المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌35 - (باب فيما أنكرت الجهمية) - مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه - جـ ٤

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

الفصل: ‌35 - (باب فيما أنكرت الجهمية)

‌35 - (بَابُ فِيمَا أَنْكَرتِ الْجَهْمِيَّةَ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجهميّة" -بفتح الجيم، وسكون الهاء- طائفة من المبتدعة يخالفون أهل السنّة والجماعة في كثير من الأصول، كمسألة الرؤية، وإثبات الصفات لله عز وجل، يُنسبون إلى جهم بن صفوان رجل ضالّ من أهل الكوفة.

قال الكرماني رحمه الله: "الجْهْمِيَّة" فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جَهْم بن صفوان، مُقَدَّم الطائفة القائلة: أَنْ لا قدرة للعبد أصلًا، وهم "الجبْرِية" -بفتح الجيم، وسكون الموحدة- ومات مقتولًا في زمن هشام بن عبد الملك انتهى.

قال الحافظ رحمه الله متعقّبًا على كلام الكرمانيّ هذا: ما نصّه: وليس الّذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصّة، وإنما الّذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات، حتّى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله، وإنه مخلوق، وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التَّميميُّ البغدادي في كتابه "الْفَرْق بين الْفِرَق": إن رءوس المبتدعة أربعة

إلى أن قال: والجهمية أتباع جهم بن صفوان الّذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وقال: لا فعل لأحد غير الله تعالى، وإنما يُنسَب الفعل إلى العبد مجازًا من أن يكون فاعلًا أو مستطيعًا لشيء، وزعم أن علم الله حادث، وامتنع مِن وصف الله تعالى بأنه شيء، أو حي، أو عالم، أو مريد، حتّى قال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره، قال: وأصفه بأنه خالق، ومحي، ومميت، ومُوَحَّد -بفتح المهملة الثقيلة-؛ لأن هذه الأوصاف خاصّة به، وزعم أن كلام الله حادث، ولم يُسَمِّ الله متكلمًا به، قال: وكان جهم يَحْمِل السلاح، ويقاتل، وخرج مع الحارث بن سُرَيج -وهو بمهملة وجيم مصغرًا- لمَّا قام على نصر بن سَيّار عامل بني أمية بخراسان، فآل أمره إلى أن قتله سَلْم بن أحوز -وهو بفتح السين المهملة، وسكون اللام، وأبوه بمهملة، وآخره زاي، وِزانُ أعور- وكان صاحب شُرْطة نصر، وقال البخاريّ في "كتاب خلق أفعال العباد": بلغني أن جهما كان يأخذ عن الجَعْد بن درهم، وكان خالد الْقَسْرِيُّ، وهو أمير العراق خطب، فقال: إنِّي مُضَحٍّ بالجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم

ص: 5

خليلًا، ولم يُكَلِّم موسى تكليمًا.

قال الحافظ: وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، فكأنّ الكرماني انتقل ذهنه من الجعد إلى الجهم، فإنّ قتل جهم كان بعد ذلك بمدة.

ونقل البخاري عن محمد بن مقاتل قال: قال عبد الله بن المبارك [من البسيط]:

وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِ الجُهْمِ إِنَّ لَهُ

قَوْلًا يُضَارِعُ قَوْلِ الشِّرْكِ أَحْيَانَا

وعن ابن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ونستعظم أن نحكي قول جهم. وعن عبد الله بن شَوْذَب قال: تَرَكَ جهم الصلاة أربعين يومًا على وجه الشك.

وأخرج ابن أبي حاتم في "كتاب الردّ على الجهمية" من طريق خلف بن سليمان البلخي قال: كان جهم من أهل الكوفة، وكان فصيحًا، ولم يكن له نفاذ في العلم، فلقيه قوم من الزنادقة، فقالوا له: صِفْ لنا ربك الذي تعبده؟ فدخل البيت لا يخرج مُدَّةً، ثم خرج فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء. وأخرج ابن خزيمة في "التوحيد"، ومن طريقه البيهقي في "الأسماء" قال: سمعت أبا قُدامة يقول: سمعت أبا معاذ البلخي يقول: كان جهم على مَعْبَر ترمذ، وكان كوفي الأصل فصيحًا، ولم يكن له علم، ولا مجالسة أهل العلم، فقيل له: صِفْ لنا ربك، فدخل البيت لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام، فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء. وأخرج البخاري من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال: كلام جهم صفةٌ بلا معنى، وبِنَاءٌ بلا أساس، ولم يُعَدَّ قط في أهل العلم، وقد سئل عن رجل طَلَّقَ قبل الدخول، فقال: تعتد امرأته، وأورد آثارًا كثيرة عن السلف في تكفير جهم.

وذكر الطبري في "تاريخه" في حوادث سنة سبع وعشرين أن الحارث بن سُرَيج خرج على نصر بن سيار، عاملِ خراسان لبني أمية، وحاربه والحارث حينئذ يدعو إلى العمل بالكتاب والسنة، وكان جهم حينئذ كاتبه، ثم تراسلا في الصلح، وتراضيا بحكم مقاتل بن حيان والجهم، فاتفقا على أن الأمر يكون شُورَى حتى يتراضى أهل خراسان على أمير يحكم بينهم بالعدل، فلم يقبل نصر ذلك، واستمر على محاربة الحارث إلى أن

ص: 6

قُتِل الحارث في سنة ثمان وعشرين في خلافة مروان الحمار، فيقال: إن الجهم قُتِل في المعركة، ويقال: بل أُسِر فأَمَرَ نصر بن سيار سَلْمَ بن أحوز بقتله، فادعى جهم الأمانَ، فقال له سلم: لو كنت في بطني لشققته حتى أقتلك فقتله.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال: قال سلم حين أخذه: يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلامٍ أعطيتُ الله عهدًا أن لا أملكك إلا قتلتك فقتله. ومن طريق معتمر بن سليمان، عن خلاد الطُّفاوي: بلغ سلم بن أحوز، وكان على شُرطة خراسان أن جهم بن صفوان ينكر أن الله كَلَّم موسى تكليمًا فقتله. ومن طريق بكير بن معروف قال: رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم، فاسودّ وجه جهم.

وأسند أبو القاسم اللالكائي في "كتاب السنة" له أن قتل جهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان في سنة ثمان وعشرين.

وذكر ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أن قصة جهم كانت سنة ثلاثين ومائة، وهذا يمكن حمله على جبر الكسر، أو على أن قتل جهم تراخى عن قتل الحارث بن سُريج، وأما قول الكرماني: إن قتل جهم كان في خلافة هشام بن عبد الملك فوهم؛ لأن خروج الحارث بن سُريج الذي كان جهم كاتبه، كان بعد ذلك، ولعل مستند الكرماني ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد ابن حنبل قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عام خراسان: أما بعد "فقد نجم قِبَلك رجل يقال له: جهم من الدهرية، فإن ظَفِرت به فاقتله، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون قتله وقع في زمن هشام، وإن كان ظهور مقالته وقع قبل ذلك، حتى كاتب فيه هشام، والله أعلم.

وقال ابن حزم في كتاب "الملل والنِّحَل": فِرَقُ المقرين بملة الإسلام خمس: أهلُ السنة، ثم المعتزلة، ومنهم القدرية، ثم المرجئة، ومنهم الجهمية والكرامية، ثم الرافضة، ومنهم الشيعة، ثم الخوارج، ومنهم الأزارقة والإباضية، ثم افترقوا فِرَقًا كثيرة، فأكثر

ص: 7

افتراق أهل السنة في الفروع، وأما في الاعتقاد ففي نُبَذٍ يسيرة، وأما الباقون ففي مقالاتهم ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد والقريب، فأقرب فِرَق المرجئة من قال: الإيمان التصديق بالقلب واللسان فقط، وليست العبادة من الإيمان، وأبعدهم الجهمية القائلون بأن الإيمان عقد بالقلب فقط، وان أظهر الكفر والتثليث بلسانه، وعَبَدَ الوثن تَقِيّةً، والكرامية القائلون بأن الإيمان قول باللسان فقط، وإن اعتقد الكفر بقلبه، وساق الكلام على بقية الفِرَق، ثم قال: فأما المرجئة فعمدتهم الكلام في الإيمان والكفر، فمن قال: إن العبادة من الإيمان، وإنه يزيد وينقص، ولا يُكَفِّر مؤمنًا بذنب، ولا يقول: إنه يُخَلَّد في النار فليس مرجئًا، ولو وافقهم في بقية مقالاتهم، وأما المعتزلة فعمدتهم الكلام في الوعد والوعيد والقدر، فمن قال: القرآن ليس بمخلوق، وأثبت القدر، ورؤية الله تعالى في القيامة، وأثبت صفاته الواردة في الكتاب والسنة، وأن صاحب الكبائر لا يخرج بذلك عن الإيمان فليس بمعتزلي، وإن وافقهم في سائر مقالاتهم، وساق بقية ذلك إلى أن قال: وأما الكلام فيما يوصف الله به فمشترك بين الفِرَقِ الخمسة من مُثبت لها وناف، فرأس النفاة المعتزلة والجهمية، فقد بالغوا في ذلك حتى كادوا يُعَطِّلون، ورأس المثبتة مُقاتل بن سليمان، ومن تبعه من الرافضة والكرامية، فإنهم بالغوا في ذلك، حتى شبهوا الله تعالى بخلقه، تعالى الله سبحانه عن أقوالهم علوًّا كبيرًا.

ونظير هذا التباين قول الجهمية: إن العبد لا قدرة له أصلًا، وقول القدرية: إنه يخلُقُ فعل نفسه.

وقد أفرد البخاري خلق أفعال العباد في تصنيف، وذكر منه هنا أشياء بعد فراغه مما يتعلق بالجهمية. ذكر هذا كلّه في "الفتح"(1).

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "منهاج السنّة": ما حاصله: ثم إنه في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية حدثت بدعة الجهميّة منكرة الصفات، وكان

(1)"الفتح""13/ 421 - 424 كتاب التوحيد" رقم الحديث 7371.

ص: 8

أول من أظهر ذلك الجعد بن درهم، فطلبه خالد بن عبد الله الْقَسْريّ، فضحّى به بواسط، فخطب الناس يوم النحر.

قال: أيها الناس ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم، فإني مضحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله تعالى لم يتّخذ إبراهيم خليلًا، ولم يُكلّم موسى تكليمًا تعالى الله عما يقول الجعد عُلُوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه.

ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان، ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة، وهؤلاء أوّل من عُرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام، وأثبتوا حدوث الأجسام بحدوث ما يستلزمها من الأعراض، وقالوا: الأجسام لا تنفكّ عن أعراض محدثة، وما لا ينفكّ عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها.

ثم إنهم تفرّقوا عن هذا الأصل، فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل، فَطَرَدَ إماما هذه الطريقة هذا الأصل، وهما إمام الجهميّة الجهم بن صفوان، وأبو الْهُذيل الْعَلّاف إمام المعتزلة، وقالا بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي.

ثم إن جهمًا قال: إذا كان الأمر كذلك لزم فناء الجنّة والنار، وأنه يعدم كلّ ما سوى الله، كما كان كل ما سواه معدومًا، وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على الجهميّة، وعدُّوه من كفرهم، وقالوا: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] وقال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] إلى غير ذلك من النصوص الدّالّة على بقاء نعيم الجنّة. إلى آخر ما قاله، فقد فصّل هذه الفرق تفصيلًا حسنًا لا تراه في كتب غيره كما فصّله، فاستفد منه (1)، والله تعالى وليّ التوفيق.

(1)"منهاج السنة" 1/ 308 - فما بعده من الصفحات.

ص: 9

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

177 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَوَكِيعٌ (ح) وحَدَّثَنَا عَليُّ ابْنُ مُحَمَّدٍ، حدَّثنا خَالِي يَعْلَى، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْس بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تَضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد الله بن نُمَير) الهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10] 1/ 4.

2 -

(أبوه) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة صاحب حديث، سنّيّ، من كبار [9] 8/ 52.

3 -

(وكيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظ عابد، من كبار [9] 1/ 3.

4 -

(عليّ بن محمد) الطنافسيّ الكوفي، ثقة عابد [10] 9/ 57.

5 -

(خاله يعلى) بن عُبيد بن أُميّة الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة إلا في حديثه عن الثوريّ، ففيه لين، من كبار [9] 10/ 89.

6 -

(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9] 1/ 3.

7 -

(إسماعيل بن أبي خالد) البجليّ الأحمسيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [4] 13/ 113.

8 -

(قيس بن أبي حازم) البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] 13/ 113.

9 -

(جرير بن عبد الله) البجلي الصحابيّ المشهور رضي الله عنه 28/ 159، والله تعالى أعلم.

ص: 10

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنف.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه علي بن محمد، وهو ثقة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل السند، وقد تقدّم تمام البحث فيها غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، والراوي عن خاله.

6 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

7 -

(ومنها): أن قيسًا هو الذي اجتمع له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنه، ولا يوجد له نظير في التابعين، وهو من المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنه، ووقع عند ابن مردويه من طريق شعبة، عن إسماعيل التصريح بسماع إسماعيل من قيس، وسماع قيس من جرير رضي الله عنه (1) (قَالَ) جرير رضي الله عنه (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاريّ:"كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أي ليلة كون القمر بدَرًا، أي ليلة كماله، سميت بذلك لتمام قمرها، قال في "اللسان": وليلة البدر ليلةُ أربع عشرة، وقال أيضًا: البدر القمر، إذا امتلأ، وإنما سمّي بدرًا لأنه يُبادر بالغروب طلوع الشمس، وفي "المحكم": لأنه يبادر بطلوعه غروب الشمس؛ لأنهما يتراقبان في الأُفُق صُبْحًا. انتهى (2).

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ) وفي رواية عند البخاريّ: "إنكم ستُعرضون على

(1) راجع "الفتح" 2/ 45 "كتاب الصلاة" حديث (554).

(2)

"لسان العرب" 4/ 49.

ص: 11

ربّكم، فترونه"، وفي رواية: "إنكم سترون ربّكم عِيَانًا""(كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ) أي من غير مزاحمة كما يُفيده آخر الكلام، وإلا فهذه رؤية في جهة، وتلك رؤية لا في جهة. قاله السنديّ.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا في جهة" فيه نظرٌ؛ لأنه مبنيّ على نفي المؤوّلة من الأشاعرة والماتريديّة للعلّوّ، فإنهم هنا يزعمون إثبات رؤية الله مع نفي أن تكون في جهة، فوقعوا في التناقض والمحال، والحقّ أنه سبحانه وتعالى يُرى في الدَّار الآخرة حقيقةً كما وَصَف بذلك نفسه في غير ما آية، كقوله عز وجل:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وكما وصفه بذلك نبيّه صلى الله عليه وسلم وأعرف الخلق به في غير ما حديث، ورؤيته حقّ، وهو عز وجل في علوه عند أهل السنّة والجماعة، والله تعالى أعلم.

(لَا تَضَامُّونَ) رُوي بضم التاء، وبتخفيف الميم، من الضيم، وهو التعب، وبتشديدها من الضمّ، وفتح التاء، وتشديد الميم، قال الخطّابيّ رحمه الله: يُروى على وجهين: أحدهما مفتوحة التاء مشدّدة الميم، وأصله تتضامّون حُذفت إحدى التاءين، أي لا يُضَامُّ بعضكم بعضا كما يفعله النَّاس في طلب الشيء الخفيّ الّذي لا يسهل دركه، فيتزاحمون عنده، يريد أن كلّ واحد منهم وَادِعٌ مكانه لا ينازعه في رؤيته أحدٌ، والآخر "لا تُضامُون" من الضيم: أي لا يَضِيم بعضكم بعضا في رؤيته.

وقال التيميّ: "لا تُضامُّون" بضمّ الميم، مراده أنكم لا تختلفون إلى بعض فيه حتّى تجتمعوا للنظر، وينضمّ بعضكم إلى بعض، فيقول واحد: هو ذاك، ويقول الآخر: ليس ذاك كما يفعله النَّاس عند النظر إلى الهلال أوّل الشهر، وبتخفيفها معناه لا يَضيم بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه، أو يستأثر به دونه.

وقال ابن الأنباري: أي لا يقع لكم في الرؤية ضَيْمٌ، وهو الذّلّ، وأصله تُضيَمُون، فأُلقيت حركة الياء على الضاد، فصارت الياء ألفا؛ لانفتاح ما قبلها.

وقال ابن الجوزي: لا تضامون بضمّ التاء المثنّاة من فوقُ، وتخفيف الميم، وعليه أكثر الرواة، والمعنى: لا ينالكم ضيمٌ، والضيم أصله الظلم، وهذا الضيم يَلْحَق الرائيَ

ص: 12

من وجهين: أحدهما: من مزاحمة الناظرين له، أي لا تزدحمون في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض، ولا يظلم بعضكم بعضا. والثّاني: من تأخّره عن مقام الناظر المحقّق، فكأن المتقدّمين ضاموه، ورؤية الله عز وجل يستوي فيها الكلّ، فلا ضيم ولا ضرر ولا مشقّة.

وفي رواية "لا تضامون، أو لا تضاهون" يعني على الشك، أي لا يشتبه عليكم، وترتابون، فيعارض بعضكم بعضًا في رؤيته، وقيل: لا تشبهونه في رؤيته بغيره من المرئيات.

وروي "تضارّون" بالراء المشدّدة والتاء مفتوحة ومضمومة. وقال الزجّاج: معناه لا تتضارون، أي لا يُضارّ بعضكم بعضًا في رؤيته بالمخالفة.

وعن ابن الأنباريّ: هو تتفاعلون من الضّرار، أي لا تتنازعون وتختلفون. وروي أيضًا "لا تُضَارُونَ" بضم التاء وتخفيف الراء، أي لا يقع للمرء في رؤيته ضَيرٌ ما بالمخالفة، أو المنازعة، أو الخفاء. وروي "تُمارون" براء مخفّفة يعني تُجادلون، أو لا يدخلكم شك. ذكر هذا كلّه العينيّ في "عمدته"(1).

(في رُؤْيَتِهِ) متعلّق بما قبله (فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا) بالبناء للمفعول، أي لا يغلبكم الشيطان حتّى تتركوهما، أو تؤخّروهما عن أول الوقت.

وقال ابن بطّال: قال المهلّب: قوله: "أن لا تُغلبوا عن صلاة" أي في الجماعة قال: وخصّ هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما، ورفعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم.

وتعقّبه الحافظ في تقييده بالجماعة -فأحسن في ذلك- قال: لم يظهر لي وجه تقييد ذلك بكونه في جماعة، وإن كان فضل الجماعة معلومًا من أحاديث أُخَر، بل ظاهر الحديث يتناول مَنْ صلاهما ولو منفردًا؛ إذ مقتضاه التحريض على فعلهما أعمّ من كونه جماعة أو لا. انتهى، والله تعالى أعلم.

(1)"عمدة القاري" 4/ 189.

ص: 13

(عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) زاد مسلم "يعني العصر والفجر"، وفي رواية لابن مرويه:"قبل طلوع الشّمس صلاة الصُّبح، وقبل غروبها صلاة العصر".

فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له (فَافْعَلُوا) أي عدمَ الغلبة، وهو كناية عمّا ذُكر من الاستعداد، ووقع في رواية في "الصّحيح" بلفظ: "فلا تغفلوا عن صلاة

" الحديث.

وقال الخطابيّ: هذا يدلُّ على أن الرؤية قد يُرجى نَيْلُها بالمحافظة على هاتين الصلاتين انتهى، وقد يُستشهد لذلك بما أخرجه الترمذيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه: قال: "إن أدنى أهل الجنّة منزلة

" فذكر الحديث، وفيه: "وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة"، وقي سنده ضعف. قاله في "الفتح" (1).

(ثُمَّ قَرَأَ) لم يُبيّن فاعل "قرأ" في جميع الروايات، لكن في "صحيح مسلم" عن زهير بن حرب، عن مروان بن معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد بسند الباب:"ثمّ قرأ جرير"، أي الصحابيّ، وكذا أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من طريق يعلى بن عُبيد، عن إسماعيل، وكذا هو عند أبي نعيم في "مستخرجه أن جريرًا قرأه"، فتبيّن بهذا أن القارىء هو جرير الصحابيّ رضي الله عنه، فما قاله الحافظ في "الفتح": والظاهر أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن لم أر ذلك صريحًا تعقّبه العينيّ بأنه تخمين وحسبان، وقد أجاد في تعقّبه، ومن الغريب أن الحافظ ذكر بعد هذا نصّ ما وقع عند مسلم وأبي عوانة، وسكت عليه، سبحان من لا يضلّ ولا ينسى.

({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]) أي قرأ هذه الآية تصديقًا للحديث، وإشارة إلى أما نزلت في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)"الفتح" 2/ 46 "كتاب مواقيت الصّلاة" حديث (556 - 555).

ص: 14

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 177) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ)(1/ 145 و 150 و 6/ 173 و 9/ 156) و (مسلم) في (2/ 113 و 114) و (أبو داود)(4729) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(12) و (الحميديّ) في "مسنده"(799) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 360 و 362 و 365 (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(446 و 447 و 448 و 449 و 461) و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة"(219 و 221 و 225 و 226 و 227) و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(317) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7442) و (الطبرانيّ)(2224 و 2225 و 2226 و 2227 و 2228 و 2229) و (ابن منده)(791 و 793 و 794 و 795 و 796 و 797) و (اللالكائيّ) في "شرح أصول الاعتقاد"(925 و 826 و 828 و 829) و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(128 و 129) و (البغويّ) في "شرح السنة"(378 و 379)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من رؤية الله عز وجل معاندة للحق الأبلج، والنور الأبهج.

2 -

(ومنها): أن فيه إثباتَ رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة، وهو الّذي عليه أهل السنّة والجماعة، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

3 -

(ومنها): أن فيه بيان زيادة شرف الصلاتين، وذلك لتعاقب الملائكة في وقتيهما، ولأن وقت صلاة الصُّبح وقت لذّة النوم كما قيل:

ألذُّ الْكَرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ يَطِيبُ

والقيام فيه أشقّ على النفس من القيام في غيره، وصلاة العصر وقت الفراغ عن

ص: 15

الصناعات، وإتمام الوظائف، والمسلم إذا حافظ عليها مع ما فيه من التثاقل والتشاغل فلأن يُحافظ على غيرها بالطريق الأولى.

4 -

(ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله: إن قوله: "فافعلوا" يدلّ على أن الرؤية قد يُرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرّابعة): أنه استُدلّ بهذا الحديث وبأحاديث أخرى وبالقرآن وإجماع الصّحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، وقد رَوَى أحاديث الرؤية أكثرُ من عشرين صحابيّا، قال أبو القاسم: روى رؤية المؤمنين لربهم عز وجل في القيامة أبو بكر، وعليّ بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وابن مسعود، وأبو موسى، وابن عبّاس، وابن عمر، وحُذيفة، وأبو أُمامة، وأبو هريرة، وجابر، وأنس، وعمّار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت، وبُريدة بن الحُصَيب، وجُنادة بن أبي أُميّة، وفَضَالة ابن عُبيد، ورجل له صحبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ ذكر أحاديثهم بأسانيدها، غالبها جيّد، وذكر أبو نُعيم الحافظ في "كتاب تثبيت النظر" أبا سعيد الخدريّ، وعُمارة بن رؤيبة، وأبا رزين الْعُقَيليّ، وأبا برزة، وزاد الآجريّ في "كتاب الشّريعة"، وأبو محمّد عبد الله بن محمّد المعروف بأبي الشّيخ في "كتاب السنّة الواضحة" عن عديّ بن حاتم الطائيّ بسند جيّد.

ثمّ إن الرؤية مختّصّة بالمؤمنين، ممنوعة عن الكفّار، وقيل: يراه منافقو هذه الأمّة، وهذا ضعيف، والصّحيح أن المنافقين كالكفّار باتّفاق العلماء، وعن ابن عمر وحُذيفة:"من أهل الجنّة من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة".

ومنع من ذلك المعتزلة، والخوارج، وبعض المرجئة، واحتجّوا في ذلك بوجوه:

(الأوّل): قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وقالوا: يلزم من نفي الإدراك بالبصر نفي الرؤية.

(الثّاني): قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، و"لن" للتأبيد بدليل قوله تعالى:{قُل لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15]، وإذا ثبت في حقّ موسى عليه السلام عدم الرؤية

ص: 16

ثبت في حقّ غيره.

(الثّالث): قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، فالآية دلّت على أن من يتكلّم الله معه فإنّه لا يراه، فإذا ثبت عدم الرؤية في وقت الكلام ثبت في غير وقت الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفصل.

(الرّابع): أن الله تعالى ما ذكر في طلب الرؤية في القرآن إِلَّا وقد استعظمه، وذمّ عليه، وذلك في آيات، منها: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55].

(الخامس): لو صحّت رؤية الله تعالى لرأيناه الآن، والتالي باطلٌ والمقدّم مثله.

واحتجّ أهل السنّة بما سبق من الأحاديث الصحيحة، وبقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، فهذا يدلُّ على أن المؤمنين لا يكونون محجوبين.

والجواب عن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أن المراد من الإدراك الإحاطة، ونحن أيضًا نقول به.

وعن قوله تعالى: {لَن تَرَانِى} أنا لا نُسلّم أن "لن" تدلّ على التّأبيد بدليل قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] مع أنهم يتمنّونه في الآخرة.

وعن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية [الشورى: 51] أن الوحي كلام يُسمع بالسرعة، وليس فيه دلالة على كون المتكلّم محجوبًا عن نظر السامع أو غير محجوب عن نظره.

وعن قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى} الآية أن الاستعظام لم لا يجوز أن يكون لأجل طلبهم الرؤية على سبيل التعنّت والعناد بدليل الاستعظام في نزول الملائكة في قوله تعالى: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} [الفرقان: 21]، ولا نزاع في جواز ذلك.

ص: 17

والجواب عن قولهم: لو صحّت رؤية الله تعالى إلخ أن عدم الوقوع لا يستلزم عدم الجواز، فإن قالوا: الرؤية لا تتحقّق إِلَّا بثمانية أشياء: سلامة الحاسّة، وكون الشيء بحيث يكون جائز الرؤية، وأن يكون المرئيّ مقابلًا للرّائي، أو في حكم المقابل، فالأول كالجسم المحاذي للرائي، والثّاني كالأعراض المرئيّة، فإنها ليست مقابلة للرائي؛ إذ الْعَرَض لا يكون كمقابلًا للجسم، ولكنّها حالّةٌ في الجسم المقابل للرائي، فكان في حكم المقابل، وأن لا يكون المرئيّ في غاية القرب، ولا في غاية البعد، وأن لا يكون في غاية الصغر، ولا في غاية اللطافة، وأن لا يكون بين الرائي والمرئيّ حجاب.

قلنا: الشرائط الستة الأخيرة لا يمكن اعتبارها إِلَّا في الأجسام، والله تعالى ليس بجسم، فلا يمكن اعتبار هذه الشرائط في رؤيته، ولا يُعتبر في حصول الرؤية إِلَّا أمران: سلامة الحاسّة، وكونه بحيث يصحّ أن يُرَى، وهذان الشرطان حاصلان.

[فإن قلت]: الكاف في "كما ترون" للتشبيه، ولا بُدّ أن تكون مناسبة بين الرائي والمرئي.

[أجيب]: بأن معنى التشبيه فيه أنكم ترونه رؤية محقّقة لا شكّ فيها ولا مشقّة ولا خفا كما ترون القمر كذلك، فهو تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئيّ بالمرئيّ. قاله العينيّ رحمه الله (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهو تحقيق حسنٌ، إِلَّا قوله:"والله تعالى ليس بجسم"، ففيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن هذا ممّا لم يرد به نصٌّ، لا بالإثبات، ولا بالنَّفْي، فلا ينبغي التعرّض له لا بالنَّفْي، ولا بالإثبات، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال الإمام البخاريّ رحمه الله: "باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} الآية [القيامة: 22، 23].

قال في "الفتح": كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد بن حميد، والتِّرمذيُّ، والطّبريّ،

(1)"عمدة القاري" 4/ 190 - 191.

ص: 18

وغيرهم، وصححه الحاكم من طريق ثُوَير بن أبي فاختة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إن أدنى أهل الجنَّة مَنْزِلة لمَن ينظر في مُلكه ألف سنة، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه ربه عز وجل في كلّ يوم مرتين"، قال: ثمّ تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: بالبياض والصفاء {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر كلّ يوم في وجه الله"، لفظه الطّبريّ من طريق مُصْعَب بن المقدام، عن إسرائيل، عن ثُوير، وأخرجه عبد عن شبابة، عن إسرائيل، ولفظه:"لمَن ينظر إلى جِنَانه وأزواجه وخَدَمه ونعيمه وسروره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله تعالى من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية"، وكذا أخرجه الترمذي عن عبد، وقال غريب، رواه غير واحد عن إسرائيل مرفوعًا، ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، عن ابن عمر موقوفًا، ورواه الثّوريّ عن ثُوير، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا أيضًا، قال: ولا نعلم أحدًا ذكر فيه مجاهدًا غير الثّوريّ بالعنعنة.

قال الحافظ: أخرجه ابن مردويه من أربعة طرق، عن إسرائيل، عن ثوير قال: سمعت ابن عمر، ومن طريق عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، مرفوعًا، وقال الحاكم بعد تخريجه: ثُوير لم يُنْقَم عليه إِلَّا التشيع.

قال الحافظ: لا أعلم أحدًا صَرَّح بتوثيقه، بل أطبقوا على تضعيفه، وقال ابن عديّ: الضعف على أحاديثه بَيِّنٌ، وأقوى ما رأيت فيه قولُ أحمد بن حنبل فيه، وفي ليث ابن أبي سُليم، ويزيد بن أبي زياد: ما أقرب بعضهم من بعض.

وأخرج الطّبريّ من طريق أبي الصهباء موقوفًا، نحو حديث ابن عمر، وأخرج بسند صحيح إلى يزيد النحوي، عن عكرمة في هذه الآية قال: تنظر إلى ربها نظرًا، وأخرج عن البخاريّ، عن آدم، عن مبارك، عن الحسن قال: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنظر، وأخرج عبد بن حميد، عن إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة: انظروا ماذا أعطى الله عبده من النور في عينه من النظر إلى وجه ربه الكريم عيانًا -يعني في الجنَّة- ثمّ قال: لو جُعل نورُ جميع الخلق في عيني عبد، ثمّ كُشف عن الشّمس سِتر

ص: 19

واحدٌ، ودونها سبعون سِترًا ما قدر على أن ينظر إليها، ونور الشّمس جزء من سبعين جزأ من نور الكرسيّ، ونور الكرسي جزء من سبعين جزأ من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزأ من نور السِّتر، وإبراهيم فيه ضعف.

وقد أخرج عبد بن حُميد عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية.

ويمكن الجمع بالحمل على غير أهل الجنَّة.

وأخرج بسند صحيح عن مجاهد {نَاظِرَةٌ} تنظر الثّواب، وعن أبي صالح نحوه.

وأورد الطّبريّ الاختلاف، فقال: الأولى عندي بالصواب ما ذكرناه عن الحسن البصريّ، وعكرمة، وهو ثبوت الرؤية؛ لموافقته الأحاديث الصحيحة.

وبالغ ابن عبد البرّ في رد الّذي نقل عن مجاهد، وقال: هو شذوذ.

وقد تمسك به بعض المعتزلة، وتمسكوا أيضًا بقوله عز وجل في حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك"، قال بعضهم: فيه إشارة إلى انتفاء الرؤية.

وتُعُقِّبَ بأن المنفي فيه رؤيته في الدنيا؛ لأن العبادة خاصّة بها، فلو قال قائل: إن فيه إشارةً إلى جواز الرؤية في الآخرة لمَا أَبْعَدْ.

وزعمت طائفة من المتكلمين كالسالمية من أهل البصرة أن في الخبر دليلًا على أنّ الكفّار يرون الله في القيامة من عموم اللِّقاء والخطاب، وقال بعضهم يراه بعض دون بعض، واحتجّوا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه حيث جاء فيه أن الكفار يتساقطون في النّار إذا قيل لهم: ألَّا تَرِدُون، ويبقى المؤمنون، وفيهم المنافقون، فيرونه لمّا يُنصَبُ الجسر، ويتبعونه، ويُعطَي كلّ إنسان منهم نوره، ثمّ يُطْفَأُ نور المنافقين، وأجابوا عن قوله:{إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، أنه بعد دخول الجنَّة، وهو احتجاج مردود، فإن بعد هذه الآية:{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 16]، فدل على أن الحَجْب وقع قبل ذلك، وأجاب بعضهم بأن الحَجْب يَقَع عند إطفاء النور، ولا يلزم من كونه يتجلى للمؤمنين ومن معهم ممّن أدخل نفسه فيهم أن تَعُمَّهم الرؤية؛

ص: 20

لأنه أعلم بهم، فيُنْعِم على المؤمنين برؤيته دون المنافقين، كما يمنعهم من السجود، والعلّم عند الله تعالى.

قال البيهقيّ: وجهُ الدّليل من الآية أن لفظ {نَاضِرَةٌ} الأوّل بالضاد المعجمة الساقطة من النضرة بمعنى السرور، ولفظ {نَاظِرَةٌ} بالظاء المعجمة المشالة، يحتمل في كلام العرب أربعة أشياء: نظر التفكر والاعتبار، كقوله تعالى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، ونظر الانتظار، كقوله تعالى:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49]، ونظر التعطف والرّحمة، كقوله تعالى:{وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]، ونظر الرؤية، كقوله تعالى:{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20]، والثلاثة الأُوَلُ غير مرادة، أما الأوّل فلأنّ الآخرة ليست بدار استدلال، وأما الثّاني فلأن في الانتظار تنغيصًا وتكديرًا، والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأهلُ الجنَّة لا ينتظرون شيئًا؛ لأنه مهما خَطَرَ لهم أُتُوابه، وأما الثّالث فلا يجوز؛ لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه، فلم يبق إِلَّا نظر الرؤية، وانضمّ إلى ذلك أن النظر إذا ذُكر مع الوجه انصرف إلى نظر العينين اللتين في الوجه، ولأنه هو الّذي يتعدى بـ "إلى"، كقوله تعالى:{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} ، وإذا ثبت أن {نَاظِرَةٌ} هنا بمعنى رائية اندفع قولُ من زَعَمَ أن المعنى ناظرة إلى ثوابها؛ لأن الأصل عدم التقدير، وأُيِّدَ منطوقُ الآية في حق المؤمنين بمفهوم الآية الأخرى في حق الكافرين {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، وقَيْدُها بالقيامة في الآيتين إشارةٌ إلى أن الرؤية تحصل في الآخرة دون الدنيا. انتهى كلام البيهقيّ مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا.

وقد أخرج أبو العباس السَّرَّاج في "تاريخه" عن الحسن بن عبد العزيز الجْرَوِيّ (1)، وهو من شيوخ البخاريّ، سمعت عمرو بن أبي سلمة، يقول سمعت مالك بن أنس، وقيل له: يا أبا عبد الله قولُ الله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} يقول قوم: إلى ثوابه، فقال:

(1) بفتح الجيم والراء. قاله في "التقريب" ص 70.

ص: 21

كَذَبُوا، فأين هم عن قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} .

ومن حيث النظر أن كلّ موجود يصح أن يُرَى، وهذا على سبيل التَّنَزُّل، وإلا فصفات الخالق لا تُقاس على صفات المخلوقين، وأدلّةُ السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومُنِعَ ذلك في الدنيا إِلَّا أنه اختُلِف في نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وما ذكروه من الفرق بين الدنيا والآخرة أن أبصار أهل الدنيا فانية، وأبصارهم في الآخرة باقية جَيِّدٌ، ولكن لم يَمْنَع تخصيصَ ذلك بمن ثبت وقوعه له.

ومَنَع جمهور المعتزلة من الرؤية، متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة، والله مُنَزَّه عن الجهة، واتفقوا على أنه يَرَى عباده، فهو رَاءٍ لا من جهة.

واختَلَفَ من أثبت الرؤية في معناها، فقال قوم: يَحصُل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب:"كما تَرَون القمر" إِلَّا أنه مُنزَّه عن الجهة والكيفية، وذلك أمر زائد على العلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ذكر صاحب "الفتح" قوله: "مُنَزَّه عن الجهة والكيفية"، أما كونه منزّهًا عن الكيفيّة، فحق، وأما كونه منزّهًا عن الجهة ففيه نظر لا يخفى، فقد أثبتت الأدلّة الصحيحة على أنه عز وجل في جهة العلّو، فتدبّرها، ولا تكن أسير التقليد، فإنّه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله الهادي إلى سواء السبيل.

وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية العلم، وعَبَّر عنها بعضهم بأنها حُصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الإبصار إلى المرئيات، وقال بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعِلْم إِلَّا أنه أتم وأوضح من العلم، وهذا أقرب إلى الصواب من الأول (1).

وتُعُقِّب الأولُ بأنه حينئذ لا اختصاص لبعض دون بعض؛ لأن العلم لا يتفاوت، وتعقّبه ابن التين بأن الرؤية بمعنى العلم تتعدى لمفعولين، تقول: رأيت زيدًا

(1) قلت: بل هو مثله في البطلان؛ إذ كلّ منهما مصادم للنصوص الصحيحة الصريحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 22

فقيهًا أي علمته، فإن قلت: رأيت زيدًا منطلقًا (1) لم يُفْهَم منه إِلَّا رؤية البصر، ويزيده تحقيقًا قوله في الخبر:"إنكم سترون ربكم عِيَانًا"؛ لأن اقتران الرؤية بالعيان لا يحتمل أن يكون بمعنى العلم.

وقال ابن بطّال رحمه الله: ذهب أهل السنة، وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة، ومَنَعَ الخوارج والمعتزلة، وبعض المرجئة، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي مُحْدَثًا وحالًّا في مكان، وأولوا قوله:{نَاظِرَةٌ} بمنتظرة، وهو خطأ؛ لأنه لا يتعدى بـ "إلى"، ثمّ ذكر نحو ما تقدّم، ثمّ قال: وما تمسكوا به فاسد؛ لقيام الأدلة على أن الله تعالى موجود، والرؤية في تعلّقها بالمرئي بِمَنْزِلة العلم في تعلّقه بالمعلوم، فإذا كان تعلّق العلم بالمعلوم لا يوجب حدوثه، فكذلك المرئي، قال: وتعلّقوا بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وبقوله تعالى لموسى:{لَن تَرَانِى} [الأعراف: 143]، والجواب عن الأوّل أنه لا تدركه الأبصار في الدنيا جمعًا بين دليلي الآيتين، وبأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية؛ لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته، وعن الثّاني المراد لن تراني في الدنيا جمعًا أيضًا، ولأن نفي الشيء لا يقتضي إحالته، مع ما جاء من الأحاديث الثابتة على وفق الآية، وقد تلَقّاها المسلمون بالقبول من لدن الصّحابة والتابعين حتّى حَدَثَ من أنكر الرؤية، وخالف السلف. انتهى كلام ابن بطّال رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبي: اشترط النُّفاة في الرؤية شروطًا عقلية، كالبنية المخصوصة، والمقابلة، واتِّصال الأشعة، وزوال الموانع، كالْبُعْد والحَجْب، في خَبْط لهم، وتحَكُّم، وأهلُ السنة لا يَشترطون شيئا من ذلك، سوى وجود المرئيّ، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله للرائي فيرى المرئيّ، وتقترن بها أحوال يجوز تبدلها، والعلم عند الله تعالى. انتهى

(1) قوله: "منطلقًا" هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أن صوابه "مُطلقًا"، من الإطلاق، لا من الإنطلاق، أي قلت:"رأيت زيدًا" من غير زيادة "فقيهًا"، أو نحوه. والله تعالى أعلم.

ص: 23

كلام القرطبيّ (1)، وهو كلامٌ نفيس.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة ومن أقوال أهل السنّة والجماعة أن رؤية المؤمنين لربّهم ثابتةٌ، لا شكّ فيها، ولا يُلتفَت إلى ما أبداه أهل الضلال من الجهميّة وغيرهم من الشُّبّه والخيالات الفاسدة، فإنها من تلبيسات الشيطان، وإغوائه، نسأل الله تعالى أن يعافينا من ذلك، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

قال الإمام أبو عيسى الترمذيّ رحمه الله في جامعه بعد إخراج حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي من طريق العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عنه: ما نصّه:

هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، وقد رُوي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم رواياتٌ كثيرةٌ مثلُ هذا ما يُذكَر فيه أمرُ الرؤية أن النَّاس يرون ربهم، وذِكرُ القدم، وما أشبه هذه الأشياء، والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة، مثل سفيان الثّوريّ، ومالك بن أنس، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع، وغيرهم، أنهم رَوَوْا هذه الأشياء.

ثمّ قالوا: تُرْوَى هذه الأحاديث، ويُؤمَنُ بها، ولا يقال: كيف، وهذا الّذي اختاره أهل الحديث، أن تُرْوَى هذه الأشياءُ كما جاءت، ويُؤمَنَ بها، ولا تُفَسَّر، ولا تُتَوَهَّم، ولا يقال: كيف، وهذا أمر أهل العلم الّذي اختاروه، وذهبوا إليه، ومعنى قوله في الحديث:"فَيُعَرِّفُهُم نَفسَه" يعني يتجلى لهم. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) راجع "الفتح" 13/ 522 - 525 "كتاب التّوحيد" الحديث (7434 - 7447).

ص: 24

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

178 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْر، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ عِيسَى الرَّمليُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَضَامُّونَ في رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَكَذَلِكَ لَا تَضَامُّونَ في رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمّد بن عبد الله بن نُمَير) المذكور في السند الماضي.

2 -

(يحيى بن عيسى الرمليّ) هو: يحيى بن عيسى بن عبد الرّحمن، ويقال: ابن

محمّد التميميّ النَّهْشَليّ، أبو زكريا الكُوفيُّ الفاخُوريّ -بالفاء والخاء المعجمة- الجَرّار -بالجيم، وراءين- نزيل الرَّمْلة، ليّن الحديث (1)، ورُمي بالتشيّع [9] 10/ 87.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْرَان المذكور في الباب الماضي.

4 -

(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 1/ 1.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1، وشرح الحديث سبق في الّذي قبله.

وقوله: "تضامون في رؤية القمر" هو بتقدير حرف الاستفهام، أي هل تضامون إلخ، وقوله:"تضامون" يروى بضم أوله، وتشديد الميم، أي لا تجتمعون لرؤيته في جهة واحدة، ولا يضمّ بعضكم بعضًا، ويُروى بفتح التاء أيضًا، والأصل تتضامّون في رؤيته باجتماع في جهة واحدة، وبالتخفيف من الضيم، وهو الظلم، أي لا تُظلمون برؤية بعضكم دون بعض، فإنكم ترونه جميعًا، وقد سبق أن التشبيه إنّما هو للرؤية بالرؤية.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1) هذا أولى ممّا قال في "التقريب": صدوقٌ يُخطىء؛ لأن الأكثرين على تضعيفه، ولم يوثّقه إِلَّا المتساهلون، فراجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 4/ 380 - 381.

ص: 25

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده يحيى بن عيسى الرمليّ، وقد ضعّفه الأكثرون، وتابعه في روايته عن الأعمش جابر بن نوح الحِمَّانيّ، وهو أضعف منه؟.

[قلت]: إنّما صحّ لأنه رواه سفيان بن عيينة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في "صحيحه" مطوّلًا، ولفظه:

2968 -

حَدَّثَنَا محمّد بن أبي عمر، حَدَّثَنَا سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله هل نرى رَبَّنَا يوم القيامة؟ قال: "هل تضارون في رؤية الشّمس في الظهيرة ليست في سحابة؟، قالوا: لا، قال: "فهل تُضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ "، قالوا: لا، قال: "فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إِلَّا كما تضارون في رؤية أحدهما"، قال: "فَيَلْقَى العبدَ، فيقول: أَيْ فُلُ ألم أُكرِمك، وأسودك، وأُزَوِّجك، وأُسَخِّر لك الخيل والإبل، وأَذَرْكَ تَرْأَس وتَرْبَع؟، فيقول: بلى، قال: فيقول: أفظننت أَنَّك مُلاقِيَّ؟، فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثمّ يَلْقَى الثّانيَ، فيقول: أي فُلُ ألم أكرمك، وأسودك، وأزوِّجك، وأُسَخِّر لك الخيل والإبل، وأَذَرْك تَرْأَس وتَرْبَع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أَنَّك مُلاقِيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنِّي أنساك كما نسيتني، ثمّ يَلْقَى الثالثَ، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصلّيت، وصمت، وتصدقت، ويُثْنِي بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إِذًا، قال: ثمّ يقال له: الآن نَبْعَثُ شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه مَنِ ذا الّذي يشهد عليّ؟، فيُخْتَم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطِقِي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك لِيُعْذَرَ من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الّذي يَسْخَطُ الله عليه".

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله عقب إخراجه: هذا حديث حسن صحيح غريب،

ص: 26

وهكذا رَوَى يحيى بن عيسى الرَّمليّ وغير واحد عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عبد الله بن إدريس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن إدريس، عن الأعمش غير محفوظ، وحديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحّ، وهكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد روي عن أبي سعيد، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه مثل هذا الحديث، وهو حديث صحيح. انتهى.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 178) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (مسلم) في (8/ 216) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، و (أبو داود)(4730) و (الترمذيّ)(2554) و (الحميديّ) في "مسنده"(1178) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 389 و 492)،

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

179 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الهمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَنَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: "تَضَامُّونَ في رُؤيةِ الشَّمْسِ في الظَّهِيرَةِ في غَيْرِ سَحَاب؟ " قُلْنَا: لَا، قَال: "فَتَضَارُّونَ في رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ في غَيْرِ سَحَابٍ؟ "، قَالُوا: لَا، قَال: "إِنَّكُمْ لَا تَضَارُّونَ في رُؤْيَتِهِ إِلَّا كَمَا تَضَارُّونَ في رُؤيتِهِمَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمّد بن العلاء الهمْدانيّ) أبو كُريب الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 8/ 52.

2 -

(عبد الله بن إدريس) الأوديّ الكوفيّ، ثقة فقيه عابدٌ [8] 7/ 52.

3 -

(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان الْخُدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 4/ 37، والباقيان سبقا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث يُعرف ممّا مضى.

وقوله: "تضامون" بالميم، وتقدّم الكلام عليه في الّذي قبله، وفي بعض النسخ

ص: 27

"تضارون" بالراء، وهو بفتح التاء، وتشديد الراء، أي هل يُصيبكم ضرر؟، ويحتمل كونه بالتخفيف علي بناء المفعول من الضير لغة في الضرر.

وقوله: "في الظهيرة" بالفتح: الهاجرة، وهو حين تزول الشّمس.

وقوله: "في غير سحاب" أي لا في سحاب، وليس المراد أما تكون في شيء غير سحاب. قاله السنديّ (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد رضي الله عنه عنه هذا غير محفوظ بهذا السند، وهو متفقٌ عليه، من غير طريق الأعمش، عن أبي صالح، فقد أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من طريق عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه، مطوَّلًا، وقد سبق للمصنّف مختصرًا برقم 9/ 60 وأوردته هناك مطوّلًا من رواية الشيخين رحمهما الله، فراجعه تستفد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(المسألةُ الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 179) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(3/ 16) و (ابن أبي عاصم)(452) و (أبو يعلى)(1006) و (ابن خُزيمة)(169) والآجريّ في "الشّريعة"(261) و (ابن منده)(810).

وأخرجه المصنّف من طريق عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، مختصرًا، وقد سبق برقم 9/ 60 مختصرًا، وهو متّفق عليه، كما سبق قريبًا، وقد تقدّم تخريجه هناك، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)"شرح السنديّ" 1/ 115.

ص: 28

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

185 -

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءِ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَنَرَى اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ في خَلْقِهِ؟ قَالَ: "يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مُخْلِيًّا بِهِ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:"فَالله أَعْظَمُ، وَذَلِكَ آيَةٌ في خَلْقِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو بكر بن أبي شيبة) الكوفيّ الثقة الحافظ [10] 1/ 1.

2 -

(يزيد بن هارون) أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقنٌ عابدٌ [9] 16/ 127.

3 -

(حماد بن سلمة) أبو سلمة البَصْريُّ، ثقة عابد، من كبار [8] 14/ 116.

4 -

(يعلى بن عطاء) العامريّ، ويقال: الليثيّ الطائفيّ، ثقة [4].

رَوَى عن أبيه، وأوس بن أبي أوس، وعُمارة بن حُدَير البجليّ، وعمرو بن الشَّرِيد ابن سُوَيد، وعمرو بن عاصم بن سُفيان عبد الله الثَّقَفِيّ، وأبي عَلْقَمَة الهاشميّ، وجابر ابن يزيد ابن الأسود، وأبي هَمّام عبد الله بن يسار الكوفيّ، ووكيع بن عُدُس، ويزيد بن طَلْق، وغيرهم. ورَوَى عنه شعبة، والثوريّ، وحماد بن سلمة، وهُشيم، وشريك، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال الأثرم: أثنى عليه أحمد بن حنبل خيرًا. وقال ابن معين، والنَّسائيُّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: سمع هُشيم من يعلى، وهو صغير جدًّا. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: قال هشيم: فارقنا يعلى سنة عشرين ومائة. وقال البخاريُّ: يقال: مات بواسط سنة عشرين، وفيها أَرّخه ابن حبَّان. وقال ابن المديني: يعلى بن عطاء له أحاديثُ لم يروها غيره، ورجالٌ لم يرو عنهم غيره، منهم وكيع بن عُدُس، وأهل الحجاز لا يعرفونه، وإنّما رَوَى عنه قوم بواسط.

أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

ص: 29

5 -

(وكيع بن حُدُس) -بمهملات، وضمّ أوله وثانيه، وقد يُفتح ثانيه، ويقال: بالعين المهملة بدل الحاء- أبو مُصعب الْعُقَيليّ (1) الطائفيّ، مجهول (2)[4].

رَوَى عن عمه أبي زرين الْعُقَيليّ، وعنه يعلى بن عطاء العامري، قال الآجري عن أبي داود: قال حماد بن سلمة، وأبو عوانة، وسفيان: وكيع بن حُدُس، وقال شعبة، وهُشيم: وكيع بن عُدُس، قال: وسمعت عيسى بن يونس يقول: رأيت رجلًا من ولد وكيع، فسألته عنه، فقال: ابن حُدُس. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: أرجو أن يكون الصواب حُدُس بالحاء، سمعت عبدان الجوالقي يقول ذلك، وقال ابن قُتَيْبَةُ في "اختلاف الحديث": غير معروف، وقال ابن القطان: مجهول الحال.

أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 180 و 181 و 182 و 3914.

6 -

(أبو رَزِين) -بفتح الراء، وكسر الزاي- هو: لَقِيط بن صَبِرَة -بفتح الصاد المهملة، وكسر الموحّدة- وهو لقيط بن عامر بن صَبِرة بن عبد الله بن المُنْتَفِق بن عامر ابن عُقَيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة، الْعُقَيليّ، وقيل: هو غير لقيط بن عامر بن صَبِرة، قال ابن عبد البرّ: وقد قيل: إن لقيط بن عامر غير لقيط بن صَبِرة، وليس بشيء. وقال عبد الغني بن سعيد: أبو رَزِين الْعُقَيليّ هو لقيط بن عامر بن المنتفق، وهو لقيط بن صَبِرَة، وقيل: إنّه غيره، وليس بصحيح.

(1) بضم العين المهملة، وفتح القاف مصغّرًا، هكذا ضبطه في "الخلاصة" ص 415، وهو الصواب، وأمَّا مَا في "التقريب" من ضبطه بالفتح، فغير صحيح، كما يظهر من ترجمة عمّه أبي رَزين الْعُقَيليّ، وهو نسبة إلى جدّه عُقَيل بن كعب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة، كما في "الأنساب" 4/ 217 - 219، و"لبّ اللباب" 2/ 118 - 119 فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(2)

هذا هو الظّاهر، وأما ما قاله في "التقريب": مقبول، فالظاهر أنه غير مقبول؛ لأنه تفرّد بالرواية عنه يعلى بن عطاء، وحكم بجهالته ابن قُتَيْبَةُ، وابن القطان، والذهبيّ، ولم يوثّقه غير ابن حبّان على عادته في توثيق المجاهيل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

ص: 30

روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عاصم بن لَقِيط، وابن أخيه وَكِيع بن عُدُس، وعبد الله بن حاجب بن عامر، وعمرو بن أوس الثقفي.

قال الحافظ: تناقض في هذا المِزّيّ، فجعلهما في "التهذيب" واحدًا، وفي "الأطراف" اثنين، وقد جعلهما ابنُ معين واحدًا، وقال: ما يُعْرَف لَقِيط غيرُ أبي رزين، وكذا حَكَى الأثرم عن أحمد بن حنبل، وإليه نحا ابن حبّان، وابن السكن.

وأما علي بن المديني، وخليفة بن خياط، وابن أبي خيثمة، وابن سعد، ومسلم، والترمذي، وابن قانع، والبغوي، وجماعة، فجعلوهما اثنين، وقال الترمذيّ: سألت عبد الله بن عبد الرّحمن عن هذا، فأنكر أن يكون لقيط بن صبرة هو لقيط بن عامر، والله أعلم (1).

ورجّح في "الإصابة" كونهما اثنين، ونصّه بعد ذكر الخلاف المتقدّم: والراجح عندي أنهما اثنان؛ لأن لقيط بن عامر معروف بكنيته، ولَقِيط بن صَبِرة لم يُذكر كنيته إِلَّا ما شذّ به ابنُ شاهين، فقال: أبو رزين الْعُقَيليّ أيضًا، والرواة عن أبي رَزِين جماعة، ولقيط بن صَبِرة لا يُعرف له راو إِلَّا ابنه عاصم، وإنّما قَوَّى كونهما واحدًا عند من جزم به؛ لأنه وقع في صفة كلّ منهما أنه وافد بني المُنْتَفِق، وليس بواضح؛ لأنه يَحتمل أن يكون كلٌّ منهما كان رأسًا. انتهى كلام الحافظ في "الإصابة"(2)، وهو بحثٌ نفيس، والله تعالى أعلم.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم 180 و 181 و 182 و 407 و 448 و 2906 و 3914.

وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم ممّا سبق.

وقوله: "وما آية ذلك": أي ما علامته، ومثاله في خلقه.

(1) راجع "تهذيب التهذيب" 3/ 479 - 480.

(2)

راجع "الإصابة" 4/ 508 - 509.

ص: 31

وقوله: "مخليًّا به" اسم فاعل من أخلى، أي منفردًا برؤيته من غير أن يزاحمه صاحبه في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي رزين الْعُقَيليّ رضي الله عنه هذا حسنٌ.

[فإن قلت]: كيف يُحسَّن، وفيه وكيع بن حُدُس، وهو مجهول؟.

[قلت]: إنّما كان حسنًا لشواهده، وهي الأحاديث الصحاح المتقدّمة، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 180) بهذا الإسناد، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(4/ 11 و 12) و (أبو داود) في (4731)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

181 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنَبَأَنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ضَحِكَ رَبُّنا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خيرًا).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إسناد هذا الحديث هو الّذي تقدّم قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ) تقدّم أنه بضمّ الحاء، أو العين المهملتين، وضمّ الدال المهملة (عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ) لقيط بن عامر بن صَبِرة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (ضَحِكَ رَبُّنا) بفتح الضاد المعجمة، وكسر الحاء المهملة، من باب عَلِمَ، يقال: ضَحِكَ

ص: 32

منه، وبه يَضْحَكُ ضَحِكًا بفتح فكسر، وضَحْكًا بفتح فسكون، وضِحْكًا بكسر فسكون، مثلُ كَلِمٍ، وكَلْمٍ، وكِلْمٍ: إذا سَخِرَ منه، أو عَجِبَ، فهو ضاحكٌ، وضَحّاكٌ مبالغة. انتهى "المصباح" بزيادة.

قال السنديّ في "شرحه": قيل: الضحك من الله الرضا، وإرادة الخير، وقيل: بسط الرّحمة، والإقبال بالإحسان، أو بمعنى أمر ملائكته بالضحك، وأَذِنَ لهم فيه كما يقال: السلطان قتله إذا أمر بقتله، قال ابن حبّان في "صحيحه": هو من نسبة الفعل إلى الآمر، وهو في كلام العرب كثير. قلت (1): والتحقيق ما أشار إليه بعض المحقّقين أن الضحك وأمثاله ممّا هو من قبيل الانفعال إذا نُسب إلى الله تعالى يراد به غايته، وقيل: بل المراد به إيجاد الانفعال في الغير، فالمراد هاهنا الإضحاك.

ومذهب أهل التحقيق أنه صفة سمعيّة يلزم إثباتها مع نفي التشبيه، وكمال التنزيه كما أشار إلى ذلك مالك، وقد سئل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معلوم، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عنه بدعة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي ذكره السنديّ في المراد بالضحك المذكور في الحديث كلام متناقض، فإن أوله مذهب أهل التّأويل، وآخره مذهب أهل التحقيق من السلف، ومن تبعهم من أهل الحديث، فقوله: المراد به الرضا إلخ فهو تفسير باللازم، وهو وإن صح باعتبار أن ثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم إِلَّا أنه ليس هو المراد، بل ثبوت الملزوم، وهو الضحك لله عز وجل على الوجه اللائق به، ومعلوم أنه إذا ضحك الله إلى عبد رضي عنه، وأراد به الخير، وكذا ما بعده، وهذا هو المذهب الحقّ، كما أشار إليه السنديّ في آخر كلامه حيث قال: ومذهب أهل التحقيق أنه صفة إلخ، فكان ينبغي له أن يذكر الأقوال مفصّلة، لا مجملة بحيث يوقع أنه يسلّم الأقوال كلها.

والحاصل أن الحقّ الّذي لا مرية فيه، ولا مماراة أن هذه الصفات من الضحك،

(1) القائل هو السنديّ.

ص: 33

والرضا، والغضب، والمجيء، والنّزُول، والاستواء ثابتة لله عز وجل على مراد الله، ونعتقد أنَّ الله ذلك اعتقادًا جازمًا لا يتطرّق إليه شك ولا ارتياب، ونثبتها له بلا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، فكن على بصيرة، ولا تكن أسير التقليد، فإنّه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ) قال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرّر ذكر "القنوط" في الحديث، وهو أشدّ اليأس من الشيء، يقال: قَنِطَ يَقْنَط، وقَنَطَ يَقْنِطُ، فهو قانط، وقَنُوطٌ، و"القُنُوط" المصدر. انتهى (1).

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "القُنُوط" بالضمّ: اليأس من رحمة الله تعالى، يقال: قَنِط يَقْنَطُ، من بابي ضَرَب وتَعِبَ، وهو قانطٌ، وقَنُوطٌ، وحَكَى الجوهريّ لغةٌ ثالثةٌ من باب قَعَد، ويُعَدَّى بالهمزة. قاله في "المصباح"(2).

وقال السنديّ رحمه الله: والقنوط كالجلوس: هو اليأس، ولعلّ المراد ههنا هو الحاجة والفقر، أي يرضي عنهم، ويُقبل بالإحسان إذ انظر إلى فقرهم وذِلّتهم وحَقَارتهم وضعفهم، وإلا فالقنوط من رحمته يوجب الغضب لا الرضا، قال تعالى:{لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ} [الزمر: 53]، وقال:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، إِلَّا أن يقال ذلك هو القنوط بالنظر إلى كرمه وإحسانه، مثل أن لا يرى له كرمًا وإحسانًا، أو يرى قليلًا فيقنط كذلك، فهذا هو الكفر، والمنهيّ عنه أشدَّ النّهي، وأما القنوط بالنظر إلى أعماله وقبائحه، فهو ممّا يوجب للعبد تواضعًا وخُشوعًا وانكسارًا، فيوجب الرضا، ويَجْلُبُ الإحسانَ والإقبالَ من الله تعالى، ومنشأ هذا القنوط هو الغيبة عن صالح الأعمال، واستعظام المعاصي إلى الغاية، وكلّ منهما مطلوبٌ ومحبوبٌ، ولعلّ هذا سبب مغفرة

(1)"النهاية" 4/ 113.

(2)

"المصباح" 2/ 517.

ص: 34

ذنوب من أَمَرَ أهله بإحراقه بعد الموت حين أيس من المغفرة، فليُتأمّل. انتهى كلام السنديّ، وهو بحث نفسٌ، والله تعالى أعلم.

" (وَقُرْبِ غِيَرِهِ") بكسر الغين المعجمة، وفتح التحتانيّة المثنّاة، اسم من قولك: غَيَّرتُ الشيءَ، قاله في "النهاية"، ونحوه في "الصحاح"(1).

وقال السنديّ رحمه الله: ضُبط بكسر الغين المعجمة، ففتح ياء بمعنى فقير الحال، وهو اسم من قولك غَيَّرتُ الشيءَ، فتغيّر حاله من القوّة إلى الضعف، ومن الحياة إلى الموت، وهذه الأحوال ممّا تجلُبُ الرّحمة لا محالة في الشّاهد، فكيف لا تكون أسبابًا عاديّة لجلبها من أرحم الراحمين جلّ ذكره وثناؤه، والأقرب أن الْغيرَ بمعنى تغيير الحال، وتحويله، وبه تُشعر عبارة "القاموس"، لا تغيُّره وتحوّله كما في "النهاية"، والضمير لله، والمعنى أنه تعالى يضحك من أن العبد يصير مأيوسًا من الخير بأدنى شرّ وقع عليه مع قرب تغييره تعالى الحالَ من شرّ إلى خير، ومن مرض إلى عافية، ومن بلاء ومِحْنَة إلى سُرور وفَرْحَة، لكن الضحك على هذا لا يمكن تفسيره بالرضا. انتهى.

قال الجامع عفا لله تعالى عنه: عندي في كلام السنديّ هذا نظر من وجوه:

أما أوّلًا: فإن قوله: "وبه تشعر عبارة "القاموس" إلخ غير صحيح؛ إذ عبارته تفيد عكس ما ادّعاه، ودونكها، قال: ص 409 "وتغيّر عن حاله: تحوّل، وغَيَّرَه: جعله غيرَ ما كان، وحَوَّله، وبدَّلَهُ، والاسم الْغَيْرُ، أي بفتح، فسكون. انتهى، ونحوه في "اللسان" 5/ 40 قال: و"الْغَيْرُ" الاسم من التغيّر، عن اللحيانيّ، وأنشد:

إِذْ أَنَا مَغْلُوبٌ قَلِيلُ الغَيْرِ. انتهى باختصار.

فأفاد أن ضبطه بفتح، فسكون، وأنه بمعنى التغيّر، لا بمعنى التغيير، كما ادّعاه السنديّ، فتأمّل.

وأما ثانيّا: فلأنّ عبارة "النهاية" تفيد أنه "الغير" بكسر ففتح بمعنى التغيير، لا

(1)"النهاية" 3/ 401 و"الصحاح" 2/ 665.

ص: 35

بمعنى التغيُّر، وهي المناسبة لمعنى الحديث، لا عبارة "القاموس" كما ادّعاه أيضًا.

وثالثًا: قوله: "لكن الضحك إلخ" تقدّم أن تفسير الضحك بالرضا غير صحيح، فلا تغفُل، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو رزين رضي الله عنه (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم "نَعَمْ") سبق آنفًا معنى ثبوت الضحك لله عز وجل بنا كفى وشفى (قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ) بفتح أوله، وثالثه، يقال: عَدِمته عَدَمًا، من باب تَعِبَ: فَقَدتُهُ، وهو متعدًّ، ولذا نصب "خيرًا" (مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ) متعلّقٌ بقوله:(خَيْرًا) يريد أن الربّ الّذي من صفاته الضحك لا نفقد خيره، بل كلّما احتجنا إلى خيره وجدناه، فإنا إذا أظهرنا الفاقة لديه يضحك، فيعطي (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي رزين رضي الله عنه هذا حسنٌ.

[فإن قلت]: كيف يُحسّن، وفيه وكيع بن حدُس، وهو مجهول؟، وقال البوصيريّ: هذا إسناد فيه مقال، وكيع ذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وذكره الذهبيّ في "الميزان"، وباقي رجاله احتجّ بهم مسلم. انتهى (2).

[قلت]: إنّما كان حسنًا لوجود المتابعة، والشواهد، فأمّا المتابعة، فقد روى عبد الرّحمن بن عيّاش السمعي الأنصاريّ القُبَائيّ -من بني عمرو بن عوف- عن دَلْهَم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيليّ، عن أبيه، عن عمّه لقيط بن عامر - قال دَلْهم: وحدثنيه أبي الأسود، عن عاصم بن لقيط أن لقيطًا خرج وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث بطوله في صفحتين كبيرتين، وفيه مرفوعًا:

(1)"شرح السنديّ" 1/ 117.

(2)

ص 52 - 53.

ص: 36

"وعلم الله يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين، فيظلّ يضحك قد علم أن غِيَرَكم إلى قرب"، قال لقيط: لن نعدم من ربّ يضحك خيرًا، أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" 4/ 13 و"السنّة"(1120) هكذا، وابن خزيمة في "التّوحيد"(122 - 125) والطبرانيّ في "المعجم الكبير"(19/ 211 - 214)(1).

فهذا الإسناد، وإن كان في عبد الرّحمن، ودَلَهم، وأبيه جهالة، إِلَّا أنه يصلح للمتابعة، ولا سيما مع الشواهد الآتية، والله تعالى أعلم.

وأما الشواهد فقد أخرج البخاريّ (806) ومسلم (182) حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله عنهما الطَّويل في الشفاعة، وفيه:"فيضحك الله عز وجل، فيدخله الجنَّة".

والحاصل أن الحديث حسنٌ؛ لما ذُكر، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 181) وهو من أفراده، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (الطيالسيّ) في "مسنده"(1092) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 11 و 12 وفي "السنة"(452) و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(554) و (عبد الله بن أحمد) في "زوائد السنة (453) و (الدارقطني) في "الصفات" 46/ 30 (والآجرّيّ) في "الشّريعة" (ص 279 و 280) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات" (ص 473)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من صفات الله عز وجل.

2 -

(ومنها): أن فيه إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة للمؤمنين.

(1) انظر "السلسلة الصحيحة" 6/ 734 رقم الحديث (2810).

ص: 37

3 -

(ومنها): أن فيه إثبات صفة الضحك لله عز وجل على ما يليق بجلاله، فنثبته له صلى الله عليه وسلم ما أثبته لنفسه من الصفات، أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم الأحاديث الثابتة عنه، كهذه الأحاديث، ولا نؤوّل، ولا نعطل، ولا نشبّه، تعالى الله عما يقول الظالمون علُوّا كبيرًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

4 -

(ومنها): أن الله عز وجل قريب الإجابة، وكثير العطاء، وسريع التغيير للمحن عن عباده في وقت قريب، فلا ينبغي لهم القلق بشدّة الضرّ، وتفاقم الشرّ، بل يلجئون إلى الله عز وجل، ويجأرون إليه، فإنّه لا ملجأ ولا منجا من الله إِلَّا إليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

182 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: "كَانَ في عَماءٍ، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَمَا ثَمَّ خَلْقٌ، عَرْشهُ عَلَى المَاءِ").

رجال هذا الإسناد: هم الذين ذكروا في السند السابق، غير شيخه محمّد بن الصبّاح، وهو الجْرْجَرائيّ، أبو جعفر التاجر، صدوق [10] 1/ 2 من أفراد المصنّف.

شرح الحديث:

(عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا) قال السنديّ: قيل: هو بتقدير أين كان عرش ربّنا؟ قال: ويدلُّ عليه قوله: ثمّ خلق عرشه على الماء، وعلى هذا يحتمل قوله:(قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ) على غير العرش، وما يتعلّق به، وحينئذ لا إشكال في الحديث أصلًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا إشكال مطلقًا؛ لأن الحديث ضعيف، فلا حاجة إلى التكلّف في توجيهه، فإنّه فرع الصحّة، ولا سيّما وباب العقائد يحتاط فيها،

ص: 38

فلا يثبت شيء منها إِلَّا بما صحّ سنده، واستقام متنه، فتفطّن. والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (كَانَ في عَمَاءٍ) قال ابن الأثير: في "النهاية": "العماء" بالفتح والمدّ: السحاب، قال أبو عُبيد: لا يُدرَى كيف كان ذلك العماء، وفي رواية: كان في عمًا بالقصر، ومعناه ليس معه شيء، وقيل: هو كلُّ أمر لا تُدركه عُقُول بني آدم، ولا يبلُغ كنهه الوصف والْفِطَنُ، ولا بُدّ في قوله:"أين كان ربُنا" من مضاف محذوف، كما حُذف في قوله تعالى (1):{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} الآية [البقرة: 210] ونحوه، فيكون التقدير: أين كان عرش ربّنا؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، وقال الأزهريّ: نحق نؤمن به، ولا نكيّفه بصفة، أي نُجري اللفظ على ما جاء عليه من غير تأويل. انتهى (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لو صحَّ الحديث لكان ما قاله الأزهريّ هو الصواب، لكن قد عرفت أنه ضعيف، فلا حاجة إلى التكلّف، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

وقال السنديّ بعد ما ذكر تفسير العماء عن "النهاية": ومن لا يُقدّر مضافًا يقول: ليس المراد من العماء شيئًا موجودًا غير الله؛ لأنه حينئذ يكون من قبيل الخلق، والكلام مفروضٌ قبل أن يخلُق الخلق، بل المراد ليس معه شيء، ويدلّ عليه رواية "كان في عَمًى بالقصر، فإن العمى بالقصر مفسَّرٌ به.

قال الترمذيّ: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: العماء أي ليس معه شيء، وعلى هذا كلة "في" في قوله:"كان في عماء" بمعنى "مع"، أي كان مع عدم شيء آخر، ويكون حاصل الجواب الإرشادَ إلى عدم المكان، وإلى أنه لا أين ثمة؟ فضلًا عن أن يكون هو في مكان، وقال كثير من العلماء: هذا من حديث الصفات، فنؤمن به، ونَكِلُ

(1) فيه نظر لا يخفى فإنّه لا حذف في قوله: "إِلَّا أن يأتيهم الله" إِلَّا على مذهب المؤولة، وهو مذهب باطل، بَيَّنَّا بطلانه غير مرَّة، فتنبَّه، والله تعالى أعلم.

(2)

"النهاية في غريب الحديث" 3/ 304.

ص: 39

علمه إلى عالمه، انتهى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت التحقيق فيما سبق، فلا تغفل.

وقوله: (وَمَا ثَمَّ خَلْقَ)"ما" فيه نافية، لا موصولة، وكذا في قوله:(وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ) وأما قوله: (وَمَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ) فقال السنديّ: هكذا في نسخ ابن ماجه المعتمدة، والظاهر أن قوله:"وما" تأكيد للنفي السابق، ويحتمل أن يكون "ثَمَّ" بفتح المثلّثة اسم إشارة إلى المكان، و"خَلْق" بمعنى مخلوق، وقوله:(عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ) جملة أخرى، وبعضهم جعل "مَاءٌ" بالمدّ عطفًا على "هواء"، والأقرب أنه تصحيف. انتهى (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما أشار إليه السنديّ رحمه الله أن "ما" في قوله: "وما ثَمَّ خلقٌ" نافية مؤكّدة للنفي السابق، و"ثَمَّ" بفتح الثاء المثلّثة، وتشديد الميم اسم إشارة للمكان البعيد، و"خَلْقٌ" بفتح، فسكون بصيغة المصدر بمعنى مخلوق، أي ليس في ذلك المكان مخلوق، وقوله:"عرشُهُ على الماء" جملة مستأنفة، وهذا تقرير حسنٌ، فتأمّله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألةُ الأولى): في درجته:

حديث أبي رزين رضي الله عنه هذا ضعيف؛ لضعف إسناده كما سبق الكلام عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 182) بهذا السند فقط، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1093 و 1094) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 11 و 12 و (الترمذيّ)(3109) و (عثمان الدارميّ) في "الردّ على الجهميّة"(55) و (ابن أبي

(1)"شرح السنديّ" 1/ 118.

(2)

"شرح السنديّ" 1/ 118.

ص: 40

عاصم) (459 و 460) و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة"(257 و 258 و 260 و 265 و 266) و (الطّبريّ) في "جامع البيان"(17980) و"التاريخ" 1/ 37 - 38 و (ابن حبّان)(6141) و (الطبراني) في "الكبير"(19/ 465 و 468) و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 560)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

183 -

(حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَد، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ في النَّجْوَى؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَعْرِفُ، حَتَى إِذَا بلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ الله أَنْ يَبْلُغَ، قَالَ: إِنِّي سَتَرتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ"، قَالَ: "ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ"، أَوْ "كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ"، قَالَ: "وَأَمَّا الْكَافِرُ، أَوِ المُنَافِقُ، فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَاد"، قَالَ خَالِدٌ: في "الْأَشْهَادِ" شَيْءٌ مِنِ انْقِطَاعٍ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حُمَيد بن مَسْعَدة) بن المبارك السّاميّ -بالمهملة- الباهليّ، أبو عليّ، ويقال: أبو العباس البصريّ، صدوقٌ [10].

رَوَى عن حماد بن زيد، وبِشْر بن المُفَضّل، وابن عُلَيّة، وعبد الوهّاب الثقفي، وعبد الوارث بن سعيد، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زُرَيع، وجماعة.

ورَوَى عنه الجماعة سوى البخاريّ، وأبو زرعة، وأبو يحيى صاعقة، وموسى بن هارون، وجعفر الفريابي، وأبو جعفر الطّبريّ، ومحمد بن إبراهيم بن الحَزَوَّر، والبغوي، وغيرهم. قال أبو حاتم: كَتبتُ حديثه في سنة نيف وأربعين ومائتين، فلما قَدِمتُ البصرة

ص: 41

كان قد مات، وكان صدوقًا. وقال النَّسائيّ في "أسماء شيوخه": ثقة. وقال إبراهيم بن أورمة: كُلُّ حديث حميد فائدة، ويُنْظَر كيف يجتمع الباهلي والسامي. وقال أبو الشّيخ: تُوُفِّي سنة (442)، وكذا قال ابن حبّان في "الثِّقات" في تاريخ وفاته.

أخرج له مسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سليمان، ويُقال: ابن الحارث بن سُليم بن عُبيد بن سُفيان الْهُجَيمي، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبتٌ [8].

رَوَى عن حميد الطَّويل، وأيوب، وابن عون، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة، والثوري، وعبد الملك بن أبي سليمان، وابن جريج، وهشام بن حسان، وهشام الدستوائي، وجماعة.

ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق بن راهويه، وعلي ابن المديني، ومسدد، وعارم، والفلاس، وعبد الله بن عبد الوهّاب الحَجَبيّ، وعبيد الله بن معاذ، ويحيى بن حبيب بن عربي، ونصر بن علي الْجَهْضَميّ، والحسن بن عرفة، وهو آخر أصحابه، وغيرهم، وحَدَّثَ عنه شعبة، وهو من شيوخه.

قال ابن عَمَّار عن القطان: ما رأيت خيرًا من سفيان وخالد بن الحارث. وقال الأثرم عن أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال المرُّوذيُّ عن أحمد: كان خالد بن الحارث يجيء بالحديث كما يَسْمَع. وقال أبو زرعة: كان يقال له خالدُ الصدقِ. وقال ابن سعد: ثقة. وقال أبو حاتم: إمام ثقة. وقال النَّسائيُّ: ثقة ثبت. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: كان من عُقلاء النَّاس ودُهاتهم. وقال معاوية بن صالح: قلت ليحيى ابن معين: من أثبت شيوخ البصريين؟ قال: خالد بن الحارث مع جماعة سماهم. وقال التّرمذيّ: ثقة مأمون، سمعت ابن مثنى يقول: ما رأيت بالبصرة مثله. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قال فيه حماد بن زيد: ذاك الصدوق.

وقال الآجري: سألت أبا داود عن خالد ومعاذ، فقال: معاذ صاحب حديث، وخالد كثير الشكوك، وذكر من فضله. وقال الدارقطني: رَوَى عنه حسان بن إبراهيم

ص: 42

الكرماني، وهو أكبر من خالد، وأقدم وفاةً. وقال في موضع آخر: أحد الأثبات.

وقال عمرو بن عليّ: وُلد سنة عشرين ومائة، وقال هو وابن سعد: مات سنة (186)، وقال ابن حبّان: وُلد سنة (119).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا.

3 -

(سَعِيدٌ) بن أبي عروبة مِهْرَان الْعَدَويّ الْيشكُريّ، مولى بني عَدِيّ بن يَشْكُر، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختَلَطَ، وكان من أثبت النَّاس في قتادة [6].

رَوَى عن قتادة، والنضر بن أنس، والحسن البصريّ، وعبد الله بن فَيْرُوز الداناج، وأبي مَعْشَر زياد بن كُليب، وزياد الأعلم، ومطر الورَّاق، وجماعة.

ورَوَى عنه الأعمش، وهو من شيوخه، وشعبة، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وخالد بن الحارث، ورَوْح بن عُبادة، ويزيد بن زُرَيع، وأبو بَحْر الْبَكراويّ، ومحمد بن أبي عديّ، ومحمد بن سَوَاء، ويحيى القطان، وبِشْر بن المفضل، وسهل بن يوسف، وابن المبارك، وعبد الوارث بن سعيد، وكَهْمَس بن المنهال، وابن عُلَيَّة، وأبو أُسامة، وسالم ابن نوح، وسعيد بن عامر، وأبو خالد الأحمر، وجماعة.

قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتاب، إنّما كان يَحفَظ ذلك كله. وقال ابن معين، والنَّسائيّ: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة مأمون.

وقال ابن أبي خيثمة: أثبت النَّاس في قتادة سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائيّ. وقال أبو عوانة: ما كان عندنا في ذلك الزّمان أحفظ منه. وقال أبو داود الطيالسيّ: كان أحفظ أصحاب قتادة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: سعيد أحفظ وأثبت -يعني من أبَان العطار- وأثبت أصحاب قتادة هشام، وسعيد. ويقال أبو حاتم: هو قبل أن يَختلط ثقة، وكان أعلم النَّاس بحديث قتادة. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: عن دُحَيم: اختلط مَخْرَج إبراهيم سنة خمس وأربعين ومائة. وقال الآجري عن أبي داود: سماعُ وكيعٍ منه بعد الهزيمة. وقال أبو داود: كان وكيع يقول: كنا ندخل على سعيد فنسمع،

ص: 43

فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحًا طرحناه. وقال أبو نعيم: كتبتُ عنه بعد ما اختَلَط حديثين. وقال ابن حِبّان: كان سماع شعيب بن إسحاق منه سنة (44) قبل أن يختلط بسنة. وقال البخاريّ: قال عبد الصمد: مات سنة ست وخمسين ومائة، وقال غيره: سنة (75).

وقال أبو بكر البزار: يحدث عن جماعة لم يسمع منهم، فإذا قال: سمعت، وحَدَّثَنَا كان مأمونًا على ما قال. وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى: كان يرسل. وقال الأزدي: اختلط اختلاطًا قبيحًا. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، ثمّ اختلط في آخر عمره. وقال ابن حبّان في "الثِّقات": مات سنة (155)، وبقي في اختلاطه خمس سنين، ولا يُحتج إِلَّا بما رَوَى عنه القدماء مثلُ يزيد بن زريع، وابن المبارك، ويعتبر برواية المتأخرين عنه دون الاحتجاج بها، ثمّ قال: وقد قيل: مات سنة (55). وقال الذُّهَلي عن عبد الوهّاب الخفاف: خُولط سعيد سنة (48)، وعاش بعد ما خولط تسع سنين. وقال الْعُقيليّ: سمع منه محمّد بن أبي عديّ بعدما اختلط. وقال الآجري عن أبي داود: كان سعيد يقول في الاختلاط: قتادة عن أنس، أو أنس عن قتادة. وقال النَّسائيّ: من سمع منه بعد الاختلاط فليس بشيء. وقال الآجري عن أبي داود: سماع رَوْح منه قبل الهزيمة، وكذا سَرّارٌ، وسماع ابن مهدي منه بعد الهزيمة. وقال يزيد بن زريع: أولُ ما أنكرنا ابن أبي عروبة يومَ مات سليمان التيمي، جئنا من جنازته، فقال: من أين جئتم؟ قلنا: من جنازة سليمان التيمي، فقال: ومن سليمان التيمي؟.

قال الحافظ: والتيمي مات سنة (43)، ويؤيد ذلك ما حكاه ابن عديّ في "الكامل" عن ابن معين قال: من سمع منه سنة (42) فهو صحيح السماع، وسماع من سمع منه بعد ذلك ليس بشيء، وأَثبتُ النَّاس سماعًا منه عبدة بن سليمان. وقال ابن قانع: خلط في آخر عمره، وكان أعرج يُرْمَى بالقدر. وقال أحمد: كان يقول بالقدر ويكتمه. وقال العجلي: كان لا يدعو إليه، وكان ثقة. وقال ابن مهدي: كَتَب غندر عن سعيد بعد الاختلاط. وقال ابن عديّ، وسعيد من ثقات المسلمين، وله أصناف كثيرة،

ص: 44

وحَدَّث عنه الأئمة، ومن سَمِع منه قبل الاختلاط، فإن ذلك صحيح حجة، ومن سمع منه بعد الاختلاط لا يعتمد عليه، وأرواهم عنه عبد الأعلى، وهو مقدم في أصحاب قتادة، ومن أثبت النَّاس عنه روايةً، وكان ثَبْتًا عن كلّ مَنْ رَوَى عنه إِلَّا من دَلَّس عنهم، وأثبت النَّاس عنه ابنُ زُرَيع، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد، ونظراؤهم. وقال ابن القطان: حديثُ عبد الأعلى عنه مُشتبه لا يُدرَى هو قبل الاختلاط أو بعده، وتَعَقَّب ذلك ابن المُوّاق فأجاد. وقال ابن السكن: كان يزيد بن زريع يقول: اختلط سعيد في الطّاعون -يعني سنة (132)، وكان القطان يُنكر ذلك، ويقول: إنّما اختلط قبل الهزيمة.

قال الحافظ: والجمعُ بين القولين ما قال أبو بكر البزار: إنّه ابتدأ به الاختلاط سنة (133)، ولم يَستحكِم ولم يُطْبِق به، واستمرّ على ذلك، ثمّ استحكم به أخيرًا، وعامة الرواة عنه سمعوا منه قبل الاستحكام، وإنما اعتبر النَّاس اختلاطه بما قال يحيى القطان. والله أعلم.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (69) حديثًا.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت، رأس الطبقة [4] 1/ 10.

5 -

(صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيُّ) هو: صفوان بن محُرز بن زياد المازنيّ الباهليّ، وقال الأصمعي: كان نازلا في بني مازن، وليس منهم، ثقة عابدٌ [4] رَوَى عن ابن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حُصين، وأبي موسى الأشعري، وابن عبّاس، وحكيم بن حزام، وجندب بن عبد الله. ورَوى عنه أبو صَخْرة جامع بن شداد، وخالد بن عبد الله الأشَجّ، وعاصم الأحول، وقتادة، ومحمد بن واسع، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وغيرهم. قال أبو حاتم: جليل. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله فَضْلٌ وورَع. قال الواقديّ: تُوُفِّي في ولاية بشر بن مروان، وقال ابن حبّان في "الثِّقات": مات سنة (74) في ولاية عبد الملك، وكان من العباد اتَّخَذ لنفسه سَرَبًا يبكي فيه. ورَوَى محمّد بن نصر في

ص: 45

"قيام اللّيل" من طريق يزيد الرقاشي أن صفوان بن محُرز كان إذا قام إلى التهجد قام معه سكان داره من الجنّ، فصَلَّوْا بصلاته. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة.

قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي: ما نصّه: قتادةُ ومحمد بن واسع، وعلي بن زيد بن جُدْعان إنّما طلبوا العلم قبل التسعين وبعدها، فهذا يدلُّ على أن الواقدي وَهِمَ في تاريخ موته، وتَبِعَهُ ابنُ حبّان.

قلت (1): ما وَهِمَ الواقديّ، فقد قال خليفة في "الطبقات": مات بعد انقضاء أمر ابن الزُّبير بقليل، ومن هنا أخذ ابن حبّان قولَهُ: مات سنة أربع؛ لأن قتل ابن الزُّبير كان آخر سنة ثلاث، وما ذكره الحافظ أبو عبد الله الذهبي من أن الذين سماهم لم يطلبوا العلم إِلَّا بعد ذلك لا يمنع سماعهم من صفوان، فكم ممّن سَمِعَ حديثًا أو أحاديث قديمًا، ثمّ اشتغل بعد مُدّة وطَلَبَ. والله أعلم، انتهى (2).

أخرج له البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطّاب رضي الله عنهما 1/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة، عن صفوان.

5 -

(ومنها): أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى، وشدّة اتّباع السنّة من الصّحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.

(1) القائل هو الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

(2)

"تهذيب التهذيب" 2/ 214 - 215.

ص: 46

شرح الحديث:

(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ) بضم الميم، وسكون الحاء المهملة، وكسر الراء، آخره زاي، ووقع في رواية للبخاريّ من طريق شيبان:"حَدَّثَنَا صفوان"، فزالت تهمة تدليس قتادة (الْمَازِنِيِّ) نسبة إلى مازن أبو قبيلة (قَالَ: بَيْنَما نَحْنُ مَعَ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) جملة في محلّ نصب على الحال (إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسم السائل، لكن يمكن أن يكون هو سعيد بن جبير، فقد أخرج الطبرانيّ من طريقه قال: "قلت لابن عمر حدّثني

" فذكر الحديث (فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ) وفي رواية للبخاريّ: "فقال: يا أبا عبد الرّحمن"، وهي كنية عبد الله بن عمر (كيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ في النَّجْوَى؟) هي ما تَكَلَّمَ به المرءُ يُسمِعُ نفسه، ولا يُسمِع غيره، أو يُسمِع غيره سِرًّا دون من يليه، قال الراغب: ناجيته: إذا ساررته، وأصله أن تخلو في نَجْوة من الأرض، وقيل: أصله من النجاة، وهي أن تنجو بسرّك من أن يَطَّلِعَ عليه أَحَدٌ، والنجوى في الأصل مصدر، وقد يوصف بها، فيقال: هو نَجْوَى، وهم نَجْوَى، والمراد بها هنا المناجاة الّتي تقع من الربّ عز وجل يوم القيامة مع المؤمنين، وقال الكرمانيّ: أطلق على ذلك النجوى لقابلة مخاطبة الكفّار على رؤوس الأشهاد هناك. انتهى (1).

(قَالَ) أي ابن عمر رضي الله عنهما (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُدْنَى الْمُؤْمِنُ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية للبخاريّ:"يدنو أحدكم"، وفي أخرى:"يدنو المؤمن"(مِنْ رَبِّهِ) متعلّق بـ "يُدنَى": أي يقرب منه قُرب كرامة، وعُلوّ منزلة. قاله في "الفتح".

(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لـ "يُدنَى"(حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ) بفتح الكاف والنون بعدها فاء، وهو يُطلق على الجانب، والستر، وهو المراد هنا، بدليل رواية سعيد بن جُبير بلفظ:"يجعله في حجابه"، زاد في رواية همام:"وستره". قال في "الفتح": والأول يعني

(1) راجع "الفتح" 10/ 599 "كتاب الأدب" حديث (6069 - 6070).

ص: 47

تفسيره بالجانب- مجاز في حقّ الله تعالى كما يقال: فلان في كَنَف فلان، أي في حمايته وكَلاءته. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الكلام نظرٌ من وجهين:

[الأوّل]: أن المراد هنا بالكنف هو الحجاب والستر؛ لكونه جاء في الرِّواية الأخرى بهذا اللّفظ، كما سبق بيانه آنفًا، والروايات يفسّر بعضها بعضًا، وأخرج الحديث البخاريّ في كتابه "خلق أفعال العباد" من طريق عبد الله بن المبارك، عن محمّد ابن سواء، عن قتادة، ثمّ قال في آخر الحديث: قال عبد الله بن المبارك: كنفه ستره. قاله في "الفتح"(1).

[والثّاني]: أنه قال في "القاموس": أنت في كَنَف الله تعالى مُحَرَّكَةً: في حِرْزه وسِتْره، وهو الجانب، والظلّ، والناحية. انتهى (2).

فإذا ثبت لغة إطلاق الكنف على الجانب، فالحقّ إبقاؤه على ظاهره وحقيقته؛ إذ لا حاجة إلى المجاز، كسائر الصفات من السمع، والبصر، والكلام، والرضا، والغضب، والاستواء، والنّزول، ونحوها ممّا وردت به النصّوص الصحيحة، فنثبتها كلها على الوجه اللائق به عز وجل من غير تعطيل، ولا تحريف، ومن غير تمثيل، ولا تكييف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

والحكمة في وضع الكنف عليه ستره عن أهل الموقف حتّى لا يطّلع على سرّه غيره. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ومن رواه "كتفه" بالمثنّاة المكسورة، فقد صحّف على ما جزم به جمع من العلماء. انتهى (3).

(1)"الفتح" 13/ 592.

(2)

"القاموس المحيط" ص 765.

(3)

"الفتح" 13/ 592.

ص: 48

(ثُمَّ يُقَرِّر بِذُنُوبِهِ) من التقرير بمعنى الحمل على الإقرار، أي يحمله، ويجعله يعترف بما فعله من الذنوب، قال في "الصحاح": وأقرّ بالحقّ: اعترف به، وقرّره بالحقّ غيره حتّى أقرّ. انتهى (1).

ثمّ بيّن كيفية تقريره بقوله: (فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟) أي تذكر ذنوبك الّتي ارتكبتها، وأنت في الدنيا، وفي رواية البخاريّ:"فيقول: عَمِلت كذا وكذا"، وفي رواية:"أتعرف ذنب كذا وكذا"، وفي رواية:"فيقول له اقرأ صحيفتك، فيقرأ، ويقرّره بذنب ذنب، ويقول: أتعرف، أتعرف"(2)(فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَعْرِفُ، حَتَى إِذَا بَلَغَ مِنْهُ) أي حتّى إذا بلغ المؤمن من الإقرار، أو حتّى إذا بلغ من الفَزَع (مَا شَاءَ الله أَنْ يَبْلُغَ، قَالَ) الله تعالى له (إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) أي في الآخرة (قَالَ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُعْطَى) بالبناء للمفعول (صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، أَوْ) للشكّ من الراوي (كِتَابَتَهُ بِيَمِينِهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَأَمَّا الْكَافِرُ، أَوِ المُنَافِقُ،)"أو" هنا للتنويع، لا للشكّ، كما يوضح ذلك وقوعه في رواية للبخاريّ بالواو، ولفظه:"وأما الكافر والمنافق"، وفي لفظ:"وأما الكفّار والمنافقون"، وفي رواية:"وأما الكافر، فينادى" بحذف "والمنافق"(فَيُنَادَى) بالبناء للمفعول (عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَاد) بالفتح: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، وهو أيضًا جمع شَهِيد، كشريف وأشراف.

قال القرطبيّ رحمه الله: المراد بالأشهاد: الملائكة الحفظة، قاله مجاهد وغيره، وعن الأعمش: هم الملائكة، وقال الضحّاك: هم الأنبياء والمرسلون، ودليله قوله عز وجل:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، وقيل: الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلّغوا الرسالات، وقال قتادة: عَنَى الخلائق أجمع. انتهى (3).

(1) راجع "الصحاح" 2/ 677.

(2)

"الفتح" 10/ 600.

(3)

راجع "تفسير القرطبيّ" 9/ 18.

ص: 49

(قَالَ خَالِدٌ) بن الحارث الراوي عن سعيد بن أبي عروبة (في "الْأَشْهَادِ" شَيْءٌ مِنِ انْقِطَاعٍ) يعني أن لفظ "الأشهاد" من قوله: "على رؤوس الأشهاد" لم يتّصل سنده، والظاهر أنه حصل عليه التباس حين تحديث سعيد له به، فلم يسمعه منه، وإنّما سمعه من غيره، لكن هذا لا يضرّ بصحّة الحديث، فإنّه ثبت متّصلًا كلّه من رواية غيره، فقد ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما من رواية أبي عوانة، وهشام الدستوائيّ، وشيبان النحويّ، كلهم عن قتادة دون هذه الزيادة، والله تعالى أعلم.

{هؤلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} بنسبة الولد والشريك إليه عز وجل {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ} أي سخطه، وإبعاده من رحمته ({عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]) أي الذين وضعوا العبادة في غير موضعها. قاله القرطبيّ (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 183) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ) في (3/ 168 و 6/ 93 و 9/ 181) وفي "خلق أفعال العباد" له (41) و (مسلم)(8/ 105) و (عبد بن حُميد)(846) و (ابن أبي عاصم)(604 و 605) و (الطّبريّ)(6497) و (الآجري) في "الشّريعة"(268) و (ابن حبان)(7355) و (ابن منده)(790 و 1077 و 1078 و 1079) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 219 - 220) والله تعالى أعلم.

(1) المصدر السابق.

ص: 50

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو الرّد على الجهميّة في إنكارهم الصفات، حيث إن فيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، حيث يكلّم عبده المؤمن في الآخرة.

2 -

(ومنها): إكرام الله تعالى لعبده المؤمن، حيث يدنيه منه، ويضع عليه كنفه، حتّى لا يسمع مناجاته له.

3 -

(ومنها): بيان فضل ستر المؤمن على نفسه في الدنيا إذا وقع منه مخالفة؛ لأن ذلك يكون سببًا لمغفرة الله تعالى له ذلك في الآخرة.

4 -

(ومنها): بيان قبح المجاهرة بالمعاصي، وأن الله تعالى لا يغفر لأصحابها؛ لمبارزتهم له بها، واستخفافهم بشأنها.

أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ أُمَّتي مُعَافًى إِلَّا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرَّجل باللّيل عملًا، ثمّ يُصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه".

5 -

(ومنها): بيان فضيحة الكفّار والمنافقين يوم القيامة، حيث ينادى بهم على رؤوس الأشهاد {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، اللَّهُمَّ اعصمنا من المعاصي والفتن، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن بعفوك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماّب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

184 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُ قَد أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللهَ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا

ص: 51

يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ في دِيَارِهِمْ".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ) الأمويّ البَصْريُّ، واسم أبي الشَّوَارب محمّد بن عبد الله بن أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسد بن أبي العِيص بن أمية القرشيّ الأُمويّ، أبو عبد الله الأُبُلّيّ البصريّ، صدوقٌ من كبار [10].

رَوَى عن كَثِير بن سُليم المدائني، وعبد العزيز بن المختار، وأبي عوانة، ويزيد بن زُريع، وبشر بن المفضل، وعبد الواحد بن زياد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبي عاصم العبادانيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، والترمذيّ، والنَّسائيّ، وابن ماجه، وروى النَّسائيُّ عن زكريا السجزيّ عنه، وأبو إسماعيل الترمذيّ، وابن أبي الدنيا، وغيرهم.

قال أبو علي بن خاقان عن أحمد: ما بلغني عنه إِلَّا خير. وقال صالح بن محمّد الأسدي: شيخٌ جليلٌ، صدوق. وقال النَّسائيّ: لا بأس به، وقال النَّسائيُّ في "مشيخته": ثقة. وقال مَسلمَة: بصري ثقة. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قال عثمان ابن أبي شيبة: شيخ صدوق، لا بأس به.

وقال ابن قانع: مات بالبصرة لعشر بَقِين من جُمادى الآخرَة، سنة أربع وأربعين ومائتين، وفيها أرّخه البغوي، وذكره أبو علي الجيّاني في شيوخ أبي داود، ولم يذكره غيره.

وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم عشرة أحاديث. انتهى. وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.

2 -

(أبو عاصم العبّادانيّ) المَرَئِيّ البصريّ، اسمه عبد الله بن عبيد الله، ويقال: ابن عَبْد، ويقال: عبيد الله بن عبد الله، صدوق (1)[8].

(1) - هذا هو الحقّ، وأما قول صاحب "التقريب": ليّن الحديث، فليس بصواب، فقد =

ص: 52

رَوَى عن فائدٍ أبي الوَرْقاء، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وأبان بن أبي عَيّاش، وخالد الحذاء، والفضل بن عيسى الرقاشيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه علي بن المديني، وعبد الأعلى بن حماد، ونعيم بن حماد، وإسحاق بن راهويه، وآدم بن أبي إياس، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وغيرهم.

قال الدُّوريّ عن ابن معين: لم يكن به بأس، صالح الحديث. وقال عمرو بن علي: كان صدوقًا ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة شيخ. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وقال أبو داود: لا أعرفه، وقال الْعُقيليّ: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يخطىء.

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (184) و (1384) "من كانت له حاجة إلى الله

" الحديث.

3 -

(الفضل الرقاشي) هو الفضل بن عيسى بن أبان، أبو عيسى البصريّ الواعظ، منكر الحديث، ورُمي بالقدر [6].

رَوَى عن عمه يزيد بن أبان الرقاشيّ، وعن أنس، وأبي عثمان النَّهْديّ، ومحمد بن المنكدر، والحسن البصري، وأبي الحكم البجليّ، وجماعة.

ورَوَى عنه ابن أخته المعتمر بن سليمان، وأبو عاصم العَبّاداني، وأبو عاصم النبيل، والحكم بن أبان العبدي، وعلي بن عاصم الواسطيّ، وآخرون.

= عرفت في ترجمته أنه وثقه عمرو بن عليّ، وأبو زرعة، وقال ابن معين: لم يكن به بأس، صالح الحديث، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وأما قول أبي داود: لا أعرفه، فلا يضرّه، فقد عرفه هؤلاء الأئمة، ووثقوه، وأما قول العقيليّ: منكر الحديث، فمن تعنّته الذي لا يلتفت إليه المحققون، فتبصّر بإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: يعلم مما ذكرناه تفنيد قول من قال: إن كل من تفرّد بهم ابن ماجه من الرجال ضعاف، فقد تفرد بهذا الراوي، وعرفت أنه ثقة. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

ص: 53

قال سَلّام بن أبي مطيع عن أيوب: لو أن فضلًا وُلِد أخرس لكان خيرًا له. وقال عبد الله ابن أحمد بن حنبل عن أبيه: ضعيف. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان قاصًّا، وكان رجل سَوْء، قلت: كيف حديثه؟ قال: لا تسأل عن القَدَرِيّ الخبيث. وقال إسحاق بن منصور: عن ابن معين: سئل عنه ابن عيينة، فقال: لا شيء. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، في حديثه بعض الْوَهَن، ليس بقوي. وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: أكتب حديث الفضل الرقاشيّ؟ قال: لا، ولا كرامة، وقال مرة: كان هالكًا، وقال مرة: حدّث حماد بن عدي عن الفضل بن عيسى، وكان من أخبث الناس قولًا، وقال مرة: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن فضل الرقاشيّ، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه رفعه: "يُنَادِي رجل يوم القيامة واعطشاه

" الحديث، فقال أبو داود: هذا حديث يُشبِه وجهَ فضلٍ الرقاشيّ. وقال النسائيّ: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن عدي: الضعف بَيِّنٌ على ما يرويه. وقال البخاري في "الأوسط" عن ابن عيينة: كان يرى القدر، وكان أهلًا أن لا يُرْوَى عنه. وقال الساجيّ: كان ضعيف الحديث، قدريّا، قال: وسمعت ابن المثنى يقول: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، وكان شعبة يُشَبِّهه بأبان بن أبي عياش وأمثاله، وكذا رواه الْعُقَيليّ في "الضعفاء" عن الساجى، وقال يعقوب بن سفيان: معتزليّ، ضعيف الحديث.

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 15/ 122.

5 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرَام الأنصاريّ السلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 1/ 11، والله تعالى أعلم.

ص: 54

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: بَيْنَا) هي "بين" أُشبعت فتحتها، فتولّدَت منها الألف، وقد تقدّم تمام البحث فيها (أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ) أي ظهر، وارتفع (لهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا) هي الفُجائيّة، أي ففاجأهم (الرَّبُّ) عز وجل (قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ) أي اطّلع عليهم، والجملة في محلّ نصب على الحال من "الربّ".

وقال السنديّ رحمه الله: فيه إثبات للجهة ظاهرًا، فلا بدّ من التأويل، إن ثبت الحديث بحمله على العلوّ اللائق بجنابه العلّيّ، أي يظهر عليهم حال كونه عاليًا علوّا يليق به تعالى. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله عنه: كلام السنديّ رحمه الله هذا جيّد، والله تعالى أعلم.

(مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجنَّةِ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ الله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}، قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) قال السنديّ رحمه الله: أي يبدو لهم أنه ناظرٌ إليهم، أو ينظر إليهم نظر رحمة فوق ما كانوا فيها، وإلا فهو ناظرٌ إليهم على الدوام، لا يغيب عن نظره شيء، ويحتمل أن يكون التفريع بالنظر إلى قوله:(وَيَنْظرونَ إِلَيْهِ) انتهى كلام السنديّ.

قال الجامع عفا الله عنه: كلام السنديّ رحمه الله هذا جيّد أيضًا، والله تعالى أعلم.

(فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ) أي من نعيم الجنّة (مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) لأنه أعلى وأحلى النعيم (حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُور وَبَرَكَته عَلَيْهِمْ في دِيَارِهِمْ)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

[تنبيه]: هذا الحديث ممّا تفرّد به المصنّف، وهو ضعيف، وقال البوصيريّ: هذا

(1)"شرح السنديّ" 1/ 119.

ص: 55

إسناد ضعيف؛ لضعف الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشيّ. انتهى (1).

[قلت]: أما قول الأستاذ بشار: وفيه أبو عاصم العبّادانيّ البصريّ لين الحديث، قال الذهبيّ: ليس بحجة يأتي بعجائب. انتهى، فليس كما ينبغي، فقد عرفت توثيق كثير من الأئمة أبا عاصم هذا فيما سبق من ترجمته، فلا تكن من الغافلين، ومن الغريب أنه ردّ على صاحب "التقريب" في تعقّباته قوله: ليّن الحديث، بأنه صدوق، حسن الحديث، وأما ما نقله عن الذهبيّ، فقد ذكره في "ميزان الاعتدال"، والظاهر أنه اعتمد على قول العقيليّ: منكر الحديث، فإنّه نقله يعد كلامه هذا، ولم يذكر كلام الأئمة الموثّقين له.

والحاصل أن الحديث ضعيف؛ لأجل الفضل بن عيسى، لا لأبي عاصم، وقد أورده ابن الجوزيّ في "الموضوعات"، وقال: الفضل الرقاشيّ رجل سَوْء، ورواه عنه أبو عاصم، ولا يتابع عليه (2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله أول الكتاب قال:

185 -

(حَدَّثَنَا عَلي بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيٍّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنه وَبَيْنه تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ مِنْ عَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظر مِنْ عَنْ أَيْسَرَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقّ تَمرةٍ فَلْيَفْعَلْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ الثقة تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعٌ) بن الجرّاح الكوفيّ الحافظ الحجة الثبت من كبار [9] 1/ 3.

(1)"مصباح الزجاجة" 1/ 85 - 86.

(2)

راجع "شرح السنديّ" 1/ 119.

ص: 56

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكُوفيُّ الحافظ الثبت يُدلّس [5] 1/ 1.

4 -

(خَيْثَمَةُ) -بفتح المعجمة، وسكون التحتانيّة، بعدها مثلّثةٌ- ابن عبد الرّحمن ابن أبي سَبْرة -بفتح المهملة، وسكون الموحّدة- واسمه يزيد بن مالك بن عبد الله بن ذويب الجعفيّ الكوفيّ -لأبيه ولجده صحبة، وَفَدَ جده أبو سبرة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ابنه: سَبْرَة- ثقة، وكان يرسل [3].

رَوَى عن أبيه، وعلي بن أبي طالب، وابن. عمر، وابن عمرو، وابن عبّاس، والبراء ابن عازب، وعدي بن حاتم، والنعمان بن بشير، وغيرهم من الصّحابة والتابعين.

ورَوَى عنه زِرّ بن حُبيش، وأبو إسحاق السبيعي، وطلحة بن مُصَرِّف، وعمرو ابن مرّة الجَمَليّ، وقتادة، والأعمش، ومنصور، وغيرهم.

قال ابن معين، والنَّسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: كوفي تابعي ثقة، وكان رجلًا صالحًا، وكان سخيًّا، ولم يَنجُ من فتنة بن الأشعث إِلَّا هو، وإبراهيم النخعيّ. وقال مالك بن مِغْوَل عن طلحة بن مُصَرّف: ما رأيت بالكوفة أحدًا أعجب إلى منهما. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وساق بسنده إلى نعيم بن أبي هند، قال: رأيت أبا وائل في جنازة خيثمة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: لم يسمع خيثمة من ابن مسعود، وكذا قال أبو حاتم، وقال أبو زرعة: خيثمة عن عمر مرسل. وقال ابن القطان: ينظر في سماعه من عائشة رضي الله عنها.

قال البخاريّ: مات قبل أبي وائل، وقال غيره: مات بعد سنة ثمانين، وأرّخه ابن قانع سنة (80).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا الحديث، وأعاده برقم (1843) و (1992) حديث:"أمرها أن تُدخِل على رجل امْرَأَتَهُ قبلَ أن يعطيها شيئًا".

5 -

(عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه تقدّم في 10/ 87، والله تعالى أعلم.

ص: 57

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين.

3 -

(ومنها): أنه فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش، عن خيثمة.

4 -

(ومنها): أنه لا يوجد من اسمه خيثمة في هذا الكتاب، بل في الكتب الستة غير هذا، إِلَّا خيثمة بن أبي خيثمة البصريّ عند الترمذيّ، والنَّسائيّ فقط، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) الطائيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) ظاهر الخطّاب للصحابة رضي الله عنهم، ويَلتَحق بهم المؤمنون كلّهم، وسَابِقُهُم، ومقصّرهم، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. قاله في "الفتح" (1) (إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) ولفظ البخاريّ: "إِلَّا سَيكلّمه الله" (لَيْسَ بَيْنه وَبَيْنه تَرْجُمَانٌ) قال ابن الأثير رحمه الله: التّرْجمان بالضمّ والفتح: هو الذي يُترجم الكلام، أي ينقله من لغة إلى لغة أخرى، والجمع التَّرَاجم، والتاء والنون زائدتان، وقد تكرّر في الحديث. انتهى (2).

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وتَرْجم فلان كلامه: إذا بيّنه وأوضحه، وترجم كلام غيره: إذا عبّر عنه بلغةٍ غيرِ لغة المتكلّم، واسم الفاعل تَرْجُمَان، وفيه لغات، أجودها فتح التاء، وضمّ الجيم، والثّانية ضمّهما معًا، بجعل التاء تابعةً للجيم، والثالثةُ فتحهما بجعل الجيم تابعةً للتاء، والجمع تراجِمُ، والتاءُ والميم أصلّيّتان، فوزن تَرْجَمَ فَعْلَل، مثلُ دَحْرَجَ، وجعل الجوهريّ التاء زائدة، وأورده في تركيب رَجَمَ، ويوافقه ما في نسخةٍ من "التهذيب" من باب رجم أيضًا، قال اللِّحْيَانيّ: وهو التَّرْجُمَانُ، لكنه ذكَرَ الفعل في الرباعيّ، وله وجهٌ، فإنّه يقال: لسان مِرْجَمٌ: إذا كان فصيحًا قَوّالًا، لكن الأكثر على

(1)"فتح" 11/ 492.

(2)

"النهاية" 1/ 186.

ص: 58

أصالة التاء. انتهى (1).

وقال في "الفتح": يفتح التاء المثنّاة، وضمّ الجيم، ورجّحه النوويّ في "شرح مسلم"، ويجوز ضمّ التاء اتباعًا، ويجوز فتح الجيم، مع فتح أوّله، حكاه الجوهريّ، ولم يصرّحوا بالرّابعة، وهي ضم أوله، وفتح الجيم، وهو المعبّر عن لغة بلغة، وهو معرّبٌ، وقيل: عربيّ (2).

