي (4/ 218)، وابن جرير في "التفسير"(3/ 526)، وانظر السلسلة الصحيحة (1394).

ص: 512

ففي الصحيحين عن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم](1).

وفي الصحيحين والمسند عن أبي هريرة قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تواصلوا. قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل. قال: فإني لست مثلكم، إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني](2).

وقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .

المعنى: لا تجامعوا نساءكم في حال عكوفكم في المساجد، وهو الحال الذي حبستم فيه أنفسكم على عبادة الله في مساجدكم. وفيه أقوال:

1 -

عن ابن عباس: (هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان، فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلًا أو نهارًا، حتى يقضي اعتكافه).

2 -

قال الضحاك: (كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد، جامعَ إن شاء، فقال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، أي: لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره).

3 -

قال مجاهد: (نُهوا عن جماع النساء في المساجد، حيث كانت الأنصار تجامع).

4 -

قال مالك بن أنس: (لا يمس المعتكف امرأته، ولا يباشرها، ولا يتلذذ منها بشيء، قبلةٍ ولا غيرها).

واختار ابن جرير أن المقصود الجماع، وكذلك القرطبي وقال. (وسمّي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه). وأما المباشرة دون جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، قاله الحسن البصري والزهري. وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت تُرَجِّل (3) رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وهو قول الشافعي وابن المنذر.

وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} .

قال السدي: (أما {حُدُودُ اللَّهِ}، فشروطه). وقال الضحاك: ({تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1954)، ومسلم (1100)، وأحمد (1/ 28)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1966)، ومسلم (1103)، وأحمد (2/ 315)، وغيرهم.

(3)

تُرَجِّلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي تُسَرِّح شعره صلى الله عليه وسلم.

ص: 513

يقول: معصية الله- يعني المباشرة في الاعتكاف). قلت: والآية أعم من ذلك، فيما يخص جميع الأحكام، من الصيام والاعتكاف وشرائِع ذلك، وحدوده وتفاصيله، كما قال الحافظ ابن كثير:(أي: هذا الذي بيّناه، وفرَضْناه، وحدَّدناه، من الصيام وأحكامه، وما أبحنا فيه وما حرمنا، وذكرنا غاياته ورُخَصه وعزائمه {حُدُودُ اللَّهِ} أي: شَرَّعها الله وبَيَّنها بنفسه، {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أي: لا تجاوزوها وتتعدوها).

وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

يعني: ليتجنّبوا الوقوع في ما يسخط الله سبحانه ويغضبه، مما أمر بهجره وتركه.

188.

قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} .

في هذه الآية: جعل سبحانه الآكل مال أخيه بالباطل، كالآكل مال نفسه بالباطل. فحرَّم ذلك وحذَّر من الاختصام إلى الحكام للظلم وجحد الحقوق.

قال ابن عباس: (هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بَيِّنة، فيجحدُ المال ويخاصِمُ إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامًا).

وقال مجاهد: (لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم).

وقال قتادة: (اعلم -يا ابن آدم- أن قضاء القاضي لا يحل لك حرامًا، ولا يُحِقُّ لك باطلًا، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قُضيَ له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحقّ بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا).

قلت: وأصل هذا المعنى في الصحيحين عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألْحنَ بِحُجَّتِهِ من بعض

ص: 514

فأقضي له، فمن قضيت له بحقّ مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فَليحملْها أو ليذرها] (1).

قال قتادة: ({وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}: لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يُحل لك شيئًا كان حرامًا عليك).

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم.

قال القرطبي: (أجمع أهل السنة على أنّ من أكل مالًا حرامًا ولو ما يصدُق عليه اسم المال أنه يُفسَّقُ).

189.

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} .

في هذه الآية: في علم الأهلة علم المواقيت للمناسك والشرائع المختلفة المرتبطة بالزمن، والبر بتقوى الله وإتيان البيوت من أبوابها.

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيادة الأهلة ونقصانها، واختلاف أحوالها! فنزلت هذه الآية.

قال ابن عباس: (سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة؟ فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}، يعلمون بها حِلّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم). وقال السدي: (فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج).

وقال قتادة: (فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجّهم، ولعدة نسائهم، ومحلّ دينهم، في أشياء. والله أعلم بما يُصلح خلقه).

أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713)، وأحمد (6/ 203)، وأكثر أهل السنن، ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (5070).

ص: 515

[جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا](1).

قلت: وانتفاخ هذه الأهلة هو من علامات اقتراب الساعة.

فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة، وأن يرى الهلال الليلة، فَيُقال: هو ابن ليلتين](2).

وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} .

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: [نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حَجّوا فجاؤوا لم يَدْخُلوا من قِبَلِ أبوابِ بُيوتِهم ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَلِ بابه، فكأنَّه عُيِّرَ بذلك، فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}](3).

وكذلك أخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عن أبي إسحاق، عن البراء قال:[كانوا إذا أحْرموا في الجاهلية، أتوا البيتَ من ظَهْرِه، فأنزل الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}](4).

ورواه الطيالسي عن البراء- أيضًا - قال: [كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر، لم يدخل الرجل من قِبَلِ بابه، فنزلت هذه الآية](5).

قلت: ولا شك أن ذلك كان من عادات الجاهلية التي ضحك بها عليهم الشيطان، كما ذكر الربيع بن أنس: (كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرًا، وخرج من

(1) حديث صحيح. أخرجه عبد الرزاق (7306)، والحاكم (4/ 423)، وصححه على شرطهما، وقال الذهبي: صحيح،

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 130/ 1/ 7007). انظر السلسلة الصحيحة (2292)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 987).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1803)، كتاب العمرة. وروى نحوه في كتاب التفسير. انظر الحديث الذي بعده.

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4512)، كتاب التفسير. وانظر الكتاب السابق.

(5)

حديث صحيح. أخرجه الطيالسي (717). وإسناده صحيح على شرطهما.

ص: 516

بيته يريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بَعْدَ خروجه أن يقيم ويَدَعَ سفره، لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوّرُه من قِبَلِ ظهره، فقال الله تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}

الآية). وقال عطاء بن أبي رباح: (كان أهل يثربَ إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها، وَيَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر، فقال الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}).

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

أي افعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه، وذروا بقايا الجاهلية وسفسافها، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} غدًا إذا وقفتم بين يديه سبحانه، لتنالوا الخلود في جناته ونعيمه الذي تطمحون إليه.

195 -

193. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}.

في هذه الآيات: مشروعية قتال المعتدين دون مجاوزة الحدود، والنهي عن القتال في المسجد الحرام إلا لمن قاتل فيه ابتداء، والأمر بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.

قال الربيع: ({وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}: هذه أول (1) آية نزلت في القتال بالمدينة. فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله، ويكف عمن كفّ عنه، حتى نزلت {بَرَاءَةٌ} ).

وبعضهم يقول هي منسوخة بآية التوبة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .

قلت: ولا دليل على النسخ، فأمر الله بقتال الكفار لم ينسخ، وإنما النهي هو في الاعتداء بقتل النساء والذراري ومن لم ينهض لقتال المسلمين. قال مجاهد: {وَقَاتِلُوا

(1) الراجح أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا

} الآية.

ص: 517

فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بقتال الكفار).

وقال ابن عباس: ({وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، يقول: لا تقتلوا النساء، ولا الصبيان، ولا الشيخ الكبير، ولا من ألقى السَّلَمَ وكفَّ يده. فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم).

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطأة: (إني وجدت في كتاب الله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرُّهبان).

فنهى الإسلام عن الاعتداء أثناء القتال بارتكاب المناهي: من المَثُلة، والغُلول، وقتل من لا يقاتل أو يتدخل كالنساء والصبيان والشيوخ والرهبان، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة. وقد جاءت السنة الصحيحة بذلك في أحاديث، منها:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: [اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: [وُجِدت امرأة مقتولةٌ في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان]. وفي رواية: [فأنْكرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تَغُلّوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوِلْدان، ولا أصحابَ الصوامع](3).

وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} .

أي: انبعثوا إلى قتالهم وإخراجهم كما انبعثوا إلى قتالكم وإخراجكم. ولا شك أن المهاجرين الأوائل هم أول من خوطب بهذه الآية في المدينة.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1731)، وأحمد (5/ 352)، وأخرجه أبو داود (2612)، والترمذي (1408)، والنسائي في "الكبرى"(8586)، وابن ماجة (2858).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3014)، (3015)، كتاب الجهاد والسير.

(3)

حسن لشواهده. أخرجه أحمد في المسند (1/ 300)، والبيهقي (9/ 95)، وأبو يعلى (2549).

ص: 518

وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} .

يعني: أن الشرك هو أخطر من القتل.

قال مجاهد: (ارتداد المؤمن إلى الوَثن أشدُّ عليه من القتل). وقال قتادة: (الشرك أشد من القتل). وقال ابن زيد: (فتنة الكفر). وقال مجاهد: (الفتنة الشرك).

وقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} .

الآية عامة ولا دليل على ادّعاء النسخ فيها، فمن بدأ المسلمين بالقتال في الحرم، فإنه يقاتل دفعًا له ولأمثاله، وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، حين ظهرت بوادر الغدر من قريش والأحابيش.

وهذه الآية مُخَصِّصَةٌ لعموم ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكة: [لا هجرة ولكنْ جهادٌ وَنِيّةٌ، وإذا استُنْفِرْتُم فانْفِروا، فإن هذا بلدٌ حَرَّمَ الله يومَ خلق السماوات والأرضَ، وهو حرامٌ بِحُرْمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لا يحل القتال فيه لأحدٍ قبلي ولمْ يَحِلَّ لي إلا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بِحُرمةِ الله إلى يوم القيامة لا يُعضَدُ شَوْكُهُ، ولا يُنَفَّرُ صيدُه،

] الحديث (1).

فالقاتل في الحرم يقتل فيه، والقاتل في الحل ثم التجأ إلى الحرم يُخرج إلى الحل ليقتل فيه. فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس قال:[من سَرَقَ أو قتَلَ في الحِلِّ ثم دخل الحرم، فإنه لا يُجالسُ ولا يُكَلَّمُ، ولا يُؤوى، ولكنه يُناشَدُ حتى يخرجَ، فيؤخَذَ، فيقامَ عليه الحدُّ، وإن سَرَقَ أو قتَلَ في الحرم أقيم عليه في الحرم](2).

وبنحوه روى الأثرم عن ابن عباس قال: [من أحدث حدثًا في الحرم، أُقيم عليه مما أحدث فيه من شيء](3).

قال ابن القيم: (هذا التحريم لسفك الدم المختص بها، وهو الذي يُباح في غيرها،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1834)، كتاب جزاء الصيد، باب: لا يحل القتال بمكة.

(2)

إسناده صحيح. انظر تخريج أحاديث زاد المعاد (3/ 447)، وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين، القرآن والسنة الصحيحة (3/ 1312) لمزيد من التفصيل.

(3)

حديث صحيح. انظر المرجع السابق.

ص: 519

ويُحرم فيها لكونها حرمًا، كما أن تحريم عَضْدِ الشجر بها، واختلاء خلائها، والتقاط لقطتها، هو أمر مختص بها، وهو مباح في غيرها، إذ الجميع في كلام واحد، ونظام واحد، وإلا بطلت فائدة التخصيص) (1).

وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

قال مجاهد: (فإن تابوا- {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

قال ابن كثير: (أي: فإن تركوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظَمُه ذنْبٌ أن يَغْفِرَهُ لمن تاب منه إليه).

وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} .

أمْرٌ من الله بقتال الكفار حتى لا يظهر في الأرض شرك. قال ابن عباس: (يقول: قاتلوا حتى لا يكون شرك). ويكون دين الله هو الظاهر في الأرض على كل مناهج وأديان البشر.

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله

]. وفي لفظ: [أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله](2).

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى قال: [جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتِل غضبًا، ويُقاتل حَمِيَّةً، فرفَعَ إليه رأسه قال: وما رفَعَ إليه رأسَه إلا أنه كان قائمًا فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هيَ العليا، فهو في سبيل الله عز وجل](3).

(1) انظر زاد المعاد (3/ 442 - 443)، وكتابي: السيرة النبوية (3/ 1312).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (1/ 70 - 71)، كتاب الإيمان، وصحيح مسلم (22)، كتاب الإيمان. من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (123) في كتاب العلم، وانظر صحيح مسلم (1904)، ومسند أحمد (4/ 392)، والحديث رواه أهل السنن، وكذلك رواه ابن حبان.

ص: 520

وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} .

قال قتادة: (والظالم الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله). وقال الربيع: (هم المشركون).

وقال مجاهد: (لا تقاتلوا إلا من قاتلكم). وعلى هذا فلقوله "انتهوا" تقديران:

التقدير الأول: إن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين، فمن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عدوان إلا على الظالمين. وهو معنى قول مجاهد.

التقدير الثاني: إن انتهوا فقد تخلّصوا من الظلم وهو الشرك، فلا معاقبة ولا مقاتلة لهم، وهو معنى قول قتادة.

أخرج البخاري في صحيحه عن نافع، عن ابن عمرَ رضي الله عنهما:[أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد ضُيِّعُوا وأنت ابنُ عمرَ وصاحِبُ النبي صلى الله عليه وسلم، فما يَمْنَعُكَ أن تخرجَ؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دمَ أخي، قالا: ألمْ يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكنْ فِتْنه، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تُقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله](1).

194.

قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} .

هذه الآية: نزلت في صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت يوم الحديبية، فاقتص الله له منهم في الشهر نفسه من العام المقبل.

قال ابن عباس: (هم المشركون، حبسوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذي القَعْدة، فرجعه الله في ذي القَعدة فأدخله البيت الحرام، فاقتص له منهم). وقال مجاهد: (فخرت قريش بردِّها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية محرِمًا في ذي القَعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القعدة، فقضى عُمرته، وأقصَّه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية).

أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: [لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4513)، كتاب التفسير، وانظر كذلك (3130).

ص: 521

يغزو في الشهر الحرام، إلا أن يُغْزى أو يُغْزَوا، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ] (1).

وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .

قال مجاهد: (فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم).

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .

فيه الأمر بالحرص على طاعته سبحانه، وفيه الإخبار بأن الله مع المتقين بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.

195.

قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} .

في هذه الآية: التهلكة بالخلود إلى الدنيا وترك الإنفاق على الجهاد في سبيل الله، والإحسان ثوابه عند الله عظيم.

يروي البخاري عن حذيفة: [{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نَزَلتْ في النَّفقة](2).

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: [كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفًّا عظيمًا من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم، حتى دخل عليهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يُلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه. فقال بعضنا لبعض سرًّا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. فما زال

(1) رجاله رجال الصحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 334)، (4/ 345)، وهو على شرط مسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4516)، كتاب التفسير، آية البقرة (195)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعًا.

ص: 522

أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله، حتى دفن بأرض الروم] (1).

قال الحسن: (أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله، وأخبرهم أن ترك النفقة في سبيل الله لتهلكة). وعن أبي إسحاق قال: (سمعت البراء، وسأله رجل فقال: الرجل يحمل على كتيبة وحده فيقاتل، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال: لا، ولكن التهلكة أن يُذنب الذنبَ فيلقي بيده ويقول: لا تقبل لي توبة).

وفي لفظ آخر عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبا عمارة، الرجل يلقى ألفًا من العدو فيحمل عليهم، وإنما هو وحده، أيكون ممن قال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ؟ فقال: لا، ليقاتل حتى يقتل! قال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: 84].

قلت: ويشهد لهذه المعاني التي ذكرها البراء حديثان من السنة الصحيحة:

الحديث الأول: يروي الطبراني في الكبير والأوسط بسند صحيح عن النعمان بن بشير في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: [كان الرجل يذنب فيقول لا يغفر الله لي فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}](2).

الحديث الثاني: يروي الطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما رجال الصحيح، عن أبي جبيرة بن الضحاك قال:[كانت الأنصار يتصدقون ويعطون ما شاء الله، فأصابتهم مصيبة فأمسكوا، فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}](3).

قلت: فالآية تشمل من ترك الجهاد، وبخل، ومن أذنب وظن عدم المغفرة، وربما نزلت بالجميع.

وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .

فيه أقوال متقاربة متكاملة:

1 -

أحسنوا في أداء الفرائض واجتناب المعاصي، ولينفق أحدكم في سبيل الله وليعد القوي منكم على الضعيف ذي الخَلَّة.

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3165). انظر صحيح سنن الترمذي (2373) - تحقيق الألباني.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما رجال الصحيح. انظر الصحيح المسند من أسباب النزول- سورة البقرة، آية (195) - الوادعي.

(3)

حديث صحيح. زاد الطبراني في الأوسط: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . المرجع السابق.

ص: 523

فعن أبي إسحاق، عن رجل من الصحابة في قوله:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، قال:(أداء الفرائض). ذكره ابن جرير.

2 -

أحسنوا الظن بالله. قال عكرمة فيها: (أحسنوا الظن بالله، يبرَّكم).

3 -

أحسنوا بالعَوْد على المحتاج. قال ابن زيد: (عودوا على من ليس في يده شيء).

196.

قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} .

في هذه الآية: شرع الله سبحانه ببيان أحكام الحج والعمرة، وذلك بعد ذكر أحكام الصيام والجهاد.

وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .

فيه أقوال كثيرة، منها:

1 -

أتموا الحج بمناسكه وسننه، وأتموا العمرة بحدودها وسننها. قال ابن عباس:(من أحرَم بحجّ أو بعُمْرة، فليس له أن يحلّ حتى يتمّها. تمام الحجّ يوم النَّحر، إذا رمَى جمرةَ العقبة وزار البيت فقد حَلَّ من إحرامه كلّه. وتمامُ العمرة، إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حلّ).

2 -

تمامُها أن تحرِمَ بهما مفردين من دُوَيرة أهلِك. قال طاووس: (تمامُها إفرادهما مُؤْتَنَفتين من أهلك).

3 -

إتمامهما إذا دخل فيهما. قال ابن وهب، قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال فقلت له: قولُ الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ؟ قال: (ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا دخل في أمر إلا أن يتمَّه، فإذا دخل فيها لم يَنْبَغ له أن يهلّ يومًا أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يومًا، لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار).

ص: 524

4 -

إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات. قاله مكحول. قال القرطبي: (وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحدٌ قبل الميقات).

قلت: والراجح أن المراد إقامة العمرة بتمام وكمال أحكامها التي شرعت لها، كما هو في إقامة مناسك الحج بحدودها وأركانها وواجباتها.

فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من السائل عن العمرة؟ فقال: أنا. فقال: ألق ثيابك واغتسل واستنشق ما استطعت، وما كنت صانعًا في حجتك فاصنع في عمرتك](1).

وأصله في صحيح البخاري عن عطاء قال: حذَثني صفوانُ بنُ يَعْلى بنِ أميَّة عن أبيه: [أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجِعْرانَةِ، وعليه جُبَّة وعليه أثر الخَلُوق، أو قال: صُفْرَةٌ، فقال: كيف تأمرني أن أصنعَ في عُمْرَتي؟ فأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم فَسُتِرَ بثوب وَوَدِدْتُ أني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزلَ عليه الوحيُ، فقال عمر: تعال، أيَسُرُّكَ أن تَنْظُرَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنْزَلَ الله عليه الوحي؟ قلت: نعم، فرفَعَ طَرَف الثوب فنظرتُ إليه له غَطيطٌ - وأَحْسِبُهُ قال-: كغطيط البَكْرِ، فلما سُرِّي عنه قال: أين السائِلُ عن العمرة؟ اخلَعْ عنك الجُبَّةَ واغْسِلْ أثرَ الخَلُوق عنك وأنْقِ الصُّفْرة، واصنَعْ في عمرتك كما تَصْنَعُ في حَجِّكَ](2).

وقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .

الإحصار: هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائقِ بأي عذر، سواء كان بمرض أو عدو أو جور سلطان أو غير ذلك.

قال مجاهد: (الحصر: الحبس كله. أيُّما رجل اعتُرِضَ له في حجّته أو عمرته، فإنه يبعث بهديهِ من حيث يُحْبَسُ. قال:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} : يَمرض إنسان، أو يُكْسَر، أو

(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (4/ 224)، وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول"- الوادعي- سورة البقرة- آية (196).

(2)

حديث صحيح. رواه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1789)، كتاب العمرة. باب: يَفْعَلُ بالعمرة ما يفْعَلُ بالحج، من حديث يعلى بن أمية.

ص: 525

يحبسه أمرٌ، فغلبه كائنًا ما كان، فليرسل بما استيسر من الهَدْي، ولا يحلق رأسه، ولا يحل، حتى يوم النحر).

وقال قتادة: (هو الخوفُ والمرضُ والحابس. إذا أصابه ذلك بعث بهديه، فإذا بلغ الهدي مَحِله حَلّ). وقال ابن عباس: (من أحرم بحج أو بعمرة، ثم حُبس عن البيت بمرض يُجْهده أو عذر يحبسه، فعليه قضاؤها).

أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن بسند صحيح عن الحجاج بن عمرو بن غَزِيّة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ كُسِرَ أو عَرَج فقد حَلّ، وعليه حَجّةٌ أخرى]. وفي رواية: [مَنْ كُسِرَ، أو مَرِضَ، أو عَرَج، فقد حَل، وعليه حجّةٌ أخرى من قابلٍ](1).

وفي الصحيحين عن عائشة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحجَّ وأنا شاكِيَةٌ. فقال: حُجِّي واشترطي: أن مَحِلِّي حيث حَبَسْتَني](2).

وقد ذهب الفقهاء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث.

وهذه الآية -آية الإحصار- نزلت في سنة ست، عام الحديبية، حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلوغ البيت، ونزلت سورة الفتح، ونزلت هذه الرخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي، وأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم، فاستبطؤوا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فتابعوه.

ففي صحيح البخاري من حديث المسور ومروان قالا: [فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا، ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رَجلٌ حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحبُّ ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وتدعوَ حالقَك فَيَحْلِقَكَ، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نَحَرَ بُدْنَهُ، ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم تقْتُلُ بعضًا غمًا](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 450)، وأخرجه أبو داود (1862)، والترمذي (940)، والنسائي (3/ 199)، وابن ماجة (1862). وانظر صحيح الجامع (6397).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5089)، كتاب النكاح، ورواه مسلم (1207)، وأحمد في المسند (6/ 164).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2731)، (2732)، كتاب الشروط، ورواه أحمد وغيره.

ص: 526

وروى أحمد والبخاري -واللفظ لأحمد- عن ابن عمر: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الحديبية: اللهم اغفر للمحلقين، فقال رجل: والمقصرين. فقال: اللهم اغفر للمحلقين. فقال: وللمقصرين، حتى قالها ثلاثًا أو أربعًا. ثم قال: وللمقصرين](1).

وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .

قال ابن عباس: (شاة فما فوقها).

وقال: (الهَدْي من الأزواج الثمانية: من الإبل، والبقر، والمعز، والضأن).

ففي الصحيحين عن جابر قال: [أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بقرة]. وفي لفظ لمسلم: [نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة](2).

وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: [أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنمًا]. وفي لفظ للبخاري: [كنتُ أفْتِلُ قلائدَ الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم فيبعثُ بها، ثم يمكث حلالًا](3).

والخلاصة: يجوز ذبح الشاة في الإحصار فإنه يجزئ، لأن الله سبحانه أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي مهما تيسر مما يسمى هديًا، والهدي كما ذكرنا من بهيمة الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم.

وقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .

معطوف على قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . فإنه حالة الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق، {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ويفرغ الناسك من أعمال الحج والعمرة إن كان قارنًا، أو من فِعْل أحدهما إن كان مُفْرِدًا أو متمتعًا.

ففي الصحيحين عن حفصة أنها قالت: [يا رسول الله، ما شأن الناس حلّوا من

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 34، 151)، وأخرجه البخاري في الصحيح- حديث رقم- (1727)، ورواه مسلم برقم (1301).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1318)، وأبو داود في السنن (2809)، والترمذي في الجامع (904)، وابن ماجة في السنن (3132).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1703)، كتاب الحج. وانظر صحيح مسلم (1321)، ورواه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 527

العمرة، ولم تَحِلَّ أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبّدت رأسي وقلّدت هَدْيي، فلا أَحِلُّ حتى أنحر] (1).

وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} .

أخرج البخاري عن كَعْب بن عُجْرَة قال: [وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافَتُ قمْلًا. فقال: يؤذيك هَوَامُّك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك. أو قال: احْلقْ. قال: فِيَّ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} إلى آخرها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صُمْ ثلاثة أيام، أو تصدق بِفَرَقٍ بينَ سِتَّةٍ، أو نُسُكٍ مما تيسَّر](2).

وفي لفظ: [احلق رأسَك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسُكْ بشاة].

وفي لفظ آخر من طريق عبد الله بن مَعْقِل قال: [جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصّة وهي لكم عامة، حُمِلتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثَرُ على وجهي فقال: ما كنْتُ أُرَى الوجَعَ بلغ بك ما أَرَى، أوْ: ما كنْتُ أُرى الجَهْدَ بلغ بك ما أرى، تجدُ شاةً؟ فقلت: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصفَ صاع].

والأئمة الأربعة على التخيير، إن شاء صام وإن شاء تصدّق بفَرْق (3)، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء، أيّ ذلك فعل أجزأه.

قال الحافظ ابن كثير: (ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل فالأفضل، فقال: انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام، فكل حسب مقامه).

وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .

قال الربيع: (إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه). وقال علقمة: (فإذا برأتم).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1566)، وأخرجه مسلم (1229)، ورواه أحمد في المسند (6/ 283)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. رواه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1815)، كتاب المحصر، وانظر (1814)، وانظر كذلك (1816) لما بعده.

(3)

الفرق: ثلاثة آصع، لكل مسكين نصف صاع وهو مدّان.

ص: 528

والمعنى: فإن تمكنتم من أداء المناسك، وقمتم بحج التمتع الذي هو الحج الأكمل الذي استقر عليه الإسلام، وفرغتم، فليذبح المتمتع ما قدر عليه من الهدي وأقله شاة، وله أن يذبح البقر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه بقرة وكن متمتعات.

أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحر عن آل محمد في حجة الوداع، بقرة واحدة](1).

وله شاهد عنده عن أبي هريرة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذبح عمن اعتمر من نسائه، بقرة بينهن].

قلت: وقد استفاضت الأدلة على استقرار الإسلام على حج التمتع، وهو الحج الأفضل والأكمل، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ونساءه، ومنعه منه سوق الهدي.

ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث جابر - في حجة النبي صلى الله عليه وسلم: [أنه قال: "إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسُق الهدي، ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فَلْيَحْلل وليجعلها عمرة". فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان معه هدي.

فقام سُراقة بن جَعْشَمٍ فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد، فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى ثم قال:

"دخلت العمرة في الحج " هكذا مرتين "لا، بَلْ لأَبَدِ أَبَدٍ، لا بَلْ لأبَدِ أَبَدٍ"] (2).

ورواه أحمد من حديث ساقة بلفظ: [دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة](3).

وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} .

المعنى: من لم يجد هديًا لزمه الصيام: ثلاثة أيام في الحج -غير يوم عرفة والنحر- وسبعة أيام أخرى تتمة العشرة إذا رجع إلى أهله وبلده.

والدليل على جواز الصيام للحاج -الذي لم يجد الهدي- أيام التشريق، هو

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (1539)، كتاب المناسك، باب في هدي البقر، وكذلك (1540) للحديث بعده.

(2)

حديث صحيح. رواه مسلم في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر صحيح أبي داود (1676) - واللفظ له.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 175) وإسناده صحيح من حديث سراقة رضي الله عنه. وانظر صحيح مسلم (1218)، والمرجع السابق.

ص: 529

ما أخرج البخاري عن عائشة وابن عمر قالا: [لم يُرَخَّص في أيام التشريق أن يُصَمن إلا لمن لم يجد الهدي](1).

وعن مجاهد: ({وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قال: هي رخصة، إن شاء صامها في الطريق).

قلت: والأولى أن يصومها بعد الوصول إلى بلده لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . قال عطاء: (إذا رجعت إلى أهلك. قال: يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله أحبُّ إلي).

وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، يعني: التمتع ليس لأهل مكة. قال الربيع: (يعني المتعة، أنها لأهل الآفاق، ولا تصلح لأهل مكة).

ومذهب الشافعي: أنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة، فهو بذلك يعد حاضرًا لا مسافرًا، واختاره ابن جرير شيخ المفسرين.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} .

يعني: بالحرص على طاعته كما أمر، وبامتثال فرائضه بحدودها وأركانها دون تجاوز أو تقصير.

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

تهديد ووعيد لمن حاول انتهاك محارمه سبحانه، وغامر في ركوب معاصيه.

197.

قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَال فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} .

في هذه الآية: النهي عن اللغو والجدال والرفث والفسوق في الحج، والأمر بالتزوّد بخير الزاد وهو التقوى.

وأشهر الحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. قاله ابن عباس وابن عمر.

قال ابن عباس: ({الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، وهن شوال، وذو القعدة، وعشر من

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1997)، (1998)، من حديث ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم.

ص: 530

ذي الحجة، جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يُحرم أحدٌ بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرةُ يُحرم بها في كل شهر) ذكره ابن جرير.

قال البخاري: (قال ابن عمر: هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة).

يروي الشافعي بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال:(لا ينبغي لأحد أن يُحْرِمَ بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}).

ثم ذهب الشافعي رحمه الله إلى عدم صحة الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به.

وقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} .

قال ابن جرير: (أجمعوا على أن المراد من الفَرْض ههنا الإيجاب والإلزام). وقال ابن عباس: (الفرض: الإحرام). وقال طاووس: (هو التلبية). وقال ابن عباس: (من أحرم بحج أو عمرة).

والمقصود أن من أوجب على نفسه الحج وألزمها إياه في أشهر الحج المعلومات {فَلَا رَفَثَ} : أي فليجتنب الرفث، وهو الجماع، كما قال تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ، وكذلك فليجتنب دواعيه من التقبيل والمباشرة أو التكلم به في حضرة النساء. وقد دارت أقوال المفسرين حول هذا المعنى، وتفصيل ذلك:

1 -

قال ابن عباس: (هو التعريض بذكر الجماع، وهي "العِرابة" من كلام العرب، وهو أدنى الرفث). وقال: (الرفث غشيان النساء والقُبَل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام).

2 -

قال نافع عن ابن عمر: (الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم).

3 -

قال عطاء: (الرفث ما دون الجماع). وقال: (الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش).

وقوله: {وَلَا فُسُوقَ} .

يعني: المعاصي بجميع أشكالها.

قال ابن عباس: (الفسوق المعاصي). وقال مجاهد: (الفسوق المعاصي كلها).

وقال ابن عمر: (الفسوق السباب). وقال ابن زيد: (الفسوق: الذبح للأنصاب). فقد

ص: 531

قال الله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} . وقال الضحاك: (الفسوق التنابز بالألقاب). والراجح أن كل أنواع المعاصي مما ذكر ومما لم يذكر داخل في مفهوم الفسوق.

وقوله: {وَلَا جِدَال فِي الْحَجِّ} .

فيه قولان عند المفسرين:

1 -

المجادلة في وقت الحج ومناسكه بعدما بينه الله. قال مجاهد: (قد بيّن الله أسْهر الحج، فليس فيه جدال بين الناس). وقال عطاء: (المراء في الحج). وقال مالك: (قال الله تعالى: {وَلَا جِدَال فِي الْحَجِّ} فالجدال في الحج -والله أعلم- أن قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمؤدلفة، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة، وكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب. ويقول هؤلاء: نحن أصوب).

2 -

الجدال: المخاصمة. قال ابن مسعود: (أن تماري صاحبك حتى تغضبه). وقال ابن عباس: (الجدال: المراءُ والملاحاة، حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك). وقال ابن عمر: (الجدال: السباب والمنازعة). وقال عكرمة: (الجدال: الغضب، أن تغضب عليك مسلمًا، إلا أن تستعتب مملوكًا فتعظه من غير أن تغضبه، ولا إثم عليك إن شاء الله تعالى في ذلك).

قلت: فكل ما كان فيه جدال وأخذ وردّ يفسد صفاء الحج، أو خصومات وسباب وغضب ومنازعات توصل إلى الظلم واقتراف الآثام، داخل ذلك في الجدال الذي نهى الله عنه في الحج.

وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} .

فيه حث على التماس بديل ما سبق، وهو فعل الخيرات والصالحات التي توصل إلى عالي الدرجات ورفيع المقامات.

وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (1523)، وأبو داود في السنن (1730)، وغيرهما.

ص: 532

فنزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة، فأمر الله جلّ ثناؤه من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يتحفظ بزاده فلا يرمي به.

فعن مجاهد: ({وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، قال: كانوا لا يتزودون، فأمروا بالزاد، وخيرُ الزاد التقوى).

وعن الحسن: (إن ناسًا من أهل اليمن كانوا يحجون ويسافرون ولا يتزودون، فأمرهم الله بالنفقة والزاد في سبيل الله، ثم أنبأهم أن خير الزاد التقوى).

وقوله: {وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} .

