المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولكن ثمة فرق جوهري بين شياطين الإنس والجن، وهو أن - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ١

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن المؤلف

- ‌المقدمة

- ‌أئمة التفسير من الصحابة ومدارسهم وتراجمهم

- ‌أولًا: المدرسة المكية:

- ‌1 - عبد الله بن عباس:

- ‌2 - سعيد بن جبير:

- ‌3 - مجاهد بن جبر:

- ‌4 - عكرمة مولى ابن عباس:

- ‌6 - عطاء بن أبي رباح:

- ‌ثانيًا: المدرسة المدنية:

- ‌1 - أبي بن كعب:

- ‌2 - زيد بن أسلم:

- ‌3 - أبو العالية الرياحي:

- ‌4 - محمد بن كعب القرظي:

- ‌ثالثًا: المدرسة العراقية:

- ‌1 - عبد الله بن مسعود:

- ‌2 - مسروق بن الأجدع:

- ‌3 - الحسن البصري:

- ‌4 - قتادة بن دعامة:

- ‌5 - عطاء الخراساني:

- ‌6 - مُرّة الهمذاني:

- ‌تراجم بقية المكثرين من التفسير

- ‌1 - كعب الأحبار:

- ‌2 - وهب بن منبه:

- ‌3 - مقاتل بن سليمان:

- ‌4 - الضحاك بن مزاحم:

- ‌3 - الكَلبي:

- ‌6 - جويبر بن سعيد:

- ‌7 - السدي الكبير:

- ‌8 - السدي الصغير:

- ‌9 - النقاش:

- ‌10 - الثعلبي:

- ‌11 - الواحدي:

- ‌أنواع التفاسير

- ‌1 - التفاسير اللغوية:

- ‌2 - التفاسير العقلية والفلسفية:

- ‌3 - التفاسير الفقهية:

- ‌4 - تفاسير المبتدعة:

- ‌5 - التفاسير التاريخية:

- ‌6 - التفاسير بالمأثور:

- ‌منهج التفسير عند الراسخين من المفسرين وأئمة العلم من الصحابة والتابعين

- ‌أولًا: تفسير النص بالنص:

- ‌ثانيًا: تفسير القرآن بالحديث:

- ‌رابعًا: التفسير برد المتشابه إلى المحكم:

- ‌خامسًا: التفسير بأقوال الصحابة ومن سمع منهم من التابعين:

- ‌سادسًا: التفسير بمعرفة الناسخ والمنسوخ:

- ‌سابعًا: التفسير بالسياق والسباق:

- ‌ثامنًا: التفسير باللغة العربية:

- ‌خصائص القرآن الكريم وفضائله

- ‌من صفاته:

- ‌1 - إنه يأتي يوم القيامة شافعًا لأهله يحاج عن صاحبه

- ‌2 - القرآن شديد التفلّت فلا بد من تعاهده

- ‌3 - القرآنُ خير ما تُغني به وحُسِّنَ له الصوت

- ‌4 - القرآن خير ما تعلَّم المسلم وعلَّم، وأجر ذلك أعلى الأجور

- ‌5 - القرآنُ مصدر الثروة في الأجر، ويرفع الله به ذكر القائم به العامل بمنهاجه

- ‌6 - القرآن سبب القوة في حياة المسلمين

- ‌7 - نزول القرآن على سبعة أحرف رحمة بجميع المسلمين

- ‌8 - تكريم الله تعالى والدي صاحب القرآن يوم القيامة بتعليم ولدهما القرآن

- ‌1 - سورة الفاتحة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌تفسير الاستعاذة وحكمها

- ‌حكم الاستعاذة:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌2 - سورة البقرة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ولكن ثمة فرق جوهري بين شياطين الإنس والجن، وهو أن

ولكن ثمة فرق جوهري بين شياطين الإنس والجن، وهو أن شَيطان الجن شرير خبيث ماكر لا يقبل مجاملة ولا رشوة، في حين شيطان الإنس يمكن مدافعته بمجاملة وإحسان ورشوة، وقد أجاد الحافظ ابن كثير رحمه الله في دقة وصفه لذلك حيث قال:(لذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومُداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل، لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقك، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 199 - 200]. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 96 - 98]. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 39]. انتهى.

وأما الرجيم فهو فعيل بِمَعنَى مفعُول، أي مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال جل ذكره في سورة (تبارك):{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} .

‌حكم الاستعاذة:

أ- الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة.

