الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
38 - (بابُ فضل من تعلَّم القرآن وعَلَّمَهُ)
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
211 -
(حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدثَنَا يَحيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَثَنا شُعبةُ، وَسُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدة، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ شُعبةُ: "خَيْرُكُم"، وَقَالَ سُفْيَانُ: "أَفْضَلُكُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرآنَ، وَعَلَّمَهُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 1/ 6.
2 -
(يَحيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصري الإمام الحجة الثبت [9] 2/ 19.
3 -
(شُعبَة) بن الحجّاج البصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 1/ 6.
4 -
(سُفيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [7] 5/ 41.
5 -
(عَلْقَمَةُ بْنُ مرْثَدٍ) -بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلّثة، بوزن جعفر، ومنهم من ضبطه بكسر الثلثة (1) - الحَضْرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقة [6].
رَوَى عن سعد بن عبيدة، وزِرّ بن حبيش، وطارق بن شهاب، والمستورد بن الأحنف، وسليمان بن بُريدة، وحفص بن عبيد الله بن أنس، وغيرهم.
ورَوَى عنه شعبة، والثوري، ومسعر، والمسعودي، وإدريس بن يزيد الأودي، والحكم بن ظُهير وأبو سِنان سعيد بن سِنان الشيباني، وأبو سنان ضرار بن مرة، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثَبْت في الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث.
(1) هكذا ذكره في "الفتح" 8/ 694، وقال أيضًا: وعلقمة بن مَرْثَد من ثقات أهل الكوفة، من طبقة الأعمش، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر في الجنائز، من روايته عن سعد بن عبيدة أيضًا، وثالث في مناقب الصحابة. انتهى.
وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه يعقوب بن سفيان. وقال خليفة بن خياط: تُوفي في آخر ولاية خالد الْقَسْريّ على العراق.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13).
6 -
(سعدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السلميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقة [3] 10/ 78.
7 -
(أبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ) عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعة الكوفيّ المقرىء، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبتٌ [2] 2/ 20.
8 -
(عُثْمانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أميّة الخليفة الراشد رضي الله عنه 13/ 109، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.
3 -
(ومنها): أن فيه محمد بن بشّار أحد المشايخ التسعة الذين اتفق الجماعة في الرواية عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه يُقدّر قبل قوله: "عن علقمة" لفظة "كلاهما"، أي كلا شعبة، وسفيان.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: سعد بن عُبيدة عن أبي عبد الرحمن.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الأربعة الراشدين رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدة) هكذا في رواية المصنّف هذه، والترمذيّ، والنسائيّ، جمع يحيى القطّان بين شعبة والثوريّ في إدخال سعد بن عُبيدة بين علقمة وبين أبي عبد الرحمن، وقال الحفّاظ: هذا وهمٌ من يحيى القطان، فإن الثوريّ لا يدخل الواسطة، كما سيأتي للمصنّف في الرواية التالية من رواية وكيع عنه، وإنما يُدخله شعبة، ودونك ما كتبه الحافظ في "الفتح": قال رحمه الله بعد أن أورد رواية البخاريّ من طريق شعبة، عن
علقمة، عن سعد إلخ: ما نصّه:
قوله: "عن سعد بن عُبيدة" كذا يقول شعبة، يُدخل بين علقمة بن مَرْثد، وأبي عبد الرحمن سعد بن عبيدة، وخالفه سفيان الثوري، فقال:"عن علقمة، عن أبي عبد الرحمن، ولم يذكر سعد بن عبيدة، -يعني كرواية وكيع عنه الآتية بعد هذا للمصنّف- قال: وقد أطنب الحافظ أبو العلاء العطار في كتابه "الهادي في القرآن" في تخريج طرقه، فذكر ممن تابع شعبة، ومن تابع سفيان جمعًا كثيرًا، وأخرجه أبو بكر بن أبي داود في أول "الشريعة" له، وأكثر من تخريج طرقه أيضًا، ورجح الحفّاظ رواية الثوري، وعَدُّوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد، وقال الترمذي: كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة، وأما البخاري فأخرج الطريقين، فكأنه ترجح عنده أنهما جميعًا محفوظان، فيُحمَل على أن علمقة سمعه أوّلًا من سعد، ثم لَقِي أبا عبد الرحمن، فحّدثه به، أو سمعه مع سعد من أبي عبد الرحمن، فثَبَّته فيه سعد، ويؤيد ذلك ما في رواية سعد بن عبيدة من الزيادة الموقوفة، وهي قول أبي عبد الرحمن: "فذلك الذي أقعدني هذا المقعد"، كما سيأتي البحث فيه.