يعني: يا أهل العقول والأفهام، فإن طاعة الله سبحانه هي سر سعادة الأنام، وبدونها يتردى المرء إلى دون مرتبة الأنعام.

198.

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} .

في هذه الآية: تشريع ذكر الله عند المشعر الحرام -وهو جبل بالمزدلفة- بعد الإفاضة من عرفات والمبيت بمزدلفة.

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال:[كانت عكاظُ ومَجَنَّةُ وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج].

وفي رواية: [فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج](1).

وعن مجاهد، عن ابن عباس، قال:(كانوا يتَّقون البيوع والتجارة في الموسم والحج، يقولون: أيامُ ذِكْر، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}) رواه أبو داود وغيره.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1770)، كتاب الحج، وانظر (2050)، (2098)، (4519).

ص: 533

ويروي ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال -في هذه الآية-: (لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده).

وقال مجاهد فيها: (التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة). قال: (التجارةُ، أحِلت لهم في المواسم. قال: فكانوا لا يبيعون أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة).

وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} .

يعني: إذا أفضتم فرجعتم من حيث بدأتم. وصرف "عرفات" وإن كان علمًا على مؤنث لأنه في الأصل جَمْع كمسلمات ومؤمنات، سمي به بقعة معينة فَرُوعي فيه الأصل فصرف. ذكره ابن كثير واختاره ابن جرير.

وعن ابن عباس قال: (إنما سميت عرفات، لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا، هذا موضع كذا. فيقول: قد عرفت، فلذلك سميت عرفات).

وعن عطاء قال: (إنما سميت عرفة، أن جبريل كان يُري إبراهيم عليهما السلام المناسك، فيقول: عرفت، عرفت. فسمي عرفات). والله تعالى أعلم.

والوقوف بعرفة أهم أركان الحج، فمن لم يقف بعرفة فلا حجّ له. وهو قول الشافعي وأحمد رحمهما الله. ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي قال: [أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فجاء ناس، أو نفر، من أهل نجد، فأمروا رجلًا، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف الحج؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا فنادى: الحج، الحج يوم عرفة، (وفي رواية: الحج عرفة)، من جاء قبل صلاة الصبح (وفي رواية: قبل طلوع الفجر) من ليلة جَمْعٍ (1) فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه](2).

وفي رواية أخرى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [الحج عرفات -ثلاثًا-

(1) ليلة جمع: هي ليلة المبيت بمزدلفة، وهي ليلة النحر، وظاهره أنه يكفي الوقوف في أي جزء من عرفة ولو لحظة. وانظر تفصيل ذلك في كتابي: السيرة النبوية (3/ 1735).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 335)، وأخرجه أبو داود (1949)، وغيرهما.

ص: 534

فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك

].

وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله، وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة. ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس، وقال:[لتأخذوا عني مناسككم].

أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن والدارمي بسند صحيح من حديث عُرْوة بن مُضَرّس الطائي قال: [يا رسول الله! إني جئت من جَبَلي طيِّئٍ، أكْلَلْتُ راحِلتي، وأتعبتُ نفسي، والله ما تركْتُ من جَبَل إلا وقَفْتُ عليه، فهل لي من حَجٍّ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شَهِدَ صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد أتمَّ حَجَّهُ، وقضى تفثَه](1).

وأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن عكرمة، عن ابن عباس قال:[كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوسِ الجبال كأنها العمائم على رؤوس الرجال، دفعوا، فأخّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عَرَفةَ حتى غربت الشمس](2).

وأخرج الطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك، ورجاله رجال الصحيح، عن المسور بن مَخْرَمة قال:[خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد -وكان إذا خطب خطبة قال: أما بعد- فإن هذا اليوم الحجّ الأكبر، ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها، وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال، كأنها عمائم الرجال في وجوهها، وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفًا هَدْيُنَا هَدْي أهل الشرك](3).

وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} .

المشعر: هو ما بين جبلي المزدلفة. قال ابن عمر: (المشعر الحرام المزدلفة كلها).

(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (4/ 15)، وسنن الترمذي (891)، والنسائي (5/ 263)، وابن ماجة (3016)، وسنن أبي داود (1950)، ورواه ابن حبان.

(2)

حسن الإسناد. أورده الحافظ ابن كثير في التفسير، وحسنه، وهو كما قال.

(3)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(20/ 28)، والحاكم (3/ 523 - 524) وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي. انظر تخريج تفسير ابن كثير -المهدي- البقرة (198).

ص: 535

وقال: (هو الجبل وما حوله). وقال قتادة: (هو ما بين الجبلين).

والمشاعر هي المعالم، والمشعر: من معالم الحج، لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء.

روى مسلم من حديث جابر -في حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فلم يزل واقفًا -يعني بعرفة- حتى غربت الشمس، وذهبت الصُّفرة قليلًا حتى غاب القُرصُ، وأردف أسامة خَلفَه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرِك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة. كلما أتى حَبْلًا (1) من الحبال أرخى لها قليلًا حتى تصعدَ، حتى أتى المزدلفة، فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسَبِّح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس](2).

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الوقوف والمبيت بالمزدلفة ركن من أركان الحج، وهو قول قوي تؤيده النصوص الكثيرة، وقد بسطت القول في ذلك في كتابي السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة، فلله الحمد والمنّة.

أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[كُلّ عرفات موقفٌ، وارفعوا عن عُرَنَةَ، وكل مزدلفة موقفٌ، وارفعوا عن بطن مُحَسِّرٍ، وكلُّ فِجَاج مِنىً منحرٌ، وكل أيام التشريق ذبْحٌ](3).

وله شاهد عند أبي داود والحاكم بسند صحيح من حديث جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[كلُّ عرفةَ موقفٌ، وكل منىً منحَرٌ، وكلُّ المزدلفةِ موقِفٌ، وكلُّ فِجاج مكةَ طريق ومنحر](4).

(1) الحبل: التل من الرمل، والجبل يكون من الحجارة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1218) - في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وهو جزء من حديث طويل.

(3)

حديث صحيح. رواه أحمد في المسند (4/ 82)، والطبراني في "المعجم الكبير"(1583)، وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (4413).

(4)

حديث صحيح. انظر المرجع السابق (4412)، وتخريج المشكاة (2596).

ص: 536

وقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} .

قال ابن كثير: (تنبيهٌ لهم على ما أنْعَمَ الله به عليهم، من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج، على ما كان عليه إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} قيل: من قبل هذا الهدى، وقيل: القرآن، وقيل: الرسول، والكل متقارب ومتلازم وصحيح).

قلت: إن الوقوف بعرفة هو سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ورثته منه هذه الأمة، ثم إن الله سبحانه قد تفضل على الحجاج في عرفة ومزدلفة بالمغفرة، رحمة منه وكرمًا، وهذا من أفضل الهداية التي تستحق شكره سبحانه.

ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن مِرْبع الأنصاري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [قِفُوا على مشاعركم هذه، فإنكم على إرْثٍ من إرْثِ أبيكم إبراهيم](1).

وفي سنن ابن ماجة بسند صحيح عن بلال، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة جمع:[يا بلال أسكت الناس أو أنْصِت الناس. ثم قال: إن الله تَطَوَّلَ عليكم في جمعكم هذا، فوهب مسيئكم لمحسِنِكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله](2).

199.

قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} .

في هذه الآية: الخطاب لقريش لحملها على الوقوف بعرفة مع الناس والإفاضة منها، إذ كانوا في الجاهلية يقفون في طرف الحرم عند أدنى الحِلّ، ويقولون: نحن أهل الله في بلدته وقطّان بيته.

روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: [أن هذه الآية نزلت في الحمس:

(1) حديث صحيح. انظر تخريج المشكاة (2595)، وصحيح الجامع (4270).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة (2450)، وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (3/ 1735) لمزيد من التفصيل.

ص: 537

" {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . قالت: كانوا يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات] (1).

ورواه البخاري عنها بلفظ: [كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسَمَّون الحُمْسَ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يُفيض منها، فذلك قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}].

والحمس: من التحميس، وهو التشديد، والمراد تلك القبائل المتنطعة في دينها.

وقيل المراد بالإفاضة هنا الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار، والمراد بالناس كما قال الضحاك:(إبراهيم عليه السلام. وقيل: الإمام. وقال عطاء: (من حيث تُفيض جماعة الناس).

قلت: والراجح أن {ثُمَّ} ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة -كما ذكر القرطبي-، ومن ثم فإن الخطاب لقريش كما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم: أفيضوا مع جملة الناس واتركوا هذا التكبر والتنطع.

وقوله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} .

قال ابن جرير: (يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم من عرفاتٍ منصرفين إلى منى، فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وادعوه واعبدوه عنده، كما ذكركم بهدايته فوفقكم لما ارتضى لخليله إبراهيم، فهداه له من شريعة دينه، بعد أن كنتم ضلالًا عنه).

200 -

202. قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (1219)، وانظر رواية البخاري بعده (4520)، ورواه أبو داود (1910)، والنسائي (5/ 254)، كلهم من حديث عائشة بألفاظ متقاربة.

ص: 538

حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}.

في هذه الآيات: أمْرُ الله سبحانه عباده إذا فرغوا من مناسك الحج وأدوا ما عليهم أن يذكروه بأحسن الذكر وجوامعه، ويكثروا من ذكرهِ جل ثناؤه.

وعن مجاهد: ({فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} قال: المناسك الذبائح وهِراقة الدماء).

وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} .

فيه أقوال:

1 -

قال قتادة: (كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنى، قعدوا حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفعالهم، به يخطب خطيبهم ويُحدِّث محدثهم، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرًا).

2 -

قال مجاهد: (تفاخرت العرب بينها بفعل آبائها يوم النحر حين فرغوا، فأمروا بذكر الله مكان ذلك).

3 -

قال عطاء: ({كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}: هو قول الصبيّ: يا أباه).

وقال في تفسيرها: (كالصبي يلهج بأبيه وأمه). وقال الربيع: (كذكر الأبناء الآباء أو أشد ذكرًا).

4 -

قال السدي: (كانت العرب إذا قضت مناسكها، وأقاموا بمنى، يقوم الرجل فيسأل الله ويقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيت أبي! ! ، ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه، ويسأل أن يُعطى في الدنيا).

ورجّح ابن جرير أن الذكر المقصود هو التكبير المذكور بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الذي أوجبه بعد قضاء النسك.

قلت: والمقصود الحث على كثرة ذكر الله بعد أداء المناسك أكثر من التزامهم ذكر آبائهم في الجاهلية. وذمّ من يكون همه في سؤاله أمر دنياه دون أمر أخراه، ولذلك قال تعالى:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . يعني: من نصيب وحظ.

ص: 539

قال أبو وائل: (كانوا في الجاهلية يقولون: هب لنا غنمًا! هب لنا إبلًا).

وقال السدي: (كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى، لا يذكر الله الرجل منهم، إنما يذكر أباه، ويسأل أن يعطى في الدنيا).

وقال مجاهد: ({فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} نصرًا ورزقًا، ولا يسألون لآخرتهم شيئًا).

وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال قتادة: (في الدنيا عافية، وفي الآخرة عافية).

2 -

وقال الحسن: (الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة). وقال: (الحسنة في الدنيا الفهم في كتاب الله والعلم).

3 -

قال سفيان الثوري: (الحسنة في الدنيا العلم والرزق الطيب، وفي الآخرة حسنة الجنة).

4 -

وقال السدي: (أما حسنة الدنيا فالمال، وأما حسنة الآخرة فالجنة).

قلت: ولا شك أن الحسنة في الدنيا تشمل كل أنواع الخير فيها، من العلم والعبادة والعافية وسعة الرزق والدار وهناءة العيش مع الزوجة والولد والأهل والأحباب والجيران، كما تشمل حسنة الآخرة الخلود في ألوان نعيم الجنة وملذاتها.

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، في أحاديث:

الحديث الأول: يروي البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار](1).

الحديث الثاني: روى مسلم عن قتادة أنه سأل أنسًا: أي دعوة كان أكثر ما يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: يقول: [{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4522)، وأخرجه مسلم برقم (2690)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 209).

ص: 540

النَّارِ} وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها] (1).

وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد السلام بن شداد قال: (كنت عند أنس بن مالك، فقال له ثابت: إن إخوانك يحبّون أن تدعو لهم، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وتحدثوا ساعة، حتى إذا أرادوا القيام قال: يا أبا حمزة (2)، إن إخوانك يريدون القيام، فادعُ الله لهم، فقال: أتريدون أن أُشقِّقَ لكم الأمور إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار، فقد آتاكم الخير كلّه).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد عن أنس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ رجلًا من المسلمين قد صار مثل الفَرْخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقُه -أو لا تستطيعه- فهلا قلت: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} قال: فدعا، فشفاه الله](3).

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

المقصود أولئك الذين يقولون ما سبق ذكره بعد قضاء مناسكهم رغبة فيما عند الله، لهم نصيب وحظ من حجهم ومناسكهم، وثواب جزيل على أعمالهم، والله يحصي للفريقين ويجازي كلًا منهم بأسرع الحساب.

203.

قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} .

في هذه الآية: يوجه تعالى عباده إلى ذكره بالتوحيد والتعظيم في أيام مُحصيات، وهي أيام التشريق: أيام رمي الجمار. فَيَأمر عباده بالتكبير في تلك الأيام وعند الرمي مع كل حصاة.

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (2690)، ورواه أحمد (3/ 209)، ورواه أبو داود (1519).

(2)

أبو حمزة: كنية أنس بن مالك رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2688)، وأحمد (3/ 107)، والترمذي (3487)، وغيرهم.

ص: 541

قال ابن عباس: (الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العَشْر).

وقال: (يعني بالأيام المعدودات، أيامَ التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر).

أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عند عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يومُ عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، هُنَّ عيدُنا أهل الإسلام، وهنَّ أيام أكلٍ وشرب](1).

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد عن نُبَيْشَةَ الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أيام التشريق أيام أكلٍ وشرب وذكر الله](2).

وفي المسند من حديث عبد الرحمن بن يَعْمَر الديلي: [وأيام منى ثلاثة، فمن تَعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه]، وقد مضى بتمامه.

وعن عطاء، في قوله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، قال:(لا إثم عليه في تعجيله، ولا إثم عليه في تأخيره).

وقال قتادة: (رخّص الله في أن ينفروا في يومين منها إن شاؤوا، ومن تأخر في اليوم الثالث فلا إثم عليه).

وقوله: {لِمَنِ اتَّقَى} .

قيل: اللام متعلقة بالغفران، والتقدير: المغفرة لمن اتقى.

قال قتادة: (ذكر لنا أن ابن مسعود قال: إنما جعلت المغفرة لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي). وقال الأخفش: (التقدير: ذلك لمن اتقى).

وقال بعضهم: لمن اتقى يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحَرَم. وقيل: التقدير الإباحة لمن اتقى، وقيل: السلامة لمن اتقى. وقيل: هي متعلقة بالذكر في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا} أي الذكر لمن اتقى. ذكر ذلك القرطبي.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .

تأكيد على التقوى، ففيها النجاة يوم الحشر من أهوال القيامة ونار جهنم.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2419)، والترمذي في الجامع (773)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 152)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1141)، وأحمد (5/ 75)، وأبو داود (2813)، وغيرهم.

ص: 542

204 -

207. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}.

في هذه الآيات: ينعت الله للمؤمنين بعض المنافقين، فهو يعجبك في ظاهر قوله وعلانيته، ويستشهد الله على ما في قلبه، وهو ألدُّ الخصام، جدِلٌ بالباطل. وإذا خرج من عندك مضى إلى انفساد والإفساد في الأرض، فإنْ ذُكِّرَ بالله تعزَّزَ بباطله وفساده وغروره والنار موعده. ويقابل هذا الشقي مؤمن يبذل الدنيا ومالها ومتاعها من أجل علو المقام عند الله وربح الآخرة.

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} .

في سبب النزول روايات مختلفة:

1 -

قال السدي: (نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي -وهو حليف لبني زهرة- وأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأظهر له الإسلام، فأعجبَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم أني صادق! ، وذلك قوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}، ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وحُمُر، فأحرق الزرع وعقر الجُمُرَ، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}. وأما {أَلَدُّ الْخِصَامِ} فأعوجُ الخصام، وفيه نزلت: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، ونزلت فيه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} إلى {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}).

2 -

وقيل: بل نزل ذلك في قوم منافقين، تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجيع، فعابوا على خبيب وأصحابه، فأنزل الله بذلك، وبمدح خبيب وأصحابه. ذكره ابن عباس.

3 -

وقيل: بل المعنيّ بذلك جميع المنافقين ممن يظهرون علانية مخالفة للسريرة. وفي المؤمنين كلهم. ورجّحه ابن كثير.

ص: 543

قلت: والظاهر أن الآية عامة في نعت طائفة من المنافقين تتكرر صورتهم عبر الزمان، ويتلونون حسب مصالحهم.

قال عطاء: ({وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}، قال: يقول قولًا في قلبه غيره، والله يعلم ذلك).

وقال السدي: ({وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}، يقول: الله يعلم أني صادق أني أريد الإسلام). وقال مجاهد: (ويشهد الله في الخصومة أنما يريد الحق).

قلت: والقراءة بالضم {وَيُشْهِدُ} هي الأشهر والأرجح، لإجماع الحجة من القرأة عليها.

وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} .

أي: شديد الخصومة. وفيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: ({وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، أي: ذو جدال، إذا كلمك وراجعك).

2 -

قال قتادة: (شديد القسوة في معصية الله، جَدِلٌ بالباطل، وإذا شئت رأيتَه عالم اللسان جاهلَ العمل، يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطيئة).

3 -

وقال مجاهد: (ظالم لا يستقيم). وقال السدي: (أعوج الخصام). أي لا يستقيم على خصومة.

4 -

وقال الحسن: (الكاذب القول).

والألد في لغة العرب: الأعوج. ولدّه: خصمه. ورجل ألَدُّ بيّن اللَّدد أي شديد الخصومة. وكل ما سبق من صفات الألد المنافق.

يروي البخاري عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم](1).

وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى} .

قال ابن عباس: ({وَإِذَا تَوَلَّى}: يعني: وإذا خرج من عندك). وقال ابن جريج: (إذا غضب).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4523)، (2457)، وأخرجه مسلم برقم (2668)، ورواه أحمد في المسند (6/ 55).

ص: 544

وقوله: {سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} .

قال ابن جريج: (قطع الرحم، وسفك الدماء دماء المسلمين. فإذا قيل: لم تفعل كذا وكذا! قال: أتقرب به إلى الله عز وجل.

قلت: ولا شك أن الآية عامة تشمل كل أنواع الإفساد الذي يكون من المنافق فاسد السريرة.

وقوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} .

الحرث: الزرع. والنسل: العقب والولد.

قال ابن عباس: (الحرث حرثكم، والنسل نسل كل دابة). وقال: (نسل كل دابة والناس أيضًا). وقال مجاهد: (نبات الأرض، والنسل من كل دابة تمشي من الحيوان، من الناس والدواب). وقال مجاهد أيضًا: (إذا سعى في الأرض إفسادًا، منع الله القَطْرَ، فهلك الحرث والنسل).

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} .

قال ابن جرير: (والله لا يحب المعاصي، وقطع السبيل، وإخافة الطريق).

وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} .

يعني: إذا ذُكِّر بالله وهو يشتد في فساده وإفساده، ليمتنع عن المتابعة ويكفّ، أخذته الحمية والغضب بالإثم. فإن جهنم تكفيه عقوبة الكبر والعناد والإفساد.

وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} .

مدح للمؤمنين الذين يبذلون الدنيا ومالها ومتاعها من أجل علو المقام عند الله وربح الآخرة.

أخرج الحاكم في المستدرك، بسند صحيح على شرط مسلم، عن عكرمة قال: [لما خرج صهيب مهاجرًا تبعه أهل مكة، فنثل كنانته فأخرج منها أربعين سهمًا، فقالي: لا تصلون إليَّ حتى أضع في كل رجل منكم سهمًا، ثم أصير بعده إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلفت بمكة قينتين فهما لكم، ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ النَّاسِ

ص: 545

مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبا يحيى ربح البيع، قال: وتلا الآية] (1).

قلت: والآية باقية في حق كل مجاهد في سبيل إعلاء دين الله في الأرض، يبذل ماله ودنياه من أجل ذلك، ويرخص أمامه كل ثمين لرؤية أمر الله يعلو في أرجَاء هذه الدنيا.

وقوله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} .

يعني: والله ذو رحمة وحسن استقبال لمن كان همّه الآخرة والجهاد في سبيل الله وتحكيم شرعه في الأرض.

208 -

209. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}.

في هذه الآيات: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتزام شرائع الإسلام جملة، واجتناب خطوات الشيطان وَسُبُله كلها، فإنه عدو بيِّنُ العداوة للمؤمنين. ثم يحذر سبحانه من العدول عن الحق بعد بيان حججه وبراهينه، بأنه عزيز في نقمته، حكيم في أمره وقدره.

فعن ابن عباس: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} قال: يعني الإسلام). وقال الربيع: (يعني الطاعة).

وقال قتادة: (الموادعة). وقال مجاهد: ({كَافَّةً}: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البرِّ).

وقوله: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} .

يعني: طرائقه وسبله وآثاره.

وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

قال مطرِّف: (أغشُّ عباد الله لعبيد الله الشيطان).

(1) حديث صحيح. انظر مستدرك الحاكم (3/ 200)، وانظر كذلك:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة البقرة، آية (207).

ص: 546

وقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} .

يعني: جنحتم عن الطريق، وخرجتم عنه، وعدلتم عن الحق من بعد ما قامت عليكم الحجج والآيات. قال ابن عباس:(الزلل: الشرك). وقال السدي: (فإن ضللتم). وقال ابن جريج: (البينات: الإسلام والقرآن). وقال السدي: (محمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

أي: عزيز في انتقامه ممن عانده، وحكيم في أحكامه وشرائعه. قال الربيع:(عزيزٌ في نققه، حكيم في أمره).

وقال محمد بن إسحاق: (العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده).

210.

قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} .

في هذه الآية: تهديد من الله سبحانه وتوعد بالكافرين بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به. وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} ، يعني: يوم القيامة، يوم يجيء الله سبحانه لفصل القضاء ومجازاة الأعمال.

وفي المنزيل: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 21 - 23].

قال أبو العالية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} ، يقول: والملائكة يجيئون في ظلَل من الغمام، والله تعالى يجيء فيما شاء).

وفي التنزيل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25].

وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .

في فصل القضاء وأخذ كل ذي حق حقه.

ص: 547

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: [لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء](1).

وله شاهد عند الإمام أحمد عنه مرفوعًا بلفظ: [يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء، وحتى الذرة من الذرة](2).

211 -

212. قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}.

في هذه الآيات: يخبر سبحانه عن بني إسرائيل كم توالت عليهم الآيات والحجج القاطعات مع موسى عليه السلام مما يؤكد صدق نبوته: من العصا وفلق البحر وضربه الحجر، وتظليل الغمام عليهم شدة الحر، وإنزال المن والسلوى، وغيرها من الآيات والخوارق التي تجاوزوها وأعرضوا وبدلوا نعمة الله كفرًا، فقتلوا الأنبياء وبدلوا العهود وخالفوا الأوامر، وينتظرهم عذاب شديد. لقد فُتِنَ الكفار بزينة هذه الحياة الفانية، وسلكوا سبيل الهزء بالمؤمنين، والمؤمنون فوقهم في المنازل والدرجات يوم القيامة، والله يعطي الذين اتقوا من النعيم يومئذ والتكريم بغير حساب.

فعن مجاهد: ({وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} قال: يكفرُ بها). وقال السدي: (يقول: من يبدلها كفرًا). وقال الربيع: (يقول: ومن يكفر نعمته من بعد ما جاءته، {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}).

وقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

خبر عن نعت الكفار في هيئتهم في الحَياة الدنيا، فهم عبيد اللذات العاجلة والحطام الفاني، يبتغون بذلك المكاثرة والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2582)، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 363)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1967).

ص: 548

والوجاهة، ويسخرون من المؤمنين الذين يرجون ما عند الله، والمؤمنون بذلك فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم، وقد أكرمهم الله بعلو المنزلة في الآخرة فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين، في حين خلد أولئك الطغاة في الدركات في أسفل سافلين.

قال ابن جريج: ({زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، قال: الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها، {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، في طلبهم الآخرة. قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال: قالوا: لو كان محمد نبيًّا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا! والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود).

وقال قتادة: ({وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قال: {فَوْقَهُمْ}، في الجنة).

وقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

قال ابن جرير: (والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه، بغير محاسبة منه لهم على ما منّ به عليهم من كرامته).

قلت: والآية عامة في رزق الدنيا والآخرة، فإن الله ينعيمِ علبم المتقين في الدارين لقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .

وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا المعنى في أحاديث، منها:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنته يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها](1).

الحديث الثاني: أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما من يوم يصبِح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الاخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا](2).

وله شاهد عن ابن حبان في صحيحه بلفظ: [إن ملكًا بباب من أبواب الجنة يقول:

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (60)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 757).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (3/ 83 - 84)، وصحيح الترغيب (1/ 905) للشاهد بعده.

ص: 549

من يُقرض اليوم يُجْزَ غدًا. وملك بباب آخر يقول: اللهم أعط منفقًا خلفًا وأعط ممسكًا تلفًا].

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن الشخير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يقول ابن آدم: مالي، مالي. قال: وهل لك، يا ابن آدم! مِن مالِكَ إلا ما أكلتَ فأَفْنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيت](1).

213.

قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} .

في هذه الآية: سنة الله في الأمم، كلما تفرقوا واختلفوا وابتعدوا عن منهاج الرسل بعث الله لهم رسولًا يُفَرِّقُ كلمة الكفر ومنهج الشهوات الذي وَحّدهم.

وفي التفاسير أكثر من تأويل لهذه الآية:

1 -

قال ابن عباس: (كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين). فالأمة هنا: الدين والملة.

وقال قتادة: (كانوا على الهدى جميعًا فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أولَ نبي بعث نوحٌ).

2 -

وعن مجاهد: ({كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، قال: آدم. قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال مجاهد: آدم أمة وحدَه).

3 -

عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال:(كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطرهم يومئذ على الإسلام، وأقرّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم، فكان أبي يقرأ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} إلى {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}. وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف).

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (2958)، كتاب الزهد، وانظر -حديث رقم- (2959).

ص: 550

4 -

قال ابن زيد: ({كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}: حين أخرجهم من ظهر آدم، لم يكونوا أمة واحدة قطُ غيرَ ذلك اليوم، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ}، قال: هذا حين تفرقت الأمم).

5 -

قال ابن عباس: ({كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين).

ورجح ابن كثير القول الأول عن ابن عباس فهو أصح سندًا ومعنى، وقال:(لأن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض).

قلت: والآية عامة في الأمم، كلما تفرقوا واختلفوا وابتعدوا عن منهاج الرسل بعث الله لهم رسولًا يفرق كلمة الكفر ومنهج الشهوات الذي وحدهم واجتمعوا عليه.

وقوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} .

قال الطبري: (الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوارة). وقال القرطبي: ({وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ}: اسم جنس بمعنى الكتب). قال: (قيل: ليحكم كل نبيّ بكتابه، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتابُ).

وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} .

قال الربيع: (يقول: إلا الذين أوتوا الكتاب والعلم). وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . قال الربيع: (يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الماك والمهابة في الناس، فبغى بعضهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب بعض).

وقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} .

أخرج عبد الرزاق في "التفسير"، والإمام أحمد في المسند بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، في قوله:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}

الآية قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولًا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما

ص: 551

اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغدًا لليهود وبعد غدٍ للنصارى] (1).

وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} قال: (فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة.

واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة. واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، وجعله الله حنيفًا مسلمًا، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك).

قلت: وما ذكره ابن زيد قد جاء ذكره في القرآن وفي السنة الصحيحة في مواضع شتى ومن ذلك هداية الله سبحانه هذه الأمة ليوم عيدها تكرمة لها من بين الأمم.

يروي ابن ماجة والبزار بسند صحيح عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أضل الله تبارك وتعالى عن الجمعة من كان قبلنا، كان لليهود يومُ السبت، والأحد للنصارى، فهم لنا تبع إلى يوم القيامة، نحن الآخِرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق](2).

وفي لفظ البزار: [نحن الآخرون في الدنيا، الأولون يوم القيامة، المغفورُ لهم قبل الخلائق].

وقال الربيع بن أنس: ({فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أي: عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على

(1) حديث صحيح. أخرجه عبد الرزاق في "التفسير"(247)، وأخرجه أحمد (2/ 274)، وأخرجه البخاري (876)، ومسلم (855)، والنسائي (3/ 85)، وابن ماجة (1083)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. رواه ابن ماجة والبزار ورجالهما رجال الصحيح. انظر صحيح الترغيب (1/ 701).

ص: 552

الإخلاص لله عز وجل وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون أن رسلهم قد بلغوهم، وأنه قد كذبوا رسلهم). وكان أبو العالية يقول:(في هذه الآية المَخْرَجُ من الشبهات والضلالات والفِتَن).

وقوله: {بِإِذْنِهِ} .

قال ابن جرير: (بعلمه، بما هداهم له). وقال النحاس: (بأمره). وفي التنزيل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].

وقوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

فهو وحده يملك القلوب وتوجيهها إلى تعظيمه، وتنويرها بذكره ونور شرعه.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم](1).

214.

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} .

في هذه الآية: يخبر سبحانه عباده عن بعض سننه فيهم، فلا بد من الابتلاء والتمحيص ليميز الصادق من المنافق، ولا بد من الشدائد والمحن والآلام، فهي أسئلة الامتحان، ثم الدرجات بيد الله تعالى.

قال ابن عباس ومجاهد: {الْبَأْسَاءُ} : الفقر. {وَالضَّرَّاءُ} : السقم).

وقوله: {وَزُلْزِلُوا} .

يعني: بالخوف من الأعداء وشدة البأس. قال القرطبي: (خوِّفوا وحُرِّكوا). وأصل

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (770)، وأبو داود (767)، وأحمد (6/ 156)، وغيرهم.

ص: 553

الزلزلة: شدة التحريك، والزلازل: الشدائد. قال الزجاج: (أصل الزلزلة من زَلّ الشيء عن مكانه).

وفي التنزيل: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].

وقد عاش الصحابة رضوان الله عليهم شيئًا من ذلك يوم الأحزاب. قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11].

أخرج البخاري في صحيحه عن خباب قال: [أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُرْدَةً وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شِدَّةً، فقلت: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فقال: لقد كان من قبلكم لَيُمْشَطُ بمِشَاط الحديد ما دون عِظامه من لَحْمٍ أو عَصَب، ما يَصْرِفُهُ ذلك عن دينه، ويوضَعُ الميشارُ على مَفْرِقِ رأسه، فَيُشَقُّ باثنين ما يصْرفهُ ذلك عن دينه، وليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صَنْعاء إلى حضرموتَ ما يخاف إلا الله](1). وفي رواية: (أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

وأخرج ابن ماجة والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجدُ إلا العباءة يجوبُها فيلبسها، ويُبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشدَّ فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء](2). يجوبها: أي يقطع وسطها ليلبسها.

وأخرج الترمذي بسند حسن عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن عظمَ الجَزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط](3).

وفيه دليل على أن البلاء يكون خيرًا، وأن صاحبه محبوب عند الله تعالى إذا صبر واحتسب.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (3852)، كتاب مناقب الأنصار، وكذلك أخرجه برقم (3612)، ورواه أحمد في المسند (5/ 109).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (1006)، وكذلك (1005)، (1007). وهو في سنن ابن ماجة برقم (4024)، ورواه ابن سعد (2/ 208)، والحاكم (4/ 307).

(3)

حديث حسن. رواه الترمذي (2/ 64)، وابن ماجة في السنن (4031)، وانظر السلسلة الصحيحة -حديث رقم- (146). قال الألباني: وسنده حسن.

ص: 554

وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس -لما سأل هرقل أبا سفيان: فهل قاتلتموه- قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجَالٌ يَنالُ منا وننالُ منه. وفي رواية: يدال علينا ونُدال عليه. قال: [كذلك الرسل تُبْتلَى، ثم تكون لها العاقبة](1).

وقوله: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}

أي: بلغ الجهد بهم حتى استبطؤوا النصر وهم واثقون به، فلم يقولوا: أين نصر الله، لإيمانهم أن النصر وعده الله المؤمنين. ولذلك أجابهم سبحانه بهذا المعنى فقال:{أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فكلما كانت الشدة اقترب النصر والفرج. وفي التنزيل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} .

أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[النصر مع الصبر، والفرجُ مع الكرب، وإنّ مع العسر يسرا](2).

215.

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} .

في هذه الآية: تعريف الله عباده مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات، وأن كل عمل في طاعته فهو سبحانه به عليم.

قال السدي: (يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها، فنسختها الزكاة). وهذا ممكن، وممكن غيره.

