المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌45 - (باب الانتفاع بالعلم، والعمل به) - مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه - جـ ٤

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

الفصل: ‌45 - (باب الانتفاع بالعلم، والعمل به)

‌45 - (بَابُ الانْتِفَاع بالْعِلْمِ، والْعَمَلِ بِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

250 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَمنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد الكوفي الثقة الحافظ [10] 1/ 1.

2 -

(أَبُو خالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء [8] 1/ 11.

3 -

(ابْنُ عَجْلَانَ) محمد مولى فاطمة ينت الوليد المدنيّ، صدوقٌ اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5] 2/ 19.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سَعْدٍ المدنيّ، ثقة، تغيّر قبل موته بأربع سنين [3] 38/ 217.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه! / 1، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند الترمذيّ، والنسائيّ بسند صحيح:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أربع. . ."(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) أي أعتصم، وألتجىء إليك، يقال: استعذتُ بالله، وعُذت به مَعَاذًا، وعِياذًا: اعتصمت، وتعوّذتُ به، والاستعاذة استفعال من الْعَوْذ بفتح، فسكون-، وهو الالتجاء، كالعياذ، والمعاذ، والمعاذة، والتعوّذ. أفاده في "القاموس"، و"المصباح"- (مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ) بالبناء للفاعل، أي لا ينفع صاحبه، فإن من العلم ما لا ينفعه، بل يصير حجةً عليه، وذلك بأن لا يعمل به، ولا يعلمه للناس، ولا يهذّب به أخلاقه، ولا أقواله، ولا أفعاله، أو يكون لا يُحتاج إليه، أو لم يرِدْ إذن

ص: 466

شرعيّ في تعلّمه.

قال بعضهم في بيان العلم غير النافع: إنه الذي لا يُهذّب الأخلاق الباطنة،

فيسريَ منها إلى الأفعال الظاهرة، ويحصل بها الثواب الآجل، وأنشد [من الكامل]:

يَا مَنْ تَقَاعَدَ عَنْ مَكَارِمِ خُلْقِهِ

لَيْسَ افتِخَارٌ بَالْعُلُومِ الذَّاخِرَهْ

مَنْ لَمْ يُهَذِّبْ عِلْمُهُ أَخْلَاقَه

لم يَنتَفِعْ بِعُلُومِهِ في الآخِرَهْ

(وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ) بالبناء للمفعول، أي لا يستجاب، فكأنه غير مسموع، حيث لم يترتّب عليه فائدة السماع المطلوبة منه (وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ) بالبناء للفاعل، أي لا يسكن، ولا يطمئنّ بذكر الله تعالى (وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ) أي لا تقنع بما آتاها الله تعالى من الرزق، ولا تفتُرُ عن جمع المال من حلّه ومن حُرْمه؛ لما فيها من شدّة الشَّرَه، أو المراد من نفس تأكلُ كثيرًا، قال ابن الملك: أي حريصة على جمع المال، وتحصيل المناصب، وقال السنديّ: أي حريصة على الدنيا، لا تشبع منها، وأما الحرص على العلم والخير، والخير، فمحمود مطلوب، قال الله عز وجل:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وسنده ضعيف؛ فقد قال النسائيّ: إن سعيدًا لم يسمعه من أبي هريرة رضي الله عنه، بل سمعه من أخيه عبّاد، عن أبي هريرة، وسيأتي للمصنّف في "كتاب الدعاء" برقم (3837) وأيضًا فإن محمد بن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما سبق آنفًا، وأيضًا أبو خالد الأحمر متكلّم فيه؟.

[قلت]: إنما صحّ بشواهده؛ فقد أخرجه مسلم من حديث زيد أرقم رضي الله عنه، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها

ص: 467

ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها".

وأخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائي بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع".

والحاصل أن الحديث صحيح، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا (45/ 250) بهذا السند، وسيعيده في "كتاب الدعاء" من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أخيه عباد، عن أبي هريرة رضي الله عنه (3837)، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(2/ 340 و 356 و451)(وأبو داود)(1548) و (النسائيّ)(8/ 263 و 284) بالطريق الثاني، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو الانتفاع بالعلم، والعمل به، ووجه ذلك أنه لما استعاذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع عُلم أنه لا ينبغي لطالب أن يطلب ما لا ينفعه من العلوم، وأيضًا ينبغي له أن يحذر من أن يكون له غرض دنيويّ في ذلك العلم، بل يكون همه الانتفاع به، بإزالة الجهل، ثم نفع عباد الله تعالى بتعليمهم.

ثم إن استعاذته صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع موافقٌ لمعنى ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: "يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقَى في النار، فتنْدَلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيَجتَمِع أهل النار عليه، فيقولون: أَيْ فلانُ، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".

2 -

(ومنها): استحباب الاستعاذة من هذه الأربع.

قال الطيبيّ رحمه الله: (اعلم): أن في كلّ من القران الأربع ما يُشعر بأن وجوده

ص: 468

مبنيّ على غايته، وأن الغرض منه تلك الغاية، وذلك أن تحصيل العلم إنما هو للانتفاع به، فإذا لم ينتفع به لم يخلص منه كفافًا، بل يكون وبالًا، ولذلك استعاذ منه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن القلب إنما خُلق لأن يتخشّع لباريه سبحانه وتعالى، وينشرح لذلك الصدر، ويُقذف النور فيه، فإذا لم يكن كذلك كان قاسيًا، فيجب أن يُستعاذ منه، قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، وأن النفس يُعتدّ بها إذا تجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود، وهي إذا كانت منهومة، لا تشبع، حريصةً على الدنيا كانت أعدى عدوّ المرء، فأولى الشيء الذي يستعاذ منه هي هذه النفس، وعدم استجابة الدعاء دليلٌ على أن الداعي لم ينتفع بعلمه وعمله، ولم يخشع قلبه، ولم تشبع نفسه، فيكون أولى ما يُستعاذ منه. انتهى (1).

3 -

(ومنها): أن استعاذته صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور إظهار للعبودية، وإعظام للربّ سبحانه وتعالى، وحثّ لأمته على ذلك، وتعليم لهم، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من هذه الأمور.

4 -

(ومنها): أن ما ورد في المنع عن السجع في الدعاء هو ما يكون عن قصد إليه، وتكلّف في تحصيله، بحيث يمنع من حضور القلب، وخشوعه، أما إذا اتّفق، وحصل بسبب قوّة السليقة، وفصاحة اللسان، فليس بممنوع، كما اتّفق له صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء ونحوه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

251 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ. كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا، وَالحمْدُ للهِ عَلَى كُل حَالٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ) أبو هشام الكوفيّ، ثقة سنّيّ، من كبار [9] 8/ 52.

(1) راجع "تحفة الأحوذي" 9/ 363.

ص: 469

2 -

(مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ) بن نَشيط -بفتح النون، وكسر المعجمة، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم مهملةٌ- الرَّبَذيّ -بفتح الراء، والموحّدة، ثم معجمة- أبو عبد العزيز المدنيّ، ضعيف، ولا سيّما في عبد الله بن دينار، وكان عابدًا، من صغار [6].

روى عن أخويه: عبد الله ومحمد، وعبد الله بن دينار، وإياس بن سلمة بن الأكوع، وغيرهم.

قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: كنا نتقي حديث موسى بن عُبيدة تلك الأيام، ثم كان بمكة، فلم نأته. وقال يحيى: أُحَدِّث عن شريك أحب إلي منه. وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عنه، قلت: فإن شعبة رَوى عنه، فقال: حدثنا أبو عبد العزيز الرَّبَذيّ، فقال لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه. وقال محمد بن إسحاق الصائغ عن أحمد: لا تحل الرواية عنه. وقال أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد: لا يكتب حديث أربعة: موسى بن عُبيدة، وإسحاق بن أبي فَرْوة، وجُويبر، وعبد الرحمن بن زياد. وقال البخاري: قال أحمد: منكر الحديث. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: اضرب على حديثه.

وقال عباس عن ابن معين: لا يحتج بحديثه، قال: فقلت له: أيما أحب إليك هو أو ابن إسحاق؟ قال ابن إسحاق. وقال معاوية بن صالح وآخرون عن ابن معين: ضعيف، إلا أنه يُكتب من أحاديثه الرقاق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: إنما ضعف حديثه لأنه روَى عن عبد الله بن دينار مناكير. وقال أبو يعلى عن ابن معين: ليس بشيء. وقال علي بن المديني: موسى بن عبيدة ضعيف الحديث، حَدّث بأحاديث مناكير. وقال أبو زرعة: ليس بقوي الأحاديث.

وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال الآجري عن أبي داود: أحاديثه مستويةٌ إلا عن عبد الله بن دينار. وقال الترمذي: يُضَعَّف. وقال النسائي: ضعيف، وقال مرة: ليس بثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وليس بحجة. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، ضعيف الحديث جدّا، ومن الناس من لا يَكتُب حديثه؛ لِوَهَائه

ص: 470

وضعفه، وكثره اختلاطه، وكان من أهل الصدق.

وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث التي ذكرتها لموسى غير محفوظة، والضعف على رواياته بَيِّنٌ. وقال الدُّوري عن زيد بن الحُبَاب شَمِمنا من قبره رائحة المسك لمّا مات، ولم يكن بالرَّبَذَة مسك ولا عنبر، قال زيد: وكان بيته ليس فيه إلا الْخِصَاف، وفي البيت رَملٌ وحَصًى، وقال أبو بكر البزار: موسى بن عُبيدة رجل مُفيد، وليس بالحافظ، وأحسب إنما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال الساجي: منكر الحديث، وكان رجلًا صالحًا.

قال الهيثم بن عَدِيّ: موسى بن عُبيدة كان يقال له: حِمْيَريّ، تُوفي سنة ثنتين وخمسين ومائة. وقال ابن سعد وغيره: مات سنة ثلاث وخمسين.

تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب (15) حديثًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ) مجهول [6].

رَوَى عن أبي حكيم مولى الزبير، وأبي هريرة، وعنه موسى بن عُبيدة الرَّبَذيّ، قال الدُّوري عن ابن معين: لا أعرفه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا نَفْهَم مَنْ محمدٌ هذا؟. وزعم يعقوب بن شيبة أنه محمد بن ثابت بن شُرَحبيل من بني عبد الدار (1).

تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث، وكرره ثلاث مرات، برقم (251) و (3804) و (3833)، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي) أي بالعمل بالعلم الذي علّمتنيه (وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُني) أي علمًا ينفعني هو، أو العمل به في ديني وآخرتي، والمعنى: اجعلني عاملًا بعلمي، وعلّمني علمًا أعمل به،

(1) تكلم في "تهذيب التهذيب" في كلام يعقوب هذا، لكن أخيرًا ما رأيته طائلًا؛ لأن الرجل ما زال مجهولًا - فحذفته؛ لعدم جدواه. فتنبّه.

ص: 471

وفيه إشارة إلى معنى "من عَمِل بما عَلِم ورّثه الله علمَ ما لم يعلم"(وَزِدْنِي عِلْمًا) أي لَدُنيًّا، يتعلّق بذاتك، وأسمائك، وصفاتك، وفيه إشعار بفضيلة زيادة العلم على العمل، قاله القاري (1).

وقوله: (وَالحمْدُ لله عَلَى كُلّ حَالٍ) أي بعد زيادة العلم، وقبل أن يُزاد، وظاهر العطف يقتضي أن الجملة إنشائيّة، فلذلك عطفت على إنشائيّة (2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا ضعيف الإسناد؛ لأن موسى بن عُبيدة مجمع على ضعفه، وشيخه محمد بن ثابت مجهول، لكن المتن صحيح دون جملة الحمد، فقد أخرجه النسائيّ في "الكبرى"(7819) و"الحاكم في "المستدرك" 1/ 510 من طريق عبد الله ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، أنه دخل على أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: فسمعته يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وارزقني علمًا تنفعني به". قال الحاكم هذا حديث صحيح، على شرط مسلم، ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبيّ.

والحاصل أن الحديث صحيح من هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (45/ 251) بهذا الإسناد، وسيأتي في "كتاب الدعاء" بنفس السند، بزيادة "وأعوذ بالله من حال أهل النار"، وأخرجه (عبد بن حميد)(1419) و (الترمذيّ)(3599)، وأخرجه النسائيّ، والحاكم من حديث أنسّ رضي الله عنه، كما

(1)"المرقاة" 5/ 356.

(2)

"شرح السندي" 1/ 163.

ص: 472

أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان الانتفاع بالعلم، وأنه هو المقصود الأعظم، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما طلب من الله تعالى أن ينفعه بعلمه، إلا لأنه المطلوب منه.

2 -

(ومنها): استحباب طلب الزيادة من العلم؛ لأنه نور يوصل لمعرفة الله تعالى ومرضاته، فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه بطلب الزيادة منه بقوله عز وجل:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وأما الدنيا فقد نهاه أن يمدّ عينيه إلى زخارفها، فضلًا عن أن يسأله المزيد منها، فقال الله عز وجل:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} الآية [سورة طه].

3 -

(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: طلب أولًا النفع بما رُزق من العلم، وهو العمل بمقتضاه، ثم توخّى علمًا زائدًا عليه ليترقّى منه إلى عمل زائد على ذلك، ثم قال "رب زدني علمًا" ليشير إلى طلب الزيادة في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى مرضاته تعالى، وظهر من هذا أن العلم وسيلة العمل، وهما متلازمان، ومن ثمّ قيل: ما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، وما أحسن موقع الحمد في هذا المقام، ومعنى المزيد فيه:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وموقع الاستعاذة من الحال المضاف إلى النار -يعني في الرواية الآتية برقم (3833) حيث زاد فيها قولَهَ:"وأعوذ بالله من حال أهل النار"- تلميحٌ إلى الفظيعة والبعد، وهذا من جوامع الدعاء الذي لا مطمح وراءه. انتهى كلامه بتصرّف يسير (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)"الكاشف" 6/ 1929.

ص: 473

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

252 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالا: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمانَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الله، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلا لِيُصيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا، لَم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" -يَعْني رِيحَهَا-).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(يُوُنسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الحافظ البغدادي ثقة ثبت، من صغار [9] 9/ 73.

3 -

(سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ) بن مَرْوان الجوهري اللُّؤْلُؤيّ، أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن البغداديّ، أصله من خراسان، ثقة يَهِمُ قليلًا، من كبار [10].

رَوَى عن فُليح بن سليمان، والحمادين، ونافع بن عُمر الْجُمَحيّ، ومحمد بن مسلم الطائفي، والحكم بن عبد الملك، وابن أبي الزناد، وهشيم، وغيرهم.

ورَوى عنه البخاري، وروى الأربعة له بواسطة محمد بن رافع، وابن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، والفضل بن سهل الأعرج، ومحمد بن عامر المصيصي، وأبو خيثمة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.

قال المفضل الغلابي عن ابن معين: ثقة، وسريج بن يونس أفضل منه. وقال العجلي: ثقة. وقال أبو داود: ثقة، حدثنا عنه أحمد بن حنبل، غَلِطَ في أحاديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الحاكم عن الدارقطنيّ: ثقة مأمون. وقال ابن حبان في "الثقات": يُكنى أبا الحارث.

وقال حنبل بن إسحاق وغيره: مات يوم الأضحى سنة سبع عشرة ومائتين.

أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

ص: 474

4 -

(فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمانَ) المدنيّ، ليّن الحديث (1)[7] 42/ 241.

5 -

(عَبْدُ الله بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، أَبِي طُوَالَةَ) -بضم الطاء المهملة- هو: عبد الله ابن عبد الرحمن بن مَعْمَر بن حَزْم بن زيد بن لَوْذان بن عمرو بن عبد عوف بن غَنْم بن مالك بن النجار الأنصاري النَّجَاري، أبو طوالة المدنيّ، كان قاضي المدينة في زمن عمر ابن عبد العزيز، ثقة [5].

روى عن أنس، وعامر بن سعد، وأبي الحباب سعيد بن يسار، وأبي يونس مولى عائشة، ويحيى بن عمارة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار، وغيرهم.

وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، وسليمان بن بلال، والأوزاعي، وأبو إسحاق الفزاري، وزائدة، وفليح بن سلمان، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، وابن سعد، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني: ثقة، زاد محمد بن سعد: كثير الحديث، تُوفي في آخر سلطان بني أمية.

وقال ابن وهب: حدثني مالك عنه، قال: وكان قاضيًا، وكان يسرد الصوم، وكان يحدث حديثًا حَسَنًا.

وأَرّخ الدمياطي موته في كتاب "أنساب الخزرج" سنة أربع وثلاثين ومائة، ويدل عليه قول ابن حبان: مات في خلافة أبي العباس، وقال الدَّقّاق: لا يعرف في المحدثين مَنْ يُكنى أبا طوالة سواه. وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (252) و (3281) و (4017).

6 -

(سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ) أبو الحُبَاب المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: مولى شُقْران، أو مولى الحسن بن علي، وقيل: مولى بني النَّجّار، والصحيح أنه غير سعيد بن مُرْجانة، ثقة، متقنٌ [3].

(1) هذا أولى من قول "التقريب": صدوق كثير الخطإ؛ لأن الأكثرين على تضعيفه.

ص: 475

روى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن خالد الجهني.

وروى عنه سعيد المقبري، وسهيل بن أبي صالح، وأبو طُوَالة، وربيعة، ويحيى بن سعيد، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وابن عجلان، وغيرهم.

قال عباس الدُّوري: قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث. وقال العجليّ: مدني ثقة. وقال ابن عبد البر: لا يختلفون في توثيقه.

وقال الواقدي: مات سنة (16)، وقيل: سبع عشرة ومائة، وهو ابن ثمانين سنة، وقال ابن حبان: مات بالمدينة سنة سبع عشرة، كذا قال في "الثقات"، وفي نسخة أخرى سنة (12).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (252) و (800) و (1200) و (1842) و (4262) و (4268).

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ" شرطيّة، أو موصولة (تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا)"من" للبيان (يُبْتَغَى) بالبناء للمفعول، أي من الذي يُطلب (بِهِ) أي بذلك العلم (وَجْهُ الله) سبحانه وتعالى، وهو العلم الديني، علم الكتاب والسنة، ووسائلهما، قال الطيبيّ رحمه الله ووصَفُ العلم بابتغاء وجه الله يجوز أن يكون إما للتفضلة والتمييز، فإن بعض العلوم مما يُستعاذ منه، كما ثبت من تعوّذه صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، ويجوز أن يكون للمدح، كما ورد "العلوم ثلاثة. . ."، والوعيد من باب التغليظ والتهديد، سمعت بعض العلماء الزاهدين يقول: من طلب الدنيا بالعلوم الدنيويّة كان أهون عليه من أن يطلبها بغيرها من العلوم، فهو كمن جرّ جيفة بآلة من آلات الملاهي، وذاك كمن جرّها بأوراق تلك العلوم، ومثله ما روى الإمام أحمد في "كتاب الزهد" عن بعضهم "لأن

ص: 476

تطلب الدنيا بالدفّ والمزمار خير من أن تطلبها بدينك". انتهى (1).

وقوله: (لَا يَتَعَلَّمُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، من فاعل "تعلم"، أو من مفعوله؛ لتخصّصه بالوصف، ويحتمل أن يكون صفة أخرى لـ "علمًا"(إِلَّا لِيُصِيبَ) أي ينال (بِهِ) أي بذلك العلم، والاستثناء من عموم الأحوال، أي لا يتعلّمه لغرض من الأغراض إلا ليصيب به (عَرَضًا) بفتح العين المهملة، والراء: أي حظًّا مالًا أو جاهًا (مِنْ الدُّنْيَا) بيان لـ "عرضًا"، يقال: الدنيا عَرَضُ حاضرٌ يأكل منه البرّ والفاجر، ونكّره ليتناول الأنواع، ويندرج فيه قليله وكثيره، وفي "الأزهار":"الْعَرَض" بفتح العين والراء: المال، وقيل: ما يُتمتّع به، وقيل:"الْعَرْض" بالسكون: أصناف المال غير الذهب والفضّة، وبحركة الراء: جميع المال، من الذهب والفضّة، والعُروض كلّها، كذا نقله الأبهريّ.

(لَمْ يَجِدْ) حين يجد علماء الدين من مكان بعيد (عَرْفَ الْجنَّةِ) بفتح العين المهملة، وسكون الراء: أي ريحها الطيّبة المعروفة بأنها توجد من مسيرة خمسمائة عام على ما ورد في الحديث (يَوْمَ الْقِيَامَةِ -يَعْني رِيحَهَا-) هذا تفسير من بعض الرواة، وهو فُليح، كما بيّنه الحاكم في "المستدرك" 1/ 85.