إن الاستعاذة في الصلاة واجبة بعد الثناء على الله تعالى وقبل قراءة الفاتحة، فهي من واجبات الصلاة، لعموم قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. ولثبوت ذلكَ في صلاته صلى الله عليه وسلم كما جاء في السنة الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبّر ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك" ثم يقول: "لا إله إلا الله" ثلاثًا، ثم يقول: "الله

ص: 61

أكبر كبيرًا" ثلاثًا، "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" ثم يقرأ] (1).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة في السنن -كتاب الصلاة- باب الاستعاذة في الصلاة، عن ابن مسعود:[عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهَمْزِه ونَفخهِ ونفثه". قال: هَمْزُهُ الموتَةُ، ونَفْثُهُ الشِّعْرُ، ونَفْخُهُ الكِبْرُ](2).

ويُسَنُّ الإسرار بالتعوذ في الصلاة، كما يُسَنُّ تكرار الاستعاذة قبل القراءة في كل ركعة، فمن اكتفى بالاستعاذة قبل القراءة في الركعة الأولى كفاه عن الصلاة كلها.

ويكفي قود: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، فإن زاد:"أعوذ بالله السميع العليم" أحيانًا فقد وافق بذلك السنة.

ب- الاستعاذة عند القراءة خارج الصلاة.

الاستعاذة للتلاوة خارج الصلاة واجبة كذلكَ لِعمومِ قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، وفيها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له وتهيّؤ لتلاوة كلام الله.

وأما أثناء الاستشهاد ببعض آيات القرآن أثناء خطبة أو درس علم فما ثبت ذلكَ في المرفوع.

وقد كان يتلو النبي صلى الله عليه وسلم آيات دون الاستعاذة كما ثبت ذلك في السنة الصحيحة.

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي قال: [شهدتُ من رسول الله مَجْلِسًا وصفَ فيهِ الجنة، حتى انتهى، ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخِرِ حديثه: "فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا على قلب بَشَرٍ خَطَرَ" ثم قرأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17](3).

الحديث الثاني: أخرج البخاري عن عائشة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم قالت: [لمَّا أُمِرَ

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (775)، والترمذي (242)، والنسائي (2/ 132).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (808). انظر صحيح ابن ماجة- حديث رقم- (658).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح- حديث رقم- (2825)، كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها، من حديث سهل بن سعد الساعدي.

ص: 62

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجهِ بدأ بي فقال: "إني ذاكرٌ لكِ أمرًا فلا عليكِ أن لا تَعْجَلي حتى تستأمري أبَوَيْكِ"، قالت: وقد عَلِمَ أن أَبَوَيَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله جلَّ ثناؤهُ قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى {أَجْرًا عَظِيمًا} ] الحديث (1).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الدعاء هو العبادة" ثم قال: {وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60](2).

والأحاديث في ذلكَ كثيرة سواء من فعله وكلامه صلى الله عليه وسلم، أو من فعل أصحابه.

ج- الاستعاذة عند الغضب أو الوسوسة:

وهي هنا مستحبة، وفي ذلكَ أحاديث من صحيح السنة المطهرة:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن سُليمان بن صُرَدٍ قال: [كنْتُ جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يَسْتبَّانِ، فأحدُهما احمَرَّ وَجْهُهُ وانتفَخَت أوْدَاجُه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمُ كلمةً لو قالها ذهب عنه ما يجِدُ، لَوْ قال: أعوذُ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يَجِدُ"] الحديث (3).

الحديث الثاني: أخرج النسائي في "اليوم والليلة" بسند حسن عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: [تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فتَمَزَّع أنف أحدهما غضبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم شيئًا لو قاله لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم](4).

الحديث الثالث: خرّج الإمام مسلم في الصحيح عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: [قلت: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي يلبسها علي! فقال

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4786)، كتاب التفسير، سورة الأحزاب آية (28).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في "التفسير"، وفي "أبواب الدعوات" بلفظ: ثم قرأ. انظر صحيح سنن الترمذي (2590)، (2685). ورواه ابن ماجة في السنن (3828).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3282) - كتاب بدء الخلق. وكذلكَ (6048). وأخرجه مسلم (2610)، وأبو داود (4781)، ورواه ابن حبان (5692).

(4)

حديث حسن. أخرجه النسائي في "اليوم والليلة"(393) بإسناد حسن متصل. وله شاهد عند أبي داود (4780) والترمذي (3452) من حديث معاذ بن جبل.