قلت: قد تبيّن بما ذُكِر أن في ضبط التّرجُمان أربعة أوجه، أفصحها فتح التاء، والجيم، وأقلّها ضم التاء، وفتح الجيم. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: لم تبيّن رواية المصنّف ما يقول له، وقد بَيَّنَتْهُ روايةُ رواية البخاريُّ في "كتاب الزَّكاة" من "صحيحه"(1413) من طريق مُحِلّ بن خليفة، قال سمعت عدي بن حاتم رضي الله عنه يقول: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجلان: أحدهما يشكر الْعَيْلة، والآخر يَشْكُو قطع السبيل، فقال رسول صلى الله عليه وسلم:"أما قطع السبيل فإنّه لا يأتي عليك إِلَّا قليل، حتّى تَخْرُج الْعِير إلى مكّة بغير خَفِير، وأما العَيْلة فإن السّاعة لا تقوم حتّى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه، ثمّ لَيِقِفَنَّ أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجاب، ولا تَرْجُمان يُتَرْجم له، ثمّ ليقولن له: أَلم أُوتك مالًا؟ فليقولنّ: بلى، ثمّ ليقولنّ: ألم أرسل إليك رسولًا؟ فليقولنّ: بلى، فينظر عن يمينه فلا يَرَى إِلَّا النّار، ثمّ ينظر عن شماله فلا يرى إِلَّا النّار، فَلْيَتَّقِيَنّ أحدكم النّار، ولو بِشِقّ تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة".

[تنبيه آخر]: زاد في رواية البخاريّ في "كتاب التّوحيد" بعد قوله: "ليس بينه وبينه ترجمان": ما نصّه: "ولا حجاب يحجبه"، في رواية الكشميهني:"ولا حاجب"، قال ابن بطّال: معنى رفع الحجاب إزالة الآفة من أبصار المؤمنين المانعة لهم من الرؤية، فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم، ويشير إليه قوله تعالى في حق الكفار: {كَلَّا

(1)"المصباح المنير" 1/ 74.

(2)

"فتح" 1/ 48 في "كتاب بدء الوحي" رقم الحديث (7).

ص: 59

إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].

وقال الحافظ صلاح الدين العلائي في شرح قوله في قصة معاذ رضي الله عنه: "واتّقِ دعوة المظلوم، فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب": المراد بالحاجب والحجاب نفيُ المانع من الرؤية، كما نَفَى عدم إجابة دعاء المظلوم، ثمّ استعار الحجاب للردّ، فكان نفيه دليلًا على ثبوت الإجابة، والتعبير بنفي الحجاب أبلغ بالقبول، لأن الحجاب من شأانه المنع من الوصول إلى المقصود، فاستعير نفيه لعدم المنع، ويتخرج كثير من أحاديث الصفات على الاستعارة التخييلية، وهي أن يشترك شيئان في وصف، ثمّ يعتمد لوازم أحدهما حيث تكون جهة الاشتراك وصفًا، فيثبت كماله في المستعار بواسطة شيء آخر، فيثبت ذلك للمستعار مبالغة في إثبات المشترك، قال: وبالحمل على هذه الاستعارة التخييلية يحصل التخلص من مهاوي التجسيم، قال: ويحتمل أن يراد بالحجاب استعارةُ محسوسٍ لمعقولٍ؛ لأن الحجاب حسيّ، والمنع عقليّ، قال: وقد ورد ذِكْرُ الحجاب في عدة أحاديث صحيحة، والله عز وجل مُنْزّه عما يحجبه، إذ الحجاب إنّما يحيط بمقدر محسوس، ولكن المراد بحجابه منعه أبصار خلقه، وبصائرهم بما شاء، متى شاء، كيف شاء، وإذا شاء كشف ذلك عنهم، ويؤيده قوله في الحديث الّذي بعده:"وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إِلَّا رداء الكبرياء على وجهه"، فإن ظاهره ليس مرادًا قطعًا، فهي استعارة جزمًا، وقد يكون المراد بالحجاب في بعض الأحاديث الحجاب الحسيّ، لكنه بالنسبة للمخلوقين، والعلم عند الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نقل في "الفتح" كلام العلائيّ، وأقرّه، وهو عجيبٌ، فإن هذه التأويلات المتعسّفة الّتي أتعب نفسه بها، لا يتحمّلها نصوص الكتاب والسُّنَّة، فإن الواجب على المسلم أن يُثبت ما أثبت الله تعالى لنفسه، وينفي عنه ما نفاه في كتابه العزيز، أو فيما صحّ عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبتعد عن هذه التخيّلات الفاسدة الّتي لا تليق بالله عز وجل، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلى، كما قال عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الآية [الأعراف: 180]، وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ

ص: 60

الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فإذا أثبت النصّ الحجاب له بقوله عز وجل:"حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره"، وكذا قوله عز وجل:"رداء الكبرياء"، فنحن نثبت ذلك له على ما يليق بجلاله عز وجل، ولا نشبّه، ولا نمثّل، ولا نكيّف، ولا نعطل، بل نقول: يثبت له ما أثبته لنفسه، على حقيقته، كما يليق بجلاله، ولا نقول: إنّه مجاز، ولا استعارة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ونقل الطيبي في شرح حديث أبي موسى عند مسلم: "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما أدركه بصره": أن فيه إشارة إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله، وأشعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الّذي تُدْهَشُ دونه العقول، وتُبْهَتُ الأبصار، وتتحير البصائر، فلو كشفه فتجلى لما وراءه بحقائق الصفات، وعظمة الذات، لم يبق مخلوق إِلَّا احترق، ولا منظور إِلَّا اضْمَحَلّ، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي، والمراد به هنا منع الأبصار من الرؤية له بما ذُكِر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل، فعَبَّر به عنه، وقد ظهر من نصوص الكتاب والسُّنَّة أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث هي في دار الدنيا المعدة للفناء، دون دار الآخرة المعدة للبقاء، والحجاب في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق؛ لأنهم هم المحجوبون عنه.

وقال النوويّ: أصل الحجاب المنع من الرؤية، والحجاب في حقيقة اللُّغة الستر، وإنّما يكون في الأجسام، والله سبحانه مُنَزَّه عن ذلك، فعُرِف أن المراد المنع من رؤيته، وذَكَر النور؛ لأنه يمنع من الإدراك في العادة لشعاعه، والمراد بالوجه الذات، وبما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات؛ لأنه سبحانه محيط بجميع الكائنات. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي قاله النوويّ من جنس ما قاله العلائيّ فيما سبق من كلامه، والجواب عنه هو الجواب عنه، وإياك أن تغترّ بمثله، فإنّه خلاف منهج السلف، فإنهم لا يؤولون مثل هذا الحديث، بل يُثبتونه على ظاهره، كما يليق

ص: 61

بجلاله عز وجل، إثباتًا بلا تمثيل، ويُنَزّهون الله تعالى من مشابهة خلقه تَنْزيهًا بلا تعطيل، والله عز وجل الهادي إلى سواء السبيل.

(فَيَنْظُرُ مِنْ عَنْ) بمعنى جانب (أَيْمَنَ مِنْهُ) أي من جهة يمينه (فَلَا يَرَى إِلا شَيْئًا قَدَّمَهُ) أي إِلَّا عمله (ثُمَّ يَنْظُرُ مِنْ عَنْ أَيْسَرَ مِنْهُ) أي من جانب يساره (فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ) أي من الأعمال، قال ابن هُبيرة: نظر اليمين والشمال هنا كالمثل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمَه أمرٌ أن يلتفت يمينًا وشمالًا، يطلُب الغَوْث. وقال الحافظ: ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجّى أن يجد طريقًا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النّار، فلا يرى إِلَّا ما يُفضي به إلى النّار، كما بيّنته رواية مُحلّ بن خليفة المذكورة. انتهى (1).

(ثُمَّ يَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ) أي تظهر له، وتواجهه، وفي رواية للبخاريّ من طريق عيسى بن يونس، عن الأعمش:"وينظر بين يديه، فلا يرى إِلَّا النّار تلقاء وجهه"، قال ابن هُبيرة: والسبب في ذلك أن النّار تكون في ممرّه، فلا يُمكنه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بُدِّ له من المرور على الصراط (فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمرةٍ)"شِقُّ التّمرة" بكسر الشين: نصفها وجانبها (2)، أي من استطاع أن يجعل بينه وبين النّار وِقَايةً من الصَّدقة، وعمل البرّ، ولو بشيء يسير (فَلْيَفْعَلْ) زاد في رواية محُلّ بن خليفة السابقة:"فإن لم يجد فبكلمة طيبة". وفي رواية لمسلم (1016) من طريق الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن خيثمة، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النارَ، فأعرض وأشاح، ثمّ قال:"اتقوا النّار"، ثمّ أعرض وأشاح، حتّى ظننا أنه كأنما ينظر إليها، ثمّ قال:"اتقوا النّار، ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، وفي لفظ: أنه ذكر النّار، فتعوذ منها، وأشاح بوجهه ثلاث مرار، ثمّ قال: "اتقوا النّار

" الحديث.

ومعنى "أشاح": أعرض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو

(1)"فتح" 11/ 492.

(2)

"شرح مسلم" للنوويّ 7/ 100 - 101.

ص: 62

المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 185) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1035 و 1038) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه " 3/ 110 و (أحمد) في "مسنده" 4/ 256 و 258 و 377 و 379 و (الدارميّ) في "سننه"(1664) و (البخاريّ) 8/ 14 و 139 و 144 و 9/ 192 و 181 و (مسلم) 3/ 86 و (الترمذيّ)(2415) و (النَّسائيُّ) 5/ 75 و (ابن خزيمة)(2428) و (ابن حبّان)(2804) و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 185 و 186 و 187 و 188 و 189 و 190 و 191 و 192 و 193 و 194 و 195) و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 124 و 7/ 129) و (البيهقيّ)(4/ 176) و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1638 و 1640)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وهو الّذي أنكرته الجهميّة الضّالة.

2 -

(ومنها): إثبات يوم القيامة.

3 -

(ومنها): إثبات مناقشة الله عز وجل لعباده يوم القيامة.

4 -

(ومنها): الحثّ على الصَّدقة، وأنه لا يمتنع الإنسان منها لقلّتها.

5 -

(ومنها): أن قليل الصَّدقة سبب للنجاة من النّار.

6 -

(ومنها): أن الكلمة الطيّبة تقوم مقام الصَّدقة، وتكون سببًا للنجاة من النّار، فإنّه صلى الله عليه وسلم قال:"فإن لم يجد فبكلمة طيبة"، وهي الكلمة الّتي فيها تطييب قلب الإنسان إذا

ص: 63

كانت مباحة، أو طاعة. قاله النوويّ رحمه الله (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

186 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجُوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "جَنَّتانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُما وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُما وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَومِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ تبارك وتعالى إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ، في جَنَّةِ عَدْنٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) أبو بكر البصريّ الملقّب بُنْدَار، ثقة حافظ [10] 1/ 6.

2 -

(أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) الْعَمّيّ، البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [9].

رَوَى عن أبي عمران الجَوْنيّ، وداود بن أبي هند، ومنصور، وعلي بن زيد بن جُدْعان، ومطر الورَّاق، وعطاء بن السائب، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وعليّ، ويحيى، وأبو موسى، وبُنْدار، والحميدي، وأبو غسان المسمعي، والحسن بن عرفة، وغيرهم.

قال أحمد: كان ثقة. وقال ابن معين: لم يكن به بأس. وقال القواريري: كان حافظًا. وقال أبو زرعة، وأبو داود، والنَّسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال عمرو بن عليّ: سمعت عبد الرّحمن بن مهدي يقول يوم مات: ما مات لكم منذ ثلاثين سنة شبههُ، أو مثله، أو أوثق منه. وقال العجليّ: ثقة.

قال أبو داود: مات سنة (187). وقال ابن حبّان في "الثِّقات": مات سنة

(1) راجع "شرح مسلم" 7/ 101.

ص: 64

(188)

، وقال ابن قانع: مات سنة (89)، ويقال: سنة (90)، وحكى الْقَرّاب القولين في "تاريخه".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (186) و (3455) حديث:"الكمأة من المنّ، والعجوة من الجنَّة، وهي شفاء من السمّ".

3 -

(أَبُو عِمْرَانَ الجُوْنِيُّ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ، أو الْكِنديّ، البصريّ، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [4] 9/ 61.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ) الكوفيّ، يقال: اسمه عمرو، ويقال: عامر، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وابن عبّاس، والأسود بن هلال.

وروى عنه أبو جمرة الضُّبَعيّ، وأبو عمران الجُوْنيّ، وبدر بن عثمان، وعبد الله بن أبي السَّفَر، والأجلح بن عبد الله الْكِنديّ، وأبو إسحاق السبيعي، ويونس بن أبي إسحاق، وغيرهم.

قال الآجريّ: قلت لأبي داود: سمع أبو بكر من أبيه؟ قال: أُراه قد سمع، وأبو بكر أرضى عندهم من أبي بردة، وكان يذهب مذهب أهل الشّام، جاءه أبو غادية الجهنيّ، قاتل عَمّار، فأجلسه إلى جانبه، وقال مرحبًا بأخي. وقال محمّد بن عبد الله بن نمير: كان أكبر من أبي بردة، وقال: مات في ولاية خالد بن عبد الله. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: اسمه كنيته، مات في ولاية خالد، ومن زَعَم أن اسمه عامر فقد وَهِمَ عامر اسم أبي بردة. وقال عبد الله بن أحمد في "العلل": قلت لأبي: فأبو بكر بن أبي موسى سمع من أبيه؟ قال: لا. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق يقول: أبو بكر بن أبي موسى أفضل من أخيه أبي بردة. وقال العجليّ: كوفي تابعي ثقة. وقال بن سعد: اسمه كنيته، وكان قليل الحديث، يُستضعَف، ومات في ولاية خالد، وكان أكبر من أخيه أبي بردة. وقال خليفة: مات سنة ست ومائة.

ص: 65

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا الحديث برقم (186) و (1931) حديث:"لا تُنكَح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها".

5 -

(أبوه) عبد الله بن قيس بن سُليم، أبو موسى الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 10/ 88، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين إلى أبي بكر، وأبوه كوفيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه من اشتهر بكنيته، وهم: أبو عمران، وأبو بكر، وأبوه.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن عبد العزيز، وأبا بكر هذا أول محل ذكرهما من الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لكلّ منهما في هذا الكتاب حديثان فقط، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن قيس رضي الله عنه، أنه قال:(قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، "جَنَّتَانِ) خبر لمبتدإ محذوف، أي هما جنتان، ويجوز أن يكون مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة وقوعه موقع التفصيل، على حدّ قول الشاعر [من المتقارب]:

فَأَقْبَلْتُ زَحْفًا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ

فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرُّ

والشاهد "فثوبٌ لبستُ"، وكذلك "وثوبٌ أجرّ"(1).

وقوله: (مِنْ فِضَّةٍ) خبر لـ "جنّتان"، على الثّاني، أي كائنان من فضّة، وقوله:(آنِيَتُهُما، وَمَا فِيهِمَا) بدل اشتمال من "جنّتان"، أو من ضمير "كائنتان"، أو "آنيتهما" فاعل بالجارّ والمجرور؛ لاعتماده على مسند إليه، أو "من فضّة" خبر مقدّم، و"آنيتهما" مبتدأ

(1) راجع "شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 138.

ص: 66

مؤخّر، والجملة خبر "جنّتان"، وكذلك إعراب قوله:(وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُما وَمَا فِيهِما) وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت البنانيّ، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، قال حماد: لا أعلمه إِلَّا قد رفعه قال: "جنتان من ذهب للمقربين، ومن دونهما جنتان من ورِقٍ لأصحاب اليمين"، أخرجه الطّبريّ، وابن أبي حاتم، ورجاله ثقات.

قال الحافظ: وفي رَدّ على ما حكيته عن التّرمذيّ الحكيم أن المراد بقوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} الدنوّ، لا أنهما دون الجنتين المذكورين قبلهما، وصرح جماعة بأن الأوليين أفضل من الأخريين، وعكس بعض المفسرين، والحديث حجة للأولين.

قال الطّبريّ: اختُلف في قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فقال بعضهم: معناه في الدرجة، وقال آخرون: معناه في الفضل.

وقوله: "جنتان" إشارة إلى قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} ، وتفسير له.

[فإن قلت]: هذا يدلّ على أن الجنتين من ذهب لا فضّة فيهما، وبالعكس، ويعارضه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قلنا: يا رسول الله حَدَّثنا عن الجنَّة ما بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة

" الحديث، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وصححه ابن حبّان، وله شاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه الطبرانيّ، وسنده حسن، وآخر عن أبي سعيد له، أخرجه البزار، ولفظه: "خَلَقَ الله الجنَّة لبنةً من ذهب، ولبنة من فضة

" الحديث.

[وأجيب]: بأنه يُجمَع بأن الأوّل صفة ما في كلّ جنة من آنية وغيرها، والثّاني صفة حوائط الجنان كلها، ويؤيده أنه وقع عند البيهقي في "البعث" في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"إن الله أحاط حائط الجنَّة لبنةً من ذهب، ولبنة من فضة"(1). والله تعالى أعلم بالصواب.

(وَمَا) نافية (بَيْنَ الْقَوْمِ) أي أهل الجنّة (وَبَين أَنْ يَنْظروا إِلَى رَبِّهِمْ تبارك وتعالى

(1) راجع "الفتح" 13/ 533 "كتاب التوحيد" رقم الحديث - (7434 - 7447).

ص: 67

إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ) قال السنديّ: الظّاهر أن المراد برداء الكبرياء نفس صفة الكبرياء على أن الإضافة بيانيّة، وهذا هو الموافق لحديث:"الكبرياء ردائي"(1)، وحينئذ لا يخفى أن ظاهر هذا الحديث يفيد أنهم لا يرونه تعالى، فإنّه إذا كان رداء الكبرياء مانعًا عن نظر أهل جنّة عدن، فكيف غيرهم؟، وصفة الكبرياء من لوازم ذاته تعالى، لا يمكن زوالها عنه، فيدوم المنع بدوامها، إِلَّا أن يقال: هي مانعة عن دوام النظر، لا عن أصل النظر، على أن معنى قوله:"وبين أن ينظروا" أي وبين أن يُديموا، فلولا هي لدام نظرهم، وذلك لأن المنع من مقتضيات المعاملة بهذه الصِّفَة، وهي غير لازمة، وبهذا صارت صفة الكبرياء مانعةً عن دوام النظر، دون أصله، فليُتأمّل.

ويمكن أن يقال: المراد برداء الكبرياء هو المعاملة بمقتضاها، لا نفس صفة الكبرياء، كما هو مقتضى الإضافة؛ إذ الأصل التغاير، لا التباين، وهو المناسب بالتعبير بالرداء، بناءً على أن الرداء عادةً لا يلزم اللابس لزوم الإزار، وحينيذ، فرداء الكبرياء، وإن كان مانعًا من أصل النظر، لكنه غير لازم، فيمكن النظر، وعلى الوجهين فالحديث مسوقٌ لإفادة كمال قرب أهل جنّة عدن منه تعالى. انتهى (2).

وقال المازريّ: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب بما تَفْهَم، ويُخرِج لهم الأشياء المعنوية إلى الحس؛ ليُقَرِّب تناولهم لها، فعبر عن زوال الموانع ورفعه عن الأبصار بذلك.

وقال عياض: كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيرًا، وهو أرفع أدوات بديع فصاحتها وإيجازها، ومنه قوله تعالى:{جَنَاحَ الذُّلِّ} ، فمخاطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم برداء

(1) أخرجه مسلم (2620) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته.

وأخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من طريق الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النّار".

(2)

"شرح السنديّ" 1/ 121.

ص: 68

الكبرياء على وجهه، ونحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يفهم ذلك تاه، فمن أجرى الكلام على ظاهره، أفضى به إلي مر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له، وعَلِم أن الله مُنَزَّهٌ عن الّذي يقتضيه ظاهرها، إمّا أن يُكَذِّب نقلتها، وإما أن يؤولها، كأن يقول: استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه وعظمته وهيبته وجلاله المانعِ إدراكَ أبصار البشر مع ضعفها لذلك رداءَ الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته، وموانع عظمته. انتهى ملخصًا.

وقال الطيبي: قوله: "على وجهه" حال من "رداء الكبرياء".

وقال الكرماني: هذا الحديث من المتشابهات، فإما مُفَوَّضٌ، وإما مُتَأَوَّلٌ بأن المراد بالوجه الذات، والرداء صفة من صفة الذات اللازمة المنزهة عما يشبه المخلوقات.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "متأول بأن المراد بالوجه الذات" هذا التّأويل خطأ، والصواب إجراء النصّ على ظاهره على الوجه اللائق بالله عز وجل، فمن فعل ذلك فقد سلك جادّة أهل السنة والجماعة، ولا يستلزم ذلك النقص ولا التشبيه، وأيضًا فلو جاء التشبيه من إثبات الوجه، للزم في إثبات الذات الّتي أول إليها؛ إذ لا فرق بينهما، فالواجب إثبات الوجه على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، كثبوت الذات له من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل، فهذا هو الباب المطّرد الواسع في باب الأسماء والصفات، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، فإنّه حجة البليد، ومستمسك العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ثمّ استشكل الكرمانيّ ظاهره بأنه يقتضي أن رؤية الله غير واقعة.

وأجاب بأن مفهومه بيان قرب النظر؛ إذ رداء الكبرياء لا يكون مانعًا من الرؤية، فعَبَّر عن زوال المانع عن الإبصار بإزالة المراد انتهى.

وحاصله أن رداء الكبرياء مانع عن الرؤية، فكأن في الكلام حذفًا تقديره بعد قوله:"إِلَّا رداء الكبرياء"، فإنّه يَمُنّ عليهم برفعه، فيحصل لهم الفوز بالنظر إليه، فكأنّ المراد أن المؤمنين إذا تبوؤا مقاعدهم من الجنَّة؛ لولا ما عندهم من هيبة ذي الجلال، لمَا

ص: 69

حال بينهم وبين الرؤية حائل، فإذا أراد إكرامهم حَقّهم برأفته، وتفضل عليهم بتقويتهم على النظر إليه عز وجل.

قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: ثمّ وجدت في حديث صهيب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ما يدلُّ على أن المراد برداء الكبرياء حديث أبي موسى رحمه الله الحجاب المذكور حديث صهيب رضي الله عنه يعني الحديث الآتي بعد هذا - وأنه سبحانه يكشف لأهل الجنَّة إكرامًا لهم.

وقال القرطبي في "المفهم": الرداء استعارة كَنَى بها عن العظمة، كما في الحديث الآخر. "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري"، وليس المراد الثِّياب المحسوسة، لكن المناسبة أن الرداء والإزار لما كانا متلازمين للمخاطب من العرب، عَبّر عن العظمة والكبرياء بهما.

ومعنى حديث الباب أن مقتضى عزة الله واستغنائه أن لا يراه أحد لكن رحمته للمؤمنين اقتضت أن يريهم وجهه كمالا للنعمة فإذا زال المانع فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء فكأنه رفع عنهم حجابا كان يمنعهم.

قال الجامع عفا الله عنه: دعوى القرطبي الاستعارة غير صحيحة، بل الحديث لا مجاز فيه، بل هو على حقيقته، على ما يليق بجلال الله عز وجل، وقد سبق تحقيق هذا غير مرّة، والله تعالى وليّ التوفيق.

ونقل الطّبريّ عن عليّ رضي الله عنه وغيره في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قال: هو النظر إلى وجه الله.

(في جَنَّةِ عَدْنٍ) راجع إلى القوم، قاله في "الفتح"، فهو متعلِّق بحال من ضمير "ينظرون"، قاله السنديِّ، وقال عياض: معناه راجع إلى الناظرين، أي وهم في جنة عدن، لا إلى الله، فإنّه لا تحويه الأمكنة سبحانه.

وقال القرطبي: يتعلّق بمحذوف في موضع الحال من "القوم"، مثل كائنين "في جنة عدن".

ص: 70

وقال الطيبي: قوله: "في جنة عدن" متعلّق بمعنى الاستقرار في الظرف، فيفيد بالمفهوم انتفاء هذا الحصر في غير الجنَّة، وإليه أشار التوربشتي بقوله: يشير إلى أن المؤمن إذا تبوأ مقعده، والحجب مرتفعة، والموانع الّتي تحجب عن النظر إلى ربه مُضْمَحِلَّة إِلَّا ما يصدهم من الهيبة، كما قيل:

أَشْتَاقُهُ فَإِذَا بَدَا

أَطْرَقْتُ مِنْ إِجْلَالِه

فإذا حَفّهم برأفته ورحمته، رفع ذلك عنهم تفضلًا منه عليهم (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 186) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريُّ)(6/ 181 و 9/ 162) و (مسلم)(1/ 112) و (التِّرمذيِّ) رقم (2528) و (الطيالسيّ) في "مسنده"(529) و (أحمد) في "مسنده"(4/ 411 و 416) و (عبد بن حميد) في "مسنده"(545) و (الدارميّ) في "سننه"(282) و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة" رقم (613) و (الدولابيّ) في "الكنى"(2/ 71) و (ابن منده)(780) و (اللالكائي)(831) و (البيهقي) في "الاعتقاد"(130) وفي "الأسماء والصفات"(302) و (البغويّ) في "شرح السنة"(4379)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو إثبات ما أنكرته الجهميّة من صفات الله تعالى، وهي رؤية الله تعالى في الآخرة، وصفة رداء الكبرياء، وصفة

(1) راجع "الفتح" 13/ 531 - 535.

ص: 71

الوجه أيضًا على ما يليق بجلاله صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): إثبات وجود الجنَّة، وأنها مخلوقة الآن.

3 -

(ومنها): إثبات تفاوت الجنَّة فيما بين درجاتها؛ إذ بعضها من الذهب، وبعضها من الفضّة.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

187 -

(حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاج، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وَقَالَ: "إِذَا دَخَل أَهْلُ الجنَّةِ الجنّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الجنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِدًا، يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّلِ الله مَوَازِينَنَا؟ وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ وَيُدْخِلْنَا الْجنّةَ؟ وَيُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الحجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَالله مَا أَعَطَاهُمُ الله شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ يَعْنِي إِلَيْهِ - وَلَا أَقرَّ لِأَعْيُنِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عبد الكبير بن شُعيب بن الحبحاب، أبو بكر الحبحابي المِعْولي العطار البصري، صدوق [11].

رَوَى عن أبيه، وعمه صالح، وعبد الله بن داود الخُرَيبي، وبشر بن عمر الزهراني، وحجاج بن منهال، وداود بن شبيب، وغيرهم.

ورَوى عنه البخاريّ، والترمذي، والنَّسائيّ، وابن ماجه، وأحمد بن منصور الرمادي، وأبو حاتم، وعبدان الأهوازي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي في الرحلة الثّالثة، وسئل عنه، فقال: صدوق، وقال النَّسائيُّ: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال مسلمة: لا بأس به، وفي

ص: 72

"الزهرة": روى عنه البخاريّ أربعة أحاديث، انتهى (1). وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم (187) و (1314) و (1511).

2 -

(حَجَّاج) بن المنهال الأنماطيّ، أبو محمّد السَّلَميّ، وقيل: البرساني مولاهم البصريّ، ثقة فاضلٌ [9].

رَوَى عن جرير بن حازم، والحمادين، وشعبة، وعبد العزيز الماجشون، وهمام، ويزيد بن إبراهيم التستري، وغيرهم.

وعنه البخاريّ، وَرَوَى له الباقون بواسطة الدارمي، وبندار، وأبو موسى، وصاعقة، والخلال، والذهلي، وعبد بن حميد، وإسحاق الكوسج، وعبد القدوس الحبحابي، وغيرهم.

قال أحمد: ثقة، ما أرى به بأسًا، وقال أبو حاتم: ثقة فاضل، وقال العجلي: ثقة، رجل صالح، وقال النَّسائيُّ: ثقة، وقال خلف بن محمّد كردوس: مات سنة (216) وكان صاحب سنة يُظهرها، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، مات في شوال سنة (217) وكذا أرخه البخاريّ، وابن قانع، وقال: ثقة مأمون، وقال الفلاس: ما رأيت مثله فضلًا ودينًا، وقال أبو داود: إذا اختلفا فعفان وحجاج أفضل الرجلين، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال ابن منده: ثنا علي بن الحسن، أبو حاتم، ثنا حجاج بن المنهال، وكان من خيار النَّاس.

روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم (187) و (460) و (656) و (2150) و (2200) و (2217).

3 -

(حَمَّادٌ) بن سلمة البصريّ أبو سلمة ثقة عابدٌ أثبت النَّاس في ثابت، من كبار [8] تقدّم في 14/ 116.

4 -

(ثَابِتٌ الْبُنَانِيِّ) ابن أسلم أبو محمّد البصريّ، ثقة عابدٌ [4] تقدّم في

(1)"تهذيب التهذيب" 2/ 600. و"التقريب" ص 217.

ص: 73

14/ 151.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) يسار الأنصاريّ المدنيّ، ثمّ الكوفيّ، ثقة [2] 3/ 25.

6 -

(صُهَيْبٌ) بن سِنَان بن مالك، ويقال: خالد بن عبد عمرو بن عُقيل، ويقال: طُفيل بن عامر بن جندلة بن سعد بن خُزيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس بن زيد مناة بن النمر بن قاسط النمريّ، أبو يحيى، وقيل: أبو غَسَّان النَّمَريُّ المعروف بالرُّوميّ، أصله من النِّمِر بن قاسط سَبَتْهُ الروم من نِينوَى، وزعم عُمارة بن وَثِيمة أن اسمه عبد الملك، وقال ابن سعد: كان أبوه أو عمه عاملًا لكسرى على الأُبُلَّة، فسبت الروم صُهيبًا، وهو غلام، فنشأ بينهم فابتاعه كلب منهم، فاشتراه عبد الله بن جُدْعان التيمي منهم، فأعتقه، ويقال: بل هَرَب صهيب من الروم إلى مكّة، فحالف عبد الله بن جُدعان، وأسلم قديمًا، وهاجر، فأدرك النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقباء، وشَهِد بدرًا والمشاهد بعدها، وروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر وعلي رضي الله عنهما، وعنه بنوه: حبيب، وحمزة، وسعد، وصالح، وصيفي، وعباد، وعثمان، ومحمد، وابن عمر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وإبراهيم ابن عبد الرّحمن بن عوف، وأسلم مولى عمر، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، وكعب الأحبار، وسعيد بن المسيَّب، وشعيب بن عمرو بن سليم، وابن ابنه زياد بن صيفي بن صهيب.

وغيرهم، قال ابن سعد: مات بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين، وقيل: بلغ (73) سنة، وقال يعقوب بن سفيان: وهو ابن (84) سنة، وصلّى عليه سعد بن أبي وقّاص، وقال أبو زكريا الموصلي في "الطبقات": كان من المستضعفين بمكة، والمعذبين في الله، أسلم بعد بضعة وثلاثين رجلًا، وقال أنس: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "صهيب سبق الروم"، وقيل: فيه نزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، وإليه أوصى عمر أن يصلّي بالناس، حتّى يجتمع أهل

ص: 74

الشورى على رجل (1).

روى له الجماعة، وله أحاديث، منها عند البخاريّ حديث، وعند مسلم ثلاثة أحاديث، وعند المصنّف في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (187) و (2289) و (2410) و (3443) و (3625) و (3738). والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيات المصنّف.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح.

3 -

(ومنها) أنه مسلسل بالبصريين إلى عبد الرّحمن، فمدنيّ، ثمّ كوفيّ، وصهيب رضي الله عنه فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن حماد بن سلمة أثبت من روى عن ثابت.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ثابت عن ابن أبي ليلى.

7 -

(ومنها): أن شيخه، وحجاجًا، وصهيبًا هذا أول محلّ ذكرهم في الكتاب، وقد ذكرت ما لكل واحد من الحديث فيه آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن صُهَيْبٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: تَلَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وَقَالَ) ظاهر هذه الرِّواية أنه قرأ الآية أوّلًا، ويخالفه ما في مسلم، ولفظه: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة يقول الله عز وجل: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وجوهنا، وتدخلنا الجنَّة؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم منه"، ثمّ تلا هذه الآية:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، إذ هو ظاهر في أنه أخّر قراءة الآية، لكن لا تعارض بينهما؛ لأن

(1)"الإصابة" 3/ 364 - 366 و"تهذيب الكمال" 13/ 237 - 240 و"تهذيب التهذيب" 2/ 218.

ص: 75

الواو في رواية المصنّف لا ترتّب، فتُحمل على رواية مسلم بـ "ثُمّ"، فتأمل.

ثمّ إن تفسير الآية الكريمة بهذا الحديث هو الصّحيح، وقد فُسّرت بما هو أعمّ، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره":

يُخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح الحسنى في الدَّار الآخرة، كقوله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقوله تعالى:{وَزِيَادَةٌ} هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك أيضًا، ويشمل ما يُعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، فإنّه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته، وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عبّاس، وسعيد بن المسيَّب، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، وعبد الرّحمن ابن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسُّدّيّ، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ أورد حديث صهيب رضي الله عنه من رواية الإمام أحمد، ثمّ قال: وهكذا رواه مسلم، وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به. وقال ابن جرير: حدثني يونس، أَخْبَرَنَا ابن وهب، أَخْبَرَنَا شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الْهُجَيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنَّة، بصوت يَسمع أولهم وآخرهم، إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى الجنَّة، والزيادة النظر إلى وجه الرّحمن عز وجل"، ورواه أيضًا ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر الُهذَلِيُّ، عن أبي تميمة الهجيمي به.

وقال ابن جرير أيضًا: حَدَّثَنَا ابن حميد، حَدَّثَنَا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "النظر إلى وجه الرّحمن عز وجل".

ص: 76

وقال أيضًا: حَدَّثَنَا ابن عبد الرحيم، حَدَّثَنَا عمر بن أبي سلمة، سمعت زهيرًا، عمن سمع أبا العالية، حَدَّثَنَا أُبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله عز وجل: عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الحسنى الجنَّة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل"، ورواه ابن أبي حاتم أيضًا من حديث زهير به. انتهى (1).

("إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجنَّةِ الجُنّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ) أي ملك بأمر الله عز وجل (يَا أَهْلَ الجنَّةِ) أي يقول: "يا أهل الجنَّة"، فهو تفسير للنداء (إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِدًا، يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ) بضمّ أوله من الإنجاز، وهو الإيفاء، أي يُوفِيكم، ويعطيكم إياه (فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلمْ يُثَقِّل اللهُّ مَوَازِينَنَا؟) من التثقيل، وفيه إشارة إلى أنهم ينسون الوعد بالرؤية، وأن الله تعالى يُزيل عن قلوبهم الحرص، ويُعطيهم ما لا يَطمعون المزيد عليه، ويُرضيهم بفضله (2).

وقال القرطبيّ: قوله: "ألم يُبَيِّضْ وجوهنا إلخ" هذا لا يليق بمن مات على كمال المعرفة والمحبّة والشوق، وإنّما يليق ذلك بمن مات بين الخوف والرجاء، فلما حصل على الأمن من المخوف، والظفَر بالمرجوّ الّذي كان تشوّق إليه قَنِعَ به، ولَهَا عن غيره، وأما من مات محبًّا لله، مشتاقا لرؤيته، فلا يكون همّه إِلَّا طلب النظر لوجهه الكريم لا غيرُ، ويدلُّ على صحّة ما قلته أن المرْء يُحشر على ما يموت عليه، كما عُلم من الشّريعة، بل أقول: إن من مات مشتاقًا لرؤية الله تعالى لا يُنبَّه بالسؤال، بل يُعطيه أمنيّته ذو الفضل والإفضال، ومذهب أهل السنة بأجمعهم أن الله تعالى ينظر إليه المؤمنون في الآخرة بأبصارهم، كما نطق بذلك الكتاب، وأجمع عليه سلف الأمة، ورواه بضعة عشر من الصّحابة رضي الله عنهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنع ذلك فِرَقٌ من المبتدعة، منهم المعتزلة، والخوارج، وبعض المرجئة؛ بناءً منهم على أن الرؤية يلزمها شروط اعتقدوها عقليّة، كاشتراط

(1)"تفسير ابن كثير" ص 638.

(2)

"شرح السنديّ" 1/ 122.

ص: 77

البنية المخصوصة والمقابلة، واتّصال الأشعّة، وزوال المانع من القرب المفرط، والْبُعد المفرط، والحُجُب الحائلة، في خَبْط لهم وتحكّم، وأهلُ الحقّ لا يشترطون شيئًا من ذلك عقلًا سوى وجود المرئيّ، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي، فيرى المرئيّ، لكن يقترن بالرؤية بحكم العادة أحوال يجوز في العقل شرعًا تبدّلها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (1).

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا يليق بمن مات إلخ" فيه نظر لا يخفى؛ لأن نصّ الحديث مطلق، لم يفرّق بين طائفة، وطائفة، وأيضًا استدلاله على ذلك بأن من مات يُحشر إلخ محلّ نظر أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الحشر، وإنما هو بعد دخول الجنَّة، والاستقرار فيها، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

(وَيُبَيِّضْ) من التبييض (وُجُوهَنَا؟ وَيُدْخِلْنَا) بضم أوله، من الإدخال (الجَنَّةَ؟ وَيُنْجِنَا) من الإنجاء، أو من التنجية، قال السنديّ رحمه الله: وفي بعض النسخ: "وينجينا" بإثبات الياء، كما في الترمذيّ، مع أنه معطوف على المجزوم، إمّا للإشباع، أو للتنزيل منزلة الصّحيح. انتهى (2)(مِنَ النَّارِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَيَكْشِفُ الحجَابَ) أي يزيله، ويرفعه، والظاهر أنه رداء الكبرياء الّذي تقدّم في حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وقال السنديّ: لا تعارض بين الأحاديث الّتي وردت في الرؤية مختلفةً في الكيفيّة؛ لكونها تكون مرات متعدّدةً. انتهى (فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) أي إلى الله عز وجل (فَوَالله مَا أَعَطَاهُمُ الله شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ -يَعْنِي إِلَيْهِ-) العناية من بعض الرواة، وَلم يتبيّن لي من هو؟، ولفظ مسلم:"فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربّهم"(وَلَا أَقرَّ لِأَعْيُنِهِمْ") و"أُقَرّ" من قرّت عينه تَقِرّ -بفتح القاف، وكسرها، من بابي عَلِمَ، وتَعِبَ-.

قال في "القاموس": وقرّت عينه تَقَرُّ بالكسر والفتح قَرَّةً -بالفتح- وتُضمّ،

(1)"المفهم" 1/ 413 - 414.

(2)

"شرح السنديّ" 1/ 122.

ص: 78

وقُرُورًا: بَرَدَت، وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوّفةً إليه. انتهى (1).

وقال في "اللسان": واختلفوا في اشتقاق ذلك، فقال بعضهم: معناه بَرَدَت، وانقطع بكاؤها، واستحرارها بالدمع، فإن للسرور دَمْعَةً باردةً، وللحزن دَمعةً حازة، وقيل: من الْقَرَار، أي رأت ما كانت متشوّفةً إليه، فقرّت ونامت، وأقرّ الله عينه وبعينه، وقيل: أعطاه حتّى تقرّ، فلا تطمح إلى من هو فوقه.

وقيل: أَقرّ الله عينه مشتقّ من الْقَرُور، وهو الماء البارد، وقيل: أقرّ الله عينك، أي صادفت ما يُرضيك، فتقرّ عينك من النظر إلى غيره، وقيل: أقرّ الله عينه أنام الله عينه، والمعنى صادف سُرورًا، يُذهب سَهَره، فينام. انتهى (2). والله تعالى أعلم بالصواب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث صهيب رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثّانية): في الكلام على هذا الحديث:

هذا الحديث هكذا رواه المصنِّف، ومسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه"، وغيرهم من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن أبي ليلى، عن صهيب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال أبو عيسى الترمذيّ، وأبو مسعود الدمشقيّ، وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعًا عن ثابت غير حماد بن سلمة، ورواه سليمان بن المغيرة، وحماد بن زيد، وحماد بن واقد، عن ثابت، عن ابن أبي ليلى من قوله، ليس فيه ذكرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا ذكرُ صهيب رضي الله عنه.

قال النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم": وهذا الّذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحّة الحديث، فقد قدّمنا في الفصول أن المذهب الصّحيح المختار الّذي ذهب إليه

(1)"القاموس المحيط" ص 415.

(2)

"لسان العرب" 5/ 86.

ص: 79

الفقهاء، وأصحاب الأصول، والمحقّقون من المحدّثين، وصححه الخطيب البغداديّ أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متّصلًا، وبعضهم مرسلًا، أو بعضهم مرفوعًا، وبعضهم موقوفًا حُكم بالمتّصل وبالمرفوع؛ لأنهما زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير من كلّ الطَّوائف. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الّذي قاله النوويّ رحمه الله من إطلاقه القول بقبول زيادة الثقة مطلقًا، وكذا الحكم للموصول والمرفوع على الإطلاق، ليس هو المختار عند المحَقِّقين من المحدّثين، بل المختار عندهم أن القبول يدور مع القرائن، فإن قامت قرينة لترجيح الوصل والرفع على ضدّهما حكم به، وإلا فلا، وكذا القول في زيادة الثقة، وقد ذكرت تحقيق ذلك في "شرح مقدمة مسلم"، فراجعه تستفد.

ثمّ إن ما قاله النووي من الترجيح هنا مقبول؛ لأن الّذي وصله هو حماد بن سلمة، وهو مقدّم في ثابت على غيره، فترجّح روايته.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذيّ" في ذكر طبقات أصحاب ثابت البنانيّ: الطبقة الأولى الثقات، كشعبة، وحماد بن زيد، وسليمان بن المغيرة، وحماد بن سلمة، ومعمر، وأثبت هؤلاء كلهم في ثابت حماد بن سلمة، كذا قال أحمد في رواية ابن هانىء: ما أحدٌ روى عن ثابت أثبتُ من حماد بن سلمة.

وقال ابن معين: حماد بن سلمة أثبت النَّاس في ثابت البنانيّ، وقال أيضًا: حماد بن سلمة أعلم النَّاس بثابت، ومن خالف حماد بن سلمة في ثابت فالقول قول حماد.

وقال ابن المدينيّ: لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثمّ من بعده سليمان بن المغيرة، ثمّ من بعده حماد بن زيد، وهي صحاح، يعني أن أحاديث هؤلاء الثّلاثة عن ثابت. وقال أبو حاتم الرازيّ: حماد بن سلمة في ثابت وعليّ بن زيد أحبّ إليّ من همّام، وهو أحفظ النَّاس، وأعلم النَّاس بحديثهما، بَيّن خطأ النَّاس، يعني أن من

(1)"شرح صحيح مسلم" للنووي 3/ 17.

ص: 80

خالف حمادًا في حديث ثابت وعليّ بن زيد قُدِّم قول حماد عليه، وحُكم بالخطأ على مخالفه.

وحَكَى مسلم في "كتاب التمييز" إجماع أهل المعرفة على أن حماد بن سلمة أثبت النَّاس في ثابت، وحَكى ذلك عن يحيى القطان، وابن معين، وأحمد، وغيرهم من أهل المعرفة. وقال الدارقطنيّ: حماد بن سلمة أثبت النَّاس في ثابت. انتهى ما ذكره ابن رجب رحمه الله تعالى (1).

قلت: فتبيّن بهذا أن رواية حماد بن سلمة بالوصل والرفع هي الراجحة، ولذلك أودعها الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه"، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثّالثة): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 187) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم)(1121) رقم (448 و 449) و (الترمذيّ) رقم (2552) و (3105) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" رقم (1415) و (أحمد) في "مسنده"(4/ 332 و 6/ 15) و (هناد بن السريّ) في "الزهد"(171) و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(472) و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة". (271) و (الطّبريّ) في "التفسير"(17626) و (أبو عوانة) في "صحيحه" 1/ 156 و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7314 و 7315) و (ابن منده)(782 و 784 و 786 و 875 و (اللالكائيّ)(778 و 833) و (البيهقيّ) في "البعث والنشور"(446) و"الاعتقاد"(124) وفي "الأسماء والصفات"(307) و (البغويّ) في "شرح السنة"(4393)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرّابعة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات، فقد بين الحديث رؤية المؤمنين لله عز وجل في الجنَّة.

(1) راجع "شرح علل الترمذيّ" لابن رجب 2/ 499 - 500.

ص: 81

2 -

(ومنها): بيان المراد من {الْحُسْنَى} والزيادة في هذه الآية الكريمة، وهو أولى ما فُسّرت به.

3 -

(ومنها): إكرم الله عز وجل عباده المؤمنين بندائهم لإنجاز موعده لهم.

4 -

(ومنها): أن النظر إلى وجهه الكريم أعظم ما يُعطاه العبد من نعيم الجنَّة، فكلّ نعم الجنَّة دونه، اللَّهُمَّ اجعلنا ممّن تُعطيه النظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

188 -

(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: الحَمْدُ لله الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا في نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنَزَلَ الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عِليٌّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطَّنافسيّ الكوفيّ ثقة عابد [10] 9/ 57.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمّد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة أحفظ النَّاس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9] 1/ 3.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، أبو محمّد الكاهليّ مولاهم الكوفيّ، ثقة حافظ ورع يدلّس [5] 1/ 1.

4 -

(تَميمُ بْنُ سَلَمَةَ) السلميّ الكوفيّ، ثقة [3].

رَوَى عن سليمان بن صُرَد، وشُرَيح بن الحارث القاضي، وعبد الرّحمن بن هلال العبسي.

ورَوَى عنه الأعمش، ومنصور، وطلحة بن مُصَرِّف، وأبو صَخْرة جامع بن شداد، وجماعة.

قال ابن معين والنَّسائيّ: ثقة. وقال ابن أبي عاصم وغيره: مات سنة (100)

ص: 82

وكذا قال ابن سعد، قال: وكان ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وفَرّق بينه وبين تميم بن سَلَمة الخزاعي، روى عن جابر بن سَمُرة، وعنه المسيَّب بن رافع، قال: وهو الّذي روى عن عروة بن الزبير.

رَوَى له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، وأبو داود، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا الحديث (188) وأعاده برقم (2063) و (3687) حديثا جرير بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه، مرفوعًا. مرفوعًا:"من يُحْرَم الرفقَ يُحْرَم الخير".

5 -

(عُرْوَةُ بنُ الزُبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ، ثقة فقيه مشهور [3] 2/ 15.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين 1/ 14، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنِّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، وهو ثقة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى تميم، والباقيان مدنيان.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض: الأعمشُ عن تميم، عن عروة.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

6 -

(ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وقد روى عن خالته، وهو أحفظ وأكثر من روى عنها.

7 -

(ومنها): أن أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش بعد الثوريّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ)، أنها (قَالَتِ: الحَمْدُ لله الَّذِي وَسِعَ) بكسر السين المهملة، كسمِعَ (سَمْعُهُ) بالرفع على الفاعليّة (الْأَصْوَاتَ) بالنصب على المفعوليّة، وفي الرِّواية الآتية في

ص: 83

"الطّلاق"(2063) من طريق محمّد بن أبي عبيدة، عن أبيه، عن الأعمش:"تبارك الّذي وسع سمعه كلّ شيء"، أي يسمع كلّ الأصوات، وأحاط سمعه بالأصوات كلها، فلا يخفى عليه شيءٌ منها في الأرض ولا في السَّماء، جهر به المتكلّم، أو أسرّ، وهذا من عائشة رضي الله عنها ثناء على الله تعالى حين ظهر عندها آثار سعة سمعه، وهذا لا يدلّ على أنها كانت ليست عالمة بذلك قبلُ حتّى يقال: كيف خفي على مثلها هذا الأمر؟. قاله السنديّ (1)(لَقَدْ جَاءَتِ المُجَادِلَةُ) بكسر الدال، أي المرأة الّتي تجادل في مظاهرة زوجها لها، وهي خولة بنت ثعلبة، كما في الرِّواية الآية: "إنِّي لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويَخفَى علي بعضه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

أخرج قصّتها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" بطولها (26056): حَدَّثَنَا سعد ابن إبراهيم، ويعقوب قالا: حَدَّثَنَا أبي، قال: حَدَّثَنَا محمّد بن إسحاق، قال: حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة بنت ثعلبة، قالت: والله فِيَّ وفي أوس بن صامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا، قد ساء خلقه وضَجِرَ، قالت: فدخل عليّ يومًا، فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنت علي كظهر أمي، قالت: ثمّ خرج فجلس في نادي قومه ساعةً، ثمّ دخل عليّ، فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلت كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلي، وقد قلت ما قلت، حتّى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني، وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشّيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثمّ خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابها، ثمّ خرجت حتّى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وسلم ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه"، قالت: فوالله ما بَرَحت حتّى نزل فِيّ القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان

(1)"شرح السنديّ" 1/ 122.

ص: 84

يتغشاه، ثمّ سُرِّي عنه، فقال لي: يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثمّ قرأ عليّ:{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، إلى قوله:{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مُرِيه فليُعتِق رقبةً"، قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما عنده ما يُعتق، قال:"فليصم شهرين متتابعين"، قالت: فقلت: والله يا رسول الله إنّه شيخ كبير، ما به من صيام، قال:"فليطعم ستين مسكينا وسقًا من تمر"، قالت: قلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنا سنعينه بعرق من تمر"، قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، قال:"قد أصبتِ، وأحسنت، فاذهبي فتصدقي عنه، ثمّ استوصي بابن عمك خيرًا"، قالت: ففعلت.

والحديث، وإن تكلّم فيه بعضهم إِلَّا أنه صحيح، راجع ما كتبته على النَّسائيّ (1).

(وَأَنا) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أنا جالسة (في نَاحِيَةِ الْبَيْتِ) أي في جانب من جوانب بيتها، قال في "المصباح":"الناحية": الجانب، فاعلةٌ بمعنى مفعولة؛ لأنك نَحَوْتهَا: أي قصدتها (2)(تَشْكُو زَوْجَهَا) جملة في محلّ نصب على الحال من "المجادلةُ"(وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ) أي لعدم رفعها له، بل كانت تُسرّ به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تريد أن يسمعه غيره (فَأَنزَلَ الله) عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] وفي الرِّواية المذكورة: "وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتّى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللَّهُمَّ إنِّي أشكو إليك، فما بَرِحت حتّى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)"ذخيرة العقبي في شرح المجتبي" 29/ 69.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 596.

ص: 85

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 188) بهذا السند وفي "كتاب الطّلاق" باب الظهار" (1/ 666) رقم (2063) وأخرجه النَّسائيُّ 6/ 168 و (أحمد) في "مسنده" (6/ 46) و (عبد بن حُميد) في "مسنده" (1514)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ما أنكرته الجهمية من صفات الله تعالى، وهو صفة السميع، فقد أثبته الله عز وجل بقوله:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} الآية، وأثبتته عائشة رضي الله تعالى عنها بقولها:"الحمد لله الّذي وسِع سمعه الأصوات".

قال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب التّوحيد" من "صحيحه": {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

قال ابن بطّال رحمه الله: غرض البخاريّ رحمه الله في هذا الباب الردّ على من قال: إن معنى "سميع بصير" عليم، قال: ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الّذي يَعْلَم أن السَّماء خضراء ولا يراها، والأصم الّذي يَعلَم أن في النَّاس أصواتًا ولا يسمعها، ولا شك أن من سمع وأبصر أدخلُ في صفة الكمال ممّن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصَحَّ أن كونه سميعًا بصيرًا يفيد قدرًا زائدًا على كونه عليمًا، وكونه سميعًا بصيرًا يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليمًا أنه يعلم بعلم، ولا فرق بين إثبات كونه سميعًا بصيرًا، وبين كونه ذا سمع وبصر، قال: وهذا قول أهل السنة قاطبة. انتهى.

ص: 86

قال الحافظ رحمه الله: واحتج المعتزلي بأن السمع يَنشَأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ، والله مُنَزَّه عن الجوارح.

وأجيب بأنها عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيًّا، فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله عز وجل يسمع المسموعات بدون الوسائط، وكذا يرى المرئيّات بدون المقابلة، وخروج الشعاع، فذات الباري مع كونه حيًّا موجودًا لا تشبه الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تُشبه الصفات.

وقال البيهقي في "الأسماء والصفات": السميع مَنْ له سمع يُدرك به المسموعات، والبصير من له بصر يدرك به المرئيات، وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته، وقد أفادت الآية، وأحاديث الباب الرَّدِّ على من زعم أنه سميع بصير بمعنى عليم، ثمّ ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه الّذي أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم، من رواية أبي يونس، عن أبي هريرة رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها -يعني قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} - إلى قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، ويضع إصبعه، قال أبو يونس: وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال البيهقي: وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله ببيان محلهما من الإنسان، يريد أن له سمعًا وبصرًا، لا أن المراد به العلم، فلو كان كذلك لأشار إلى القلب؛ لأنه محل العلم، ولم يُرد بذلك الجارحة، فإن الله تعالى مُنَزَّه عن مشابهة المخلوقين، ثمّ ذكر لحديث أبي هريرة رضي الله عنه شاهدًا من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "إن رَبَّنَا سميع بصير"، وأشار إلى عينيه، وسنده حسن. ذكره في "الفتح"(1).

قلت: ولتمام البحث في الحديث راجع "شرح النَّسائيّ" في "باب الظهار"، تستفد 29/ 71 - 72.

(1)"الفتح" 15/ 325 "كتاب التّوحيد".

ص: 87

2 -

(ومنها): بيان رأفة الله تعالى بخلقه، حيث استجاب دعوة هذه المرأة المتضرّرة من جفاء زوجها لها بسبب الظهار، فأزال الله تعالى عنها ذلك بما شرعه من الكفّارة، فعاد إليها كما كان.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم من سعة الخلق حيث يخلو بهذه المرأة، ويقضي حاجتها، فكان ذلك مصداق قوله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

4 -

(ومنها): جواز شكوى المرأة زوجها إلى الإمام أو غيره في إلحاق الضرر بها حتّى يُصلح بينهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

189 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِيَدِهِ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) الذُّهْليّ النيسابوريّ الحافظ الحجة [11] 2/ 16.