وهذا الوعيد محمول على من استحلّ ذلك؛ لأن تحريم طلب العلم بهذا القصد فقط مجمع عليه، ومعلوم من الدين بالضرورة، ويحتمل أن يكون الوعيد للتهديد والمبالغة، ويأتي تمام البحث فيه في الفوائد، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

(1)"الكاشف" 2/ 683.

ص: 477

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده فُليح بن سليمان متكلّم فيه؟.

[قلت]: فُليح وإن تكلّم فيه الأكثرون، إلا أن البخاريّ ومسلمًا اعتمدا عليه، وأخرجا له، ولحديثه هذا شواهد، من حديث ابن عمر، وجابر، وأنس، وكعب بن مالك، وحُذيفة، وسيأتي معظمها في هذا الباب -إن شاء الله تعالى-، وهي وإن كان في معظم طرقها كلام، إلا أن مجموعها يتقوى بعضه ببعض، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (45/ 252) بهذا السند، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(2/ 338) و (أبو داود)(3664) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(78) و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 85) وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، و (الخطيب) في "التاريخ"(5/ 346 - 347 و 8/ 78) و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان العلم"(230)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو الانتفاع بالعلم والعمل به، ووجه ذلك أن من تعلم للدنيا لم ينتفع بعلمه، ولم يحصل له الغرض المطلوب منه.

2 -

(ومنها): أن فيه دلالةً على الوعيد المذكور لمن لم يقصد بعلمه إلا الدنيا؛ لأنه عبّر بأداة الحصر، فقال:"إلا ليصيب عرضًا إلخ"، فأما من طلب بعلمه رضا الله تعالى، ومع ذلك له ميلٌ ما إلى الدنيا، فخارج عن هذا الوعيد، قال الطيبيّ رحمه الله: فيه أن من تعلّم لرضا الله تعالى مع إصابة العرض الدنيويّ لا يدخل تحت الوعيد؛ لأن ابتغاء وجه الله تعالى يأبى إلا أن يكون متبوعًا غالبًا، ويكون العرض تابعًا، قال الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء: 134]، ففيه تقريع وتوبيخ للمريد؛ لأن من تعلّم العلم، أو جاهد لينال عرضًا من أعراض الدنيا يجب أن يوبّخ، ويقال في حقّه: ما هذه الدناءة؟ أرضيت بالخسيس الفاني، وتركت الرفيع الباقي؟ ما لك لا تريد به وجه الله، وطلب مرضاته؛ ليمنحك ما تريده، ويتبعه

ص: 478

هذا الخسيس أيضًا راغمًا أنفه، ففي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا:"من كانت الدنيا هَمَّهُ فَرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"(1).

3 -

(ومنها): أن طلب الدنيا بعلم الفلسفة ونحوه، مما ليس بعلم شرعيّ لا يدخل في هذا الوعيد.

4 -

(ومنها): ما قاله التوربشيّ رحمه الله تعالى: قد حُمِل هذا المعنى على المبالغة في تحريم الجنة على المختصّ بهذا الوعيد، كقولك: ما شممت قُتَار (2) قِدره للمبالغة في التبري عن تناول طعامه، أي ما شممت رائحتها، فكيف بالتناول عنها؟، وليس كذلك، فإن المختصّ بهذا الوعيد إن كان من أهل الإيمان فلا بدّ وأن يدخل الجنة، عُرِف ذلك بالنصوص الصحيحة، فتأويل هذا الحديث أن يكون تهديدًا وزجرًا عن طلب الدنيا بعمل الآخرة، وأيضًا يوم القيامة يوم موصوف، وذلك من حين يُحشر الناس إلى أن ينتهي بهم الأمر إما إلى الجنّة، وإما إلى النار، ولا يلزم من عدم وجدانها يوم القيامة فقط عدم وجدانها مطلقًا، وبيان ذلك أن الآمنين من الفزع الأكبر، وهي النفخة الأخيرة إذا وردوا القيامة يُمَدُّون برائحة الجنة تقويةً لقلوبهم وأبدانهم، وتسليةً لهمومهم وأشجانهم على مقدار حالهم في العرفة وإيقانهم، ومن تعلّم للأغراض الفانية، وكان من حقّه أن لا يتعلّمه إلا ابتغاء وجه الله يكون كمن حَدَثَ مرضٌ في دماغه يمنعه عن إدراك الروائح، فلا يجد رائحة الجنة، لما في قلبه من الأغراض المخِلّة بالقوى الإيمانيّة. انتهى (3).

وقد سبق أن بعضهم حمله على من استحلّ ذلك، فيكون على ظاهره؛ لأن

(1) حديث صحيح، سيأتي للمصنّف في "كتاب الزهد" برقم (4105).

(2)

"الْقُتَار: ريح القدر، وقد يكون من الشواء والعظم المحرق. "لسان العرب".

(3)

راجع "المرقاة" 1/ 484.

ص: 479

استحلال الحرام كفر.

5 -

(ومنها): أن من أشدّ ما ورد من الوعيد في طلب العلم لغير وجه الله تعالى ما أخرجه مسلم في "صحيحه"، قال رحمه الله تعالى:

حدثنا يحيى بن حبيب الحارثيّ، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا ابن جريج، حدثني يونس بن يوسف، عن سليمان بن يسار، قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له ناتل (1) أهل الشام، أيها الشيخ حَدِّثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أولَ الناس يُقضَى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهِد، فأُتي به، فعَرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به، فسُحِب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تَعَلَّم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعَرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمِر يه فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجلٌ وَسَّعَ اللهُ عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تُحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به، فسُحب على وجهه ثم ألقي في النار"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[تنبيه]: لمّا وجد أبو الحسن القطان رحمه الله سندًا عاليا برجل على سند المصنّف في هذا الحديث، وذلك حيث وصل إلى فليح فيه بواسطتين، بدلًا من ثلاث وسائط في سند المصنف، أورده هنا، فقال:

(1) أي مُقَدَّمُهُم.

ص: 480

(قَالَ أَبُو الحَسَنِ أَنْبَأَنا أَبُو حَاتِمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمانَ فَذَكرَ نَحْوَهُ)(قَالَ أَبُو الحسَنِ) القطّان تلميذ المصنّف (حَدَّثَنَا) وفي نسخة "أَنْبَأَنا"، وفي أخرى:"أنا"(أَبُو حَاتِمٍ) محمد بن إدريس الرازيّ الإمام الحجة (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن شُعبة، أبو عثمان الْخُراسانيّ، نزيل مكة، ثقة، مصنّفٌ، مات سنة (227) وقيل: بعدها، من الطبقة العاشرة، أخرج له الجماعة، وله عند المصنّف حديثان فقط، وستأتي ترجمته برقم (1612) حيث يخرج له هناك -إن شاء الله تعالى- (حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمانَ، فَذَكَرَ) الضمير لسعيد بن منصور (نَحْوَهُ) أي نحو حديث يونس وسُريج بن النعمان، ويحتمل أن يكون فاعل "ذكر" ضمير شيخه أبي حاتم، أي ذكر أبو حاتم في روايته عن شيخه سعيد نحو رواية ابن ماجه عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

253 -

(حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو كَرِبٍ الْأَزْدِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَماءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَهُوَ في النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) الدمشقيّ المذكور 1/ 5.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الكلبيّ، أبو عبد الرحمن الْقِنِّسريّ، من أهل قِنِّسرِين، وقيل: كوفيّ، وقيل: حمصيّ، ضعيف [8].

روى عن إدريس بن صَبِيح الأودي، قال ابن عدي: إنما هو إدريس بن يزيد الأودي، وعن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي كَرِب الأزديّ، وغيرهم.

قال أبو زرعة: يروي أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم: شيخ مجهول، منكر

ص: 481

الحديث، ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: قليل الرواية.

تفرّد به المصنّف وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (253) و (1553) و (3680).

3 -

(أَبُو كَرِبٍ الْأَزْدِيُّ) -بفتح الكاف، وكسر الراء- عن نافع، عن ابن عمر، وعنه حماد بن عبد الرحمن الكلبيّ، قال أبو حاتم مجهول [7].

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

4 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت مشهور [3] 11/ 99.

5 -

(ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما 1/ 4.

شرح الحديث:

(عَنْ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ) شرطيّة، ويحتمل أن تكون موصولة، دخلت الفاء في خبرها؛ لشبهها للشرطية (طَلَبَ الْعِلْمَ) لا لله تعالى، بل (لِيُمارِيَ) أي يجادل (بِهِ السُّفَهَاءَ) جمع سفيه، وهو قليل العقل، والمراد به الجاهل، ضعيف العقل.

قال الطيبيّ رحمه الله: "المماراة": المحاجّة والمجادلة، من المرية، وهو الشكّ، فإن كلّ واحد من المتحاجين يشكّ فيما يقوله صاحبه، أو يُشكّكه بما يورده على حجته، أو من المرى، وهو مسح الحالب الضرع ليستَنْزِل ما به من اللبن، فإن كلّا من المتناظرين يستخرج ما عند صاحبه.

قال: هاهنا ألفاظ متقاربة: المجاراة (1)، والمماراة، والمجادلة، فالأول محظور مطلقًا؛ لأن المجاراة المقاومة، وجعل الرجل نفسه مثل غيره، يعني لا يطلب العلم لله، بل ليقول للعلماء: أنا عالم مثلكم، ويتكبّر، ويترفّع على الناس؛ لذلك فهو مذموم كلّه، والوعيد مترتّب عليه، ولا يُستثنى منه.

(1) أي كما في الرواية الآتية برقم (260).

ص: 482

وأما المماراة، والمجادلة فقد يستثنى منهما، كما في قوله عز وجل:{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22]، أي لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالًا ظاهرًا غير متعمّق فيه، ولا تجهّلهم، ولا تُعنّف بهم في الردّ عليهم، كما قال الله تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، أي بالطريقة التي هي أحسن طرُق المجادلة، من الرفق واللين، من غير فظاظة، ولا تعنيف، والسفهاء خِفاف الأحلام، فلا تجادلهم، ولا تقل لهم: أنا أعلم، وأنتم سفهاء، فتثور الخصومة والشحناء.

ويفهم منه أن بعضًا من المراء محمود، وهو أن يماري الأستاذ التلميذ، فينظر ما مقدار فهمه، أو تحصيله، من المراء، وهو مسح الحالب الضرع، ولعلّ منه سؤالَ جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضور الصحابة رضي الله عنهم ليريهم الله تعالى أنه صلى الله عليه وسلم مليء من العلوم، وعلمه مأخوذ من الوحي، فيزيد رغبتهم، ونشاطهم فيه، وهو المعْنِيّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"ليُعلّمكم دينكم"، كما سبق. انتهى كلام الطيبيّ (1).