قال ابن جرير: (ولا دلالة في الآية على صحة ما قال -يعني السدي بادعاء النسخ-، لأنه ممكن أن يكون قوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء ومن سمى معهم في هذه الآية، وتعريفًا من الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (7)، كتاب بدء الوحي، وهو جزء من حديث طويل.

(2)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (1/ 307)، ومستدرك الحاكم (3/ 541)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (6682) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 555

وفي التنزيل: {وَآتَى الْمَال عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].

وفي سنن النسائي بسند جيد من حديث طارق المحاربي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أُمّك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك](1).

وله شاهد في المسند وسنن أبي داود بسند حسن عن معاوية بن حيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أمّك، ثم أمّك، ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب](2).

وفي المسند وجامع الترمذي بسند صحيح عن سلمان بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرّحم اثنتان: صدقة وصلة](3).

وعند الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن عمرو بن سهل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[صِلةُ القرابة مثراةٌ في المال، محبَّةٌ في الأهل، منسأة في الأجل](4).

قال ابن زيد: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} : هذا من النوافل. قال: (يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم).

وتلا ميمون بن مهران هذه الآية، ثم قال:(هذه مواضع النفقة، ما ذكر فيها طبلًا ولا مزمارًا، ولا تصاوير الخشب، ولا كُسوة الحيطان).

وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} .

أي: يحصيه عليكم ثم يجازيكم به.

216.

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا

(1) إسناده جيد. رواه النسائي (15/ 61)، والدارقطني (3/ 44). وانظر تخريج تفسير ابن كثير- المهدي. البقرة (215). وله شاهد في الحديث الذي يليه. رواه أحمد.

(2)

حديث حسن. انظر الإرواء (829)، (2232)، وصحيح الجامع الصغير (1395).

(3)

حديث صحيح. رواه أحمد، والترمذي (658). ورواه النسائي والحاكم. انظر تخريج المشكاة (1939)، والمرجع السابق (3752). وصحيح سنن الترمذي (661).

(4)

حديث صحيح. رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" من حديث عمرو بن سهل. ويشهد له ما في المسند وجامع الترمذي عن أبي هريرة. انظر صحيح الجامع (3662).

ص: 556

شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}.

في هذه الآية: إيجاب الله الجهاد على المسلمين، فقد فرض فيها على الأمة قتال المشركين، وإقرار بأن القتال كريه على النفوس ولكن العزّ كل العز فيه، ولا يعلم حقيقة المنافع والمصالح إلا العزيز العليم.

قال الزهري: (الجهاد واجب على كل أحد، غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استُعين أن يُعين، وإذا استغيث أن يُغيث، وإذا استُنفر أن ينفر، وإن لم يُحْتَجْ إليه قعد). وقال ابن كثير في هذه الآية: (هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين: أن يكُفّوا شرَّ الأعداء عن حَوزة الإسلام).

وردّ ابن جرير قول من ادّعى النسخ فيها، وصوّب رأي من ذكر أن الجهاد فرض على الكفاية، كالصلاة على الجنائز، وغسل الموتى ودفنهم.

قلت: وهذه الآية تظهر فرضية الجهاد الذي سيبقى إلى قيام الساعة، ويبدو أنها الآية التي نزلت لتحسم الأمر بعد نزول الآيات التي تمهد بالإذن بالقتال، وقد فصلت ذلك في كتابي السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة، فلله الحمد والمنة (1).

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو، مات ميتة جاهلية](2).

ويروي الطبراني بسند صحيح عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[عليكم بالجهاد في سبيل الله، فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغمّ](3).

فإذا غاب الجهاد عن حياة أمة الإسلام، والتفت أبناؤها إلى الدنيا، وإلى إصلاح الدرهم والدينار، وإلى الأراضي والمزارع والعقارات، وشغلت بذلك عن الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبطن الأرض خير لها من ظهرها.

أخرج أبو داود بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا تبايعتم بالعينة،

(1) انظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (1/ 524 - 528).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1910)، وأبو داودة (2502)، والنسائي (6/ 8)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. رواه الطبراني بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة. ورواه أبو داود والنسائي. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (3085).

ص: 557

وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم] (1).

وقوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} .

أي: فيه شدة ومشقة عليكم، لما قد يعقبه من جراح ودماء وآلام، مع عذاب السفر ومجالدة الأعداء.

وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} .

سنّة إلهية عامة، فقد يتعلق قلب العبد بما هو شر عليه في دينه أو دنياه أو كليهما. وقد يبتعد عن أمر يحتاج إلى مشقة يعقبها عز وقوة وفرج ورزق كبير. وكذلك القتال، ففيه ألم المجالدة وملاقاة العدو، وخطر وأهوال الحديد، لكن لا سبيل إلى ما بعده من النصر والظفر إلا بتجاوز تلك الشدائد -والكل بتوفيق الله وعونه-، وكذلك القعود: فقد يعقبه الذل والهزيمة واستيلاء العدو على البلاد والممتلكات والحُكم، ولذلك قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . أي: بحكمة كثير من التشريع، وعواقب الأمور، فاستجيبوا له فإن في طاعته سبحانه عز الدنيا وسعادة الآخرة.

217 -

218. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}.

في هذه الآيات: إخبار عن حرمة الأشهر الحرم والمسجد الحرام عند الله، وتحذير من الردة بعد الإسلام، وترغيب في الإيمان والهجرة والجهاد لنصر دين الرحمان.

سبب نزول هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ .... } : أن

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3462). وانظر صحيح الجامع (416).

ص: 558

رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة عبد الله بن جحش في ثمانية من المهاجرين، ليهدد طريق تجارة قريش مع اليمن كما هدّده مع الشام، وكتب له كتابًا وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين، وقد جاء فيه كما يروي البيهقي في السنن وابن هشام في السيرة بسند صحيح إلى عروة:(امض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم)(1). فقال عبد الله: سمعًا وطاعة، وأطلع أصحابه على كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلًا: إنه نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معي، ومن كره ذلك فَليَرْجِع

فلم يتخلف منهم أحد، غير أن البعير الذي كان يعتقبه سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، ندَّ منهما فشغلا بطلبه.

قال ابن إسحاق فيما يرويه عن عروة: (ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا -الأدم: الجلد-، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي. فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن مِحْصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عُمَّار، لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلةَ ليدخُلنّ الحرم، فليمتَنعُنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنَّهم في الشهر الحرام، فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخْذِ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التَّميمي عمرو بنَ الحضرمي بسهم فقتله، واستَأسر عثمانَ بن عبد الله، والحكمَ بن كيسان، وأفلتَ القومَ نوفلُ بنُ عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (2).

وقال عبد الله لأصحابه: (إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس). وذلك قبل أن يفرض الخمس. قال ابن القيم: (وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام)(3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البيهقي (9/ 11 - 12)، ورجاله رجال الصحيح.

(2)

انظر المرجع السابق، وسيرة ابن هشام (1/ 601 - 604)، وكتابي: السيرة النبوية (1/ 525).

(3)

انظر: "زاد المعاد"(3/ 168)، وانظر المرجع السابق (1/ 526).

ص: 559

قال ابن إسحاق: (فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقَفَ العير والأسيرين. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقِط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعَنَّفَهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهرَ الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال

فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (1).

لقد أنزل الله في القرآن ما يخرس المشركين ويسوّغ صنيع المسلمين، فإن كل الحرمات المقدسة قد انتهكها طغاة مكة في البلد الحرام، وقد استباحوا لأنفسهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم وسلب أموال المسلمين بعد هجرتهم وإخراجهم، وقد أذاقوا ضعفاءهم شر ألوان التعذيب على الرمال المنصهرة وتحت الشمس الحارقة، فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها وحرمتها فجأة؟

وقوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} .

قال ابن القيم: (والمقصود: أن الله سبحانه قد حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يُبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأنّ ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظمُ من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحقُ بالذم والعيب والعقوبة، ولا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله، وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ

جاءتْ محاسِنُه بألف شفيع

فكيف يُقاس ببغيضٍ عدوٍّ جاء بكل قبيح، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن) (2).

(1) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 601 - 604)، وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (1/ 526).

(2)

انظر: زاد المعاد (3/ 170 - 171)، والمرجع السابق (1/ 526 - 527) - لمزيد من التفصيل.

ص: 560

وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} .

قال مجاهد وغيره: (الفتنة هنا الكفر).

والمعنى: إن كفركم أكبر من قتلنا أولئك. قال القرطبي: (وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي إن ذلك أشد اجترامًا من قتلكم في الشهر الحرام).

وقوله: {وَلَا يَزَالونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} .

قال الزهري، عن عروة بن الزبير:(أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غيرُ تائبين ولا نازعين، يعني: على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردوهم إلى الكفر، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة) ذكره ابن جرير. وقال مجاهد في المقصود بالآية أنهم: (كفار قريش).

وقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

تهديد ووعيد على من يرجع عن دينه دين الإسلام بعدما أنعم الله به عليه، فيموت قبل أن يتوب من كفره، بأن تحبط أعمالهم ويخلدوا في نار جهنم وبئس المصير. وقد بينت أنواع وأحكام الردة بالتفصيل في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، بما يغني عن التفصيل هنا، ولله الحمد والمنة.

219 -

220. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}.

في هذه الآيات: إثبات إثم الخمر والميسر، والترغيب في العفو وبذل المال في وجوه الخير، والحث على إصلاح مال اليتامى في وجوه البر.

ص: 561

والخمر: كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه، والميسر: القمار.

قال مجاهد: (الميسر: القمار، وإنما سمّي "الميسر" لقولهم: أيْسروا واجْزُرُوا. كقولك: ضع كذا وكذا). وقال: (كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز). وعن أبي الأحوص، عن عبد الله:(إياكم وهذه الكِعاب الموسومة التي تزجرون زجرًا، فإنهن من الميسر). وقال ابن سيرين: (كل قمار ميسر، حتى اللعب بالنَّرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه). وقال: (كل لعب فيه قمار من شُرب أو صياح أو قيام، فهو من الميسر).

وقال ابن عباس: (الميسر القمار. كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله).

وقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} .

قال السدي: (فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يُقامر الرجلُ فيمنع الحق ويظلم).

وقال مجاهد {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} : هذا أوّل ما عيبت به الخمر).

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ، يعني: ما ينقص من الدين عند من يشربها).

وخلاصة القول: إن زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه لهو من أعظم الآثام. وبنحوه الانشغال في الميسر عن ذكر الله وعن الصلاة، فضلًا عن وقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه.

وفي التنزيل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].

وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} :

منافع مادية وجسدية واجتماعية. فالمادية هي أثمانها قبل تحريمها، والجسدية: هي لذتها حين شربها، والاجتماعية: اجتماعهم عليها واستئناسهم مع بعضهم على موائدها. هذا بالنسبة للخمر. وأما الميسر فمنافعه فيما يصيبون فيه من أنصباء الجزور. قال مجاهد: (المنافع هاهنا ما يصيبون من الجَزور). وقالما السدي: (أما منافعهما، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يُصاب من القمار). وقال ابن

ص: 562

عباس: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} : يقول فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها).

قال ابن جرير: (وأما منافع الميسر، فما يصيبون فيه من أنصباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلج الرجل منهم صاحبه نحره، ثم اقتسموا أعشارًا على عدد القداح).

وقوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .

قال الضحاك: (يقول: إثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم). وقال ابن كثير: (أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فَدُنيوية، من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذّة الشدة المطربة التي فيها، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته:

ونَشْرَبُها فتتركُنا ملوكًا

وأسْدًا لا يُنَهْنِهُنَا اللقاءُ

وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وكان يُقَمِّشُه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله. ولكن هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال الله تعالى:{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .

وهذه الآية مهّدت لتحريم الخمر، حتى نزلت الآية التي في سورة النساء، ثم جاء التحريم القطعي بنزول آية المائدة.

قال مجاهد: (إن هذه أول آية نزلت في الخمر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، ثم نزلت التي في سورة النساء، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر).

أخرج أبو داود بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: [لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا شِفاء، فنزلت الآية التي في البقرة:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} الآية، قال: فدُعِيَ عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّنْ لنا في الخمر بيانا شفاء، فنزلت الآية التي في النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى

(43)}، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقْرَبَنَّ الصلاة سَكْرانُ. فَدُعي عمر فقرئت عليه، فقال:

ص: 563

اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء، فنزلت هذه الآية:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . قال عمر: انتهينا] (1).

وأخرج أبو داود بسند حسن عن ابن عباس، قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} نسختها التي في المائدة: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ

} الآية] (2).

وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}

فيه أقوال متقاربة:

1 -

عن ابن عباس قال: (العفو ما فضل عن أهلك). وقال قتادة: (أي الفضل).

2 -

عن طاووس قال: (اليسير من كل شيء). قال ابن عباس: (ما لا يتَبَيَّنُ في أموالكم).

3 -

عن عطاء، قال:(العفو في النفقة: أن لا تجهدَ مالك حتى ينفد فتسأل الناس). وقال: (العفو ما لم يسرفوا ولم يقتروا في الحق). وقال مجاهد: (العفو صدقة عن ظهر غنى). والمقصود الوسط من النفقة، ما لم يكن إسرافًا ولا إقتارًا.

4 -

عن ابن عباس: (يقول: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم].

5 -

عن الربيع، قال:(يقول: الطيِّبَ منه، يقول: أفضلَ مالك وأطيَبَه).

6 -

عن مجاهد: {قُلِ الْعَفْوَ} . قال: الصدقة المفروضة).

ورجّح ابن جرير أن معنى العفو: الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله في مؤونتهم ما لا بدلهم منه.

والذي ذهب إليه شيخ المفسرين قد جاءت به السنة الصحيحة، في أحاديث، منها:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ابْدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإنْ فَضَلَ شيء فلأهلِكَ، فإن فَضَلَ عن أهلِكَ شيء فلذي

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3670). انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3117)، كتاب الأشربة، ورواه الترمذي (3049).

(2)

حسن الإسناد. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3119) - من حديث ابن عباس.

ص: 564

قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا. يقول: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وعن يمينك وعن شِمالك] (1).

الحديث الثاني: روى مسلم وأبو داود -واللفظ له- عن أبي هريرة، قال:[أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، فقال: تصدق به على نفسك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على ولدك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على زوجتك. أو قال: زوجك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على خادمك. قال: عندي آخر. قال: أنت أبصر](2).

الحديث الثالث: روى مسلم والترمذي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا ابن آدم! إنك إن تَبْذُل الفضل خيرٌ لك، وأن تمسكه شَرٌّ لك، ولا تُلام على كفاف. وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى](3).

وله شاهد عند البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخيرُ الصدقة ما كان عن ظهر غِنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول] (4).

الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كفى بالمرء إثمًا أن يُضيعَ منْ يقوت](5).

والآية ليست منسوخة بآية الزكاة، وإنما هي إعلام من الله سبحانه عن ما يرضيه من النفقة مما يسخطه، جوابًا منه لمن سأل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضًا. أفاده ابن جرير.

وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} .

يعني جل ذكره: كما بينت لكم آياتي وحججي في كل أمر يخصكم في دينكم، من

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (997)، كتاب الزكاة، ورواه النسائي (7/ 304)، ورواه أحمد في المسند (3/ 369).

(2)

حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (1483)، باب في صلة الرحم. وأخرجه مسلم في الصحيح (995) بمعناه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1036)، كتاب الزكاة، وأخرجه الترمذي في السنن (2344).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5355)، والنسائي (5/ 69)، وأحمد (2/ 278) عن أبي هريرة.

(5)

حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود (1484)، باب في صلة الرحم من حديث ابن عمرو.

ص: 565

أمور: التوحيد، والحدود والفرائض والوعد والوعيد، فكذلك أبين لكم في سائر كتابي.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} .

قال ابن عباس: (يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها). وقال قتادة: (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا). قال: (فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة).

وقال ابن جريج: (أما الدنيا، فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دارُ جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما).

وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} .

أخرج أبو داود بسند حسن عن ابن عباس قال: [لما أنزل الله عز وجل: {وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، الآية- انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُلُ من طعامه فَيُحْبَسُ له، حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فخلطوا طعامهم بطعامه، وشرابهم بشرابه] (1).

قال السدي: (كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرًا، ولا يستخدموا له خادمًا، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عنه، فقال:{قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} ، يصلح له ماله وأمره له خير، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويركب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه، فهو أجودُ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}. أي: من يقصد الإفساد من الإصلاح.

قال ابن زيد: (الله يعلم حين تخلط مالك بماله: أتريد أن تصلح ماله، أو تفسده فتأكله بغير حق).

(1) حديث حسن. انظر صحيح أبي داود (2495)، باب مخالطة اليتيم في الطعام. ورواه النسائي (6/ 256)، وابن جرير في التفسير (4186)، والحاكم (2/ 278).

ص: 566

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} .

أي: ضيّق عليكم وأحرجكم، ولكنه برحمته وكرمه وسَّع عليكم بإباحته مخالطتهم. قال ابن عباس:(يقول: لو شاء الله لأحرجكم فضيّق عليكم، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]).

وقال: (ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا).

وقال قتادة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} ، يقول: لجهدكم، فلم تقوموا بحق ولم تؤدوا فريضة).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

أي: عزيز في سلطانه، حكيم في قدره وشرعه.

221.

{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} .

في هذه الآية: تحريم الله نكاح المشركات على المؤمنين، ويستثنى نكاح نساء أهل الكتاب بقوله في سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ

}. ثم بيان فضل المؤمنة على المشركة. وتحريم تزويج المشركين من المؤمنات وبيان فضل المؤمن على المشرك، فالمشركون يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة.

قال الربيع: (حرم الله المشركات في هذه الآية، ثم أنزل في "سور المائدة"، فاستثنى نساء أهل الكتاب). وقال قتادة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ، يعني: مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه). وقال: (المشركات، من ليس من أهل الكتاب، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية). وقال زيد بن وهب، قال عمر:(المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة) وإسناده صحيح، ذكره ابن جرير. ثم روى بسنده إلى شقيق قال: (تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: خلِّ

ص: 567

سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن).

وقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} .

فيه تفضيل المؤمنة الأمة على المشركة الحرة.

أخرج ابن جرير بسنده عن السدي قال: (نزلت في عبد الله بن رواحة، كانت له أمَةٌ سوداء فغضب عليها فلطمها، ثم فزع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهما، فقال له: "ما هي"؟ قال: تصوم وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: يا أبا عبد الله، هذه مؤمنة. فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنَّها ولأتزوجنَّها. ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وقالوا: نكح أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (1).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفَرْ بذات الدين، تربت يداك](2).

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [الدنيا متاع، وخَيْرُ متاع الدنيا المرأة الصالحة](3).

وقوله: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} .

قال عكرمة: (حرم المسلمات على رجالهم- يعني رجال المشركين). وقال قتادة: (لا يحل لك، أن تنكح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك). ثم بيّن الله تعالى فضل العبد المؤمن على المشرك الحر: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} . قال ابن كثير: (أي: ولرجل مؤمن، لو كان عبدًا حبشيًا، خير من مشرك، وإن كان رئيسًا سريًا).

(1) أخرجه الطبري (4228) عن السدي مرسلًا، ووصله الواحدي في "أسباب النزول"(136)، ورجاله ثقات. انظر تخريج أحاديث تفسير ابن كثير- المهدي. البقرة (221).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466)، وأحمد (2/ 428)، وأكثر أهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1467)، وأحمد (2/ 168)، والنسائي (6/ 69)، وغيرهم.

ص: 568

وقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}

قال القرطبي: {أُولَئِكَ} إشارة للمشركين والمشركات. {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي: إلى الأعمال الموجبة للنار، فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النَّسْل. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ} أي: إلى عمل أهل الجنة).

وقوله: {بِإِذْنِهِ} . قال الزجاج: (أي بأمره).

وقوله: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} .

يعني: حججه وأدلته في كتابه وعلى لسان نبيّه لعباده، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: أي: ليعتبروا ويتذكروا ويميزوا بين السبيلين: سبيل أهل النار وسبيل أهل الجنة.

فائدة: في الآية دليل بالنص على أنه لا نكاح إلا بولي. قال محمد بن علي بن الحسين: (النكاح بولي في كتاب الله، ثم قرأ: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ}. وقال ابن المنذر: (ثبت أن رسول الله قال: [ألا نكاح إلا بولي] .. روي هذا الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة).

قلت: وبه قال مالك والشافعي وأحمد.

222 -

223. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}.

في هذه الآيات: تحريم إتيان النساء أثناء محيضهن، ثم إباحة إتيانهن من كل وجه بعد الطهر إذا كان في قُبُلِهِن- يعني موضع الولد.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس: [أن اليهود كانوا، إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكِلوها ولم يجامعوهُنَّ في البيوت، فسأل أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يُريد هذا الرجل أن يدعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أُسيد بن حُضَيْر وعَبَّادُ بنُ

ص: 569

بشرٍ فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول: كذا وكذا. أفلا نجامِعُهُنَّ؟ فتغَيَّر وجْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنَنّا أن قد وَجَدَ عليهما، فخرجا فَاسْتَقْبَلَهُما هديةٌ من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأرسل في آثارهما، فَسقاهما، فعرفا أنْ لم يجد عليهما] (1).

فالاعتزال المقصود هو في الجماع. فال ابن عباس: (اعتزلوا نكاح فروجهن). وقال: (إذاجعلت الحائض على فرجها ثوبًا أو ما يكف الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدُها زوجَها).

أخرج البخاري ومسلم عن ميمونة قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشِرُ نساءَه فوق الإزار، وهُنَّ حُيَّضٌ](2).

وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: [كانت إحدانا، إذا كانت حائضًا، أمَرَها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتَزِرُ بإزارٍ، ثم يباشرها](3).

وفيه عنها قالت: [كنت أغسِلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض](4).

وفي صحيح مسلم وسنن النسائي عنها قالت: [كنتُ أتعرّق العَرْق وأنا حائض، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه في الموضع الذي وضعتُ فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه](5).

والعَرْق: العظم عليه بقايا من اللحم، وتعرّقه: إذا أكل باقي اللحم الذي عليه.

وروى أبو داود بسند جيد عن عائشة قالت: [كنت أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم نبيتُ في الشعار الواحد وإني حائض طامِث، فإن أصابه مني شيء غسل مكانه لم يَعْدُه، وإن أصابه -يعني ثوبه- شيء غسل مكانه، لم يَعْدُه، وصلّى فيه](6).

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (302) كتاب الحيض، وأحمد (3/ 132)، ورواه أصحاب السنن: رواه أبو داود (258)، والترمذي (2977)، والنسائي في "التفسير"(57)، وابن ماجة (644).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (303)، ومسلم (294) -واللفظ له- وأحمد (6/ 55).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (293)، كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار.

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (297)، والروايات بعده، كتاب الحيض، من حديث عائشة.

(5)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (300)، وأبو داود في السنن (259)، والنسائي (1/ 190)، وأحمد في المسند (6/ 62).

(6)

إسناده جيد. رواه أبو داود (269)، وأحمد (6/ 44)، والنسائي (1/ 372)، من حديث عائشة.

ص: 570

وأما كفارة إتيان الحائض فهي دينار أو نصف دينار، وتفصيل ذلك:

أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد بسند حسن عن ابن عباس: [عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدّق بدينار أو نصف دينار].

وفي لفظ للترمذي: [إذا كان دمًا أحمر فَدينارٌ، وإن كان دمًا أصفرَ فنصف دينار](1).

وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .

وهو نزول الطهر: ماء أبيض تعرفه النساء، يُعرف به انتهاء الحيض والنفاس. قال مجاهد:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} : انقطاع الدم). وقال عكرمة: (حتى ينقطع الدم).

وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} .

فيه أقوال:

1 -

التطهر: هو الاغتسال بالماء. قال مجاهد: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} : فإذا اغتسلن). وقال ابن عباس: (يقول: فإذا طهرت من الدم وتطهرت بالماء). وعن إبراهيم: (أنه كره أن يطأها حتى تغتسل -يعني المرأة إذا طهرت). وعن الحسن: (في الحائض ترى الطهر، قال: لا يغشاها زوجها حتى تغتسل وتحلَّ لها الصلاة).

فقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} يعني بالماء، على مذهب مالك والشافعي والطبري وأهل المدينة.

2 -

التطهر: هو الوضوء للصلاة. فعن طاووس: (إذا طهرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرها بالوضوء قبل أن تغتسل- إذا أدركه الشَّبَق فليصب). وقال عكرمة: (انقطاع الدم يحلّها لزوجها ولكن بأن تتوضأ).

3 -

التطهر: التيمّم. قال يحيى بن بُكَيْر ومحمد بن كعب القُرظي: (إذا طهرت الحائض وتيمّمت حيث لا ماء حلَّت لزوجها وإن لم تغتسل).

4 -

التطهر: ولو بغسل موضع الدم. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: (إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام له أن يطأها قبل الغسل).

قلت: فقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} : يشمل غسل موضع الدم، والوضوء، والتيمم

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (264)، والنسائي (1/ 153)، والترمذي (136)، (137)، وأخرجه أحمد (1/ 230)، وابن ماجة (640)، والحاكم والدارمي والطبراني وغيرهم.

ص: 571

إن عدمت الماء، والغسل، كما سبق ذكره. ومن ثم فالاقتصار على تفسير الآية بالغسل لا دليل عليه تقوم به الحجة. فإذا طهرت الحائض وغسلت موضع الدم منها، جاز لزوجها أن يجامعها ولو لم تغتسل، وبهذا أفتى كبار علماء التابعين كمجاهد وعطاء وقتادة، وهو مذهب الأوزاعي وابن حزم وأبي سليمان وجميع أهل الظاهر.

وأما قول ابن كثير في التفسير: (وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضُها لا تحلُّ حتى تغتسل بالماء، أو تتيمّم إن تعذر ذلك عليها بشرطه). فدعوى الاتفاق غير صحيحة، بعد أن علمت أن كبار علماء التابعين على خلاف هذا الاتفاق.

وقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: (في الفرج، لا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد اعتدى). وقال مجاهد: (أمروا أن يأتوهن من حيث نُهوا عنه). وقال: (إذا تطهرن فأتوهن من حيثُ نهي عنه في المحيض). وقال: (من حيث نهيتم عنه، واتقوا الأدبار).

2 -

قال عكرمة: (يقول: إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله. يقول: طواهر غير حُيَّض). وقال الضحاك: (ائتوهن طاهرات غير حُيَّض).

3 -

عن ابن الحنفية: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، قال: من قِبل الحلال، من قِبل التزويج).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} .

أي: من الذنب والمعصية وإن تكرر الوقوع والزلل.

وقوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} .

قال ابن كثير: (أي: المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نُهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتي). قال مجاهد: (من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين).

وقال ابن جرير: (إن الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء للصلاة).

وذكر قول عطاء: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} ، من الذنوب، لم يصيبوها، {وَيُحِبُّ

ص: 572

الْمُتَطَهِّرِينَ} بالماء للصلوات). وقال ابن جريج: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} من الذنوب، لا يعودون فيها).

قلت: وكل هذه الأقوال يحتملها البيان الإلهي، وهي اختلافات تنوع لا اختلافات تضاد.

قال القاسمي: (وفي ذكر التوبة إشعارٌ بمساس الحاجة إليها -بارتكاب بعض الناس لما نُهوا عنه- وتكرير الفعل لمزيد العناية بأمر التطهّر).

وقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} .

يعني: هن مُزْدَرَعُ أولادكم. قال ابن عباس: {فَأْتُوا حَرْثَكُم} : منبت الولد). وقال السدي: (أما الحرث: فهي مزرعة يحرث فيها).

قال ابن جرير: (والحرث هو الزرع، ولكنهن لما كن من أسباب الحرث، جعلهن حرثًا).

وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .

قال ابن عباس: (يأتيها كيف شاء، ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض). وقال عكرمة: (يأتيها كيف شاء، ما لم يعمل عمل قوم لوط). وقال الضحاك: (يقول: متى شئتم). وقال سعيد بن المسيب: (إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا).

قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بتفسير آفاق معنى هذه الآية، وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: [كانت اليهود تقول إذا جَامَعَها من ورائها جاء الولد أحْوَلَ، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}](1). وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج وسفيان الثوري عن ابن المنكدر. قال ابن جريج في الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج"(2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4528)، ومسلم (1435)، وأبو داود (2163)، والترمذي (2982)، وابن ماجة (1925)، وأخرجه أبو يعلى (258)، وغيرهم.

(2)

إسناده صحيح على شرط مسلم. انظر تخريج تفسير ابن كثير- المهدي. البقرة (223).

ص: 573

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند حسن عن بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيري، عن أبيه، عن جده أنه قال: يا رسول الله، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال:[حَرْثك، ائت حرثك أنّى شئت، غير أن لا تضربَ الوجه، ولا تُقَبِّح ولا تهجر إلا في البيت](1). وفي لفظ آخر: [ائت حرثك أنّى شئت، وأطعمها إذا طعمت، واكسها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه ولا تضرب].

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: [لما قدم المهاجرون المدينة على الأنصار تزوجوا من نسائهم، وكان المهاجرون يُجِبُّون، وكانت الأنصار لا تُجَبِّي (2)، فأراد رجل من المهاجرين امرأته على ذلك، فأبت عليه حتى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأتته فاستحيتْ أن تسأله، فسألته أم سلمة، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. وقال: لا، إلا في صمامٍ واحد](3).

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند حسن عن ابن عباس، قال:[جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هلكت، قال: وما الذي أهلكك؟ قال: حَوَّلْتُ رَحْلي البارحة، قال: فلم يردَّ عليه شيئًا. قال: . فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. "أَقْبِلْ وأَدْبِرْ واتَّقِ الدُّبُرَ والحَيْضَة"](4).

الحديث الخامس: أخرج أبو داود بسند حسن عن مجاهد، عن ابن عباس قال: [إن ابن عمر -والله يغفر له- أوْهَمَ وإنما كان أهل هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يَهودَ، وهم أهل كتاب، وكانوا يرَوْن لهم فَضْلًا عليهم في العِلم، فكانوا يقتدون بكثير من فِعْلِهم، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حَرْف، وذلك أستر ما تكون المرأةُ، فكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (2143)، وأحمد (5/ 5)، والنسائي (9160) في "الكبرى"، وانظر صحيح الجامع الصغير وزيادته (17) للرواية الثانية.

(2)

أجْبى الرجل امرأته: إذا أتاها وهي منكبة على وجهها.

(3)

حديث حسن. انظر مسند أحمد (6/ 305)، وكذلك (6/ 318)، وأخرجه الدارمي (1/ 256)، والترمذي (2979). وانظر الصحيح المسند من أسباب النزول- الوادعي. البقرة (223).

(4)

حديث حسن. أخرجه الترمذي -حديث رقم- (2980)، وأحمد (1/ 297). ولأصله شواهد.

ص: 574

من فِعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يَشْرَحُون النساء شَرْحًا مُنكرًا، ويتلذَّذون بهن مُقبلات ومُدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة، تَزَوَّجَ رجُلٌ منهم امرأةً من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، فشري أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد] (1).

قلت: ولا مانع من نزولها في جميع ما ذكر، فقد تتعدد أسباب النزول، وأما ما ورد عن ابن عمر أنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن فردّه العلماء، ولا يصح بأسانيده.

وأما أدبار النساء فقد جاء تحريم إتيانهن من أعجازهن بالأحاديث الصحيحة:

1 -

أخرج النسائي وأحمد بسند حسن عن خُزيمة بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[استحيوا، إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن](2). وفي لفظ: [لا تأتوا النساء في أدبارهن].

وفي لفظ آخر: [استحيُوا فإن الله لا يستحي من الحق، لا يحلُّ مأتى النساء في حشوشهِنّ](3).

2 -

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ملعون من أتى امرأة في دبرها](4). وفي حديث آخر: [ملعون من وقع على بهيمة، وملعون من عمل بعمل قوم لوط].

3 -

أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (2164)، والحاكم (2/ 279)، والطبري (4340)، والواحدي (142)، من طريق ابن إسحاق وقد صرح بالسماع عند الحاكم والبيهقي (7/ 195). ويشهد لهذا الحديث حديث أم سلمة- الحديث الثالث. وله شواهد أخرى.

(2)

حديث حسن. أخرجه النسائي في "الكبرى"(8982)، وأحمد (5/ 215)، ورواه ابن ماجة.

(3)

حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير (947) من حديث جابر، وكذلك (946).

(4)

حديث صحيح. انظر المرجع السابق- حديث رقم (5765)، ورقم (5767) للذي بعده.

ص: 575

رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضًا، أو أتى امرأة في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد](1).

وقوله: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} .

قال السدي: (فالخير). وقال ابن عباس: (يقول: "باسم الله"، التسمية عند الجماع). وقال القرطبي: (أي قدموا ما ينفعكم غدًا).

وقال ابن كثير: (أي: من فعل الطاعات مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك المحرمات).

واختار ابن جرير قول السدي، بتقديم الخير والصالح من الأعمال ليوم المعاد.

وفي التنزيل: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ

} [البقرة: 110].