وقد شذت رواية عن الثوري بذكر سعد بن عُبيدة فيه، قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى القطان، حدثنا سفيان، وشعبة، عن علقمة، عن سعد بن عبيدة به، وقال النسائي: أنبأنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا يحيى، عن شعبة وسفيان، أن علقمة حدثهما، عن سعد.
قال الترمذي: قال محمد بن بشار: أصحاب سفيان لا يذكرون فيه سعد بن عبيدة، وهو الصحيح انتهى.
وهكذا حكم علي بن المديني على يحيى القطان فيه بالوهم، وقال ابن عدي: جمع يحيى القطان بين شعبة وسفيان، فالثوري لا يذكر في إسناده سعد بن عبيدة، وهذا مما عُدّ في خطأ يحيى القطان على الثوري، وقال في موضع آخر: حَمَلَ يحيى القطان رواية الثوري على رواية شعبة، فساق الحديث عنهما، وحَمَل إحدى الروايتين على الأخرى،
فساقه على لفظ شعبة، وإلى ذلك أشار الدارقطني.
وتُعُقِّب بأنه فَصَل بين لفظيهما في رواية النسائي وابن ماجه، فقال: قال شعبة: "خيركم"، وقال سفيان:"أفضلكم".
قال الحافظ: وهو تعقب واهٍ، إذْ لا يلزم من تفصيله للفظهما في المتن أن يكون فصل لفظهما في الإسناد، قال ابن عدي: يقال: إن يحيى القطان لم يُخطىء قط إلا في هذا الحديث.
وذكر الدارقطفي أن خالد بن يحيى تابع يحيى القطان عن الثوري، على زيادة سعد بن عبيدة، وهي رواية شاذة، وأخرج ابن عدي من طريق يحيى بن آدم، عن الثوريّ، وقيس بن الربيع، وفي رواية عن يحيى بن آدم، عن شعبة، وقيس بن الربيع جميعًا عن علقمة، عن سعد بن عبيدة، قال: وكذا رواه سعيد بن سالم القَدّاح عن الثوري، ومحمد بن أبان، كلاهما عن علقمة، بزيادة سعد، وزاد في إسناده رجلًا آخر، كما سيأتي بيانه قريبًا، وكل هذه الروايات وَهمٌ، والصواب عن الثوري بدون ذكر سعد، وعن شعبة بإثباته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى (1).
(عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحمَن السُّلَمِيِّ) -بضم السين المهملة، وفتح اللام- (عَن عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ) رضي الله عنه، وفي رواية شَرِيك، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن أبي عبد الرحمن السلَميّ، عن ابن مسعود، أخرجه ابن أبي داود بلفظ:"خيركم من قرأ القرآن، وأقرأه"، وذكره الدارقطني، وقال: الصحيح عن أبي عبد الرحمن، عن عثمان، وفي رواية خلاد بن يحيى، عن الثوري، بسنده قال:"عن أبي عبد الرحمن، عن أبان بن عثمان، عن عثمان".
قال الدارقطني: هذا وَهمٌ، فإن كان محفوظًا، احتَمَل أن يكون السُّلَمي أَخذه عن أبان بن عثمان، عن عثمان، ثم لقي عثمان، فأخذه عنه.
وتُعُقِّب بأن أبا عبد الرحمن أكبر من أبان، وأبان اختُلف في سماعه من أبيه أشَدّ مما
(1)"الفتح" 8/ 691 - 692.