(أَوْ لِيُبَاهِيَ) أي يفاخر (بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ) أي يطلب العلم على نيّة تحصيل المال والجاه، وصرف وجوه عوامّ الناس إليه، وجَعْلِهم كالخدَم له، أو جَعْلِهم ناظرين إليه إذا تكلّم، متعجّبين من كلامه، مجتمعين حوله إذا جلس (فَهُوَ في النَّارِ) معناه أنه يستحقّها بلا دوام، ثم فضل الله تعالى واسع، فإن شاء عفا عنه بلا دخولها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف، وهو ضعيف الإسناد، قال البوصيريّ رحمه الله: وإسناده ضعيف؛ لضعف حمّاد بن عبد

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 681 - 682.

ص: 483

الرحمن، وأبي كَرِب، ورواه الترمذيّ في جامعه من حديث كعب بن مالك، وقال: حديث غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انتهى (1).

لكن الحديث صحيح، لشواهده، فإنه روي من حديث كعب بن مالك عند الترمذيّ، وجابر بن عبد الله، في الحديث التالي، وحديث أبي هريرة، كما سيأتي برقم (260)، وكلها وإن كان في أسانيدها مقال، إلا أنه يتقوى بعضها ببعض (2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

254 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَنبَأَنا يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تخَيَّرُوَا بِهِ الْمجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) الذهليّ الإمام الحافظ [11] 2/ 16.

2 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ بالولاء، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10].

رَوَى عن عبد الله بن عمر العمري، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وسليمان بن بلال، وإبراهيم بن سويد، ومالك، والليث، وغيرهم.

ورَوى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة محمد بن يحيى الذهلي، والحسن بن علي الخلال، ومحمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وغيرهم.

قال أبو داود: ابن أبي مريم عندي حجة. وقال الحسين بن الحسن الرازي: سألت

(1)"مصباح الزجاجة" 1/ 111.

(2)

راجع "صحيح الترغيب والترهيب" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 1/ 153 - 155.

ص: 484

أحمد عمَّن أكتب بمصر؟ فقال: عن ابن أبي مريم. وقال العجلي: كان عاقلًا، لم أر بمصر أعقل منه، ومن عبد الله بن عبد الحكم. وقال أبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن معين: ثقة من الثقات. وقال الحاكم عن الدارقطني: قال النسائي: سعيد بن عُفير صالحٌ، وسعيد بن الحكم لا بأس به، وهو أحب إلي من ابن عُفير.

وقال ابن يونس: كان فقيهًا، وُلد سنة (144)، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الغافقيّ، أبو العباس المصريّ، صدوقٌ، ربما أخطأ [7] 42/ 240.

3 -

(ابْنُ جُرَيْج) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقة فقيه فاضلٌ، يدلّس ويرسل [6] 10/ 92.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْر) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4] 4/ 33.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله) بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما 1/ 11.

وقوله: "لا تعلّموا" أصله لا تتعلّموا، فحذف منه إحدى التاءين، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدِ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كتبَيَّنُ الْعِبَرْ

وأما قول السنديّ: ويحتمل أنه من العلم، فغير صحيح، كما استبعده هو.

وقوله: "ولا تخيّروا به المجالس" أي لا تختاروا به خيار المجالس، وصدورها.

وقوله: "فالنار" أي فله النار، أو فيستحقّ النار، فـ "النّارُ" مرفوع على الأول، ومنصوب على الثاني، وتمام شرح الحديث سبق في الحديث الماضي.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف، وهو صحيح، قال البوصيريّ: هذا إسناد رجاله ثقات، على شرط مسلم.

ص: 485

انتهى (1).

وهو كما قال، لكن فيه عنعنة ابن جريج، وأبي الزبير، وهما مدلّسان، لكن الحديث صحيح بشواهده، كما أسلفنا الكلام فيه في الحديث الماضي.

وأخرجه (ابن حبان) في "صحيحه"(77) و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 86) و (ابن عبد البرّ) في "جامع العلم"(226)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

255 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، أَنبَأَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَن يَحْيَىَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَ أُناسًا مِنْ أُمَّتِي سيَتَفَقَّهُونَ في الدِّينِ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَقُولُونَ: نَأْتِي الْأُمَرَاءَ، فَنُصِيبُ مِن دُنْيَاهُمْ، وَنَعْتَزِلهُمْ بدِينِنَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، كَما لَا يُجْتَنَى مِن الْقتادِ إِلا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ، إِلَّا" -قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ-: كَأَنَّهُ يَعْنِي الخطَايَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) بن سفيان الجَرْجرائيّ، صدوقٌ [10] 1/ 2.

2 -

(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة كثير التدليس والتسوية [8] 6/ 42.

3 -

(يَحْيَىَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيُّ) أو الكنانيّ، أبو شيبة المصريّ، صدوقٌ [6].

رَوَى عن عمر بن عبد العزيز، وعبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وحبان بن أبي جبلة، وزيد بن أبي أنيسة، وغيرهم.

وروى عنه الوليد بن مسلم، وهشيم، وأبو صالح المصري، إلا أن هشيما قَلَبَ اسمه، فقال: عبد الرحمن يحيى، قال البخاري: وغلط فيه هُشيم، وقال أبو القاسم

(1)"مصباح الزجاجة" 1/ 111.

ص: 486

الطبراني: ذِكْرُ ما انتهى إلينا من مسند أبي شيبة، يحيى بن عبد الرحمن الكنديّ، وكان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

4 -

(عُبَيْدُ الله بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) هو: عبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني، نُسب إلى جده، ويقال له: عبدَ الله مكبّرًا أيضًا، مقبول [4].

رَوَى عن ابن عباس، وعنه أبو شيبة يحيى بن عبد الرحمن الكنديّ.

قال الحافظ: الذي في عدة نسخ من "سنن ابن ماجه" في الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه: "عن عبيد الله بن أبي بردة"، وقد رواه الطبراني من الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه، فقال:"عن عبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة" به.

أخرجه الضياء في "المختارة"، ومقتضاه أن يكون عبيد الله عنده ثقة. انتهى (1).

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما 3/ 27، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ في الدِّينِ) أي يدّعون الفقه في الدين (وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَقُولُونَ: نَأْتِي الْأُمَرَاءَ، فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَنَعْتَزِلهُمْ بِدِينِنَا) أي نجانبهم في الدين بحيث لا يُصيب ديننا نقص من جهتهم (وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ) أي لا يتحقق لهم ذلك الذي أرادوه، وهو الإصابة من دنياهم، والابتعاد بدينهم عنهم (كَما لَا يُجْتَنَى) بالبناء للمفعول، من جَنَى الثمرة: إذا تناولها من الشجرة (مِنْ الْقَتَادِ) بفتح القاف، وتخفيف التاء الفوقيّة: شجرٌ له شوك، لا يكون له ثمرٌ، سوى الشوك، فنبه بهذا التمثيل على أن قرب الأمراء لا يفيد سوى المضرّة الدينيّة أصلًا، وهذا إما مبنيّ على أن ما قُدّر له من الدنيا

(1)"تهذيب التهذيب" 3/ 27 - 28.

ص: 487

فهو آتٍ لا محالةَ، سواء أتى أبواب الأمراء، أم لا، فحينئذ ما بقي في إتيان أبوابهم فائدة إلا المضرّة المحضة، أو على أن النفع الدنيويّ الحاصل بصحبتهم بالنظر إلى الضرر الدينيّ كلا شيء، فما بقي إلا الضرر. وعن محمد بن أبي سلمة: الذباب على العذرات أحسن من قارىء على أبواب هؤلاء (1).

(إِلَّا الشَّوْكُ) بالرفع على أنه نائب فاعل "يُجتنى"(كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى) بالبناء للمفعول أيضًا (مِنْ قُرْبِهِمْ، إِلَّا") بحذف المستثنى، والاكتفاء بأداته؛ لوضوحه (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) شيخ المصنّف مفسّرًا للمستثنى المحذوف (كَأَنَّهُ) أي كأن النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَعْنِي) أي يقصد (الْخطَايَا) يعني أنه أراد إلا الخطايا. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد (المصنّف)، أخرجه هنا (45/ 255) بهذا الإسناد، وهو ضعيف؛ قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، عبيد الله بن أبي بردة لا يُعرف، لكن قال عبد العظيم المنذريّ في "كتاب الترغيب": إن جميع رواته ثقات. انتهى (2).

وقول المنذريّ فيه نظر لا يخفى؛ لأن عبيد الله هذا لم يرو عنه سوى يحيى بن عبد الرحمن، فلا يزال مجهولًا، ولعله استند إلى ما سبق من أن الضياء أخرج له في "المختارة"، وفيه نظر أيضًا.

والحاصل أن الحديث ضعيف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلي الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

256 -

(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي مُعَاذِ الْبَصْرِيِّ. . .

(ح) وحَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ

(1)"شرح السنديّ" 1/ 166.

(2)

"مصباح الزجاجة" 1/ 113.

ص: 488

أَبِي مُعَاذٍ الْبَصْرِيِّ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ جُبِّ الْحُزْنِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا جُبُّ الْحُزْنِ؟ قَالَ: وَادٍ فِيَ جَهَنَّمَ، تَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَ مِائَةِ مَرَّةٍ؟، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ يَدْخُلُهُ؟ قَالَ: "أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ المُرَائِينَ بِأَعْمَالهِمْ، وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ إِلَى الله الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ -قَالَ المُحَارِبِيُّ-: الْجَوَرَةَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة عابد [10] 9/ 57.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بن سَمُرة الأحمسيّ، أبو جعفر السرّاج الكوفيّ، ثقة [10] 9/ 65.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) السَّلُوليّ -بفتح السين المهملة، ولامين- مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ، تُكُلّم فيه للتشيّع [9].

روى عن إسرائيل، وزهير بن معاوية، وإبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي، والحسن بن صالح، وداود بن نصير الطائي، وهريم بن سفيان، وغيرهم.

وروى عنه أبو نعيم، وهو من أقرانه، وابنا أبي شيبة، وعباس العنبري، وأبو كريب، وابن نمير، والقاسم بن زكريا بن دينار، وأحمد بن سعيد الرِّبَاطي، وعباس الدُّوري، ويعقوب بن شيبة السدوسي، وجماعة.