قلت: ويمكن الجمع بين القولين: بتقديم الخير والعمل الصالح يوم المعاد، وتقديم ذكر الله عند الجماع ومقدمات إتيان الحرث قبل إتيانه.

ففي الصحيحين عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال: باسم الله اللهم جنِّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رَزَقْتَنا، فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولدٌ لم يضرّه شيطان أبدًا](2).

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} .

يعني: يوم الحساب فيجازيكم.

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إنكم ملاقو الله حُفاة عُراة مُشاةً غُرْلًا](3).

ورواه مسلم وأحمد وبعض أهل السنن، وفي لفظ:(ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ}).

(1) حديث صحيح. رواه أحمد، وأبو داود في السنن (3904). وغيرهما. انظر تخريج المشكاة (551)، وتخريج الإرواء (2066)، وصحيح الجامع (5818).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5165)، ومسلم (1434)، وأبو داود (2161)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6524)، كتاب الرقاق. وأخرجه مسلم برقم (2860)، ورواه أحمد في المسند (1/ 220)، وغيرهم.

ص: 576

وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . يعني بكرامة الآخرة، والخلود في الجنة.

قال القرطبي: (تأنيس لفاعل البر ومبتغي سنن الهدى).

224 -

225. قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى عباده كيف يتحللون من أيمانهم ويأتون الذي هو خير، فإن الاستمرار على اليمين آثمُ لصاحبها من الخروج منها بالتكفير، ومن ثم فإن الأيمان لا تمنع من البر وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم يخبر تعالى عباده أنه لا يؤاخذهم في لغو الأيمان وإنما فيما كان فيه تعقيد وتأكيد، إنه بعباده غفور حليم.

قال ابن عباس: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} : هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته ولا يتصدق، أو أن يكون بينه وبين إنسان مغاضبة فيحلف لا يُصلح بينهما ويقول:"قد حلفت". قال: يكفر عن يمينه: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ).

وقال إبراهيم: (يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين، فلا يمنعه يمينه).

وقال الربيع: (ذلك في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. فأمره الله أن يدع يمينه، ويصل رحمه، ويأمر بالمعروف، ويصلح بين الناس).

وفي التنزيل: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].

وأما السنة الصحيحة فقد حفلت بآفاق رائعة لهذه الآية الكريمة، فإلى ذكر بعض هذه الأحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 577

[مَنْ حلفَ على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خيرٌ وتَحلَّلْتُها](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري من حديث أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[والله لأَنْ يَلِجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يُعْطِيَ كفارته التي افترض الله عليه](3). وله شاهد في الباب بلفظ: [من اسْتَلَجَّ في أهله بيمين فهو أعظم إثمًا لِيَبَرَّ. يعني الكفارة].

ومفهوم الحديث: إن من يلج -من الإلجاج- وهو أن يقيم على يمينه ولا يحنث بها، (في أهله) الذين يتضررون بعدم حنثه، (آثم) يعني أكثر إثمًا من الحنث الذي يمحى بالكفارة.

الحديث الرابع: أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يا عبد الرحمن بن سمُرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإنْ أوتيتها من غير مسألة أعِنْتَ عليها، وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها فَكَفِّرْ عن يمينك وائت الذي هو خير](4).

وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

أي: يسمع حلف الحالف ويعلم مقصده.

وقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: (هي: "بلى والله" و"لا والله"). وقالت عائشة: (هو قول

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (1650)، وأحمد (2/ 361)، والترمذي (1530)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6623)، ومسلم (1649)، وأحمد (4/ 398)، وأكثر أهل السنن، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6625)، كتاب الأيمان والنذور. وانظر (6626) للشاهد بعده.

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6622)، الكتاب السابق. وانظر صحيح مسلم (1652)، ومسند أحمد (5/ 62)، ورواه أكثر أهل السنن.

ص: 578

الرجل: "لا والله" و"بلى والله"، ما لم يعقد عليه قلبه). ذكره ابن جرير بسنده إلى عطاء وعبيد بن عمير.

2 -

قال الشعبي: (هو الرجل يقول: "لا والله، وبلى والله"، يصل حديثه).

3 -

قال مجاهد: (الرجلان يتبايعان، فيقول أحدهما: "والله لا أبيعك بكذا وكذا"، ويقول الآخر: "والله لا أشتريه بكذا وكذا"، فهذا اللغو، لا يؤاخذ به).

4 -

قال ابن عباس: (واللغو: أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقًّا، وليس بحق).

5 -

قال مكحول: (اللغو الذي لا يؤاخذ الله به، أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق، فإذا هو فيه غير ذلك، فليس عليه فيه كفارة، وقد عفا الله عنه).

6 -

قال طاووس: (لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان). ذكره عن ابن عباس.

7 -

قال سعيد بن جبير: (لغو اليمين: أن يحلف الرجل على المعصية لله، لا يؤاخذه الله بإلغائها).

والخلاصة كما قال الحافظ ابن كثير: (أي: لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صَدَر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد).

وقد حفلت السنة الصحيحة بنحو هذا المعنى:

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} قالت: (أنزلت في قوله: لا والله، وبلى والله)(1).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من حلف فقال في حلْفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله](2).

وهذا في شأن قوم أسلموا وألسنتهم قد اعتادت على حلف الجاهلية من غير قصد، فأمروا بالتلفظ بكلمة التوحيد لتمحو أثر ما علق من أيام الجهل.

وفي سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيّب: أن أخوين من

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6663)، كتاب الأيمان والنذور. وانظر (4613) أيضًا.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4860)، (6107)، ومسلم (1647)، وأحمد (2/ 309).

ص: 579

الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدُهما صاحبَه القسمة، فقال: إن عُدْتَ تسألني عن القِسْمَةِ فكلُّ مالٍ لي في رِتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غَنيّةٌ عن مالِك، كَفِّرْ عن يمينك، وكلِّمْ أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك](1).

وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . يعني: ما تعمدت به الكذب.

قال مجاهد: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ما عقدت عليه). وقال: (وهي كقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}. وقال ابن عباس: (هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب). قال عطاء: (لا تؤاخذ حتى تُصْعِدَ للأمر، ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو، فتعقد عليه يمينك). وقال قتادة: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، يقول: بما تعمدت قلوبكم، وما تعمدت فيه المأثم، فهذا عليك فيه الكفارة).

وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .

أي: غفور لعباده ما لَغَوْا من أيمانهم، حليم في تركه معاجلة العصاة بعقوبتهم.

226 -

227. قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

في هذه الآيات: بيان حكم الإيلاء وما يلزم صاحبه من الفيئة أو الطلاق، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والله سميع عليم.

والإيلاء: الحلف والقسم. قال سعيد بن المسيب: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} : يحلفون).

والمقصود: حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة. فإذا حلف الرجل على ذلك فله مدة أقصاها أربعة أشهر، وعليها أن تَصْبِرَ، وليس لها مطالبته بالفَيئة في هذه المدة. فإن زاد الأمر عن أربعة أشهر فللزوجة حق المطالبة بالرجعة أو الطلاق. وللحاكم أو

(1) أخرجه أبو داود (3272)، والحاكم (4/ 300)، ورواه ابن حبان. ويشهد له حديث (3273) من سنن أبي داود. انظر صحيح أبي داود (2801)، (2802).

ص: 580

القاضي أن يجبره على اختيار أحد الأمرين، خشية الإضرار بالزوجة. قال ابن عباس:(كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقّت لهم أربعة أشهر).

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا، فنزل لتسع وعشرين، وقال:[الشهر تسع وعشرون](1).

وقوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} .

دليل عند الجمهور على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء.

وقوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} .

قال إبراهيم: (كل يمين منعت جماعًا حتى تمضي أربعة أشهر، فهي إيلاء).

فللزوج أن ينتظر أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يطالب بعدها بالفيئة أو الطلاق.

ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} . قال ابن عباس: (الفيء الجماع). وقال سعيد بن جبير: (لا عذر له حتى يغشى). والمقصود رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

قال الحسن: (إذا فاء فلا كفارة عليه)، فكفارته فيؤه. قلت: والراجح وجوب الكفارة لقوله عليه الصلاة والسلام فيما روى مسلم والنسائي وابن ماجة من حديث أبي هريرة: [من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه](2).

فالأولى لمن حلف ألا يطأ زوجته مدة دون الأربعة أشهر أن يكفر عن يمينه ويطأها. قال ابن عباس: (فإن هو نكحها كفر يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام).

ويكون حينئذ تأويل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أي: غفور للمولين فيما

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4268)، ومسلم (1479)، وأحمد (1/ 33)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1650)، ومسند أحمد (2/ 361)، وسنن الترمذي (1530)، وسنن النسائي (11/ 7)، وكذلك سنن ابن ماجة (2108). وصحيح الجامع (6208).

ص: 581

حنثوا فيه من إيلائهم بأن رجعوا وكفَّروا عن أيمانهم، رحيم بإسقاطه العقوبة عنهم.

وقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} .

دليل أن الطلاق لا يقع بمجرد انتهاء الأربعة أشهر. روى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: [إذا آلى الرجلُ من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يُوقف، فإما أن يُطَلِّقَ وإما أن يفيء].

ورواه البخاري عنه بلفظ: [إذا مضت أربعة أشهر يوقَفُ حتى يُطَلِّقَ ولا يقعُ عليه الطلاقُ حتى يُطلِّقَ](1). وهو مروي عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة وغيرهم.

وروى البخاري عن نافع: [أن ابن عمرَ رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمّى الله تعالى: لا يحلّ لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزِمَ بالطلاق كما أمر الله عز وجل](2).

فإن طلّق فالطلقة تكون رجعية، له رجعتها في العِدَّة. وهو قول مالك والشافعي.

روى مالك في الموطأ عن عمرو بن دينار، قال: [خرج عمر بن الخطاب من الليل، فسمع امرأة تقول:

تطاولَ هذا الليلُ واسْوَدَّ جانِبُه

وأرَّقني أنْ لا خليلَ ألاعِبُه

فوالله لولا الله أني أراقِبُه

لَحُرِّكَ من هذا السرير جوانِبُهْ

فسأل عمرُ ابنته حفصة رضي الله عنها: كم أكثرُ ما تصبرُ المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر، أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبسُ أحدًا من الجيوش أكثرَ من ذلك].

وقد ذكره الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر، وهو من المشهورات، ورواه محمد بن إسحاق من حديث السائب بن جبير مولى ابن عباس قريبًا مما سبق، وذكره بطوله الحافظ ابن كثير في التفسير.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

قال أبو حنيفة: (سميع لإيلائه، عليم بعزمه الذي دلّ عليه مضيّ أربعة أشهر) - ذكره

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5291)، كتاب الطلاق. وانظر تخريج الإرواء (2080).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5290)، كتاب الطلاق.

ص: 582

القرطبي. وقال ابن جرير: (سميع لطلاقهم إياهن إن طلقوهن، عليم بما أتوا إليهن، مما يحل لهم ويحرُم عليهم).

228.

قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} .

في هذه الآية: تشريع الله سبحانه للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء بتربص ثلاثة قروء ثم تتزوج بعد ذلك إن شاءت، ووجوب الإخبار بدقة وأمانة عن الرحم بحقيقة ما فيه، وتأكيد حق الزوج الذي طلّق بِرَدِّ زوجته ما دامت في عدتها، ووجوب العشرة بالمعروف.

واختلف المفسرون في المقصود من "القرء" على قولين:

1 -

الحيض. عن مجاهد: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، قال: حِيَضٍ).

وقال الربيع: (تعتد ثلاث حِيض). وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، والثوري.

2 -

الطهر. عن الزهري، عن عائشة قالت:(الأقراء الأطهار). وقال زيد بن ثابت: (إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلّت للأزواج). وهو مذهب مالك والشافعي وأبي ثور، ورواية عن أحمد.

روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت: [انتقلتْ (1) حفصةُ بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال الزهري: فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة، وقد جادلها

(1) انتقلت: أى تحولت حين بدأت في الحيضة الثالثة، والشاهد أن المعتبر عند عائشة رضي الله عنها في القروء الطهر لا الحيض.

ص: 583

في ذلك ناس فقالوا: إن الله تعالى يقول في كتابه: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار].

قال ابن جرير: (وأصل القرء في كلام العرب: الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم).

قلت: والراجح أن القرء هو الحيضة، لثبوت ذلك من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ففي صحيح سنن أبي داود عن عائشة: [أن أم حبيبة كانت تستحاض، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها](1).

وروى عن عائشة موقوفًا: [المستحاضة تترك الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل]. ثم روى عن أبي جعفر: [أن سودة استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا مضت أيامها اغتسلت وصلت، "المستحاضة تجلس أيام قرئها"](2).

وقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} .

قال مجاهد: (الحمل والحيض).

وقوله: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

وعيد شديد لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب لأداء الأمانة في الإخبار عن الرحم بحقيقة ما فيه، فسبيل المؤمنات ألا يكتمن الحق.

ووجه ذلك: لما كان لا اطلاع على أمر الحيض والأطهار -من أجل العدة- إلا من جهة النساء، جُعل القول قولها إذا ادّعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلن مؤتمنات على ذلك. قال القرطبي:(ومعنى النهي عن الكتمان النهيُ عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حِضت، وهي لم تحض، ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحض، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألا تُرتَجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لتقطع حقه من الارتجاع. قال قتادة: كانت عادتهنّ في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليُلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية).

(1) صحيح لغيره. انظر صحيح سنن أبي داود (252)، (253)، وأصله في صحيح مسلم.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (257)، وكذلك (254) لحديث عائشة قبله.

ص: 584

وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} .

قال قتادة: (أحق برجعتهن في العدة). والمقصود: أن الزوج الذي طَلَّقَ زوجته أحقّ بردها ما دامت في عدتها، إذا كان يبغي في ذلك الإصلاح والخير.

وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

قال ابن كثير: (أي: ولهن على الرجال من الحق مثلُ ما للرجال عليهن، فليؤد كلُّ واحدٍ منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف).

قلت: ويشمل ذلك أداء الرجل لزوجته ما أمره الله به من حسن الصحبة والنفقة والعشرة بالمعروف، مقابل ما أمرها الله به أن تؤديه من الطاعة وحسن القيام على حقه وخدمته ورعاية شؤون بيته وولده. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع:[فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يُوطِئْن فُرُشَكُم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهنّ رزقهن وكسوتهن بالمعروف](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند حسن عن بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدَة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: [يا رسول الله، ما حقُ زوجة أحدنا؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تُقَبِّح، ولا تَهْجُرْ إلا في البيت](2).

الحديث الثالث: يروي الطحاوي في "المشكل" بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي](3).

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد وابن ماجة بسند صحيح عن عبد الله بن أبي أوفى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر، وهو جزء من حديث طويل.

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (2143)، وأحمد (5/ 5)، والنسائي (9160) في"الكبرى".

(3)

صحيح الإسناد. رواه الطحاوي في "المشكل"(3/ 211) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في "آداب الزفاف"(40).

ص: 585

حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قَتب لم تمنعه نفسها] (1).

الحديث الخامس: أخرج ابن أبي شيبة والنسائي بإسناد صحيح عن حصين بن محصن قال: [حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة فقال: أي هذه! أذات بعل؟ قلت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه (2) إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك](3).

والخلاصة: إن للنساء على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فلا بد أن يؤدي كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، وقد تألق فهم السلف الصالح لهذه الآية فعاملوا زوجاتهم برفيع المعاملة، حتى إن ابن عباس كان يقول:(إني لأحبُّ أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة، لأن الله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}) - رواه ابن جرير عن وكيع عن بشير بن سليمان عن عكرمة عن ابن عباس.

وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} .

فيه أقوال:

1 -

قال مجاهد: (فَضْلُ ما فضله الله به عليها من الجهاد، وفَضْل ميراثه على ميراثها، وكل ما فُضِّلَ به عليها).

2 -

قال ابن زيد: ({وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}: طاعة، قال: يطعن الأزواج الرجال، وليس الرجال يطيعونهن).

3 -

قال الشعبي: (بما أعطاها من صداقها، وأنه إذا قذفها لاعنَها، وإذا قذفته جُلدت وأُقِرَّتْ عنده).

4 -

وقال حميد: ({وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال: لحية). وقيل غير ذلك، كما فصّل ابن جرير.

(1) حديث صجح. رواه ابن ماجة (1/ 570)، وأحمد (4/ 381)، وانظر السلسلة الصحيحة (173).

والقَتب والقِتب هو الرحل الصغير على قدر السنام. والمراد حملهن على المسارعة لتلبية رغبة أزواجهن، وأنه لا يسعهن الامتناع في مثل هذه الحال، فكيف في غيرها.

(2)

أي: لا أقصر في طاعته وخدمته.

(3)

حديث صحيح. رواه ابن أبي شيبة (7/ 47/ 1) والنسائي في "عشرة النساء"، وأحمد في المسند (4/ 341) من حديث حصين بن محصن عن عمته رضي الله عنها.

ص: 586

قلت: والراجح أنها عامة في أشياء كثيرة، فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته وبالإنفاق وبالدية والميراث والجهاد والصداق وطاعة الأمر والقيام بالمصالح وتلبيته إلى فراشه وغير ذلك.

ففي التنزيل: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ

} [النساء: 34].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أيّما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح](1).

وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

أي: منيع السلطان لا معترض عليه، حكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه، فهو عالم مصيب فيما يفعل ويشرع.

229 -

230. قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}.

في هذه الآيات: إثبات أن الطلاق مرتان، وتحريم المضايقة والظلم في ذلك، وتحريم نكاح الرجل مطلقته المبتوتة إلا بعد نكاحها غيره ثم مفارقتها مفارقة رغبة.

يروي ابن جرير بسنده إلى ابن زيد قال: (كان الطلاق -قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا- ليس له أمد، يطلق الرجل امرأته مئة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحلّ، كان ذلك له. وطلق رجلٌ امرأته، حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها. ثم استأنف بها طلاقًا بعد ذلك ليضارّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها. وصنع ذلك مرارًا،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (3237) و (5293)، ومسلم في الصحيح (1436)، وأبو داود في السنن (2141).

ص: 587

فلما علم الله ذلك منه جعل الطلاق ثلاثًا: مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان).

فكانت هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر أول الإسلام، من أن الرجل أحق برجعة امرأته، وإن طلقها مئة مرة ما دامت في العدة، فقصر الله الطلاق على ثلاث طلقات دفعًا للضرر عن المرأة، فأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال جل ذكره:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .

أخرج أبو داود بسند حسن عن ابن عباس: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}

الآية: وذلك أن الرجل كان إذا طلّق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} .. الآية] (1).

وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .

قال ابن عباس: (إذا طلّق الرجل امرأته تطليقتين، فليتّق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يُسَرِّحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا).

والمقصود أن الزوج مخيّر فيها إذا طلقها واحدة أو اثنتين، ما دامت عِدّتها باقية، إما يردّها لنفسه يريد الإصلاح أو يتركها حتى تنقضي عدتها، فتبيق منه فيطلق سراحها محسنًا إليها.

وقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} .

قال ابن كثير: (أي: لا يحل لكم أن تُضَاجِروهُنَّ وتضيّقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهُنَّ من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ

} [النساء: 19]، فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها، فقد قال تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، ولهذا قال تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}

الآية).

(1) إسناده حسن. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (2195)، ورجاله ثقات.

ص: 588

قلت: وأما إن كان بغضها له عن هوى، دون سبب شرعي تقوم به الحجة، ففي سؤالها له الطلاق مخالفة شرعية تستوجب الوعيد الشديد. وقد جاءت السنة الصحيحة بذلك في أحاديث كثيرة، منها:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند حسن عن ثوبان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة](1).

الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند صحيح عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ المختلعات والمنتزعات هُنَّ المنافقات](2).

الحديث الثالث: أخرج أبو نعيم في الحلية بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المختلعات والمتبرجات هنّ المنافقات](3).

وله شاهد صحيح أخرجه البيهقي عن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [خير نسائكم الودودُ الولودُ، المواتيةُ، المواسية، إذا اتّقَيْنَ الله، وشرُّ نسائكم المُتَبرِّجاتُ المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهق إلا مثلُ الغراب الأعصم](4).

والأعصم: هو أحمر المنقار والرجلين، وهو كناية عن قلة من يدخل الجنة من النساء، لأن هذا الوصف في الغربان قليل، ويدل على هذا الشاهد الثاني:

أخرج الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، بسند صحيح عن عمارة بن خزيمة قال: بينا نحن مع عمرو بن العاص في حج أو عمرة، فإذا نحن بامرأة عليها حبائر لها -يعني أسورة- وخواتيم، وقد بسطت يدها على الهودج، فقال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشِعب إذ قال: انظروا! هل ترون شيئًا؟ فقلنا: نرى غربانًا فيها غراب أعصم، أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 277)، والترمذي (1187)، وقال: حديث حسن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني في الكبير، والطبري في التفسير. انظر صحيح الجامع (1934).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 376) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (632).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البيهقي في "السنن"(7/ 82) من حديث أبي أذينة الصدفي رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1849).

ص: 589

الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب في الغربان] (1).

وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .

ترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها، وسوء طاعتها إياه. قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء. وقال الحسن بن أبي الحسن:(إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرًا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أبرّ لك قسمًا، حل الخلع). وقال الشعبي: {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} ألا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة). وقال عطاء بن أبي رباح: (يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها: إني أكرهك ولا أحبك، ونحو هذا {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس: [أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خُلُق ولا دين، ولكن لا أطيقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم](2).

وأخرجه ابن ماجة بسند جيد من حديث عكرمة عن ابن عباس: [أن جميلة بنت سَلُول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خُلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقهُ بغضًا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد](3).

وأخرجه الإمام مالك في الموطأ: [عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، أنها أخبرته عن حَبيبة بنت سهل الأنصارية، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصُّبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغَلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنتُ سهل. فقال: ما شأنك؟ فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس -لزوجها-، فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر. فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 197)، والحاكم (4/ 602)، وانظر المرجع السابق (1850).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5273)، (5274)، (7276)، والنسائي (6/ 169)، والبيهقي (7/ 313) من حديث ابن عباس، ورواه ابن ماجة بلفظ قريب.

(3)

حديث إسناده جيد. أخرجه ابن ماجة في السنن (2056) بهذا اللفظ من حديث ابن عباس.

ص: 590

خُذْ منها. فأخذ منها وجلست في أهلها] (1).

وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس وزوجته، وروى بسندٍ حسن عن عَمْرة، عن عائشة:[أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاس، فضربها فكسر بعضها -وفي رواية أبي داود: نُغْصَها (2) -، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتًا، فقال: خُذْ بعض مالها وفارقها. قال: ويصلحُ ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فإني أصدَقْتُها حديقتين، فهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذهما وفارقها. ففعل](3).

وقد روى ابن جرير نحوه من حديث جميلة -وهي حبيبة نفسها بالاسم المشهور-: [أنها كانت تحت ثابت بن قيس، فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا جميلة، ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينًا ولا خُلُقًا، إلا أني كرِهْتُ دمامته! فقال لها: أتردين الحديقة؟ قالت: نعم. فردّت الحديقة، وفرَّق بينهما](4).

ويبدو أنّ ذلك كان أول خُلْعٍ في الإسلام، كما ذكر ابن عباس وغيره.

فقد أخرج ابن جرير بسنده عن أبي جرير، أنه سأل عكرمة: هل كان للخُلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: [إن أول خُلْعٍ كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبيّ، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا، إني رفعتُ جانب الخباء، فرأيته قد أقبل في عِدّة، فإذا هو أشدّهم سوادًا، وأقصرهم قامةً، وأقبحهم وجهًا. فقال زوجها: يا رسول الله، إني قد أعطيتها أفضل مالي، حديقةً لي. فإن ردَّت علي حديقتي. قال: ما تقولين؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته. قال: ففرّق بينهما](5).

فائدة (1): الراجح أن الخلع ليس بطلاق، وإنما هو فسخ.

(1) حديث صحيح. أخرجه مالك في الموطأ (2/ 564)، وأحمد في المسند (6/ 433)، وأبو داود في السنن حديث رقم- (2227)، وغيرهم.

(2)

النُّغْصُ: أعلى الكتف، وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه.

(3)

إسناده حسن. أخرجه أبو داود (2227)، والطبري (4812) ورجاله ثقات.

(4)

إسناده حسن. أخرجه الطبري في التفسير (4814)، رجاله ثقات، وله شواهد وطرق.

(5)

حديث حسن. أخرجه ابن جرير في التفسير (4811)، ورجاله ثقات، وله شواهد وطرق.

ص: 591

قال الشافعي: (وأخبرنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق). وقال الشافعي: (اختلف أصحابنا في الخُلْع، فأخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت بعد منه: يتزوجها إن شاء الله، لأن الله تعالى يقول: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} قرأ إلى {أَنْ يَتَرَاجَعَا}).

قال ابن كثير: (وروى غير الشافعي، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس: أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال: رجل طلّق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال: فعم، ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء، ثم قرأ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. وقرأ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}). وهو المأثور (1) عن عثمان بن عفان، وابن عمر. وهو قول طاووس، وعكرمة، وبه يقول أحمد بن حنبل، والشافعي في القديم.

قال ابن القيم رحمه الله: (والذي يدل على أنه ليس بطلاق: أن الله سبحانه وتعالى رتّب على الطلاق بعد الدخول الذي لم يستوف عدده ثلاثة أحكام، كلها منتفية عن الخلع:

أحدها: أن الزوج أحق بالرجعة فيه.

الثاني: أنه محسوب من الثلاث، فلا تحل بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة.

الثالث: أن العدة فيه ثلاثة قروء.

وقد ثبت بالنص والإجماع أنه لا رجعة في الخلع. وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة. وثبت بالنص جوازه بعد طلقتين، ووقوع ثالثة بعده. وهذا ظاهر جدًّا في كونه ليس بطلاق، فإنه سبحانه قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ

} [البقرة: 229].

وهذا وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين، فإنه يتناولها وغيرها، ولا يجوز أن يعود الضمير إلى من لم يُذكر، ويُخلى منه المذكور، بل إما أن يختص بالسابق أو يتناوله

(1) المقصود أن الخلع فسخ وليس بطلاق. انظر تفسير ابن كثير- سورة البقرة (229).

ص: 592

وغيره، ثم قال:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} وهذا يتناول من طلقت بعد فدية وطلقتين قطعًا لأنها هي المذكورة، فلا بد من دخولها تحت اللفظ، وهكذا فهم ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الله التأويل، وهي دعوة مستجابة بلا شك. وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق، دلّ على أنها من غير جنسه، فهذا مقتضى النص، والقياس، وأقوال الصحابة) (1).

فائدة (2): عدة المختلعة حيضة واحدة.

ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد -في الرواية المشهورة عنه- إلى أن عدة المختلعة عدة المطلقة بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض، والسبب أنهم رأوا الخلع طلاقًا.

والصحيح أن الخلع فسخ ويلزمه حيضة واحدة للعدة، وقد ثبت هذا في التحقيق: فقد أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن عن ابن عباس: [أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتدَّ بحيضة](2).

وأخرج الترمذي بسند جيد عن الرُّبيِّع بنت مُعوِّذ بن عفراء: أنها اختلعَتْ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أُمِرَت- أن تعتدَّ بحيضة] (3).

وله شاهد عند ابن ماجة عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن الرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْراء قال: قلت لها: حدثيني حديثَك. قالت: [اختلعتُ من زوجي، ثم جئت عثمان، فسألت عثمان: ماذا عليَّ من العدة؟ قال: لا عِدَّة عليك، إلا أن يكون حديث عهد بك، فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة. قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَرْيمَ المَغَالِيَّة، وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه](4).

وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

المقصود: تعظيم شرائع الله التي ذكرها، والوقوف عند حدودها وعدم تجاوزها.

(1) انظر زاد المعاد (5/ 199).

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (2229)، والترمذي (1185)، ورجاله ثقات.

(3)

إسناده جيد. أخرجه الترمذي (1185)، وقال: الصحيح أنها أُمرت أن تعتدَّ بحيضة.

(4)

إسناده جيد. أخرجه النسائي (6/ 186)، وابن ماجة (2058)، ورجالهم ثقات.

ص: 593

أخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله فرض فرائضَ فلا تُضَيّعوها، وحرَّم حُرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها](1).

وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .

أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أنس بن مالك: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثًا، فتزوجت بعده رجلًا، فطلّقها قبل أن يدخل بها: أتحِلّ لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، حتى يكون الآخر قد ذاق من عُسَيْلَتِها وذاقت من عُسَيْلَتِه](2).

والمقصود: لا بد لمن طلق امرأته طلقة ثالثة أنها قد حرمت عليه حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح، ودخول بها.

وفي الصحيحين عن عائشة: [أن رجلًا طَلّقَ امرأته ثلاثًا، فتزوجت زوجًا، فطلقها قبل أن يَمَسَّها، فَسُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحلُّ للأول؟ فقال: لا، حتى يذوق من عُسَيْلتها كما ذاق الأول](3).

وأخرج أبو داود من طريق أخرى عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طَلّقَ امرأته، فتزوّجت رجلًا غيره، فدخل بها ثم طلّقها قبل أن يواقِعَها: أتحِلُّ لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق عُسَيْلتها وتذوق عُسَيْلته](4).

فإن امتنع الرجل -الزوج الثاني- من جماعها فلا يغيّر ذلك من المسألة شيئًا، إذ لا يجوز لها الرجوع للزوج الأول حتى يطلقها الزوج الثاني بعد الدخول بها.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة: [أنّ رفاعة القُرَظي تزوّج امرأة ثم طلقها، فتزوجت آخر فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مِثْلُ

(1) حسن بشاهده. أخرجه الدارقطني ص (502) ورجاله ثقات. انظر تخريج أحاديث مشكاة المصابيح (197)، كتاب الإيمان، باب الاعتصام بالكتاب والسنة.

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 284)، وأبو يعلى (4199)، ورواه الطبراني وغيره.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5261)، ومسلم (1433)، وأحمد (6/ 193)، وغيرهم.

(4)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2309)، والنسائي (6/ 146)، وأحمد (6/ 42)، وغيرهم.

ص: 594

هُدْبة الثوب، فقال: لا، حتى تذوقي عُسَيْلته ويذوق عُسيلتك] (1).

ورواه أحمد عنها بلفظ: [دخلت امرأة رفاعةَ القُرَظي، وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن رفاعة طَلَّقني البتَّة، وإن عبد الرحمن بن الزُّبير تزوَّجني، وإنَّ ما عنده مثل الهُدْبَة، وأخَذَتْ هُدْبَة من جلبابها -وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له- فقال: يا أبا بكر، ألا تنهى هذه عما تَجْهَرُ به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التَّبَسُّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عُسَيْلته ويذوق عسيلتك](2).

قلت: وقد ذمّ الله التلاعب بهذا الحكم ولعن من كان قصده من النكاح المؤقت أن يعيدها للأول، فإن اشترك الأول بذلك الاحتيال أصابه اللعن أيضًا، إذ لا بد من الزوج الثاني أن يكون راغبًا في المرأة، قاصدًا لدوام عشرتها، كما هو مقصود التزويج.

فقد أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لعن الله المُحَلِّلَ والمُحَلَّل له](3).

وله شاهد في سنن النسائي من حديث الحارث الأعور، عن عبد الله بن مسعود قال:[آكل الربا ومُوكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به، والواصلة والمستوصلة، ولاوي الصدقة والمعتدي فيها، والمرتد على عقبيه أعرابيًا بعد هجرته، والمحلِّل والمحلِّل له، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة](4).

وأخرج الحاكم في المستدرك بسند حسن عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: [جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طَلَّق امرأته ثلاثًا، فتزوّجَها أخ له من غير مؤامرة منه لِيُحِلَّها لأخيه، هل تحلُّ للأول؟ فقال: لا، إلا نكاح رَغْبَةٍ، كنا نَعُدُّ هذا سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم](5).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5317)، كتاب الطلاق. باب: إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوَّجت بعد العِدَّة زوجًا غيره فلم يمسِّها. وانظر حديث رقم (2639) منه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (6/ 34)، وانظر صحيح البخاري (2639)، وصحيح مسلم (1433). من حديث امرأة رفاعة القرظي رضي الله عنه.

(3)

حسن بشواهده. أخرجه أحمد (1/ 450 - 451)، وانظر سنن الترمذي (1120).

(4)

حديث حسن. أخرجه النسائي في "الكبرى"(8719)، (9389)، وأحمد (1/ 409).

(5)

حديث حسن. أخرجه الحاكم (2/ 199)، والبيهقي (7/ 208)، ورواه الطبراني. وإسناده حسن.

ص: 595

وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن عمر أنه قال: (لا أوتى بِمحلِّل ولا محلَّلٍ له إلا رجمتهما). وروى البيهقي عن سليمان بن يسار: (أن عثمان بن عفانَ رُفِعَ إليه رجل تزوّج امرأة لِيُحِلَّها لزوجها، ففرّق بينهما) ذكرهما الحافظ ابن كثير.

وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} .