اختُلِف في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان، فَبَعُدَ هذا الاحتمالُ.
وجاء من وجه آخر كذلك، أخرجه ابن أبي داود من طريق سعيد بن سلام، عن محمد بن أبان، سمعت علقمة يحدث عن أبي عبد الرحمن، عن أبان بن عثمان، عن عثمان فذكره، وقال: تفرد به سعيد بن سلام، يعني عن محمد بن أبان.
قال الحافظ: وسعيد ضعيف، وقد قال أحمد: حدثنا حجاج بن محمد، عن شعبة قال: لم يَسمَع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان، وكذا نقله أبو عوانة في "صحيحه" عن شعبة، ثم قال: اختَلَف أهل التمييز في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان، ونَقَل ابن أبي داود، عن يحيى بن معين مثل ما قال شعبة، وذكر الحافظ أبو العلاء أنّ مسلمًا سكت عن إخراج هذا الحديث في "صحيحه".
قال الحافظ: قد وقع في بعض الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبي عبد الرحمن، وذلك فيما أخرجه ابن عديّ في ترجمة عبد الله بن محمد بن أبي مريم، من طريق ابن جريج، عن عبد الكريم، عن أبي عبد الرحمن: حدثني عثمان، وفي إسناده مقال، لكن ظهر لي أن البخاري اعتَمَد في وصله، وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة، عن سعد بن عبيدة من الزيادة، وهي: أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمنّ الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور فدل على أنّه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان، ولم يوصف ذلك سماعه ممن عنعنه عنه، وهو عثمان رضي الله عنه، ولا سميا مع ما اشتهر بين القراء، أنه قرأَ القرآن على عثمان، وأسندوا ذلك عنه، من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره، فكان هذا أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله (1)، وهو توجيه وجيه. والله تعالى أعلم.
(قَالَ: قَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ شعبةُ) أي في روايته ("خَيركم"، وَقَالَ سفيَان) الثوريّ في روايته ("أَفْضَلُكَم مَن تَعَلَّمَ الْقرْآنَ، وَعَلَّمَهُ") قال السنديّ رحمه الله: يراد
(1)"فتح" 8/ 692 - 693.
بمثله أنه من جملة الأخيار، لا أنه أفضل من الكلّ، وبه يندفع التدافع بين الأحاديث الواردة بهذا العنوان، ثم المقصود في مثله بيان أن وصف تعلّم القرآن وتعليمه من جملة خيار الأوصاف، فالموصوف به يكون خيرًا من هذه الجملة، أو يكون خيرًا إن لم يُعارض هذا الوصف معارضٌ، فلا يَرِد أنه كثيرًا ما يكون المرء متعلّمًا، أو معلّمًا للقرآن، ويأتي بالمنكرات، فكيف يكون خيرًا؟ وقد يقال: المراد من تعلّم القرآن، وعلّمه مع مراعاته عملًا، وإلا فغير المراعي يُعدّ جاهلًا. انتهى (1).
وقال في "الفتح": قوله: "وعلّمه" كذا للأكثر، يعني بالواو، وللسرخسي:"أو علمه "بـ "أو"، وهي للتنويع، لا للشكّ، وكذا لأحمد عن غندر، عن شعبة، وزاد في أوله:"إِنَّ"، وأكثر الرواة عن شعبة يقولونه بالواو (2).
وكذا وقع عند أحمد عن بهز، وعند أبي داود، عن حفص بن عمر، كلاهما عن شعبة، وكذا أخرجه الترمذي، من حديث عليّ رضي الله عنه، وهي أظهر من حيث المعنى؛ لأن التي بـ "أو" تقضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين، فيلزم أنّ مَن تعلم القرآن، ولو لم يعلمه غيرَه أن يكون خيرًا ممن عَمِلَ بما فيه مثلًا، وإن لم يتعلمه.