ص: 63

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلكَ شيطان يُقال لهُ خِنْزَب، فإذا أحْسَسْته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثًا] (1).

قال: (ففعلت ذلكَ فأذهبه الله تعالى عني).

والخلاصة: لا بد من الاستعاذة بالله من هذا الشيطان، ومعنى "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم": أي أستجير بجناب الله تعالى من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني، أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ما أمرت به أو يحثني على فِعْلِ ما نُهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، كما قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65].

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (7/ 21)، كتاب الرقى، وانظر مختصر صحيح مسلم (1448).

ص: 64

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

7. قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ أَعْظَمِ سورة في القرآن، ورقية من السحر وشفاء للأبدان، تبدأ باسم الله الرحيم الرحمان، الذى له الحمدُ كله ووسعت رحمته جميع الأنام، وهو المالك كل شيء وله الأمر يوم الدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين، نفرده سبحانه بالعبادة نحن وجميع المؤمنين، وعليه نتوكل وبه نستعين، على طاعته ومدافعة الهوى والشهوات والشبهات وسبل الشياطين، والصبر على المحن والشدائد ومكر الطغاة المجرمين، ونسألهُ الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو دينهُ القويم، والثبات عليه حتى عبور الصراط يوم الزحام إلى جناتِ النعيم، صراط أهل الإيمان الذين أنعم الله عليهم برضوانه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير صراط المغضوب عليهم ولا الضالين، من الذين سخط الله عليهم وذمَّهم من أهل الكتابين، آمين اللهم آمين آمين.

قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .- الباء باء الاستعانة،

وهي -كما يقول النحويون- الداخلة على آلة الفعل نحو كتبت بالقلم، ونجرتُ بالقُدُّوم، ونحو قوله عليه الصلاة والسلام:"لن يدخل الجنة أحد بعمله". فالبسملة من ذلكَ، لأن الفعل لا يتأتى على الوجه الأكمل إلا بها،

والمتعلق بالباء في "بسم الله" عند النحاة على وجهين:

أ- اسم: والتقدير: باسم الله ابتدائي، نحو قوله تعالى:{وَقَال ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41].

ص: 65

ب- فعل: أمر أو خبر. نحو: أبدأ باسم لله، أفتتح باسم الله، وكقوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1]. وكلا التقديرين صحيح.

والاسم في قوله: "باسم" مشتق مِنْ "سَمَوَ" أي من السُّمُو، وهو العلوّ والرفعة -في قول البصريين، أو مشتق من السِّمة وهي العلامة من "وَسَمَ" في قول الكوفيين، والراجح الأول، وفي تأويله ثلاثة أقوال:

القول الأول: قيل "اسم" لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.

القول الثاني: قيل: بل لأن الاسم يسمو بالمسمّى فيرفعه عن غيره.

القول الثالث: قيل: إنما سُمِّيَ الاسم اسمًا لأنه علا بقوّته على قسمي الكلام: الحرف والفعل، والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل، فَلِعُلُوِّهِ عليهما سمي اسمًا.

وأما المقصود هنا في الاسم في قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهو المسمى بعينه من غير تفصيل.

فقولك: الله عالم، دالٌّ على الذات الموصوفة بكونه عالمًا. فالاسم كونه عالمًا وهو المسمى بعينه.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن لله تسعة وتسعين اسمًا مئة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة](1).

لقد افتتح الصحابة كتاب الله بهذه الآية: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، واتفق العلماء أنها بعض آية من سورة النمل، واختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أو بعض آية من كل سورة، أو إنها آية من الفاتحة دون غيرها.

والراجح أنها آية من الفاتحة لثبوت ذلكَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فقد أخرج الدارقطني والبيهقي والديلمي بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا قرأتم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فاقرؤوا: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2677) - كتاب الذكر والدعاء. باب في أسماء الله تعالى، وفضل من أحصاها.

ص: 66

الرَّحِيمِ} إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إحداها] (1).

قال الشافعي: (هي آية في الفاتحة). واحتج بالحديث السابق.

وأما قراءتها فواجبة، لكن استقر الأمر على عدم الجهر بها، وهذا أغلب فعله صلى الله عليه وسلم وما تابعه به الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم بعده. وتفصيل ذلكَ:

أ- دليل وجوب قراءة البسملة:

أخرج النسائي وابن خزيمة وابن حبان بإسناد صحيح من حديث نعيم المجمر قال: [صليت وراء أبي هريرة فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قرأ بأم القرآن] الحديث. وفي آخره قال: [والذي نفسي بيدهِ إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ب- دليل الإسرار بها:

لقد ثبت الإسرار بالبسملة للإمام قبل قراءة الفاتحة في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري عن قتادة، عن أنس:[أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ}](2).