أي: الزوج الثاني رغبة منه بذلك بعد دخوله بها كما نكحها رغبة منه بالنكاح، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} أي: المرأة والزوج الأول بعقد ومهر جديدين. قال ابن عباس: (إذا تزوجت بعد الأول فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها، فقد حلّت له).

وقوله: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} .

قال مجاهد: (إن ظنا أن نكاحهما على غير دُلْسَةٍ). وقال ابن كثير: (أي: يتعاشرا بالمعروف). وهو قول طاووس: (إن ظنا أن كل واحد منهما يُحسن عشرة صاحبه). وقيل: حدود الله فرائضه. وقيل: يدخل في ذلك خدمة المرأة زوجها وقيامه بالنفقة والرعاية. قال القرطبي: (وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا -يعني أمر خدمة المرأة زوجها-، ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصّرن في ذلك، ويأخذونهن بالخدمة، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهنّ ذلك).

قلت: ومما يؤيد وجوب خدمة المرأة زوجها وبيته وذريته بالمعروف، ما أخرج النسائي في "عشرة النساء"، وأحمد في المسند بسند صحيح عن حصين بن محصن قال:[حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة فقال: أي هذه! أذات بعل؟ قلت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه (1)، إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك](2).

وقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} .

أي: شرائعه وفرائضه وأحكامه. {يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: يوضحها لأهل العلم.

(1) أي لا أقصر في طاعته وخدمته والقيام على أمره.

(2)

حديث صحيح. أخرجه النسائي في "عشرة النساء"، وأحمد (4/ 341)، والبيهقي (7/ 291).

ص: 596

قال القرطبي: (وإنما قال: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده. والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال).

231.

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} .

في هذه الآية: النهي عن الإضرار بالزوجة حالة الطلاق، والأمر بذكر نعمة الله وما أنزل من الكتاب والحكمة، والحث على التقوى فهي عماد الفلاح.

قال مجاهد: (نهى الله عن الضرار، أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل، حتى يفي لها تسعة أشهر، ليضارها به).

وقال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية: (هذا أمر من الله عز وجل للرجال، إذا طلَّق أحدهم المرأة طلاقًا له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عِدَّتُها، ولم يبْقَ منها إلا مقدار ما يُمكنه فيه رجْعَتُها، فإما أن يُمسكَها، أي يرتجعها إلى عِصْمَةِ نكاحه بمعروف، وهو أن يُشْهِدَ على رجعتها، وينوي عِشْرَتَها بالمعروف، أو يسرِّحَهَا، أي يتركها حتى تنقضي عِدَّتها ويُخْرِجُها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شِقاق ولا مخاصمة ولا تقابُح).

وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} .

إنكار لما كانوا عليه أيام الجاهلية في شأن الطلاق. قال ابن عباس: (كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارُّها ويعضُلها، فأنزل الله هذه الآية). وقال الضحاك: (هو الرجل يطلق امرأته واحدة ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، ليضارها بذلك، لتختلع منه).

ومقصود الرجل بذلك أن يضرها لئلا تذهب لغيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول علمها العدة، وهذا هو الضرر الذي نهى الله عنه وتوعد

ص: 597

فاعله بقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . قال ابن جرير: (يعني: فأكسبها بذلك إثمًا، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك).

وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} .

يعني: أحكامه وشرائعه وأمره ونهيه. أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاث جِدُّهن جدّ، وهَزْلُهُنَّ جدّ: النكاح والطلاق والرجعة](1).

وروي عن علي وابن مسعود: (ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد: النكاح والطلاق والعتاق).

وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .

أي: بالإسلام، وبيان الأحكام، وترك أمور الجاهلية.

وقوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} .

قال القرطبي: (والحكمة: هي السنة المبيِّنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرادَ الله فيما لم ينص عليه في الكتاب).

وقوله: {يَعِظُكُمْ بِهِ} .

أي: يخوفكم مغبة المخالفة والمعصية.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

أمر بمراقبة الله سبحانه في السر والعلانية وتعظيم شرعه ودينه، فإنه لا يخفى عليه شيء من أموركم وسيحاسبكم بها يوم ترجعون إليه.

232.

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجة (2039).

ص: 598

أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}.

في هذه الآية: النهي عن التضييق على المطلقات بمنعهن من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد.

أخرج البخاري في صحيحه عن معقل بن يسار قال: [كانت لي أختٌ تُخْطَبُ إليَّ. وعن الحسن: أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجُها، فتركها حتى انقضت عِدَّتُها فخطبها، فأبى مَعْقِلٌ، فنزلت: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}](1).

قال ابن عباس: (كان الرجل يطلق امرأته فتبين منه وينقضي أجلها، ويريد أن يراجعها وترضى بذلك، فيأبى أهلها، قال الله تعالى ذكره:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} ذكره ابن جرير.

وقوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} :

يعني: لا تضيّقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد، تبتغون بذلك مُضَارّتهن.

وقوله: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

يعني: هذا النهي عن عضل النساء في عودتهن لأزواجهن بعقد ومهر جديدين إنما يوعظ به من كان يؤمن بشرع الله ويخاف عذابه.

وقوله: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ}

قال ابن كثير: (أي: اتباعكم شرْعَ الله في ردّ المولياتِ إلى أزواجهن، وترك الحمِيّة في ذلك، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم).

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

يعني بذلك الحكمة من الأمر والنهي التي لا يعلمها إلا هو، فلا يظهر على كامل مصالح التشريع إلا الله عز وجل.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4529)، (4330)، وأبو داود (2087)، والترمذي (2981).

ص: 599

233.

قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)} .

في هذه الآية: يخبر سبحانه وتعالى عباده عن المدة المثلى للرضاعة، فيرشد الوالدات أن يرضعن أولادهن كمال المدة، وهي سنتان. وعلى الوالدِ رزق المرضع والكسوة بالمعروف، وعلى وارث المولود ما كان على الوالدِ من أجر الرضاع، إذا كان الوالد لا مال له، ولا حرج عليكم في استرضاع أولادكم خشية الضياع.

قال ابن عباس: (فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم قال: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده). وكان ابن عمر وابن عباس يقولان: (لا رضاع بعد الحولين).

أخرج الترمذي بسند جيد عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام](1).

وله شاهد عن ابن ماجة من حديث الزبير بلفظ: [لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء].

وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال: [لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ له مُرضعًا في الجنة](2). يعني تكمل له رضاعه، وذلك أن إبراهيم - ابن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وله سنة وعشرة أشهر.

وعند الدارقطني موقوفًا على ابن عباس: [لا يُحَرّم من الرضاع إلا ما كان في

(1) إسناده جيد. أخرجه الترمذي (1152). باب ما جاء أن الرضاعة لا تُحَرمُ إلا في الصغر دون الحولين، وانظر صحيح الجامع الصغير (7372) من أجل الشاهد بعده.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1382)، وأحمد (4/ 300)، وابن حبان (6949)، وغيرهم.

ص: 600

الحولين] (1). وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومالك في رواية عنه.

وأما رضاع الكبير فقد جاء في حادثة عين، وهي في شأن سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه، وكان كبيرًا، يُحتاج لدخوله وخدمته المستمرة، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة.

ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت: [جاءت سَهْلَةُ بنتُ سُهَيْلٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله! إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالِمٍ -وهو حَلِيفُهُ- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه. قالت: وكيف أُرْضِعُهُ؟ وهو رجل كبير، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمتُ أنه رجل كبير](2).

وفي رواية: [قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلامُ الأيْفَعُ الذي ما أُحِبّ أن يدخل عليَّ. فقالت عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوَةٌ حسنة؟ قالت: إنّ امرأةَ أبي حذيفةَ قالت: يا رسول الله! إن سالمًا يدخُلُ عليَّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى يدخُلَ عليك].

وقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

قال سفيان: (على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف). وقال الضحاك: (إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدًا، فتراضيا على أن تُرضع حولين كاملين، فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة، لا تُكلف نفسًا إلا وسعها).

والمقصود أن على والد الطفل النفقة على الوالدات وكسوتهن بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن دون إسراف وإقتار، وهو مفهوم قوله:{بِالْمَعْرُوفِ} .

وفي التنزيل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7].

وقوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} . قال سفيان: (إلا ما أطاقت).

(1) حديث موقوف في حكم المرفوع، أخرجه الدارقطني (4/ 174)، ومالك (2/ 602).

(2)

حديث صحيح. رواه مسلم (1453) في الرضاع، باب رضاعة الكبير. وسالم هو سالم بن عبيد بن ربيعة تبناه أبو حذيفة على عادة العرب. ولما نزل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} بطل حكم التبني فشق عليهما أن يمنعاه من الدخول لسابق الألفة، فسألته سهلة ذلك.

ص: 601

وقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}

قال مجاهد: (لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه، ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزُنَها).

وقال قتادة: (نهى الله تعالى عن الضِّرار وقدَّم فيه، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان مسترضِعًا به غيرها، ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارًا). وقال الضحاك: (لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيًّا، أو إلى عصبته إذا كان الأب ميتًا. ولا يضارّ الأبُ المرأةَ إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينزعه).

وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} .

قال قتادة: (على وارث المولود ما كان على الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الوالد لا مال له، على الرجال والنساء على قدر ما يرثون).

أخرج أبو داود وأحمد بسند حسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ ملكَ ذا رحِم مَحْرَمٍ فهو حرّ](1). وفي لفظ: [عُتِقَ عليه].

مما يدل على وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض في العسر والضيق، وهو مذهب الجمهور.

وقوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} .

قال مجاهد: (التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى). والمقصود بالفصال: فصال ولدهما من اللبن. قال السدي: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} ، يقول: إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين). وفي التنزيل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6].

وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .

يعني: كما قال ابن جرير: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم مراضعَ غير أمهاتهم،

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3342)، وصحيع سنن ابن ماجة (2046)، ومسند أحمد (5/ 15).

ص: 602

إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر، أو من خيفة ضيْعة منكم على أولادكم بانقطاع ألبان أمهاتهم، أو غير ذلك من الأسباب، فلا حرج عليكم في استرضاعهن، إذا سَلَّمتم ما آتيتم بالمعروف).

وقوله: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .

قال السدي: (إن قالت - يعني الأم -: "لا طاقة لي به، فقد ذهب لبني"، فسترضع له أخرى، وليسلَّم لها أجرها بقدر ما أرضعت).

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

أمر بالرجوع في كل الأحوال إلى سرّ النجاة وأصل القبول وهو التقوى، فإن الله لا تخفى عليه خافية.

234.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)} .

في هذه الآية: بيان الله تعالى عدّة المتوفى عنها زوجها، وهي أربعة أشهر وعشر ليال.

قال ابن عباس في هذه الآية: (فهذه عدة المتوفّى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملًا، فعدتها أن تضع ما في بطنها).

ولا شك أن اعتداد المرأة المتوفى عنها زوجها - أربعة أشهر وعشر ليال - يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، لعموم هذه الآية ولثبوت ذلك في السنة الصحيحة.

فقد أخرج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عتبة بن مسعود: [أن عبد الله بن مسعود أُتي في رجل - بهذا الخبر -: (في رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق). فقال: لها الصداق كاملًا، وعليها العدة، ولها الميراث. فقال معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى به في بَزوَعَ بنتِ واشق].

ص: 603

وفي رواية: [فاختلفوا إليه شهرًا، أو قال: مرات، قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقًا كصداق نسائها، لا وَكْسَ، ولا شَطَطَ، وإنّ لها الميراث، وعليها العدة، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان. فقام ناس من أشجع فيهم الجراح، وأبو سنان فقالوا: يا ابن مسعود! نحن نشهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا، في بَروعَ بنتِ واشق، وإن زوجها هلال بن مرة الأشجعي، كما قضيت. قال: ففرح عبد الله بن مسعود فرحًا شديدًا حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم](1).

ويستثنى في هذه العدة المذكورة بالآية: الأمَةُ والحامل.

فإن الزوجة إذا كانت أمة، فإن عِدَّتها حيضة. قال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور:(عدتها حيضة)، وهو قول ابن عمر. فإن قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} قد علّق وجوب ذلك بكون المتربصة زوجة، فدل على أن الأمة بخلافها. ثم إن الأمة موطوءة بمِلْك اليمين فكان استبراؤها بحيضة.

فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبي أوطاس: [لا توطأ حامل حتى تضمع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة](2).

وأخرج البخاري تعليقًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [إذا وهبت الوليدة التي توطأ، أو بيعت، أو عتقت، فليستبرأ رحمها بحيضة، ولا تستبرأ العذراء](3).

وأما الحامل فعدتها بوضع الحمل. قال تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . فإن وضعت ولو بعد لحظة فقد انقضت عدتها. وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربَّصَ بأبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الآيتين.

وقد ثبت انقضاء العدة بوضع الحمل في السنة الصحيحة: فقد أخرج البخاري ومسلم عن المسور بن مخرمة: [أن سُبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال،

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (1857)، (1858)، باب فيمن تزوج ولم يُسَمِّ صداقًا حتى مات. وانظر سنن النسائي (6/ 121)، والترمذي (1145)، وابن ماجة (1891)، ومسند أحمد (3/ 480).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2143)، وانظر صحيح سنن أبي داود (1889).

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (423/ 4) تعليقًا، وتخريج أحاديث الإرواء (2139).

ص: 604

فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم استأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت] (1).

وقد جاء تفصيل آخر لهذا الحديث في رواية جامعة مفيدة في ذلك:

ففي صحيح البخاري من حديث سُبَيْعَة: [أنها كانت تحت سَعْدِ بنِ خولةَ - وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرًا - فتوفي عنها في حَجَّةِ الوداع وهي حامل، فلم تَنشَبْ أنْ وضعت حَمْلَها بعد وفاتِه، فلما تَعَلَّتْ من نِفاسها تَجَمَّلتْ للخُطّاب، فدخل عليها أبو السَّنابل بنُ بَعْكَكٍ، رجل من بني عَبْد الدّار، فقال لها: ما لي أراك تَجَمَّلْت للخُطّاب؟ تُرَجِّين النكاح؟ فإنك والله ما أنت بناكح حتى تَمُرَّ عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سُبيعة: فلمّا قال لي ذلك جَمَعْتُ عليَّ ثيابي حين أمسيت وأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حَلَلْتُ حين وضَعْتُ حملي وأمَرَني بالتّزوُجِ إن بدا لي](2).

ويبدو أن الحكمة من جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا استبراء الرحم من الحمل. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود: [إن خَلْقَ أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغة مثل ذلك، ثم يُبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح](3).

قال الحافظ ابن كثير: (فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد تنقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، والله أعلم).

ويروي ابن جرير بسنده عن قتادة: سألت سعيد بن المسيّب: ما بال العشر؟ قال: (فيه ينفخ الروح). وبنحوه ذكر الربيع بن أنس عن أبي العالية: (لأنه ينفخ فيها الروح).

وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

فيه وجوب الإحداد على المرأة التي توفي عنها زوجها.

ففي الصحيحين عن أم حبيبة وزينب بنت جحش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا يحل

(1) متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (5320)، وأخرجه مسلم برقم (1485).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (3991)، كتاب المغازي.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، وأحمد (1/ 382)، وغيرهم.

ص: 605

لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشْرًا] (1).

وفي الصحيحين عن أم سلمة: [أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينُها أفَنكحُلُها؟ فقال: لا. كل ذلك يقول - لا - مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعَشْرٌ، وقد كانت إحداكُنَّ في الجاهلية تمكث سنة. قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجُها، دخلت حِفْشًا ولبست شَرَّ ثيابها، ولم تمسَّ طيبًا ولا شيئًا حتى تمرَّ بها سنة، ثم تخرج فَتُعْطى بَعْرَةً فترمي بها، ثم تُؤتى بدابّة حمارٍ أو شاةٍ أو طيرٍ فتَفْتَضُّ به. فقلّما تَفْتَضُّ بشيء إلا مات](2).

قلت: وترك الزينة من الطيب والثياب والحلي واجب في الإحداد. وقد جاءت النصوص الصحيحة بذلك في أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أم عطية قالت: [كنا ننهى أن نُحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا نكتحل، ولا نطيّب، ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نُبذة من كُسْتِ أظفارٍ، وكنا ننهى عن اتباع الجنائز](3).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المتوفى عنها زوجها لا تلبَسُ المعصفَر من الثياب، ولا الممشَّقة، ولا الحُليَّ، ولا تختضِبُ، ولا تكتحِلُ](4).

وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} .

قال الضحاك: (أي انقضت عدتهن).

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

قال الزهري: (أي على أوليائها). {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال مجاهد:

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5334)، و (5345)، ومسلم (1486)، وأحمد (6/ 324).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5336)، ومسلم (1488)، وأبو داود (2299)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5341)، ومسلم (938)، (1128). وأخرجه النسائي (6/ 203)، وأبو داود (2285)، وابن ماجة (2087) بنحوه.

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود (2020)، وسنن النسائي (203/ 6)"دون ذكر الحلي".

ص: 606

(النكاح الحلال الطيب). وقال ابن عباس: (إذا طلِّقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عِدَّتها فلا جناح عليها أن تتزيّن وتتصنَّع وتتعرّض للتزويج، فذلك المعروف).

وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

قال ابن جرير: ({وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أيها الأولياء، في أمر من أنتم وليُّه من نسائكم، من عَضْلهِنَّ وإنكاحهنّ ممن أردن نكاحَه بالمعروف، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم، "خبير"، يعني ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منه شيء).

235.

قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} .

في هذه الآية: الخطاب للرجال فيما يعرّضون به من خطبة النساء - للنساء المعتدات من وفاة أزواجهن في عِددهن - دون تصريح بعقد النكاح، فإنه لا جناح في ذلك.

يروي البخاري تعليقًا، عن مجاهد، عن ابن عباس:({وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}، هو أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولَوَدِدْتُ أن ييسر الله لي امرأة صالحة).

ويروي ابن جرير بسنده عن مجاهد، عن ابن عباس قال:(التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها، يعرض لها بالقول المعروف). وقال أيضًا: (التعريض أن يقول للمرأة في عِدَّتها: إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله). وقال نحوه: (إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيّأ بيني وبينك).

وفي صحيح مسلم عن فاطمة بنت قيس: [أن أبا عمرو بنَ حَفْصٍ طَلَّقها البتّة وهو غائب،

فأمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدّي عند ابنِ أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حَلَلْتِ فآذنيني. قالت: فلما حَلَلْتُ ذكرت له، أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جَهْمٍ خطباني،

ص: 607

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما أبو جَهْمٍ فلا يضَعُ عصاه عن عاتِقِه، وأما معاوية فصُعْلوكٌ (1) لا مال له، انكِحي أسامةَ بنَ زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحته. فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت (2) به] (3).

والحديث يدل على جواز التعريض أيضًا للمطلقة المبتوتة، وأما المطلقة الرجعية فلا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها أو التعريض لها.

وقو له: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} .

أي: أخفيتم في أنفسكم من خطبتهن وعزم نكاحهن فأسررتم ذلك ولم تعزموا عقدة النكاح، فهو مباح لكم أيضًا.

قال مجاهد: (الإكنان: ذكر خِطبتها في نفسه، لا يُبديه لها. هذا كله حِلٌّ معروف).

وفي لغة العرب: كنَّ الرجل الأمر إذا ستره وأخفاه. ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49]، أي مخبوء. وقوله تعالى:{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69].

وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} .

أي: في أنفسكم. قال مجاهد: (ذكرك إياها في نفسك).

وقوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} .

فيه أقوال:

1 -

عن قتادة: ({لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} قال: الزنا). وقال الحسن: (الفاحشة).

2 -

عن ابن عباس: ({لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}، القول: لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، ونحو هذا). وقال عكرمة: (لا يأخذ ميثاقها في عدتها أن لا تتزوج غيره).

(1) أي فقير في الغاية.

(2)

الغبطة أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير إرادة زوالها عنه، وليس هو بحسد.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1480)، كتاب الطلاق. باب المطلقة البائن لا نفقة لها.

ص: 608

3 -

قال مجاهد: (قول الرجل للمرأة: لا تفوتيني بنفسك، فإني ناكحك. هذا لا يحل).

4 -

قال ابن زيد: (لا تنكحوهن سرًّا، ثم يمسكها، حتى إذا حلّت أظهرتَ ذلك وأدخلتَها). واختار ابن جرير القول الأول، والظاهر أن الآية عامة في كل ما سبق ونحوه، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده:{إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال مجاهد: (يعني التعريض).

وقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} .

قال قتادة: (حتى تنقضي العدة).

يعني: لا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة. وهو قول ابن عباس ومجاهد والربيع وغيرهم.

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} .

قال ابن كثير: (توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤْيِسْهُم من رحمته، ولم يُقْنطهم من عائدته، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}).

236.

قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} .

في هذه الآية: إباحة طلاق المرأة ما لم يسمّ لها صداقًا أو يمسّها إذا عَيّن لها شيئًا من المتعة بالمعروف.

قال ابن عباس وطاووس وإبراهيم والحسق البصري: (المسُّ: النكاح). وفي لفظ لابن عباس: (المسّ الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء). وقال: (الفريضة الصداق).

والآية تدل على إباحة طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها، بل وقبل

ص: 609

الفرض لها، ولكن عليه مقابل ذلك - جبرًا لكسر قلبها - أن يعوضها لتطيب نفسها بشيء تعطاه.

قال ابن عباس: (فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يُسمِّ لها صداقًا، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عُسره ويُسره. فإن كان موسرًا متَّعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسرًا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك) ذكره ابن جرير.

وقال الشَّعبي: (وَسَطٌ من المتعة ثياب المرأة في بيتها، درعٌ وخمار وملحفة وجلباب). وقال الربيع بن أنس في الآية: (هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمّي لها صداقًا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها. قال: أدنى ذلك ثلاثة أثواب، درع وخمار، وجلبابٌ، وإزار).

وقال الشافعي في الجديد: (لا يُجْبر الزوج على قدر معلوم، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة). وقال في القديم: (لا أعرف في المتعة قدرًا، إلا أني أستحسن ثلاثين درهمًا، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وفي صحيح البخاري عق سهل بن سعد وأبي أسيد، أنهما قالا:[تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أُسَيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقِيَّين](1).

ويبدو من الآية أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها، ولم يفرض لها، فإن كان دخل بها وجب لها مهر مثلها، وإن لم يدخل وكان قد فرض لها وطلقها وجب لها عليه نصف المهر، وبغير ذلك فهو على الاستحباب.

أخرج البيهقي بسند حسن عن جابر قال: لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لزوجها: متعها، قال:(لا أجد ما أمتعها، قال: فإنه لا بد من المتاع، قال: [مَتِّعْها ولو نصف صاع من تمر]. وفي رواية: [مَتِّعْها، فإنه لا بُدَّ من المتاع، ولو نِصْفَ صاعٍ من تَمْرٍ] (2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5256)، كتاب الطلاق. والرازقية: ثياب بيض طوال من كتان.

(2)

حديث حسن. أخرجه البيهقي (7/ 257)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2281). قال الألباني: وهذا إسناد حسن.

ص: 610

237.

قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} .

في هذه الآية: دلالة على ما سبق ذكره، إذ أوجب الله نصف المهر على من طلق قبل الدخول ولا شيء آخر، فالمتعة أمر يخص الحالة السابقة حيث لم يسمّ المهر.

قال الشافعي: (أخبرنا مسلم بن خالد، أخبرنا ابن جُرَيج، عن ليث بن أبي سُليم، عن طاووس، عن ابن عباس، أنه قال - في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها -: ليس لها إلا نصف الصداق، لأن الله يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. وقال الشافعي: (بهذا أقول، وهو ظاهر الكتاب).

وقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} .

يعني: النساء: فتتجاوز عن حقها الذي يجب لها.

قال الربيع: (المرأة تدع لزوجها النصف).

وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} .

فيه أقوال:

1 -

عن ابن عباس: (أذن الله في العفو وأمر به، فإن عفت فكما عفت، وإن ضَنّت وعفا وليُّها جاز وإن أبت). وقال أيضًا: ({أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، وهو أبو الجاريه البكر، جعل الله سبحانه العفو إليه، ليس لها معه أمر إذا طُلقت، ما كانت في حِجره). وقال علقمة: (هو الولي).

2 -

وعن الحسن قال: (هو الذي أنكحها).

3 -

وعن شريح قال: ({الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}: الزوج يتمّ لها الصداق).

يروي الدارقطني عن جبير بن مطعم: [أنه تزوج امرأة من بني نصر - بطن من هوازن - فطلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل إليها بالصداق كاملًا وقال: أنا أحق بالعفو

ص: 611

منها، قال الله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وأن أحق بالعفو منها].

قلت: والراجح القول الأول والثاني، وأما الثالث فبعيد عن مفاد السياق. ويمكن القول: إنه معلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لهما، فبيّن الله القسمين فقال:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي: إن كنّ لذلك أهلًا، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الولي، لأن الأمر فيه إليه. وقد أجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر. وقال عكرمة:(يجوز عفو الذي عقد عقدة النكاح بينهما، كان عمًا أو أبًا أو أخًا، وإن كرهت).

وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .

قال ابن عباس: (أقربهما للتقوى الذي يعفو). والخطاب للرجال والنساء، وقال مجاهد:(المفضل - هاهنا - أن تعفو المرأة عن شطرها، أو إتمام الرجل الصداق لها).

وقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .

يعني: الإحسان قال قتادة: (يرغبكم الله في المعروف ويحثكم على الفضل).

وقال سعيد: (لا تنسوا الإحسان).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

أي: لا يخفى عليه أمر وحال، وسيجزي كل محسن بإحسانه، وكل مسيء بإساءته.

238 -

239. قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}.

في هذه الآيات: أَمْرٌ من الله سبحانه بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، والتأكيد على الصلاة الوسطى. ومراعاة الأحوال لصلاة القتال حتى يحصل الاستقرار في حالة الأمن.

ص: 612

أخرج الإمام أحمد في المسند بسند حسن عن زيد بن ثابتا قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشدَّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}. وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين](1).

ورواه أحمد من وجه آخر: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فنزلت] ذكره الحافظ في الفتح.

قلت: وهذا الحديث يأمر بالمحافظة على الصلوات كما تأمر الآية، وليس فيه تحديد لصلاة الوسطى.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: [سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة في وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني](2).

والصلاة الوسطى على الراجح أنها صلاة العصر، وبه قال أكثر الصحابة والتابعين.

قال ابن عبد البر: (هو قول أكثر أهل الأثر).

وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا التحديد، وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: [ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس](3).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[صلاة الوسطى صلاة العصر](4).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 183)، وأبو داود (411)، ورجاله ثقات.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (527)، (5970)، (7534)، وأخرجه مسلم برقم (85)، وأحمد (1/ 451).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2931)، كتاب الجهاد والسير.

(4)

صحيح لشواهده. أخرجه أحمد (5/ 22)، وانظر كتابي: السيرة النبوية (2/ 925) لتفصيل البحث.

ص: 613

الأحزاب: [شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا](1). ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء.

الحديث الرابع: يروي ابن أبي حاتم في التفسير، وكذلك ابن جرير عن عاصم، عن زر، قال: قلت لعبيدة: سل عليًّا عن الصلاة الوسطى، فسأله، فقال:[كنا نراها الفجر أو الصبح، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم أو بيوتهم نارًا](2).

وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} .

يعني: خاشعين مخبتين غير متبادلين للكلام.

قال الشعبي: ({وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}: مطيعين). وقال السدي: (القنوت، في هذه الآية، السكوت). وقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: [كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا أخاه في حاجته حتى نزلت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت](3).

وأخرج الإمام أحمد، والطبراني - ورجاله رجال الصحيح - من حديث ابن عباس في قول الله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قال: [كانوا يتكلمون في الصلاة يجيء خادم الرجل إليه فيكلمه بحاجته وهو في الصلاة، فنهوا عن الكلام](4).

وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة: [إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله](5).

ولذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الرد على ابن مسعود حين سلّم عليه وهو في الصلاة - كما يروي البخاري عنه - قال: [كنا نُسَلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيردّ علينا، فلما

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 81)، وانظر صحيح مسلم (627) من حديث محمد بن حازم.

(2)

رواه ابن جرير في التفسير. وذكره الحافظ ابن كثير - في التفسير - سورة البقرة (238).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4534)، ومسلم (539)، وأحمد (4/ 368)، وغيرهم.

(4)

حديث صحيح. انظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - البقرة (238).

(5)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (537)، وابن حبان (2248)، والبيهقي (2/ 249).

ص: 614

رجعنا من عند النجاشي سَلَّمْنا عليه فلم يرد علينا، وقال: إن في الصلاة شغلًا] (1).

وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .

أي: إن خفتم العدو أثناء القتال، فصلوا مشاة أو على ظهور دوابكم، إن خشيتم الصلاة قيامًا على الأرض.

قال إبراهيم: (عند المطاردة، يصلي حيث كان وجهه، راكبًا أو راجلًا، ويجعل السجود أخفضَ من الركوع، ويصلي ركعتين يومئ إيماء).

وكان قتادة يقول: (إن استطاع ركعتين وإلا فواحدة، يومئ إيماء، إن شاء راكبًا أو راجلًا، قال الله تعالى ذكره: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}).

وفي صحيح البخاري عن نافع عن ابن عمر - في صفة صلاة الخوف - قال: [فإن كان خَوْفٌ هو أشدَّ من ذلك صَلّوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها](2). قال مالك: قال نافع: (لا أُرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وأما دليل الركعة الواحدة - عِند اشتداد الالتحام - فهو ما روى مسلم عن ابن عباس قال: [فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة](3). وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد في أن صلاة الخوف تُفْعل أحيانًا ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان وحمي الوطيس.

وقد ذكر البخاري تحت: "باب: الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو": (وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة، صلوا إيماءٌ، كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخّروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1199)، باب ما يُنهى من الكلام في الصلاة، ورواه مسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4535)، كتاب التفسير، ورواه مسلم برقم (839)، ومالك في الموطأ (1/ 184).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (687)، وأحمد في المسند (1/ 237)، وأبو داود في السنن (1247)، والنسائي (3/ 168).

ص: 615

فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا) (1).

وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} .

قال مجاهد: (خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة). وقال ابن زيد: (فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم - إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة). يعني أتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها حالة الأمن والاستقرار والانتهاء من الخوف والسفر.

وقوله: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان وعلّمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد ذكر صلاة الخوف: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}).

240 -

242. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}.

في هذه الآيات: كانت المتوفى عنها زوجها تجلس ببيت المتوفى عنها حولًا حتى نسخ الحول بأربعة أشهر وعشر ليال. ومتعة الطلاق لا بدّ منها.

الجمهور على نسخ الآية الأولى بالتي قيلها، فقد كانت المتوفى عنها زوجها تجلس في بيت المتوفّى عنها حولًا، وينُفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جُناح في قطع النفقة عنها، ثم نُسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونُسخت النفقةُ بالرُّبُع والثُّمن في سورة النساء كما ذكر ابن عباس وقتادة

(1) ذكره البخاري في الصحيح (1/ 283) في "كتاب الخوف - باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو" بإثر حديث (944).

ص: 616

والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء كما ذكر القرطبي وابن كثير.

أخرج البخاري عن ابن الزبير قال: [قلت لعثمان: هذه الآية التي في "البقرة": {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى قوله {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تَدَعُها؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئًا منه من مكانه](1).

وذكر ابن جرير عن مجاهد: (إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرًا، ثم جعل الله لهن وصية منه سُكْنَى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عز وجل: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}).

ويؤيد هذا ما أخرج البخاري عن مجاهد: [{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قال: كانت هذه العدة تعتدّ عند أهل زوجها واجبة، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} - إلى قوله - {مِنْ مَعْرُوفٍ}. قال: جعل الله لها تمام السّنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}](2).

قلت: والجمع بين القولين ممكن، فالعدة الواجبة أربعة أشهر وعشرة أيام، وينفق عليها من ماله وتجب السكنى في منزله الذي مات عنه، فإن رأت إتمام السنة في بيت الزوجية فلها السكنى وصية من الله لأهل الميت، وأما النفقة فلا تجب. ويدل على ذلك الأحاديث التالية:

الحديث الأول: أخرج البخاري عن زينب قالت: وسَمِعْتُ أمَّ سلمةَ تقول: [جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفِّيَ عنها زوجها وقد اشتكت عَيْنَها أَفَنكْحُلُها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: لا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي: أربعة أشهر وعشرًا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبَعرة على رأس الحول](3).

قال البغوي في شرح السنة (2389): (أي كان جلوسها في البيت وحبسها نفسها سنة

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4530) و (4536) عن عثمان به.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4531) عن مجاهد.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5336)، كتاب الطلاق، وانظر كذلك:(5338)، (5706).

ص: 617

على زوجها أهون عليها من رمي هذه البعرة، أو هو يسير في جنب ما يجب في حق الزوج).

الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن زينب ابنةِ أم سلمة عن أمها: [أن امرأة توفي زوجها، فَخَشُوا على عَينَيْها، فأتَوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل، فقال: لا تكتحل، قد كانت إحداكُنَّ تمكثُ في شَرِّ أحلاسِها أو شرِّ بيتها، فإذا كان حَوْلٌ فمرَّ كَلْبٌ رمَتْ بِبَعْرَة، فلا حتى تمضي أربعةٌ أشهر وعَشْرٌ](1).