ولا يقال: يلزم على رواية الواو أيضًا أنّ من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عَمِل بما فيه من غير أن يتعلمه، ولم يعلمه غيره؛ لأنا نقول: يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يُعَلِّم غيره يحصل له النفع المتعدي، بخلاف من يَعْمَل فقط، بل مِنْ أشرف العمل تعليمُ الغير، فمعلِّمُ غيره يستلزم أن يكون تعمله، وتعليمه لغيره عَمَلٌ وتحصيلُ نفعٍ مُتَعَدٍّ، ولا يقال: لو كان المعنى حصول النفع المتعدي لاشترك كل من عَلَّم غيره علمًا ما في ذلك؛ لأنا نقول: القرآن أشرف
(1)"شرح السنديّ" 1/ 138.
(2)
وكذا اختُلف في رواية الثوريّ أيضًا، فمنهم من رواه بالواو، ومنهم من رواه بـ "أو"، راجع "الفتح" 8/ 694.
العلوم، فيكون مَن تعلمه، وعلمه لغيره أشرف ممن تعلّم غير القرآن، كان عَلَّمَه، فيثبت المُدَّعَى، ولا شكّ أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه، مُكَمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر، والنفع المتعدي، ولهذا كان أفضل، وهو من جملة مَنْ عَنَى سبحانه وتعالى بقوله:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، والدعاء إلى الله يقع بأمور شَتَّى من جملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام، كما قال تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157].
[فإن قيل]: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه.
[قلنا]: لا؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس، لأنهم كانوا أهل اللسان، فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة، أكثر مما يدريها مَنْ بَعدَهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سَجِيّةً، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئًا، أو مقرئًا مَحْضًا لا يفهم شيئًا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه.
[فإن قيل]: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غَنَاءً في الإسلام بالمجاهدة، والرباط، والأمر بالعروف، والنهي عن المنكر مثلًا.
[قلنا]: حرف المسألة يدور على النفع المعتدّي، فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، فَلَعَلَّ "مِنْ" مضمرةٌ في الخبر، ولا بُدّ مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنفٍ منهم. ويحتمل أن تكون الخيرية، كان أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين، خوطبوا بذلك، كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين مَنْ يعلم غيره، لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية؛ لأن القرآن خير الكلام، فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن عَلِمَ وتَعَلَّمَ، بحيث يكون قد عَلِمَ ما يجب عليه عَيْنًا (1).
(1)"فتح" 8/ 693.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر هذا الحديث: ما نصّه: "قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان، حتى كان الحجاج".
قال في "الفتح": أي حتى وَلِيَ الحجاح على العراق، قال الحافظ: بين أول خلافة عثمان رضي الله عنه، وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر، وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة، ولم أقف على تعيين ابتداء إقراء أبي عبد الرحمن وآخره، فالله أعلم بمقدار ذلك، ويُعرَف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها، والقائل:"وأقرأ الخ" هو سعد بن عُبيدة، فإنني لم أَرَ هذه الزيادة إلا من رواية شعبة عن علقمة، وقائل:"وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا" هو أبو عبد الرحمن، وحَكَى الكرماني أنه وقع في بعض نسخ البخاري:"قال سعد بن عبيدة: وأقرأني أبو عبد الرحمن"، قال: وهي أنسب لقوله: "وذاك الذي أقعدني الخ"، أي أن إقراءه إياي هو الذي حملني على أن قعدت هذا المقعد الجليل. انتهى.