قال ابن معين: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان فيه تشيع، وقد كتبت عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال البخاري: مات سنة (204)، وقال أبو داود وغيره: مات سنة (205).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط، برقم (256) و (2532) و (2679) و (2779) و (3354) و (3627) و (3633) و (3752) و (4195).

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ بنِ زِيَادٍ المُحَارِبِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، لا بأس به، وكان

ص: 489

يدلّس [9].

رَوَى عن إبراهيم بن مسلم الهجري، وإسماعيل بن أبي خالد، والحجاج بن أرطاة، وسلّام الطويل، والأعمش، وإسماعيل بن مسلم المكي، وعباد بن كثير، وغيرهم.

وروى عنه أحمد بن حنبل، وهناد بن السري، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو سعيد الأشجّ، وأحمد بن حرب الموصلي، وعلي بن محمد الطنافسي، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال النسائي أيضًا: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق إذا حدث عن الثقات، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة، فيُفْسِد حديثه. وقال محمود بن غيلان: قيل لوكيع: مات عبد الرحمن المحاربي، فقال: رحمه الله ما كان أحفظه لهذه الأحاديث الطوال!. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال البخاري عن محمود بن غيلان: مات سنة خمس وتسعين ومائة، وكذا أَرّخه ابن سعد، وقال: كان ثقةً كثير الغلط. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو صدوق، ولكنه هو كذا ضعَفه. وقال البزار، والدارقطني: ثقة. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عنه، فقال: ليس به بأس، قال عثمان: وعبد الرحمن ليس بذاك. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: بلغنا أنه كان يُدَلِّس، ولا نعلمه سمع من معمر.

وقال عبد الله بن محمد عن عاصم: حدثنا، فقال: لعله سمعه من سيف بن محمد عن عاصم -يعني فدلسه-. وقال العجلي: كان يُدَلِّس، أنكر أحمد حديثه عن معمر. وقال العجلي: لا بأس به. وقال الساجي: صدوق يَهِم.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا.

5 -

(عَمَّارُ بْنُ سَيْفٍ) الضَّبِّيِّ -بالمعجمة، ثم الموحدة- أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ضعيف الحديث، وكان عابدًا [9].

روى عن أبي معان البصير، وابن أبي ليلى، وهشام بن عروة، والأعمش، وعاصم الأحول، والثوري، وإليه كان الثوري أوصى.

ص: 490

وروى عنه ابنه محمد، وابن إدريس، وابن المبارك، والمحاربي، وإسحاق بن منصور السَّلُولي، وأبو غَسَّان النَّهْديّ، وأبو نعيم، وغيرهم.

قال ابن أبي رِزْمة: أخبرني أبي عن ابن المبارك، عن عمار بن سيف، وأثنى عليه خيًرا وقال أبو أسامة الكلبيّ: ثنا عبيد بن إسحاق، ثنا عمار بن سيف، وقال: شيخ صدوق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو زرعة: ضعيف. وقال أبو حاتم: كان شيخًا صالحًا، وكان ضعيف الحديث، منكر الحديث.

وقال أبو داود: كان مُغَفَّلًا.

وقال العجلي. ثقة ثبت متعبد، وكان صاحب سنة، كان يقال: إنه لم يكن بالكوفة أحد أفضل منه، رَوَى عنه ابن إدريس، قديم الموت، ليس يُحَدِّث عنه إلا الشيوخ، وموته بعد موت سفيان بقليل. وقال عثمان الدارمي، والليث بن عَبدة عن يحيى ابن معين: ثقة. وقال أبو غَسَّان: ثنا عمار بن سيف، وكان من خيار الناس.

وقال الدارقطني: كوفي متروك. وقال الحاكم: يروى عن إسماعيل بن أبي خالد، والثوري المناكير. وقال ابن الجارود عن البخاري: لا يتابع، منكر الحديث، ذاهب وقال البزار: ضعيف، وقال في موضع آخر: صالح -يعني في نفسه-. وقال أبو نعيم الأصبهاني. روى المناكير، لا شيء. وقال ابن عدي: رَوَى عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن جرير حديث "تُبْنَى مدينة بين دجلة ودجيل. . ." الحديث، قال: وهو منكر، لا يُروَى إلا عن عمار هذا، والضعف على حديثه بَيِّنٌ. وذكره العقيليّ في "الضعفاء"، وذكر له هذا الحديث، ثم أسند عن المُخَرِّمِيِّ، عن يحيى بن معين قال: سمعت يحيى بن آدم يقول لنا: إنما أصاب عمارٌ هذا على ظهر كتاب فرواه.

تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(أَبُو مُعَاذٍ الْبَصْرِيُّ) في أكثر النسخ بالذال المعجمة، وفي بعضها:"أبو معانٍ" بالنون بدل الذال، قال في "التقريب": أبو معاذ، ويقال: بالنون بدل الذال، وهو أرجح، مجهول [6].

ص: 491

وفي "تهذيب التهذيب": أبو معاذ، ويقال: أبو معانٍ، وهو أصحّ، بصريّ، عن أنس، ومحمد بن سيرين، وعنه عمّار بن سيف الضبّيّ، وفي ابن ماجه: عن عمّار بن سيف، عن أبي معاذ أيضًا، وقال عمّار الأزديّ: محمد، أو أنس -يعني ابن سيرين- أُبهم في روايته، فلا يُدرَى عَنى شيخه محمدًا أو أنسًا. انتهى (1).

تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

7 -

(ابْنُ سِيرِينَ) هو محمد البصريّ الثقة الفقيه العابد [3] 3/ 24.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعَوَّذُوا بِالله مِنْ جُبِّ الحُزْنِ)"الْجُبّ" بضم الجيم، وتشديد الباء الموحّدة: البئر التي لم تُطْوَ، و"الْحَزَن" بفتحتين، أو بضمّ، فسكون: ضدّ الفرح، أي من جُبّ فيها الحزن لا غير، قال الطيبيّ:"جُبّ الحزن" هو علم، والإضافة فيه كما في "دار السلام"، أي دار فيها السلام من كل حزن وآفة (قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم (يَا رَسُولَ الله، وَمَا جُبُّ الحُزْنِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَادٍ) أي هو واد عَميقٌ، من كمال عمقه يشبه البئر (في جَهَنَمَ، تَعَوَّذُ) بحذف إحدى التاءين، أي تتعوّذ (مِنْهُ) أي من عذابه الشديد (جَهَنَّمُ) مع اشتمالها عليه، قال الطيبيّ: التعوّذ من جهنم هنا كالنطق منها في قوله تعالى: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، وكالتميُّز والتغيّظ في قوله تعالى:{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8]، والظاهر أن يُجرى ذلك على المتعارف؛ لأنه تعالى قادر على كل شيء.

وقال في "الكشّاف": سؤال جهنّم، وجوابها، من باب التخييل الذي يُقصد به تصوير المعنى في القلب، وتبيينه، وتميّزها، وتغيّظها تشبيه لشدّة غليانها بالكفّار بغيظ المغتاظ، وتميزه، واضطرابه عند الغضب. انتهى.

(1)"تهذيب التهذيب" 4/ 590.

ص: 492

قال الجامع عفا الله عنه: لقد صدق صاحب "الكشّاف" في قوله: "من باب التخييل"؛ إذ أن هذا من تخيّلاته الفاسدة، فإنه لا يثبت ما أثبت ظاهر القرآن من كلام جهنم، بل يجعله من باب الاستعارة المجازيّة، وهذا من ضلالاته وانحرافاته، والحقّ أن جهنم تتكلّم حقيقةً، وتقول:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، كما أخبرنا بذلك ربنا سبحانه وتعالى، وتتغيظ، ولها زفير، نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها، إنه أرحم الراحمين.

(كُلَّ يَوْمٍ) يحتمل النهار، والوقت، والثاني أظهر (أَرْبَعَ مِائَةِ مَرَّةٍ؟) وفي رواية الترمذيّ:"مائة مرّة"، قال القاري: لعلّ خصوص العدد باعتبار جهاتها الأربعة، يعني كلّ جهة مائة مرّة، ويحتمل التحديد والتكثير، ويمكن أن يقدّر مضاف، أي يتعوّذ زبانيتها، أو أهلها. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا داعي لمعرفة خصوص العدد، وأما تقدير المضاف، فظاهر البطلان، كما نَبَّهْتُ عليه في ردّ كلام صاحب الكشّاف، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ يَدْخُلُهُ؟) أي الجبّ المذكور، وفي نسخة:"ومن يدخلها"، أي تلك البقعةَ المسمّاة بجبّ الحزن التي ذكر شدّتها، وهو عَطْفٌ على محذوف، أي ذلك شيء عظيم هائلٌ، فمن الذي يستحق الدخول فيه؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ) بضم القاف، جمع قارىء، أي الذين يقرءون القرآن (المُرَائِينَ) أي الذي يراءون الناس (بِأَعْمَالهِمْ) الحسنة، من قراءة القرآن وغيرها (وَإِنَّ مِنْ) زائدة (أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ إِلَى اللهِ) سبحانه وتعالى (الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ) أي من غير ضرورة تُلجئهم، بل طمعًا في مالهم وجاههم، ولذا قيل: بئس الفقير على باب الأمير، ونعم الأمير على باب الفقير؛ لأن الأوّل مشعرٌ بأنه متوجّه إلى الدنيا، والثاني مشعرٌ بأنه متوجّه إلى الآخرة (قَالَ) عبد الرحمن بن محمد (المُحَارِبِيُّ) في روايته (الجُوَرَةَ) بالنصب صفة لـ "الأمراءَ"، أي الظَّلَمَةَ، وهو بفتحتين: جمع جائر، ككامل وكملة، كما قال في "الخلاصة":

في نَحْوِ رَامِ ذُو اطِّرَادٍ فُعَلَهْ

وَشَاعَ نَحْوُ كَامِلٍ وَكمَلَه

ص: 493

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا ضعيف، لضعف إسناده، فإن عمار بن سيف الضبيّ، ضعيف، وأبو معاذ، أو أبو معانٍ البصريّ، مجهول، قال البوصيريّ رحمه الله: رواه الترمذيّ في "الجامع"(2383) عن أبي كريب، عن المحاربيّ به، دون قوله:"وإن من أبغض القراء" إلى آخره، وقال:"مائة مرّة" بدل "أربعمائة"، والباقي نحوه، وقال: حديث غريب (1).

ورواه الطبرانيّ في "الأوسط" بنحوه، إلا أنه قال:"يُلقى فيه الغرّارون، قيل: يا رسول الله وما الغرّارون؟ قال: المراءون بأعمالهم في الدنيا".

وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، كما رواه ابن ماجه، قال الحافظ عبد العظيم في "الترغيب والترهيب": رفع حديث ابن عباس غريبٌ، ولعله موقوف. والله أعلم. انتهى (2).

والحاصل أن الحديث ضعيف، والشاهد المذكور لا يصحّ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ هنا ذكر قواله: قال أبو الحسن: حدثنا خازم بن يحيى، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة إلخ الآتي بعد الحديث التالي، وهو غلط، فإنه تابع للحديث الآتي، لا لهذا الحديث، فتنبّه.

وإنما التابع لهذا الحديث هو قول أبي الحسن:

(حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ، قَالَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ عَمَّارٌ: لَا أَدْرِي مُحَمَّدٌ، أَوْ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ).

وإنما زاده أبو الحسن لأنه وجد سندًا عاليًا على طريق المصنّف، حيث وصل إلى

(1) الذي في النسخة الموجودة عندنا: "حديث حسن غريب"، فليُنظر.

(2)

"مصباح الزجاجة" 1/ 113.

ص: 494

عّمار بواسطتين، بدلًا من ثلاث وسائط.

و1 - (إبراهيم بن نصر) هو أبو إسحاق الرازي، من شيوخ القطان، وليس من شيوخ ابن ماجه، وقد تقدّمت ترجمته في 43/ 244.

و2 - (أبو غسّان مالك بن إسماعيل) النَّهْديّ الكوفيّ، ثقة متقنٌ، صحيح الكتاب، عابدٌ، من صغار [9] 10/ 84.

وقوله: "لا أدري إلخ" أراد به أن قول أبي معاذ: "عن ابن سيرين" لم يتبيّن هل أراد محمدًا أو أخاه أنسًا، أما محمد، فقد تقدّمت ترجمته 3/ 24 وأما أنس فهو ثقة [3]، فستأتي ترجمه في "كتاب المساجد" 8/ 756 لأنه أول محلّ ذكر المصنّف له في هذا الكتاب -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

257 -

(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ النَّصْرِيِّ، عَنْ نَهْشَلٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الله ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ، وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا؛ لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ جَعَلَ الهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، هَمَّ آخِرَتِهِ، كَفَاهُ الله هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ في أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ الله في أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(الحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أبو علي الْجَرْجَرَائيّ -بجيمين مفتوحتين، وراءين الأولى ساكنة، مقبول [10].

روى عن الوليد بن مسلم، وطَلْق بن غَنّام، وابن نمير، وخَلَف بن تميم، وغيرهم.

ص: 495

وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد بن علي الأَبّار، وغيرهم.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: حدثنا عنه أهل واسط. وقال غيره: مات سنة (253).

أخرح له أبو داود، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (257) و (4106).

3 -

(عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة سنّيّ، من كبار [9] 8/ 52.

4 -

(مُعَاوِيَةُ النَّصْرِيُّ) -بالنون- هو: معاوية بن سَلَمة بن سليمان النَّصْري، أبو سلمة الكوفي، سكن دمشق، صدوقٌ (1)[8].

روى عن إسماعيل بن أبي خالد، ونهشل بن سعيد النيسابوري، وعبد العزيز بن رُفيع، والحكم بن عتيبه، والقاسم بن أبي بَزّة، وأبي حَصِين الأسدي، وجماعة.

وروى عنه الأوزاعي، وهو من أقرانه، وأبو معاوية، وعبد الله بن نُمير، وغيرهم.

قال البخاري: قال عبد الله بن نمير: كان ثقة. وقال إبراهيم بن الجنيد: سألت ابن معين عنه، فقال: هو معاوية أبو سلمة، قلت: كيف حديثه؟ فكأنه ضعفه. وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث. وقال أيضًا: ثقة. وقال ابن أبي عاصم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير، عن معاوية النَّصري، وكان ثقة، وهكذا قال أبو الحسن بن القطان في زيادات "السنن" له: حدثنا خازم بن يحيى، حدثنا أبو بكر به.

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (257) و (4106).

5 -

(نَهْشَلٌ) بن سعيد بن وَرْدان الورداني، أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله الخراساني النيسابوري، ويقال: الترمذيّ، بصري الأصل، متروك، وكذّبه إسحاق بن

(1) وقوله في "التقريب": مقبول، غير مقبول؛ بل هو صدوقٌ، فقد روى عن جماعة، وروى عنه جماعة ووثقة أبو حاتم، وابن نمير، اقرأ ترجمته.

ص: 496

راهويه [7].

روى عن الضحاك بن مزاحم، وداود بن أبي هند، والربيع بن النعمان، وغيرهم.

وروى عنه الثوري، وعبد الله بن نمير، ومعاوية بن سلمة النصري، وغيرهم.

وقال أبو داود الطيالسي، وإسحاق بن راهويه: كَذّاب. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال أبو زرعة، والدارقطني: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، متروك الحديث، ضعيف الحديث.

وقال الْجُوزجانيّ: غير محمود في حديثه.

وقال النسائي: متروك الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة، ولا يُكتب حديثه. وقال ابن حبان: يَروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يحل كَتْب حديثه، إلا على التعجب. وقال الحاكم: روى عن الضحاك المعضلات، وعن داود بن أبي هند حديثًا منكرًا. وقال البخاري: رَوى عنه معاوية النّصْري أحاديث مناكير. وقال أبو سعيد النقاش: روى عن الضحاك الموضوعات.

تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (257) و (3357) و (4106).

6 -

(الضَّحَّاكُ) بن مُزَاحم الهلالي، أبو القاسم، ويقال: أبو محمد الخراسانيّ، صدوقٌ، كثير الإرسال [5].

روى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وأنس ابن مالك، وقيل: لم يثبت له سماع من أحد من الصحابة، وعن الأسود بن يزيد النخعي، وعبد الرحمن بن عَوْسَجة، وغيرهم.

وروى عنه جُويبر بن سعيد، والحسن بن يحيى البصري، وعبد الرحمن بن عَوْسجة، وعبد العزيز بن أبي رواد، وإسماعيل بن أبي خالد، ونهشل بن سعيد، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة مأمون. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال

ص: 497

أبو قتيبة عن شعبة: قلت لِمُشاش: الضحاك سمع من ابن عباس؟ قال: ما رآه قط. وقال سَلْم بن قتيبة: قال أبو داود عن شعبة: حدثني عبد الملك بن ميسرة قال: الضحاك لم يَلْقَ ابن عباس، إنما لَقِيَ سعيد بن جبير بالرّيّ، فأخذ عنه التفسير. وقال أبو أسامة عن المعلى، عن شعبة، عن عبد الملك، قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس؟ قال: لا، قلت: فهذا الذي تحدثه عمن أخذته؟ قال: عن ذا، وعن ذا.

وقال ابن المديني، عن يحيى بن سعيد: كان شعبة لا يحدث عن الضحاك بن مزاحم، وكان ينكر أن يكون لَقِي ابن عباس قط. وقال علي، عن يحيى بن سعيد: كان الضحاك عندنا ضعيفًا. وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن الدَّيْلم، عن الضحاك -يعني ابن مزاحم- قال: سمعت ابن عمر يقول: "ما طَهُرَت كَفّ فيها خاتم من حديد"، وقال: لا أعلم أحدًا قال: سمعت ابن عمر إلا أبو نعيم. وقال أبو جَنَاب الْكَلبيّ، عن الضحاك: جاورت ابن عباس سبع سنين.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لقي جماعة من التابعين، ولم يشافه أحدًا من الصحابة، ومن زعم أنه لقي ابن عباس، فقد وَهِم، وكان مُعَلِّم كتاب، ورواية أبي إسحاق عن الضحاك، قلت لابن عباس: وهم من شَرِيك. وقال ابن عديّ: عُرِف بالتفسير، وأما روايته عن ابن عباس، وأبي هريرة، وجميع مَنْ رَوَى عنه، ففي ذلك كله نظر، وإنما اشتهر بالتفسير.

وقال العجلي: ثقة، وليس بتابعي. وقال الدارقطني: ثقة.

قال الحسين بن الوليد: مات سنة (106)، وقال أبو نعيم: مات سنة خمس ومائة، وقال ابن قانع: قال أحمد عن الحسين بن الوليد: مات الضحاك سنة (2)، وكذا قال يعقوب الفسوي.

أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (257) و (1862) و (2049) و (3357) و (4106).

7 -

(الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النَّخَعيّ، أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الرحمن.

ص: 498

روى عن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وحذيفة، وبلال، وعائشة، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عبد الرحمن، وأخوه عبد الرحمن، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعي، وعمارة بن عُمير، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو بردة بن أبي موسى، ومحارب ابن دِثَار، وأشعث بن أبي الشَّعْثَاء، وجماعة.

قال أبو طالب عن أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال إسحاق عن يحيى: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة. وقال أبو إسحاق: تُوُفِّي الأسود بن يزيد بالكوفة سنة خمس وسبعين، وقال غيره: مات سنة (74) كدا قال ابن أبي شيبة في "تاريخه"، وذكر ابن أبي خيثمة أنه حج مع أبي بكر، وعمر، وعثمان. وقال الحكم: كان الأسود يصوم الدهر، وذهبت إحدى عينيه من الصوم.

وذكره جماعة ممن صنف في الصحابة لإدراكه. وقال ابن سعد: سمع من معاذ ابن جبل باليمن قبل أن يهاجر، ولم يرو عن عثمان شيئًا. وقال العجلي: كوفي جاهليّ، ثقة، رجل صالح. وذكرد إبراهيم النخعي فيمن كان يُفتي من أصحاب ابن مسعود.

وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيهًا زاهدًا.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (4) حديثًا.