قال البخاري: [قال حُمَيْدٌ: فقلت لزينب: وما تَرْمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجُها دخلتْ حِفْشًا ولَبِسَتْ شَرَّ ثيابها ولم تمَسَّ طيبًا حتى تمرَّ بها سَنَةٌ، ثم تُؤْتى بدابّةٍ حمارٍ أو شاةٍ أو طائر فتَفْتَضُّ به، فقلّما تَفْتَضُّ بشيء إلا مات، ثم تَخْرُجُ فَتُعطى بَعْرةً فترمي بها ثم تُراجِع بعدُ ما شاءت من طيبٍ أو غيره. سُئل مالكٌ رحمه الله: ما تَفْتَضُّ به؟ قال: تَمْسَحُ به جلدها](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مالك في الموطأ عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عُجْرة:[أن الفُرَيْعَةَ بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري، رضي الله عنهما، أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعْبُدٍ له أَبَقُوا، حتى إذا كانوا بطرف القَدُوم لَحِقَهم، فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خُدْرةَ، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نَفَقَة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قالت: فانصرفتُ، حتى إذا كنتُ في الحُجْرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمَرَ بي فَنُوديتُ له فقال: كيف قُلتِ؟ فَرَدَّدْتُ عليه القصَّة التي ذكرت له من شأن زوجي. فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسلَ إليَّ فسألني عن ذلك، فأخبرتُه، فاتَّبَعَهُ وقضى به](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (5338)، كتاب الطلاق، وانظر (5336).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5337)، كتاب الطلاق. باب: تُحِدّ المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا.

(3)

إسناده حسن. أخرجه مالك (2/ 591)، ومن طريقه أخرجه أبو داود (2300)، والترمذي (1204). وأخرجه النسائي (6/ 99)، وابن ماجة (2031)، وأحمد (6/ 370).

ص: 618

قلت: والحديث يدل على وجوب السكنى في منزل الزوج الذي توفي عنه حتى انقضاء العدة.

وقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} .

يعني: لا يمنعن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولًا كاملًا إن اخترن ذلك فهي وصية الله بهن. فأما إذا انقضت عدتهن بأربعة الأشهر والعشر، أو بوضع الحمل، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فإنهن لا يمنعن من ذلك، لقوله تعالى:{فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

وقوله: {مِنْ مَعْرُوفٍ} .

وهو ما يوافق الشرع. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدّى حدوده من الرجال والنساء. قال القرطبي: (صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدّ في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج. {حَكِيمٌ} أي محكم لما يريد من أُمور عباده).

وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} .

قال الشافعي في أحد قوليه: (إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثمَّ مَسيسٌ ولا فرض، لأن من استحقت شيئًا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة).

ثم قال: (والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا مُتعة لها، لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء).

قلت: وهذا القول يتلاءم مع قوله تعالى في الآية السابقة: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236].

ويحمل عندئذ قول الله تعالى في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: {فَتَعَاليْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] على تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم لا وجوب له. وقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] يحمل على غير المفروضة أيضًا.

ص: 619

وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} .

يعني: أحكام شرعه وحدوده وحلاله وحرامه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : أي: تفهمون وتتدبرون.

243 -

245. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَال لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}.

في هذه الآيات: قصة قوم أهل بلدة في زمان بني إسرائيل، استوخموا أرضهم لوباء نزل بهم فخرجوا فرارًا من الموت فنزلوا واديًا أفيح، فأرسل الله إليهم ملكين صاحا بهم فماتوا عن آخرهم ودفنوا وفنوا وتمزقوا، فلما كان بعد دهر مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزِقيل، فسأل الله أن يحييهم، فأحياهم بعد رقدتهم الطويلة ليكونوا عبرة لكل من أنكر المعاد والبعث يوم القيامة. ذكره المفسرون. وفي الآيات كذلك حث على الجهاد والصدقة.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} .

أي: في إظهار آياته الباهرة وحججه الدامغة.

وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} .

أي: ما أنعم الله به عليهم من أمر دنياهم ودينهم.

وقيل خرجوا فرارًا من الجهاد. قال ابن عباس: (قوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ}، فرارًا من عدوهم، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه، فأمرهم فرجعوا، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله).

وسواء كان سبب خروجهم فرارًا من الجهاد أو الطاعون أو غيره، فإن الآية عبرة ودليل على أنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ ومنجا من الله إلا إليه، فإن الهروب لا يطيل الحياة، وهؤلاء قوم عوملوا بنقيض قصدهم.

ص: 620

وفي التنزيل: {الَّذِينَ قَالوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168]. {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ

} [النساء: 78].

أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس: [أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بِسَرْغَ (1) لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: قال عمر: ادعُ لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم

فاختلفوا .. ثم قال: ادعُ لي الأنصار (2)،

ثم قال: ادعُ لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مُهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقْدِمَهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مُصَبِّحٌ على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غَيْرُكَ قالها يا أبا عبيدة؟ نَعَم نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل هَبَطَتْ واديًا له عُدْوتان، إحداهما خصيبةٌ والأخرى جَدْبة، أليس إن رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان مُتَغَيِّبًا في بعض حاجته، فقال: إنّ عندي في هذا عِلْمًا، سمعت وسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تَقْدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه. قال: فحمدَ اللهَ عمرُ ثم انصرف] (3).

وفي لفظ: أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر - وهو في الشام - عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إن هذا السُّقْمَ عُذِّبَ به الأمم قبلكم، فإذ سمعتم به في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه. قال: فرجع عمر من الشام](4).

وجاء في ترجمة أمير الجيوش، ومقدم العساكر وحامي حوزة الإسلام، وسيف الله المسلول على أعدائه: أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، أنه قال - وهو في

(1) موضع قرب الشام، بين مغيثة وتبوك.

(2)

فدعاهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا أيضًا.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5729)، كتاب الطب، ورواه مسلم برقم (2219)، ورواه أحمد في المسند (1/ 194).

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (5730)، (6973)، ومسلم (2219)، ومسند أحمد (1/ 193). من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

ص: 621

سياق الموت (1) -: (لقد شهدت كذا وكذا موقفًا، وما من عضوٍ من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر! ! فلا نامت أعين الجُبناء).

وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} .

قال قتادة: (يستقرضكم ربكم كما تسمعون، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده).

وقال ابن زيد: (هذا في سبيل الله، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}: بالواحد سبع مئة ضعف). وقيل: {قَرْضًا حَسَنًا} : هو النفقة في سبيل الله. وقيل: هو النفقة على العيال، وقيل: هو التسبيح والتقديس. وقد جاءت السنة الصحيحة بنحو هذا في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من جهّز غازيًا دي سبيل الله، كان له مثلُ أجره، من غير أن ينقُصَ من أجر الغازي شيئًا](2).

الحديث الثاني: أخرج البيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من أقرض ورِقًا مرَّتين، كان كعدلِ صدقة مرّةً](3).

وله شاهد عند الإمام أحمد وأبي يعلى بلفظ: [إن السَّلف يجري مجرى شطْرِ الصّدقة].

مما يدل على فضل القرض الحسن، وأنه يعدل التصدق بنصفه.

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن خُرَيْم بن فاتك عن النبي صلى الله عليه وسلم: [من أنفق نفقة في سبيل الله، كُتبت له سبع مئة ضعف](4).

وفي التنزيل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي

(1) يتألم أن يموت على فراشه، وقد كان يأمل أن يموت في ساحة القتال أثناء الملاحم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (2759) - كتاب الجهاد - باب من جهز غازيًا. انظر صحيح ابن ماجة (2229). وانظر صحيح الجامع (6070)، وتخريج الترغيب (2/ 96).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البيهقي (3/ 353)، وانظر مسند أحمد (1/ 412) للشاهد بعده. ومسند أبي يعلى (3/ 1298)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1553).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد، والترمذي (1625). ورواه النسائي والحاكم. انظر صحيح الجامع (5986)، وصحيح سنن الترمذي (1326)، وصحيح النسائي (2985).

ص: 622

كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

الحديث الرابع: أخرج الشيخان وأحمد عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة](1).

الحديث الخامس: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ينزل الله تعالى في السماء الدنيا لِشَطْرِ الليل، أو ثلُثِ الليل الآخر، فيقولُ: مَنْ يدعوني فأسجيبَ له! أو يسألني فأعطِيَه، ثم يقول: من يُقْرِض غيرَ عديمٍ ولا ظلوم](2).

الحديث السادس: أخرج الإمام أحمد والترمذي يسند حسن عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتًا في الجنة](3).

وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} .

يعني: هو الموسع والمضيق بيده الرزق والخير، فيبسط الرزق لعباده ويوسعه عليهم بجوده ورحمته، ويمسكه عنهم بلطفه، فهو الجامع بين العطاء والمنع.

وفي التنزيل: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ

} [الرعد: 26]. {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30].

وفي المسند والسنن إلا النسائي عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى هو الخالق، القابضُ، الباسطُ، الرّازق، المسَعِّرُ، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحدٌ بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال](4).

(1) حديث صحيح. رواه البخاري في الصحيح (1/ 20)، والنسائي في السنن (1/ 353). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (729).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (758) ح (171)، كتاب صلاة المسافرين. باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه.

(3)

حديث حسن. رواه الترمذي، (3428)، انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2776). ورواه ابن ماجة (2235)، والحاكم. انظر صحيح الجامع (6107).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3541)، وابن ماجة (2200)، ورواه أحمد. انظر صحيح الجامع (1842)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 386) لتفصيل أدلة الأسماء والصفات.

ص: 623

وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . يعني: يوم القيامة، فاتقوا الموقف بين يديه سبحانه.

246.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَال هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَال تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)} .

في هذه الآية: قصة قوم من بني إسرائيل سألوا نبيهم الجهاد في سبيل الله، فلما كتب عليهم تولوا وتخاذلوا.

قال وهب بن مُنبِّه: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث، وعَبَدَ بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقيمهم على منهاج التوراة، إلى أن فعلوا ما فعلوا، فسلط الله عليهم أعداءهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقًا كثيرًا، وأخذوا منهم بلادًا كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه، وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان، وكان ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب، وأخذ التوراة من أيديهم، ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل، وانقطعت النبوة من أسباطهم، ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل، فأخذوها فحبسوها في بيت، واحتفظوا بها العل الله يرزقها غلامًا يكون نبيًّا لهم، ولم تزل المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلامًا، فسمع الله لها ووهبها غلامًا، فسمته شمويل، أي: سمع الله دعائي. ومنهم من يقول: شمعون، وهو بمعناه، فشب ذلك الغلام، ونشأ فيهم، وأنبته الله نباتًا حسنًا، فلما بلغ سنّ الأنبياء أوحى الله إليه، وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم، وكان الملك أيضًا قد باد فيهم، فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا ألا تفوا بما التزمتم من القتال معه، {قَالوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ

ص: 624

دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} أي: وقد أُخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد؟ قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَال تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي: ما وفوا بما وعدوا، بل نكل عن الجهاد أكثرهم، والله عليم بهم. ذكره ابن جرير والحافظ ابن كثير.

قلت: لقد علّل هؤلاء القوم من بني إسرائيل قبولهم للقتال في سبيل الله لما نالهم من إخراج من الديار وسبي للذرية، وهي نظرة قاصرة فيها تضييق لمعاني الجهاد الرفيعة التي هدفها الأسمى إعلاء كلمة الله في الأرض والحكم بشرعه ومنهاجه، ومن ثم يكون ما دون هذه الغاية بمثابة تحصيلٍ حاصلٍ. فإذا كان همّ المؤمنين من جهادهم هو كسر رؤوس الكفر ومناهجه في الأرض حتى يوحد الله ويعبد لا شريك له، كانت بقية الغايات تبعًا لذلك يشفي بها الله غيظ المؤمنين المجاهدين ويثلج صدورهم.

يروي الطبراني بسند صحيح عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[عليكم بالجهاد في سبيل الله، فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم](1).

وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:[إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلًا لا ينزعُهُ حتى ترجعوا إلى دينكم](2).

247.

قوله تعالى: {وَقَال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالوتَ مَلِكًا قَالوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} .

في هذه الآية. كشف سلوك بعض بني إسرائيل وتنطعهم.

فإنه لما طلبوا من نبيهم تعيين ملك منهم، عيّن لهم رجلًا من أجنادهم اسمه طالوت، قيل: ولم يكن من سبط يهوذا أهل الملك فيهم، بل كان فقيرًا لا مال له يقوم

(1) حديث صحيح. رواه الطبراني من حديث أبي أمامة، والحاكم (2/ 74 - 75). انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1941).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3462). انظر صحيح سنن أبي داود (2956).

ص: 625

بالملك، فاعترضوا وكان أولى بهم طاعة نبيهم وترك مجادلته، فأجابهم نبيهم:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي: اختاره من بينكم ليقودكم، {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}: أي: وأعطاه مع ذلك علمًا يقضي به ونبلًا وصلابة في الجسم لتحمل مشاق الحروب. {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} : قال مجاهد: (سلطانه). وقال وهب بن منبه: (الملك بيد الله يضعه حيث يشاء، ليس لكم أن تختاروا فيه).

وقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .

أي: واسع الفضل يعلم حيث يضع الملك والقوة والعلم والسلطان في عباده.

248.

قوله تعالى: {وَقَال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)} .

في هذه الآية: أخبرهم نبيهم أن علامة بركة ملك طالوت عليهم استرداد التابوت الذي سُلب منهم، وبقية من آثار موسى وهارون تجيء به الملائكة.

وقوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .

قال قتادة: (أي: وقار)، وقال الربيع:(رحمة)، وقوله:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال ابن عباس: (عصاه، ورضاض الألواح).

قال عكرمة: (والتوراة). وقال عطية بن سعد: (عصا موسى، وعصا هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ورضاض الألواح). وقال الثوري: (ومنهم من يقول: العصا والنعلان).

وقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} .

قال ابن جريج: قال ابن عباس: (جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون). وقال السدي: (أصبح التابوت في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وأطاعوا طالوت).

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} .

أي: تثبت النبوة لنبيهم، ووجوب طاعته في اختياره لهم طالوت على الجيش والقيادة. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. أي: بالله واليوم الآخر.

ص: 626

249.

قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالوتُ بِالْجُنُودِ قَال إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالوتَ وَجُنُودِهِ قَال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} .

في هذه الآية: إخبار طالوت جنوده حين خرج فيهم بأن الله مختبرهم بنهر، فمن نجح في ذلك الاختبار كان من الفئة القليلة التي تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله.

قال ابن عباس: (وهو نهر بين الأردن وفلسطين). {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} يعني: لا يصحبني اليوم في هذا الوجه. {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أي: فلا حرج عليه. قال ابن عباس: (من اغترف منه بيده رَوِي، ومن شرب منه لم يروَ).

قال تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} . قال السدي: (كان الجيش ثمانين ألفًا، فشرب ستة وسبعون ألفًا، وتبقى معه أربعة آلاف).

قلت: والصحيح في ذلك ما روى البخاري عن البراء قال: [كنا - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عِدّة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن، بضعة عشر وثلاث مئة](1).

وقوله: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالوتَ وَجُنُودِهِ} .

قيل: إن الذين قالوا ذلك هم أهل النفاق الذين عصوا طالوت وشربوا من النهر، فاستقلوا أنفسهم حينئذ عن لقاء عدوهم لكثرتهم. فشجعهم علماؤهم وهم أهل العلم بوعد الله ونصره:{قَال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3957)، (3958)، (3959)، وانظر تفسير الطبري (5726).

ص: 627

قال السدي فيهم: (الذين يستيقنون). يعني: أنهم ملاقو الله.

وقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} .

هو سنة إلهية قضاها الله في حياة الرسل وأتباعهم المؤمنين، فإن النصر ليس عن كثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ، بل هو تفضل من الله سبحانه يمتن به على المجاهدين إذا رضي عن دينهم وإعدادهم.

وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

يعني: الحابسين أنفسهم على رضاه والجهاد في سبيله.

أخرجه الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[النصرُ مع الصبر، والفرجُ مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا](1).

250 -

252. قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالوتَ وَجُنُودِهِ قَالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى ذكره: أنه لما برز أهل الحق والإيمان بقيادة طالوت، لعدوهم من أصحاب جالوت، - وهم كثير، في حين كان أهل الحق بعدد قليل - استغاثوا بالله منزل النصر أن يمتن به عليهم، فقالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} يعني: أنزل علينا صبرًا وقوِّ قلوبنا على جهادهم، لئلا نفر إذا لاقيناهم. فكان النصر بإذن الله، وكذلك سنة الله تعالى في دفع الناس بعضهم ببعض ليظهر دينه وأولياءه على الدين الباطل وأعوانه.

(1) حديث صحيح. وأخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287) بتكرار "وإنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا". والديلمي (4/ 111 - 112). انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2382)، وصحيح الجامع الصغير (6682).

ص: 628

أخرج البزار في مسنده، وابن عدي في الكامل، بسند صحيح عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إن المعونة تأتي من الله على قَدْر المُؤْنَة، وإن الصَّبْرَ يأتي من الله على قدْر البلاء](1).

وفي لفظ آخر: [إن الله تعالى يُنزل المعونة على قدر المؤنة، وينزل الصبر على قدر البلاء](2).

وفي مسند أحمد بسند حسن من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي العدو يقول في القتال:[اللهم بك أصول وأجول](3).

وله شاهد في المسند أيضًا عن صهيب - في خبر حنين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فأنا أقول الآن حيث رأى كثرتهم: اللهم بك أحاول وبك أصاول وبك أقاتل].

(وفي رواية: اللهم يا رب بك أقاتل وبك أصاول ولا حول ولا قوة إلا بالله)(4).

وأخرج أبو داود والنسائي بسند حسن من حديث أبي موسى - كان صلى الله عليه وسلم يقول إذا لقي العدو -: [اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم](5).

وقوله: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .

الذين كفروا بك وجحدوا الألوهية والعبودية خالصة لوجهك، وأشركوا بك.

وقوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} .

يعني: فلّوهم بقضاء الله وقدره وغلبوهم وقهروهم وكسروا شوكتهم.

وقوله: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالوتَ} .

قال القرطبي: (وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلًا قصيرًا مِسقامًا مِصفارًا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان

(1) حديث صحيح. أخرجه البزار ص (156)، وابن عدي (1/ 206) بسند صحيح، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1664).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن عدي في الكامل بهذا اللفظ، انظر تخريج الترغيب (3/ 81)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (1915).

(3)

حديث حسن، أخرجه أحمد (6/ 16)، والديلمي (1819)، من حديث ابن عباس.

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (4/ 333)، (6/ 16)، بسند حسن من حديث صهيب.

(5)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (1537)، ورواه النسائي في "الكبرى"(8631)، ورجاله رجال الصحيح.

ص: 629

يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده).

قيل: هو داود بن إيشَا. وقيل: داود بن زكريا بن رشوى، وكان من سِبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك.

وقوله: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} .

قال السدي: (آتاه الله ملك طالوت ونبوة شمعون).

والحكمة: الفهم والنبوة، وقوله:{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} قال ابن جرير: (يعني: علمه صنعة الدروع والتقدير في السَّرْد، كما قال الله تعالى ذكره: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ

} [الأنبياء: 80]).

وقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} .

قال مجاهد: (يقول: ولولا دفع الله بالبَرِّ عن الفاجر، ودفعه ببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض، {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} بهلاك أهلها). وقال ابن كثير: (أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود، لهلكوا، كما قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} الآية).

وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالمِينَ} .

أي: منّ عليهم بالدفع. قال القاسمي: (ولذلك قوّى سبحانه هؤلاء الضعفاء وأعطى بعضهم الملك والحكمة ومن سائر العلوم، ليدفع فساد الأقوياء بالسيف). وقال النسفي: ({وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالمِينَ}: بإزالة الفساد عنهم، وهو دليل على المعتزلة في مسألة الأصلح).

وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} .

يعني: القصص التي اقتصها سبحانه من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره على الجبابرة، ودفع الفساد برحمته سبحانه والمفسدين، وإعزاز المؤمنين والصالحين.

وقوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .

توكيد وتوطئة للقسم، والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يخبر بها من غير معرفة بقراءة كتاب أو سماع من أهله.

ص: 630

253.

قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} .

في هذه الآية: تفضيل الله تعالى بعض الرسل على بعض، واقتتال الناس واختلافهم على حطام الدنيا، والحكمة التامة لله في كل أمر وخلق.

فقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ} .

يعني: الرسل الذين قصّ الله خبرهم في هذه السورة.

قال مجاهد في هذه الآية: (يقول: منهم من كلّم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدًا إلى الناس كافة).

وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أُعطيتُ خَمْسًا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قبلي: نُصرت بالرُّعْب مسيرةَ شهرٍ، وجُعلِتْ لِيَ الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجُلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِي الغنائم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعَثُ إلى قومه خاصةً وبُعِثْتُ إلى الناس عامَّة](1).

وأما قوله عليه السلام: [لا تفضلوني على الأنبياء]، وفي لفظ:[لا تُفَضِّلوا بين الأنبياء].

وهو بتمامه في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: [استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي في قَسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي، فقال: أي خبيثُ، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم! فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفضلوني على الأنبياء، فإن الناس يُصْعَقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (335) كتاب التيمّم. وانظر (438)، ورواه مسلم (521).

ص: 631

فأجد موسى باطشًا بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزيَ بِصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء] (1).

فقد أجاب العلماء عن الجمع بينه وبين الآية السابقة بإجابات كثيرة، منها:

1 -

أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل. قال الحافظ ابن كثير: وفي هذا نظر.

2 -

أن هذا قاله من باب الهَضْمِ والتواضُع.

3 -

أن هذا نهيٌ عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.

4 -

لا تفضلوا بمجرد الأهواء والعصبية.

5 -

ليس مقام التفضيل إليكم، وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له، والإيمان به.

وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} .

يعني: الآيات والمعجزات والحجج القاطعة الدالة على صدق النبوة والعبودية لله، وأنه عبد الله ورسوله.

وقوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . يعني: جبريل عليه السلام.

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} .

يعني: ما اقتتل الناس بعد كل نَبيّ إلا بمشيئة الله، وهو بسبب الاختلاف في هذه الحياة الدنيا والتكالب على حطامها. قال القرطبي:(وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي، فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيًا وحسدًا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر، وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان، ولكنه المستأثر بِسِرِّ الحكمة في ذلك الفعل لما يريد).

وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .

فكل ما يجري في هذا الكون بحكمته وإرادته وعلمه وعدله.

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (7/ 100 - 101)، وهو في مختصر صحيح مسلم (1612) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري.

ص: 632

254.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} .

في هذه الآية: دعوة الله المؤمنين إلى الإنفاق من طيب مارزقهم لمواجهة يوم الحسرة والندامة وانعدام الصاحب والمعين، وتصنيف أهل الكفر في الظالمين.

قال ابن جريج: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}: من الزكاة والتطوع).

وقال قتادة: ({مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}: قد علم الله أن ناسًا يتحابون في الدنيا ويشفع بعضهم لبعض. فأما يوم القيامة، فلا خُلة إلا خُلة المتقين).

وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

قال ابن جرير: ({وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}، إنما هو مرادٌ به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله ذلك: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرَمنا الكفار النصرةَ من الأخلاء، والشفاعة من الأولياء والأقرباء، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاءً منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم).

255.

قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} .

هذه الآية هي أعظم آية في القرآن الكريم، وهي كالنار الحارقة تنزل على الشياطين، وما بين العبد ودخول الجنة إلا قراءتها عقب الصلوات المكتوبات. فما السرّ في ذلك! ؟ .

لقد أخبر سبحانه في أولها أنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا، القيم لغيره، ثم ذكر أنه سبحانه لكمال صفاته وعدم شبهها لخلقه، فهو لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما

ص: 633

كسبت، شهيد لا يغيب عنه شيء، ولا تأخذه سنة وهي الوسن والنعاس.

روى مسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه، عن أبي موسى قال:[قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: إن الله تعالى لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفِض القِسطَ ويرفعُه، ويرفَعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه](1).

ثم أخبر سبحانه وتعالى أن كل ما في السماوات وما في الأرض خلق له، وفي ملكه وتحت تصرفه وقهره وجبروته وسلطانه، ومن ثم لا يتجاسر أحد أن يشفع عنده إلا أن يأذن له بذلك، وهو الذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، فقد أحاط علمه بجميع مخلوقاته، بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ولا يطلع أحد على علمه سبحانه إلا بما شاء هو سبحانه أن يُطْلِعَهم عليه، ومن ثم فما آتاهم من العلم هو قليل لا حقّ لأحد منهم أن يفخر به، فهو لا يساوي في علم الله عز وجل قطرة من بحار الكون، لقد وسع كرسيه السماوات والأرض.

يروي ابن أبي شَيبة بإسناد صحيح عن أبي ذر الغفاري، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن آية الكرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[والذي نفسي بيده، ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة](2).

وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} .

قال الحافظ ابن كثير: (أي: لا يثقله ولا يكترثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما، ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء،

، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني الحميد).

ثم ختمها بقوله سبحانه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .

أي: الكبير المتعال والجبار القهار، فله الكبرياء وحده في هذا الكون ولا يليق ذلك إلا بوجهه الكريم، فتبارك الله رب العرش العظيم.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (179)، وأحمد في مسنده (4/ 395).

(2)

حديث صحيح. أخرجه محمد بن أبي شيبة في "كتاب العرش"(114/ 1). انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (109)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 306) لتفصيل البحث.

ص: 634

فإلى ذكر فضائل هذه الآية العظيمة في هذا السيل العطر من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. قال: فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري في معلقاته، وابن خزيمة في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني مُحتاجٌ، وعليّ دينٌ ولي حاجة شديدة، فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالًا، فرحمتُه فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود. فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال، لا أعود. فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالًا، فرحمته وخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود. قال: دعني أُعْلِمْكَ كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هُنَّ؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يَقْرُبكَ شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربُك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تَعْلمُ من تُخاطب منذ ثلاث ليال

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (2096)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

ص: 635

يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ذاك الشيطان] (1).

الحديث الثالث: يروي الإمام النسائي في سننه بإسناد صحيح، والطبراني في معجمه بإسناد جيد، واللفظ له، عن أبي بن كعب رضي الله عنه:[أنه كان له جُرن من تمر، فكان ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابّة شِبه الغلام المحتلم، فسلم عليه، فردّ عليه السلام، فقال: ما أنت؟ جني أم إنسي؟ قال: جني. قال: فناولني يدك، فناوله يده، فإذا يده يدُ كلب، وشعره شعر كلب. قال: هذا خَلْقُ الجن؟ قال: قد علمت الجن أن ما فيهم رجلًا أشدُّ مني، قال: فما جاء بك؟ قال: بلغنا أنك تحب الصدقة فجئنا نصيب من طعامِك. قال: فما يُنْجينا منكم؟ قال: هذه الآية التي في سورة البقرة: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. من قالها حين يُمسي أُجير منا حتى يصبح، ومن قالها حين يُصبح أُجير منا حتى يمسي. فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: صدق الخبيث](2).

الحديث الرابع: يروي الإمام النسائي في سننه، وابن حبان في صحيحه، عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من قرأ آية الكرسي دُبُرَ كل صلاة مكتوبة، لم يَمْنَعْهُ من دخول الجنة إلا أن يموت](3). وفي لفظ: [لم يحل بينه وبين دخول الجنة إلا الموت].

الحديث الخامس: روى أحمد والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: [أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست، فقال: يا أبا ذر، هل صليت؟ قلت: لا. قال: قم فصل. قال: فقمت فصليت، ثم جلست، فقال: يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن. قال: قلت: يا رسول الله، أو للإنس شياطين؟ قال: نعم. قال: قلت: يا رسول الله الصلاة؟ قال: خير موضوع، من شاء أقل ومن شاء أكثر. قال: قلت: يا رسول الله فالصوم؟ قال: فرض مجزي وعند الله مزيد. قلت: يا رسول الله فالصدقة؟ قال: أضعاف مضاعفة. قلت: يا رسول الله، فأيها أفضل؟ قال: جهد مِنْ مقل، أُوسِرَ إلى فقير. قلت: يا رسول اللهِ، أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم. قلت: يا رسول الله، ونبي كان؟ قال: نعم نبي مكلم. قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ثلاث مئة

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2311) تعليقًا، ووصله النسائي في الكبرى (10795).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح الترغيب (1/ 658)، كتاب النوافل. الترغيب في آيات وأذكار يقولها إذا أصبح. والجرن: البيدر. وانظر كتابي: منهج الوحيين في معالجة زلل النفس وتسلط الجن ص (252) لتفصيل في البحث.

(3)

حديث حسن. أخرجه النسائي في "اليوم والليلة"(100)، والطبراني في "الكبير"(7532).

ص: 636

وبضعة عشر جمًّا غفيرًا. وقال مرة: وخمسة عشر قلت: يا رسول الله، أي: ما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ] (1).

الحديث السادس: يروي الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} و {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إن فيهما اسم الله الأعظم](2).

وله شاهد عند ابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعًا: [اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة، وآل عمران، وطه].

وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: (أما البقرة فـ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. وفي آل عمران: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. وفي طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} ).

وشاهد آخر عند ابن ماجة والحاكم عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة مرفوعًا: [اسم الله الأعظم في سورٍ من القرآن ثلاث: في "البقرة" و "آل عمران" و "طه"]. قال القاسم أبو عبد الرحمن: (فالتمست في "البقرة" فإذا هو آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي "آل عمران" فاتحتها: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي "طه": {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}] (3).

256.

قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} .

هذه الآية: نزلت في قوم من الأنصار كان لهم أولاد قد هوّدوهم أو نصّروهم، فلما

(1) يرقى للحسن. أخرجه أحمد (5/ 178 - 179)، والبزار (160)، والنسائي في الكبرى (7944).

(2)

حديث حسن، أخرجه أبو داود (1496)، وأحمد (6/ 461)، والترمذي (3478) وحسنه، وانظر تفسير ابن كثير، سووة البقرة، آية (255).

(3)

حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2764)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (746).

ص: 637

جاء الإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام.

أخرج أبو داود وابن حبان بسند صحيح عن ابن عباس قال: [كانت المرأة تكون مِقْلاتًا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّده، فلما أُجلِيَت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}](1).

وقوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .

نهي عن إجبار أحد على دين الإسلام، فإن هذا الدين العظيم بين واضح لا يدخله إلا من شرح الله صدره له، ونوّر بصيرته، وأما من كان قلبه أعمى متخبطًا تائهًا قد ختم الله عليه كما ختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا.

أخرج البخاري عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل](2).

وقوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} .

قال ابن عباس: (وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية).

وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} .

فيه أقوال في المراد بالطاغوت:

1 -

الطاغوت: الشيطان. قال مجاهد: (الطاغوت الشيطان).

2 -

الطاغوت: الساحر. قال أبو العالية: (الطاغوت الساحر).

3 -

الطاغوت: الكاهن. قال سعيد بن جبير: (الطاغوت الكاهن).

قلت: والراجح أن الطاغوت يشمل كل ما عبد من دون الله، وصرف له شيء من

(1) حديث صحيح. ورواه ابن جرير في التفسير (3/ 58)، ورجاله رجال الصحيح. وانظر الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - سورة البقرة، آية (256).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3010)، وأحمد (2/ 302)، وأبو داود (2677)، وغيرهم. والحديث يعني الأسارى الذين يؤتى بهم في الأغلال إلى بلاد الإسلام بعد الحروب، ثم بعد ذلك يسلمون، وتصلح أعمالهم وسرائرهم، فكأنهم بهذه الصورة قد سيقوا إلى الجنة بالأغلال والقيود.

ص: 638

التعظيم الذي لا يليق إلا لله. قال ابن جرير: (والصواب من القول عندي في "الطاغوت"، أنه كل ذي طغيان على الله، فعُبِدَ من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنسانًا كان ذلك المعبود، أو شيطانًا، أو وَثنًا، أو صنمًا، أو كائنًا ما كان من شيء).

وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال مجاهد: (الإيمان).

2 -

قال السدي: ({بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، هو الإسلام).

3 -

قال سعيد بن جبير: ({فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: لا إله إلا الله).

4 -

وقال أنس بن مالك: (العروة الوثقى: القرآن).

5 -

وقال سالم بن أبي الجَعْد: (هو الحب في الله، والبغض في الله).

وقوله: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} .

يعني: لا انكسار لها. قال مجاهد: ({لَا انْفِصَامَ لَهَا}: لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وقال السدي: (لا انقطاع لها).

أخرج الإمام أحمد في المسند من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن نبي الله نوحًا صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاص عليك الوصية، آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين، آمرك بـ "لا إله إلا الله" فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق، وأنهاك عن الشرك والكبر](1).