الحديث الثاني: خرّجَ مسلم عن شُعبة قال: سمعتُ قتادة يُحَدِّثُ عن أنَسٍ قال: [صَلَّيْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعُمَرَ، وعثمانَ، فلمْ أسمَعْ أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3).

وفي رواية: [فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ}، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، في أول قِراءةٍ، ولا في آخرها].

الحديث الثالث: أخرج النسائي وابن حبان بسند صحيح عن أنس قال: [صَلَّيْتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا لا يجهرون

(1) حديث صحيح. أخرجه الدارقطني (118)، والبيهقي (2/ 45)، والديلمي (1/ 1/ 70)، وإسناده صحيح موقوفًا ومرفوعًا. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1183).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (743)، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (399) ح (50)(52)، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة. وانظر مسند الطيالسي (1975)، والطحاوي في المعاني (1/ 202).

ص: 67

بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ] (1).

قال ابن القيم رحمه الله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تارة، ويخفيها أكثر مما يجهر بها، ولا ريب أنه لم يجهر بها دائمًا في كل يوم وليلة خمس مرات أبدًا حضرًا وسفرًا ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابهِ وأهل بلده في الأعصار الفاضلة).

والخلاصة: البسملة آية من الفاتحة وقراءتها واجبة، واستقر الأمر على الإسرار بها، وذهب إلى الإسرار بها من العلماء أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل. وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير من الصحابة.

ج- فضل البسملة:

لقد ثبت فضل البسملة في أحاديث من السنة الصحيحة، ونَدَبَ الشرع إلى ذكرها في أول كل فعل، كالأكل والشرب والنحر، والجماع والطهارة وركوب البحر، وغير ذلك من المباحات أو أعمال البر. وتفصيل ذلك:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث عمر بن أبي سلمة -أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [يا غلام! سَمِّ الله وكُلْ بيمينك وكلْ مما يليك](2).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم وابن ماجة وابن حبان عن جُنْدُب قال: [صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النَّحر ثم خطبَ، ثم ذبَحَ وقال: مَنْ ذبَحَ قبل أَنْ يُصَلِّي فَلْيَذْبح أخرى مكانها، ومَنْ لم يذبح فليذبَحْ باسم الله](3).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والشيخان وأهل السنن عن ابن عباس: يبْلُغُ بهِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لَوْ أنَّ أحدكُمْ إذا أتى أهلهُ قال: بسم الله، اللهم جَنبنَا الشيطان، وجَنِّب الشيطانَ ما رزقتنا، فقُضِيَ بينهما ولد لم يضُرَّه](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي (2/ 134)، وابن خزيمة (495)، وابن حبان (1799).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3376)، ومسلم (2022)، وأبو داود (3777)، والترمذي (1838)، والنسائي (278)، وا بن ماجة (3276)، ومالك (2/ 934).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (983) -كتاب العيدين-، وأخرجهُ كذلكَ برقم (5500)، وأخرجه مسلم (1960)، وابن ماجة (3152)، وابن حبان (5913).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (141) -كتاب الوضوء- باب التسمية على كل حال وعند الوقاع -، وأخرجهُ كذلكَ برقم (3271)، كتاب بدء الخلق، وكذلكَ برقم (5165) -كتاب النكاح-، ورواه مسلم (1434)، وأحمد (1/ 217)، وأبو داود (2161)، والترمذي (1092)، والنسائي في=

ص: 68

وفي رواية: [فرُزِقا ولدًا لَمْ يضره الشيطان]. وفي رواية: [ثم قُدِّرَ بينهما في ذلكَ أو قُضِيَ ولدٌ لم يَضُرَّهُ شيطانٌ أبدًا].

الحديث الرابع: أخرج مسلم وأبو داود والحاكم من حديث حذيفة مرفوعًا: [إنَ الشيطان يَسْتَحِلّ الطعامَ أنْ لا يُذكرَ اسمُ الله عليه](1).