2 -

(صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى) الزهريّ، أبو محمّد البصريّ الْقَسَّامُ، ثقة [9].

رَوَى عن يزيد بن أبي عبيد، وعبيد الله بن سعيد بن أبي هند، ومحمد بن عجلان، وهشام بن حسان، وعبد الله بن هارون، وأبي نَعَامة عمرو بن عيسى العدوي، وهاشم ابن هاشم، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق بن راهويه، وعليّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وبندار، وأبو موسى، وعباس بن عبد العظيم العنبري، وأحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، والذُّهلي، وأبو قُدَامة السرخسيّ، وعبد بن حميد، وغيرهم.

قال: أبو حاتم: صالح. وقال ابن سعد: كان ثقةً صالحًا، توفي بالبصرة سنة مائتين

ص: 88

في خلافة هارون. وقال البخاريّ: مات سنة (198). وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: مات سنة ثمان وتسعين، أو أول سنة (99)، وقيل: سنة مائتين، وقيل: سنة (208) في أول رجب، وكان من خيار عباد الله. وقال العجليّ: بصري ثقة. وكتب الذهبي رحمه الله أن قول من قال: إنّه مات سنة (208) غلط.

روى له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

3 -

(ابْنُ عَجْلَانَ) هو محمّد بن عجلان المدنيّ، صدوق [5] 2/ 19.

4 -

(أَبُوه) عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة المدنيّ، لا بأس به [4].

رَوَى عن مولاته، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت، ورَوَى عنه ابنه محمّد، وبُكير بن عبد الله ابن الأشجّ، وإسماعيل بن أبي حبيبة إن كان محفوظًا.

قال النَّسائيّ: لا بأس به. وقال الآجريّ، عن أبي داود: لم يرو عنه غير ابنه محمّد.

وذكره ابن حبّان في "الثِّقات".

روى له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم 189 و 344 و 1127 و 2575 و 2687 و 4131 و 4295.

5 -

(أَبُو هرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 1/ 1، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، فابن عجلان وأبوه ممّن علّق لهم البخاريُّ، وأخرج لهم مسلم في المتابعات.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

ص: 89

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِيَدِهِ) ظاهر في أنه كتبه سبحانه وتعالى بيده، كما صحّ أنه كتب التوراة لموسى بيده، وقد قدّمنا غير مرّة أن الحقّ أن لله سبحانه وتعالى يدًا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحاح، كهذا الحديث وغيره، أما ما ذكره في "الفتح" في "كتاب بدء الخلق"، وفي "كتاب التوحيد" في شرح هذا الحديث من التأويلات الزائفهّ المخالفة لطريق السلف فَمِمَّا يجب الحذر عنه، ولولا مخافة التطويل لأوردته، مع التعليق عليه، ولكن يكفي اللبيب التلميح، فإنّه يفهم بالإشارة ما لا يفهمه الغبي بألف عبارة (قَبْلَ أَنْ يَخَلُقَ الْخَلْقَ) وفي رواية البخاريّ من طريق الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لمّا قَضَى الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي".

ولا تنافي بين الروايتين؛ لإمكان حمل قوله: "لمّا قضى إلخ" أي أراد أن يقضي، فهو قبل الخلق، والله تعالى أعلم.

(رَحْمَتِي) مبتدأ خبره قوله: (سَبَقَتْ غَضَبِي) وفي رواية البخاريّ المذكورة: "غَلَبت" بدل سبقت، والغلبة هي المراد بـ "سبقت" هنا.

قيل: المعنى أن تعلّق الرّحمة غالبٌ سابقٌ على تعلّق الغضب؛ لأن الرّحمة مقتضى ذاته المقدّسة، وأما الغضب فإنّه متوقّف على سابق عمل من العبد، وبهذا يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرّحمة في بعض المواطن، كمن يدخل النّار من الموحّدين، ثمّ يخرج بالشفاعة أو غيرها.

وقيل: معنى الغلبة الكثرة والشمول، تقول غلب على فلان الكرم، أي أكثر أفعاله، وهذا كلّه بناءٌ على أن الرّحمة والغضب من صفات الذات، وقال بعض العلماء: الرّحمة والغضب من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدّم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارةُ بالرّحمة إلى إسكان آدم عليه السلام الجنّة أَوَّلَ ما خُلق مثلًا، ومقابلها ما وقع من إخراجه منها، وعلى ذلك استمرّت أحوال الأمم بتقديم الرّحمة في

ص: 90

خلقهم بالتوسيع علمهم من الرزق وغيره، ثمّ يقع بهم العذاب على كفرهم، وأما ما أشكل من أمر من يُعذّب من الموحدين، فالرّحمة سابقةٌ في حقّهم أيضًا، ولولا وجودها لخُلّدوا أبدًا.

وقال الطيبيّ: في سبق الرّحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إِلَّا باستحقاق، فالرّحمة تشمل الشخص جَنِينًا ورضيعًا وفَطِيمًا وناشئًا قبل أن يصدر منه شيء من الطّاعة، ولا يلحقه الغضب إِلَّا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحقّ معه ذلك. انتهى (1).

وقال السنديّ. قوله: "كتب على نفسه" يدلّ على أنه ساق هذا الكلام على أنه وَعَدَ بأنه سيُعامل بالرّحمة ما لا يُعامل بالغضب، لا أنه إخبار عن صفة الرّحمة والغضب بأن الأُولى دون الثّانية؛ لأن صفاته كلها كاملة عظيمة، ولأن ما فَعَلَ من آثار الأولى فيما سبق أكثر ممّا فَعَل من آثار الثّانية.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر السنديّ، لكن فيه ما المانع من كون الأولى دون الثّانية، كما دلّ عليه ظاهر السياق، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: ولا يُشكل هذا الحديث بما جاء أن الواحد من الألف يدخل الجنَّة، والبقيّة النّار.

إِمّا لأنه يعامل بمقتضى الرّحمة ولا يعامل بمقتضى الغضب، كما قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]، وقال:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية [البقرة: 261]، وقال:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وإِما لأن مظاهر الرّحمة أكثر من مظاهر الغضب، فإن الملائكة كلهم مظاهر الرّحمة، وهم أكثر خلق الله، وكذا ما خلق الله في الجنَّة من الحور والوالدان وغير ذلك.

(1) راجع "الفتح" 6/ 351.

ص: 91

انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه، فقد أخرجه البخاريّ من رواية أبي رافع، وأبي صالح، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم من رواية عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فلا يقال: إن محمّد بن عجلان متكلّم فيه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فتفطّن. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 189) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ)(4/ 129 و 9/ 153 و 165) و (مسلم)(8/ 95) و (الترمذيّ)(3543) و (النَّسائيّ) في "الكبرى" و (الحميديّ) في "مسنده"(1126) و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242 و 257 و 259 و 313 و 358 و 381 و 390 و433 و 466) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات، وهو هنا إثبات صفة الكتابة، واليد، والرّحمة، والغضب، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا التفات إلى من فسّر الغضب باللازم، فقال: هو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، كما مشى عليه في "الفتح" وغيره؛ لأن ذلك من التأويلات الّتي مشى عليها المتأخرون من الأشاعرة وغيرهم، وهو مخالف لهدي السلف، فإن مذهبهم التمسّك بظواهر الكتاب والسُّنَّة، فصفة الغضب ثابتةٌ لله تعالى كسائر صفاته، من المحبة، والرضا، والضحك، وغير ذلك على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فعليك بمذهب السلف تسلم، وتغنم، والله تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم.

(1)"شرح السنديّ" 1/ 123.

ص: 92

2 -

(ومنها): بيان سعة رحمة الله تعالى، وهو كقوله عز وجل:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الآية [الأعراف: 156].

3 -

(ومنها): إثبات كتابة الأمور في الأزل، وأن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء وكتبها قبل أن يخلقها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

190 -

(حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الحِزَامِيُّ، وَيَحْيىَ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الأَنْصَارِيُّ الْحَرَامِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله يَقُولُ: لمَّا قُتِلَ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا جَابِرُ أَلا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ الله لِأَبِيكَ؟ " وَقَالَ يَحْيَى في حَدِيثهِ: فَقَالَ: "يَا جَابِرُ مَا لي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَترَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: "أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِما لَقِيَ الله بِهِ أَبَاكَ؟ " قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِن وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ) -بكسر الحاء المهملة، والزاي- هو إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حِزَام بن خُوَيلد بن أَسَد الأسديّ الحِزَاميّ، أبو إسحاق المدني، صدوقٌ، تَكلّم فيه أحمد لأجل القرآن [10].

رَوَى عن مالك (1)، وابن عيينة، وابن أبي فديك، وأبي بكر بن أبي أُويس، وأبي

(1) قال الحافظ في "التهذيب": قلت: ما أظنه لَقِي مالكًا، لكن وقع في الرواة عن مالك =

ص: 93

ضَمْرَة، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، وابن ماجه، ورَوَى له التّرمذيّ والنَّسائيّ بواسطة، والدارمي، وصاعقة، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي: رأيت ابن معين كتب عن إبراهيم بن المنذر أحاديث ابن وهب، ظننتها المغازي. وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وقال صالح بن محمّد: صدوق. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أيضًا: هو أعرف بالحديث من إبراهيم بن حمزة، إِلَّا أنه خلط في القرآن، جاء إلى أحمد بن حنبل، فاستأذن عليه، فلم يأذن له، وجلس حتّى خرج، فسلّم عليه، فلم يَرُدّ عليه أَحمد السلام. وقال الساجي: بلغني أن أحمد كان يتكلم فيه ويَذُمُّه، وكان قدم إلى ابن أبي دواد قاصدًا من المدينة، عنده مناكير. قال الخطيب: أما المناكير فقلما توجد في حديثه إِلَّا أن يكون عن المجهولين، ومع هذا فإن يحيى بن معين وغيره من الحفاظ كانوا يرضونه ويوثقونه. قال الحافظ: سبق الخطيبَ أبو الفتح الأزديّ بمعنى كلامه هذا. وقال الدارقطني ثقة. وقال ابن وَضّاح: لقيته بالمدينة وهو ثقة. وقال الزُّبير بن بَكّار: كان له علم بالحديث، ومروءة وقَدْر.

قال يعقوب بن سفيان: مات سنة (236) في المحرم صَدَرَ من الحجِّ، فمات بالمدينة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: مات سنة (35) أو (6).

وله في هذا الكتاب (29) حديثًا.

2 -

(يَحْيىَ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ) الحارثيّ، وقيك: الشيبانيّ، أبو زكريّا البصريّ، ثقة [10].

رَوَى عن يزيد بن زُريع، وحماد بن زيد، وخالد بن الحارث، وعبد الوهّاب الثقفي، ومعتمر بن سليمان، وموسى بن إبراهيم بن كثير، وجماعة.

= للخطيب بإسناد فيه نظر إلى إبراهيم بن المنذر قال: سمعت رجلًا يسأل مالكًا، فذكر مسألة، ولم يُخْرِج له عنه حديثه. انتهى "تهذيب التهذيب" 1/ 88.

ص: 94

ورَوَى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وزكرياء الساجي، ويوسف بن يعقوب القاضي، ومحمد بن إسحاق بن خُزيمة، وغيرهم.

قال أبو حاتم الرَّازيُّ: صدوق. وقال النَّسائيُّ: ثقة مأمون، قَلَّ شيخ رأيتُ بالبصرة مثلَهُ. وقال مسلمة بن قاسم ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال هو والسراج: مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، زاد ابن حبّان: وقد قيل: مات بعد سنة خمسين.

وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (190) و (4111) و (4114). 3 - (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ) بن بَشِير بن الْفَاكِهِ (الأَنْصَارِيُّ الحرَامِيُّ) -بفتح الحاء المهملة، والراء- المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [8].

رَوَى عن طلحة بن خِرَاشٍ، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة.

ورَوَى عنه يوسف بن عَدِيّ، وعلي بن المديني، وإبراهيم بن المنذر الحزاميّ، ويحيى ابن حبيب بن عربي، ودُحَيم، ويعقوب بن كاسب، وجعفر بن مسافر التنيسيّ، وغيرهم.

ذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: وكان يخطئ.

أخرج له الترمذيّ، والنَّسائيّ في "اليوم واللّيلة"، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (190) وأعاده برقم (2800) وحديث (3800).

4 -

(طَلْحَةُ بْنُ خِرَاشِ) بن عبد الرّحمن بن خِرَاِش بن الصِّمَة الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ [4].

رَوَى عن جابر بن عبد الله، وعبد الملك بن جابر بن عَتِيك.

ورَوَى عنه موسى بن إبواهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه، والدَّرَاوَرْدِيُّ، ويحيى ابن عبد الله بن يزيد الأُنَيسيّ.

قال النَّسائيُّ: صالح. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال ابن عبد البرّ: موسى وطلحة كلاهما مدني ثقة. وقال الأزدي: طلحة رَوَى عن جابر مناكير. وذكره أبو

ص: 95

موسى في "ذَيْلِ معرفة الصّحابة"، وبَيّن أن حديثه مرسل.

[تنبيه]: ذكر الحافظ رحمه الله في "التهذيب": ما نصّه: وفي "سنن ابن ماجه" من طريق موسى بن إبراهيم: سمعت طلحة بن خراش ابن عم جابر قال: سمعت جابرًا. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أورده بزيادة "ابن عمّ جابر"، وليس هذا في النسخ عندنا، وفيه إشكالٌ؛ لأنه إن كان المراد جابر بن عبد الله الصحابيّ، فكونه ابن عمه، محلّ نظر، والظاهر أن الزيادة غلط، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

أخرج له التّرمذيّ، والنَّسائيّ في "اليوم واللّيلة"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب الحديثان المذكوران في ترجمة موسى بن إبراهيم قبله.

[تنبيه]: ذكر في "التهذيب": أن له عندهم في أفضل الذكر والدعاء، وعند الترمذيّ والمصنّف في فضل والد جابر، وعند الترمذيّ:"لا يلج النّار من رآني". انتهى (1).

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله) بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 1/ 11، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ) رحمه الله أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما (يَقُولُ: لمَّا قُتِلَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ) يعني أباه رضي الله عنه، و"حَرَام" بفتحتين بلفظ ضدّ الحلال (يَوْمَ أُحُدٍ) أي يوم غزوة أحد، وهي في السنة الثّالثة من الهجرة (لَقِيَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا جَابِرُ أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام أداة عَرْضٍ وتَحضيض، ومعناهما طلب الشيء، لكن العَرْضُ طلبٌ بِلِينٍ، والتحضيضُ طلبٌ بِحَثٍّ، وتختصّ "ألا" هذه بالجملة الفعليّة، كقوله عز وجل:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [النور: 22]، وقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا

(1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 238.

ص: 96

أَيْمَانَهُمْ} الآية، وكهذا الحديث (1)(أُخْبِرُكَ مَا قَالَ الله لِأَبِيكَ؟) أي عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنه (وَقَالَ يَحْيىَ) يعني شيخه الثّاني يحيى بن عربيّ، والمعنى أن هذا اللّفظ لشيخه إبراهيم ابن المنذر، وأما شيخه يحيى فقال (في حَدِيثِهِ: فَقَالَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم ("يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ ") أي منكسر القلب حزينًا (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اسْتُشْهِدَ أَبِي) بالبناء للمفعول: أي قُتل شهيدًا.

قال في "القاموس": وأُشْهِدَ مجهولًا: قُتِل في سبيل الله، كاسْتُشْهِدَ. انتهى (2)(وَتَرَكَ عِيَالًا) بكسر العين المهملة، قال في "المصباح": الْعِيَالُ: أهلُ البيت، ومن يَمُونه الإنسان، الواحد عَيِّلٌ، مثالٌ جِيَادٍ وجَيِّدٍ. انتهى (3)، وقال في "القاموس": و"عَيِّلٌ" ككَيِّسٍ، وكِتَابٍ: من تتكفّلُ به واويّةٌ يائيّةٌ. انتهى، وكتب نصر الْهُورينيّ في الهامش: ما نصّه: قال الصغانيّ في "التكملة": الْعِيَالُ جمع عَيِّلٍ، كجِيَاد جمع جَيِّدٍ، وهو من يلزم الإنفاق عليه، ويكون اسمًا للواحد، كما استعمله الحريريّ في "مقاماته"، وذكره المُطَرِّزِيّ في "شرحه". انتهى "شرح الشفا"(4)(وَدَيْنًا، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أفلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ الله) بالرفع على الفاعليّة (بِهِ أَبَاكَ؟ " قَالَ) جابر رضي الله عنه (بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ) أي لا في الدنيا، ولا في عالم البرزخ (إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا) بكسر الكاف، وتخفيف الفاء، آخره حاء مهملة: أي مواجهةً، ليس بينهما حجاب ولا رسول، قاله ابن الأثير (5).

[تنبيه]: هذا الحديث فيه إشكال، مع قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ

(1) راجع "مغني اللبيب" 1/ 69.

(2)

"القاموس المحيط" ص 265.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 438.

(4)

راجع "القاموس المحيط" مع هوامشه ص 934.

(5)

"النهاية" 4/ 185.

ص: 97

اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} الآية [الشورى: 51].

وأجيب بأن الآية مخصوصة في الدنيا، فلا يُتصوّر في الدنيا كلام الله تعالى مع عبده مواجهةً؛ وذلك لأن أجساد الدنيا كثيفة لا تستطيع أن تتحمّل التجلّي الإلهيّ، ولذلك لمّا تجلّى الله للجبل جعله دكّا، وخرّ موسى عليه السلام صعقًا، وأما في الآخرة فالأجساد والأرواح الأخرويّة تستطيع ذلك، أفاده بعضهم. والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه آخر]: ذكر بعضهم أن في هذا الحديث أيضًا إشكالًا آخرَ، وهو أن روح المديون محبوسة بدينه لا يُعرَج في السَّماء، كما جاء في الأحاديث، ولكن هذا محمول على ما إذا لم يترك الميِّت وفاء دينه، وكان عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ترك لدينه وفاء، واهتمامُ جابر وانكساره كان بسبب استيفاء الدين بالتركة، ولهذا قال: استُشهِد أبي وترك عيالًا ودينًا.

ويمكن أن يُجاب بأن عدم كون روحه محبوسة؛ لأن شهادته سبب لعفو حقوق العباد، وقال الشّيخ المجدّدي رحمه الله: يُحبس روح المديون إذا لم يحصل لروحه العروج في الدنيا، فإذا حصل له العروج بالسلوك والجدية لم يحبسه شيء بعد الموت. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا كتب بعض من علّق على هذا الكتاب، وفيما كتبه نظر في أمور:

الأوّل: قوله: إن أبا جابر ترك وفاء لدينه غير صحيح، فقد ذكر جابر رضي الله عنه أن أباه قُتل وترك دينًا، ولم يترك وفاء، ومما يؤكد ذلك أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم سعى في إرضاء غرمائه بأخذ ما وجدوه، فلم يرضوا، فدعى صلى الله عليه وسلم على البيدر، فبارك الله تعالى فيه، فأخذوا ديونهم، وبقي لعياله شيء كثير، وهذا مشهور في "الصحيحين" وغيرهما.

الثّاني: أن قوله: "لأن شهادته سبب لعفو حقوق العباد" غير صحيح؛ لأنه يخالف صريح ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله مِن عمرو رضي الله

ص: 98

عنهما مرفوعًا: "يُغفر للشهيد كلُّ ذنب إِلَّا الدين"، وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتِلتُ في سبيل الله تُكَفَّر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مُقبِلٌ، غيرُ مدبر، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت؟ "، قال: أرأيتَ إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إِلَّا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك". رواه مسلم.

فهذا صريح في كون الشّهادة لا تُكفر حقوق العباد.

والثّالث: قوله: "إذا لم يحصل عروجه إلخ"، ما هو العروج الّذي يعنيه؟، وأي آية، أو أية سنة تدلّ عليه، وأنه إذا حصل للعبد في الدنيا لا يَحبسه شيء بعد موته؟ فيا سبحان الله إن هذا لهو العجب العجاب، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] اللَّهُمَّ اهدينا فيمن هديت، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

(فَقَالَ) سبحانه وتعالى (يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ) قال السنديّ رحمه الله: ظاهره عموم المفعول، أي ما شئتَ، كما يُفيده حذف المفعول، والمقامُ، فيُشكل بأن عموم الوعد شمل الإحياء، وهو لا يُخلف المعياد، فكيف ما أحياه؟ ويمكن الجواب بأن خلاف الميعاد المعهود مستثنى من العموم، فإن الغاية من جملة المخصِّصات، كما ذكره أهلُ الأصول. انتهى (1)(قَالَ) أي عبد الله بن عَمرو رضي الله عنه (يَا رَبِّ تُحْيِينِي) أي أتمنّى أن تُحييني، قال السنديّ رحمه الله: هذا من وضع الإخبار موضع الإنشاء؛ لإظهار كمال الرغبة، وإلا فالمقام يقتضي أَحْيِني، أي أحيني في الدنيا، وإلا فالشهداء أحياء، وهو حيّ يتكلّم، فكيف يطلُبُ الإحياء؟ وهو تحصيل الحاصل. انتهى (2)(فَأُقْتَلُ) بالبناء للمفعول، قال

(1)"شرح السنديّ" 1/ 124.

(2)

"شرح السندي" 1/ 124.

ص: 99

السنديّ: وضبطه بعضهم بالنصب، وكأنه مبنيّ على أنه جواب الأمر معنى؛ لما ذكرنا. انتهى (فِيكَ) أي لأجل إعلاء كلمتك (ثَانِيَةً) أي مرّةً ثانيةً (فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (سَبَقَ مِنِّي) أي تقدّم فيما كتبته في الأزل (أَنَّهُمْ) بفتح الهمزة؛ لوقوعها موقع المصدر، كما قال في "الخلاصة":

وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ

مَسَدَّهَا وِفي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ

(إِلَيْهَا) أي إلى الدنيا (لَا يَرْجِعُونَ) بالبناء للفاعل، من الرجوع، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، أي لا يرجعهم الله تعالى (قَالَ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنه (يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ) من الإبلاغ (مَنْ) بفتح الميم: موصولة: أي الذين (وَرَائِي) أي يبقون أحياء بعد قتلي، أي أبلغهم حالنا، وما صِرْنا إليه ترغيبًا لهم في الجهاد (قَالَ) صلى الله عليه وسلم، أو جابر رضي الله عنه (فَأَنزَلَ الله تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ} قرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم بفتح السين، والباقون بكسرها، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ أحد (الَّذِينَ قُتِلُوا) قرأ ابن عامر بتشديد التاء، والباقون بتخفيفها (في سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا) أي كسائر الأموات (بَلْ أَحْيَاءٌ) أي بل هم أحياء (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي مقرّبون عنده، ذوو زُلْفَى {يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]) أي بمثل ما يُرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون، وهو تأكيد لكونهم أحياء، ووصفٌ لحالهم الّتي هم عليها، من التنعّم برزق الله تعالى، قاله النسفيّ رحمه الله (1).

والحاصل أن لهم خصوصيّة، وهي أنهم يُعْطَون أجسادًا متشكّلة بطيور خُضر تسرح في الجنَّة حيث شاءت، كما يأتي في الأحاديث الآتية.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" النافع -عند شرح هذه الآية: يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدَّار، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار حياةَ الشهداء. انتهى.

(1) راجع "تفسير النسفيّ" 1/ 194.

ص: 100

وقد جاءت أحاديث كثيرة في سبب نزول هذه الآية:

[فمنها]: هذا الحديث، وهو حديث حسنٌ، كما سيأتي، وأخرجه أيضًا أبو بكر بن مروديه، ولفظه:

حَدَّثَنَا عبد الله بن جعفر، ثنا هارون بن سليمان، أنبأنا علي بن عبد الله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بَشِير بن الْفَاكِه الأنصاريّ، سمعت طلحة بن خِرَاشٍ بن عبد الرّحمن بن خِرَاش بن الصِّمَة الأنصاري قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال:"يا جابر ما لي أراك مُهْتما؟ " قال: قلت: يا رسول الله استُشْهِد أبي، وتَرَك دينًا وعيالًا، قال: فقال: "ألَّا أخبرك؟ ما كَلَّم الله أحدًا قط إِلَّا من وراء حجاب، وإنه كلَّم أباك كِفَاحًا -قال علي: والكفاح المواجهة- "قال: سلني أعطك، قال: أسأَلُكَ أن أُرَدّ إلى الدنيا، فأُقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنّه قد سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون، قال: أي رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية [آل عمران: 169].

ثمّ رواه من طريق أخرى عن محمّد بن سليمان بن سَلِيط الأنصاري، عن أبيه، عن جابر به نحوه. ومحمد بن سليمان هذا قال العقيليّ، وابن منده: مجهول، انظر "لسان الميزان " 5/ 190، فالرواية ضعيفة، فتنبّه.

وكذا رواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق علي بن المديني به، وقد رواه البيهقي أيضًا من حديث أبي عُبَادة الأنصاري -وهو عيسى بن عبد الرّحمن إن شاء الله- (1) عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لجابر: "يا جابر ألا أبشرك؟ " قال: بلى بَشَّرَك الله بالخير، قال: "شَعَرْتَ بأن الله أحيا أباك، فقال: تَمَنَّ عليّ عبدي ما شئت أعطكه، قال: يا رب ما عبدتك حَقَّ عبادتك، أتمنى عليك أن تَرُدَّني إلى

(1) هكذا قال الحافظ ابن كثير رحمه الله، وعيسى هذا قال عنه في "التقريب": متروك، فالحديث ضعيف جدًّا، فتنبّه.

ص: 101

الدنيا، فأقاتل مع نبيك، وأقتل فيك مرّة أخرى، قال: إنّه سَلَفَ مني أنه إليها لا يرجع".

وأخرج الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن محمّد بن عَقِيل، عن جابر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعلمتَ أن الله أحيى أباك، فقال له: تَمَنَّ، فقال له: أُرَدُّ إلى الدنيا، فأقتل فيك مرّة أخرى، قال: إنِّي قضيت أنهم إليها لا يرجعون".

قال الحافظ ابن كثير: تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما أن أبا جابر قُتِل يوم أحد شهيدا.

وقال البخاريّ رحمه الله: وقال أبو الوليد عن شعبة، عن ابن المنكدر: سمعت جابرًا قال: لمّا قُتل أبي جعلت أبكي، وأكشف الثّوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تبكه -أو ما تبكيه- ما زالت الملائكة تُظله بأجنحتها حتّى رُفِعَ".

وقد أسنده هو ومسلم، والنَّسائيّ من طريق آخر عن شعبة، عن محمّد بن المكندر، عن جابر، قال: لمّا قُتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف الثّوب عن وجهه، وأبكي

وذكر تمامه بنحوه.

وقد جاء في سبب نزول الآية غير هذا، فقد أخرج الإمام محمّد بن جرير الطّبريّ في "تفسيره" بسنده عن إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل بئر معونة قال: لا أدري أربعين، أو سبعين، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أتوا غارًا مشرفًا على الماء، فقعدوا فيه، ثمّ قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؛ فقال -أُراه ابن ملحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ حتّى أتى حول بيتهم، فاختبأ أمام البيوت، ثمّ قال: يا أهل بئر معونة إنِّي رسول رسول الله إليكم، إنِّي أشهد أن لا إله إِلَّا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فآمِنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كِسَرِ البيت برمح فضربه في جنبه، حتّى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فُزْت وربِّ الكعبة، فاتَّبَعُوا أَثَرَه حتّى أتوا

ص: 102

أصحابه في الغار، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل.

وقال ابن إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا: "بَلِّغُوا عَنّا قومنا أنا قد لقينا رَبَّنَا، فرضي عنّا، ورضينا عنه"، ثمّ نُسِخت فرفعت بعدَ ما قرأناها زمانًا، وأنزل الله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وأخرج مسلم في "صحيحه": عن مسروق قال: إنا سألنا عبد الله عن هذه الآية؟: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، فقال: أَمَا إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرواحهم في جَوْف طير خُضْرٍ، لها قناديل مُعَلَّقة بالعرش، تَسْرَح من الجنَّة حيث شاءت، ثمّ تَأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلَعَ عليهم ربهم اطّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا، فقالوا: أيَّ شيء نشتهي، ونحن نَسْرَح من الجنَّة حيث شئنا، ففَعَلَ ذلك بهم ثلاث مرّات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا رب نريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا حتّى نُقتَل في سبيلك مرّة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا.

وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد.

وأخرج أحمد بسنده عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد، عن أبي الزُّبير المكي، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خُضْرٍ، تَرِدُ أنهار الجنَّة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وَجَدُوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مَقِيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يَزْهَدوا في الجهاد، ولا يَنكُلُوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أُبَلِّغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها.

قال ابن كثير: وهكذا رواه أحمد، ورواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وهب، عن إسماعيل بن عَيّاش، عن محمّد بن إسحاق به، ورواه أبو داود، والحاكم في "مستدركه"

ص: 103

من حديث عبد الله بن إدريس، عن محمّد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزُّبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، فذكره

قال ابن كثير: وهذا أثبت، وكذا رواه سفيان الثّوريّ، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس.

وروى الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: نزلت هذه الآية في حمزة، وأصحابه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ثمّ قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذا قال قتادة، والربيع، والضحاك: إنها نزلت في قتلى أحد.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يعقوب، حَدَّثَنَا أبي، عن ابن إسحاق، حَدَّثَنَا الحارث ابن فُضيل الأنصاري، عن محمود بن لَبِيد، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنَّة، فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنَّة بكرة وعشيًّا".

تفرد به أحمد، وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب، حَدَّثَنَا عبد الرحيم بن سليمان، وعبدة، عن محمّد بن إسحاق به.

قال ابن كثير رحمه الله: وهو إسناد جيد، وكأنّ الشهداء أقسام: منهم من تَسْرَح أرواحهم في الجنَّة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنَّة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويُغْدَى عليهم برزقهم هناك، ويراح، والله أعلم.

قال ابن كثير: وقد رَوَينا في "مسند الإمام أحمد" حديثًا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنَّة، تَسْرَح أيضًا فيها، وتأكل من ثمارها، وتَرَى ما فيها من النَّضْرَة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح، عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله

ص: 104

رواه عن محمّد بن إدريس الشّافعيّ رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله، عن الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَسَمَةُ المؤمن طائر يَعْلُقُ في شجر الجنَّة، حتّى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه".

وقوله: "يَعْلُق" أي يأكل.

وفي هذا الحديث: إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنَّة، وأما أرواح الشهداء، فكما تقدّم في حَوَاصل طير خُضْر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.

وقوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170] إلى آخر الآية أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم فَرِحون بما هم فيه من النعمة والْغِبْطَة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يُقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يَقْدَمون عليهم، وأنهم لا يخافون ممّا أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، نسأل الله الجنَّة.

وقال محمّد بن إسحاق: {وَيَسْتَبْشِرُونَ} أي ويُسَرُّون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الّذي أعطاهم، قال السُّدّي: يؤتي الشهيد بكتاب فيه يَقْدَم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيُسَرّ بذلك كما يسر أهل الدنيا بقدوم غيابهم. وقال سعيد ابن جبير: لما دخلوا الجنَّة، ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء.

قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شَهِدوا القتال باشروها بأنفسهم، حتّى يُسْتَشهَدوا، فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم، وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم -أي ربهم- أني قد أنزلت على نبيكم، وأخبرته بأمركم، وما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فذلك قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ

ص: 105

بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية.

وقد ثبت في "الصحيحين" عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتّى رُفع: أن بَلِّغوا قومنا أنا قد لَقِينا رَبَّنا وأرضانا.

ثمّ قال تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171] قال محمّد ابن إسحاق استَبْشَرُوا وسُرُّوا لمّا عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثّواب.

وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآيات جمعت المؤمنين كلهم، سواء الشهداء وغيرهم، وقَلَّما ذكر الله فضلًا ذَكَر به الأنبياءَ، وثوابًا أعطاهم الله إياه إِلَّا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم. انتهى منقولًا من تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى (1)، وهو بحث نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا حديث حسنٌ.

[فإن قلت]: قال البوصيريّ رحمه الله في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد ضعيفٌ، طلحة بن خِرَاش قال فيه الأزديّ: روى عن جابر مناكير، وذكره الذهبيّ في "الميزان"، وموسى بن إبراهيم قال فيه ابن حبّان في "الثقات": يُخطئ.

[أجيب]: بأن طلحة روى عنه ثلاثةٌ، وقال عنه النَّسائيّ: صالحٌ، ووثقه ابن حبّان، وابن عبد البرّ (2)، وقال عنه في "التقريب": صدوقٌ، فلا يؤثّر فيه قول الأزديّ،

(1) راجع "تفسير ابن كثير" 1/ 427 - 429.

(2)

راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 238 و"التقريب" ص 157.

ص: 106

بل هو نفسه متكلّم فيه، فتنبّه.

وأما موسى بن إبراهيم، فقد روى عنه جماعة من الثقات، منهم ابن المدينيّ، ودُحيم، ولم يتكلّم فيه أحدٌ، ولم يذكروه في الضعفاء، إِلَّا قول ابن حبّان: كان ممّن يُخطئ، ولم يبيّن ما أخطأ فيه، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، وأيضًا لحديثه هذا شاهد.

فقد قال: الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد أن أخرج الحديث: هذا حديث غريبٌ من حديث موسى بن إبراهيم، رواه عنه كبار أهل الحديث، وقد روى عبد الله بن محمّد عن جابر شيئًا من هذا. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية عبد الله بن محمّد بن عَقيل أخرجها الإمام أحمد في "مسنده"، وقد سبق أن سُقتها قريبًا، وعبد الله بن محمّد، وإن تُكلّم فيه من قبل حفظه، إِلَّا أنه لا بأس به في المتابعات والشواهد، فقد قوّاه البخاريُّ، فقال: مقارب الحديث، والترمذيّ، فقال: صدوق، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 190) بهذا السند، وأعاده في "كتاب الجهاد" رقم (2800)، وأخرجه (الترمذيّ) رقم (3010) و (الحميديّ) في "مسنده"(1265) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 361) و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1039) من طريق عبد الله بن محمّد بن عَقيل، عن جابر مختصرًا، وقد سبق لفظه قريبًا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قد تبيّن بما سبق من التخريج أن الحديث ليس من أفراد المصنّف لا سندًا، ولا متنًا، كما توهّمه البوصيريّ، فقد شاركه الترمذيّ فيه، فقال في "كتاب التفسير": حَدَّثَنَا يحيى بن حبيب بن عربيّ، حَدَّثَنَا موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري، ثمّ ساقه بسند المصنف، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو إثبات ما أنكرته الجهميّة من

ص: 107

صفات الله عز وجل، وهو كلام الله تعالى عباده كلامًا حقيقيًّا.

2 -

(ومنها): بيان فضل الصحابيّ الجليل أبي جابر عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، حيث خصّه الله تعالى بتكليمه كِفَاحًا من غير واسطة.

3 -

(ومنها): بيان فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل.

4 -

(ومنها): أن فيه تمنّي الخير، وطلبه مهما وَجَد الإنسان إليه سبيلًا.

5 -

(ومنها): أن فيه بيانَ أنه لا يرجع أحدٌ إلى الدنيا بعد الموت، فقد حكم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يرجعون.

6 -

(ومنها): بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة.

7 -

(ومنها): بيان ما عليه الشهداء عند ربّهم من النعيم المقيم، والعزّ المستديم، والفوز الدائم، والفرح القائم، اللَّهُمَّ اجعلنا منهم، وألحقنا بهم برحمتك يا أرحم الراحمين آمين.

(المسألة الرّابعة): هذا الحديث فيه إبطال المزاعم الّتي طمّت، وعمّت، وفتنت عوامّ النَّاس، سفهاء الأحلام، سخفاء العقول، من أن الوليّ الفلانيّ يخرج من قبره، ويتصرّف في الأمور الدنيويّة، ويُغيث أصحابه، فإن هذا من خُرَافاتهم الّتي ملكت عقولهم الضعفية، وخُزَعْبِلاتهم (1) الّتي استولت على خيالاتهم الفاسدة، فقد قال الربّ سبحانه وتعالى في هذا الحديث:"إنّه سبق منّي أنهم إليها لا يرجعون"، فلو كان أحد من الأولياء يرجع إلى الدنيا من قبره لكان أبو جابر الّذي هو من أكابر الأولياء بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك أحقّ أن يرجع حتّى يجاهد في سبيل الله تعالى، وكذلك سائر الشهداء كانوا أحقّ لذلك.

وأيضًا فقد صحّ أنه لا يتمنّى أحد له عند الله خير الرجوع إلى الدنيا إِلَّا الشهيد، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

(1)"الْخُزَعْبل" كقُذَعْمل: الباطل، كخُزَعْبِيل. اهـ "قاموس".

ص: 108

"ما من عبد يموت له عند الله خير يَسُرُّه أن يرجع إلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إِلَّا الشهيد، لِمَا يَرَى من فضل الشّهادة، فإنّه يسره أن يرجع إلى الدنيا، فَيُقْتَلَ مرّة أخرى"، وفي رواية:"ما أحدٌ يدخل الجنَّة يُحِبّ أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إِلَّا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة".

فلو كان ذلك ممكنًا لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ بذلك حينما اختلف الصّحابة رضي الله عنهم في أمر الخلافة، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة حتّى أنقذهم الله تعالى من الشقاق والخلاف على يدي أبي بكر رضي الله عنه، وحينما اعتُدي على الحسين سبطه صلى الله عليه وسلم في كربلاء، وحينما اعتدى أهل الشّام على أهل المدينة أيّام الحرّة، وغير ذلك ممّا جرى للصحابة رضي الله عنه عامّة ولأهل البيت رضي الله عنهم خاصّة.

وإنّما نبّهت على هذا لأنه شاع وذاع هذا الباطل، وراج بين العوامّ، بل وبين من ينسُب نفسه إلى العلم، وليس هو بعالم، وإنما علمه هواه، وليس له من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من سيرة السلف الصالح نصيب، فيقرّر هذه الخرافات في أذهان العوامّ، بل بعض أهل الضلال من متصوّفة المتأخّرين، يتبجّح بذلك بين مريديه، ويقول لهم: إن الوليّ يستطيع أن يُغيث مريده من مسيرة ألف سنة، ولا يمنعه دفنه في القبر، وأنا منهم، فلا حول ولا قوّة إِلَّا بالله، فقد بلغ الضلال من أهله هذا المبلغ، ولهذا ترى العوامّ يحسنون ظنهم بأصحاب القبور، فيطوفون بقبورهم، وينذُرون لهم، ويطلبون منهم ما شاءوا من حوائجهم؛ لأنهم يرونهم قادرين على ذلك، وهذا هو الشرك العظيم، وهذا هو الضلال، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} فإنّه لله وإنا إليه راجعون، اللَّهُمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، اللَّهُمَّ أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه آمين آمين آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 109

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

191 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الله يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، كِلَاهُمَا دَخَلَ الجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ الله فَيُسْتَشْهَدُ، ثُمَّ يَتُوبُ الله عَلَى قَاتِلِهِ فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ في سَبِيلِ الله فَيُسْتَشْهَدُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقة حافظ (10) 1/ 1.

2 -

(وَكِيعٌ) بن الجرّاح، أبو سفيان الرؤاسيّ الكوفيّ، ثقة حافظ عابد [9] 1/ 3.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، ثقة ثبت إمام [7] 5/ 41.

4 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، ثقة فقيه [5] 13/ 109.

5 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرّحمن بن هُرمز المدنيّ ثقة ثبت فقيه [3] 10/ 79.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنِّف.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأوّل مسلسل بثقات الكوفيين ونصفه الثّاني مسلسل بثقات المدنيين.

4 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، على ما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله (1).

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبي الزِّناد عن الأعرج.

(1) راجع "إسعاف ذوي الوطر" شرحي على "ألفية السيوطيّ في الحديث" 1/ 41 - 42.

ص: 110

6 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله سبحانه وتعالى (يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ) وفي رواية النَّسائيُّ من طريق ابن عيينة، عن أَبي الزِّناد:"إن الله عز وجل يَعْجَب من رجلين"(1).

قال الطيبيّ رحمه الله: عَدَّى "يَضحك" بـ "إلى" لتضمّنه معنى الانبساط والإقبال، مأخوذ من قولهم: ضَحِكتُ إلى فلان: إذا انبسطت إليه، وتوجّهت إليه بوجه طلق، وأنت راض عنه. انتهى (2).

قال الجامع عفا الله عنه: معنى الضحك هنا على ظاهره، كما هو مذهب السلف، وهو المذهب الحق، نُثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبته النصّ الصّحيح على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، لا نكيّف، ولا نعطّل، ولا نشبّه.

وأما ما ذكره النوويّ (3) في "شرح مسلم" نقلًا عن القاضي عياض من أن المراد بالضحك هنا استعارة في حق الله تعالى؛ لأنه لا يجوز عليه سبحانه وتعالى الضحك المعروف في حقنا؛ لأنه إنما يصح من الأجسام، وممن يَجُوز عليه تَغَيُّر الحالات، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك، وإنما المراد به الرضا بفعلهما، والثواب عليه، وحَمْدُ فعلهما ومحبته، وتلقي رُسُل الله لهما بذلك؛ لأن الضحك من أحدنا إنما يكون عند موافقته ما يرضاه، وسروره وبِرِّه لمن يلقاه، قال: ويحتمل أن يكون المراد هنا ضحك ملائكة الله تعالى الذين يوجههم لقبض

(1) ينبغي أن تراجع ما كتبته في شرح النَّسائيّ 26/ 265 - 266 في هذا الحديث ردًّا على السندي في تأييده تأويل العجب، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2636.

(3)

وكذا ما نقله في "الفتح" 6/ 48 عن الخطابيّ، وأيده غير صحيح، فلا تلتفت إليه.

والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 111

روحه، وإدخاله الجنَّة، كما يقال: قَتَلَ السلطان فلانًا: أي أمر بقتله. انتهى (1).

ففيه حقّ وباطلٌ، فأمّا قوله لا يجوز عليه سبحانه وتعالى الضحك المعروف في حقنا إلخ، فكلام حقٌّ، وأما دعواه الاستعارة فباطلٌ؛ لأن الاستعارة من المجاز، والمجاز لا يصار إليه إِلَّا عند تعذر الحقيقة، أو تعسّره، وهنا -بحمد الله- لم يتعذّر، ولم يتعسّر؛ لأن وصف الله تعالى بكونه يضحك ليس فيه تشبيه؛ لأن صفاته تعالى ليست كصفات المخلوق، فله الأسماء الحسنى، والصفات الْعُلَى، وهي فرع عن الذات، فكما نُثبت له الذات الّتي تليق بجلاله، نُثبت له الصفات على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.

والحاصل أن صفة الضحك ثابتة لله تعالى كسائر صفاته، من العلم والقدرة، والسمع والبصر، والرّحمة، والمحبة، والرضا، والغضب على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.

وكذا تأويله بأن المراد ضحك ملائكة الله غير صحيح؛ لما أسلفته، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، فإنّه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(يَقْتُلُ) بالبناء للفاعل، والفاعل، قوله:(أَحَدُهُمَا الْآخَرَ) وللنسائيّ: "أحدهما صاحبه"(كِلَاهُمَا دَخَلَ الجَنَّةَ) أفرد "دَخَل" مراعاة لإفراد لفظ "كلاهما"، ومراعاة لفظ "كلا"، و"كلتا" هو الأكثر في الاستعمال، وبه جاء القرآن نصّا في قوله عز وجل:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، ويجوز مراعاة معناهما، وقد اجتمعا في قول الشاعر يَصِفُ فرسين تسابقا [من البسيط]:

كِلَاهُمَا حِينَ جَدَّ السَّيْرُ بَيْنَهُما

قَدْ أَقْلَعَا وَكِلَا أَنْفَيْهِمَا رَابِي

فثنّى "أقلعا"، أي تركا الجري مراعاة للمعنى، وراعى اللّفظ في "رابي": بمعنى منتفِخ من التعب (2).

ولفظ البخاريّ من طريق مالك، عن أبي الزِّناد: "يضحك الله إلى رجلين، يقتُل

(1)"شرح صحيح مسلم" 13/ 36.

(2)

راجع "حاشية الخضري على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 51.

ص: 112

أحدهما الآخر، يدخلان الجنّة"، زاد في رواية مسلم من طريق همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "قالوا: كيف يا رسول الله؟ ".

(يُقَاتِلُ هَذَا في سَبِيلِ الله فَيُسْتَشْهَدُ) بالبناء للمفعول، أي يُقتل شهيدًا، زاد في رواية هَمّام:"فَيَلِجُ الجنَّة".

قال أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله: معنى هذا الحديث عند أهل العلم أن القاتل الأوّل كان كافرًا.

قال الحافظ رحمه الله: وهو الّذي استنبطه البخاريّ في ترجمته -يعني قوله: "باب الكافر يَقتُل المسلم، ثمّ يسلم إلخ"- ولكن لا مانع أن يكون مسلمًا؛ لعموم قوله: "ثمّ يتوب الله على القاتل"، كما لو قَتَلَ مسلم مسلمًا عمدًا بلا شبهة، ثمّ تاب القاتل، واستُشهِد في سبيل الله، وإنّما يَمْنَع دخول مثل هذا مَنْ يذهب إلى أن قاتل المسلم لا تقبل له توبة.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير تردّه رواية المصنّف: "ثُمَّ يَتُوبُ الله عَلَى قَاتِلِهِ، فَيُسْلِمُ"، وفي رواية همّام عند مسلم:"ثمّ يتوب الله على الآخر، فيَهْديه إلى الإسلام"، وأصرح من ذلك -كما قال الحافظ- ما أخرجه أحمد من طريق الزّهريُّ، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"قيل: كيف يا رسول الله؟ قال: يكون أحدهما كافرًا، فيَقْتُلُ الآخرَ، ثمّ يُسْلِم فيغزو، فيقْتَلُ".

(ثُمَّ يَتُوبُ الله عَلَى قَاتِلِهِ) أي قاتل هذا المسلم (فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ في سَبِيلِ الله فَيُسْتَشْهَدُ) ولفظ هَمّام: "فيهديه إلى الإسلام، ثمّ يجاهد في سبيل الله، فيُسْتَشهد"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

ص: 113

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنِّف) هنا (35/ 191) بهذا السند فقط، وأخرجه (مالك) في "الموطإ"(285) و (الحميديّ) في "مسنده"(1122) و (أحمد) في "مسنده"(2/ 244 و 264) و (البخاريّ)(4/ 28) و (مسلم)(6/ 40) و (النَّسائيّ)(6/ 38) وفي "الكبرى"(33/ 4373 و 34/ 4374) و (الآجريّ) في "الشّريعة"(277 و 278) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4666) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 165) وفي "الأسماء والصفات"(467 و 468 و 469) و (البغويّ) في "شرح السنة"(2632)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجمهيّة من صفات الله تعالى، وهو صفة الضحك، فقد أثبتها النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصّحيح المتّفق عليه، فهي ثابتة له على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وقد أسلفت آنفا أنه لا يجوز تأويلها بالرضا، فإن الرضا صفة ثابتة له، بالنصوص أيضًا، ولا داعي لتأويلها، وأن التشبيه الّذي زعموه في إثباتها غير وارد أصلًا، لأنه إنّما يأتي لو قلنا ضحك كضحكنا، وهذا لا يعنيه عاقلٌ، فضلًا عن السلف الصالح، أهل العلم والفضل والفهم عن الله تعالى المميزين بين صفات الخالق والمخلوقين، فاسلك سبيلهم، تغنم وتسلم، ولا تقلّد آراء المتأخرين تهلك وتندم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

2 -

(ومنها): بيان فضل الله سبحانه وتعالى، وسعة رحمته، حيث يجعل كلّا من المتقاتلين من أهل الجنَّة، مع أن الكافر قَتَل مسلمًا ظلمًا وعُدوانًا، وجَحْدًا لنعمه تعالى، لكنه بواسع فضله، وسعة رحمته تفضّل عليه بالتوبة، وهداه للإسلام، والقتال في سبيله، حتّى استُشهد، فدخل الجنَّة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].

ص: 114

3 -

(ومنها): أن المتقاتلين ظلمًا إذا وُفّقا للتوبة يكونان متآخيين متصافيين متحابيّن في الجنَّة، كما قال عز وجل:{وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} الآية [الأعراف: 43]، وقال {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].

4 -

(ومنها): أن كلّ من قُتِل في سبيل الله فهو في الجنَّة، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى.

5 -

(ومنها): أن العبرة بالخواتيم، فلو عمل العبد دهرًا من عمره أنواع الكبائر كلها، ثمّ وفّقه الله في آخر حياته للتوبة، والعمل الصالح، مُحيت عنه ذنوبه كلها، وصار من أهل الجنَّة، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

192 -

(حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَقْبِضُ الله الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن عبد الله بن حَرْملة بن عِمران، أبو حفص التُّجيبيّ المصريّ، صاحب الشّافعيّ، صدوق [11].

رَوَى عن ابن وهب فأكثر، وعن الشّافعيّ ولازمه، وأيوب بن سُويد الرملي، وبشر بن بكر، وأبي صالح عبد الغفار بن داود الحراني، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وابن ماجه، وروى له النَّسائيُّ بواسطة أحمد بن الهيثم

ص: 115

الطرسوسي، وأبو دُجَانة أحمد بن إبراهيم المصري، وحفيده أحمد بن طاهر بن حرملة، وأبو عبد الرّحمن أحمد بن عثمان النَّسائيُّ الكبير، رفيق أبي حاتم في الرحلة، وغيرهم.

قال: أبو حاتم: يُكْتَب حديثه ولا يحتج به. وقال الدُّوريّ عن يحيى: شيخ لمصر، يقال له: حرملة كان أعلم النَّاس بابن وهب. وقال: ابن عدي: سألت عبد الله بن محمّد ابن إبراهيم الْفَرْهَاذاني أن يملي عليّ شيئًا من حديث حرملة، فقال: يا بُنَيّ ما تصنع بحرملة؟ ضعيفٌ. وقال: أحمد بن صالح: صَنّفَ ابن وهب مائة ألف حديث وعشرين ألف حديث، عند بعض النَّاس النّصف -يعني نفسه- وعند بعض النَّاس منها الكل -يعني حرملة- قال: ابن عدي: وقد تبحرتُ حديث حرملة، وفتشته الكثير فلم أجد فيه ما يجب أن يُضعَّف من أجله، ورجل يكون حديث ابن وهب كله عنده، فليس ببعيد أن يُغْرِب على غيره كُتُبًا ونُسَخًا، وأما حمل أحمد بن صالح عليه، فإن أحمد سَمِعَ في كتب حرملة من ابن وهب، فأعطاه نصف سماعه، ومنعه النّصف، فتَوَلَّدَ بينهما العداوةُ من هذا، وكان من يبدأ بحرملة إذا دخل مصر لم يحدثه أحمد بن صالح، وما رأينا أحدًا جمع بينهما.

كذا قاله، وقد جمع بينهما أحمد بن رِشْدِين شيخ الطَّبرانيُّ، لكن يُحْمَلُ قول ابن عدي على الغرباء، مات حرملة سنة (244) كذا قال.

وقال: ابن يونس: وُلِد سنة (166)، وتُوُفّي لتسع بقين من شوال سنة (43) قال: وكان من أملى النَّاس بما رَوَى ابنُ وهب، ونقل أبو عمر الْكِنْديّ أن سبب كثرة سماعه من ابن وهب أن ابن وهب استَخْفَى عندهم لمّا طُلِب للقضاء. قال: ونظر إليه أشهب فقال: هذا خير أهل المسجد. وقال: الْعُقَيليّ: كان أعلم النَّاس بابن وهب، وهو ثقة -إن شاء الله تعالى- وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال: أبو عبد الله الْبُوشنْجِي: سمعت عبد العزيز بن عمران المصري يقول: لَقِيتُ حرملة بعد موت الشّافعيّ، فقلت له: أخرج إليّ فِهْرِسْتَ كتب الشّافعيّ، قال: فأخرجه إليّ، فقلت: ما سمعتم من هذه الكتب؟ قال: فسَمَّى لي سبعة كتب أو ثمانية، فقال: هذا كلُّ شيء عندنا عن الشّافعيّ عَرْضًا وسماعًا.

ص: 116

قال أبو عبد الله البوشنجي: فَرَوَى عنه الكتب كلها سبعين كتابًا أو أكثر، وزاد أيضًا ما لم يصنفه الشّافعيّ، وذاك أنه رَوَى عنه فيما أَخْبَرَنَا بعض أصحابنا كتاب الفرق بين السحر والنبوة، وأنه قيل له في ذلك، فقال: هذا تصنيف حفص الفرد، وقد عرضته على الشّافعيّ فَرَضِيَهُ.

وله في هذا الكتاب (50) حديثًا.

2 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن موسى بن مَيْسَرة بن حَفْص بن حَيّان الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10].

رَوَى عن ابن عيينة، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وأبي ضَمْرة، والشّافعيّ، وأشهب، وأيوب بن سُويد الرملي، ومَعْن بن عيسى القزاز، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، والنَّسائيّ، وابن ماجه، وابنه أحمد بن يونس، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو زُرْعة، وأبو حاتم، وأبو بكر بن خزيمة، وأبو محمّد بن أبي حاتم، وأبو عوانة الإسفرائيني، وأبو جعفر الطحاوي، وآخرون.

قال أبو حاتم: سمعت أبا الطّاهر ابنَ السَّرْح يَحُثُّ عليه، ويُعَظِّم شأنه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يوثقه، ويرفع من شأنه. وقال النَّسائيُّ: ثقة. وقال علي بن الحسن ابن قُديد: كان يحفظ الحديث. وقال الطحاوي: كان ذا عقل، حدثني علي بن عَمْرو بن خالد الحراني، سمعت أبي يقول: قال لي الشّافعيّ: يا أبا الحسن انظر إلى هذا الباب، فنظرت إليه، فقال ما يدخل منه أحد أعقل من يونس بن عبد الأعلى. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات".