وأخرج البخاري عن قَيْسِ بن عُبَاد قال: [كنت جالسًا في مسجد المدينة فدخل رجلٌ على وجهه أثرُ الخشوع فقالوا: هذا رجلٌ من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوّز فيهما، ثم خرج وتَبِعْتُهُ فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة،

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 169 - 170)، والبخاري في الأدب المفرد (548).

ص: 639

قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقولَ ما لا يَعْلَمُ، فَسَأُحَدِّثُكَ لم ذاكَ، رأيتُ رؤيا على عَهْد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في رَوْضَة -ذَكَرَ من سَعَتِها وخُضْرَتِها- وَسْطها عمودٌ من حديد أسفلُهُ في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عُرْوةٌ، فقيل لي: ارْقَ، فقلتُ: لا أستطيع، فأتاني مِنْصَفٌ - قال ابن عون: هو الوصيف. يعني: الخادم - فرفع ثيابي من خلفي، فَرَقِيتُ حتى كنتُ في أعلاها، فأخذت بالعروةِ، فقيل لي: استمسكْ، فاستيقظتُ وإنها لفي يدي، فَقَصَصْتُها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الرَّوضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة الوثقى فأنت على الإسلام حتى تموت. وذلك الرجل عبد الله بن سلام] (1).

ورواه أحمد من طريق خَرَشَةَ بن الحُرّ قال: [قدمت المدينة فجلست إلى مَشيَخَةٍ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء شيخٌ يتوكأ على عصا له، فقال القوم: من سَرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا. فقام خلف سارية فصلى ركعتين، فقمت إليه فقلت له: قال بعض القوم: كذا وكذا. فقال: الجنة لله يُدْخِلها من يشاء، وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا، رأيت. كأن رجلًا أتاني فقال: انطلق. فذهبت معه، فسلك بي منهجًا عظيمًا، فعَرَضَتْ لي طريق عن يساري، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها، ثم عرضت لي طريق عن يميني، فسلكتها حتى انتهيت إلى جبل زلق، فأخذ بيدي فزجل بي فإذا أنا على ذروته، فلم أتقارّ ولم أتماسك، فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب، فأخذ بيدي فزجل بي حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك، فقلت: نعم. فضرب العمود برجله، فاستمسكت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: رأيت خيرًا، أما المنهج العظيم فالمحشر، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار، ولست من أهلها، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة، وأما الجبل الزَّلَق فمنزل الشهداء، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام، فاستمسك بها حتى تموت. قال: فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة. قال: وإذا هو عبد الله بن سلام](2).

فائدة: وأما الحديث الذي رواه أحمد عن أنس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل:

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3813)، (7010)، وأخرجه مسلم (2484)، ورواه أحمد في المسند (23275) من حديث عبد الله بن سلام.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 453)، ورواه مسلم في الصحيح (2484).

ص: 640

أسلم، قال: إني أجدني كارهًا. قال: وإن كنت كارهًا] (1). قال ابن كثير: (فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له، بل هي كارهة، فقال له: أسلمْ وإن كنت كارهًا، فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص).

وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

قال القرطبي: (ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات "سميع" من أجل النطق "عليم" من أجل المعتقد).

257.

قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} .

في هذه الآية: تقرير ولاية الله تعالى للمؤمنين، يخرجهم من ظلمات الجاهلية والكفر إلى نور العلم والإيمان، والذين كفروا في ظلمات الكفر وعبادة الطاغوت وفي النار هم خالدون.

قال الخطابي: (الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين). وفي التنزيل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} . وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11].

وقال قتادة: (الظلمات الضلالة، والنور الهدى). وقال الحسن: (الطواغيت: الشياطين).

وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} .

قال ابن القيم: (فأولياؤهم يعيدونهم إلى ما خلقوا فيه من ظلمة طبائعهم وجهلهم وأهوائهم، وكلما أشرق لهم نور النبوة والوحي وكادوا أن يدخلوا فيه، منعهم أولياؤهم منه وصدّوهم، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات).

أخرج ابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده، بسند صحيح، عن عبد الله بن

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 109) بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وهو من عوالي أحمد. إذ رواه عن يحيى عن حميد عن أنس، فهو ثلاثي صحيح.

ص: 641

عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل](1).

والظلمة هي ظلمة الطباع والأهواء والجهل والخضوع للشهوات، والنور هو نور الوحي والعلم والفطرة والميثاق والنبوة والرسالات، فالخروج من الظلام لا يكون إلا بالوحي والتزام الشريعة، فَمَنْ حرمه الله من نور السنة بقي في الظلمة، وقلبه وعمله وقوله وأحواله وقبره في ظلمة.

وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

يعني: الذين كفروا، يخلدون في نار جهنم دون غيرهم من أهل الإيمان، إلى غير غاية ولا نهاية أبدًا.

فائدة: لقد وحّد الله تعالى لفظ النور وجمع الظلمات، لأن سبيل الحق واحد، وسبل الشياطين كثيرة، كما قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وقال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ

} [الأنعام: 1].

وقال أيضًا: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ

} [النحل: 48].

وفي سنن ابن ماجة عن ابن مسعود قال: [خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن يساره ثم قال هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعى إليه ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}](2).

258.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 176)، وابن حبان في صحيحه (1812)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1076).

(2)

حديث صحيح. رواه أحمد وابن ماجة وغيره من أهل السنن. انظر صحيح سنن ابن ماجة (11)، وكتابي أصل الدين والإيمان (2/ 783) لتفصيل البحث.

ص: 642

اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}.

في هذه الآية: ذكر محاججة إبراهيم عليه السلام النمرود المتجرئ على صفات الإلهية بحقائق كونية توجب إفراد الله تعالى بالتعظيم.

قال الفراء: ({أَلَمْ تَرَ} بمعنى: هل رأيت). أي: هل رأيت الذي حاجّ إبراهيم، وهو النُّمْروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحبُ النار والبعوضة - كما ذكر ابن عباس ومجاهد -. وقيل هو نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. قال مجاهد:(وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين، والكافران: نمروذُ وبختنصَّر) والله أعلم.

وقوله: {إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} .

أي: وجود ربه، إذ أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وإنما حمله على ذلك الطغيان والكبر وطول المدة في الملك، وهو مفهوم قوله تعالى:{أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} ، فطلب من إبراهيم الدليل على وجودِ الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فمن يفعل ذلك يستحق وحده العبادة، فأجابه النمروذ:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} .

قال قتادة: (وذكر لنا أنه دعا برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر، فقال: أنا أحيي هذا! أنا أستحيي من شئت، وأقتل من شئت! قال إبراهيم عند ذلك: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}).

قال محمد بن إسحاق: ({وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة، لما هم عليه من الضلالة).

259.

قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَال أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَال كَمْ لَبِثْتَ قَال لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ

ص: 643

إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}.

في هذه الآية: التنبيه على قدرة الله تعالى في إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم بعد فنائهم.

فقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} .

عطف على ما سبق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} يعني: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه، ومثل الذي مرّ على تلك القرية: قيل هو عُزير. ذكره ابن جرير عن ابن عباس وقتادة.

وقيل هو أورميا بن حلقيا - وقيل: هو الخضر -، وقيل اسمه: حزقيل بن بورا.

وقيل بل هو رجل من بني إسرائيل، والله أعلم. قال ابن كثير:(وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها).

وقوله {خَاوِيَةٌ} : أي: ليس فيها أحد. {عَلَى عُرُوشِهَا} . أي: ساقطة سقوفها وجدرانها ومهدّمة أركانها. فنظر إليها متأملًا فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} .

فامتحنه الله سبحانه: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} .

قال وهب بن منبه: (ثم ردّ الله من ردّ من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة، فلما ذهبت المئة ردّ الله روحه، وقد عمِّرت على حالها الأولى، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض، ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبًا ولحمًا).

وقوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ قَال كَمْ لَبِثْتَ قَال لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} .

قال قتادة: (ذكر لنا أنه مات ضحى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: {لَبِثْتُ يَوْمًا}، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، فقال: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}).

وقوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} .

قال قتادة: (لم يتغير).

ص: 644

قلت: وإنما خاطبه الله تعالى عن طريق الملك. وقال مجاهد: ({لَمْ يَتَسَنَّهْ}: لم ينتن).

وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} .

قال وهب بن منبه: (فنظر إلى حماره ياتصل (1) بعضٌ إلى بعض، وقد كان مات معه، بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح فقام ينهق، ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير، فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ).

وقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} .

أي: عبرة وحجة. قال الأعمش: (شابًّا وولده شيوخ).

وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} .

قال ابن عباس: (كيف نخرجها). وقال السدي: (نحرِّكها). وقال مجاهد: (انظر إليها حين يحييها الله).

وقوله: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} .

أي: العظام نُلبسها لحمًا ونواريها به.

وقوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)} .

أي: أنا عالم بهذا فقد رأيته عيانًا.

260.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَال بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} .

هذه الآية في سياقها تناسب ما سبق قبلها: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} ، {قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، فأحبَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يبصر علم اليقين بأم عينيه ليزداد إيمانًا ويقينًا.

(1) قوله "ياتصل" أصلها "يفتعل" من "وصل"، لغة عند العرب.

ص: 645

أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال: أو لم تؤمِنْ؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي](1).

قال البغوي في تفسيره (1/ 186): (أي: ليسكن قلبي بالمعاينة والمشاهدة).

وقال ابن خزيمة: (لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى وإنما شكّا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا).

قال ابن عباس: ({وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. قال: فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان).

وقوله: {قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} .

قال ابن عباس: (أي: قَطِّعْهُنَّ).

وقال في رواية: (أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا).

وقوله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} .

فدعاهن فركبهن الله في صورتهن الأولى.

وقوله: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

أي: لا يغلبه شيء، وهو الحكيم في أمره وقدره.

261.

قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} .

في هذه الآية: تمثيل رائع لتضاعف الإنفاق والبذل في سبيل الله وبعض الحسنات عند الله إلى سبع مئة ضعف.

قال ابن عباس: (الجهاد والحج، يضعف الدرهم فيهما إلى سبع مئة ضعف).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3372)، (4537)، وأخرجه مسلم (151)، وغيرهما.

ص: 646

وقال مكحول: ({مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يعني به: الإنفاق في الجهاد، من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك). وقال سعيد بن جبير: (يعني: في طاعة الله). وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، في أحاديث كثيرة، منها:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود قال: [جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والإمام مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كل عمل ابن آدم يُضاعِفُ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضِعْف، إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن خزيم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أنفق نفقة في سبيل الله، كُتبت له سبع مئة ضعف](3).

وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} .

قال ابن جرير: (والله يضاعف على السبع مئة (4) إلى ما يشاء من التضعيف، لمن يشاء من المنفقين في سبيله). وقال ابن كثير:(أي: بحسب إخلاصه في عمله).

وقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .

قال ابن زيد: ({وَاسِعٌ} أن يزيد من سعته، {عَلِيمٌ} عالم بمن يزيده).

262 -

264. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1892)، وأحمد في المسند (4/ 121)، والنسائي في السنن (4916)، والحاكم في المستدرك (2/ 90).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1151)، وأحمد (2/ 443)، وابن ماجة (1638)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (18559)، والترمذي (1625)، والنسائي (6/ 49)، وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5986)، وأخرجه الحاكم.

(4)

الأصحّ لغة أن يقال: والله يضاعف على سبع المئة إلى ما يشاء من التضعيف.

ص: 647

آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}.

في هذه الآيات: بيان أثر المنّ والأذى في إفساد وإبطال الصدقة.

قال الضحاك: ({لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى}: أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذىً).

قال قتادة: (علم الله أن أناسًا يمنّون بعطيتهم، فكره ذلك وقدّم فيه فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}).

قال ابن كثير: ({قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم {وَمَغْفِرَةٌ} أي: عفوٌ وغفر عن ظُلم قولي أو فعلي).

فمدح الله تبارك وتعالى المنفقين من المؤمنين دون منٍّ ولا إساءة، ووعدهم على ذلك جزيل الثواب، فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الأولاد والذرية، ولا على ما فاتهم من زينة هذه الدنيا، فإن ما أفضوا إليه من النعيم خير لهم من هذه الفانية المتقلبة.

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، في أحاديث كثيرة منها:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنّانُ بما أعطى، والمُسْبِلُ إزاره، والمُنْفِقُ سلعته بالحَلِفِ الكاذب](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يدخل الجنة عاق، ولا منَّان، ولا مدمن خمر، ولا مكذِّب بقدر](2).

الحديث الثالث: أخرج النسائي وأحمد بسند جيد عن سالم بن عبد الله بن عمر،

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (106)، وأبو داود (4087)، وأحمد (5/ 148)، وغيرهم.

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (6/ 441) من حديث أبي الدرداء، ورواه البزار (2182)، واتظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7550).

ص: 648

عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى](1).

وقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} .

يعني: والله غني عما يتصدقون به، حليم بتأخير العقوبة عمن يمتن بصدقته ويؤذي، فيعطيه الفرصة ليستعتب من إساءته وظلمه.

وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} .

إخبار أن المنّ بالصدقة والأذى بها يبطل ثوابها. {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالهُ رِئَاءَ النَّاسِ} : أي: كما يبطل الرياء الصدقة إذا ما أريد بها المدح بالكرم وطلب الشهرة والدنيا، ولذلك أتبعها بقوله:{وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

وقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} .

وهو الصفا، أي: الحجارة الملس، والصفوان واحدٌ وجميع، فمن جمعه جعل الواحدة "صفوانة". {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد. {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أي: أملس يابسًا قد ذهب ما عليه من التراب، وهو تمثيل رائع لذهاب أعمال أهل الرياء. ولهذا قال:{لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي: لا ينتفعون بأعمالهم يوم القيامة إذ لم تكن خالصة لوجه الله فأحبطها.

265.

قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} .

في هذه الآية: ذكر مثل طريقة إنفاق أهل الصدق والتقوى يريدون بإنفاقهم وبذلهم رضوان الله ومغفرته.

قال الشعبي: ({وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: تصديقًا ويقينًا).

وقال قتادة: (احتسابًا من أنفسهم).

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي (5/ 80)، وأحمد (2/ 134)، والحاكم (4/ 646) وسنده جيد.

ص: 649

وقال مجاهد: (يتثبتون أين يضعون أموالهم). وهو تأويل بعيد، فالأول أقرب للسياق. ونظيره في الصحيحين عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه](1).

وقوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} .

قال مجاهد: ({كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ}: الربوة المكان الظاهرُ المستوي). وقال الحسن: (هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه).

وقوله: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} .

أي: مطر شديد. {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} : أى: أضعفت ثمرها ضعفين حين أصابت الوابل من المطر. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قال الضحاك: (هو الرَّذاذ، وهو اللين من المطر). وقال الربيع: (أي: طشّ).

والمعنى: إن هذه الجنة بهذه الربوة لا تصحر أبدًا، فإنه إن لم يصبها مطر شديد فرذاذ وطش يكفي لاستمرار ثمرتها وبهجتها، وكذلك المؤمن لا يبور عمله أبدًا، فإنه لا يزال يرفع له عمل صالح، يتقبله الله وينميه له، مهما كان ضئيلًا طالما بذل ما في وسعه وأراد به وجه الله خالصًا لا شريك له، ولذلك ختم سبحانه الآية بقوله:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربِّيها كما يُرَبّي أحدكم فُلُوَّه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم](2).

266.

قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (38)، وأخرجه مسلم برقم (760)، ورواه أحمد في المسند (2/ 232)، وكثير من أهل السنن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1410)، ومسلم (1014)، ورواه الترمذي في الجامع (661)، ورواه بقية أهل السنن.

ص: 650

فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}.

أخرج البخاري في صحيحه عن عبيد بن عمير، قال [قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تَحْقِرْ نفسك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلًا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله] (1).

وقال مجاهد في الآية: (أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار، {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئًا، وولده صغار لا يغنون عنها شيئًا، وكذلك المفرِّط بعد الموت، كل شيء عليه حَسْرة).

فالآية تمثيل بديع لحال من أحسن العمل أولًا ثم انعكس بعد ذلك منهجه، فبدل الحسنات بالسيئات، فأبطل بعمله الجديد ما كان أحسن أول شبابه، فقدم يوم القيامة وقد فرّط بالعمل الصالح أحوج ما يكون إليه للنجاة من عذاب الجحيم والعياذ بالله.

وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .

قال ابن عباس: (يعني: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها).

وقال مجاهد: (لعلكم تتفكرون: تطيعون).

267 -

269. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ

(1) حديث موقوف. أخرجه البخاري في الصحيح (4538)، عن عبيد بن عمير عن عمر بن الخطاب به.

ص: 651

بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}.

في هذه الآيات: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالصدقة والبذل والإنفاق من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها والزروع والثمار التي أخرجها لهم من الأرض، ويحذرهم مغبة طاعة الشيطان الذي يأمر بالفحشاء ويعد بالفقر، ويرغبهم في التماس الحكمة من الله الذي بيده الرزق والنصر.

فعن ابن عباس: ({أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}، يقول: تصدَّقوا). وقال السدي: (من هذا الذهب والفضة).

وعن مجاهد في هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ،

قال: (من التجارة). وقال أيضًا: (التجارة الحلال).

وقوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .

قال مجاهد: (من الثمار). وقال السدي: (هذا في الثمر والحب). وقال مجاهد أيضًا: (من ثمر النخل).

قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله: (يعني بذلك جل ثناؤه: وأنفقوا أيضًا مما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدّقوا وزكّوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجَبْتُ فيه الصدقة من نبات الأرض).

قلت: والآية دليل قوي على زكاة عروض التجارة ومنتوجات الأرض عمومًا، مما لم يأت النص بوجوب الزكاة فيه، فإن في المال حقًّا سوى الزكاة، فالإنفاق واجب آخر حتى تحصل بذلك كفاية الأمة وينقطع التسول والحاجة.

أخرج الإمام الشافعي في "الأم" بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال:(ليس في العروض زكاة، إلا ما كان للتجارة).

والحديث موقوف صحيح، وليس فيه بيان نصاب زكاتها، ولا ما يجب إخراجه منها، فيمكن حمله على زكاة مطلقة، غير مقيدة بزمن أو كمية، وإنما بما تطيب به نفس صاحبها، فيدخل ذلك في عموم النصوص الآمرة بالإنفاق، كقوله تعالى:

ص: 652

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} ، وقوله:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .

أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن جريج:(قال لي عطاء: لا صدقة في اللؤلؤ، ولا زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عرض، ولا شيء لا يدار، "أي: لا يتاجر به"، وإن كان شيئًا من ذلك يدار ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع)(1).

والشاهد منه قوله: "ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع"، فإنه لم يذكر تقويمًا، ولا نصابًا، ولا حَولًا (2).

وأخرج ابن زنجويه في كتابه "الأموال" بسند حسن، عن إبراهيم الصائغ:(سئل عطاء: تاجر له مال كثير في أصناف شتى، حضر زكاته، أعليه أن يقوِّم متاعه على نحو ما يعلم أنه ثمنه، فيخرج زكاته؟ قال: لا، ولكن ما كان من ذهب أو فضة أخرج منه زكاته، وما كان من بيع أخرج منه إذا باعه)(3).

والخلاصة: يجب على المسلم الإنفاق في سبيل الله إضافة إلى الزكاة، ويجب عليه أن يتصدق في عروض التجارة التي هي من الأصناف التي لم يرد بها النص.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: [ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تَلَفًا](4).

وقوله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} .

قال قتادة: (لا تعمَّدوا).

وقال ابن جرير: (لا تعمّدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدّقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد). وقيل معناه: (لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه)، والقول الأول أقرب.

أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن البراء رضي الله عنه: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ

(1) إسناده صحيح. أخرجه عبد الرزاق (4/ 84/ 7061)، وابن أبي شيبة (3/ 144). وسنده صحيح.

(2)

وانظر تفصيل ذلك في كتاب: "تمام المنة في التعليق على فقه السنة"(ص 365).

(3)

إسناده حسن. أخرجه ابن زنجويه في الأموال (3/ 946/ 1703)، وانظر المرجع السابق.

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3/ 237)، وكذلك أخرجه مسلم (3/ 83 - 84).

ص: 653

مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال: [نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نَخْلِهِ على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاء أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر، فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشِّيص والحَشَف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}. قال: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء. قال: فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده](1).

وأخرج أبو داود بسند حسن عن الزهري عن أبي أمامة قال: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرور ولون الحُبَيْق، أن يُؤخذا في الصدقة](2).

والجعرور: ضرب من الدقل، وهو أسوأ التمر، والحبيق: تمر أغبر صغير مع طول فيه.

وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة قالت: [أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بِضَب، فلم يأكله ولم يَنْهَ عنه. قلت: يا رسول الله، ألا نطعمه المساكين؟ قال: لا تطعموهم مما لا تأكلون](3).

وقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} .

قال ابن عباس: (لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تُنْقصوه).

وقال الحسن: (لو وجدتموه في سوق يُباع، ما أخذتموه حتى يُهضَمَ لكم من ثمنه).

وقال السدي: (لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة) رواه عن البراء بن عازب من طريق عدي بن ثابت كما ذكر ابن جرير.

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (2987)، وابن ماجة (1822)، والطبري (6139)، وإسناده حسن.

(2)

أخرجه أبو داود (1607)، والحاكم (1/ 402)، (2/ 284)، والطبري، وهو حديث حسن.

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (6/ 105 - 123 - 144) من حديث عائشة، وإسناده حسن.

ص: 654

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .

قال البراء: (عن صدقاتكم).

فهو سبحانه واسع الفضل لا ينفد ما عنده، وهو الحميد: أي المحمود دومًا في شأنه كله.

وقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} .

أخرج الترمذي والنسائي موقوفًا على ابن مسعود قال: [إن للشيطان لَمَّةً بابن آدم، وللملَكِ لَمة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان. ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} الآية](1).

وعن عكرمة عن ابن عباس، قال: [اثنان من الله، واثنان من الشيطان:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} ، يقول: لا تنفق مالك وأمسكهُ عليك، فإنك تحتاج إليه، {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} . {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} ، على هذه المعاصي، {وَفَضْلًا} في الرزق).

وقال قتادة: (يقول مغفرة لفحشائكم، وفضلًا لفقركم).

وقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .

أي: واسع الفضل الذي يعدكم، وخزائنه لا تنفد، عليم: بصدقاتكم ونفقاتكم يحصيها عليكم مع أعمالكم.

وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} .

فيه أقوال:

1 -

قال ابن عباس: (يعني: المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه،

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (2988)، والنسائي في "الكبرى"(11051)، والطبري في التفسير (6169)، وهو لا شك في حكم المرفوع، وإن كان الوقف إسناده أصح من الرفع، ورواه ابن حبان وغيره.

ص: 655

ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله).

2 -

قال مجاهد: (يعني بالحكمة: الإصابة في القول). فقال: (ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن). وقال أبو العالية: (الحكمة الكتاب والفهم).

3 -

قال أبو العالية: (الحكمة خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة).

4 -

قال إبراهيم النخعي: (الحكمة الفهم). وقال أبو مالك: (الحكمة: السنة).

5 -

قال زيد بن أسلم: (الحكمة العقل). وقال مالك: (الحكمة الفقه في دين الله).

6 -

قال السدي: (الحكمة: النبوة).

قلت: والصحيح أن الحكمة تشمل كل ما سبق، وأعلاها النبوة، وينال أتباع الأنبياء منها حسب اتباعهم، ولذلك قال بعدها:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} .

أخرج الشيخان وأحمد عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها](1).

وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .

يعني: لا يتعظ بهذه الآيات إلا أصحاب العقول: ممن يعي آفاق هذا الخطاب.

270 -

271. قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى أن جميع ما ينفقه العبد أو ينذره تقربًا لله مما يوجبه على نفسه فهو في علم الله. وأنّ الأصل إخفاء الصدقة إلا لمصلحة شرعية، وضابط ذلك كله هو صحة النية.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (73)، (1409)، ومسلم (816)، وأحمد (1/ 358).

ص: 656

قال مجاهد: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} ، ويحصيه).

ثم توعد سبحانه من تجاوز أمره وعصاه، بقوله:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .

ويشمل الظلم هنا من أنفق ماله رئاء الناس أو نذر نذرًا في معصية الله، كما يشمل كل ظلم يجترحه العبد ثم لا يتوب منه، فإنه لا نصير له يوم القيامة.

وقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} .

قال قتادة: (كلٌّ مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السّر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تُطفئ الخطيئة كما يطفى الماء النار).

قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [سبعةٌ يُظلِّهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل قلبُه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه](1).

الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صنائعُ المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السِّر تُطْفِئُ غضب الرّب، وصلة الرحم تزيد في العمر](2).

الحديث الثالث: أخرج الطبراني في الأوسط عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خَفيًّا تُطْفِئُ غضبَ الربِّ، وصلةُ الرحم زيادةٌ في العُمُرِ، وكلُّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031)، وأحمد (2/ 439) وغيرهم.

(2)

حديث حسن. أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 421)، وفي الأوسط كما في المجمع (3/ 115) بنحوه، وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (3691).

ص: 657

المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة] (1).

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح من حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسرُّ بالقرآنِ كالمُسرّ بالصدقة] (2).

ولا شك أن الأصل بالصدقة الإسرار إلا لمصلحة شرعية، مع التأكد من سلامة القصد والنية.

وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} .

قال ابن كثير: (أي: بدل الصدقات، ولا سيما إذا كانت سرًّا، يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات).

وهناك من قرأها: "ونكفِّرْ" بالجزم، عطفًا على محل جواب الشرط، وهو قوله:{فَنِعِمَّا هِيَ} ، كقوله {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} . وهي قراءة عامة أهل المدينة والكوفة والبصرة.

وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

يعني: يعلم الإسرار والعلن والنية والقصد، فهو محيط بكل شيء، يحصي لكم أعمالكم ثم يوافيكم إياها ويجازيكم عليها يوم القيامة.

272 -

274. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا

(1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير، حديث رقم (3690)، وكذلك حديث رقم (3689)، وانظر تخريج الترغيب (2/ 31)، وله شاهد في مستدرك الحاكم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 151 - 158)، وأبو داود (1333)، والترمذي (2919)، والنسائي (3/ 225)، وانظر صحيح الجامع الصغير، حديث رقم (3100).

ص: 658

وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}.

في هذه الآيات: إثبات الهداية لله وحده، وعودة نفع الصدقات على أهلها، والحث على الإنفاق بالليل والنهار.

أخرج النسائي والحاكم وابن جرير - ورجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس قال: [كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}](1).

وفي رواية: [كانوا يكرهون أن يَرْضَخُوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا، فرخص لهم، فنزلت هذه الآية:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} .

ويروي ابن جرير في التفسير، وكذلك ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:[أنه كان يأمُرُ بأن لا يُتَصَدَّقَ إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} .... إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كلِّ دين](2).

وقال الربيع: (كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابةٌ وهو محتاج، فلا يتصدق عليه، يقول: ليس من أهل ديني! ! فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، الآية).

وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} .

قال ابن زيد: (هو مردودٌ عليك، فما لك ولهذا تؤذيه وتمنّ عليه؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله، والله يجزيك).

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "التفسير"(72)، والحاكم (2/ 285) ، (4/ 156)، والطبري (6202) ، (6203)، وهو صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

(2)

إسناده حسن إلى ابن عباس، وانظر تفسير الطبري (7206) عن سعيد بن جبير مرسلًا.

ص: 659

وقال الحسن البصري: (نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن - إذا أنفق - إلا ابتغاء وجه الله). وقال عطاء الخراساني: (يعني: إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله).

قال ابن كثير: (وهذا معنى حسن، وحاصله أن المتصدق إذا تصدّق ابتغاء وجه الله، فقد وقع أجرُه على الله، ولا عليه في نفس الأمر من أصاب: أَلِبَرٍّ أو فاجر أو مستحق أو غيره، وهو مثاب على قصده).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال رجل: لأتصدقنَّ الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّقَ على زانية! فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّقَ الليلة على غني! قال: اللهم لك الحمد، على غني! لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّقَ الليلة على سارق! فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، وعلى غني، وعلى سارق. فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعِفّ بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعِفّ بها عن سرقته](1).

وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

قال مجاهد: (مهاجري قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أمَرَ بالصدقة عليهم). وقال السدي: (حصرهم المشركون في المدينة).

والمقصود بالآية: المهاجرون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا إلى المدينة امتثالًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لهم ما يغنيهم، ولا يتمكنون من السفر في طلب المعاش.

قال قتادة: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} : حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدو، فلا يستطيعون تجارة).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1421)، كتاب الزكاة، باب: إذا تصدق على غني وهو لا يعلم. ورواه مسلم (1022)، وأحمد (2/ 350)، والنسائي (5/ 55).

ص: 660

وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} .

يعني: يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء من شدة تعففهم عن المسألة وترك التعرض لما في أيدي الناس، صبرًا منهم على البأساء والضراء، واحتسابًا لذلك عند الله تعالى.

وقد جاء مدحهم بذلك في السنة الصحيحة: ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنِىً يغنيه، ولا يُفطن له فَيُتَصدَّق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا](1).

وقوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} .

قال مجاهد: (التخشّع). وقال السدي: (بسيما الفقر عليهم). وقال الربيع: (تعرف في وجوههم الجَهد من الحاجة)، وقال ابن زيد:(السيما رثاثة ثيابهم. والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها أن تخفى على الناس).

وقوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} .

أي: لا يلحون في المسألة، وهي صفة مدح لهم، بنفي الشّره والضراعة التي تظهر في الملحين من السؤال. قال ابن زيد:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} : هو الذي يلح في المسألة).

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يلى: [ليس المسكين الذي ترُدُّهُ التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفّف. اقرؤوا إن شئتم - يعني قوله - {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}](2).

وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن رجل من مُزينة: [أنه قالت له أمه: ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يسأله الناس؟ فانطلقتُ أسألهُ، فوجدته قائمًا يخطب، وهو يقول: من استعفّ أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل الناس وله عدْل خمس أواق، فقد سأل الناس إلحافًا.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1479)، وأخرجه مسلم (1039)، وابن حبان (3351).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4539)، وأخرجه مسلم (1039)، والبيهقي (4/ 195).

ص: 661

فقلت بيني وبين نفسي: لناقةٌ له هي خير من خمس أواق، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق. فرجعت ولم أسأل] (1).

قلت: فإن كان السؤال لتكثير المال دونما حاجة فقد جاء الوعيد الشديد بذلك، وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من سأل الناس أموالًا تكثُّرًا، فإنما يسألُ جمر جهنم، فليستقل منه أو لِيَسْتَكْثِر](2). وفي لفظ: [فإنما يسأل جَمْرًا، فليستقل أو ليستكثر].

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن حبشي بن جنادة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من سأل من غير فقرٍ فكأنما يأكلُ الجمرَ](3).

الحديث الثالث: أخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من سأل وله أربعون دِرْهمًا فهو الملحِفُ](4).

وله شاهد عند أبي داود وابن حبان من حديث أبي سعيد بلفظ: [من سأل وله قيمة أوقيّةٍ، فقد ألحفَ]. والأوقية أربعون درهمًا.

وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} .

أي: كل ما أنفقتم في علمه، وسيوافيكم بثوابه الجزيل يوم تلقونه، فإنه سبحانه يحصيه لكم ويبارك فيما بذلتموه.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

هو ثناء ومدح من الله سبحانه للمؤمنين المنفقين بالليل والنهار وفي السر والعلانية،

(1) أخرجه أحمد (4/ 138)، ورجاله ثقات، وجهالة الصحابي لا تضر. وقال الهيثمي في "المجمع" (4517): رجاله رجال الصحيح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1041)، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، ورواه أحمد وأبو داود. انظر صحيح الجامع الصغير رقم (6154).

(3)

حديث صحيح. رواه أحمد في المسند من حديث حبشي بن جنادة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه.

انظر صحيح الجامع -حديث رقم- (6157)، وتخريج الحلال (53).

(4)

حديث صحيح. انظر سنن النسائي (1/ 363)، وموطأ مالك (2/ 999/ 11)، وسنن أبي داود (1627)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1719).

ص: 662

وهو ضمان منه سبحانه بالأمن والطمأنينة لهم يوم يخاف الناس وترجف قلوبهم.

وقد امتلأت السنة الصحيحة بالإخبار عن رفيع الدرجات للمنفقين في سبيل الله، وقد تضمن ذلك الإنفاق على الزوجة وأهل البيت.

وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري عن سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إنك لن تُنْفِقَ نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها حتى ما تجعلُ في فم امرأتك](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند عن خُرَيم بن فاتك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أنفق نفقة في سبيل الله، كتبت له سبع مئة ضعف](3).

الحديث الرابع: أخرج الشيخان وأحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أنفق زوجين في سبيل الله نوديَ من أبواب الجنة: يا عبدَ الله هذا خيرٌ، فمن كان من أهل الصلاة، دُعِيَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دُعِيَ من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام، دُعِيَ من باب الرَّيان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، قال أبو بكر: هل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كُلِّها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم](4).

275.

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (55)، كتاب الإيمان، ومسلم (1002)، وأحمد (4/ 120).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (56)، كتاب الإيمان، وأخرجه مسلم (1628)، في أثناء حديث.