الحديث الخامس: روى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا كانَ جُنْحُ الليل -أو أَمْسَيْتُمْ- فكُفُّوا صبيانكُمْ، فإنَ الشيطانَ يَنْتَشِرُ حِينئذٍ، فإذا ذهبَ ساعةٌ من الليل فَخَلُّوهُمْ، وأغلقوا الأبوابَ، واذكروا اسم الله، فإن الشيطانَ لا يفتحُ بابًا مُغلقًا، وأوكُوا قِرَبَكُمْ، واذكروا اسمَ الله، وخَمِّرُوا آنِيَتكُمْ، واذكروا اسم الله، ولو أَنْ تَعْرُضوا عليها شيئًا، وأَطْفِئُوا مصابيحَكُمْ](2).

الحديث السادس: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن علي مرفوعًا: [سِتْرُ ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دَخَلَ الكَنيف أن يقول: {بِسْمِ اللَّهِ}](3).

الحديث السابع: أخرج مسلم ومالك وأبو داود والترمذي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي: [أنَّهُ شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَعًا، يَجِدُهُ في جَسَدِهِ مُنْذُ أسْلمَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يدكَ على الذي يأْلَمُ -وفي رواية: الذي تألَمَ- من جَسَدِكَ، وقلْ: باسم الله، ثلاثًا، وقُلْ، سَبْعَ مَرَّات: أعوذُ بعزة الله وقدرته من شرِّ ما أجد وأحاذر](4).

وأما قوله: {اللَّهِ} في {بِسْمِ اللَّهِ} وغيرها، فهو اسم جامد لا اشتقاق له، ولا يُسَمَّى بهِ غيره.

قال القرطبي: (قوله: {اللَّهِ} هذا الاسم أكبر أسمائهِ سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسمّ بهِ غيرهُ، ولذلكَ لم يثَن ولم يُجْمَع، وهو

= "اليوم والليلة"(266)، وابن ماجة (1919)، وابن أبي شيبة (10/ 394).

(1)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2017) -كتاب الأشربة-، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وأخرجه أبو داود (3766)، والحاكم (4/ 108)، وللحديث قصة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2012) ح (96)(97) -كتاب الأشربة- من حديث جابر.

(3)

حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن (606)، وابن ماجة (297)، كلاهما من حديث علي.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2202)، كتاب السلام، ومالك (2/ 942)، وأبو داود (3891)، والترمذي (2080)، ورواه ابن حبان (2964).

ص: 69

أحد تأويلي قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، أي من تَسَمَّى باسمه الذي هو {اللَّهِ} . فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهيّة، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه).

والرحمن الرحيم: اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمان أشد مبالغة من رحيم، قيل لعمومها في الدارين، وأما الرحيم فخاصة بالمؤمنين، كما قال سبحانه:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. وكما قال جل ذكره: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].

وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} . ثناء من الله على نفسه، ويحبه من عَبْدِهِ. قال ابن عباس:(الحمدُ لله كلمة كل شاكر).

أخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً، فَحَمِدَ الله عليها، إلا كانَ ذلكَ الحمدُ أفضلَ من تلكَ النعمة](1).

وله شاهد عند ابن ماجة بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما أنعم الله تعالى على عبدٍ نعمة فقال: الحمدُ لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ](2).

وفي مسند الإمام أحمد بسند حسن عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: [قلت: يا رسول الله، ألا أنشدكَ محامدَ حَمدتُ بها ربي، تبارك وتعالى؟ فقال: أما إن ربك يحب الحمد](3).

وأما {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فهي أفضل الذكر:

ففي جامع الترمذي وسنن ابن ماجة بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمدُ لله](4).

(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" بسند حسن من حديث أبي أمامة. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5438).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (3805) -كتاب الأدب- باب فضل الحامدين، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (3067).

(3)

حديث حسن. أخرجه النسائي في "الكبرى"(7745)، وأحمد (3/ 435)، ورجاله ثقات، وقد صرّحَ الحسن بالتحديث في "مراسيل ابن أبي حاتم" ص (40).

(4)

حديث حسن. أخرجهُ الترمذي (3383)، وابن ماجة (3800)، والنسائي في "اليوم والليلة"(831)، وأخرجه ابن حبان (846) بإسناد حسن، رجاله ثقات.

ص: 70

وقد حَلّقَ ابن جرير رحمه الله في ذكر آفاق النعم التي أحاط الله عبده بها، فقال في تفسيره لـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ}:(معنى الحمد لله: الشكر لله خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم، التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم ذلكَ عليه، ومع ما نبَّههُم عليه ودعاهم إليه، مِنَ الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلكَ كله أولًا وآخرًا).