8 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه 2/ 19.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ) أي الشرعيّ (صَانُوا الْعِلْمَ) أي حفظوه عن المهانة بحفظ أنفسهم عن الذلّ بملازمة الظلَمَة، ومصاحبة أهل الدنيا طمعًا في مالهم، وجاههم (وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ) أي الذين يعظّمونه، ويعملون به، ويعرفون قدره من أهل الآخرة (لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ) أي لصاروا أئمةً لأهل عصرهم؛ لكمالهم، وشرفهم؛ لأن من شأن العلم أن يكون الملوك، فمن دونهم تحت أقدامهم، وأقلامهم، وطوع آرائهم وأحكامهم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 499

مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

قال الطيبيّ: وذلك لأن العلم رفيع القدر، يرفع قدر من يصونه عن الابتذال، قال الزهريّ: العلم ذكرٌ لا يحبّه إلا ذكور الرجال، أي الذين يحبون معالي الأمور، ويتنزّهون عن سفسافها. انتهى (وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا) أي بأن خصّوهم به، أو تردّدوا إليهم به (لِيَنَالُوا بِهِ) أي ليصيبوا بسببه (مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ) أي ذَلُّوا عند أهل الدنيا؛ لأنهم أهانوا رفيعًا، فأهانهم الله عند أذلاء الناس (سَمِعْتُ نَبِيكُّمْ صلى الله عليه وسلم) قال الطيبيّ: هذا الخطاب توبيخٌ للمخاطبين حيث خالفوا أمر نبيّهم صلى الله عليه وسلم، فخولف بين العبارتين افتنانًا (يَقُولُ:"مَنْ) شرطيّة، أو موصولة (جَعَلَ به الهُمُومَ) أي الهموم التي تطرقه من مِحَن الدنيا، وكَدَرها، ومُرّ عيشها (هَمًّا وَاحِدًا) أي من جعل همّه واحدًا موضع الهموم التي للناس، أو من كان له هموم متعدّدةٌ، فتركها، وجعل موضعها الهمّ الواحد (هَمَّ آخِرَتِهِ) بنصب "هَمَّ" بدلًا من "همًّا واحدًا" (كَفَاهُ الله هَمَّ دُنْيَاهُ) المشتمل على الهموم، يعني كفاه همّ دنياه أيضًا (وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ) أي تفرّقت به الهموم، أو فرّقته الهموم، فالباء على الأول بمعنى "في"، وعلى الثاني للتعدية، وإن جُعلت للمصاحبة، أي مصحوبةً معه كان صحيحًا (في أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ الله في أَيِّ أَوْدِيَتَهَا) أي أودية الدنيا، أو أودية الهموم (هَلَكَ) كناية عن عدم الكفاية والعون مثل ما يحصل للأول، والمعنى: أنه لا يكفيه هم دنياه، ولا همّ أُخراه، فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد (المصنّف)، أخرجه هنا (45/ 257) وسيعيده في "كتاب الزهد" برقم (4106)، وإسناده ضعيفٌ جدّا، فإن نَهْشْل بن سعيد متروك، بل كذّبه بعضهم، وقال النقّاش: رَوى عن الضحاك الموضوعات، كما سبق في ترجمته، وقال البوصيريّ: وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه،

ص: 500

رواه الترمذيّ في "الجامع". انتهى (1).

قال الجامع: أما الموقوف، فضعيفٌ جدّا، وأما المرفوع فسيأتي من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في "كتاب الزهد" برقم (4105) بإسناد صحيح، فهو صحيح به، وأما تحسين بعضهم حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا، فمما لا ينبغي؛ لأن الذي يقبل التصحيح، والتحسين ما لم يكن في سنده كذّاب، أو وضّاع، ونهشل قد عَرَفتَ حاله، فلا يتقوّى مرويّه لا بالمتابعة، ولا بالشواهد، فتفطّن لهذه الفائدة.

وأما حديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذيّ، ففي سنده يزيد الرّقَاشِيّ ضعيف، بل قال النسائيّ: متروك الحديث.

والحاصل أن المرفوع صحيح من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه فضعيف لا ينجبر، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثم ذكر أبو الحسن القطّان سندًا آخر غير سند المصنّف، وإن لم يكن عاليًا، فقال:(قَالَ أَبُو الحسَنِ: حَدَّثَنَا خَازِمُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ النَّصْرِيّ، وَكَانَ ثِقَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْحدِيثَ نَحْوَهُ بِإِسْنَادِهِ).

1 -

(خازم بن يحيى) بالخاء المعجمة، على الصواب، ووقع في نسخ ابن ماجه بالحاء المهملة، وهو غلطٌ فتنبّه، وهو من شيوخ القطّان، ولا يروي عنه ابن ماجه، وقد سبقت ترجمته 10/ 84.

2 -

(أبو بكر بن أبي شيبة) الكوفيّ الحافظ الثقة [10] 1/ 1.

3 -

(محمد بن عبد الله بن نمير) الكوفيّ، ثقة حافظ [1/ 4.

4 -

(ابن نمير) هو والد محمد، عبد الله بن نمير الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة سنّي، من

(1)"مصباح الزجاجة" 1/ 115.

ص: 501

كبار [9] 8/ 52.

وقوله: "وكان ثقة" من كلام ابن نمير، كما نقله عنه البخاريّ (1).

وقوله: "ثم ذكر الحديث إلخ" الضمير لخازم بن يحيى، أي ذكر خازم الحديث بنحو ما ذكره علي بن محمد، والحسين بن عبد الرحمن بالإسناد السابق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

258 -

(حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ، وَأَبُو بَدْرٍ، عَبَّادُ بْنُ الْوَليدِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْهَنائِيُّ، حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ الْمُبَارَكِ الْهُنَائِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانيِّ، عَن خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْر الله -أَوْ- أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الله، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِنْ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زَيْدُ بْنُ أَخزَمَ) -بمعجمتين- الطائيّ النبهانيّ، أبو طالب البصريّ، ثقة حافظ [11].

روى عن أبي داود الطيالسي، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي قتيبة، وغيرهم.

وروى عنه الجماعة، سوى مسلم، وروى له النسائي أيضًا بواسطة زكريا السجزي، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال إبراهيم بن محمد الكنديّ: ذبحه الزِّنْج سنة سبع وخمسين ومائتين. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. وقال الدارقطني: ثقة. وقال صالح بن محمد: صدوق في الرواية. وقال مسلمة: ثنا عنه ابن المحامليّ، وهو ثقة.

وله عند المصنّف في هذا الكتاب (11) حديثًا.

(1) راجع "تهذيب التهذيب" 4/ 107.

ص: 502

2 -

(أَبُو بَدْرٍ، عَبَّادُ بْنُ الْوَليدِ) بن خالد الغُبَريّ -بضم الغين المعجمة، وفتح الموحّدة، المخففة- المؤدّب، من كَرْخِ سُرَّ مَنْ رَأَى، سكن بغداد، صدوقٌ [11].

روى عن مُعَمَّر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، وبكر بن يحيى بن زَبّان، وحَبَّان بن هِلال، وأبي عَتّاب الدَّلال، ومحمد بن عَبّاد الْهُنَائي، وغيرهم.

وروى عنه ابن ماجه، وأحمد بن عليّ الأَبّار، وزكرياء الساجي، وابن أبي الدنيا، وأبو حاتم، وابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم، وابن صاعد، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو صدوق، وسئل أبي عنه، فقال: شيخ. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال ابن قانع: مات سنة (58)، وقال ابن مخلد: مات سنة اثنتين وستين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب تسعة أحاديث، برقم (258) و (270) و (362) و (732) و (1644) و (1806) و (1811) و (1980) و (2826).

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْهُنَائِيُّ) -بضم الهاء، وتخفيف النون الممدودة- أبو عبّاد البصريّ، صدوقٌ [9].

روى عن علي بن المبارك الْهُنَائي، وشعبة، ويونس بن أبي إسحاق، وحُميد بن مِهْران الخياط، ومثنى بن موسى بن سلمة الْهُذَلي، ومُجَّاعة بن الزبير.

وروى عنه ابن سعد، وعبدة بن عبد الله الصَّفّار، وزيد بن أخزم، وعلي بن نصر الجوهري، وأبو بدر، عباد بن الوليد الْغُبَرِيُّ، ومحمد بن مَعْمَر البحراني، وغيرهم.

قال أبو حاتم: "صدوق، خلط صاحب "الكمال" ترجمته بترجمة محمد بن عَبّاد بن آدم، والصواب التفريق، فإن الْهُنَائي أقدم من ذلك، له عندهم حديث ابن عمر في الوعيد على التعلم لغير الله، قاله في "التهذيب" (1).

أخرج له الترمذيّ، والنسائي، والمصنف، وله عندهم هذا الحديث فقط.

(1)"تهذيب التهذيب" 3/ 601.

ص: 503

4 -

(عَليُّ بْنُ المُبَارَكِ الْهُنَائِيُّ) -بضم الهاء، وتخفيف النون الممدودة- البصريّ، ثقة، في حديث الكوفيين عنه شيء، من كبار [7].

رَوَى عن عبد العزيز بن صهيب، وأيوب، وهشام بن عروة، ويحيى بن أبي كثير، وحسين المعلم، ومحمد بن واسع، والحسن بن مسلم العبدي، وغيرهم.

وروى عنه وكيع، والقطان، وابن المبارك، وابن علية، ومسلم بن قتيبة، ويحيى ابن كثير العنبري، ومحمد بن عباد الهنائي، وهارون الخزاز، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة، كانت عنده كتبٌ عن يحيى بن أبي كثير، بعضها سمعها، وبعضها عرض. وقال الدُّوري عن ابن معين: قال بعض البصريين: عَرَض علي بن المبارك على يحيى بن أبي كثير عَرْضًا، وهو ثقة، وليس أحد في يحيى مثل هشام الدستوائي، والأوزاعي، وهو بعدهما. وقال يعقوب بن شيبة: علي، والأوزاعي ثقتان، والأوزاعي أثبتهما، ورواية الأوزاعي عن الزهري خاصة فيها شيء، ورواية علي عن يحيى بن أبي كثير فيها وَهَاء.

وقال ابن المديني: قال يحيى -يعني القطان-: كان عنده كتاب واحد سمعه من يحيى، والآخر تركه عنده، قيل له: فرواية يحيى بن سعيد عنه؟ قال: لم يسمع منه يحيى إلا ما سمعه من يحيى. قال يعقوب بن شيبة: وسمعت علي بن عبد الله يقول: علي بن المبارك أحب إلي من أبان. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، وقال أيضًا: كان عنده كتابان: كتاب سماع، وكتاب إرسال، قلت لعباس العنبري: كيف يُعْرَف كتاب الإرسال؟ قال: الذي عند وكيع عنه، عن عكرمة، من كتاب الإرسال، وكان الناس يكتبون كتاب السماع. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ضابطًا متقنًا. وقال ابن عَمّار عن يحيى بن سعيد: أما ما رويناه نحن عنه فما سمع، وأما ما رَوَى الكوفيون عنه، فمن الكتاب الذي لم يسمعه. وقال ابن عديّ، ولعلي أحاديث، وهو ثَبْتٌ في يحيى، متقدم فيه، وهو عندي لا بأس به. ووثقه ابن المديني، وابن نمير، والعجلي.