قال الحافظ: وكان إمامًا في القراءات، قرأ على وَرْشٍ وغيره وقرأ عليه ابن جرير الطّبريّ وجماعة. وقال أبو عمر الْكِنْديّ: كان فقيرًا شديد التّقشُّف، مقبولا عند القضاة.

قال يحيى بن حسان: يونسكم هذا من أركان الإسلام. قال أبو عمر: كان يُسْتَسْقَى بدعائه. وقال مسلمة بن قاسم: كان حافظًا.

ص: 117

وقد أنكروا عليه تفرده بروايته عن الشّافعيّ حديث: "لا مَهْدِيّ إِلَّا عيسى"، أخرجه ابن ماجه عنه، وكذا الذهبيّ يَدَّعِي أن يونس دَلَّسَه، ويستند في ذلك أن أبا الطاهر رواه عن يونس، فقال: حُدِّثتُ عن الشّافعيّ، لكن رواه ابن منده في "فوائده" من طريق الحسن بن يوسف الطرائفي، وأبي الطّاهر المذكور كلاهما عن يونس: أنا الشّافعيّ ورواه يوسف الميانجي عن ابن خزيمة، وابن أبي حاتم، وزكرياء الساجي، وغير واحد، عن يونس: ثنا الشّافعيّ.

وذكر حفيده عبد الرّحمن بن أحمد بن يونس أن دَعْوَتهم في الصَّدِف، وليسوا من أنفسهم ولا مواليهم، قد تُوُفِّي غداة الاثنين ليومين مَضَيَا من ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، وكان مولده في ذي الحجة سنة سبعين ومائة.

تفرد به المصنّف، ومسلم، والنَّسائيّ، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

3 -

(عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمّد المصريّ الفقيه، ثقة حافظ عابدٌ [9].

رَوَى عن عمرو بن الحارث، وابن هاني، وحسين بن عبد الله الْمُعَافري، وبكر بن مضر، وحَيْوَة بن شُرَيح، وسعيد بن أبي أَيّوب، والليث بن سعد، وابن لهيعة، وعياض ابن عبد الله الْفِهْريّ، وعبد الرّحمن بن شُريح، وغيرهم من أهل مصر، وعن مالك، وسليمان بن بلال، ويونس بن يزيد، وسلمة بن وَرْدان، وجماعة.

ورَوَى عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الرّحمن بن وهب، والليث بن سعد شيخه، وعبد الرّحمن بن مهدي، وعبد الله بن يوسف التنيسي، وأحمد بن صالح المصري، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وعلي بن المديني، وسعيد بن أبي مريم، ويحيى بن بكير، وإبراهيم بن المنذر، وأصبغ بن الفَرَج، وحرملة بن يحيى، وقُتَيْبَةُ، وجماعة، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان المراديّ، وآخرون.

قال الميموني عن أحمد: كان ابن وهب له عقل ودين وصلاح. وقال أبو طالب عن أحمد: صحيح الحديث، يَفْصِلُ السماع من الْعَرْض، والحديثَ من الحديث، ما

ص: 118

أصح حديثه وأثبته، قيل له: إنّه كان يُسيئ الأخذ، قال: قد كان، ولكن إذا نظرتَ في حديثه، وما روى عن مشايخه وجدته صحيحًا.

وقال أحمد بن صالح: حدث ابن وهب بمائة ألف حديث. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: سمعت ابن بُكير يقول: ابن وهب أفقه من ابن القاسم. وقال علي بن الحسين بن الجنيد: سمعت أبا مُصْعَب يُعَظِّم ابن وهب، قال: ومسائل ابن وهب عن مالك صحيحة.

وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: صالح الحديث، صدوقٌ أحب إليّ من الوليد بن مسلم، وأصح حديثًا منه بكثير. وقال هارون بن عبد الله الزهريّ: كان النَّاس بالمدينة يختلفون في الشيء عن مالك، فينتظرون قدوم ابن وهب حتّى يسألوه عنه. وقال الحارث بن مسكين: شهدت ابن عيينة يقول: هذا عبد الله ابن وهب شيخ أهل مصر. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: نظرت في نحو ثلاثين ألفًا من حديث ابن وهب بمصر وغير مصر، لا أعلم أني رأيت له حديثًا لا أصل له، وهو ثقة. وقال أبو حاتم بن حبّان: جمع ابن وهب وصَنَّف، وهو حَفِظَ على أهل الحجاز ومصر حديثهم، وعُنِي بجميع ما رووا من المسانيد والمقاطيع، وكان من الْعُبّاد. وقال ابن عدي: وابنُ وهب من أجلة النَّاس وثقاتهم، وحديث الحجاز ومصر يدور على رواية ابن وهب، وجَمع لهم مسندهم ومقطوعهم، وقد تفرّد عن غير شيخ بالرواية، من الثقات والضعفاء، ولا أعلم له حديثًا منكرًا إذا حدث عنه ثقةٌ من الثقات. وقال يونس بن عبد الأعلى: عُرِضَ على ابن وهب القضاءُ، فجَنَّن نفسه، ولزم بيته.

وقال أبو الطّاهر ابن السرح لم يزل ابن وهب يسمع من مالك من سنة (48) إلى أن مات مالك. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، و"موطؤه" يزيد على كلّ مَنْ رَوَى عن مالك.

وقال حاتم بن اللَّيث الجوهري عن خالد بن خِدَاش: قُرئ على ابن وهب "كتاب أهوال يوم القيامة" -يعني من تصنيفه- فَخَرّ مَغْشيًّا عليه، فلم يتكلم بكلمة

ص: 119

حتّى مات بعد أيّام، قال: فَنَرَى -والله أعلم- أنه انصدع قلبه، فمات بمصر سنة سبع وتسعين ومائة. وقال ابن يونس: حدثني أبي عن جدي، قال: سمعت ابن وهب يقول: وُلِدتُ سنة (125)، وطَلَبتُ العلم وأنا ابن (17) سنة. وقال ابن يونس: وتُوُفّي يوم الأحد لأربع بقين من شعبان.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب من الأحاديث (104).

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد، ويقال: ابن مُشكان بن أبي النِّجَاد الأيليّ -بفتح الهمزة، وسكون التحتيّة، بعدها لام- أبو يزيد، مولى معاوية بن أبي سفيان، ثقة ثبتٌ، من كبار [7].

رَوَى عن أخيه، أبي عليّ بن يزيد، والزهريّ، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، وعُمارة بن غَزِيّة، وعكرمة، وغيرهم.

ورَوَى عنه عَمرو بن الحارث، ومات قبله، وابن أخيه عنبسة بن خالد بن يزيد الأيليّ، والليث، والأوزاعيّ، وسليمان بن بلال، وابن المبارك، وابن وهب، وبقية بن الوليد، وحسان بن إبراهيم الكرماني، وعبد الله بن رَجَاء المكي، وأبو صفوان عبد الله ابن سعيد الأموي، وعبد الله بن عُمَر النُّمَيري، وعثمان بن عمر بن فارس، وآخرون.

قال ابن المديني، وابن مهدي: كان ابن المبارك يقول: كتابه صحيح، قال ابن مهدي: وكذا أقول. وقال عبدان عن ابن المبارك: إنِّي إذ انظرت في حديث معمر ويونس يعجبني كأنهما خرجا من مشكاة واحدة. وقال عبد الرزّاق عن ابن المبارك: ما رأيت أحدًا أروى للزهري من معمر إِلَّا أن يونس أحفظ للمسند، وفي رواية إِلَّا يونس، فإنّه كتب على الوجه. وقال محمّد بن عوف عن أحمد: قال وكيع: رأيت يونس ابن يزيد الأيلي، وكان سيء الحفظ. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: ما أعلم أحدًا أحفظ بحديث الزّهريُّ من معمر إِلَّا ما كان من يونس فإنّه كتب كلّ شيء هناك. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: في حديث يونس عن الزّهريُّ منكرات، منها عن سالم عن أبيه، "فيما سَقَت السَّماء العشر"، وقال الميموني:

ص: 120

سئل أحمد من أثبت في الزّهريّ؟ قال: معمر، قيل: فيونس؟ قال: رَوَى أحاديث منكرة. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: أثبت النَّاس في الزّهريّ مالك ومعمر ويونس وعُقيل وشعيب وابن عيينة.

وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: يونس أحب إليك أو عقيل؟ قال: يونس ثقة، وعقيل ثقة قليل الحديث عن الزّهريّ، قلت: أين يقع الأوزاعي من يونس؟ قال: يونس أسند عن الزّهريّ. وقال يعقوب بن شيبة عن أحمد بن العباس: قلت لابن معين: معمر أو يونس؟ قال: يونس أسندهما، وهما ثقتان جميعًا، وكان معمر أحلى.

وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: يونس ومعمر عالمان بالزهري. وقال أحمد بن صالح: نحن لا نُقَدِّم في الزّهريّ على يونس أحدًا، قال: وكان الزّهريُّ إذا قَدِمَ أَيْلَةَ نزل عليه، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن يونس: كان من موالي بنى أمية.

قيل: تُوُفِّي بصعيد مصر سنة تسع وخمسين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (45) حديثًا.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمّد بن مسلم، أبو بكر الزهريّ الإمام الحجة الفقيه الحافظ المتفق على جلالته وإمامته، وإتقانه، من رءوس [4] 2/ 15.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3] 12/ 104.

7 -

(أبو هُرَيْرَةَ) المذكور في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح.

3 -

(ومنها): أن نصفة الأوّل مسلسلٌ بثقات المصريين، ونصفه الثّاني مسلسل بثقات المدنيين.

4 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه على ما ذكره الحافظ أبو

ص: 121

عبد الله الحاكم في كتابه "معرفة علوم الحديث" ص (55).

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن ابن المسيّب.

6 -

(ومنها): أن سعيدًا من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة.

7 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه، كما بيَّنَّاه في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ، أنه قال:(حَدَّثَني سَعِيدُ بْنُ المسَيَّبِ) هكذا في هذه الرِّواية صرّح الزهريّ بأن سعيدًا حدّثه، فشيخه هو ابن المسيّب.

[تنبيه]: (اعلم): أنه اختُلف في هذا الإسناد على ابن شهاب في شيخة، فقال يونس: عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة له، وخالفه في ذلك شعيب بن أبي حمزة، ومحمد بن الوليد الزُّبَيدي (1)، وعبد الرّحمن بن خالد بن مسافر الفهميّ، وإسحاق بن يحيى، فقالوا: عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فأمّا رواية شعيب بن أبي حمزة، فقد وصلها الدارمي، قال: حَدَّثَنَا الحكم بن نافع -وهو أبو اليمان- فذكره، وفيه: سمعت أبا سلمة يقول: قال: أبو هريرة، وكذا أخرجه ابن خُزيمة في "كتاب التّوحيد" عن محمّد بن يحيى الذُّهْلي، عن أبي اليمان.

وأما رواية الزُّبَيْدي، فوصلها ابن خزيمة أيضًا من طريق عبد الله بن سالم عنه، عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وأما طريق عبد الرّحمن بن خالد بن مسافر فوصلها البخاريّ في "تفسير سورة الزُّمَر" من طريق اللَّيث بن سعد عنه كذلك.

وأما رواية إسحاق بن يحيى، فوصلها الذُّهْلي في "الزهريات".

قال الإسماعيلي وافق الجماعةَ عبيدُ الله بنُ زياد الرُّصَافي في أبي سلمة.

(1) بضم الزاي، بعدها موحدة.

ص: 122

قال الحافظ: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الصَّدَفيّ، عن الزّهريّ كذلك، ونَقَل ابن خزيمة عن محمّد بن يحيى الذُّهْلي أن الطريقين محفوظان. انتهى.

قال: وصنيع البخاريّ يقتضي ذلك، وإن كان الّذي تقتضيه القواعد ترجيحَ رواية شعيب؛ لكثرة من تابعه، لكن يونس كان من خَوَاصِّ الزّهريّ الملازمين له.

انتهى ملخّصًا من "الفتح"(1)، وهو تحقيق نفيسٌ. والله تعالى أعلم.

(أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسْولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَقْبِضُ) بكسر الموحّدة، من باب ضرب (الله الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ) قال القاضي عياض: هذا الحديث جاء في "الصّحيح" على ثلاثة ألفاظ: القبض، والطيّ، والأخذ، وكلّها بمعنى الجمع، فإن السماوات مبسوطة، والأرض مَدْحُوّةٌ ممدودة، ثمّ رجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة والتبديل، فعاد ذلك إلى ضمّ بعضها إلى بعض وإبادتها، فهو تمثيل لصفة قبض هذه المخلوقات، وجمعها بعد بسطها، وتفرّقها دلالةً على المقبوض والمبسوط، لا على البسط والقبض، وقد يحتمل أن يكون إشارةً إلى الاستيعاب انتهى.

وقال السنديّ رحمه الله: هذا الحديث كالتفسير لقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، والمقصود بيان عظمته تعالى، وحقارة الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأوهام بالإضافة إلى كمال قدرته، وهذا المقصود حاصلٌ بهذا الكلام، وإن لم يُعرف كيفيّة القبض، وحقيقة اليمين، فالبحث عنهما خارجٌ عن القدر المقصود إفهامه، فلا ينبغي. انتهى (2).

(ثُمَّ يَقولُ: أَنَا الْملِكُ) قال البيهقي رحمه الله: الملك، والمالك: هو الخاصّ الملكِ، ومعناه في حقّ الله تعالى القادر على الإيجاد، وهي صفة يستحقها لذاته. وقال الراغب: الملك التصف بالأمر والنهي، وذلك يختص بالناطقه، ولهذا قال:{مَلِكِ النَّاسِ}

(1)"الفتح" 13/ 449.

(2)

"شرح السندي" 1/ 125.

ص: 123

[النَّاس: 2]، ولم يقل: مَلِكُ الأشياء، قال: وأما قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، فتقديره: الملك في يوم الدين؛ لقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] انتهى.

ويحتمل أن يكون خص النَّاس بالذكر في قوله تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ} ؛ لأن المخلوقات جمادٌ ونَامٍ، والنامي صامتٌ وناطقٌ، والناطق متكلم وغير متكلم، فأشرف الجميع المتكلم، وهم ثلاثة: الإنس والجن والملائكة، وكل مَنْ عداهم جائز دخوله تحت قبضتهم وتصرفهم، وإذا كان المراد بالناس في الآية المتكلم، فمن ملكوه في ملك من ملكهم، فكان في حكم ما لو قال: ملك كلّ شيء، مع التنويه بذكر الأشرف، وهو المتكلم. قاله في "الفتح"(1).

(أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْص؟) يقوله تعالى هذا إذلالًا لهم، وإظهارًا لعظمته سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 192) بهذا السند فقط، وأخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 374) و (البخاريُّ)(8/ 135 و 9/ 142) و (مسلم)(8/ 126) وأخرجه أيضًا الدارميّ في "سننه"(2802) و (البخاريّ)(6/ 158) من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو إثبات ما أنكرته الجهميّة

(1)"الفتح" 13/ 448 - 449.

ص: 124

من الصفات، وهو صفة القبض، والطيّ، واليمين، والكلام، حيث يقول الله عز وجل:"أنا الملك أين ملوك الأرض؟ "، وكلّها صفات ثابتة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، بل نثبتها له كما أثبتها هذا الحديث الصّحيح المتّفق عليه، ولا نعطّل، ولا نمثّل، ولا نكيّف، ولا نؤول.

2 -

(ومنها): بيان عظمة الله تعالى، وأنه المتفرّد بالملك، وأن الخلائق كلهم يفنون.

[تنبيه]: ذكر في "الفتح" عن ابن أبي حاتم رحمه الله أنه قال في "كتاب الرَّدِّ على الجهمية": وجدت في كتاب أبي عمر نُعيم بن حماد، قال: يقال للجهمية: أخبرونا عن قول الله تعالى بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ، فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم، أفهذا مخلوق. انتهى.

وأشار بذلك إلى الرَّدِّ على من زعم أن الله يخلُق كلامًا، فيسمعه من شاء بأن الوقت الّذي يقول فيه:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} لا يبقى حينئذ مخلوق حيًّا، فيجيب نفسه، فيقول:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، فثبت أنه يتكلم بذلك، وكلامه صفة من صفات ذاته مخلوق.

وعن أحمد بن سَلَمة، عن إسحاق بن راهويه قال: صَحّ أن الله يقول بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ، فلا يجيبه أحد، فيقول لنفسه:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .

قال: ووجدت في كتاب عند أبي، عن هشام بن عبيد الله الرَّازيُّ قال: إذا مات الخلق، ولم يبق إِلَّا الله، وقال:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ، فلا يجيبه أحدٌ، فيرد على نفسه، فيقول:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، قال: فلا يشكّ أحدٌ أن هذا كلام الله، وليس بوحي إلى أحد؛ لأنه لم تَبْقَ نفس فيها روح إِلَّا وقد ذاقت الموت، والله هو القائل، وهو المجيب لنفسه.

وفي حديث الصور الطَّويل: "فإذا لم يبق إِلَّا الله كان آخرًا كما كان أوَّلًا، طَوَى السَّماء والأرض، ثمّ دحاها، ثمّ تلقفهما، ثمّ قال: أنا الجبار ثلاثًا، ثمّ قال: {لِمَنِ

ص: 125

الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثلاثًا، ثمّ قال لنفسه:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (1).

وقال الإمام ابن جرير الطّبريّ رحمه الله في قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، يعني يقول الله:{لِمَنِ الْمُلْكُ} ، فترك ذكر ذلك استغناءً لدلالة الكلام عليه، قال: وقوله: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ذكر أن الرب جل جلاله هو القائل ذلك مجيبًا لنفسه (2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

193 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا الْوَليدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ الهَمْدَانِيُّ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمِيرَةَ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ، قَالَ: كُنْتُ بِالْبَطْحَاءِ في عِصَابَةٍ، وَفِيهِمْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: "مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ قَالُوا: السَّحَابُ، قَالَ: "وَالمُزْنُ"، قَالُوا: وَالْمُزْنُ، قَالَ: "وَالْعَنَانُ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالُوا: وَالْعَنَانُ، قَالَ: "كَمْ ترَوْنَ بَيْنكُمْ وَبَيْنَ السَّماءِ؟ " قَالُوا: لَا نَدْرِي، قَالَ: "فَإِنَّ بَيْنكُمْ وَبَيْنَهَا إِمَّا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَالسَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ"، حَتَى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْ عَالٍ، بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ كَمَا بَيْنَ سَمَاء إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ، بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَماءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ الله فَوْقَ ذَلِكَ تبارك وتعالى").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيىَ) الذّهْليّ النيسابوريّ، ثقة ثبت حافظ جليل [11] 2/ 16.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح) الدُّولابي، أبو جعفر البغداديّ، البزّاز، مولى مُزَينة،

(1) راجع "الفتح" 13/ 450.

(2)

راجع "تفسير ابن جرير" 21/ 366.

ص: 126

صاحب "السنن"، ثقة حافظ [10].

رَوَى عن حفص بن غياث، والفضل بن موسى السِّيناني، وإسماعيل بن جعفر، وإسماعيل بن زكريا، وإبراهيم بن سعد، ويوسف بن يعقوب الماجشون، والوليد بن مسلم، وهشيم، وابن المبارك، وابن عيينة، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وروى الباقون عن البخاريّ، والحسن ابن محمّد الزعفراني، وداود بن سليمان الدقاق، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، ومحمد ابن يحيى بن كثير الحراني، والذهلي، وعبد الملك بن عبد الحميد الميموني عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان، وأبو زرعة الدمشقي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم.

قال القاسم بن نصر المُخَرِّمي: سألت أحمد بن حنبل عن محمّد الدولابي، فقال: شيخنا ثقة. وقال ابن معين: ثقة مأمون. وقال العجاب: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صاحب حديث، وقال في موضع آخر: كان ثقةً عالمًا بهشيم. وقال أبو حاتم: ثقة ممّن يحتج بحديثه، وكان أحمد يعظمه. وقال تمتام: حَدَّثَنَا محمّد الدولابي الثقة المأمون والله.

وقال ابن عدي: شيخ سُنّي من الصالحين. وقال مسلمة في "الصلة": ثقة مشهور.

وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: وُلد بالري بقرية يقال لها دُولاب. وقال ابنه: مات أبي وهو ابن (77) سنة. وقال ابن سعد: مات في آخر المحرم سنة سبع وعشرين ومائتين، وفيها أَرَّخه ابن حبّان، لكن قال: لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم.

وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاريّ (12) حديثًا، ومسلم (20).

وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(الْوَليدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ الْهَمْدَانِيُّ) هو الوليد بن عبد الله بن أبي ثور المُرْهِبِيّ الكوفيّ، نُسب لجدّه، ضعيف [8].

رَوَى عن عبد الملك بن عُمير، وسماك بن حرب، وزياد بن عِلاقة، والسُّدّي،

ص: 127

ومحمد بن سُوقة، وغيرهم.

ورَوَى عنه يونس بن محمّد المؤدب، ومحمد بن بكار بن الريان، ومحمد الدُّولابي، وعباد بن يعقوب الرَّوَاجِنِي، وجُبَارة بن المُغَلِّس، ولُوَين، وغيرهم.

قال أبو داود: قال أحمد: ما لي به ذاك الْخُبْر، كان شيخًا قَدِم هنا، كان ابن الصبّاح يحدث عنه. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء. وقال محمّد بن عبد الله بن نمير: كذّاب. وقال سعيد الْبَرْذعيّ عن أبي زرعة: منكر الحديث يَهِمُ كثيرًا. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: في حديثه وَهَاءٌ، وعن أبيه: شيخ يُكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال يعقوب بن سفيان، والنَّسائيّ، وصالح بن محمّد: ضعيف. وقال صالح بن محمّد في موضع آخر: سألنا محمّد بن الصبّاح عنه، فقال: جاء إلى هُشيم فأكرمه، فكتبنا عنه. وقال يعقوب الدّوْرقي عن الوليد بن صالح: سألت شريكًا عنه فزكاه. وقال الْعُقيليّ: يحدّث عن سماك بمناكير، لا يتابع عليها.

وقال ابن قانع: مات سنة اثنتين وسبعين ومائة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(سِمَاك (1)) بن حرب بن أوس بن خالد الذُّهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربة، وتغيّر بآخره، وربّما تلقّن [4] 4/ 30.

5 -

(عَبْدُ الله بْنُ عَمِيرَةَ) -بفتح أوله، وكسر ثانيه- الكوفيّ مجهول (2)[2].

قال في "التهذيب": رَوَى عن الأحنف بن قيس، عن العباس حديث الأَوْعَال -يعني هذا الحديث- وعنه سماك بن حرب، وفيه عن سماك اختلاف، قال البخاريّ: لا يُعلَم له سماع من الأحنف. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وحَسَّن التّرمذيّ حديثه.

(1) بكسر السين المهملة، وتخفيف الميم.

(2)

قال عنه في "التقريب": مقبول، والظاهر أنه مجهول، كما يظهر من ترجمته، فتبصّر.

ص: 128

وقال أبو نعيم في "معرفة الصّحابة": أدرك الجاهلية، وكان قائد الأعشى، لا تصح له صُحْبةٌ، ولا رؤية، ذكره بعض المتأخرين -يعني ابن منده-. وقال مسلم في "الوُحْدان": تفرد سماك بالراوية عنه. وقال إبراهيم الحربيّ: لا أعرفه. وقال ابن ماكولا: روى عن جرير وغيره.

أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف هذا الحديث فقط.

6 -

(الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ) بن معاوية بن حِصْن التميميّ السعديّ، أبو بَحْر البصريّ، اسمه الضحّاك، وقيل: صخر، وقيل: الحارث، والأحنف لقبٌ، أدرك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُسْلِم، ويُروَى بسند لين أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعا له، مخضرم ثقة [2].

رَوَى عن عمر، وعلي، وعثمان، وسعد، وابن مسعود، وأبي ذرّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه الحسن البصري، وأبو العلاء بن الشِّخِّير، وطلق بن حبيب، وغيرهم.

قال الحسن: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف، ومناقبه كثيرة، وحلمه يُضْرَب به المثل. وذكره محمّد بن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، قال: وكان ثقةً مأمونًا قليل الحديث. وذكر الحاكم أنه الّذي افتتح مَرْوَ الرُّوذ. وقال مُصْعَب بن الزُّبير يوم موته: ذهب اليوم الحزم والرأي. قيل: مات سنة (67)، وقيل: سنة (72). وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال أحمد في "الزهد": حَدَّثَنَا أبو عبيدة الحداد، ثنا عبد الملك ابن مَعْن، عن خير بن حَبِيب أن الأحنف بَلَّغَه رجلان دعاءَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فسجد. ومن طريق الحسن عن الأحنف قال: لست بحليم، ولكني أتحالم.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (193) وحديث (689)"لا تزال أُمَّتي على الفطرة ما لم يؤخّروا المغرب".

7 -

(الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المطَّلِبِ) بن هاشم، عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم-رضي الله عنه 21/ 140، والله تعالى أعلم.

ص: 129

شرح الحديث:

(عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كنْتُ بِالْبَطْحَاءِ) قال ابن الأثير: البطحاء: الحصى الصغار، وبطحاء الوادي وأبطحه: حصاه اللَّيِّن في بطن المَسِيل، وأبطح مكّة هو مَسيل واديها، ويُجمع على البِطَاح، والأباطح. انتهى (1).

[تنبيه]: يحتمل أن يكون المراد بالبطحاء بطحاء مكّة، ويحتمل أن يكون غيره، وإلى الأوّل مال الطيبيّ حيث استدلّ به، وبقوله في رواية الترمذيّ "زعم أنه كان جالسًا إلخ" على أن العباس لم يكن حينئذ مسلمًا، ولا تلك العصابة كانوا مسلمين، قال: وأراد صلى الله عليه وسلم أن يَشغلهم عن السفليّات إلى العلّويات، والتفكّر في ملكوت السماوات والعرش، ثمّ يترقّوا إلى معرفة خالقهم، ورازقهم، ويستنكفوا عن عبادة الأصنام، ولا يُشركوا بالله الملك العلّام، فأخذ في الترقّي من السحاب، ثمّ من السماوت، ثمّ من البحر، ثمّ من الأوعال، ثمّ من العرش إلى ذي العرش. انتهى (2).

(في عِصَابَةٍ) أي مع جماعة، فـ "في" بمعنى "مع"، و"العصابة" بالكسر: الجماعة من النَّاس (وَفِيهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال (فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَةٌ) واحدة السحاب، سُمّي بذلك؛ لانسحابه في الهواء، والجمع سُحُبٌ بضمّتين (3) (فَنَظَرَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِلَيْهَا) أي إلى السحابة (فَقَالَ:"مَا) استفهاميّة (تُسَمُّونَ هَذِهِ؟) أي أيّ شيء تسمّون هذه السحابة؟ (قَالُوا: السَّحَابُ) بالرفع خبر لمحذوف، أي هي السحاب، ويحتمل النصب، أي نسمّيها السحاب، وكذا يجوز الوجهان في "المزن"، و"العَنَان" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم "(وَالْمُزْنُ") أي وتسمونها أيضًا المزن، وهو بضم الميم، وسكون الزاي: السحابُ، أو أبيضه، وقال الطيبي: هو الغيم والسحاب، واحدته مُزنة، وقيل: هي

(1)"النهاية" 1/ 134 - 135.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3624.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 267.

ص: 130

السحاب الأبيض انتهى (1)(قَالُوا: وَالْمُزْنُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَالْعَنَانُ") أي وتسمونها أيضًا الْعَنَان، وهو كالسَّحاب وزنًا ومعنًى، واحدته عَنَانة، وقيل: ما عَنَّ لك فيها، أي اعترض، وبدا لك إذا رفعت رأسك. قاله الطيبيّ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) هكذا النسخ، ولا ذكر لأبي بكر في السند، ولعلّ المصنّف أيضًا رواه عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، فإنّه كثير الرواية عنه، فليُحرّر (قَالُوا: وَالْعَنَانُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("كَمْ ترَوْنَ) أي تظنّون وتعتقدون، كما في قوله تعالى:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} (بَيْنكُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ؟ ").

وفي رواية أبي داود: "هل تدرون ما بُعْدُ ما بين السَّماء والأرض؟ "(قَالُوا: لَا نَدْرِي) أي لا نعلم ذلك (قَالَ) صلى الله عليه وسلم "فَإِنَّ بَيْنكُمْ وَبَيْنَهَا إِذَا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً) قال السنديّ: قيل: لعلّ الترديد من شك الراوي، وقد جاء في الأخبار أن بُعد ما بين السَّماء والأرض خمسمائة سنة، فقال الطيبيّ: المراد بالسبعين في الحديث التكثير دون التحديد، ورُدّ بأنه لا فائدة حينئذ لزيادة "واحد، أو اثنين"، قال السنديّ: لعلّ التّفاوت لتفاوت السائر؛ إذ لا يقاس سير الإنسان بسير الفرس، كذلك ذكرته في "حاشية أبي داود"، ثمّ رأيت في "حاشية السيوطيّ" على الكتاب أن الحافظ ابن حجر ذكر مثله، فلله الحمد على التوفق. انتهى (2) (وَالسَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ) أي بالمدّة المذكورة (حَتَّى عَدَّ) صلى الله عليه وسلم (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ) بالرفع كما في بعض النسخ على أنه مبتدأ خبره الظرف قبله، ووقع في بعض النسخ "بحرًا" بالنصب، فيكون معطوفًا على اسم "إنّ" في قوله: "فإن بينكم وبينها إمّا واحدًا" (بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ) أي بين أعلى ذلك البحر وأسفله (كَما بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سماءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمانِيَةُ أَوْعَالٍ) يحتمل "ثمانية" الرفع والنصب كما مرّ آنفًا في "بحر"، و"الأوعال" بالفتح جمع وَعِل بفتح، فكسر: وهو تَيْسُ الجبل، والمراد به هنا الملائكة على صورة الأوعال، كما قال عز وجل: {وَيَحْمِلُ

(1)"الكاشف" 11/ 3623.

(2)

"شرح السنديّ" 1/ 126.

ص: 131

عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ) بالفتح: جمع ظِلْف، بكسر فسكون، وهو للبقر والغنم، كالحافر للفرس (وَرُكَبِهِنَّ) بضم ففتح: جمع ركبة بضم، فسكون، كغُرْفة وغُرَف (كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ، بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ الله فَوْقَ ذَلِكَ تبارك وتعالى فيه أن الله تعالى مستوٍ على عرشه، وهو بائن من خلقه، وقال السنديّ: تصوير لعظمته سبحانه وتعالى، وفوقيّته على العرش بالعلّوّ والعظمة والحكم، لا الحلول والمكان. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: إن قولنا: إن الله تعالى استوى على العرش، أي علا وارتفع، لا يلزم منه الاتحاد، ولا الحلول، بل هو استواء وعلوّ وارتفاع يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن نؤوّله بأنه بمعنى استولى كما هو مذهب الأشاعرة والمتكلّمين، فتنبه لهذه الدقيقة، فإنها من مزالّ الأقدام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث العباس بن عبد المطّلب هذا ضعيف؛ لضعف الوليد بن عبد الله، بل كذّبه ابن نُمير، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وجهالة عبد الله ابن عَمِيرة؛ فإنّه لم يرو عنه إِلَّا سماك بن حرب، وضعفه العقيليّ وابن عديّ، وقال إبراهيم الحربيّ والذهبيّ: لا يُعرف، وقال البخاريّ في "التاريخ الكبير": لا يعلم له سماع من الأحنف.

والحاصل أن الحديث ضعيف جدًّا، فلا التفات إلى تحسين الترمذيّ له، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 193) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(1/ 206 و 207) و (أبو داود)(4723 و 4725) و (الترمذيّ)(3320)،

ص: 132

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

194 -

(حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِب، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَضَى الله أَمْرًا في السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا خُضْعَانًا لِقَوْلهِ، كَأَنَّهُ سلسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَسْمَعُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلِمَةَ، فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ، فَيُلْقِيهَا عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ أَوِ السَّاحِرِ، فَرُبَّمَا لَمْ يُدْرَكْ حَتَّى يُلْقِيَهَا، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فتصْدُقُ تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ) المدنيّ، نزيل مكّة، صدوقٌ ربّما وَهِم [10] 1/ 9.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنةَ) الهلاليّ، أبو محمّد الكوفيّ، ثمّ المكي، ثقة ثبت فقيه حجة، من كبار [8] 2/ 13.

3 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الجُمحيّ، أبو محمّد المكيّ، ثقة ثبت [4] 10/ 80.

4 -

(عِكْرِمَةُ) مولى ابن عبّاس، أبو عبد الله المدنيّ، بربريّ الأصل، ثقة ثبت مفسّر، لا يثبت عنه بدعة [3] 9/ 62.

5 -

(أبو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، وهو صدوق، ولم ينفرد بهذا الحديث، فقد تابعه عليّ بن المديني عند البخاريّ في "صحيحه"، والحميديّ في

ص: 133

"مسنده"، وأحمد بن عبدة، وإسماعيل بن إبراهيم كلاهما عند أبي داود، وابن أبي عمر عند الترمذيّ، فكلهم رووه عن سفيان بن عيينة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير عكرمة، وأبا هريرة فمدنيان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو عن عكرمة.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه، وقد سبق القول فيه قريبًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَضَى الله أَمْرًا) أي تكلَّم الله سبحانه وتعالى بأمر (في السَّمَاءِ) في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عند الطَّبرانيُّ مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي، أَخَذت السماءَ رَجْفَةٌ شديدةٌ من خوف الله، فإذا سَمِع أهلُ السَّماء بذلك صَعِقُوا، وخَرُّوا سُجَّدًا، فيكون أَوَّلهم يرفع رأسه جبريلُ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، كلما مَرّ بسماء سأله أهلها، ماذا قال رَبَّنَا؟ قال: الحقَّ، فينتهي به حيث أُمِرَ (ضَرَبَتِ المَلَائِكَةُ أجْنِحَتَهَا) وعند البخاريّ: "بأجنحتها" (خُضْعَانًا) بضم أوله وسكون ثانية، مصدر خَضَع، كالغُفْران، والْكُفْرَان، ويُروى بالكسر، كالْوِجْدَان، والْعِرْفَان، أو هو جمع خاضع، كالجِيعَان، فإن كان جمعًا، فهو حالٌ، وإن كان مصدرًا جاز أن يكون مفعولًا مطلقًا؛ لما في ضرب الأجنحة من معنى الخضوع، أو مفعولًا له، وذلك لأن الطائر إذا استشعر خوفًا أرخى جناحيه، مُرْتعدًا، ويُروى "خُضَعًا لقوله"، جمع خاضع، كراكع ورُكَّع (1).

وقال في "الفتح": قوله: "خَضَعَانًا" بفتحتين، من الخضوع، وفي رواية بضم أوله، وسكون ثانيه، وهو مصدر بمعنى خاضعين انتهى (2)(لِقَوْلهِ) متعلّق بـ "خضعانًا"(كَأَنَّهُ) أي القول المسموع (سِلْسِلَةٌ) أي صوت وَقْع سلسلة الحديد، وقال في "الفتح":

(1)"النهاية" 2/ 43، و "شرح السندي" 1/ 127.

(2)

"الفتح" 8/ 683.

ص: 134

هو مثل قوله في بدء الوحي: "صَلْصَلةٌ كصلصلة الجَرَس، وهو صوت الملك بالوحي، وقد رَوَى ابن مَرْدَوَيه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رَفَعَهُ: "إذا تكلم الله بالوحي، يسمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيفزعون، ويَرَون أنه من أمر السّاعة، وقرأ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} الآية، وأصله عند أبي داود وغيره وعلقه البخاريّ موقوفًا، قال الخطابي: الصَّلْصَلةُ صوت الحديد إذا تحرك وتداخل.

قال الحافظ: وكأنّ الرِّواية وقعت له بالصاد، وأراد أن التشبيه في الموضعين بمعنى واحد، فالذي في بدء الوحي هذا، والذي هنا جَرُّ السلسلة من الحديد على الصفوان الّذي هو الحجر الأملس، يكون الصوت الناشيء عنهما سواء. انتهى.

(عَلَى صَفْوَانٍ) بفتح، فسكون: هو الحجر الأَمْلَسُ، زاد في رواية البخاريّ في "سورة الحجر" عن علي بن عبد الله: قال غيره -يعني غير سفيان- "ينفذهم ذلك"، وفي حديث ابن عبّاس عند ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عنه:"فلا يَنْزِل على أهل سماء إِلَّا صعِقُوا"، وعند مسلم والترمذي، من طريق على بن الحسين بن علي، عن ابن عبّاس، عن رجال من الأنصار، أنهم كانوا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَرُمِيَ بنجم فاستنار، فقال:"ما كنتم تقولون لهذا إذا رُمِي به في الجاهلية؟ " قالوا: كنا نقول: مات عظيم، أو يولد عظيم، فقال: "إنها لا يُرْمَى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن رَبُّنَا إذا قضى أمرًا سَبَّحَ حملةُ العرش، ثمّ سَبَّح أهلُ السَّماء الذين يلونهم، حتّى يبلغ التسبيح سماءَ الدنيا، ثمّ يقولون لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟

" الحديث، وليس عند التّرمذيّ: "عن رجال من الأنصار".

(فَـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي كُشِف عنهم الفزع وأُزيل (قَالُوا) أي قال بعض الملائكة لبعضهم (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) سبحانه وتعالى (قَالُوا) أي الملائكة المقرّبون، كجبريل عليه السلام، فقد أخرج أبو داود في "سننه" عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تكلم الله بالوحي، سمِعَ أهلُ السماء للسماء صَلْصَلةً كجَرِّ السلسلة على

ص: 135

الصَّفَا، فيَصْعَقُون، فلا يزالون كذلك، حتّى يأتيهم جبريل، حتّى إذا جاءهم جبريل فُزِّعَ عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحقَّ، فيقولون: الحق الحق".

(الحقَّ) بالنصب، مفعولًا لفعل مقدّر يدلّ عليه السؤال، أي قال الحقّ، أي القول الحقّ، وجوّز بعضهم الرفع بتقدير قوله الحقُّ، والأول هو الظّاهر، قيل: القولُ يجوز أن يراد به كلمة "كن"، وأن يراد به الحقّ مقابل الباطل، والمراد ما يقضيه الله سبحانه وتعالى من الحوادث اليوميّة، بأن يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، ويعزّ ذليلًا، ويذلّ جبّارًا، وهكذا ({وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ}) [سبأ:123]) أي ذو العلّوّ والكبرياء سبحانه وتعالى (فَيَسْمَعُهَا) أي الكلمة الّتي تكلَّم بها الحقّ سبحانه وتعالى (مُسْتَرِقُو السَّمْعِ) أي الشّياطين الذين يسرقون الكلام من الملائكة، و"الاستراق" افتعال، من السّرقة، يقال: استرق السمع: إذا سمعه مستخفيًا، كما يفعل السارق (1)، ووقع في بعض الرِّواية:"مسترق السمع" بالإفراد، وهو فصيح أيضًا (بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونهم راكبي بعضهم فوق بعضٍ؛ لأجل أن يتمكّنوا من استراق السمع، وفي رواية البخاريّ:"فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع، هكذا بعضه فوق بعض، ووصف سفيان بكفّه، فحرّفها، وبَدَّد بين أصابعه".

قال في "الفتح": قوله: "هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان"، أي ابن عيينة بكفه فحَرَفَّها، وبَدَّد بين أصابعه، أي فَرَّق، وفي رواية عليّ:"ووصف سفيان بيده، ففرّج بين أصابع يده اليمني، نصبها بعضَها فوق بعض"، وفي حديث ابن عبّاس عند ابن مردويه:"كان لكل قبيل من الجن مَقْعَدٌ من السَّماء، يسمعون منه الوحي" -يعني يلقيها- زاد عليّ عن سفيان: "حتّى ينتهي إلى الأرض فيلقي

".

(فَيَسْمَعُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلِمَةَ) هكذا النسخ الهنديّة، وعليها فقوله:"يسمع" بالبناء

(1)"النهاية" 2/ 362، و "المصباح" 1/ 274.

ص: 136

للفاعل، والفاعل ضمير "مسترقو السمع"، وأفرده باعتبار الجنس، و"الملائكة" منصوب بنزع الخافض، أي من الملائكة، و"الكلمةَ" مفعول به، ووقع في النسخ المطبوعة "فيَسْمَعُ الكلمةَ"، بحذف لفظ "الملائكة"، وهو ظاهر، ووقع في بعضها "فتَسْمَعُ الملائكةُ، فتلقيها إلى من تحته"، والظاهر أما غير صحيحة، والله تعالى أعلم.

(فَيُلْقِيهَا) أي يلقي الشيطان تلك الكلمة المسروقة (إِلَى مَنْ تَحْتَهُ") أي من مسترقي السمع (فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ) أي الشيطان الفوقانيّ (الشِّهَابُ) بالكسر: هو في الأصل شُعْلَةٌ من نار ساطعةٌ، جمعه شُهُبٌ، ككتاب وكُتُب، قال ابن الأثير: أراد بالشهاب الّذي ينقضّ في اللّيل شِبْه الكوكب، وهو في الأصل الشُّعْلَةُ من النّار. انتهى (1)(قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ") أي إلى الشيطان الّذي يليه.

قال في "الفتح": هذا يقتضي أن الأمر في ذلك يقع على حدّ سواء، والحديث الآخر يقتصي أن الّذي يَسْلَم منهم قليل بالنسبة إلى من يُدركه الشهاب، ووقع في رواية سعيد بن منصور، عن سفيان في هذا الحديث:"فَيَرْمِي هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتّى يُلقى على فم ساحر أو كاهن".

(فَيُلْقِيهَا) أي يلقي الشيطان الأخير الكلمة المسترقة (عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ) اسم فاعل، من كَهَنَ يكهُن، من باب قتل كَهانَةً بالفتح، وإذا صارت الْكَهَانة طبيعةً وغريزةً قيل: كَهُن بالضمّ، والْكِهَانةُ بالكسر: الصناعة (2).

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الكاهن": هو الّذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزّمان، ويدّعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كَهَنَة، كشِقٍّ وسَطِيح، وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعًا من الجنّ، ورَئِيّا يُلقِي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يَعرِف الأمور بمقدّمات أسباب يستدلّ بها على مواقعها من كلام من

(1)"النهاية" 2/ 512.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 543.

ص: 137

يسأله، أو فعله، أو حاله، وهذا يخصّونه باسم العرّاف، كالذي يدّعي معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالّة، ونحوهما، والحديث الّذي فيه "من أتى كاهنًا" قد يشتمل على إتيان الكاهن، والعرّاف، والمنجّم، وجمع الكاهن كَهَنَةٌ، وكُهّان. انتهى (1)(أَو) الظّاهر أما للتنويع، لا للشكّ من الراوي (السَّاحِرِ) اسم فاعل من سَحَر، من باب منع: إذا خَدَعَ، والسِّحْرُ: كلُّ ما لَطُفَ مأخذه ودَقَّ، قاله في "القاموس"(2).

(فَرُبَّمَا لَمْ يُدْرَكْ) بالبناء للمفعول، أي لم يدركه الشهاب (حَتَّى يُلْقِيَهَا) أن إلى الكاهن، أو الساحر (فَيَكْذِبُ) ذلك الكاهن، أو الساحر (مَعَهَا) أي مع الكلمة المسترقة الّتي ألقيت عليه (مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَتَصْدُقُ) بتخفيف الدال، مبنيّا للفاعل، أي تكون صدقًا (تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ") ببناء الفعل للمفعول، قال في "الفتح": زاد عليّ ابن عبد الله -يعني ابن المدينيّ- عن سفيان -يعني ابن عيينة-: "فيقولون: ألم يُخْبِرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا، فوجدناه حقّا، الكلمةَ الّتي سُمِعت من السَّماء"، وفي حديث ابن عبّاس:"فيقول: يكون العام كذا وكذا، فيسمعه الجنُّ، فيخبرون به الكَهَنَةَ، فتخبر الكهنة الناسَ، فيجدونه".

[تنبيه]: وقع في "صحيح البخاريّ" في تفسير "سورة الحجر" في آخر هذا الحديث عن عليّ بن عبد الله، قلت لسفيان: إن إنسانًا رَوَى عنك عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قَرَأَ "فُرِّغَ" بضم الفاء، وبالراء المهملة الثقيلة، وبالغين المعجمة، فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو -يعني ابن دينار- فلا أدري سمعه هكذا أم لا.

وهذه القراءة رُويت أيضًا عن الحسن وقتادة ومجاهد، والقراءة المشهورة بالزاي، والعين المهملة، وقرأها ابنُ عامر مبنيا للفاعل، ومعناه بالزاي والمهملة: أُدهش الفزعُ عنهم، ومعنى الّتي بالراء والغين المعجمة ذَهَبَ عن قلوبهم ما حَلَّ فيها.

(1)"النهاية" 4/ 214 - 215.

(2)

"القاموس المحيط" ص 365.

ص: 138

فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو، فلا أدري سمعه أم لا، قال سفيان: وهي قراءتنا، قال الكرماني:

[فإن قيل]: كيف جازت القراءة إذا لم تكن مسموعة؟.

[فالجواب]: لعلّ مذهبه جواز القراءة بدون السماع، إذا كان المعنى صحيحًا.

قال الحافظ: هذا وإن كان محتملًا، لكن إذا وُجد احتمال غيره فهو أولى، وذلك محمل قول سفيان: لا أدري سمعه أم لا، على أن مراده سمعه من عكرمة الّذي حدثه بالحديث، لا أنه شَكّ في أنه هل سمعه مطلقًا، فالظن به أن لا يَكتَفِي في نقل القرآن بالأخذ من الصحف بغير سماع.

وأما قول سفيان: وهي قراءتنا، فمعناه أما وافقت ما كان يَحْتار من القراءة به،

فيجوز أن ينسب إليه كما نسب لغيره. قاله في "الفتح"(1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثّانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنِّف) هنا (35/ 194) بهذا السند فقط، وأخرجه (الحميديّ) في "مسنده"(1151) و (البخاريُّ)(6/ 100 و 152 و 9/ 172) وفي "خلق أفعال العباد"(60)، وأخرجه أيضًا في "الصّحيح" أيضًا (6101 و 172) موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه، و (أبو داود)(3989) و (التِّرمذيّ)(3223)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة، من الصفات،

(1)"الفتح" 8/ 684 - 685.

ص: 139

وهو صفة الكلام؛ إذ قوله: "ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحقّ" صريح في أن الله سبحانه وتعالى يتكلّم بكلام مسموع لملائكته الكرام.

2 -

(ومنها): بيان تواضع الملائكة، وشدّة خوفهم من الله تعالى، بحيث إنهم يضربون أجنحتهم؛ لشدّة الفزع ممّا سمعوه من كلام الله تعالى.

3 -

(ومنها): إثبات صفة العلوّ والكبرياء لله سبحانه وتعالى.

4 -

(ومنها): بيان استراق الشّياطين السمع لما يقضي الله تعالى من أمره في شأن أهل الأرض، حتّى يُلقوها إلى أوليائهم الكهان، والسحرة، فيُغووا به النَّاس.

5 -

(ومنها): بيان ما عليه الكهّان والسحرة من إغواء النَّاس بالكذب والباطل؛ إذ صدق الكلمة الّتي سُمعت من السَّماء موّهت الكذبات الكثيرة، حيث إن العوام والغوغاء من النَّاس لا ينظرون إِلَّا صدق تلك الكلمة، فبذلك انتشر الباطل، وساد الضلال، وعمّ وطمّ، فلا حول ولا قوّة إِلَّا بالله العزيز الحكيم.

6 -

(ومنها): إثبات معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أُرسلت الشهب على الشّياطين لمبعثه صلى الله عليه وسلم، حتّى لا يفسدوا وحي السَّماء، ويُلبّسوا على النَّاس الحقّ بالباطل.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله عز وجل: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا} [الجن: 8] الآيات: ما نصّه:

يُخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السَّماء مُلىت حرسًا شديدًا، وحُفظت من سائر أرجائها، وطُردت الشّياطين عن مقاعدها الّتي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئلا يسترقوا شيئا من القرآن، فيُلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر، ويختلط، ولا يُدرَى مَنِ الصادق؟ وهذا من لُطف الله تعالى بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال الجن:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8، 9]، أي مَنْ يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابًا مُرَصَّدًا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يَمْحَقه

ص: 140

ويهلكه، {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] أي ما ندري هذا الأمر الّذي قد حَدَث في السَّماء، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا؟، وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عز وجل، وقد ورد في "الصّحيح":"والشر ليس إليك".

وقد كانت الكواكب يُرْمَى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير، بل في الأحيان بعد الأحيان، كما في حديث العباس رضي الله عنه -يعني الحديث المذكور قبل هذا الحديث-.

قال: وهذا هو السبب الّذي حملهم على تطلب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصّلاة، فعرفوا أن هذا هو الّذي حُفظت من أجله السَّماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد في طغيانه من بقي.

قال: ولا شك أنه لمّا حدث هذا الأمر، وهو كثرة الشهب في السَّماء، والرمي بها، هال ذلك الإنس والجن، وانزعجوا له، وارتاعوا لذلك، وظنوا أن ذلك لخراب العالم، كما قال السُّدّي: لم تكن السَّماء تُحرَس إِلَّا أن يكون في الأرض نبي، أو دِينٌ لله ظاهر، فكانت الشّياطين قبل محمدًا رضي الله عنه قد اتخذت المقاعد في السَّماء الدنيا، يستمعون ما يحدث في السَّماء من أمر، فلما بَعَث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولًا رُجموا ليلة من الليالي، ففَزع لذلك أهل الطائف، فقالوا: هلك أهل السَّماء لمّا رأوا من شدة النّار في السَّماء، واختلاف الشهب، فجعلوا يُعتقون أَرِقّاءهم، ويُسَيِّبون مواشيهم، فقال لهم عبد ياليل بن عمرو ابن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن مالكم، وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها، فلم يهلك أهل السَّماء، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة -يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وإن نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السَّماء، فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم، وفزعت الشّياطين في تلك اللَّيلة، فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم، فقال: ائتوني من كلّ أرض بقبضة من تراب أشمها، فأتوه فشم، فقال: صاحبكم بمكة، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين، فقَدِموا مكّة، فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم قائمًا يصلّي في المسجد الحرام، يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصًا على القرآن، حتّى كادت

ص: 141

كَلاكِلهم تصيبه، ثمّ أسلموا، فأنزل الله تعالى أمرهم على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا هذا الفصل مُسْتَقْصىً في أول البعث من "كتاب السيرة" المطول، والله أعلم، ولله الحمد والمنة. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

195 -

(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كلِمَاتٍ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة عابدٌ [10] 9/ 57. عس ق

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمّد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، من كبار [9] 1/ 3.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكُوفيُّ الإمام الثقة الثبت [5] 1/ 1.

4 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الجَمَليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة عابد، كان لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء [5] 2/ 20.

5 -

(أَبُو عُبَيْدَةَ) بن عبد الله بن مسعود الْهُذَليّ، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، الكوفيّ، ثقة، من كبار [3].

رَوَى عن أبيه، ولم يسمع منه، وعن أبي موسى الأشعري، وعمرو بن الحارث بن المُصْطَلِق، وكعب بن عُجْرة، وعائشة، وأم زينب الثقفية، والبراء بن عازب، ومسروق.

ورَوى عنه إبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي، وسعد بن إبراهيم، وعمرو

(1)"تفسير ابن كثير" 4/ 430 - 431.

ص: 142

ابن مرّة، والمنهال بن عمرو، ونافع بن جبير بن مطعم، وغيرهم.

قال شعبة عن عمرو بن مرّة: سألت أبا عبيدة، هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال: لا. وقال المفضل الغلابي عن أحمد: كانوا يُفَضِّلون أبا عبيدة على عبد الرّحمن. وقال التّرمذيّ: لا يُعرَف اسمه، ولم يسمع من أبيه شيئًا. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: يسمع من أبيه شيئًا. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": قلت لأبي: هل سمع أبو عبيدة من أبيه؟ قال: يقال: إنّه لم يسمع، قلت: فإن عبد الواحد بن زياد يَروي عن أبي مالك الأشجعي، عن عبد الله بن أبي هند، عن أبي عبيدة، قال: خرجت مع أبي لصلاة الصُّبح، فقال أبي: ما أدري ما هذا؟ وما أدري عبدُ الله بن أبي هند من هو؟. وقال التّرمذيّ في "العلل الكبير": قلت لمحمد: أبو عبيدة ما اسمه؟ فلم يَعرِف اسمه، وقال: هو كثير الغلط. وقال الدارقطني أبو عبيدة أعلم بحديث أبيه من حُنَيف بن مالك ونظرائه. وقال صالح بن أحمد: ثنا ابن المديني، ثنا سَلْم بن قُتيبة، قال: قلت لشعبة: إن عثمان الْبُرّيّ حَدَّثَنَا عن أبي إسحاق، أنه سمع أبا عبيدة، أنه سمع ابن مسعود، فقال: أَوّهْ، كان أبو عبيدة ابن سبع سنين، وجَعَل يضرب جبهته. انتهى.

قال الحافظ: هذا الاستدلال بكونه ابن سبع سنين على أنه لم يسمع من أبيه، ليس بقائم، ولكن راوي الحديث عثمان ضعيف. انتهى، وهو تعقّب جيّد. والله تعالى أعلم.

وقال شعبة عن عمرو بن مرّة: فُقِد عبدُ الرّحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن شدّاد، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ليلة دُجَيل، وكانت سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة (82).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

6 -

(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 10/ 88، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وروى له

ص: 143

النَّسائيّ في "مسند عليّ رضي الله عنه"، وهو ثقة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عمرو، عن أبي عبيدة، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الخامسة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) أي قام صلى الله عليه وسلم خطيبًا في الصّحابة رضي الله عنهم، حال كونه مذكّرًا لهم بخمس كلمات.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "قام فينا إلخ" فيه ثلاثة أوجه من الإعراب:

[أحدها]: أن يكون "فينا" و"بخمس" حالين مترادفين، أو متداخلين، وذلك أن يكون الثّاني حالًا من الضمير المستتر في الحال الأولى، أي قام خطيبًا فينا، مذكّرًا بخمس كلمات.