قال الحافظ: والذي في معظم النسخ: "وأقرأ"، بحذف المفعول، وهو الصواب، وكأن الكرماني ظَنّ أن قائل:"وذاك الذي أقعدني" هو سعد بن عبيدة، وليس كذلك، بل قائله أبو عبد الرحمن، ولو كان كما ظَنَّ للزم أن تكون المدة الطويلة سِيقت لبيان زمان إقراء أبي عبد الرحمن لسعد بن عبيدة، وليس كذلك، بل إنما سِيقت لبيان طول مدته لإقراء الناس القرآن، وأيضًا فكان يلزم أن يكون سعد بن عبيدة قرأ على أبي عبد الرحمن من زمن عثمان، وسعد لم يدرك زمان عثمان، فإن أكبر شيخ له المغيرة بن شعبة، وقد عاش بعد عثمان خمس عشرة سنةً، وكان يلزم أيضًا أن تكون الإشارة بقوله:"وذلك" إلى صنيع أبي عبد الرحمن، وليس كذلك، بل الإشارة بقوله:"ذلك" إلى الحديث المرفوع، أي إن الحديث الذي حَدَّث به عثمان رضي الله عنه في أفضلية مَن تعلم القرآن وعلمه، حَمَلَ أبا عبد الرحمن أن قَعَدَ يعلم الناس القرآن؛ لتحصيل تلك الفضيلة، وقد وقع الذي حَمَلْنا كلامه عليه صريحًا في رواية أحمد، عن محمد بن جعفر، وحجاج ابن محمد جميعًا عن شعبة، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سعد بن عبيدة قال: "قال أبو عبد
الرحمن: فذاك الذي أقعدني هذا المقعد"، وكذا أخرجه الترمذيّ من رواية أبي داود الطيالسي، عن شعبة، وقال فيه: "مقعدي هذا"، قال: وعَلَّم أبو عبد الرحمن القرآن في زمن عثمان، حتى بلغ الحجاج، وعند أبي عوانة، من طريق بِشْر بن أبي عمرو، وأبي غياث، وأبي الوليد ثلاثتهم عن شعبة، بلفظ: "قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا"، وكان يُعَلِّم القرآن، والإشارة بذلك إلى الحديث، كما قررته، وإسناده إِليه إسناد مجازي.
ويحتمل أن تكون الإشارة به إلى عثمان رضي الله عنه، وقد وقع في رواية أبي عوانة أيضًا عن يوسف بن مسلم، عن حجاج بن محمد، بلفظ:"قال أبو عبد الرحمن: وهو الذي أجلسني هذا المجلس"، وهو محتمل أيضًا، انتهى (1)، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسانل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية):في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 211) بهذا الإسناد، وأعاده بعده (38/ 212) بالسند التالي، وأخرجه (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(5995) و (أحمد) في "مسنده"(1/ 57 و 58 و 69) و (الدارميّ) في "سننه"(3341) و (البخاريّ) 6/ 236 و (أبو داود)(1452) و (الترمذيّ)(2907) و (النسائيّ) في "فضائل القرآن""من""الكبرى"(61 و 62 و 63) و (ابن حبان) في "صحيحه"(118)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو واضح.
(1)"فتح" 8/ 694.
2 -
(ومنها): الحث على تعليم القرآن، وقد سئل الثوري عن الجهاد وإقراء القرآن، فرَجّح الثاني، واحتج بهذا الحديث، أخرجه ابن أبي داود، وأخرج عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي أنه كان يُقرىء القرآن خمس آيات خمس آيات، وأسند من وجه آخر عن أبي العالية مثل ذلك، وذكر أن جبريل عليه السلام كان ينزل به كذلك، وهو مرسل، ويشهد له ما في "الصحيحين" أن أول ما نزل به جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم أول سورة العلق، إلى {مَا لَم يعلم} ، وهي خمس آيات (1).
3 -
(ومنها): أن فيه بَيَانَ فَضْلِ العمل المتعدّي على العمل الغير المتعدّي، ولهذا كان المؤمن القويّ أفضل من المؤمن الضعيف، وإن كان فيه خير أيضًا، فقد أخرج مسلم، والمصنّف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير
…
" الحديث، وتقدّم للمصنف 10/ 79 ويأتي أيضًا في "الزهد" برقم (4168)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله أول الكتاب قال:
212 -
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرثَد، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي، عَنْ عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُكُم مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرآنَ، وَعَلَّمَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة، وهم المذكورون في السند الماضي، إلا شيخه، وشيخ شيخه، وقد سبقا قبل باب، والحديث هو المذكور قبله، أتى به لبيان الاختلاف على سفيان، حيث كان في رواية يحيى القطان السابقة أدخل بين علقمة وبين أبي عبد الرحمن سعدَ بنَ عبيدة، وخالفه وكيع، فلم يُدخِله، وقد سبق أن رواية القطان شاذّة، مما وَهِم فيه على سفيان، بل قال ابن عديّ: إنه لم يُخطىء القطان إلا في هذا الحديث، والله تعالى
(1)"فتح" 8/ 589 و 8/ 694.