ص: 504

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (258) و (3898).

5 -

(أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ) ابن أبي تميمة، أبو بكر البصريّ، ثقه ثبت فقيه عابد [5] 2/ 17.

5 -

(خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ) بالمهملة، والراء، مصغّرًا- الشاميّ، ثقة يُرسل [3].

رَوَى عن ابن عمر، وعائشة، ولم يدركهما، ويعلى بن منية مُرْسَلًا، وغيرهم.

وروى عنه أيوب السختياني، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية، وابن عون، والأوزاعي، وقتادة، وغيرهم.

قال ابن معين: مشهور، وقال مرة: ثقة. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" في أتباع التابعين. وقال أبو داود: لم يُدرك عائشة. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وذَكَر حديثًا، رواه أبو توبة، عن بشير بن عطية، عن خالد بن دُريك، قال: سمعت يعلى بن منية يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما أدري ما هذا؟، ما أحسب خالد بن دريك لقي يعلى بن منية. وقال عبد الحق في "الأحكام": لم يسمع من عائشة.

أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ) يحتمل أن تكون شرطيّة، أو موصولة (طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ أَوْ) للشكّ من الراوي (أَرَادَ بهِ غَيْرَ الله، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) الظاهر أن هذا إخبار بأنه يستحقّ ذلك، ويحتمل أَن يكون دعاء عليه بأن يُبَوِّئَهُ الله تعالى ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا إسناده ضعيف؛ للانقطاع؛ لأن خالد بن

ص: 505

دُريك، وإن كان ثقة، إلا أنه لم يُدرك ابن عمر رضي الله عنهما، فهو منقطع، كما تقدّم في ترجمته، وكذلك صرّح الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف" 5/ 342 والمنذريّ في "الترغيب والترهيب" 1/ 69، وحسّنه الترمذيّ، وفي تحسنه نظر؛ لما ذُكر، وكتب الحافظ في "النكت الظراف" 5/ 342 على قول الحافظ المزّيّ:"خالد بن دُريك لم يدرك ابن عمر": ما، نصّه: قلت: حكم ابن القطّان بصحّته، فكأنه عنده متّصلٌ، أو اكتفى بالمعاصرة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: يمكن الجواب عن تحسين الترمذيّ، وتصحيح القطّان بأنه للشواهد، لا لخصوص هذا السند، فإن أحاديث الباب تشهد له، فلا يُستبعد في تحسينه، أو تصحيحه، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (45/ 258) بهذا الإسناد، وأخرجه (الترمذيّ)(2655) و (النسائيّ) في "الكبرى" 3/ 457 رقم (5910) و (الأصبهانيّ) في "الترغيب"(377/ 1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

259 -

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْعَثَ بْنَ سَوَّارٍ، عَنْ ابْنِ سِيرينَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُوُل: "لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِتَصْرِفُوا وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ في النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ بنِ عَنْبَسَةَ الْعَبَّادَانِيُّ)، أبو صالح، نزيل بغداد، صدوق [11].

روى عن بشير بن ميمون، أبي صيفي، وسعيد بن عامر الضبعي، والفضل بن العباس، وغيرهم.

ص: 506

وروى عنه ابن ماجه، والعباس بن أحمد الْبرْتيّ القاضي، وابن أبي الدنيا، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

2 -

(بَشِيرُ بْنُ مَيْمُونٍ) أبو صيفيّ الواسطيّ، أصله خُراسانيّ، قدم بغداد، ثم صار إلى مكة، متروك، متّهَمٌ [8].

روى عن أشعث بن سوار الكوفي، وجعفر الصادق، وسعيد المقبري، وغيرهم.

وعنه أحمد بن عاصم العباداني، وعلي بن حُجْر، والحسن بن عرفة، وغيرهم.

كتب عنه أحمد بن حنبل، ولم يحدث عنه، وقال في رواية ابنه عبد الله: ليس بشيء.

وقال ابن معين: أجمع الناس على طرح حديث هؤلاء النفر، فذكره فيهم. وقال البخاري: منكر الحديث، وقال في موضع آخر: يُتَّهَمُ بالوضع. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وعامة رواياته مناكير، يكتب حديثه على الضعف وقال الجوزجاني: غير ثقة، والنسائيّ: ليس بثقة، ولا مأمون، وقال في موضع آخر: متروك الحديث، وكذا قال الدارقطني.

وقال ابن عديّ: روى عن سعيد المقبري أحاديث غير محفوظة، وروى عن عطاء، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم أحاديث لا يتابعه عليها أحد، وهو ضعيف جدّا.

وذكره البخاري في "الأوسط" في "فصل من مات بين الثمانين ومائة إلى التسعين ومائة". وقال أبو داود: ليس بشيء.

وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: ضعيف، كان يقول: حدثنا مجاهد. وقال عمرو بن علي: ضعيف في الحديث. وقال ابن حبان: يخطىء كثيرًا حتى خَرَج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

3 -

(أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ) الكنديّ النَّجَّار الكوفيّ، مولى ثقيف، ويقال له: أشعث النّجّار أشعث التابوتيّ، وأشعث الأفرق، ويقال: الأثرم صاحب التوابيت، وكان على

ص: 507

قضاء الأهواز، ضعيفٌ [6].

روى عن الحسن البصري، والشعبي، وعدي بن ثابت، وعكرمة، وأبي إسحاق، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، والثوري، وهشيم، وحفص بن غياث، وبشير بن ميمون، وغيرهم.

قال الثوري: أشعث أثبت من مجالد. وقال يحيى بن سعيد: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق عندي سواء، وأشعث دونهما. وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، ورأيت عبد الرحمن يَخُطُّ على حديثه. وقال أبو موسى: ما سمعت يحيى، ولا عبد الرحمن حَدّثا عن سفيان عنه بشيء قط. وقال الدُّوري عن ابن معين: أشعث بن سوّار أحب إلي من إسماعيل بن مسلم، وسمع من الشعبي، ولم يسمع من إبراهيم، وقال مرة: ضعيف. وقال ابن الدَّوْرقي عنه: ثقة. وقال أحمد: هو أمثل في الحديث من محمد بن سالم، ولكنه على ذلك ضعيف الحديث. وقال العجلي: أمثل من محمد بن سالم. وقال أبو زرعة: لين.

وقال النسائي، والدارقطني: ضعيف. وقال ابن عدي: ولأشعث بن سوّار روايات عن مشايخه، وفي بعض ما ذكرت يخالفونه، وفي الجملة يُكتب حديثه، وأشعث ابن عبد الملك خير منه، ولم أجد له فيما يرويه متنًا منكرًا، إنما في الأحايين يَخْلِط في الإسناد، ويخالف.

وقال الْبَرْقاني: قلت للدارقطني: أشعث عن الحسن؟ قال: هم ثلاثة، يحدثون جميعًا عن الحسن: الحمراني، وهو ابن عبد الملك، أبو هانئ، ثقة، وابن عبد الله بن جابر الْحُدّانيّ يُعتَبر به، وابن سَوّار يُعتَبر به، وهو أضعفهم، رَوَى عنه شعبةُ حديثًا واحدًا.

وقال ابن حبان: فاحش الخطاء، كثير الوهم.

وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في حديثه. وقال العجلي: ضعيف يُكتب حديثه، وقال مرة: لا بأس به، وليس بالقوي. قال: وقال ابن مهدي: هو أرفع من مُجالد، قال:

ص: 508

والناس لا يتابعونه على هذا، مجالد أرفع منه.

وقال ابن شاهين في "الثقات": عن عثمان بن أبي شيبة: صدوق، قيل: حجة؟ قال: لا. وقال بندار: ليس بثقة. وقال الآجري: قلت لأبي داود: أشعث، وإسماعيل بن مسلم، أيهما أعلى؟ قال: إسماعيل دون أشعث، وأشعث ضعيف. وقال البزار: لا نعلم أحدًا ترك حديثه، إلا من هو قليل المعرفة. واستنكر له العقيليّ روايته عن الحسن، عن أبي موسى:"حديث الأذنان من الرأس"، وقال لا يتابع عليه.

قال عمرو بن علي: مات سنة (136).

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم في المتابعات، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (259) و (1757) و (2607) و (2973) و (3038).

4 -

(ابْنُ سِيرِينَ) المذكور قبل حديثين.

5 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 7/ 49.

قال الجامع عفا الله عنه: شرح هذا الحديث، وفوائده تقدّمت في شرح حديث رقم (253) و (254)، وهو من أفراد المصنّف، وإسناده ضعيف جدّا؛ لأن بشير بن ميمون متروك، بل قال البخاريّ: يُتّهم بالوضع، وأشعث بن سوّار ضعيف.

وأما متن الحديث فقد سبق أنه صحيح، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلي الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:

260 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنبَأَنَا وَهْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ الْمقْبُرِيُّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ؛ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيُجَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسَ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ الله جَهَنَّمَ").

ص: 509

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسماعِيلَ) الأحمسيّ، ثقة [10] تقدم قبل ثلاثة أحاديث.

2 -

(وَهْبُ بْنُ إِسماعِيلَ الْأَسَدِيُّ) هو: وهب بن إسماعيل بن محمد بن قيس الأسديّ، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ، من كبار [9].

رَوَى عن جده محمد بن قيس، وعبد الله بن سعيد المقبري، وعُمر بن ذَرّ، وغيرهم.

وروى عنه قبيصة، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، وأبو سعيد، وعثمان، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد: كتبنا عنه أحاديث، رَوَى عندنا مناكير عن وِقَاء بن إِيَاس.

وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو موسى، محمد بن المثنى: ثنا وهب بن إسماعيل الأسدي، وكان من الثقات. وقال الآجري عن أبي داود: ما سمعت إلا خيرًا. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء. وقال الساجي: قال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط.

3 -

(عَبْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ المُقْبُرِيُّ) المدنيّ، متروكٌ [7] 2/ 21.

4 -

(جَدُّهُ) أَبو سعيد كيسان المقبريّ المدنيّ، ثقة ثبتٌ [2] 2/ 21.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد (المصنّف)، أخرجه هنا (45/ 260) فقط، وهو ضعيف الإسناد جدّا؛ لأن عبد الله بن سعيد المقبريّ متروك، كما أسلفناه، لكن متن الحديث تقدّم بأسانيد غير هذا، وهي وإن كان فيها كلام، إلا أنه بمجموعها صحيح، كما أسلفنا تحقيقه في الحديث (253)، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

ص: 510