[وثانيها]: أن يكون "فينا" متعلّقًا بـ "قام" بأن يُضَمَّنَ معنى "خَطَب"، و"بخمس" حالًا، أي خطب قائما مذكّرًا بخمس كلمات، و"قام" في الوجهين بمعنى القيام على ما ورد في حديث أوس بن حُذيفة الثقفيّ رضي الله عنه "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينصرف إلينا بعد العشاء، فيُحدّثنا قائمًا على رجليه، حتّى يُراوح بين قدميه من طول القيام".

[وثالثها]: أن يعلّق "بخمس" بـ "قام"، ويكون "فينا" بيانًا، كأنه لمّا قيل:"قام بخمس"، فقيل: في حقّ من؟، أجيب: في حقّنا، وجهتنا، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} الآية [العنكبوت: 69]، ذكر في "الكشّاف" في قوله تعالى:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، قيل: مع من؟ قيل: معه، وكذلك قدّر في قوله سبحانه وتعالى:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فعلى هذا "قام" بمعنى قام بالأمر: أي تشَمَّرَ، وتجلَّد له، فالمعنى أنه قام بحفظ تلك الكلمات فينا؛ لأن القيام بالشيء هو المراعاة

ص: 144

والحفظ له، قال الله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النِّساء: 135]، وقال الله سبحانه وتعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33].انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله (1).

وقال السنديّ: وفي الوجه الثّالث لو جُعل "فينا" متعلّقًا بـ "قام" من غير اعتبار، أي قام بخمس كلمات في حقّنا، ولأجل انتفاعنا كان صحيحًا، والأقرب أن المعنى قام فيما بيننا بتبليغ خمس كلمات، أي بسببه، فالجارّان متعلّقان بالقيام، وهو على ظاهره، وذلك أن يُجعل القيام من قام بالأمر، ويُجعل "فينا" بيانًا متعلّقًا به أيضًا. انتهى (2).

(بِخَمْسِ كَلِماتٍ) أي بخمس فصول، فالمراد بالكلمة هنا الجملة المركبة المفيدة، وهو إطلاق لغويّ، كما يسمّون القصيدة كلمةً، وإليه أشار ابن مالك في "الخلاصة":

وَكَلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمْ

قال الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ} الآية، إشارة إلى قوله:{رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99].

[تنبيه]: الكلمة الأولى هي قوله: "إن الله لا ينام"، والثّانية قوله:"ولا ينبغي له أن ينام"، والثالثة قوله:"يخفض القسط ويرفعه"، والرّابعة قوله:"يُرفع إليه عمل اللّيل قبل عمل النهار إلخ"، والخامسة قوله:"حجابه النور إلخ".

(فَقَالَ: "إِنَّ الله لَا يَنَامُ) إذ النوم لاستراحة القوى والحواسّ، وهي على الله تعالى محالٌ، قال الله عز وجل:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} والسُّنَّة: النعاس، وهو نوم خفيف، أو مقدّمة النوم، قاله القاريّ، وقال النوويّ: معناه أنه سبحانه وتعالى؛ لا ينام، وأنه يستحيل في حقه النوم؛ فإن النوم انغمارٌ وغلبةٌ على العقل، يَسْقُط به الإحساس، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك، وهو مستحيل في حقه عز وجل (3).

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 548.

(2)

"شرح السنديّ" 1/ 128.

(3)

راجع "شرح مسلم للنوويّ" 3/ 13.

ص: 145

(وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ) قال القاري: نفي للجواز تأكيدًا لنفي الوقوع على سبيل التتميم، أي لا يكون، ولا يصحّ، ولا يستقيم، ولا يمكن له النوم؛ لأنه أخو الموت (1).

وقال السنديّ: الكلمة الأولى دالّةٌ على عدم صدور النوم، والثّانية للدلالة على استحالته عليه تعالى، ولا يلزم من عدم الصدور استحالته، فلذلك ذُكرت الكلمة الثّانية بعد الأولى. انتهى (2).

(يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ) معنى القسط هنا الميزان، وسُمّي قِسطًا؛ لأن القسط العدل، وبالميزان يقع العدل في القسمة، قال: والمراد أن الله تعالى يَخِفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة إليه، ويوزن من أرزاقهم النازلة من عنده، كما يرفع الوزّان يده، ويَخفضها عند الوزن، وهذا تمثيل لما يُقَدِّر تَنْزِيله، فشبه بوزن الميزان، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن: 29] أي أنه يحكم بين خلقه بميزان العدل، فأمره كأمر الوزّان الّذي يزن، فيخفض يده ويرفعها، وهذا المعنى أنسب بما قبله، كأنه قيل: كيف يجوز عليه النوم، وهو الّذي يتصرّف أبدًا في ملكه بميزان العدل.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وهذا تمثيل إلخ"، غير صحيح؛ لأنه يدلّ على أن الميزان هنا ليس حقيقةً، بل هو مجاز، وهو معنى باطل، مناف لما ثبت في النصوص الصحيحة من إثباته، وكذا قوله:"فأمره كأمر الوزان" فيه نظر لا يخفى، فتنبّه لهذه الدقائق، فإنها من مزالّ الأقدام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقيل: المراد بالقسط الرزق الذي هو قِسط كلّ مخلوق، أي نصيبه، يخفضه فيُقَتِّره، ويرفعه فيوسعه (3).

(1)"شرح المرقاة" 1/ 128.

(2)

"شرح السندي" 1/ 128.

(3)

راجع "شرح مسلم للنوويّ" 3/ 13 و"شرح السنديّ" 1/ 128.

ص: 146

قال الطيبيّ: المعنى الأوّل للقسط هو الأولى، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"يرفع الميزان ويخفضه". انتهى (1).

(يُرْفَعُ) بالبناء للمفعول (إِلَيْهِ) أي للعرض عليه، فالرفع على ظاهره، وقيل: معنى الرفع إليه الرفع إلى خزائنه، كما يقال: حُمل المال إلى الملك، فيُضبط إلى يوم الجزاء، ويُعرض عليه، وإن كان هو سبحانه وتعالى أعلم به، ليأمر ملاتكته بإمضاء ما قضى لفاعله جزاءً له على فعله (عَمَلُ اللَّيْلِ) أي المعمول فيه (قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ) أي قبل أن يؤتى بعمل النهار، وهو بيان لمسارعة الكرام الكتبة إلى رفع الأعمال، وسرعة عروجهم إلى ما فوق السماوات، وعرضهم على الله تعالى، فإن الفاصل بين اللّيل والنهار آنٌ لا يتجزأ، وهو آخر اللّيل، وأول النهار، وقيل: قبل أن يُرفع إليه عمل النهار، والأول أبلغ، قاله التوربشتيّ، وقيل: الثّاني أبلغ؛ لأنه في بيان عظيم شأن الله تعالى، وقوّة عباده المكرمين، وحسن قيامهم بما أُمروا، ولأن لفظ العمل مصدر، فكأنه قال: يُرفع إليه عمل اللّيل، أي المعمول في اللّيل قبل عمل النهار، فلا حاجة إلى تقدير لفظ الشروع، كاحتياجه إلى إلى تقدير الرفع في المعنى الأوّل.

(وَعَمَلُ النَّهَارِ) بالرفع عطفًا على "عملُ اللّيل"(قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ) وفي رواية لمسلم: "يُرفَع إليه عملُ النهار باللّيل، وعمل اللّيل بالنهار".

فمعنى الأوّل - والله أعلم - يُرفَع إليه عمل اللّيل قبل عمل النهار الّذي بعده، وعمل النهار قبل عمل اللّيل الّذي بعده.

ومعنى الرِّواية الثّانية: يُرفع إليه عمل النهار في أول اللّيل الّذي بعده، ويرفع إليه عمل اللّيل في أول النهار الّذي بعده، فإن الملائكة الحفظة يَصْعَدون بأعمال اللّيل بعد انقضائه في أول النهار، ويَصعَدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول اللّيل. هكذا أفاده في شرح النووي على "صحيح مسلم".

(1)"الكاشف" 2/ 549.

ص: 147

وذكر القاري رحمه الله في "شرح المشكاة": ما معناه: وهو بيان لمسارعة الملائكة الموكّلين برفع أعمال النهار بعد العصر، واللّيل بعد الصُّبح، وأنهم يقطعون في هذا الزمن القليل تلك المسافة الطويلة الّتي تزيد على سبعة آلاف سنة على ما رُوي أن مسيرة ما بين الأرض والسماء الدنيا خمسمائة سنة، وما بين كلّ سماءين كذلك، وسَمْكُ كلّ سماء كذلك، وتقدير "رَفْع" في الأوّل، و"رَفْع" أو "فِعْل" في الثّاني هو الّذي دلّ عليه الحديث الآخر: إن أعمال النهار ترفع بعد صلاة العصر، وأعمال اللّيل تُرفع بعد صلاة الصُّبح، فلا يقع رفع عمل اللّيل إِلَّا بعد فعلٍ من عمل النهار، وأما رفع عمل النهار فيقع قبل فِعْلِ أو رَفعِ شيء من عمل اللّيل؛ لأن بين ابتداء رفعها وعمل اللّيل فاصلًا يسع ذلك بالنسبة إلى القدرة الباهرة.

فالحاصل أن قوله: "قبل عمل النهار" يتعيّن فيه تقدير "رَفْع"، ولا يصحّ تقدير "فِعل" فيه، وقوله: قبل عمل اللّيل" يصحّ فيه كلٌّ منهما، وتقدير الفعل أبلغ؛ لأن الزمن أقصر، فتأمل ذلك لتعلم فساد ما أطلقه بعض الشارحين. انتهى (1).

(حِجَابُهُ النُّورُ) قال النوويّ في "شرحه": أصل الحجاب في اللُّغة المنع والسَّتْرُ، وحقيقة الحجاب إنّما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى مُنَزَّه عن الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسُمِّي ذلك المانع نورًا أو نارًا؛ لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة؛ لشعاعهما. انتهى (2).

وقال التوربشتيّ: أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الحُجُب المعهودة، فهو محتجبٌ عن الخلق بأنوار عزّه وجلاله، وأشعّة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الّذي تُدهَش دونه العقول، وتذهب الأبصار، وتتحيّر البصائر، ولو كُشف ذلك الحجاب، فتجلّى لما وراءه من حقائق الصفات، وعظمة الذات لم يَبقَ مخلوق إِلَّا احترق، ولا مفطور إِلَّا اضمحلّ، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئيّ، وهو هنا

(1)"المرقاة شرح المشكاة" 1/ 285.

(2)

المصدر السابق.

ص: 148

راجع إلى منع الأبصار من الإصابة بالرؤية له بما ذكر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل، فعبّر به عنه، ورُوي "حجابه النور، أو النّار".

وقد تبيّن من أحاديث الرِّواية (1) وتوفيقات (2) الكتاب على التجلّيات الإلهيّة أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث هي الّتي نحن بصددها في هذه الدَّار المستعدّة المعدّة للفناء، دون الّذي وُعدنا بها في دار البقاء، والحجاب المذكور في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق؛ لأنهم المحجوبون عنه انتهى (3).

(لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ)"السُّبُحَاتُ" بضم السين والباء، ورفع التاء في آخره، وهي جمع سُبْحَةٍ، كغُرْفة وغُرُفات، قال صاحب "العين"، والْهَرَويّ، وجميعُ الشارحين للحديث، من اللغويين والمحدثين: معنى "سُبُحَات وجهه" نورُهُ، وجلاله، وبهاؤه، والمراد بالوجه الذات. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر النووي أن المراد بالوجه الذات، وهذا منه مصير إلى نفي صفة الوجه، وهو غير صحيح، بل الوجه صفة ثابتة لله تعالى، كما أثبتها لنفسه في كتابه، حيث قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، وحيث أثبته هذا الحديث الصّحيح، وغيره من الأحاديث الصحيحة، ولا يلزم من إثباتنا له تشبيهه بخلقه، فأيّ فرق بين إثباتنا له الذات، وبين إثباتنا له الوجه، فإن كان يلزم من الوجه التشبيه لزم من الذات أيضًا، لكن نقول: له ذات لا تشبه الذوات، ووجه لا يشبه الوجوه، وبصرٌ لا يشبه الأبصار، ويدٌ لا تشبه الأيدي، وغير ذلك من صفات الكمال، وهذا هو مذهب السلف، وهو الصراط المستقيم، فعليك بلزومه إن أردت الهدى والعزّ المستديم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(1) هكذا النسخة، والظاهر أنه "الرؤية"، فليُحرّر.

(2)

هكذا النسخة، ولعلّ الصواب "توقيفات" بتقديم القاف على الفاء، فليُحرّر.

(3)

راجع "الكاشف" 2/ 550.

ص: 149

وذكر في "الكاشف" عن بعضهم في معنى "سبحات وجهه" أما الأنوار الّتي إذا رآها الراءون من الملائكة سبّحو، وهلّلوا؛ لما يروعهم من جلال الله وعظمته، انتهى.

(مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ) المراد جميعُ المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى بجميع الكائنات، ولفظة "من" لبيان الجنس، لا للتبعيض، والتقدير لو أزال المانع من رؤيته، وهو الحجاب المسمى نورًا أو نارًا وتَجَلَّى لخلقه لأحرق جلال وجهه جميع مخلوقاته.

قال الطيبيّ: وذهب المظهر وغيره إلى أن الضمير في "بصره" إلى الخلق، و"ما" في "ما انتهى" بمعنى "من" و"من خلقه" بيان له، والأول هو الوجه يعني أن رجوع ضمير "بصره" إلى الله تعالى هو المعنى الصّحيح-.

[فائدة]: ذكر الطيبيّ رحمه الله هنا وجوهًا متعلّقة بلطائف المعاني، والمحسّنات البديعيّة، أحببت إيرادها مع التعقيب على ما يحتاج إليه:

[أحدها]: أن قوله: "لا ينبغي له أن ينام" جملة معترضة، واردة على التتميم؛ صونًا للكلام عن المكروه، فإن قوله:"لا ينام" لا ينفي جواز النوم، كما قال الأشرف، فعقّب به لدفع ذلك التجويز، قال أبو الطيّب [من الطَّويل]:

وَتَحْتَقِرُ الدُّنْيَا احْتِقَارَ مُجَرِّبٍ

تَرَى كُلَّ مَا فِيهَا وَحَاشَاكَ فَانِيَا

فإن "حاشاك" تتميم في غاية الحسن، ومعنى "لا ينبغي" لا يصحّ، ولا يستقيم النوم؛ لأنه مناف لحال ربّ العالمين.

[وثانيها]: "يخفض، ويرفع، وعمل اللّيل، وعمل النهار" من باب التضادّ، والمطابقة، والخفض، والرفع في القرينتين مستعارتان للمعاني من الأعيان.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "مستعارتان إلخ" غير صحيح؛ لأن الاستعارة من المجاز، فهو يريد أن لا يثبت صفة الخفض والرفع لله تعالى على ظاهرها، وقد سبق أن نبهنا على مثل هذا، فالحق أنها ثابتة له، ولا حاجة إلى المجاز؛ لأنه لا يصار إليه إِلَّا عند تعذّر الحقيقة، وهنا لم يتعذّر، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقليد ذوي الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 150

[وثالثهما]: "لو كشفه" من الشرط والجزاء، استئنافيّة، مبيّنة للكلام السابق، كأنه لما قيل: إن حجابه النور، وعُرِّف الخبر المفيد للتخصيص اتّجه للسائل أن يقول: لم خصّ الحجاب بالنور؟ أجيب بأنه لو كان من غيره لاحترق.

قال الجامع: هذه الفائدةُ غير واضحة، والله تعالى أعلم.

[ورابعها]: الجملة الفعلية في النَّفْي والإثبات كلها واردة على صيغة المضارع؛ لإرادة الاستمرار، فالمنفيان فيها يدلُّان على الدوام من غير انقطاع، والأربع المثبتة على التجدد مع الاستمرار، وأما الجملة الأسميّة فدلالتها على سبيل الثبات والدوام في هذا العالم، والشرطيّة منبئة عن ذلك؛ لما دلّت على أنها مخالفة للنور المتعارف.

قال: وفيه دليل على أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم رأى ربّه تعالى لقوله في الدُّعاء: "اللَّهُمَّ اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا".

قال الجامع: مسألة رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء مختلف فيها، وجمهور السلف على نفيها، للحديث الصّحيح:"نور أنى أراه"، وغيره، وسنحققها في محلّ مناسب لها -إن شاء الله تعالى- وأما استدلال الطيبيّ عليها بالحديث المذكور، ففيه نظر لا يخفى، فتأمل. والله تعالى أعلم.

قال: وأما المؤمنون إذا صفت بشريّتهم عن الكدورات في دار الثّواب، فيُرزقون هذه المنحة السنيّة، والرتبة العلّيّة.

[وخامسها]: أن معنى الحديث بأسره مسبوك من معنى آية الكرسيّ، فإن قوله سبحانه وتعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ} [البقرة: 255] مشعر بصفة الإكرام، ومنه إلى الخاتمة مشير إلى صفة الجلال؛ لما فيه من المنع عن الشفاعة إِلَّا بإذنه، ومن ذكر الكرسيّ الّذي هو سرير الملك، وهو مناسب لحديث الحجاب، وكذلك الحديث إلى قوله:"حجابه النور" منبىء عن صفة الإكرام، ومنه إلى آخره عن صفة الجلال، فتكون صفة الجلال محتجبةً بصفة الإكرام، فلو كشف حجاب الإكرام لتلاشت الأشياء، وتفنى

ص: 151

بتجلي صفات الجلال الكائنات، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27].

ومن أسمائه الحسنى، وصفاته العظمى النور، قال الله تعالى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، وبيانه أن قوله:{لَا تَأخُذُهُ سِنَةٌ} مقرّر للكلام السابق، قال في "الكشّاف": وهو تأكيد لـ {القَيُّوم} لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيّومًا، وهو مثل قوله:"لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"، وقوله:{لَهُ مَا في السّماَواَتِ وَالأَرْضِ} كالتعليل لمعنى القيوميّة، أي كيف ينام، وهو مالك ما في السماوات وما في الأرض، ومربيهم، ومدبّر أمور معاشهم ومعادهم؟ وإلى الأول الإشارة بقوله:"يخفض القسط ويرفعه"، وإلى الثاني بقوله:"يُرفَع إليه عمل الليل إلخ".

[فإن قلت]: فأين معنى قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآية [البقرة: 255] في الحديث؟

[قلت]: تخصيص ذكر البصر الذي هو نوع من طريق العلم مُلَوّح إليه، فما أجمعه من كلمات! وما أفصحه من عبارات! ولعمر الله إن هذا الحديث سيّد الأحاديث، كما أن آية الكرسيّ سيدة الآيات، انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله، وهو بحث جيّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي موسى الأشعريّ صلى الله عليه وسلم عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف رحمه الله بهذا السند هنا (35/ 195) وأعاده بعده (196) بالسند التالي، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(491) و (أحمد) في "مسنده"(4/ 395 و400 و405) و (مسلم)(1/ 111) و (ابن خزيمة) في "التوحيد" (19

ص: 152

و 20) و (ابن حبان) في "صحيحه"(266) و (الآجريّ) في "الشريعة"(304) و (ابن منده) في "الإيمان"(775 و 776 و 777 و 779) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(80) و (البغويّ) في "شرح السنّة"(91)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات، وهو الوجه، والبصر، ورفع القسط، وخفضه، فكلها صفات ثابتة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله.

2 -

(ومنها): بيان استحالة النوم على الله سبحانه وتعالى؛ لكونه من النقائص.

3 -

(ومنها): أن الله تعالى يُعزّ من يشاء ويهدي من يشاء من عباده، كما قال عز وجل:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الآية.

4 -

(ومنها): أن الأعمال ترفع إليه كل يوم وكلّ ليلة، وهذا معنى قوله عز وجل:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

5 -

(ومنها): إثبات الحجاب له سبحانه وتعالى بينه وبين خلقه، ولولاه لاحترقوا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

196 -

(حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيع، حدثنا المسْعُودِيُ، عَنْ عَمرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدة، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله سبحانه وتعالى: "إِنَّ الله لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرفَعُهُ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدرَكَهُ بَصَرُهِ"، ثُمَّ قَرَأَ أبو عُبَيْدة {أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8]).

رجال هذا الإسناد ستة أيضًا، وكلهم تقدّموا في السند السابق، سوى وكيع بن الجرّاح، فتقدّم قبل أربعة أحاديث، وسوى المسعوديّ، وهو:

ص: 153

1 -

(عبد الرحمن بن عبد الله) بن عُتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفيّ، صدوقٌ اختلط قبل موته ببغداد [7].

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعي، وأبي إسحاق الشيباني، والقاسم بن عبد الرحمن ابن مسعود، وعلي بن الأقمر، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعمرو بن مرّة، وغيرهم.

ورَوى عنه السفيانان، وشعبة، وهم من أقرانه، وجعفر بن عون، وأبو داود الطيالسي، وعبد الله بن يزيد المقرىء، ووكيع، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أبي عُمَيس والمسعودي، قال: كلاهما ثقة، والمسعودي أكثرهما حديثًا، قلت هو أخوه؟ قال: نعم. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سماع وكيع من المسعودي قديم، وأبو نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد، وقال حنبل عن أحمد: سماع أبي النضر، وعاصم، وهؤلاء من المسعودي بعدما اختلط. وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي مريم عن يحيى: من سمع منه في زمان أبي جعفر فهو صحيح السماع. وقال يعقوب بن شيبة عن يحيى: المسعودي ثقة، وقد كان يَغْلَط فيما يروي عن عاصم والأعمش والصغار، يخطئ في ذلك، ويُصَحَّحُ له ما رَوَى عن القاسم، ومَعنٍ، وشيوخه الكبار. وقال عباس الدُّوريّ عن ابن معين: أحاديثه عن الأعمش مقلوبة، وعن عبد الملك أيضًا، وأما عن أبي حَصِين، وعاصم فليس بشيء، إنما أحاديثه الصحاح عن القاسم، وعن عون، وقال عبد الله بن عليّ بن المدينيّ عن أبيه: المسعوديّ ثقة، وقد كان يَغْلَطُ فيما رَوَى عن عاصم، وسَلَمَة، ويُصَحَّح فيما روى عن القاسم، ومَعْن. وقال ابن نمير: كان ثقة، واختَلَطَ بآخره، سمع منه ابن مهدي، ويزيد بن هارون أحاديث مختلطة، وما رَوَى عنه الشيوخ فهو مستقيم.

وقال عمرو بن علي: سمعت يحيى يقول: رأيت المسعودي سنة رآه عبد الرحمن ابن مهدي، فلم أكلمه، وقال أيضًا: سمعت معاذ بن معاذ يقول: رأيت المسعودي سنة

ص: 154

(54)

يطالع الكتاب -يعني أنه قد تغير حفظه- وقال يحيى بن سعيد: آخر ما لقيت المسعودي سنة سبع أو ثمان وأربعين، ثم لقيته بمكة سنة (58)، وكان عبد الله بن عثمان ذلك العام معي، وعبد الرحمن بن مهدي، فلم نسأله عن شيء.

وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، إلا أنه اختلط في آخر عمره، ورواية المتقدمين عنه صحيحةٌ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عيينة عن مِسْعَر: ما أعلم أحدًا أعلم بعلم ابن مسعود من المسعودي. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: تغير قبل موته بسنة، أو سنتين. وقال يعقوب بن شيبة: توفي سنة (65)، وكان ثقة صدوقًا، إلا أنه تغير بآخره. وقال ابن عمّار: كان ثبتًا قبل أن يختلط، ومن سمع منه ببغداد فسماعه ضعيف. وقال العجلي: ثقة إلا أنه تغير بآخره. وقال ابن خِرَاش نحو ذلك. وقال ابن حبان: اختلط حديثه، فلم يتميز، فاستَحَقَّ الترك. وقال أبو النضر، هاشم بن القاسم: إني لأعرف اليومَ الذي اختَلَطَ فيه المسعودي، كنّا عنده، وهو يُعَزَّى في ابن له، إذ جاءه إنسان، فقال له: إن غلامك أخذ من مالك عشرة آلاف وهرب ففزع، وقام فدخل في منزله، ثم خرج إلينا وقد اختلط.

وقال سليمان بن حرب، وأبو عبيد، وأحمد بن حنبل: مات سنة ستين ومائة.

أخرج له الأربعة (1)، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث فقط برقم 196 و 828 و 906 و 2130 و 2208 و 2241 و 3030 و 3249 و 4109 و 4148.

والحديث صحيح، ولا يضرّه الكلام في المسعوديّ؛ لأن وكيعًا ممن سمع منه قبل اختلاطه، كما سبق عن الإمام أحمد رحمه الله، وأيضًا تابعه الأعمش عند مسلم، والمصنّف، في السند الماضي، وشعبة عند أبي داود الطيالسيّ، في "مسنده"(491)، وشرح الحديث والمسائل المتعلّقة به قد سبقت في الذي قبله.

(1) وأما أشار إليه الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" من أن البخاري أخرج له في التعاليق، فقد تعقّبه الحافظ في "تهذيب التهذيب"، راجعه 2/ 524.

ص: 155

وقوله: "ثم قرأ أبو عبيدة إلخ" أي إشارةً إلى أن النار التي راها موسى عليه السلام في تلك الشجرة هي من نور الله تعالى التي من جملة حجابه، وليس نارًا حقيقةً، قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" عند شرح هذه الآيات:

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مُذَكِّرًا ما كان من أَمر موسى عليه السلام كيف اصطفاه الله، وكلمه وناجاه وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها، وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له، فقال تعالى:{إِذ قَالَ مُوسَى لِأَهلِهِ} أي اذكر حين سار موسى بأهله، فأضل الطريق، وذلك في ليل وظلام، فآنس من جانب الطور نارًا، أي رأى نارًا تَتَأَجَّجَ وتضطرم، فقال {لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن الطريق {أَوْ آتِيكُمْ} منها {بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون به، وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورًا عظيمًا، ولهذا قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي فلما أتاها ورأى منظرًا هائلًا عظيمًا، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا تَوَقُّدًا، ولا تزداد الشجرة إلا خُضرَةً ونَضْرةً، ثم رفع رأسه، فإذا نورها متصل بعَنَان السماء، قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارًا، وإنما كانت نورًا يتوهج، وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين، فوقف موسى متعجبًا مما رأى، فـ {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّار} قال ابن عباس: قُدِّسَ {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من الملائكة، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود -هو الطيالسي- حدثنا شعبة، والمسعودي، عن عمرو بن مرة، سمع أبا عبيدة، يحدث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخْفِض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل"، زاد المسعودي:"وحجابه النور، أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره"، ثم قرأ أبو

ص: 156

عبيدة {أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8]، وأصل الحديث مخرج في "صحيح مسلم" 179 من حديث عمرو بن مرة.

وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي الذي يفعل ما يشاء، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم، المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسموات، بل هو الأحد الصمد، المنزه عن مماثلة المحدثات. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

197 -

(حَدَثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ، أَنْبَأنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "يَمِينُ الله مَلْأَى، لَا يَغِيضُها شَيْءٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنهارَ، وَبِيدهِ الْأُخْرَى الميزَانُ، يَرفَعُ الْقِسْطَ وَيَخْفِضُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا أنفَقَ، مُنْذُ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُض مِمَّا في يَدَيْهِ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هارُونَ) أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقن عابدٌ [9] 16/ 127.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) أبو بكر المطلبيّ المدني نزيل العراق، إمام المغازي، صدوقٌ يدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5] 4/ 35، والباقون تقدّموا قبل خمسة أحاديث، وكذا لطائف الإسناد.

[تنبيه]: لم ينفرد ابن إسحاق بهذا الإسناد، فقد تابعه شعيب بن أبي حمزة عند البخاريّ، وسفيان بن عيينة عند مسلم، والثوريّ عند أحمد، ومالك عند البخاريّ، فكلهم رووه عن أبي الزناد، فلا تضرّ عنعنته، وإن كان مدلّسًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)"تفسير ابن كثير" 3/ 357 - 358.

ص: 157

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ("يَمِينُ الله) هذه الرواية يُتعقّب بها على من فسّر الرواية الأخرى عند البخاريّ وغيره بلفظ: "يد الله ملآى" بالنعمة، وأبعد منه من فسّرها بالخزائن، وقال أطلق اليد على الخزائن لتصرّفها فيها، قاله في "الفتح"(1).

(ملآى) بفتح الميم، وسكون اللام، وهمزة، مع القصر: تأنيث ملآن، وإنما أنثها لأن "اليمين" يجوز تأنيثها، ووقع في رواية لمسلم بلفظ "يد الله ملآن" فقيل: هي غَلَطٌ؛ لأن اليد مؤنّثة، ووجهها بعضهم بإرادة "اليمين" فإنها تذكّر وتؤنّث، كما ذكرناه آنفًا، وكذلك الكفّ.

قال في "الفتح": والمراد من قوله: "ملآى" أو "ملآن" لازمه، وهو أنه في غاية الغنى، وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق. انتهى (2).

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن التفسير باللازم غير صحيح، فالحقّ تفسيره بالملزوم واللازم معًا، فافهم هداني الله وإياك سبيل الرشاد.

(لَا يَغِيضُها) بفتح أوله، وبالمعجمتين: أي لا ينقصها، يقال: غاض الماء يَغيض كباع يبيع: إذا نقص، أي لا يَنقُصها (شَيْءٌ) أي من الإنفاق (سَحَّاءُ) بفتح المهملتين، مثقّلا ممدودًا: أي دائمة الصبّ، يقال: سَحّ بفتح أوله مثقّلًا يَسِحّ، بكسر السين في المضارع، وضمّها، من بابي ضرب، ونصر، وهو مرفوع على أنه خبر لمحذوف، أي هي سَحّاء، ووقع في رواية لمسلم:"سَحًّا" بلفظ المصدر (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بالنصب على الظرفيّة، والمراد عدم الانقطاع لمادّة عطائه تعالى، أي هي دائمة الانصباب في الليل والنهار، قال في "الفتح": ويجوز الرفع، ووقع في رواية لمسلم "سَحّ الليل والنهار"

(1)"الفتح " 13/ 484.

(2)

"الفتح" 13/ 484.

ص: 158

بالإضافة، وفتح الحاء، ويجوز ضمهما. انتهى (1).

وقال السنديّ رحمه الله: قيل: ما أتمّ البلاغة، وأحسن هذه الاستعارة، فلقد نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ على معان دقيقة:

منها: وَصْفُ يده تعالى في الإعطاء بالتفوّق والاستعلاء، فإن السح إنما يكون من عُلْوٍ.

ومنها: أنها المعطية عن ظهر غنًى؛ لأن الماء إذا انصبّ من فوقُ انصبّ بسهولة.

ومنها: جزالة عطاياه سبحانه وتعالى، فإن السحّ يُستعمل فيما ارتفع عن حدّ التقاطر إلى حدّ السيلان. ومنها: أنه لا مانع لها؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب من فوقُ لم يستطع أحدٌ أن يردّه. انتهى، وهو توجيه وجيه، والله تعالى أعلم.

(وَبِيَد الْأُخْرَى الميزَانُ) قال السنديّ رحمه الله: هذا اللفظ معناه كما ذكروا في "اليمين" من الجاز، فليُتأمل، والوجه مذهب السلف، فالواجب فيه وفي أمثاله الإيمان بما جاء في الحديث والتسليم، وترك التصرّف فيه بالعقل. انتهى (2).

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد السنديّ رحمه الله في آخر كلامه، فإن مذهب السلف هو الأسلم، والأعلم، والأحكم، فيا ليته التزم هذا المذهب في كلّ كتابه، ولكنه ما التزمه، فسبحان من يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.

(يَرْفَعُ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير الله تعالى، وقوله:(الْقِسْطَ) منصوب على المفعوليّة (وَيَخْفضُ) بالبناء للفاعل أيضًا، قال السنديّ: قيل: هو إشارة إلى إنزال العدل إلى الأرض مرّة، ورفعه أخرى. انتهى (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَرَأَيْتَ) بضمير المخاطب الواحد، وفي "الصحيح":"أرأيتم" بالجمع، وهو تنبيه على وضوح ذلك لمن له بصيرة (مَا أنفَقَ) أي قدر ما أنفق الله تعالى (مُنْذُ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضَ، فَإِنَّهُ) أي إنفاقه، وسقط

(1)"الفتح" 13/ 484.

(2)

"شرح السندي" 1/ 131.

ص: 159

من بعض النسخ لفظة "فإنه"(لَمْ يَنْقُض) وفي رواية "الصحيح": "فإنه لم يَغِضْ"، بالغين والضاد المعجمتين، وهو بمعنى ينقص (مِمَّا في يَدَيْهِ) وفي بعض النسخ "يده" بالإفراد، وفي رواية للبخاريّ:"لم ينقص ما في يمينه"(شَيْئًا) بالنصب على المفعوليّة لـ "ينقص"، وفي بعض النسخ:"شيء" بالرفع، وهو أيضًا صحيح، فيكون مرفوعًا على الفاعليّة؛ لأن "نَقَصَ" يتعدّى ويلزم، قال في "المصباح": نَقَصَ نَقْصًا، من باب قَتَلَ، ونُقْصَانًا، وانتقص: ذَهبَ منه شيءٌ بعد تمامه، ونَقَضتُهُ يتعدَّى ولا يتعدَّى، هذه هي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{نَنقُصُهَا مِنْ أطْرَافِهَا} ، وقوله:{غير مَنقُوصٍ} ، وفي لغة ضعيفة يتعدَّى بالهمزة، والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدّى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقصتُ زيدًا حقَّهُ، وانتقصتُهُ مثلُهُ. انتهى (1).

[تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: يجوز أن تكون "ملآى"، و"لا يغيضها"، و"سحّاء"، و"أرأيت" على تأويل مقول فيه أخبارًا مترادفةً لـ "يمين الله"، ويجوز أن تكون الثلاثة الأخيرة أوصافًا لـ "ملآى"، ويجوز أن يكون "أرأيت" استئنافًا وفيه معنى الترقّي، كأنه لمّا قيل:"ملآى" أوهم جواز النقصان، فأزاله بقوله:"لا يغيضها شيء"، وربما يمتلىء الشيءُ، ولا يغيض، فقيل: سَحَاءُ، ليؤذن بالغيضان، وقرنها بما يدلّ على الاستمرار، من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعها بما يدلّ على أن ذلك ظاهر غير خاف على ذي بصر وبصيرة بعد أن انتقل من ذكر الليل والنهار إلى المدّة المتطاولة بقوله:"أرأيتم" مستأنفًا؛ لأنه خطاب عامّ، والهمزة فيه للتقرير، قال: وهذا الكلام إذا أخذته بجملته من غير نظر إلى مفرداته أبان زيادة الغنى، وكمال السعة، والنهاية في الجود، وبسط اليد في العطاء. انتهى كلامه ببعض تصرّف (2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)"المصباح المنير" 2/ 621.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 552 - 553.

ص: 160

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 197) بهذا السند فقط (1)، وأخرجه (الحميديّ) في "مسنده"(1067) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 242 و 464 و 500 و (البخاريّ)(6/ 92 و 7/ 80 و 9/ 175) و (مسلم)(3/ 77) و (الترمذيّ)(3045) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(395 و 396) و (البغويّ) في "شرح السنة"(1656)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات الثابتة في النصوص الصحيحة، وهي اليد، واليمين، وأنه تعالى يرفع القسط، ويخفضه، وكلها صفات لائقة بجلاله، ثابتة له كما أثبتها هذا النصّ الصريح الصحيح، فلا نعطّل، ولا نشبّه، ولا نؤوّل، قال الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى في "جامعه" بعد أن أخرج هذا الحديث: ما نصّه:

قال أبو عيسى: هذا حديث قد رَوَته الأئمةُ، نؤمن به كما جاء، من غير أن يُفَسَّر، أو يُتَوَهَّم، هكذا قال غيرُ واحد من الأئمة، منهم سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، وابن عيينة، وابن المبارك، أنه تُرْوَى هذه الأشياء، ويُؤمَنُ بها، ولا يقال: كيف؟. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: مراد الترمذيّ رحمه الله بقوله: "من غير أن يُفَسَّر"، تفسير

(1) وأخرجه برقم (2123) من طريق الثوريّ، عن أبي الزناد بلفظ آخر، ونصّه:

حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النذر لا يأتي ابن آدم بشيء، إلا ما قُدِّر له، ولكن يغلبه القدر ما قُدّر له، فيَستَخرِج به من البخيل، فيُيَسِّر عليه، ما لم يكن يُيَسَّر عليه من قبل ذلك، وقد قال الله: أنفق أنفق عليك"، وسيأتي شرحه في محلّه، إن شاء الله تعالى.

ص: 161

الكيفيّة، كما أوضحه آخر كلامه، فتنبّه، فإن بعض الناس يحمل تفويض السلف على أنهم يفوّضون المعنى، وهذا غلطٌ عليهم، فإنهم يعلمون معنى الصفات على ظاهرها، ويُثبتونها كذلك، وإنما يجهلون، ويفوّضون معنى كيفيّتها، فتفطّن لذلك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

2 -

(ومنها): كثرة جود الله سبحانه وتعالى، وأنه ينفق كيف يشاء.

3 -

(ومنها): سعة رزقه تعالى، بحيث لا ينقصه الإنفاق.

4 -

(ومنها): أنه سبحانه وتعالى يرفع الميزان بأفعال العباد، وأرزاقهم، ويخفضه، كيف يشاء، {لِلَّهِ الْأَمرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ} ، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

198 -

(حَدَّثَنا هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ، وَمُحَمدُ بْنُ الصَبَّاحِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِم، حَدَّثَني أَبِي، عَن عُبَيْدِ الله بْنِ مِقْسَم، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، أنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى المنْبَرِ، يَقُولُ. "يَأْخُذُ الجبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وأرضهُ بِيَدهِ"، وَقَبَضَ بِيدهِ، فَجَعَلَ يَقْبِضُها وَيَبْسُطُهَا، "ثُم يَقُولُ: أنَّا الجبارُ، أَيْنَ الجبَّارُونَ؟، أَيْنَ المتكبِّرُونَ؟ " قَالَ: وَيَتَمَيَّلُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ يَمِينهِ وَعَن يَسَاره، حَتَى نَظَرتُ إِلَى المنبَرِ يَتَحَرَّكُ مِن أَسفَلِ شيْءٍ مِنْهُ، حَتَى إِنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم") *

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هِشَامُ بْنُ عمَّارٍ) السّلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوق مقرىء، كَبِرَ فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5.

2 -

(مُحَمَّدُ بن الصَّبَّاحِ) بن سفيان الجرْجَرَائيّ، أبو جعفر التاجر، صدوقٌ [10] 1/ 2. من أفراد المصنّف.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِم) سلمة بن دينار المخزوميّ مولاهم، أبو تَمّام المدني، صدوق فقيه [8].

ص: 162

رَوَى عن أبيه، وسُهيل بن أبي صالح، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، والعلاء بن عبد الرحمن، وكثير بن زيد بن أسلم، وغيرهم.

ورَوَى عنه عبد الرحمن بن مهدي، وابن وهب، والقعنبي، وإبراهيم بن حمزة الزبيري، وعلي ابن المديني، وإسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن أبي مريم، وهشام بن عمار، ومحمد بن الصبّاح الجرجرائيّ، وغيرهم.

قال أحمد: لم يكن يُعرَف بطلب الحديث، إلا كتب أبيه، فإنهم يقولون: إنه سمعها، وكان يتفقه، لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، ويقال: إن كتب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها، وقد رَوَى عن أقوام لم يكن يُعرف أنه سمع منهم. وقال ابن معين: ثقة صدوق، ليس به بأس. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد العزيز بن أبي حازم، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقال: متقاربون، قيل له: فعبد العزيز؟ قال: صالح الحديث، وقال هو، وأبو زرعة: عبد العزيز أفقه من الدَّرَاوردي، وأوسع حديثًا منه.

وقال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس. وذكره ابن عبد البر فيمن كان مدار الفتوى عليه في آخر زمان مالك وبعده. وقال أحمد بن عليّ الأَبار: ثنا أبو إبراهيم التَّرْجُمانيّ قال: قال مالك: قوم يكون فيهم ابن أبي حازم لا يُصيبهم العذاب. قال أبو إبراهيم: مات وهو ساجد. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (4)، وله ثنتان وثمانون سنة. وقال ابن سعد: كان أكثر الحديث، دون الدَّرَاوردي. وقال مصعب الزبيري: كان فقيهًا، وقد سمع مع سليمان بن بلال، فلما مات سليمان أوصى له بكتبه. وقال العجلي، وابن نمير: ثقة.

وقال ابن سعد: وُلد سنة (107)، وقال عبد الرحمن بن شيبة: مات سنة أربع وثمانين ومائة، وهو ساجد، وكذا أَرّخه مُطيَّن وزاد: ويقال: سنة (82).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.

ص: 163

4 -

(أبُوهُ) سلمة بن دينار الأعرج الأَفْزر (1) التمار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ويقال: مولى بني شِجْع من بني ليث، ومن قال: أشجع فقد وَهِمَ، ثقة عابدٌ [5].

رَوَى عن سهل بن سعد الساعدي، وأبي أمامة بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن المسيب، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، ولم يسمع منهما، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي قتادة، وعبيد الله بن مقسم، وغيرهم.

ورَوَى عنه الزهريّ، وعبيد الله بن عمر، وابن إسحاق، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، ومالك، والحمادان، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وسعيد بن أبي هلال، وابناه عبد الجبار وعبد العزيز، وخلق، آخرهم أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي.

قال أحمد وأبو حاتم والعجلي والنسائي: ثقة. وقال ابن خزيمة: ثقة لم يكن في زمانه مثله. وقال ابنه ليحيى بن صالح: مَنْ حَدّثك أن أبي سمع من أحد من الصحابة، غير سهل بن سعد، فقد كَذَب. وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: أصله فارسيّ، وكان أشقر، أحول، أفزر. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال: كان قاصّ أهل المدينة، ومن عبادهم، وزُهّادهم، بَعَث إليه سليمان بن عبد الملك بالزهري في أن يأتيه، فقال للزهري: إن كان له حاجة فليأت، وأما أنا فمالي إليه حاجة، مات سنة (35)، وقد قيل: سنة (4).

وقال ابن سعد: كان يقصّ بعد الفجر في مسجد المدينة، ومات في خلافة أبي جعفر، بعد سنة أربعين ومائة، وكان ثقة، كثير الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: مات بعد الثلاثين إلى الأربعين، وقال عمرو بن علي: مات سنة (33). وقال خليفة: سنة (35)، وقال ابن معين: مات سنة أربع وأربعين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.

(1) قال في "اللسان" 5/ 53: الْفُزُور: الشُّقوق والصُّدوع، ويقال: فَزَرْتُ أنف فلان فَزْرًا: أي ضربته بشيء فشققته، فهو مَفْزُورُ الأنف. انتهى.

ص: 164

5 -

(عُبَيْدُ الله بْنُ مِقْسَمٍ) القرشيُّ، مولى ابن أبي نَمِر، المدنيّ، ثقة مشهور [4].

رَوَى عن جابر، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي صالح السمان، والقاسم بن محمد، وعطاء بن يسار.

ورَوَى عنه إسحاق بن عبيد الله بن أبي طلحة، وأبو حازم بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد بن عجلان، ويحيى بن أبي كثير، وداود بن قيس الفراء، وإسحاق بن حازم المدني، وبُكير بن عبد الله الأشجّ.

قال أبو داود، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه يعقوب بن سفيان.

أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (198) وأعاده بهذا السند أيضا في "كتاب الزهد" برقم (4275) وحديث (388)"هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته"، وحديث (2804)"ما تقولون في الشهيد فيكم؟ ".

6 -

(عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما 1/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه محمد بن الصبّاح، فإنه من أفراده، وهو ثقة، وهشام روى عنه البخاريّ في "صحيحه" أربعة أحاديث.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخيه، فالأول دمشقيّ، والثاني جرجرائيّ، نسبة إلى جرْجَرَايا، بلدة بين بغداد وواسط (1).

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى

(1) راجع "الأنساب" 2/ 42 و"اللباب" 1/ 270.

ص: 165

(2630)

حديثًا، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين من الفتوى من الصحابة رضي الله عنهم والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أنهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى المنْبر) جملة في محل نصب على الحال من المفعول، أي حال كونه قائمًا على المنبر، وفي رواية مسلم يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم، عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها

"، وفي رواية له من طريق سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون".

(يَقُولُ) صلى الله عليه وسلم (يَأخُذُ الجبَّارُ) سبحانه وتعالى (سَمَاوَاتِهِ وَأَرضَهُ) بالإفراد، وفي الرواية الآتية في "كتاب الزهد""وأرضيه" بصيغة الجمع، وهو الذي في "صحيح مسلمٍ"(بِيَده) وعند مسلم "بيديه" بالتثنية (وَقَبَضَ بِيَده) أي قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حكاية عن ربّه تعالى (فَجَعَلَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَقْبِضُها، وَيَبْسُطُها) أي يقبض يده، ويبسطها؛ لما ذكرناه ("ثُمَّ يَقُولُ، أي الله سبحانه وتعالى، فهو معطوف على "يأخذ، والجملة التي قبله من مقولة الراوي معترضة (أنَّا الجبَّارُ) زاد في "الزهد": "أنا الملك"، قال ابن الأثير رحمه الله:"الجبّارّ" معناه الذي يَقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، يقال: جبر الخلق، وأجبرهم، وأجبر أكثرُ، وقيل: هو العالي فوق خلقه، وفَعّالٌ من أبنية المبالغة، ومنه قولهم: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ، وهي العظيمة التي تفوت يد المتناول. انتهى (1).

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأجبرته على كذا بالألف: حَمَلته عليه قهرًا وغلبةً، فهو

(1)"النهاية" 1/ 235.

ص: 166

مُجْبرٌ، هذه لغة عامّة العرب، وفي لغة لبني تميم، وكثير من أهل الحجاز يَتكلَّم بها جَبرتُهُ جَبرًا، من باب قتل، وجُبُورًا، حكاه ابن زهريّ، ولفظه: وهي لغة معروفة، ولفظ ابن القَطّاع: وجبرتك لغة بني تميم، وحكاها جماعة أيضًا، ثم قال الأزهري: فجبرته وأجبرته لغتان جيّدتان، وقال ابن دُريد في باب ما اتَّفَقَ عليه أبو زيد وأبو عبيدة، مما تكلّمت به العرب، من فَعَلْتُ وأفعلتُ: جبرتُ الرجلَ على الشيء، وأجبرته، وقال الخطابّي: الجبّار الذي جبر خلقه على ما أراد من أمره ونهيه، يقال: جبره السلطان، وأجبره، بمعنًى، ورأيت في بعض التفاسير عند قوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أن الثلاثي لغة حكاها الفرّاءُ وغيره، واستشهد لصحّتها بما معناه أنه لا يُبنى فَعّالٌ إلا من فِعل ثلاثيّ، نحو الفتاح، والعلّام، ولم يجئء من أفعل بالألف إلا دَرّاكٌ، فإن حُمل وجَبّارٌ على هذا المعنى، فهو وجه، قال الفرّاء: وقد سمعتُ العرب تقول: جبرته على الأمر، وأجبرته، وإذا ثبت ذلك فلا يُعَوَّل عَلى قول من ضعفها. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن "الجبّار" لغة فصيحة؛ لصحّة ثلاثيّها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟) أي الذين كانوا يتسلّطون على العباد، ويتجبّرون عليهم في الدنيا ظلمًا وعدوانًا (أَيْنَ المتكَبِّرُونَ؟ "، قَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (وَيَتَمَيَّلُ) وفي رواية "الزهد": "ويتمايل"(رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَاره) وفي "الزهد": "وعن شماله"، أي من شدة هيبته، وعظمته (حَتَى نَظَرت إِلَى المنْبَرِ يَتَحرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ) أي من أسفله إلى أعلاه؛ لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى، ويحتمل أنّ تحركه بحركة النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة، قاله النووي، وقال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه، كما حَنّ الجذع، ثم قال: والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه

(1)"المصباح المنير" 1/ 90.

ص: 167

الأحاديث من مشكل، ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته، ولا نُشَبِّه شيئًا به، ولا نشبهه بشيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت عنه فهو حقّ وصدقٌ، فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى، وما خَفِي علينا آمنّا به، ووَكَلْنا علمه إليه سبحانه وتعالى، وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به، ولم نقطع على أحد معنييه بعد تنزيهه سبحانه وتعالى عن ظاهره الذي لا يليق به سبحانه وتعالى، وبالله التوفيق. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال القاضي عياض رحمه الله، وأحسن القول، خلاف عادته في أحاديث الصفات، وقد نقل هذا الكلام منه النوويّ، وأقرّه عليه، وهو أيضًا خلف عادته، فإنه وإن ذكر مذهب السلف، إلا أنه يختار مذهب الخلف المأولين، ويؤيّده، ومن الغريب أنه نقل قبل هذا عن المازريّ في شرح هذا الحديث، أن هذا الكلام استعارة، فقال: وأما إطلاق اليدين لله تعالى، فمتأول على القدرة إلى آخر كلامه، وارتضى هذا التأويل السخيف، فهذا تناقضٌ عجيب.

والحقّ كما بينا غير مرّة أن مذهب السلف هو الأعلم، والأحكم، والأسلم، فلا ينبغي العدول عنه.

ولقد أجاد السنديّ رحمه الله في "شرحه" لهذا الكتاب، حيث قال: والحقّ في هذا الحديث، وكذا فيما قبله وبعده ما ذكره المحقّقون، قال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": كلُّ ما جاء في الكتاب والسنّة من هذا القبيل في صفاته تعالى، كالنفس، والوجه، والعين، والإصبع، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح، فهذه ونظائرها صفاتٌ لله عز وجل ورد بها السمع، فيجب الإيمان بها، وإمرارُها على ظاهرها، مُعرضًا فيها عن التأويل، مجُتنبًا عن التشبيه، مُعتقدًا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيءٌ من صفاته صفاتِ الخلق، كما لا تشبه ذاتُهُ ذواتِ الخلق، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

ص: 168

[الشورى: 11].

وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماءُ السنة، تلقّوها جميعًا بالإيمان والقبول، وتجنّبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله تعالى، كما أخبر سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم، فقال عز وجل:{وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].

قال سفيان بن عيينة: كلُّ ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسّره إلا الله عز وجل ورُسله. وسأل رجلٌ مالك بن أنس عن قوله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالّا، وأمر به أن يُخرَج من المجلس. وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ، وسفيان بن عيينة، ومالكًا عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف.

وقال الزهريّ: على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وقال بعض السلف: قَدَمَ الإسلام لا يَثبُت إلا على قنطرة التسليم. انتهى.

وبنحو هذا صرّح كثير من المحقّقين، فعليك به والله الموفّق. انتهى كلام السنديّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيس، وبحث أنيس. والله تعالى أعلم بالصواب.

(حَتَّى إِنِّي أَقُولُ) وفي "الزهد": "لأقول"(أَساقِطٌ) بهمزة الاستفهام (هُوَ) أي المنبر (بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) هذا الاستفهام من ابن عمر رضي الله عنهما جرى بينه وبين نفسه، والله تعالى أَعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.

ص: 169

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 198) بهذا السند، وأعاده في "كتاب الزهد" برقم (4275) بالسند نفسه، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(2/ 72 و 78) و (عبد بن حميد) في "مسنده"(742) و (البخاريّ)(9/ 150) من طريق نافع، عن ابن عمر، و (مسلم)(8/ 126 و 127) و (أبو داود)(4732) و (الطبري) في "تفسيره"(24/ 27) و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(73) و (ابن حبان) في "صحيحه"(7324) و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13327) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(339 و340) و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(547) و (أبو الشيخ) في "العظمة"(139) و (البغويّ)"التفسير"(4/ 87) مع اختلاف في الألفاظ، والله تعالى أعلم.

وأما مطابقته للباب، فواضحة، حيث بيّن صفة اليد، والقبض والبسط، والكلام، وكلها مما أنكرها الجهميّة الضُّلّال، وبقية الفوائد تقدّمت في الأحاديث السابقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله أول الكتاب قال:

199 -

(حَدَّثنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حدثنا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابرٍ، قَالَ: سمعت بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ الله يَقُولُ: سَمعتُ أبا إِدرِيسَ الخوْلَانِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَني النوَّاسُ بْنُ سمعَانَ الْكِلَابِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ قَلبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصبَعَيْنِ مِنْ أصَابعِ الرَّحْمَنِ، إِن شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أزَاغَهُ"، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَا مُثبتَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ"، قَالَ: "وَالميزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ، يَرفَعُ أَقوَامًا، وَيَخْفِضُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هِشَامُ بنُ عَمّارٍ) المذكور في السند السابق.

2 -

(صدَقةُ بْنُ خَالِدٍ) الأُمويّ مولاهم، أبو العباس الدمشقيّ، مولى أُمِّ البنين

ص: 170

أُختِ معاوية، وقيل: أختِ عمر بن عبد العزيز، ثقة [8].

رَوَى عن أبيه، وزيد بن واقد، والأوزاعيّ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وعُتبة بن أبي حكيم، وعثمان بن أبي العاتكة، وهشام بن الغاز، وجماعة.

ورَوَى عنه يحيى بن حمزة الحضرمي، والوليد بن مسلم، هو من أقرانه، وأبو مسهر، وقرأ عليه القرآن، ومحمد بن المبارك الصُّوريّ، وهشام بن عمار، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، ليس به بأس، أثبت من الوليد بن مسلم، صالح الحديث. وقال ابن معين، ودُحَيم، وابن نمير، والعجلي، ومحمد بن سعد، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، زاد بن نمير: وهو أوثق من صدقة بن عبد الله، وصدقة بن يزيد، وقال ابن معين: كان صدقةُ أحب إلى أبي مسهر من الوليد، وكان يحيى بن حمزة قَدَرِيّا، وصدقة أحب إلي منه. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا مسهر يقول: صدقة صحيح الأخذ، صحيح الإعطاء.