والرب هو المالك المتصرف، ولغة هو السيد، ولا يستعمل الرب لغير الله، بل بالإضافة، كقولهم:(ربّ الدار، رب البيت)، {الْعَالمِينَ} جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله.

قال سعيد بن جبير: (رب الجن والإنس).

وقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . مَدْحٌ من الله لنفسه. قال القرطبي: (إنما وصَفَ نَفْسَهُ بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين، ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}، وقوله:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فالرب فيه ترهيب والرحمن فيه ترغيب).

روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد](1).

وقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . تمجيد من الله لنفسه ويحبه من عَبْدِهِ.

وقرأها بعض القراء: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وكلاهما متواتر مشهور.

فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن أم سلمة قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم-صلى الله عليه وسلم يُقَطِّعُ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6469)، وأخرجه مسلم (2755)، وأحمد في المسند (2/ 334).

ص: 71

قِراءته يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} ثم يقف، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف، وكان يقرؤها:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ] (1).

قال الحافظ ابن كثير في التفسير: (وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، لأنه تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلكَ عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يَدَّعي أحد هناكَ شيئًا ولا يتكلم أحد إلا بإذنه).

وذلكَ كقوله سبحانه في سورة (هود): {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول أنا الملك، أين ملوك الأرض]. وفي رواية: [أين الجبارون أين المتكبرون؟ ](2).

والدين هو الجزاء والحساب، كقوله تعالى في سورة (الصافات):{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} . وكقوله في سورة (النور): {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} .

وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . العبادة لغة من الذلة، وطريق معبد أي مذلل، وهي شرعًا ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف.

قال ابن عباس: (يعني إياكَ نوحد ونخافُ ونرجوكَ يا ربنا لا غيرك، وإياكَ نستعين على طاعتكَ وعلى أمورنا كلها).

ويبدو أنا سرَّ الفاتحة هذه الآية، فهي قسمان: الأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من القوة، فهى تجمع أصل الدين، سلامة التوجه والقصد وكمال الطاعة والخضوع، وهذا هو الإسلام: كفر بالطاغوت وإيمان بالله العظيم.

قال ابن كثير: (وقُدِّم المفعول وهو إياك وكُرِّر للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكلُ إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة. والدينُ كله يرجع إلى هذين المعنيين. قال: وتحوَّلَ الكلامُ من الغَيْبَةِ إلى المواجهةِ بكاف الخطاب، وهو مناسبة، لأنه لما أثنى على الله فكأنما اقترب وحضر بين يدي الله تعالى، فلهذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (والتحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

(1) حديث صحيح. انظر صحيح الترمذي -حديث رقم- (2336)، أبواب القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4812)، وأخرجهُ مسلم (2787)، ورواه ابن ماجة (192).

ص: 72

علمًا ومعرفة، وعملًا وحالًا: يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد. فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل. فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية، وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها، كان كلا نوعي قصده فاسدًا. وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبهِ غير الله وعبوديته: من المشركين، ومتبعي الشهوات، الذين لا غاية لهم وراءها، وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل. فإذا جاء الحق معارضًا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم. فإن عجزوا عن ذلكَ دفعوه دفع الصائل. فإن عجزوا عن ذلكَ حبسوه في الطريق، وحادوا عنه إلى طريق أخرى، وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان وعزله عن التصرف والحكم والتنفيذ، وإن جاء الحق ناصرًا لهم، وكان لهم صالوا به وجالوا، وأتوا إليهِ مذعنين، لا لأنه حق، بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم، وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها، واضمحلت وفنيت، حصلوا على أعظم الخسران والحسرات. وهم أعظم الناس ندامة وتحسرًا، إذا حقَّ الحق وبطل الباطل، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة، وهذا يظهر كثيرًا في الدنيا، ويظهرُ أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله. ويشتدُ ظهورهُ وتحققه في البرزخ. وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء، إذا حقت الحقائق، وفاز المحقون وخسر المبطلون، وعلموا أنهم كانوا كاذبين، وكانوا مخدوعين مغرورين، فيا لهُ هناك من علم لا ينفع عالمه، ويقين لا ينجي مستيقنه، وكذلكَ من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى، ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه، بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه، وهي من أعظم القواطع عنه، فحاله أيضًا كحال هذا. وكِلاهما فاسد القصد، ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء:

1 -

عبودية الله لا غيره.