(3)

حديث صحيح. ورواه الترمذي (1625)، والنسائي والحاكم. انظر تخريج الترغيب (2/ 156)، وصحيح سنن الترمذي (1326)، وصحيح الجامع (5986).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1897)، كتاب الصوم، وكذلك (2841). ورواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي. انظر صحيح الجامع الصغير، حديث رقم (5985).

ص: 663

وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}.

في هذه الآية: عطف سبحانه على ذكر أصحاب القربات والصدقات، بذكر أصحاب الربا وأموال الشبهات.

قال ابن عباس: (آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يُخْنق) رواه ابن أبي حاتم. وعن سعيد بن جبير: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} : يعني: لا يقومون يوم القيامة). وقال: (ذلك حين يبعث من قبره).

والمقصود أن أكلة الربا لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صَرْعِه، وتخبّط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا.

قلت: والآية دليل على إمكانية تلبس الشيطان بالعبد ومسّه، ودخوله فيه والتأثير عليه، ولا يرده إلا صدق الالتجاء والاستعاذة منه بالله تعالى.

ففي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص، قال:[قلتُ: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يَلْبِسُها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك شيطان يُقال له خِنْزَب، فإذا أحْسَسْتَهُ فتعوذ بالله منه، واتْفُل عن يسارك ثلاثًا. ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني](1).

وعن عثمان بن أبي العاص قال: (استعملني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصغَرُ السِّتة الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة، فقلت: يا رسول الله! إن القرآن يتفلت مني، فوضع يده على صدري وقال: يا شيطان اخْرُج من صدر عثمان. قال: فما نسيت شيئًا بعده أريد حفظه)(2)،

وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} .

أي: هو نظيره، اعتراضٌ منهم على الشرع، أي: لم حَرّم هذا وأباح هذا، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا حلّ مالُ أحدهم على غريمه، يقول الغريم لغريم الحق:

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2203)، كتاب السلام. وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (3/ 1442) لتفصيل الخبر.

(2)

انظر: "زاد المعاد"(3/ 600)، والمرجع السابق (3/ 1441)، والحديث السابق. ورواه الطيالسي.

ص: 664

"زدني في الأجل وأزيدك في مالك". فإذا قيل لهما هذا ربا لا يحل، قالوا:"سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند مَحِلّ المال" فكذبهم الله في قيلهم فقال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .

وقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} .

يعني بالموعظة: التذكير والتخويف الذي ذكّرهم الله به وخوّفهم كما جاء في وعيد القرآن وآياته.

وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} .

قال السدي: (فإنه ما كان أكل من الربا قبل التحريم).

والمقصود: عفا الله عما سلف بعد وصول بلاع الشرع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:[وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضَعُ رِبانا، رِبا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله](1).

وقوله: {وَمَنْ عَادَ} .

أي: إلى الربا بعدما بلغه النهي والوعيد، {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

أخرج البخاري عن ابن عباس قال: (آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، آية الربا)(2).

وله شاهد في مسند أحمد عن سعيد بن المسيب، أن عمر قال:(من آخر ما نزل، آيةُ الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِضَ قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة)(3).

وفي سنن النسائي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [آكل الربا وموكِلهُ، وكاتبُه، وشاهِداه، إذا علموا ذلك، والواشمة والموشومة للحسن، ولاوي

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1218)، كتاب الحج، في حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها جابر رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4544) عن ابن عباس به.

(3)

أخرجه ابن ماجة (2276)، والطبري (6305) بسند صحيح إلى ابن المسيب، واختلف في سماع ابن المسيب من عمر، ولكن مراسيل ابن المسيب جياد بكل حال.

ص: 665

الصدقة، والمرتد أعرابيًّا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد يوم القيامة] (1).

وفي مسند أحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن حنظلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم، أَشَدُّ عند الله من ستة وثلاثين زنية](2).

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: [لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكِلَ الربا وموكِلَه](3).

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة أبواب الربا وكثرة طرقه، وحذّر من مغبة التورط بذلك، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج ابن ماجة عن ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[الربا ثلاثة وسبعون بابًا](4). وفي رواية البزار: [الربا سبعون بابًا والشرك مثل ذلك].

الحديث الثاني: أخرج الحاكم في المستدرك بإسند صحيح عن ابن مسعود أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مِثلُ أن ينكحَ الرجُل أمَّهُ، وإن أربى الربا عِرضُ الرجُل المسلم](5). وفي لفظ عند الطبراني: (وإن أربى الربا استطالةُ الرجل في عرضِ أخيه).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[الربا سبعونَ حُوْبًا أيسرها أن ينكح الرجل أمَّه](6).

276 -

277. قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ

(1) حديث صحيح. رواه النسائي في السنن. انظر صحيح النسائي (4721). ورواه ابن خزيمة والحاكم.

(2)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (5/ 225)، والمعجم الأوسط للطبراني (1/ 142). وانظر المرجع السابق (3370)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1033).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1597)، والترمذي (1206)، وزاد:"وشاهديه وكاتبه"،

(4)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (2275). انظر صحيح سنن ابن ماجة (1845). ورواه البزار. انظر تخريج الترغيب (3/ 50)، وصحيح الجامع (3532).

(5)

حديث صحيح. انظر تخريج الترغيب (3/ 50)، والمرجع السابق، حديث رقم (3533).

(6)

حديث صحيح - أخرجه ابن ماجة في السنن (2274) - كتاب التجارات - باب التغليظ في الربا. انظر - سنن ابن ماجة (1844)، وصحيح الجامع (3535).

ص: 666

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}.

في هذه الآيات: يخبر الله تعالى أن مصير الربا إلى هلاك وإفلاس، وذهاب بالبركة، وعذاب في الآخرة، في حين ينمي الله الصدقات ويطرح فيها البركة في حياة صاحبها في الدنيا ثم يسعده بثوابها في الآخرة. إنّ أهل الإيمان والعمل الصالح وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لهم جزيل الثواب عند ربهم ولا يعترضهم خوف يومئذ ولا هم يحزنون.

أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند جيد عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قُلٍّ](1).

ورواه ابن ماجة عنه بلفظ: [ما أحد أكثرَ من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل].

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبَّلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلُوه، حتى يكون مثل الجبل](2).

ورواه الترمذي وفيه زيادة: (وتصديقُ ذلك في كتاب الله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}).

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} .

قال الحافظ ابن كثير: (أي: لا يحب كَفُور القلب أثيمَ القولِ والفعل، ولابُدَّ من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكَسُّب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جَحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل. ثم قال تعالى مادحًا للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبرًا عما أعدّ لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون: فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

(1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 395 - 424)، وإسناده لا بأس به، وانظر صحيح الجامع - حديث رقم - (3536). ورواه ابن ماجة (2279)، والحاكم (2/ 37)، بسند حسن، كما في الحديث بعده.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1410)، و (7430)، ومسلم (1014)، ورواه أحمد في المسند (2/ 538). وانظر سنن الترمذي -حديث رقم- (662).

ص: 667

الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}].

278 -

281. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}.

في هذه الآيات: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يجتثوا آخر جذور الربا من حياتهم ويخبتوا لأمره، وإلا فالوعيد الشديد ينتظرهم. ويرغب سبحانه في التيسير على المعسر عند قبض رؤوس الأموال، كما يرغب في الصدقة والاستعداد ليوم الحساب.

قال الضحاك: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} : كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم).

وقال ابن عباس: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزعُ عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزَعَ وإلا ضرب عنقه).

وقال الربيع: (أوعد الآكل الربا بالقتل). وقال قتادة: (أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بَهْرجًا أينما ثقفوا).

وقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} .

قال الضحاك: (وضع الله الربا، وجعل لهم رؤوس أموالهم). وقال قتادة: (ما كان لهم من دين، فجعل لهم أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزدادوا عليه شيئًا).

وقوله: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} .

قال ابن زيد: (لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلًا لا يحل لكم). وقال ابن عباس: {لَا تَظْلِمُونَ} : فتُربون، {وَلَا تُظْلَمُونَ}: فتنقصون).

ص: 668

وقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .

قال مجاهد: (يؤخّره، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخّره).

وقوله: {ذُو عُسْرَةٍ} .

مرفوع بكان، والخبر محذوف. والتقدير: وإن كان ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوس أموالكم، {ذُو عُسْرَةٍ} يعني: معسرًا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء: فأنظروهم إلى ميسرتهم. أو كما قال ابن جرير: (فيكون تأويل الكلام عند ذلك: وإن وُجد ذو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنظرة إلى ميسرة). فوجّهت كان هنا إلى معنى الفعل التام دون الحاجة إلى خبر.

وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين). وروى ابن جرير هذا المعنى عن قتادة: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} : أي: برأس المال، فهو خير لكم).

وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا المعنى، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن أبي اليَسَر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أنظر مُعْسِرًا، أو وضع عنه، أظلَّه الله في ظِلِّه](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[منْ أنْظَرَ مُعْسِرًا، أو وضَعَ له، أظَلَّهُ الله يومَ القيامة تحت ظلِّ عرشه، يوم لا ظل إلا ظلّه](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن بريدة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من أنظر معسرًا فله بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حلّ الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (3006)، كتاب الزهد، ورواه ابن حبان (5044)، وانظر مسند أحمد (42713).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (42713)، وابن ماجة (2419)، وبنحوه الطبراني (19/ 372).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 360)، والحاكم (2/ 29)، وانظر السلسلة الصحيحة (86).

ص: 669

الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي قتَادة، أن أبا قتَادة: طلب غريمًا له فتوارى عنه، ثم وجده، فقال: إني مُعْسِرٌ. قال: آلله؟ قال: الله، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من سَرّه أن يُنجِيَهُ الله من كُرَب يوم القيامة فَلينفِّسْ عن مُعْسرٍ، أو يضَعْ عنه](1).

الحديث الخامس: أخرج البخاري في صحيحه عن حذيفة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[إن رجلًا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبضَ روحَه، فقيل له: هل عَمِلْتَ من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلمُ شيئًا غير أني كنت أُبايعُ الناس في الدنيا وأجازيهم فأُنْظِرُ الموسِرَ وأتجاوزُ عن المُعْسِر، فأدخله الله الجنة](2).

ثم ذكَّر سبحانه عباده نهاية المطاف، بأن الرجوع إليه، وترك الأموال والعقارات والدنيا وزينتها، ووضع الأعمال على الميزان، فمن رجحت كفة حسناته فقد فاز، ومن رجحت كفة سيئاته فقد هلك، قال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .

وهذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن. قال البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، باب:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} . حدثنا قبيصة بن عُقبة: حدثنا سفيانُ عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(آخر آيةٍ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آيةُ الربا).

وقال ابن جريج عن ابن عباس: (آخر آية نزلت من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال، وبُدئ يوم السبت، ومات يوم الاثنين).

قال ابن جرير: (يعني بذلك جل ثناؤه: واحذورا أيها الناس، {يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ، فتلقونه فيه، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم فتهتك أستاركم، أو بموبقات توبقكم فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قِبَلَ لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفّى فيه كل نفس أجرَها على

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1563)، كتاب المساقاة. باب فضل إنظار المعسر، ورواه أحمد في المسند (5/ 300).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3451)، كتاب أحاديث الأنبياء، وانظر حديث رقم (2077).

ص: 670

ما قدَّمت واكتسبت من سَيِّيءٍ وصالح، لا تُغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضِرت، فوفّيتْ جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون.

وكيف يُظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟ ! كلَّا، بل عَدَل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغَ أيها المحسن. فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، وراقبه، أن يهجم عليه يومُه وهو من الأوزار ظهرُه ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حَذّر فأعذَر، ووعظ فأبلغ).

282.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} .

في هذه الآية: ضرورة توثيق العهود وكتابتها، وحفظ الأموال بالإشهاد عليها، وحماية العلاقات والذرية من الضياع.

أخرج ابن جرير بسنده عن ابن شهاب قال: حدثني سعيد بن المسيب: (أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين).

وهذه الآية هي أطول آية في كتاب الله عز وجل، وفيها أحكام جليلة، وأوامر عظيمة تحتاجها الأمة في حياتها وخلال معاملاتها، وإن مخالفتها سبب فساد كثير من أحوال الناس وعلاقاتهم.

ص: 671

أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن ابن عباس أنه قال: [لما نزلت آية الدين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول من جحد آدم عليه السلام، إن الله لما خلق آدم مَسَحَ ظهره، فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلًا يزهر، فقال: أي ربّ، من هذا؟ قال: ابنُك داود. قال: أي رب، كم عمُرُه؟ قال: ستون عامًا، قال: ربّ، زِدْ في عمره. قال: لا، إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمرُ آدم ألف سنة، فزاده أربعين عامًا، فكتب عليه بذلك كتابًا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتُضِرَ آدم وأتته الملائكة قال: إنه بقي من عمري أربعون عامًا، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود. قال: ما فعلت. فأبرز الله عليه الكتاب، وأشهد عليه الملائكة. وفي رواية: فأتمها الله لداود مئة، وأتمها لآدم ألف سنة](1).

والحديث مع الآية يدل كل منهما على ضرورة كتابة العقود وتوثيقها، وعلى وجوب الكتابة أثناء قرض الأموال، حفظًا للحقوق وحماية للذرية من الضياع.

أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثةٌ يدعونَ الله عز وجل فلا يستجابُ لهم: رجُلٌ كانت تحته امرأة سيئة الخلقُ فلم يطلّقها، ورجل كان له على رجل مالٌ فلم يُشهِدْ عليه، ورجُل آتى سفيهًا مالهُ، وقال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ}](2).

وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} .

يعني: إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يعني: إلى وقت معلوم، فيدخل بذلك القرض والسَّلَم. والآية إرشاد من الله لضرورة الكتابة في المعاملات المالية المؤجلة والديون والقروض وغير ذلك. قال ابن عباس:(أنزلت في السلم إلى أجل معلوم) ذكره ابن جرير.

وروى البخاري عن قتادة، عن أبي حَسّان الأعرج، عن ابن عباس قال: (أشهد أن السَّلَفَ المضمونَ إلى أجل مسمّى أن الله أحَلّهُ وأذن فيه، ثم قرأ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ].

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (1/ 251 - 252 - 299 - 371)، ورواه أبو يعلى (2710)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 90).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 302)، والديلمي (2/ 58): وانظر السلسلة الصحيحة (1805)، وصحيح الجامع الصغير برقم (3070)، ورواه أبو نعيم والطحاوي.

ص: 672

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: [قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أَسْلَفَ فَلْيُسْلِف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجلٍ معلوم](1).

وقوله: {فَاكْتُبُوهُ} .

أمر بالكتابة والتوثيق والحفظ.

قال ابن جريج: (من ادّان فليكتب، ومن ابتاع فَليُشهد). وقال الضحاك: (من باع إلى أجل مسمى، أُمر أن يكتب، صغيرًا كان أو كبيرًا إلى أجل مسمى).

وقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} .

قال قتادة: (اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يَدَعَنَّ منه حقًّا، ولا يزيدن فيه باطلًا).

وقوله: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} .

يعني: لا يمتنع من سئل الكتابة أن يكتب ما دام يعلم الكتابة، وليتصدق بذلك على غيره ممن لا يعرف الكتابة.

قال مجاهد: (واجب على الكاتب أن يكتب).

وفي سنن أبي داود بسند جيد عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من كتم عِلْمًا يعْلمُهُ أُلجم يوم القيامة بلجام من نار](2).

وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} .

أي: ليتولّ المدين إملالَ كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب. قال الربيع: ({وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}، يقول: لا يظلم منه شيئًا). وقال ابن زيد: (لا ينقص من حق هذا الرجل شيئًا إذا أملى).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2239) ، (2241)، وأخرجه مسلم (1604)، وأحمد (1/ 217)، والترمذي (1311)، وأبو داود (3463)، والنسائي (7/ 290)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3658)، والترمذي في الجامع (2649)، وابن ماجة في السنن (261)، ورواه الحاكم (1/ 102).

ص: 673

وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .

قال السدي: (أما السفيه، فهو الصغير). وقال الضحاك: (هو الصبي الصغير، فليملل وليُّه بالعدل). وقال مجاهد: (أما السفيه، فالجاهل بالإملاء والأمور)، واختاره ابن جرير. وقال ابن كثير. (سفيهًا: محجورًا علبه بتبذير ونحوه). وهذا المعنى أشمل.

وقوله: {أَوْ ضَعِيفًا} .

أي: صغيرًا أو مجنونًا أو عاجزًا. {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} لجهل أو مانع: كحبسٍ أو خرسٍ أو غيابٍ بسبب ما. {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} . قال ابن عباس: (إن كان عجز عن ذلك، أملَّ صاحبُ الدين بالعدل).

وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} .

أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثيق. {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وهذا الأمر في الأموال والديون، فإنَّ عَقْلَ الرجل أكمل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل.

ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلبَ لذي لبٍّ منكنَّ، أما نقصان العقل فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان الدين، فإن إحداكنَّ تفطرُ رمضان، وتقيم أيامًا لا تصلي](1).

وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} .

فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود، وهذا الأمر يعمّ كل شهادة. قال الربيع:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، يقول: عُدولٌ).

وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .

قال الضحاك: (إنْ تَنْسَ إحداهما ذكَّرَتْها الأخرى).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1/ 61)، وأحمد (2/ 66 - 67)، وانظر صحيح الجامع (5500).

ص: 674

وقوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} .

قال ابن عباس: (يعني: من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحل له أن يأبى إدا ما دُعي).

وفي صحيح مسلم عن زيد بن خالد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها](1).

وأما ما أخرج البخاري عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوامٌ تسبقُ شهادة أحدهِم يمينَهُ ويمينُه شهادته](2).

وكذلك روى نحوه عن عمران بن حصين، ثم ذكر عمران: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن بعدَكم قومًا يخونون ولا يُؤْتَمَنون ويشهدون ولا يستشهدون ويَنْذِرون ولا يَفُون، ويظهرُ فيهم السِّمن].

فالمقصود قوم لهم مصلحة بشهادة ما، فالحديث في موضع ذمٍّ لهم ولأمثالهم لا في موضع مدح، وقيل هؤلاء شهود الزور، ولذلك قال إبراهيم - عقب حديث عبد الله -:(وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد).

وقوله: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} .

إرشاد إلى دقة الكتابة وعدم التهاون بتفاصيلها، أي: ولا تملّوا أن تكتبوا الحق بكل ما فيه من صغيرة وكبيرة. يقال: سئمت، أي: مللت. وقوله: {إِلَى أَجَلِهِ} ، إلى أجل الحق.

وقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} .

أي: هذا الذي أمرتم به من الكتابة والدقة أعدل عند الله وأثبت لأمر الشهادة، فإن الشاهد إذا رآه تذكر خطه فربما يكون قد نسيه.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1719)، وأحمد (5/ 193)، وأبو داود (3569)، والترمذي (2296). من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2352)، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جَور إذا أشهد. وانظر (2651) للحديث بعده. وكذلك (3651).

ص: 675

وقوله: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} .

أي: أقرب إلى عدم الريبة، وأبعد عن الشك.

وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} .

قال السدي: (يقول: معكم بالبلد ترونها، فتأخذ وتعطي، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها). أي: إذا كان البيع بالحاضر يدًا بيد، فلا حرج بترك الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.

وقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} .

الجمهور حمله على الندب لا على الوجوب.

قال الشعبي: (إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألم تسمع إلى قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}. وقال الضحاك: (ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله أن يكتب ويُشْهد عليه. وذلك في المقام).

قلت: والذي ذهب إليه الضحاك هو الأقرب، ويتوافق مع ما أخرجه الحاكم عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل دَفَعَ مال يتيم قبل أن يبلغ، ورجل أقرض رجلًا مالًا فلم يشهد](1).

ومع ما أخرجه الإمام أحمد بسند جيد عن عُمارة بن خزيمة الأنصاري، أنّ عمَّه حدّثه - وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: [أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيَه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبطأ الأعرابي، فطفِقَ رجالٌ يَعْتَرِضُون الأعرابي فيساومُونَهُ بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضُهم الأعرابيَّ في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه، وإلا بعتُه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: أو ليس قد ابتعتُه منك؟ قال الأعرابي: لا، والله ما بعتك،

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 302)، والديلمي (2/ 58)، وقد مضى برواية أخرى.

ص: 676

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل قد ابتعتُهُ منك. فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي، وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هَلُمّ شهيدًا يشهد أني بايعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًّا. حتى جاء خزيمةُ فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي، فطفق الأعرابي يقول: هَلُمّ شهيدًا يشهد أني بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بِم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين] (1).

وقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} .

يعني: لا يُضَرَّ بهما، ولا يضُرّا بكتابة خلاف ما يملي، فالتأويلان محتملان.

قال ابن زيد: (لا يضار كاتب فيكتب غير الذي أملي عليه. قال: والشهيد يضار فيحوِّل شهادته، فيبطل حقهم). وقال عطاء: (لا يضار: أن يؤديا ما عندهما من العلم).

وقال الضحاك: (هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهدَ وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول: والله لقد أمركما أن تجيبا! فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما، يعني: لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما). واختاره شيخ المفسرين.

وقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} .

يعني: إن خالفتم ما أمرتم به فقد وقعتم في الفسوق. قال ابن عباس: (والفسوق المعصية). وقال ابن زيد: (الفسوق الكذب. قال: هذا فسوق، لأنه كذب الكاتبُ فحوَّل كتابه فكذَب، وكذَبَ الشاهد فحوّل شهادته، فأخبرهم الله أنه كذب).

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

أمْرٌ بالتقوى وإخبار بنتائجها من النور والعلم والثواب، وتشمل التقوى الأخذ بأسباب العلم والتَّثَبُّت، ثم الله يبارك سبحانه.

(1) إسناده جيد. أخرجه أحمد (5/ 216)، وأبو داود (3067)، والنسائي (6243)، والحاكم (2/ 18)، وله شاهد عند البخاري (4784) يشهد لبعضه.

ص: 677

قال تعالى في سورة الأنفال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا

} [الأنفال: 29]. وقال في سورة الحديد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ

} [الحديد: 28].

أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند حسن عن أبي سعيد الخدري، أن رجلًا جاءه فقال: أوصني، فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك: [أوصيك بتقوى الله تعالى فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض](1).

وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

أي: يعلم كل شيء من أعمالكم، فهو يحصيها عليكم، ليجازيكم بها.

283.

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} .

في هذه الآية: الترغيب في أخذ الرهان عند غياب الكاتب في السفر، ثم أداء الأمانات عند الرجوع إلى الحضر، والترهيب من كتم الشهادة، فإن في ذلك أعظم الضرر.

قال الضحاك: (فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا، فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن).

وقال ابن عباس: (أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسًا أو دواة أو قلمًا، فرهان مقبوضة). قال: (ربما وجد الرجل الصحيفة ولما يجد كاتبًا).

وفي صحيح البخاري عن أنس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّيَ ودِرْعُهُ مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير، رهنها قوتًا لأهله](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 82)، وله شاهد عن الطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 82/ 2). انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (555).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2069)، و (2508)، وأحمد (3/ 133)، ومسلم (1603)، =

ص: 678

وقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .

قال الضحاك: (إنما يعني بذلك: في السفر، فأما الحضر فلا، وهو واجد كاتبًا، فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضًا). وقال الشعبي: (إذا ائتمن بعضكم بعضًا فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تُشهدوا).

قال القرطبي: (شَرْط رُبط به وصية الذي عليه الحق بالأداء وترك المطل. يعني: إن كان الذي عليه الحق أمينًا عند صاحب الحق وثِقةً فليؤدِّ له ما عليه اؤتمن).

وقوله. {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} .

قال الربيع: (فلا يحل لأحد أَن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا). وقال السدي: {آثِمٌ قَلْبُهُ} : فاجر قلبه).

وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .

أي: عليم بشهادتكم وإظهارها أو كتمانها، وبكل سرائركم وعلانيتكم، يحصي عليكم ما أخفيتم وما أعلنتم ليجازيكم به.

284.

قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} .

لما نزلت هذه الآية وما بعدها اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وخافوا من دقة ما يمكن أن تشمل، من الأعمال الظاهرة والباطنة، ومن موقف الحساب والمحاسبة، وما يمكن أن يوضع على الميزان يوم القيامة.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: [لما أُنْزِلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

= لكن من حديث عائشة. ورواه الترمذي (1215)، وابن ماجة (2437)، وغيرهم.

ص: 679

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} . قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا على الرُّكَب فقالوا: أي رسولَ الله! كُلِّفْنا من الأعمال ما نُطيق: الصلاةُ والصيامُ والجهادُ والصَّدقةُ وقد أُنزلتْ عليك هذه الآية ولا نطيقُها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سَمِعْنا وعَصَيْنا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلَّتْ بها ألسنتهم، فأنزل الله عز وجل في إثْرِها:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، قال: نعم. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، قال: نعم، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، قال: نعم. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، قال: نعم] (1).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسَها ما لم تكلَّم أو تعمل](2).

وفي صحيح مسلم عنه قال: [جاء ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان](3).

وفي صحيح مسلم عن عبد الله قال: [سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة. قال: تلك صريح الإيمان](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (125)، كتاب الإيمان، باب بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، وبيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يُطاق، وبيان حكم الهم بالحسنة والسيئة. ورواه أحمد (2/ 412)، وذكره ابن جرير.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2528)، ومسلم (127)، وأحمد (2/ 355)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (132)، وأخرجه أبو داود (5111)، وابن حبان (148) وغيرهم.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (133)، والمراد مدافعة الوسوسة وما يجده من ذلك في النفس.

ص: 680

وفي صحيح البخاري عن مروان الأصفر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبُه ابنَ عمر -:[{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} قال: نسختها الآية التي بعدها](1).

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بأن الهمّ بالحسنة يكتب حسنة وإن لم يعملها، والهمّ بالسيئة لا يكتب حتى يعملها صاحبها فتكتب واحدة، وذلك من فضل الله وكرمه على عباده المؤمنين.

وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همَّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا](2).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله: إذا هَمَّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتُها له عشر حَسنات إلى سبع مئة ضعف، وإذا همَّ بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة](3).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن هَمَّام بن مُنَبِّه، قال: هذا ما حدَّثنا أبو هريرة، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله: إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالت الملائكة: ربِّ ذاك عبدك، يريد أن يعمل سيئة، - وهو أبصر به - فقال: ارقُبُوه، فإن عملها فاكتبُوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، وإنما تركها من جَرَّاي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحسن أحدكُم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه الخاري في الصحيح -حديث رقم- (4545) ، (4546).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (7501)، ومسلم (128)، وأحمد (2/ 242)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (128) ح (204)، وابن حبان (383)، وغيرهما.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (129)، وأحمد (2/ 315)، وابن حبان (379)، وغيرهم.

ص: 681

وذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك أن الآية محكمة لم تنسخ، واختاره ابن جرير، وذكر أن المحاسبة لا يلزم منها المعاقبة.

وعن ابن عباس: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ، فإنها لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم، مما لم يطلع عليه ملائكتي، وأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله:{يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله:{فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وهو قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . أي: من الشك والنفاق).

وهذا مذهب قوي في أن الآية محكمة، وإنما المنسوخ منها هو المحاسبة بالوسوسة والخواطر، وما يدور في حديث النفس وتأملاتها، ويؤيد هذا ما في الصحيحين عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الله يُدْني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى قَرَّره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هَلَكَ، قال: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناتِهِ، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18](1).

285 -

286. قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}

في هذه الآيات الرسول والمؤمنون صدقوا الله تعالى منهج الإيمان، فآمنوا بالله

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (2441) ، كتاب المظالم، وكذلك (4685) ، (7514) ، وأخرجه مسلم برقم (2768).

ص: 682

وملائكته وكتبه ورسله ولم يفرقوا بين رسول وآخر، وأخبتوا إلى ربهم بالسمع والطاعة. إن الله لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها وقد استجاب دعاء المؤمنين في ذلك وغفر لهم ووعدهم النصر على أعدائهم.

قد جاء ذكر فضل هاتين الآيتين في السنة الصحيحة، فإلى ذكر بعض هذه الأحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قرأ بالآيتين - من آخر سورة البقرة - في ليلة كفتاه](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن عبد الله قال: [لما أُسْرِيَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، انتُهِيَ به إلى سِدْرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يُعْرَجُ من الأرض فَيُقْبَضُ منها، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به من فوقها فيقبَضُ منها، قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}، قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: أُعطي الصلواتِ الخمسَ، وأُعطِيَ خواتيم سورة البقرة، وغُفِرَ لمن لم يشرك بالله من من أمته شيئًا المُقحمات](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي ذر قال: قال رسىول الله صلى الله عليه وسلم: [أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبيّ قبلي](3).

وله شاهد عنده من حديث حذيفة بلفظ: [فُضِّلنا على الناس بثلاث

أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش، لم يُعطها أحد قبلي. ولا يُعطاها أحدٌ بعدي].

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي - واللفظ للترمذي - بإسناد حسن، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، وهو عند العرش، وإنه أنزل منه آيتين، ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاثَ ليال فيقربها الشيطان](4).

الحديث الخامس: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، عن ابن

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5009) ، (9051)، ومسلم (807)، وأحمد (4/ 121)، وغيرهم. من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (73)، وأخرجه النسائي في "الكبرى"(315).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 151)، وانظر (5/ 383)، للشاهد بعده.

(4)

حديث حسن. أخرجه الترمدي (2882)، والنسائي في الكبرى (10802)، وأحمد (4/ 274).

ص: 683

عباس قال: [بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: "هذا باب قَدْ فُتِحَ من السماء، ما فُتح قط". قال: فنزل منه مَلَكٌ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته](1).

فإلى تفصيل معاني هاتين الآيتين العظيمتين:

قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} .

إخبار من الله سبحانه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} .

عطف على الرسول، فالجميع جاؤوا بأركان الإيمان، وبذلك أخبر عنهم سبحانه بقوله:{كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . قال ابن زيد: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، كما صنع القوم - يعني: بني إسرائيل - قالوا: فلان نبيّ، وفلان ليس نبيًّا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به).

وقوله: {وَقَالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .

أي: سمعنا قولك يا ربنا وفهمنا، وقمنا بمقتضاه من العمل فاغفر لنا وارحمنا وتجاوز عنا حين نلقاك.

وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .

قال ابن عباس: (هم المؤمنون، وسَّعَ الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}).

وقال السدي: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وسعها: طاقتها، وكان حديث النفس مما لم يطيقوا).

وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .

قال ابن عباس: (عمل اليد والرجل واللسان).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (806)، والنسائي (2/ 138)، والحاكم (1/ 558).

ص: 684

وقال السدي: ({لَهَا مَا كَسَبَتْ}، يقول: ما عملت من خير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، يقول: وعليها ما عملت من شر).

وقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .

قال ابن زيد: (إن نسينا شيئًا مما افترضته علينا، أو أخطأنا، فأصبنا شيئًا مما حرمته علينا).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: [قال الله: نعم]. ولحديث ابن عياس: [قال الله: قد فعلت](1).

وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} .

قال قتادة: (لا تحمل علينا عهدًا وميثاقًا، كما حملته على الذين من قبلنا، يقول: كما غُلِّظَ على من قبلنا). وقال مجاهد: (إصرًا: عهدًا). وقال الربيع: (الإصر: العهد. {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}. قال: عهدي). وقال الضحاك: {إِصْرًا} : المواثيق).

وقال ابن جُريج: (عهدًا لا نطيقه ولا نسمتطيع القيام به، {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، اليهود والنصارى فلم يقوموا به، فأهلكتهم). وقال عطاء: (لا تمسخنا قردة وخنازير).

وقال ابن زيد: (لا تحمل علينا ذنبًا ليس فيه توبة ولا كفارة).

وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .

قال الضحاك: (لا تحملنا من الأعمال ما لانطيق).

وقال ابن زيد: (لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه).

والمعنى: لا تكلفنا من ألأعمال ما لا نطيق القيام به، ولا من العهود التي لا طاقة لنا بالوفاء بها.

وقوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} .

قال ابن زيد: (اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به). قال: {وَاغْفِرْ لَنَا} إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه).

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (125)، كتاب الإيمان، ورواه أحمد (2/ 412)، وقد مضى بتمامه.

ص: 685

وقوله: {وَارْحَمْنَا} .

قال ابن وهب، قال ابن زيد:(يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا برحمتك. قال: ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك).

وقوله: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .

أي: أنت ولينا ومؤيدنا وناصرنا، وعليك اتكالنا، فنستعين بك أن تنصرنا على القوم الطغاة المجرمين الذين جحدوا دينك، وعطلوا الحكم بشرعك، واستهزؤوا بأمرك ونهيك، فاشدد عزيمتنا سبحانك بتوفيقك ونصرك حتى نقيم دينك في الأرض، ونحكم بشرعك في أرجاء المعمورة، حتى تُعبدَ وحدك لا شريك لك.

يروي ابن جرير عن أبي إسحاق: (أن معاذًا كان إذا فرغ من هذه السورة: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، قال: آمين).

تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه

ص: 686