وقال الآجري عن أبي داود: من الثقات، هو أثبت من الوليد بن مسلم، رَوى الوليدُ عن مالك عشرة أحاديث، ليس لها أصل، منها عن نافع أربعة. وذكره ابن حبان، وقال: وهو مولى أم البنين أخت معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وقال النسائي: في "الكنى"، وابن عمار: ثقة.

قال دُحيم وغيره: مولده سنة ثماني عشرة ومائة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة، توفي سنة سبعين أو إحدى وسبعين ومائة، وقال هشام بن عمار وغيره: مات سنة ثمانين، وقال دُحيم: مات سنة أربع وثمانين، وكان كاتبا لشعيب.

أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

3 -

(ابْنُ جَابرٍ) هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدَّارَاني، ثقة [7].

رَوَى عن مكحول، والزهري، وعطية بن قيس، وعمير بن هانئ، وسليم بن

ص: 171

عامر، وبسر بن عبيد الله الحضرمي، وزيد بن أسلم، وسعيد المقبريّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وصدقة بن خالد، وصدقة بن المبارك، وعمر بن عبد الواحد، وبشر بن بكر، وحسين بن علي الجعفي، وغيرهم.

قال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن معين، والعجليّ، وابن سعد، والنسائيّ، وغير واحد: ثقة. وقال ابن المديني: يُعَدّ في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشام، بعد الصحابة رضي الله عنه وقال يعقوب بن سفيان: عبد الرحمن ويزيد ابنا جابر ثقتان، كانا نزلا البصرة، ثم تحولا إلى دمشق. وقال أبو داود: هو من ثقات الناس. وقال ابنه أبو بكر بن أبي داود: ثقة مأمون. وقال موسى بن هارون: رَوَى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وكان ذلك وَهمًا منه، هو لم يَلْقَ ابنَ جابر، وإنما لَقِي ابنَ تميم، فظَنّ أنه ابن جابر، وابن جابر ثقة، وابن تميم ضعيف. وقال الفلاس: ضعيف الحديث، وهو عندهم من أهل الصدق، رَوَى عنه أهل الكوفة أحاديث مناكير، قال الخطيب: كأنه اشتبه على الفلاس بابن تميم. وقال ابن مهديّ: إذا رأيت الشامي يَذكر الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن يزيد، فاطمَئِنّ إليه. وقال دُحيم: هو بعد زيد بن واقد في مكحول.

وقال أبو حاتم: صدوق، لا بأس به، ثقة.

قال خليفة وغيره: مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، زاد ابن سعد: وهو ابن بضع وثمانين. وقال صفوان بن صالح: سمعت الوليد وغير واحد من أصحابنا يقولون: مات سنة (54)، وقال عبد الله بن يزيد القاري: مات سنة (55)، وقال ابن معين: مات سنة (56)، وكذا حكاه البخاري، ويعقوب بن شيبة، وجزم ابن حبان في "الثقات" بالقول الأول.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

4 -

(بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ الله) الحضرميّ الشاميّ، ثقة حافظ [4].

رَوَى عن واثلة، وعمرو بن عَبَسَة، ورُويفع بن ثابت، وعبد الله بن مُحَيريز، وأبي إدريس الخولاني، وغيرهم.

ص: 172

ورَوى عنه عبد الله بن العلاء بن زَبْر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وزيد بن واقد، وغيرهم.

قال العجلي، والنسائي: ثقة. قال أبو مسهر: هو أحفظ أصحاب أبي إدريس.

وقال مروان بن محمد: من كبار أهل المسجد، ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (199) وحديث (541) "نعم أصلي فيه

" وحديث (3979) "يكون دُعاة على أبواب جهنم

" وحديث (4042) "احفظ خلالا ستا

" وحديث (4095) "تكون بينكم وبين بني الأصفر

"، وحديث (4115) "ألا أخبرك عن ملوك الجنة

".

5 -

(أبو إِدرِيسَ الخوْلَاني) عائذ الله بن عبد الله بن عمرو، ويقال: عَيِّذُ الله بن إدريس بن عائذ بن عبد الله بن عُتبة بن غَيْلان بن مكين الْعَوْذيّ، ويقال: الْعَيْذيّ أيضًا، ثقة ثبت، من كبار التابعين، من علماء أهل الشام، وعُبّادهم، وقُرّائهم [2].

رَوَى عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وبلال، وثوبان، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وعوف بن مالك، والمغيرة، ومعاوية، والنواس ابن سمعان، وأبي ثعلبة الخشني، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وغيرهم.

ورَوَى عنه الزهريّ، وربيعة بن يزيد، وبسر بن عبيد الله، وعبد الله بن ربيعة بن يزيد، والقاسم بن محمد، والوليد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، ومكحول، وغيرهم.

قال مكحول: ما رأيت أعلم منه. وقال الزهريّ: كان قاصّ أهل الشام وقاضيهم في خلافة عبد الملك. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء. وقال أبو زرعة الدمشقي: أحسن أهل الشام لُقِيّا لأجلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جُبير بن نُفير، وأبو إدريس، وقد قلت لدحيم: مَن المقدم منهم؟ قال: أبو "إدريس. قال أبو زرعة: وأبو إدريس أروى عن التابعين من جُبير بن نُفير فأما معاذ بن جبل، فلم يصح له سماع، وإذا حدث أبو إدريس عن معاذ أسند ذلك إلى يزيد بن

ص: 173

عَمِيرة. قال أبو زرعة: قال محمد بن أبي عُمر عن ابن عُيينة، عن الزهريّ، عن أبي إدريس أنه أدرك عُبادة بن الصامت، وأبا الدرداء، وشداد بن أوس، وفاته معاذ بن جبل، قال أبو زرعة: وقد حدثنا محمد بن المبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي إدريس، قال: جلست خلف معاذ بن جبل، وهو يصلي، فلما انصرف من الصلاة، قلت: إني لأحبك لله، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المتحابّون في الله في ظلّ عرشه، يوم لا ظلّ إلا ظلّه"(1).

قال أبو زرعة: وقال هشام عن صدقة، عن ابن جابر، عن عطاء الخراساني، سمعت أبا إدريس نحوه، قال: وحدثني سليمان، عن خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبي إدريس، قال أبو زرعة: أبو إدريس يَروي عن أبي مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غَنْم، وكلاهما يحدثان بهذا الحديث، عن معاذ، والزهريّ يحفظ عن أبي إدريس أنه لم يسمع من معاذ، والحديث حديثهما.

وقال أبو عمر بن عبد البر: سماع أبي إدريس من معاذ عندنا صحيح، من رواية أبي حازم وغيره، فلعل رواية الزهري عنه أنه فاتني معاذ بن جبل في معنى من المعاني، وأما لقاؤه وسماعه منه فصحيحٌ غير مدفوع، وقد سُئل الوليد بن مسلم، وكان عالما يأيام أهل الشام، هل لقي أبو إدريس معاذ بن جبل؟ قال: نعم أدرك معاذ بن جبل، وأبا عبيدة، وهو ابن عشر سنين، وُلد يوم حُنين، سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول ذلك.

قال ابن معين وغيره: مات سنة ثمانين.

قال الحافظ: إذا كان وُلد في غزوة حُنين، وهي في أواخر سنة ثمان، ومات معاذ سنة ثمان عشرة، فيكون سنه حين مات معاذ تسع سنين ونصفًا أو نحو ذلك، فيبعد في العادة أن يُجاري معاذًا في المسجد هذه المجاراة، أو يخاطبه هذه المخاطبة على ما اشتهر من عادتهم، أنه لا يطلبون العلم إلا بعد البلوغ، والجمعُ الذي جمع به ابن عبد البر، قد

(1) رواه أحمد في "مسنده" 5/ 233.

ص: 174

سبقه إليه الطحاوي في "مشكله"، وساقه من طُرُق كثيرة إلى أبي إدريس، أنه سمع معاذًا، وعبادة بالقصة المذكورة.

وقال العجلي: دمشقي تابعي ثقة. وقال أبو حاتم، والنسائي، وابن سعد: ثقة.

وقال أبو مسهر: لم نجد له ذكرًا بعد عبد الملك. وقال الهيثم بن عدي: تُوفي زمن عبد الملك. وذكره الطبري في طبقات الفقهاء في نفر من أهل الشام، أهلِ فقه في الدين، وعلم بالأحكام والحلال والحرام. ورَوَى هالك عن أبي حازم، عن أبي إدريس، قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا أنا بفتي بَرّاق الثنايا، فسألت عنه، فقالوا: معاذ، فلما كان الغد هجّرت، فوجدته يصلي، فلما انصرف سلمت عليه، فقلت: والله أني لأحبّك

الحديث، وهو الذي أشار إليه ابن عبد البر. وقال البخاري: لم يسمع من عمر. وقال ابن حبان في "الثقات": ولاه عبد الملك القضاء بعد عزل بلال بن أبي الدرداء، وكان من عباد أهل الشام وقرائهم، ولم يسمع من معاذ.

وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: أسمع أبو إدريس من معاذ؟ فقال: يختلفون فيه، فأما الذي عندي فلم يسمع منه.

قال الجامع عفا الله عفه: قول من قال: لم يسمع من معاذ هو الأرجح عندي؛ لأن أبا زرعة الدمشقيّ أعلم الناس بأحوال أهل الشام، وتواريخهم، وقد نفاها، فيكون هو الأرجح، والله تعالى أعلم.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

6 -

(النَّوَّاسُ بْنُ سمعَانَ الْكِلَابِي) ويقال له: الأنصاريُّ قال بعضهم: هو ابن سمعان بن خالد بن عبد الله بن عمرو بن قُرْط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، له ولأبيه صحبة (1)، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو إدريس

(1)"الإصابة" 6/ 377.

ص: 175

الخولانيّ، وجُبير بنُ نُفَير الحضرميّ، قال ابن عبد البر: يقال: إن أباه وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه نعليه، فقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج أخته، فلما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم تعوّذت منه فتركها، وهي الكلابية، وقد اختُلف في اسمها على أقوال، ليس هذا محل حكايتها، وقال أبو حاتم الرازيّ، وأبو أحمد العسكريّ: إن النوّاس سكن الشام (1).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (199) وحديث (4075)"ما شأنكم، فقلنا .. ، وحديث (4076) "سيوقد المسلمون من قَسِيّ يأجوج ومأجوج .. "، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الشاميين.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والسماع من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: بسر عن أبي إدريس.

6 -

(ومنها): أن صحابية من المقلين في الرواية، ليس له في الكتب الستة إلا خمسة أحاديث فقط، راجع ترجمته في "تحفة الأشراف"(2)، والله تعالى أعلم.

(1)"تهذيب التهذيب" 4/ 244.

(2)

"تحفة الأشراف" 8/ 279 - 299.

ص: 176

شرح الحديث:

عن أبي إدريس الخولاني، أنه قال:(حَدَّثَني النَّوَّاسُ بْنُ سِمعَانَ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (الْكِلَابِيُّ) بكسر الكاف: نسبة إلى كلاب أحد أجداده، وهو كلاب بن ربيعة، بن عامر بن صعصعة، كما سبق في نسبه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا) نافية (مِنْ) زائدة بعد النفي، كما قال في "الخلاصة":

وَزِيدَ فِي نَفْي وَشِبْهِهِ فَجَر

نَكِرَةً كـ "مَا لِبَاغ مِنْ مَفَر"

(قَلْبٍ) مبتدأ خبره قوله: (إِلَّا بَيْنَ إِصبَعَيْنِ) بكسر الهمزة، وفتح الوحّدة، أفصح لغاتها، وهي عشرة، تثليثُ الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصبُوع، بوزن أُسْبُوع.

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم: "إن قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه كيف يشاء

" الحديث.

(مِنْ أَصَابعِ الرَّحْمَنِ) قال المأولون: إطلاق الأصبع عليه تعالى مجاز، أي تقليب القلوب في قدرته يسير إلى آخر ما قالوه، قلت: الحقّ كما تقدّم في الأحاديث السابقة عدم التعرّض للتأويل، بل نثبت الأصابع ونحوها لله تعالى كما أثبته النصّ الصريح الصحيح على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.

والحاصل أن هذا الحديث من أحاديث الصفات التي نؤمن بها، ونعتقد أنها حقّ من غير تعرّض للتأويل، ولا لمعرفة الكيفيّة؛ لأن الإيمان بها فرضٌ، والامتناع عن الخوض في معرفة حقاقها واجب، فالمهتدي من سلك فيها سبيل التسليم، والخائض في إدراك كيفيّتها زائغ، والمنكر لها معطّلٌ، والمكيّف مشبّه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

ونقل الطيبيّ في "شرحه" عن شيخه أبي حفص السُّهْرورديّ رحمه الله أنه قال في "كتاب العقائد" له:

أخبر الله عز وجل أنه استوى على العرش، فقال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالنزول، وغير ذلك مما جاء من اليد، والقدم،

ص: 177

والتعجب، والتردّد، وكلّ ما ورد من هذا القبيل، فلا يُتصرّف فيها بتشبيه، ولا تعطيل، فلولا إخبار الله تعالى، وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم. ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى، وتلاشىى دون ذلك عقل العقلاء، ولُب الألبّاء. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نقله الطيبي عن شيخه هو التحقيق الحقيق بالقبول، فيا ليت الطيبيّ مشى على طريقة شيخه، ولكنه حاد، ومال عن الصراط المستقيم، فترى في شرحه يختار مذهب المؤوّلين، ويقوّيه، ويطوّل نفسه في تقريره، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختُلف فيه من الحقّ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

(إِنْ شَاءَ) الله تعالى إقامته (أَقَامَهُ) أي أثبته على الحقّ (وَإِنْ شَاءَ) إزاغته (أَزَاغَهُ) أي أماله عن الحقّ، فيقلبها تارة من فجورها إلى تقواها، بأن يجعلها تقيّةً بعد أن كانت فاجرةً، ويعدلها أخرى عن تقواها إلى فجورها، بأن يجعلها فاجرة بعد أن كانت تقيّةً، كما قال الله عز وجل:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8].

قال بعضهم: نسب تقليب القلب إلى الله تعالى إشعارًا بأن الله تعالى إنما تولّى بنفسه أمر قلوبهم، ولم يَكِله إلى أحد من ملائكته، وخصّ الرحمن بالذكر إيذانًا بأن ذلك التولّي لم يكن إلا بمحض رحمته، وفضل نعمته؛ كيلا يطَّلع أحد غيره على سرائرهم، ولا يكتب عليهم ما في ضمائرهم. انتهى (2).

(وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ: يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ) وفي رواية أحمد: "يا مقلّب القلوب" أي مصرّفها تارة إلى الطاعة، وتارة إلى المعصية، وتارة إلى اليقظة، وتارة إلى الغفلة (ثَبِّتْ قلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) أي اجعله ثابتًا على دينك القويم، غير مائل عن

(1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 544.

(2)

"الكاشف" 2/ 544.

ص: 178

صراطك المستقيم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَالميزَان بِيَدِ الرحمَنِ، يَرفَع) بالبناء للفاعل، أي يرفع الله بذلك الميزان (أَقْوَامًا) وفي نسخة "قومًا"، أي يرفعهم إلى الدرجات العلى بسبب أعمالهم الصالحات (وَيَخْفِضُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب (آخَرِينَ) أي يخفض أقوامًا آخرين إلى الدركات السفلي بسبب ارتكابهم المعاصي الموبقات (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) تنازعاه الفعلان قبله، أو متعفق بخبر مبتدإ مقدر، أي ذلك كائن إلى يوم القيامة، وهو إشارة إلى استمرار هذا الرفع والخفض إلى آخر الدهر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث النّوّاس بن سمعان رضي الله عنهما هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 199) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(4/ 182) و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(219) و (النسائيّ) في "النعوت" من "الكبرى"(1) و (ابن حبان) في "صحيحه"(943) و (الآجري) في "الشريعة"(317) و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 525 و 2/ 289) وصححه، ووافقه الذهبيّ، و (البغويّ) في "شرح السنة"(89).

وفي الباب عن عبد الله عمرو عند مسلم رقم (2654) وابن حبان (902) وأنس عند الترمذيّ في "القدر"(2140) وحسّنه، وعند ابن ماجه (2834) وابن أبي عاصم (225) والآجريّ ص 317 وعائشة عند أحمد (6/ 91 و251) وابن أبي عاصم (224) والآجريّ (ص 317) وأم سلمة عند أحمد (6/ 294 و 302) وابن أبي عاصم (223) والآجريّ (ص 316) وسبرة بن الفاكه عند ابن أبي عاصم (220) وعن أبي

(1) عزاه إليه في "تحفة الأشراف" 9/ 61.

ص: 179

هريرة عنده أيضًا (229)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من صفات الله تعالى، وهو صفة الأصابع، واليد، فإنهم ينكرون ذلك، وأما أهل السنة فيثبتون ذلك كما أثبتته النصوص، على مراد الله تعالى.

2 -

(ومنها): ما قاله البغويّ رحمه الله: فيه بيان أن العبد ليس إليه شيء من أمر سعادته أو شقاوته، بل إن اهتدى فبهداية الله إياه، كان ثبت على الإيمان فبتثبيته، وإن ضلّ فبصرفه عن الهدى، قال الله سبحانه وتعالى:{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، وقال سبحانه وتعالى إخبارًا عن حمد أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وقال عز وجل:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].

3 -

(ومنها): شدّة خوف النبيّ صلى الله عليه وسلم من ربّه، حيث يدعو أن يثبّت الله قلبه على دينه، وشدّة حرصه صلى الله عليه وسلم على تنبيه أمته أن لا يصيبها ذهول وغفلة عن مراقبة الخواتم، فإن الأمر بالخواتم، وفي حديث أنس رضي الله عنه عند الترمذيّ في "جامعه" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول:"يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك"، قالوا: يا رسول الله آمنّا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:"نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلّبها كيف يشاء".

4 -

(ومنها): أن الميزان بيد الرحمن، يتصرّف فيه بالرفع والخفض كيف يشاء، فالمرفوع من رفع الله تعالى وزنه، والمخفوض الخاسر من خفض الله تعالى وزنه، اللهم ثقل موازين حسناتنا بفضل وجودك، إنك أنت أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 180

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

200 -

(حَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حدثنا عَبْدُ الله بْنُ إِسماعِيلَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله لَيَضْحَكُ إِلَى ثَلَاثَةٍ: لِلصَّفِّ في الصَّلَاةِ، وَللرَّجُلِ يُصَلِّي في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَللرَّجُلِ يُقَاتِلُ -أُرَاهُ قَالَ-: خَلْفَ الْكَتِيبةِ") *

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أبو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 8/ 52.

2 -

(عَبْدُ الله بْنُ إِسماعِيلَ) بن أبي خالد، مجهول [8].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وسعيد بن أبي عروبة، وليث بن أبي سليم، ومجالد بن سعيد، وأبي إسحاق الشيباني.

ورَوى عنه أبو كريب محمد بن العلاء، قال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الحافظ المزيّ رحمه الله: وجدته في نسخة من الترمذي مكتوبة عن المصنف، في حديث أبي المليح بن أُبي أسامة، عن أبيه، في جلود السباع: عبد الله بن إسماعيل بن أبي خالد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قلت: جزم المؤلف -يعني المزّي- في "الأطراف" بذلك فقال: قال الترمذيّ فيه: عن محمد بن بشار، عن يحيى به، وعن أبي كريب، عن ابن المبارك، ومحمد بن بشر، وعبد الله بن إسماعيل، هو ابن أبي خالد، ثلاثتهم عن سعيد ابن أبي عروبة. انتهى (1).

أخرج له الترمذيّ، والمصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

3 -

(مُجَالِدٌ) بن سعيد الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ضعيف، من صغار [6] 1/ 11.

(1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 302 - 303.

ص: 181

4 -

(أبو الوَدّاكِ) -بفتح الواو، وتشديد الدال، آخره كاف- جَبِر بن نَوْف -بفتح النون، وسكون الواو، آخره فاء- الْبِكَاليّ الكوفي، صدوقٌ يَهِم [4].

رَوى عن أبي سعيد الخدري، وشريح القاضي، وعنه مجالد، وقيس بن وهب، وأبو إسحاق، ويونس بن أبي إسحاق، وعلي بن أبي طلحة، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبو التياح.

قال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: صالح. وقال البخاري في "تاريخه": قال يحيى القطان: هو أحب إلي من عطية. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين: عطية مثل أبي الوَدّاك؟ قال: لا، قيل: فمثل أبي هارون؟ قال: أبو الوداك ثقة، ما له ولأبي هارون؟. وقال أبو حاتم: وأبو الوَدّاك أحب إليّ من شهر ابن حوشب، وبشر بن حرب، وأبي هارون. وقال النسائي في "الجرح والتعديل": ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (200) وحديث (3199)"كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه".

5 -

(أبو سَعِيدٍ الخدرِي) سعد مالك رضي الله عنهما 4/ 37.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِي) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابي رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله ليَضْحك) سبق أن الحقّ أن الضحك من الصفات الثابتة لله تعالى على ما يَليق بجلاله، فلا تغفُل، وقال السنديّ في "شرحه": تعدية الضحك بـ "إلى" لتضمينه معنى الإقبال، وذكر اللام في التفصيل للتنبيه على أنه يضحك تشريفًا لهم. انتهى (1) (إِلَى ثَلَاثةٍ: لِلصَّفِّ في الصَّلَاة) أي لأهله الذين يبادرونه،

(1)"شرح السندي" 1/ 132 - 133.

ص: 182

ويتسابقون إليه؛ مبادرة للطاعة (وَللرَّجُلِ يُصَلِّي في جَوفِ اللَّيْلِ) أي لإيثاره مناجاة ربّه، تاركًا لذة النوم مع زوجته وأحب الناس إليه على فراش وطيء ممهّد (وَللرَّجُلِ يُقَاتِلُ - أُرَاهُ) يحتمل أن يكون هذا من أبي سعيد رضي الله عنه، أو ممن دونه، أي أظنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ-: خَلْفَ الْكَتِيبةِ) ظرف لـ"يقاتل"، و"الكتيبة": الطائفة من الجيش مجتمعةً، والجمع كتائب، قاله في "المصباح"، والمراد أنه يقاتل بعد أن انصرفوا، لا بمعنى أنه يقوم خلفهم ويقاتل".

والحاصل أنه إذا رأى رجلٌ فرار الكتيبة من القتال، وخاف أن يتغلّب العدوّ على المسلمين، فبرز بنفسه للقتال، فقاتل، حتى انتصر، أو استُشهد، فقد قام بعمل صعب، وشاقّ؛ فاستحقّ هذا الفضل العظيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا ضعيف؛ لأن مجالدًا، كان أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، ضعيف عند الجمهور، وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه غير محفوظ، وعبد الله بن إسماعيل، قال أبو حاتم: مجهول، وكذا قال الذهبيّ في "الكاشف"، فالحديث من رواية مجهول عن ضعيف. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا (35/ 200) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 3 (/ 80) و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(911)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 183

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

201 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثمانَ -يَعني ابْنَ المغِيرَةِ الثَّقَفِي- عَنْ سَالم بْنِ أَبِي الجعدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يعرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ في الموْسِمِ، فَيَقُولُ: "أَلا رَجُل يَحمِلُنيَ إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًاَ قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أبلِّغَ كلَامَ رَبِّي") *

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحيَى) الذهليّ الإمام الحافظ الحجة [11] تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الله بْنُ رَجَاءٍ) بن عُمَر، ويقال: المثنى، أبو عُمَر، ويقال: أبو عَمرو الْغُدَانيّ البصريّ، صَدوقٌ يَهِمُ قليلًا [9].

رَوَى عن عكرمة بن عمار، وإسرائيل، وحرب بن شداد، وشعبة، والمسعودي، وعمران القطان، وأبي عوانة، وهشام الدستوائي، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاري، وروى له أيضا في "الصحيح"، وفي "الأدب المفرد"، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والنسائي، وابن ماجه بواسطة أحمد بن محمد بن شبويه، وخليفة بن خياط، وأبو حاتم السجستاني، وعبد الله بن الصبّاح العطار، وعبد الله بن إسحاق الجوهري، وعمرو بن منصور النسائي، والذهليّ، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: كان شيخًا صدوقًا لا بأس به. وقال هاشم بن مرثَد عن ابن معين: كثير التصحيف، وليس به بأس. وقال عمرو بن علي: صدوق كثير الغلط والتصحيف، ليس بحجة. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فجعل يُثني عليه، وقال حسن الحديث عن إسرائيل. وقال أبو حاتم: كان ثقةً رِضًا. وقال ابن المديني: اجتمع أهل البصرة على عدالة رجلين: أبي عمر الحوضي، وعبد الله بن رجاء. وقال النسائي: عبد الله بن رجاء المكي والبصري ليس بهما بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس من أصحاب الحديث.

ص: 184

وقال أبو القاسم اللالكائي: مات سنة تسع عشرة ومائتين، وقال الحضرمي: مات سنة (2)، وقال أبو موسى محمد بن المثنى: مات في آخر ذي الحجة سنة (19)، وحكاه الكلاباذي أيضًا عن غيره. وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاري خمسة عشر حديثًا.

وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (201) وحديث (342) "لا يتناجى اثنان على غائطهما

"، وحديث (2130) "أَوْفِ بنذرك".

3 -

(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة، تُكُلّم فيه بلا حجة [7] 19/ 136.

4 -

(عُثْمانُ بْنُ المغِيرة الثَّقَفِيَّ) مولاهم، أبو المغيرة الكوفيّ، ثقة [6].

رَوَى عن زيد بن وهب، وسالم بن أبي الجعد، وعلي بن ربيعة الوالبي، ومهاجر الشامي، ومجاهد بن جبر، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، وإسرائيل، والثوري، وشريك، ومِسْعَر، وقيس بن الربيع، وأبو عوانة، وآخرون.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: عثمان بن المغيرة هو عثمان بن أبي زرعة، وهو عثمان الأعشى، وهو عثمان الثقفي، كوفي ثقة، ليس أحد أروى عنه من شريك. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: عثمان بن المغيرة، هو عثمان بن أبي زرعة الثقفي، وهو ثقة. وقال أبو حاتم، والنسائي، وعبد الغني بن سعيد: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه العجليّ، وابن نُمير.

أخرج له الجماعة سوى مسلم، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم 201 و1310و1395 و1801 و 3606 و 3607.

5 -

(سَالمُ بْنُ أَبِي الجعْدِ) رافع الغطفانيّ الكوفيّ، ثقة يرسل كثيرًا [3] 10/ 89.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله) بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

ص: 185

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من إسرائيل، غير جابر رضي الله عنه، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما أنه (قالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعرَضُ نَفْسَهُ علَى النَّاسِ)"يَعرِضُ" بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، يقَال: عَرَضَ عليه الشيءَ: إذا أراه إياه، وعَرَضَ له الشيءَ: إذا أظهره له، يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يُظهِرُ نفسه للناس (في الموْسِمِ) بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر السين المهملة، جمعه مَوَاسم، وهو الوقت الذي يجتمع فيه الحجاج كلَّ سنة، وكان العرب يحجون كلّ سنة في الجاهليّة، قال ابن الأثير: كأنه وُسِمَ بذلك الوَسْمِ، وهو مَفعِلٌ من الْوَسْم، اسم للزمان؛ لأنه معلمٌ لهم، يقال: وَسَمَهُ يَسِمُهُ سِمَةً وَوَسْمًا: إذا أثَّرَ فيه بكيّ. انتهى (1)(فَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم (أَلا رَجُلٌ يحمِلُني إِلَى قوْمِهِ) الظاهر أن "ألا" هنا للتمنّي، وهي تعمل عمل "لا" النافية للجنس، فيكون "رَجُلَ" اسمها، مبنيّا على الفتح، وهي لا خبر لها؛ لأنها بمعنى أتمنّى، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

أَلَا عُمْرَ ولَّى مُسْتَطَاعٌ رُجُوعُهُ

فيرأَبَ مَا أثأَتْ يَدُ الْغَفَلَاتِ (2)

وجملة "يحملني إلخ" في محلّ نصب صفة لـ "رجلَ"(3)، ويحتمل أن تكون "ألا"

(1)"النهاية" 5/ 186.

(2)

قوله: "فيرأب": أي يُصلح، وقوله:"ما أثأت" أي ما أفسدت. "حاشية الدسوقي على المغني" 1/ 153.

(3)

راجع "مغني اللبيب" 1/ 69.

ص: 186

للعرض و"رجلٌ" بالرفع نائب فاعل لفعل مقدّر، أي ألا يوجد رجلٌ ألخ (فَإِن قُريشًا) الفاء للتعليل، أي لأن هذه القبيلة (قَدْ مَنَعُوني أَن أُبلِّغ) من التبليغ، أو من الإبلاغ، أي إلى الناس (كَلَامَ ربِّي) يعني القرآن الكريم، والله تعلى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 201) بهذا السند فقط، وأخرحه (أحمد) في "مسنده"(3/ 390) و (الدارميّ) في "سننه"(3357) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(13 و 28) و (أبو داود)(4734) و (الترمذيّ)(2925)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنف، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات، وهو هنا صفة الكلام، فقد أثبته هذا الحديث الصحيح، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"كلام ربي"، وهو القرآن، وهو كقوله عز وجل:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فالقرآن كلام الله تعالى، تكلام به حقيقةً، وأنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، وهو غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

2 -

(ومنها): ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من شدّة حرصه على الدعوة إلى الله تعالى، بحيث إنه لا يترك مجمعًا من مجامع الناس، إلا وأتاه، فعرض عليهم الإسلام، ودعاهم إلى الله تعالى.

3 -

(ومنها): بيان ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يلقاه من أذى قريش، ومضايقتهم له، وصدّهم عن الدعوى غاية الصدّ، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

ص: 187

4 -

(ومنها): أن فيه بيان فضل الأنصار رضي الله عنهم، حيث سبقوا العرب كلهم في قبول ذلك العرض، فبايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في منى، على أن يأووه إليهم، وينصروه، ويحمونه مما يحمون عنه أنفسهم وأولادهم، فهاجر إليهم، فتحقّق له النصر، وتمت الدعوة، وعمّ الفتح كل بقاع الأرض، بفضل الله تعالى، فله الحمد والمنّة.

5 -

(ومنها): أن من الدروس المستفادة من هذه الدعوة أن على الداعي أن لا ييأس بسبب تمرّد الناس، وشدّة ردّهم لدعوته، بل يواصل دعوته، وينتقل من مكان إلى مكان، حتى يمكّنه الله بقبول دعوته، وإقبال الناس عليه، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي له اليأس، ولا يتبرّم ولا يتضجّر، عليه دائمًا أن يتذكّر أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَيَتَسَلَّى به، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

202 -

(حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَزِيرُ بْنُ صَبِيحٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ، عَنْ أُمّ الدَّردَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّردَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قَالَ: "مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كربًا، وَيَرفَعَ قَوْمًا، وَيَخْفِضَ آخَرِينَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) الدمشقيّ المذكور قبل حديثين.

2 -

(الْوَزِيرُ بْنُ صَبِيحٍ) -بفتح الصاد، وكسر الموحّدة- أبو رَوْح الشاميّ، مقبول عابد [8].

روى عن يونس بن مَيْسَرة بن حَلْبَس، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء في قوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} ، وروى عنه صفوان بن صالح، ونعيم بن حماد، والربيع ابن رَوْح، وهشام بن عمار، وسليمان بن أحمد الواسطي، وإبراهيم بن أيوب الحَوْراني،

ص: 188

وأبو همام الوليد بن شجاع، قال عثمان الدارمي عن دُحيم: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال أبو نعيم الأصبهاني: كان يُعَدُّ من الأبدال. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ.

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ) هو يونس بن مَيْسَرة بن حَلْبَس -بمهملتين في طرفيه، وموحّدة، بوزن جَعْفَر- نُسِب لجدّه، ويقال: أبو عُبيد الدمشقي الأعمى، ثقة عابدٌ، مُعَمّر [3].

رَوَى عن واثلة بن الأسقع، وعبد الله بن بسر، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي إدريس الخولاني، وأبي عبد الله الصُّنابحي، وأم الدرداء، وجماعة.

ورَوَى عنه عمرو بن واقد، وسعيد بن عبد العزيز، وسليمان بن عُتبة، وعبد الله ابن العلاء بن زَبْر، ومعاوية بن يحيى الصَّدَفي، والأوزاعي، والوزير بن صَبِيح، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: أدرك معاوية.

وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال ابن عمار، وأبو داود، والدارقطني: ثقة. وقال أبو حاتم: كان من خيار الناس، وكان يُقرئ في مسجد دمشق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال هشام بن عمار عن الهيثم بن عمران: كنت جالسًا عند يونس بن حَلْبس، وكان عند غياب الشمس يدعو بدعوات فيها: اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، فكنت أقول في نفسي: من أين يُرزق هذا الشهادة، وهو أعمى، فلما دَخَلت المسَوِّدة دمشق قُتِل، فبلغني أن الذين قتلاه بكيا عليه لما أُخبرا من صلاحه. قال دُحيم، وأبو زرعة، وطائفة: قُتل سنة اثنتين وثلاثين ومائة، زاد أبو عبيد، وأبو حسان الزيادي، وهو ابن عشرين ومائة سنة. وقال البزار: ثقة، من عُبّاد أهل الشام.

أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم 202 و221 و 842 و 1424 و 1499 و 3129 و 3376 و4100.

4 -

(أُمُّ الدرداء) الصُّغْرَى، هُجيمة، ويقال: جُهيمة بنت حُيَيّ الأوصابية

ص: 189

الدمشقيّة، ثقة فقيهة [3].

رَوَت عن زوجها، وسلمان الفارسي، وفَضَالة بن عُبيد، وأبي هريرة، وكعب بن عاصم، وعائشة.

وروَى عنها جُبير بن نُفير، وهو أكبر منها، وابن أخيها مهدي بن عبد الرحمن، ومولاها أبو عمران الأنصاري، وسالم بن أبي الجعد، وزيد بن أسلم، وشهر بن حَوْشب، وصفوان بن عبد الله، ويونس بن مَيْسرة، ومرزوق التيمي، ومكحول الشامي، وغيرهم.

ذكرها ابن سُمَيع في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا مسهر يقول: أم الدرداء الصغرى هجيمة بنت حُيي الوصابية، وأم الدرداء الكبرى خَيْرة بنت أبي حدرد. وقال أبو أحمد العَسّال: أم الدرداء الصغرى هي التي يُروَى عنها الحديث الكثير، وكانت أم الدرداء الكبرى صحابية. وقال الوليد ابن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة، وابن جابر: كانت أُمّ الدرداء يتيمة في حَجْر أبي الدرداء، تختلف مع أبي الدرداء في بُرْنُس تصلي في صفوف الرجال، وتَجلس في حلق القراء، حتى قال لها أبو الدرداء: الحَقِي بصفوف النساء. وقال أبو الزاهرية عن جُبير بن نُفير عن أم الدرداء أنها قالت لأبي الدرداء: إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا، فأنكحوني، وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة، قال: فلا تَنْكِحي بعدي، فخطبها معاوية فأخبرته بالذي كان، فقال: عليك بالصيام. وقال رُدَيح بن عطية المقدسي، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن أم الدرداء أن رجلًا أتاها، فقال: إن رجلًا قال منك عند عبد الملك، فقالت: إن نُؤَبَّنْ بما ليس فينا، فطال ما زُكّينا بما ليس فينا. وقال عبد ربه بن سليمان بن زيتون: حجت أم الدرداء سنة إحدى وثمانين. وقال ابن حبان في "الثقات": كانت تُقِيم ستة أشهر ببيت المقدس، وستة أشهر بدمشق، وماتت بعد سنة إحدى وثمانين، وكانت من العابدات، ووقع عند البيهقي اسمها حَمَامَة، فيُنْطرُ.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب عشرة أحاديث، برقم 202 و1055

ص: 190

و 1056 و 1663 و 1664 و 2777 و2895 و3371 و 3792 و 4034.

5 -

(أبو الدَّردَاءِ) عُوَيمر بن زيد بن قيس الأنصاريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقبه 1/ 5، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعية عن زوجها، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الدردَاءِ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (في قَولهِ تعَالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن:29] قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مِن شَأنِه أَنْ يَغْفِرَ ذَنبًا، وَيُفَرِّجَ) بتشديد الراء، من التفريج، ويجوز تخفيفها، يقال: فَرّج الله الْغَمَّ بالشديد: كشفه، والاسم الْفَرَجُ -بفتحتين- وفَرَجَهُ فَرجًا، من باب ضرب لغة، وقد جمع الشاعر اللغتين في قوله [من البسيط]:

يَا فَارِجَ الْكَرْبِ مَسْدُولًا عَسَاكِره

كمَا يُفرِّجُ غَمَّ الظُّلْمَةِ الْفَلَقُ

قاله في "المصباح"(1).

(كَربًا) بفتح، فسكون، قال الجوهري: الْكُربة بالضم: الغم الذي يأخذ بالنَّفْسِ، وكذلك الْكَرْبُ على مثال الضَّرْب، تقول أنَّه: كَرَبَهُ الغَمُّ: إذا اشتدّ عليه. انتهى (2)(وَيرفَعَ) بالبناء للفاعل، أي يرفع الله تعال (قوْمًا) إلى الدرجات العلى بأعمالهم الصالحات، أو يرفعهم بحظوظ الدنيا من الرزق وغيره (وَيَخْفِضَ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، مبنيّا للفاعل أيضًا (آخَرِينَ) إلى الدركات السفلى بسوء أعمالهم، أو بتقليل

(1)"المصباح المنير" 2/ 466.

(2)

"الصحاح" 1/ 188.

ص: 191

أرزاقهم، ومعاشهم، حتى يكونوا أذلاء بين أبناء جنسهم.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" عند قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} : ما نصّه: وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش، عن مجاهد، عن عُبيد بن عُمير:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} قال: من شأنه أن يجيب داعيًا، أو يُعطي سائلًا، أو يَفُكّ عانيًا، أو يَشفي سقيمًا. وقال ابن أبي نَجِيح عن مجاهد قال: كلَّ يوم هو يجيب داعيًا، ويَكشف كربًا، ويجيب مُضْطَرًّا، ويغفر ذنبًا. وقال قتادة: لا يَستغني عنه أهل السماوات والأرض، يُحي حَيّا، ويُميت ميتًا، ويُرَبّي صغيرًا، ويَفُكّ أسيرًا، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحمصي، حدثنا حَرِيز بن عثمان، عن سُوَيد بن جَبَلَة -هو الفزاري- قال: إن ربكم هو كل يوم في شأن، فيُعتق رِقابًا، ويُعطي رِغَابًا، ويُقْحِمُ عِقَابًا.

وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: وحدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة الثُّمَاليّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن الله خلق لَوْحًا محفوظًا من دُرّة بيضاء، دَفَّتَاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، يَنظُر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرةً، يخلُقُ في كل نظرة، ويُحيي ويُميت، ويُعِزّ ويُذِلّ، ويفعل ما يشاء"(1).

قال الجامع عفا الله عنه: أثر موقوف، في سنده أبو حمزة الثمالي، واسمه ثابت بن أبي صفيّة ضعيف، رافضيّ، بل قال الدارقطنيّ: متروك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)"تفسير ابن كثير" 4/ 274.

ص: 192

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا حسنٌ.

قال البوصيريّ رحمه الله: وهذا إسناد حسنٌ، لتقاصر الوزير عن درجة الحفظ والإتقان.

قال الجامع عفا الله عنه: الوزير بن صَبِيح روى عنه جماعة، وقال عنه أبو حاتم الرازيّ: صالح، فمثله يكون حسن الحديث. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: أورده البخاري في "صحيحه" موقوفًا معلّقًا بصيغة الجزم، فجعله من كلام أبي الدرداء.

وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني عمرو بن بكر السكسكي، حدثنا الحارث بن عبدة ابن رباح الغساني، عن أبيه، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي، عن أبيه، قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟، قال:"أن يغفر ذنبا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين".

وفي سنده عمرو بن بكر السكسكيّ متروك.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، وسليمان بن أحمد الواسطي، قالا: حدثنا الوزير بن صَبِيح الثقفي، أبو روح الدمشقي، والسياق لهشام، قال: سمعت يونس بن ميسرة بن حَلْبَس يحدِّث عن أم الدرداء، فأورده بسياق ابن ماجه.

وقد رواه ابن عساكر من طرُق متعددة عن هشام بن عمار به، ثم ساقه من حديث أبي همام، الوليد بن شجاع، عن الوزير بن صَبيح قال: ودلنا عليه الوليد بن مسلم، عن مُطَرِّف، عن الشعبي، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، قال: والصحيح الأول -يعني إسناده الأول-.

وقال البزار (2268) حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا

ص: 193

محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} قال يغفر ذنبًا، ويَكشِف كَرْبًا. وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ضعيفٌ جدّا.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الروايات لا تصلح شواهد، بل الاعتماد على سند المصنّف رحمه الله نفسه، فإنه حسنٌ كما أسلفته، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 202) بهذا السند فقط، وهو من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي عاصم) في "السنة"(301) و (ابن حبان) في (صحيحه)(689).

[تنبيه]: مطابقة الحديث للباب من حيث إن هذا الحديث مشتمل على صفة الغفران، وتفريج الكرب، والرفع، والخفض، والجهميّة تنكر الصفات التي وصف بها الربّ تبارك وتعالى نفسه في كتابه، أو صحّ في أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، كأحاديث هذا الباب، وهم ضالّون مضلّون في ذلك، والحقّ هو الذي عليه أهل السنّة والجماعة من ثبوتها لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، على ما يأتي بيان ذلك مفصّلًا في الخاتمة التالية -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[خاتمة]: نختم بها هذا الباب العظيم، "باب ما أنكرت الجهميّة"، وذلك بذكر رسالة نفيسة جامعة لمسائل الصفات التي وقع فيها النزاع بين أهل السنة، والمبتدعة من الجهميّة وغيرهم، لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى، ونصّها:

وقال شيخ الإسلام أبو العباس تقيّ الدين ابن تيمية -طيب الله ثراه-:

[فصل في الصفات الاختيارية]: وهي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته: مثلُ كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه، ومثل خلقه، وإحسانه، وعدله، ومثل استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز، والسنة.

ص: 194

فالجهمية، ومن وافقهم من المعتزلة، وغيرهم يقولون: لا يقوم بذاته شيء من هذه الصفات ولا غيرها.

والكلابية، ومن وافقهم من السالمية، وغيرهم يقولون: تقوم صفات بغير مشيئته وقدرته، فأما ما يكون بمشيئته وقدرته، فلا يكون إلا مخلوقًا منفصلًا عنه.

وأما السلف وأئمة السنة والحديث، فيقولون: إنه متصف بذلك، كما نطق به الكتاب والسنة، وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة، أو أكثرهم، كما ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع.

ومثل هذا الكلام فإن السلف وأئمة السنة والحديث، يقولون: يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه ليس بمخلوق، بل كلامه صفة له قائمة بذاته.

وممن ذَكَر أن ذلك قول أئمة السنة أبو عبد الله ابن منده، وأبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز، وأبو إسماعيل الأنصاريّ وغيرهم، وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في الاستواء.

وأئمة السنة، كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاريّ، وعثمان بن سعيد الدارميّ، ومن لا يحصى من الأئمة -وذكره حرب بن إسماعيل الكرمانيّ عن سعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وسائر أهل السنة والحديث- متفقون على أنه متكلم بمشيئته، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، وكيف شاء.

وقد سمى الله القرآن العزيز حديثًا، فقال:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]، وقال:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله يُحدِث من أمره ما يشاء"، وهذا مما احتج به البخاريّ في "صحيحه"، وفى غير "صحيحه"، واحتج به غير البخاري، كنعيم بن حماد، وحماد بن زيد.

ومن المشهور عن السلف أن القرآن العزيز كلامُ الله، غيرُ مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود.

ص: 195

وأما الجهمية، والمعتزلة فيقولون: ليس له كلامٌ قائمٌ بذاته، بل كلامه مخلوقٌ منفصل عنه، والمعتزلة يطلقون القول بأنه يتكلم بمشيئته، ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلامًا منفصلًا عنه.

والكلابية والسالمية يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه قائم بذاته، بدون قدرته ومشيئته، مثل حياته، وهم يقولون: الكلام صفة ذات، لا صفة فعل، يتعلق بمشيئته وقدرته، وأولئك يقولون: هو صفة فعل، لكن الفعل عندهم هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته.

وأما السلف، وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام، كالهشامية، والكرّامية، وأصحاب أبي معاذ التَّوْمنيّ، وزهير الياميّ، وطوائف غير هؤلاء يقولون: إنه صفة ذات وفعل، هو يتكلّم بمشيئته وقدرته، كلامًا قائمًا بذاته، وهذا هو المعقول من صفة الكلام، لكل متكلم، فكلُّ مَن وُصف بالكلام، كالملائكة، والبشر، والجن، وغيرهم، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم.

والكلام صفة كمال، لا صفة نقص، ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، فكيف يتصف الخلوق بصفات الكمال، دون الخالق.

ولكن الجهمية والمعتزلة، بَنَوا على أصلهم أن الرب لا يقوم به صفة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع؛ إذ الصفة عَرَضٌ، والعرض لا يقوم إلا بجسم.

والكلابية يقولون: هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة، ولا تكون بمشيئته، فأما ما يكون بمشيئته، فإنه حادث، والرب تعالى لا تقوم به الحوادث، ويترجمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث، فإنه إذا كَلّم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته، وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته، كان ذلك النداء والكلام حادثًا.

قالوا: فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث، قالوا: ولو قامت به الحوادث لم يخل منها، كما لم يَخْلُ من الحوادث فهو حادث، قالوا: ولأن كونه قابلًا لتلك الصفة، إن

ص: 196

كانت من لوازم ذاته كان قابلًا لها في الأزل، فيلزم جواز وجودها في الأزل، والحوادث لا تكون في الأزل، فإن ذلك يقتضي وجود حوادث لا أول لها، وذلك محال؛ لوجوه، قد ذُكِرت في غير هذا الموضع.

قالوا: وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام، وبه عَرَفنا حدوث العالم، وبذلك أثبتنا وجود الصانع، وصدق رسله، فلو قَدَحنا في تلك لزم القدح في أصول الإيمان، والتوحيد.

وإن لم يكن من لوازم ذاته صار قابلًا لها بعد أن لم يكن قابلًا فيكون قابلًا لتلك الصفة، فيلزم التسلسل الممتنع، وقد بسطنا القول على عامة ما ذكروه في هذا الباب، وبَيّنّا فساده، وتناقضه على وجه لا تبقى فيه شبهة لمن فَهِمَ هذا الباب.

وفضلاؤهم، وهم المتأخرون، كالرازيّ، والآمديّ، والطوسيّ، والحليّ، وغيرهم، معترفون بأنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ذلك، بل ذكر الرازيّ وأتباعه أن هذا القول يلزم جميع الطوائف، ونصره في آخر كتبه، كـ "المطالب العالية"، وهو من أكبر كتبه الكلامية الذي سماه "نهايةَ العقول في دراية الأصول" لمّا عَرَف فسادَ قول النَّفَاة لم يعتمد على ذلك في مسألة القرآن، فإن عُمدتهم في مسألة القرآن، إذا قالوا: لم يتكلم بمشيئته وقدرته، قالوا: لأن ذلك يستلزم حلول الحوادث، فلما عَرَف فساد هذا الأصل لم يعتمد على ذلك في مسألة القرآن، فإن عُمدتهم عليه، بل استدل بإجماع مُرَكَّبٍ، وهو دليل ضعيف إلى الغاية؛ لأنه لم يكن عنده في نصر قول الكلابية غيره، وهذا مما يُبَيِّن أنه وأمثاله تَبَيَّن له فساد قول الكلابية.

وكذلك الآمديّ ذكر في "أبكار الأفكار" ما يُبطل قولهم، وذكر أنه لا جواب عنه، وقد كشفت هذه الأمور في مواضع، وهذا معروف عند عامة العلماء، حتى الحليّ ابن المطهر ذكر في كتبه أن القول بنفي حلول الحوادث، لا دليل عليه، فالمنازع جاهل بالعقل والشرع.

وكذلك مَن قبل هؤلاء، كأبي المعالي وذويه إنما عمدتهم أن الكرامية قالوا ذلك،

ص: 197

وتناقضوا، فيبينون تناقض الكرامية، ويظنون أنهم إذا بَيَّنُوا تناقض الكرامية، وهم منازعوهم، فقد فَلَجُوا، ولم يعلموا أن السلف، وأئمة السنة والحديث، بل مَن قبل الكرامية من الطوائف، لم تكن تلتفت إلى الكرامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن تُخلق الكرامية، فإن ابن كرام كان متأخرًا بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج وطبقته، وأئمة السنة، والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء، وما زال السلف يقولون بموجب ذلك.

لكن لما ظهرت الجهمية النفاة في أوائل المائة الثانية بَيَّن علماء المسلمين ضلالهم وخطأهم، ثم ظهر رعنة الجهمية في أوائل المائة الثالثة، وامتُحِن العلماء، الإمام أحمد وغيره، فجَرَّدُوا الردَّ على الجهمية، وكشف ضلالهم، حتى جَرَّد الإمام أحمد الآيات التي من القرآن تدل على بطلان قولهم، وهي كثيرةٌ جدّا.

بل الآيات التي تدل على الصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث كثيرةٌ جدّا، وهذا كقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [الأعراف: 11]، فهذا بَيِّنٌ في أنه إنما أمر الملائكة بالسجود بعد خلق آدم، لم يأمرهم في الأزل، وكذلك قوله:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، فإنما قال له بعد أن خلقه من تراب، لا في الأزل، وكذلك قوله في قصة موسى عليه السلام:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8]، فهذا بَيّنٌ في أنه إنما ناداه حين جاء، لم يكن النداء في الأزل، كما يقوله الكلابية، يقولون: إن النداء قائم بذات الله في الأزل، وهو لازم لذاته، لم يزل ولا يزال مناديا له، لكنه لما أتى خلق فيه إدراكًا لِمَا كان موجودًا في الأزل.

ثم من قال منهم: إن الكلام معنى واحد، منهم من قال: سمع ذلك المعنى بأذنه، كما يقول الأشعري، ومنهم من يقول: بل أفهم منه ما أفهم، كما يقوله القاضي أبو بكر

ص: 198

وغيره، فقيل لهم: عندكم هو معنى واحد، لا يتبعض، ولا يتعدد، فموسى فَهِمَ المعنى كله أو بعضه؟ إن قلتم: كُلَّه فقد عَلِمَ علم الله كلّه، كان قلتم: بعضه، فقد تبعض، وعندكم لا يتبعض.

ومن قال من أتباع الكلابية بأن النداء وغيره من الكلام القديم حروف، أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب، كما تقوله السالمية، ومن وافقهم يقولون: إنه يخلق له إدراكًا لتلك الحروف والأصوات، والقرآن والسنة، وكلام السلف قاطبةً يقتضي أنه إنما ناداه وناجاه حين أتى، لم يكن النداء موجودًا قبل ذلك، فضلًا عن أن يكون قديمًا أزليا.

وقال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]، وهذا يدل على أنه لما أكلا منها ناداهما، لم ينادهما قبل ذلك، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]، فجعل النداء في يوم معين، وذلك اليوم حادث، كائن بعد أن لم يكن، وهو حينئذ يناديهم، لم ينادهم قبل ذلك.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، فبَيَّن أنه يحكم، فيُحَلِّل ما يريد، ويحرِّمُ ما يريد، ويأمر بما يريد، فجعل التحليل والتحريم والأمر والنهي متعلقًا بإرادته، وينهى بإرادته، ويحلل بإرادته، ويحرم بإرادته، والكلابية يقولون: ليس شيء من ذلك بإرادته، بل قديم لازم لذاته، غير مراد له، ولا مقدور، والمعتزلة مع الجهمية يقولون: كل ذلك مخلوق، منفصل عنه، ليس له كلام قائم به، ولا بإرادته، ولا بغير إرادته، ومثل هذا كثير في القرآن العزيز.

(فصل): وكذلك في الإرادة، والمحبة، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا

ص: 199

أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقوله: ({وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23]، وقوله:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وقوله:{إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} [الإسراء: 16]، وقوله:{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقوله:{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} وقوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، وأمثال ذلك في القرآن العزيز.

فإن جوازم الفعل المضارع، ونواصبه تُخَلِّصه للاستقبال، مثل "إن"، و"أن"، وكذلك "إذا" ظرف للمستقبل من الزمان، فقوله:{وَإِذَا أرَادَ} ، و {إِن شَاَءَ اللَّهُ} ، ونحو ذلك يقتضي حصول إرادة مستقبلة، ومشيئة مستقبلة، وكذلك في المحبة والرضا، قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: 31]، فإن هذا يدل على أنهم إذا اتبعوه أحبهم الله، فإنه جَزَم قوله:{يُحبِبكُمُ} هو به، فجزمه جوابا للأمر، وهو في معنى الشرط، فتقديره:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} ، ومعلوم أن جواب الشرط والأمر إنما يكون بعده لا قبله، فمحبة الله لهم إنما تكون بعد اتباعهم للرسول، والمنازعون منهم من يقول: ما ثَمَّ محبة، بل المراد ثوابًا مخلوقًا، ومنهم من يقول: بل ثَمّ محبة قديمة أزلية، إما الإرادة، وإما غيرها، والقران يدل على قول السلف، وأئمة السنة المخالفين للقولين، وكذلك قوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28]، فإنه يَدُلُّ على أن أعمالهم أسخطته، فهي سبب لسخطه، وسخطه عليهم بعد الأعمال لا قبلها، وكذلك قوله {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ، وكذلك قوله:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] عَلَّق الرضا بشكرهم، وجعله مجزومًا جزاءً له، وجزاءُ الشرط لا يكون إلا بعده، وكذلك قوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، و {يُحِبُّ المُتَّقِينَ} ، و {يحُبُّ المُقسِطِينَ} ، و {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، ونحو ذلك، فإنه يدل

ص: 200

على أن المحبة بسبب هذه الأعمال، وهي جزاء لها، والجزاء إنما يكون بعد العمل، والمسبب.