2 -

بأمره وشرعه.

3 -

لا بالهوى.

ص: 73

4 -

ولا بآراء الرجال وأوضاعهم، ورسومهم وأفكارهم.

5 -

بالاستعانة على عبوديته به.

6 -

لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.

فهذه هي أجزاء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا ركبها الطبيب اللطيف، العالم بالمرض، واستعملها المريض، حصل بها الشفاء التام. وما نقص من الشفاء فهو لِفوْتِ جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر.

ثم إن العبد يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد. وهما الرياء والكبر. فدواء الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ودواء الكبر بـ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

قال: وكثيرًا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء.

فإذا عوفي من مرض الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض الكبرياء والعجب بـ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن مرض الضلال والجهل بـ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} عوفي من أمراضهِ وأسقامه، ورَفَلَ في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم أهل فساد القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه و {الضَّالِّينَ} وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.

وحقَّ لسورة تشتمل على هذين الشفاءين: أن يُسْتَشْفى بها من كل مرض، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى،

فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله كلامه، وفهمت عنه فهمًا خاصًّا، اختصها به، من معاني هذه السورة).

ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري ورقيته اللديغ بالفاتحة وما حصل بها من الشفاء ثم قال: (فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه. فأغنته عن الدواء. وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء. هذا مع كونِ المحل غير قابل، إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم، فكيف إذا كان المحل قابلًا). انتهى.

قلت: فمن أقام منهج {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلا سبيل للجن بالدخول إليه، والحياة معهُ، أو مسه بشِرٍّ أو إيذاء، فإن مردة الجن لا تستطيع النفوذ

ص: 74

إلى من حقق العبودية لله وكان ممن يستعين بالله بصدق على كبح وساوس النفس والشيطان، لئلا يفسد تفلتها عليه حياته ودينه.

وكان شيخ الإسلام يقول: (تأملت أنفع الدعاء: فإذا هو سؤال العون على مرضاته.

ثم رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

والنون في {نَعْبُدُ} تخبر عن جِنْسِ العباد، والمصلي واحد منهم. وقيل: للتعظيم، لأن العبد داخل العبادة شرفه عظيم وجاهه عريض.

وقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . هذه هي هداية التوفيق والإلهام.

وقد فسر الآية ابن عباس بقوله: (ذلكَ الإسلام). وفسَّرها مجاهد فقال: (هو الحق). وفسرها أبو العالية فقال: (هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده).

وقد كرر سؤال الهداية مع أن قائلًا قد يقول هي حاصلة! والتحقيق في ذلك أن العبد بحاجة إلى الثبات والاستمرار على الحق في كل لحظة من لحظات عمره، ولو حصل له غفلة لَهَمَّ بهِ الشيطان لِينتهزَ فرصة ليفسدَ عليه يقينه وهدايته، فلولا احتياجهُ إلى سؤال الهداية ليلًا ونَهارًا لما أرشدهُ إليها سبحانه. وهذا المعنى متضمن في سؤال المؤمنين ربهم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. وبقوله في سورة النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ

}.

وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، صراطَ بدل. قال ابن عباس:(صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين، وذلكَ نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}).

وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين} . قال الحافظ ابن كثير: (وذو الحال الضمير في عليهم، والعامل أنْعمت، والمعنئ: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم وهم أهل الهداية والاستقامة .. غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، ثم قال: وأكَّد الكلام بلا، ليدل على أن ثمَّ مَسْلكين فاسدين، وهما طريقة اليهود والنصارى، ليجتَنبَ كل واحد منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على

ص: 75

العلم بالحق والعمل بهِ، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضبُ لليهود، والضلال للنصارى).

يروي الترمذي بِسند صحيح عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اليهودُ مغضوبٌ عليهم والنصارى ضلال](1).

وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود فقال: إنّهم لن يحسدونا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين](2). ومعنى "آمين": اللهم استجب.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أمّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافقَ تأمينُه تأمين الملائكة غفرَ له ما تقدمَ من ذنبه](3).

تم تفسير سورة الفاتحة

بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه

* * *

(1) حديث صحيح. انظر سنن الترمذي -حديث رقم- (2953)، ومسند أحمد (4/ 378)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (8058).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 135)، وابن ماجة (856)، وصححه ابن خزيمة (1585).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (782)، و (4475)، وأخرجه مسلم (409)، ومالك (1/ 87).

ص: 76