(فصل) وكذلك السمع، والبصر، والنظر، قال الله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]، هذا في حق المنافقين، وقال في حق التائبين:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} ، وقوله:{فَسَيَرَى اللَّهُ} دليل على أنه يراها بعد نزول هذه الآية الكريمة، والمنازع إما أن ينفي الرؤية، وإما أن يثبت رؤية قديمة أزلية، وكذلك قوله:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ في الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، ولام "كي" تقتضي أن ما بعدها متأخر عن المعلول، فنظره كيف يعملون هو بعد جعلهم خلائف، وكذلك:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] أخبر أنه يسمع تحاورهما حين كانت تجادل وتشتكي إلى الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فجعل سمعه لنا جزاءً وجوابًا للحمد، فيكون ذلك بعد الحمد، والسمع يتضمن مع سمع القول قبوله وإجابته، ومنه قول الخليل عليه السلام:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]، وكذلك قوله:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقوله لموسى عليه السلام:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، والمعقول الصريح يدل على ذلك، فإن المعدوم لا يُرَى ولا يُسمَع بصريح العقل، واتفاق العقلاء، لكن قال من قال من السالمية: إنه يسمع ويرى موجودًا في علمه، لا موجودًا بائنًا عنه، ولم يقل: إنه يسمع ويرى بائنًا عن الرب، فإذا خلق العباد وعملوا وقالوا، فإما أن نقول: إنه يسمع أقوالهم، ويرى أعمالهم، وإما لا يرى ولا يسمع، فإن نُفِي ذلك فهو تعطيل لهاتين الصفتين، وتكذيب للقرآن، وهما صفتا كمال، لا نَقْصَ فيه، فمن يسمع ويبصر أكمل ممن لا يسمع ولا يبصر، والمخلوق يَتَّصِفُ بأنه يسمع ويبصر، فيمتنع اتصاف المخلوق بصفات الكمال، دون الخالق عليه السلام، وقد عاب الله

ص: 201

تعالى من يَعبُد من لا يسمع ولا يبصر، في غير موضع، ولأنه حي، والحيّ إذا لم يتصف بالسمع والبصر، اتصف بضد ذلك، وهو العمى والصمم، وذلك ممتنع، وبسط هذا له موضع آخر.

وإنما المقصود هنا أنه إذا كان يسمع ويبصر الأقوال والأعمال بعد أن وُجِدت، فإما أن يقال: إنه تجدد، وكان لا يسمعها ولا يبصرها، فهو بعد أن خلقها لا يسمعها ولا يبصرها، وإن تجدد شيء، فإما أن يكون وجودًا أو عدمًا، فإن كان عدمًا فلم يتجدد شيء، وإن كان وجودًا، فإما أن يكون قائمًا بذات الله، أو قائمًا بذات غيره، والثاني يستلزم أن يكون ذلك الغير هو الذي يسمع ويرى، فيتعين أن ذلك السمع والرؤية الموجودين قائم بذات الله، وهذا لا حيلة فيه.

والكلابية يقولون: في جميع هذا الباب المتجدد هو تعلق بين الأمر والمأمور، وبين الإرادة والمراد، وبين السمع والبصر، والمسموع والمرئيّ، فيقال لهم: هذا التعلق إما أن يكون وجودًا، وإما أن يكون عدمًا، فلإن كان عدمًا، فلم يتجدد شيء، فإن العلم لا شيء، وإن كان وجودًا بطل قولهم.

وأيضًا فحدوث "تعلق" هو نسبة، وإضافة من غير حدوث ما يوجب ذلك ممتنع، فلا يحدث نسبة وإضافة إلا بحدوث أمر وجوديّ يقتضي ذلك، وطائفة منهم ابنُ عقيل، يسمون هذه النسبة أحوالًا، والطوائف متفقون على حدوث نسب، وإضافات، وتعلقات، لكن حدوث النسب بدون ما يوجبها ممتنع، فلا يكون نسبة، وإضافة إلا تابعة لصفة ثبوتية، كالأبوة، والبنوة، والفوقية، والتحتية، والتيامن، والتياسر، فإنها لابد أن تستلزم أمورًا ثبوتية، وكذلك كونه خالقًا، ورازقًا، ومحسنًا، وعادلًا، فإن هذه أفعال فعلها بمشيئته وقدرته، إذ كان يخلق بمشيئته، ويرزق بمشيئته، ويَعدِل بمشيئته، ويحسن بمشيئته، والذي عليه جماهير المسلمين من السلف والخلف، أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق، والمخلوق مفعوله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بأفعال الرب وصفاته، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك،

ص: 202

وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه.

وقد استدل أئمة السنة، كأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأنه استعاذ به، فقال:"من نَزَل منزلًا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامة، من شرّ ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل منه"، فكذلك معافاته ووضاه، غير مخلوقة؛ لأنه استعاذ بهما، والعافية القائمة ببدن العبد مخلوقة، فإنها نتيجة معافاته، وإذا كان الخلق فعله، والمخلوق مفعوله، وقد خلق الخلق بمشيئته، دل على أن الخلق فعل يحصل بمشيئته، ويمتنع قيامه بغيره، فدل على أن أفعاله قائمة بذاته، مع كونها حاصلة بمشيئته وقدرته، وقد حَكَى البخاريّ إجماع العلماء على الفرق بين الخلق والمخلوق، وعلى هذا يدل صريح المعقول، فإنه قد ثبت بالأدلة العقلية، والسمعية أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]، فهو حين خلق السموات ابتداءا، إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقًا للسموات والأرض، وإما أن لا يحصل منه فعل، بل وُجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها، ومع خلقها سواءً وبعده سواءً، لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت، بلا سبب يوجب التخصيص.

وأيضًا فحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بداهة العقل، وإذا قيل: الإرادة والقدرة خَصَّصَت، قيل: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء، وأيضًا فلا تُعقل إرادة تخصيص أحد المتماثلين إلا بسبب يوجب التخصيص، وأيضًا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه، وإلا فلو كان مجردُ ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيًا للزم وجوده قبل ذلك؛ لأنه مع الإرادة التامة، والقدرة التامة يجب وجود المقدور.

وقد احتج من قال: الخلق هو المخلوق، كأبي الحسن ومن اتبعه، مثل ابن عقيل، بأن قالوا: لو كان غيره لكان إما قديمًا، وإما حادثًا، فإن كان قديمًا لزم قدم المخلوق؛ لأنهما متضايفان، وإن كان حادثًا لزم أن تقوم به الحوادث، ثم ذلك الخلق يفتقر إلى

ص: 203

خلق آخر، ويلزم التسلسل.

فأجابهم الجمهور -وكل طائفة على أصلها- فطائفة قالت: الخلق قديم، كان كان المخلوق حادثًا، كما يقول ذلك كثير من أهل المذاهب الأربعة، وعليه أكثر الحنفية، قال: هؤلاء أنتم تُسَلِّمون لنا أن الإرادة قديمة أزلية، والمراد مُحدَثٌ، فنحن نقول في الخلق ما قلتم في الإرادة.

وقالت طائفة: بل الخلق حادثٌ في ذاته، ولا يفتقر إلى خلق آخر، بل يحدث بقدرته، وأنتم تقولون: إن المخلوق يحصل بقدرته بعدَ أن لم تكن، فإن كان المنفصل يحصل بمجرد القدرة، فالمتصل به أولى، وهذا جواب كثير من الكرّامية، والهشامية، وغيرهم.

وطائفة يقولون: هَبْ أنه يفتقر إلى فعل قبله، فلم قلتم: إن ذلك ممتنع، وقولكم: هذا تسلسلٌ، فيقال: ليس هذا تسلسلًا في الفاعلين، والعلل الفاعلة، فإن هذا ممتنع باتفاق العقلاء، بل هو تسلسل في الآثار والأفعال، وهو حصول شيء بعد شيء، وهذا محل النزاع.

فالسلف يقولون: لم يزل متكلمًا إذا شاء، وقد قال تعالى:{قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} ، فكلمات الله لا نهاية لها، وهذا تسلسل جائز، كالتسلسل في المستقبل، فإن نعيم الجنة دائم، لا نفاد له، فما من شيء إلا وبعده شيء لا نهاية له.

(فصل): والأفعال نوعان: متعدّ، ولازم، فالمتعدي مثل الخلق، والإعطاء، ونحو ذلك، واللازم مثل الاستواء، والنزول، والمجيء، والإتيان، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]، فذكر الفعلين: المتعدي واللازم، وكلاهما حاصل بمشيئته وقدرته، وهو متصف به، وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن القرآن يدل على هذا الأصل في أكثر من مائة موضع.

ص: 204

وأما الأحاديث الصحيحة، فلا يمكن ضبطها في هذا الباب، كما في "الصحيحين" عن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بأصحابه صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، ثم قال:"أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطِرنا بنوء كذا، ونوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب".

وفى الصحاح حديث الشفاعة: فيقول: كل من الرسل إذا أتوا إليه إن ربي قد غَضِب اليوم غضبًا لم يَغضَب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وهذا بيان أن الغضب حصل في ذلك اليوم لا قبله.

وفي "الصحيح": "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات، كجَرِّ السلسلة على الصفوان"، فقوله:"إذا تكلم الله بالوحي سمع" يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه، وذلك ينفي كونه أزليًّا، وأيضًا فما يكون كجر السلسلة على الصفا، يكون شيئًا بعد شيء، والمسبوق بغيره لا يكون أزليا.

وكذلك في "الصحيح": "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين:

نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قال الله: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 1 - 7] قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل، فقد أخبر أن العبد إذا قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} قال الله: حمدني، فإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي الحديث.

وفي الصحاح: حديث النزول: "ينزل ربنا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر،

ص: 205

فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، من يسألني، فأعطيه من يستغفرني، فأغفر له"، فهذا قول وفعل في وقت معين، وقد اتفق السلف على أن النزول فعل يفعله الرب، كما قال ذلك الأوزاعيّ، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.

وأيضًا فقد قال: لله أشد أَذَنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته".

وفى الحديث الصحيح الآخر: ما أذن الله لشيء كأَذَنه لنبيّ حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به أَذِنَ يَأْذَنُ أَذنًا: أي استمع يستمع استماعًا، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2]، فأخبر أنه يستمع إلى هذا وهذا.

وفي "الصحيح": "لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل، حتى أُحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"، فأخبر أنه لا يزال يتقرب بالنوافل بعد الفرائض.

في "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال: "قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"، وحرف "إن" حرف الشرط والجزاء يكون بعد الشرط، فهذا يبين أنه يذكر العبد إن ذكره في نفسه، كان ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منهم، والمنازع يقول: ما زال يذكره أزلًا وأبدًا، ثم يقول: ذكره وذكر غيره، وسائر ما يتكلم الله به هو شيء واحد، لا يتبعض ولا يتعدد، فحقيقة قوله: إن الله لم يتكلم، ولا يتكلم، ولا يذكر أحدًا.

وفي "صحيح مسلم" في حديث تعليم الصلاة: "وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده"، فقوله:"سمع الله لمن حمده"؛ لأن الجزاء بعد الشرط، فقوله:"يسمع الله لكم" مجزوم، حُرِّك لالتقاء الساكنين، وهذا يقتضي أنه يسمع بعد أن تحمدوا.

(فصل): والمنازعون "النفاةُ" كذلك، منهم من ينفي الصفات مطلقًا، فهذا يكون

ص: 206

الكلام معه في الصفات مطلقًا، لا يختص بالصفات الاختيارية، ومنهم من يُثبت الصفات، ويقول: لا يقوم بذاته شيء بمشيئته وقدرته، فيقول: إنه لا يتكلم بمشيئته واختياره، ويقول: لا يَرضى ويسخط، ويحب ويبغض، ويختار بمشيئته وقدرته، ويقول: إنه لا يفعل فعلًا هو الخلق، يخلق به المخلوق، ولا يقدر عنده على فعل يقوم بذاته، بل مقدوره لا يكون إلا منفصلا منه، وهذا موضع تَنَازَعَ فيه النفاة.

فقيل: لا يكون مقدوره إلا بائنًا عنه، كما يقوله الجهمية، والكلابية، والمعتزلة، وقيل: لا يكون مقدروه إلا ما يقوم بذاته، كما يقوله السالمية، والكرامية، والصحيح أن كليهما مقدور له، أما الفعل فمثل قوله تعالى:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] وقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، وقول الحواريين:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]، وقوله:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، وقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33]، إلى أمثال ذلك مما يبين أنه يقدر على الأفعال، كالإحياء، والبعث، ونحو ذلك.

وأما القدرة على الأعيان ففي "الصحيح" عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاما لي، فرآني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا، فقوله:"لله أقدر عليك منك على هذا" دليل على أن القدرة تتعلق بالأعيان المنفصلة: قدرة الرب، وقدرة العبد، ومن الناس من يقول: كلاهما يتعلق بالفعل، كالكرامية، ومنهم من يقول: قدرة الرب تتعلق بالمنفصل، وأما قدرة العبد فلا تتعلق إلا بفعل في محلها، كالأشعرية.

والنصوص تدل على أن كلا القدرتين تتعلق بالمتصل والمنفصل، فإن الله تعالى أخبر أن العبد يقدر على أفعاله، كقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]،

ص: 207

وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فدل على أن منا من يستطع ذلك، ومنا من لم يستطع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"، أخرجاه في "الصحيحين"، وقوله:"إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل"، وقوله في الحديث الذي في "الصحيح":"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".

وقد أخبر أنه قادر على عبده، وهؤلاء الذين يقولون: لا تقوم به الأمور الاختيارية، عمدتهم أنه لو قامت به الحوادث لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وقد نازعهم الناس في كلا المقدمتين، وأصحابهم المتأخرون، كالرازيّ، والآمديّ، قَدَحُوا في المقدمة الأولى في نفس هذه المسألة، وقَدَح الرازي في المقدمة الثانية في غير موضع من كتبه، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.

وقولهم: إنا عرفنا حدوث العالم بهذا الطريق وبه أثبتنا الصانع، يقال لهم: لا جرم ابتدعتم طريقًا، لا يوافق السمع، ولا العقل، فالعالمون بالشرع معترفون أنكم مبتدعون محُدِثون في الإسلام ما ليس منه، والذين يعقلون ما يقولون يعلمون أن العقل يناقض ما قلتم، وأن ما جعلتموه دليلًا على إثبات الصانع لا يدل على إثباته، بل هو استدلال على نفي الصانع، وإثباتُ الصانع حقٌّ، وهذا الحق يلزم من ثبوته إبطال استدلالكم، بأن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث.

وأما كون طريقكم مبتدعة ما سلكها الأنبياء، ولا أتباعهم، ولا سلف الأمة، فلأن كل من يعرف ما جاء به الرسول، وان كانت معرفته متوسطة، لم يصل في ذلك إلى الغاية يعلم أن الرسول لم يَدَعِ الناس في معرفة الصانع وتوحيده، وصدق رسله إلى الاستدلال بثبوت الأعراض، وأنها حادثة، ولازمة للأجسام، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فعلم بالاضطرار أن هذه الطريق لم يتكلم بها الرسول، ولا دعا إليها، ولا أصحابه، ولا تكلموا بها، ولا دعوا بها الناس، وهذا

ص: 208

يوجب العلم الضروريّ من دين الرسول، فإن عند الرسول والمؤمنين به أن الله يُعرَف، ويعرف توحيده، وصدق رسله بغير هذه الطريق، فدلّ الشرع دلالة ضروريةً على أنه لا حاجة إلى هذه الطريق، ودلّ ما فيها من مخالفة نصوص الكتاب والسنة على أنها طريق باطلةٌ، فدل الشرع على أنه لا حاجة إليها، وأنها باطلة.

وأما العقل فقد بَسَطَ القول في جميع ما قيل فيها في غير هذه المواضع، وبَيَّنَ أن أئمة أصحابها قد يَعترفون بفسادها من جهة العقل، كما يوجد في كلام أبي حامد، والرازيّ، وغيرهما بيانُ فسادها.

ولمّا ظهر فسادها للعقل تسلط الفلاسفة على سالكيها، وظنت الفلاسفة أنهم إذا قدحوا فيها، فقد قدحوا في دلالة الشرع، ظنّا منهم أن الشرع جاء بموجبها؛ إذ كانوا أجهل بالشرع والعقل من سالكيها، فسالكوها لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، بل سلطوا الفلاسفة عليهم، وعلى الإسلام، وهذا كله مبسوط في مواضع.

وإنما المقصود هنا أن يُعرَف أن نفيهم للصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث، ليس لهم دليل عقليّ عليه، وحُذّاقهم يعترفون بذلك، وأما السمع فلا ريب أنه مملوء بما يناقضه، والعقل أيضا يدل على نقيضه من وجوه نَبَّهنا على بعضها.

ولما لم يكن مع أصحابها حجة، لا عقلية، ولا سمعية، من الكتاب والسنة، احتال متأخروهم فسلكوا طريقًا سمعية، ظنّوا أنها تنفعهم، فقالوا: هذه الصفات إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها، وإن كانت صفات كمال، فقد كان فاقدًا لها قبل حدوثها، وعدم الكمال نقص، فيلزم أن يكون كان ناقصًا، وتنزيهه عن النقص واجب بالإجماع، وهذه الحجة من أفسد الحجج، وذلك من وجوه:

[أحدهما]: أن هؤلاء يقولون: نفي النقص عنه لم يُعلم بالعقل، وإنما عُلم بالإجماع، وعليه اعتمدوا في نفي النقص، فنعود إلى احتجاجهم بالإجماع، ومعلوم أن الإجماع لا يُحتج به في موارد النزاع، فإن المنازع لهم يقول: أنا لم أوافقكم على نفي هذا المعنى، كان وافقتكم على إطلاق القول بأن الله منزه عن النقص، فهذا المعنى عندي

ص: 209

ليس بنقص، ولم يدخل فيما سلمته لكم، فإن بينتم بالعقل، أو بالسمع انتفاءه، وإلا فاحتجاجكم بقولي، مع أني لم أرد ذلك كذب عليّ، فإنكم تحتجون بالإجماع، والطائفة المثبتة من أهل الإجماع، وهم لم يسلموا هذا.

[الثاني]: أن عدم هذه الأمور قبل وجودها نقص، بل لو وُجدت قبل وجودها لكان نقصًا، مثال ذلك تكليم الله لموسى عليه السلام، ونداؤه له، فنداؤه حين ناداه صفة كمال، ولو ناداه قبل أن يجيء لكان ذلك نقصًا، فكل منها كمال حين وجوده، ليس بكمال قبل وجوده، بل وجوده قبل الوقت الذي تقتضي الحكمة وجوده فيه نقص.

[الثالث]: أن يقال: لا نسلم أن عدم ذلك نقص، فإن ما كان حادثا امتنع أن يكون قديمًا، وما كان ممتنعًا لم يكن عدمه نقصًا؛ لأن النقص فوات ما يمكن من صفات الكمال.

[الرابع]: أن هذا يَرِدُ في كل ما فعله الرب وخلقه، فيقال: خَلْقُ هذا إن كان نقصًا، فقد اتصف بالنقص، وإن كان كمالًا، فقد كان فاقدًا له، فإن قلتم: صفات الأفعال عندنا ليست بنقص ولا كمال، قيل: إذا قلتم ذلك أمكن المنازع أن يقول: هذه الحوادث ليست بنقص ولا كمال.

[الخامس]: أن يقال: إذا عُرِض على العقل الصريح ذاتٌ يمكنها أن تتكلم بقدرتها، وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها، ولا تتصرف بنفسها ألبتة، بل هي بمنزلة الزمن الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره، قَضَى العقلُ الصريحُ بأن هذه الذات أكمل، وحينئذ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص، والكمالُ في اتصافه بهذه الصفات، لا في نفي اتصافه بها.

[السادس]: أن يقال: الحوادث التي يمتنع أن يكون كل منها أزليا، ولا يمكن وجودها إلا شيئًا فشيئًا، إذا قيل: أيما أكمل أن يقدر على فعلها شيئًا فشيئًا، أو لا يقدر على ذلك، كان معلومًا بصريح العقل أن القادر على فعلها شيئًا فشيئا أكمل ممن لا يقدر على ذلك، وأنتم تقولون: إن الرحمن لا يقدر على شيء من هذه الأمور، وتقولون: إنه

ص: 210

يقدر على أمور مباينة له، ومعلوم أن قدرة القادر على فعله المتصل به قبل قدرته على أمور مباينة له، فإذا قلتم: لا يقدر على فعل متصل به، لَزِم أن لا يقدر على المنفصل، فلزم على قولكم، أن لا يقدر على شيء، ولا أن يفعل شيئًا، فلزم أن لا يكون خالقًا لشيء، وهذا لازم للنفاة، لا مَحِيد لهم عنه.

ولهذا قيل: الطريق التي سلكوها حدوث العالم، وإثبات الصانع تناقض حدوث العالم، وإثبات الصانع، ولا يصح القول بحدوث العالم، وإثبات الصانع إلا بإبطالها، لا بإثباتها، فكان ما اعتمدوا عليه، وجعدوه أصولا للدين، ودليلًا عليه هو في نفسه باطلٌ شرعًا وعقلًا، وهو مناقض للدين، ومناف له.

ولهذا كان السلف والأئمة يَعِيبون كلامهم هذا، ويذمونه، ويقولون: مَن طَلَب العلم بالكلام تزندق، كما قال أبو يوسف، ويروى عن مالك، ويقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام، وقال الإمام أحمد به. حنبل: علماء الكلام زنادقة، وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.

وقد صدق الأئمة في ذلك، فإنهم يبنون أمرهم على كلام مُجْمَلٍ يروج على من لم يعرف حقيقته، فإذا اعتقد أنه حقّ، وتبين أنه مناقض للكتاب والسنة، بقي في قلبه مرض، ونفاق، وريب، وشك، بل طَعَن فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الزندقة، وهو كلام باطل من جهة العقل، كما قال بعض السلف: العلم بالكلام هو الجهل، فهم يظنون أن معهم عقليات، وإنما معهم جهليات، {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ، هذا هو الجهل المركب؛ لأنهم كانوا في شك وحيرة، فهم في ظلمات، بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، أين هؤلاء من نور القرآن والإيمان، قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ

ص: 211

دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].

[فإن قيل]: أما كون الكلام والفعل يدخل في الصفات الاختيارية فظاهر، فإنه يكون بمشيئة الرب وقدرته، وأما الإرادة، والمحبة، والرضا، والغضب، ففيه نظر، فإن نفس الإرادة هي المشيئة، وهو سبحانه وتعالى إذا خلق من يحبه كالخليل، فإنه يُحبُّهُ، ويحب المؤمنين، ويحبونه، وكذلك إذا عمل الناس أعمالًا يراها، وهذا لازم لابد من ذلك، فكيف يدخل تحت الاختيار؟.

[قيل]: كل ما كان بعد عدمه، فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته، وهو سبحانه وتعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فما شاء وجب كونه، وهو تحت مشيئة الرب وقدرته، وما لم يشأ امتنع كونه مع قدرته عليه، كما قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، فكون الشيء واجب الوقوع؛ لكونه قد سبق به القضاء على أنه لابد من كونه لا يمتنع أن يكون واقعًا بمشيئته وقدرته وإرادته، كان كانت من لوازم ذاته، كحياته وعلمه، فإن إرادته للمستقبلات، هي مسبوقة بإرادته للماضى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وهو إنما أراد هذا الثاني بعد أن أراد قبله ما يقتضي إرادته، فكان حصول الإرادة اللاحقة بالإرادة السابقة.

والناس قد اضطربوا في مسألة إرادة الله سبحانه وتعالى على أقوال متعددة، ومنهم من نفاها، ورجح الرازيّ هذا في "مطالبه العالية"، لكن -ولله الحمد- نحن قررناها، وبينا فساد الشُّبَه المانعة منها، وأن ما جاء به الكتاب والسنة، هو الحق المحض الذي تدل عليه المعقولات الصريحة، وأن صريح المعقول موافق لصحيح المنقول، وكنا قد بينا أولا أنه يمتنع تعارض الأدلة القطعية، فلا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا

ص: 212

عقليين، أو سمعيين، أو كان أحدهما عقليا، والآخر سمعيا، ثم بينا على صحة السمع، والسمعُ يبين صحةَ العقل، وأن من سلك أحدهما أفضى به إلى الآخر، وأن الذين يستحقون العذاب هم الذين لا يسمعون ولا يعقلون، كما قال الله تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقال تعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا في ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 8 - 10] وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال تعالى:{إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

فقد بين القرآن أن من كان يعقل، أو كان يسمع، فإنه يكون ناجيًا وسعيدًا، ويكون مؤمنًا بما جاءت به الرسل، وقد بسطت هذه الأمور في غير موضع، والله تعالى أعلم.

(فصل): وفحول النُّظّار، كأبي عبد الله الرازيّ، وأبي الحسن الآمديّ، وغيرهما، ذكروا حُجَج النفاة لحلول الحوادث، وبَيّنوا فسادها كلها، فذكروا لهم أربع حُجج:

[إحداهما]: الحجة المشهورة، وهي أنها لو قامت به، لم يخل منها، ومن أضدادها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، ومنعوا المقدمة الأولى، والمقدمة الثانية، ذَكَر الرازيّ وغيره فسادها، وقد بُسط في غير هذا الموضع.

[الثانية]: أنه لو كان قابلًا لها في الأزل لكان القبول من لوازم ذاته، فكان القبول يستدعي إمكان المقبول، ووجود الحوادث في الأزل محال، وهذه أبطلوها هم بالمعارضة بالقدرة، بأنه قادر على إحداث الحوادث، والقدرة تستدعي إمكان المقدور، ووجود المقدور، وهو الحوادث في الأزل محال، وهذه الحجة باطلة من وجوه:

ص: 213

[أحدها]: أن يقال: وجود الحوادث إما أن يكون ممتنعًا، وإما أن يكون ممكنًا، فإن كان ممكنًا أمكن قبولها، والقدرةُ عليها دائمًا، وحينئذ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعًا، بل يمكن أن يكون جنسها مقدورًا مقبولًا، وإن كان ممتنعًا فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى، وحينئذ فلا تكون في الأزل ممكنةً، لا مقدورةً ولا مقبولةً، وحينئذ فلا يلزم امتناعها بعد ذلك، فإن الحوادث موجودةٌ، فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها، وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذه الحجة.

[الوجه الثاني]: أن يقال: لا ريب أن الرب تعالى قادر، فإما أن يقال: إنه لم يزل قادرًا، وهو الصواب، وإما أن يقال: بل صار قادرًا بعد أن لم يكن، فإن قيل: لم يزل قادرًا، فيقال: إذا كان لم يزل قادرًا، فإن كان المقدر لم يزل ممكنًا أمكن دوام وجود الممكنات، فأمكن دوام وجود الحوادث، وحينئذ فلا يمتنع كونه قابلًا لها في الأزل.

فإن قيل: بل كان الفعل ممتنعًا، ثم صار ممكنا، قيل: هذا جمع بين النقيضين، فإن القادر لا يكون قادرًا على ممتنع، فكيف يكون قادرًا على كون المقدور ممتنعًا، ثم يقال: بتقدير إمكان هذا، قيل: هو قادر في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، وكذلك في المقبول، يقال: هو قابل في الأزل لما يمكن فيما لا يزال.

[الوجه الثالث]: إذا قيل: هو قابل لما في الأزل، فإنما هو قابل لما هو قادر عليه، يمكن وجوده، فأما ما يكون ممتنعًا لا يدخل تحت القدرة، فهذا ليس بقابل له.

[الرابع]: أن يقال: هو قادرٌ على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات، ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له، وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمنع مثله؛ لوجود المقدور المباين، ثم ثبت أن المقدور المباين هو ممكن، وهو قادر عليه، فالفعل أن يكون ممكنًا مقدورًا أولى.

[الحجة الثالثة لهم]: أنهم قالوا: لو قامت به الحوادث للزم تغيره، والتغير على الله محالٌ، وأبطلوا هم هذه الحجة، الرازيّ وغيره، بأن قالوا: ما تريدون بقولكم: لو قامت به تَغيَّر؟ أتريدون بالتغير نفس قيامها به، أم شيئًا آخر؟ فإن أردتم الأول، كان المقدم هو

ص: 214

الثاني، والملزوم هو اللازم، وهذا لا فائدة فيه، فإنه يكون تقدير الكلام: لو قامت به الحوادث، لقامت به الحوادث، وهذا كلام لا يفيد، وإن أردتم بالتغير معنى غير ذلك، فهو ممنوع، فلا نُسَلِّم أنها لو قامت به لزم تغير غيرُ حلول الحوادث، فهذا جوابهم.

وإيضاح ذلك أن لفظ التغير لفظ مجملٌ، فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت: إنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى، أنه تغير، ولا يقولون إذا طاف، وصلى، وأمر ونهى، وركب: إنه تغير إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون: تغير لمن استحال من صفة إلى صفة، كالشمس إذا زال نورها ظاهرًا، لا يقال: إنها تغيرت، فإذا اصفرّت قيل تغيرت، وكذلك الإنسان إذا مرض، أو تغير جسمه بجوع أو تعب، قيل: قد تغير، وكذلك إذا تغير خلقه ودينه، مثل أن يكون فاجرًا، فينقلب، ويصير بَرًّا، أو يكون بَرًّا، فينقلب فاجرًا، فإنه يقال: قد تغير، وفي الحديث: رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتغيرًا، لما رأى منه أثر الجوع، ولم يزل يراه يوكع ويسجد، فلم يسَمِّ حركته تغيرًا، وكذلك يقال: فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة، فإذا كان ثابتًا على مودته، لم يُسَمَّ هشته إليه، وخطابه له تغيرًا، وإذا جرى على عادته في أقواله، وأفعاله، فلا يقال: إنه قد تغير، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة، يقولون ويفعلون ما هو خير، لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك، فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل، قيل: قد غيروا ما بأنفسهم، مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة، فتغير قلبه، وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة، فهذا قد غير ما في نفسه، وإذا كان هذا معنى التغير، فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال والإكرام، وكماله من لوازم ذاته، فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصًا بعد كماله.

ص: 215

وهذا الأصل عليه قول السلف، وأهل السنة أنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولم يزل قادرًا، ولم يزل موصوفًا بصفات الكمال، ولا يزال كذلك، فلا يكون متغيرًا، وهذا معنى قول من يقول: يا من يُغَيِّر ولا يَتَغَيَّر، فإنه يُحيل صفات المخلوقات، ويسلبها ما كانت متصفة به إذا شاء، ويعطيها من صفة الكمال ما لم يكن لها، وكماله من لوازم ذاته، لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، قال تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، ولكن هؤلاء النفاة هم الذين يلزمهم أن يكون قد تَغَيَّر، فإنهم يقولون: كان في الأزل لا يمكنه أن يقول شيئًا، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكان ذلك ممتنعًا عليه لا يتمكن منه، ثم صار الفعل ممكنًا يمكنه أن يفعل، ولهم في الكلام قولان: من يثبت الكلام المعروف، وقال: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، قال: إنه صار الكلام ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه، ومن لم يصفه بالكلام المعروف، بل قال: إنه يتكلم بلا مشيئة وقدرة، كما تقوله الكلابية، فهؤلاء أثبتوا كلامًا لا يُعقَل، ولم يسبقهم إليه أحد من المسلمين، بل كان المسلمون قبلهم على قولين:

فالسلف، وأهل السنة يقولون: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه غير مخلوق، والجهمية يقولون: إنه مخلوق بقدرته ومشيئته، فقال هؤلاء: بل يتكلم بلا مشيئته وقدرته، وكلامه شيء واحد، لازم لذاته، وهو حروف، أو حروف وأصوات أزلية، لازمة لذاته، كما قد بُسط في غير هذا الموضع.

والمقصود أن هؤلاء كلهم الذين يمنعون أن الرب لم يزل يمكنه أن يفعل ما شاء، ويقولون: ذلك يستلزم وجود حوادث لا تتناهى، وذلك محال، فهؤلاء يقولون: صار الفعل ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه، وحقيقة قولهم أنه صار قادرًا بعد أن لم يكن قادرًا، وهذا حقيقة التغير، مع أنه لم يحدث سبب يوجب كونه قادرًا.

وإذا قالوا: هو في الأزل كان قادرًا على ما لا يزال، قيل: هذا جمع بين النفي والإثبات، فهو في الأزل كان قادرًا، أفكان القول ممكنًا له، أو ممتنعًا عليه، إن قلتم:

ص: 216

ممكن له فقد جَوَّزتم دوام كونه فاعلًا، وأنه قادر على حوادث لا نهاية لها، وإن قلتم: بل كان ممتنعًا، قيل: القدرة على الممتنع مع كون الفعل ممتنعًا غير ممكن، لا يكون مقدورًا للقادر، إنما المقدور هو المكن، لا الممتنع، فإذا قلتم: أمكنه بعد ذلك فقد قلتم: إنه أمكنه أن يفعل بعد أن كان لا يمكنه أن يفعل، وهذا صريح في أنه صار قادرًا بعد أن لم يكن، وهو صريح في التغير، فهؤلاء النفاة الذين قالوا: إن المثبتة يلزمهم القول بأنه تغير، قد بان بطلان قولهم، وأنهم هم الذين قالوا بما يوجب تغيره.

[الحجة الرابعة]: قالوا: حلول الحوادث به أفول، والخليل قد قال:{لا أحب الآفلين} ، والآفل: هو المتحرك الذي تقوم به الحوادث، فيكون الخليل قد نفى المحبة عمن تقوم به الحوادث، فلا يكون إلهًا، وإذا قال المنازع: أنا أريد بكونه تغير، أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وأنه يحب منا الطاعة، ويفرح بتوبة التائب، ويأتي يوم القيامة، قيل: فهب أنك سميت هذا تغيرا، فَلِمَ قلت: إن هذا ممتنع، فهذا محل النزاع كما قال الرازيّ: فالمقدم هو الثاني.

فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله يوصف بالغيرة، وهي مشتقة من التغير، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"لا أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته"، وقال أيضًا:"لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الرسل، وأنزل الكتب، ولا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن"، وقال:"أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني".

والجواب: أن قصة الخليل عليه السلام حجة عليهم، لا لهم، وهم المخالفون لإبراهيم، ولنبينا ولغيرهما من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وذلك أن الله تعالى قال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا

ص: 217

أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:76، 79].

فقد أخبر الله في كتابه أنه من حين بَزَغ الكوكب والقمر والشمس، وإلى حين أفولها لم يقل الخليل: لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات، ولا الحوادث، ولا قال شيئًا مما يقوله النفاة حين أفل الكوكب والشمس والقمر.

والأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو الغيب، والاحتجاب، بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وهو المراد باتفاق العلماء، فلم يقل إبراهيم:{لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إلا حين أَفَلَ وغاب عن الأبصار، فلم يبق مرئيا، ولا مشهودًا، فحينئذ قال:{لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ، وهذا يقتضي أن كونه متحركًا منتقلًا تقوم به الحوادث، بل كونه جسمًا متحيزًا تقوم به الحوادث، لم يكن دليلًا عند إبراهيم على نفي محبته، فإن كان إبراهيم إنما استدل بالأفول على أنه ليس رب العالمين -كما زعموا- لزم من ذلك أن يكون ما يقوم به الأفول من كونه متحركًا منتقلًا تحله الحوادث، بل ومن كونه جسمًا متحيزًا لم يكن دليلًا عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين، وحينئذ فيلزم أن تكون لا على تعيين مطلوبهم، وهكذا أهل البدع، لا يكادون يحتجون بحجة سمعية، ولا عقلية، إلا وهي عند التأمل حجة عليهم لا لهم، ولكن إبراهيم عليه السلام لم يقصد بقوله:{هذَا ربي} أنه رب العالمين، ولا كان أحدٌ من قومه يقولون: إنه رب العالمين، من تجويز ذلك عليهم، بل كانوا مشركين، مقرين بالصانع، وكانوا يتخذون الكواكب والشمس والقمر أربابًا، يدعونها من دون الله، ويبنون لها الهياكل، وقد صُنفت في مثل مذهبهم كتب، مثل "كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم"، وغيره من الكتب، ولهذا قال الخليل:{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] وقال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ

ص: 218

مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، ولهذا قال الخليل في تمام الكلام:{إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78، 79] بَيّن أنه إنما يعبد الله وحده، فله يوجه وجهه إذا توجه قصده إليه، يتبع قصده وجهه، فالوجه توجه حيث توجه القلب، فصار قلبه وقصده ووجهه متوجهًا إلى الله تعالى، ولهذا قال:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لم يذكر أنه أقر بوجود الصانع، فإن هذا كان معلومًا عند قومه، لم يكونوا ينازعونه في وجود فاطر السموات والأرض، وإنما كان النزاع في عبادة غير الله، واتخاذه ربّا، فكانوا يعبدون الكواكب السماوية، ويتخذون لها أصناما أرضية، وهذا النوع الثاني من الشرك، فإن الشرك في قوم كان أصله من عبادة الصالحين، أهل القبور، ثم صوروا تماثيلهم، فكان شركهم بأهل الأرض، إذ كان الشيطان إنما يضل الناس بحسب الإمكان، فكان ترتيبه أوّلا الشرك بالصالحين أيسر عليه، ثم قوم إبراهيم انتقلوا إلى الشرك بالسماويات بالكواكب، وصنعوا لها الأصنام بحسب ما رأوه من طبائعها، يصنعون لكل كوكب طعامًا وخاتمًا وبخورًا، وأموالًا تناسبه، وهذا كان قد اشتهر على عهد إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، ولهذا قال الخليل:{مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85 - 87]، وقال لهم:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96]، وقصة إبراهيم قد ذُكرت في غير موضع من القرآن مع قومه، إنما فيها نهيهم عن الشرك، خلاف قصة موسى مع فرعون، فإنها ظاهرة في أن فرعون كان مظهرًا الإنكار للخالق، وجحوده.

وقد ذكر الله عن إبراهيم أنه حاجّ الذي حاجه في ربه، في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ

ص: 219

الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، فهذا قد يقال: إنه كان جاحدًا للصانع، ومع هذا فالقصة ليست صريحةً في ذلك، بل يدعو الإنسان إلى عبادة نفسه، وإن كان لا يصرح بإنكار الخالق، مثل إنكار فرعون.

وبكل حال فقصة إبراهيم إلى أن تكون حجة عليهم أقرب منها إلى أن تكون حجة لهم، وهذا بَيِّنٌ ولله الحمد، بل ما ذكره الله عن إبراهيم يدل على أنه كان يُثبت ما ينفونه عن الله، فإن إبراهيم قال:{إِنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاَءِ} ، والمراد به أنه يستجيب الدعاء، كما يقول المصلي: سمع الله لمن حمده، وإنما يسمع الدعاء، ويستجيبه بعد وجوده، لا قبل وجوده، كما قال تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] فهي تجادل، وتشتكي حال سَمْعِ الله تحاورهما، وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون} [التوبة: 105]، وقال:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ في الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، فهذه رؤية مستقلة، ونظر مستقل، وقد تقدم أن المعدوم لا يُرَى ولا يُسمَع منفصلًا عن الرائي السامع باتفاق العقلاء، فإذا وُجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها، والرؤية، والسمع أمر وجودي، لا بد له من موصوف يتصف به، فإذا كان هو الذي رآها وسمعها، امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع، وهذه الرؤية، وأن تكون قائمة بغيره، فتعين قيام هذا السمع، وهذه الرؤية به بعد أن خُلقت الأعمال والأقوال، وهذا مطعن لا حيلة فيه.

وقد بُسط الكلام على هذه المسألة، وما قال فيها عامة الطوائف في غير هذا الموضع، وحَكيت ألفاظ الناس، بحيث يتيقن الإنسان أن النافي ليس معه حجة، لا سمعية، ولا عقلية، وأن الأدلة العقلية الصريحة، موافقة لمذهب السلف، وأهل الحديث، وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة، مع الكتب المتقدمة: التوراة، والإنجيل، والزبور، فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء، وأقوال السلف، وأئمة العلماء، ودلت عليها

ص: 220

صرائح المعقولات، فالمخالف فيها كالمخالف في أمثالها، ممن ليس معه حجة، لا سمعية، ولا عقلية، بل هو شبيه بالذين قالوا:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِير} [الملك: 10]، قال الله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ} [الحج: 46]، ولكن هذه المسألة، ومسألة الزيارة، وغيرهما حَدَث للمتأخرين فيها شُبَهٌ، وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك، نقول في الأصلين يقول أهل البدع، فلما تَبَيَّن لنا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله، أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فكان الواجب هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لا نكون ممن قيل فيه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21]، وقد قال تعالى:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]، وقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، فالواجب اتباع الكتاب المنزل، والنبي المرسل، وسبيل من أناب إلى الله، فاتبعنا الكتاب والسنة، كالمهاجرين والأنصار، دون ما خالف ذلك من دين الآباء، وغير الآباء، والله يهدينا، وسائر إخواننا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، والله سبحانه وتعالى أنزل القرآن، وهدى به الخلق، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وأم القرآن هي فاتحة الكتاب، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، فإذا

ص: 221

قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل".

فهذه السورة فيها لله الحمد، فله الحمد في الدنيا والآخرة، وفيها للعبد السؤال، وفيها العبادة لله وحده، وللعبد الاستعانة، فحق الرب حمده وعبادته وحده، وهذان: حمد الرب وتوحيده يدور عليهما جميع الدين.

ومسألة الصفات الاختيارية، هي من تمام حمده، فمن لم يُقِرَّ بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود البتة، ولا أنه رب العالمين، فإن الحمد ضد الذمّ، والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود، مع المحبة له، والذمّ هو الإخبار بمساوي المذموم، مع البغض له، وجماع المساوي فعل الشر، كما أن جماع المحاسن فعل الخير، فإذا كان يفعل الخير بمشيئته وقدرته استحق الحمد، فمن لم يكن له فعل اختياري يقوم به، بل ولا يقدر على ذلك، لا يكون خالقًا، ولا ربّا للعالمين.

وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، ونحو ذلك، فإذا لم يكن له فعل يقوم به باختياره، امتنع ذلك كله، فإنه من المعلوم بصريح العاقل أنه إذا خلق السموات والأرض، فلابد من فعل يصير به خالقًا، وإلا فلو استمر الآمر على حال واحدة، لم يحدث فعل لكان الأمر على ما كان قبل أن يخلق، وحينئذ فلم يكن المخلوق موجودًا، فكذلك يجب أن لا يكون المخلوق موجودًا، إن كان الحال في المستقبل، مثل ما كان في الماضي لم يحدث من الرب فعلٌ، هو خلق السموات والأرض، وقد قال تعالى:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، ومعلوم أنهم قد شَهِدوا نفس المخلوق، فَدَلّ على أن الخلق لم يشهدوه، وهو تكوينه لها وإحداثه لها غير المخلوق الباقي.

وأيضا فإنه قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]،

ص: 222

فالخلق لها كان في ستة أيام، وهي موجودة بعد المشيئة، فالذي اختص بالمشيئة غير الموجود بعد المشيئة.

وكذلك: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإن الرحمن الرحيم، هو الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته، فإن لم يكن له رحمة إلا نفس إرادة قديمة، أو صفة أخرى قديمة، لم يكن موصوفًا بأنه يرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، قال الخليل:{قُلْ سِيرُوا في الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 20، 21]، فالرحمة ضد التعذيب، والتعذيب فعله، وهو يكون بمشيئته، كذلك الرحمة تكون بمشيئته، كما قال:{وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، والإرادة القديمة اللازمة لذاته، أو صفة أخرى لذاته ليست بمشيئته، فلا تكون الرحمة بمشيئته.

وإن قيل: ليس بمشيئته إلا المخلوقات المباينة، لزم أن لا تكون صفة للرب، بل تكون مخلوقة له، وهو إنما يتصف بما يقوم به، لا يتصف بالمخلوقات، فلا يكون هو الرحمن الرحيم، وقد ثبت في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لمّا قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو موضوع عنده، فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي"، وفي رواية "تسبق غضبي"، وما كان سابقًا لما يكون بعده، لم يكن إلا بمشيئة الرب وقدرته، ومن قال: ما ثَمّ رحمة إلا إرادة قديمة، أو ما يشبهها، امتنع أن يكون له غضب مسبوق بها، فإن الغضب إن فُسِّر بالإرادة، فالإرادة لم تسبق نفسها، وكذلك إن فسر بصفة قديمة العين، فالقديم لا يسبق بعضه بعضًا، وإن فسر بالمخلوقات، لم يتصف برحمة ولا غضب، وهو قد فرق بين غضبه وعقابه بقوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقوله:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "أعوذ

ص: 223

بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه، ومن شر عباد ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون"، ويدل على ذلك قوله:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الإسراء: 54]، فعلق الرحمة بالمشيئة، كما علق التعذيب وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب، فهو من الصفات الاختيارية.

وكذلك كونه مالكًا ليوم الدين، يوم يدين العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ، كان شرّا فشرّ، {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 18، 19]، فإن الملك هو الذي يتصرف بأمر فيطاع، ولهذا إنما يقال: ملك للحي المطاع الأمر، لا يقال في الجمادات لصاحبها ملك، إنما يقال له: مالك، ويقال ليعسوب النحل: ملك النحل، لأنه يأمر فيطاع، والمالك القادر على التصريف في المملوك، وإذا كان الملك هو الآمر الناهي المطاع، فإن كان يأمر وينهى بمشيئته، كان أمره ونهيه من الصفات الاختيارية، وبهذا أخبر القرآن، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وإن كان لا يأمر وينهى بمشيئته، بل أمره لازم له، حاصل بغير مشيئته ولا قدرته، لم يكن هذا مالكًا أيضا، بل هذا أولى أن يكون مملوكًا، فإن الله تعالى خلق الإنسان، وجعل له صفات تلزمه، كاللون، والطول، والعرض، والحياء، ونحو ذلك، مما يحصل لذاته بغير اختياره، فكان باعتبار ذلك مملوكًا مخلوقًا للرب فقط، وإنما يكون ملكًا إذا كان يأمر وينهى باختياره فيطاع، وإن كان الله خالقًا لفعله، ولكل شيء.

ولكن المقصود أنه لا يكون ملكًا إلا من يأمر وينهى بمشيئته وقدرته، بل من قال: إنه لازم له بغير مشيئته، أو قال: إنه مخلوق له، فكلاهما يلزمه أنه لا يكون ملكًا، وإذا لم يمكنه أن يتصرف بمشيئته لم يكن مالكًا أيضًا، فمن قال: إنه لا يقوم به فعل اختياريّ لم يكن عنده في الحقيقة مالكًا لشيء، وإذا اعتبرتَ سائر القرآن، وجدت أنه من لم يُقِرَّ بالصفات الاختيارية لم يَقُم بحقيقة الإيمان، ولا القرآن، فهذا يُبَيِّن أن الفاتحة

ص: 224

وغيرها يدل على الصفات الاختيارية.

وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إخلاص العبادة لله، والاستعانة به، وأن المؤمنين لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا بالله، فمن دَعَى غير الله من المخلوقين، أو استعان بهم من أهل القبور وغيرهم، لم يحقق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ولا يحقق ذلك إلا من فرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية، فإن الزيارة الشرعية عبادة لله، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتوحيد لله، وإحسان إلى عباده، وعَمَلٌ صالحٌ من الزائر، يثاب عليه، والزيارة البدعية شرك بالخالق، وظلم للمخلوق، وظلم للنفس، فصاحب الزيارة الشرعية، هو الذي يحقق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ألا ترى أن اثنين لو شهدا جنازة، فقام أحدهما يدعو للميت، ويقول: اللهم اغفر له، وارحمه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وأعذه من عذاب النار، وعذاب القبر، وافسح له في قبره، ونَوِّر له فيه، ونحو ذلك من الدعاء له، وقام الآخر، فقال: يا سيدي أشكو لك ديوني، وأعدائي، وذنوبي، أنا مستغيث بك، مستجير بك، أغثني، ونحو ذلك، لكان الأول عابدا لله، ومُحسنًا إلى خلقه، محسنًا إلى نفسه بعبادة الله، ونفعه عباده، وهذا الثاني مشركًا مؤذيًا ظالمًا معتديًا على الميت، ظالمًا لنفسه.

فهذا بعض ما بين البدعية والشرعية من الفروق.

والمقصود أن صاحب الزيارة الشرعية إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كان صادقًا؛ لأنه لم يعبد إلا الله، ولم يستعن إلا به، وأما صاحب الزيارة البدعية، فإنه عَبَدَ غير الله، واستعان بغيره.

فهذا بعض ما يبين أن "الفاتحة" أم القرآن، اشتملت على بيان المسألتين المتنازع فيهما، مسألة الصفات الاختيارية، ومسألة الفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية، والله تعالى هو المسؤول أن يهدينا، وسائر إخواننا إلى صراطه المستقيم، صراط الذين

ص: 225

أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

ومما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، فذكر الحمد والثناء والمجد بعد ذلك، يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخرها، هذا في أول القراءة في قيام الصلاة، ثم في آخر القيام بعد الركوع يقول: ربنا ولك الحمد، ملء السماء وملء الارض، إلى قوله: أهل الثناء والمجد أحقّ ما قال العبد -وكلنا لك عبد-: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وقوله: أحق ما قال العبد، خبر مبتدإ محذوف، أي هذا الكلام أحق ما قال العبد، فتبَيَّن أن حمد الله والثناء عليه أحقّ ما قاله العبد، وفي ضمنه توحيده له، إذا قال: ولك الحمد، أي لك لا لغيرك، وقال في آخره: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، وهذا يقتضي انفراده بالعطاء والمنع، فلا يستعان إلا به، ولا يطلب إلا منه، ثم قال: ولا ينفع ذا الجد منك الجد، فبين أن الإنسان، وإن أُعطي الملك، والغنى، والرئاسة، فهذا لا ينجيه منك، إنما ينجيه الإيمان والتقوى، وهذا تحقيق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فكان هذا الذكر في آخر القيام؛ لأنه ذكر أول القيام، وقوله: أحقُّ ما قال العبد يقتضي أن يكون حمد الله أحق الأقوال بأن يقوله العبد، وما كان أحق الأقوال، كان أفضلها، وأوجبها على الإنسان، ولهذا افترض الله على عباده في كل صلاة أن يفتتحوها بقولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وأمرهم أيضًا أن يفتتحوا كل خطبة بالحمد لله، فأمرهم أن يكون مقدمًا على كل كلام، سواء كان خطابًا للخالق، أو خطابًا للمخلوق، ولهذا يقدم النبي صلى الله عليه وسلم الحمدَ أمام الشفاعة يوم القيامة، ولهذا أُمِرنا بتقديم الثناء على الله في التشهد قبل الدعاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد لله، فهو أجذم" (1)، وأول من يُدعَى

(1) حديث ضعيف، تقدّم الكلام عليه في مسائل البسملة من هذا الشرح، فراجعه تستفد.

ص: 226

إلى الجنة الحمادون، الذين يَحمدون الله على السراء والضراء.

وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} جعله ثناء، وقوله:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} جعله تمجيدًا، وقوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} حمد مطلق، فإن الحمد اسم جنس، والجنس له كمية وكيفية، فالثناء كميته، وتكبيره وتعظيمه كيفيته، والمجد هو السعة والعلو، فهو يعظم كيفيته وقدره، وكميتَهُ المتصلة، وذلك أن هذا وصف له بالملك، والملك يتضمن القدرة، وفعل ما يشاء، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وصف بالرحمة المتضمنة لإحسانه إلى العباد بمشيئته وقدرته أيضًا، والخير يحصل بالقدرة والإرادة التي تتضمن الرحمة، فإذا كان قديرًا مريدًا للإحسان حصل كل خير، وإنما يقع النقص لعدم القدرة، أو لعدم إرادة الخير، فالرحمن الرحيم الملك قد اتصف بغاية إرادة الإحسان، وغاية القدرة، وذلك يحصل به خير الدنيا والآخرة.

وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مع أنه ملك الدنيا؛ لأن يوم الدين لا يَدَّعِي أحد فيه منازعة، وهو اليوم الأعظم، فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، والدين عاقبة أفعال العباد، وقد يدل بطريق التنبيه، وبطريق العموم عند بعضهم على ملك الدنيا، فيكون له الملك، وله الحمد كما قال تعالى:{لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]، وذلك يقتضي أنه قادر على أن يَرْحَم، ورحمته وإحسانه وصف له يحصل بمشيئته، وهو من الصفات الاختيارية.

وفي "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعَلِّم أصحابه الاستخارة الأمور كلها، كما يُعَلِّمهم السورة من القرآن، يقول: "إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه باسمه- حيرًا لي في ديني ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويَسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شَرٌّ لي

ص: 227

في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان".

فسأله بعلمه وقدرته، ومن فضله، وفضلُهُ يحصل برحمته، وهذه الصفات هي جماع صفات الكمال، لكن العلم له عموم التعلُّق يتعلق بالخالق والمخلوق، والموجود والمعدوم، وأما القدرة، فإنما تتعلق بالمخلوق، وكذلك الملك إنما يكون ملكًا على المخلوقات.

فالفاتحة اشتملت على الكمال في الإرادة، وهو الرحمة، وعلى الكمال في القدرة، وهو ملك يوم الدين، وهذا إنما يتم بالصفات الاختيارية، كما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم.

انتهت الرسالة الميمونة المباركة لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، وهي كافية شافية في هذه المسائل المهمة المسألة التي عقد لها الإمام ابن ماجه رحمه الله بابًا لبيان ما أنكرت الجهميّة من الصفات، فاقرأها بتأمل، وتدبّر تَرَ فيها العجب العُجاب، مما يُستلذّ ويُستطاب، والله تعالى الهادي إلى المنهج القويم، وسبيل الصواب.

اللهم اهدينا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، الله أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

ص: 228