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
213 -
(حَدَّثَنَا أَزهرُ بْنُ مَروَانَ، حَدَّثَنَا الحارِثُ بْنُ نَبهانَ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ مُصعَبِ بْنِ سعد، عَنْ أَبيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خِيَارُكُم مَنْ تَعَلَّمَ الْقرآنَ، وَعَلَّمَهُ"، قَالَ: وَأَخَذَ بِيَدِي، فَأقْعَدَنِي مَقْعَدِي هذَا أُقْرِئُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَزْهرُ بْنُ مَرْوَانَ) الرَّقَاشيّ -بتخفيف القاف، والشين المعجمة- النَوَّاء -بنونين، وواو مثقّلة-مولى بني هاشم، لقبه فُرَيخ -بالخاء المعجمة- صدوق [10].
رَوَى عن حماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، ومحمد بن سَوَاء، وعبد الأعلى، والحارث بن نَبْهان، وغيرهم.
ورَوَى عنه الترمذي، وابن ماجه، وموسى بن هارون الحمال، وابن أبي عاصم، وإبراهيم الحربي، وابن أبي الدنيا، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم.
قال أبو حاتم بن حبان: مستقيم الحديث. وقال مسلمة الأندلسي: ثقة. وأخرج له الحاكم في "المستدرك". وسماه صاحب "الكمال" إبراهيم، وقال: حديثه عند الترمذي. وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (243).
وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
2 -
(الحارِثُ بْنُ نَبهانَ) الجَرْميّ -بفتح الجيم- أبو محمد البصريّ، متروك [8].
رَوَى عن أبي إسحاق، وعاصم بن أبي النَّجُود، والأعمش، وعتبة بن يقظان، وأيوب، ومعمر، وأبي حنيفة، وغيرهم.
ورَوَى عنه جعفر بن سليمان الضُّبَعي، وابن وهب، ومسلم بن إبراهيم، وعبد الواحد بن غِيَاث، وطالوت بن عَبّاد، وغيرهم.
قال أحمد: رجل صالح، لم يكن يَعرِف الحديث، ولا يحفظ، منكر الحديث. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء. وقال في موضع آخر: لا يكتب حديثه. وقال أبو
زرعة: ضعيف الحديث، في حديثه وَهْنٌ. وقال أبو حاتم: متروك الحديث، ضعيف الحديث، منكر الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن عديّ: وهو ممن يكتب حديثه. وقال ابن المديني: كان ضعيفًا ضعيفًا. وقال الحربي: غيره أوثق منه. وقال الترمذي في "العلل الكبير" عن البخاري: منكر الحديث، لا يبالي ما حدّث، وضعفه جدّا. وقال العجلي، ويعقوب بن شيبة: ضعيف الحديث.
وقال العقيليّ: وروى حديث "خيركم من تعلم القرآن"، وحديث "قراءة تنزيل السجدة"، وحديث النهي عن الانتعال قائمًا، لا يتابع على أسانيدها، والمتون معروفة.
وذكره أبو العرب في "الضعفاء"، وذكر في "تاريخ القيروان" أنه قَدِمَ عليهم. وقال الساجي: عنده مناكير. وقال الآجري عن أبي داود: ليس بشيء. وقال أبو أحمد الحاكم: حديثه ليس بالمستقيم. وقال يعقوب بن سفيان: بصري منكر الحديث. وقال الدارقطني: ليس بالقوي.
وقال ابن حبان: كان من الصالحين الذين غَلَب عليهم الوهم، حتى فحش خطؤه، وخرج عن حدّ الاحتجاج به. وذكره البخاري في "التاريخ الأوسط" في "فصل من مات ما بين الخمسين إلى الستين ومائة".
تفرّد به الترمذيّ، له عنده حديث "نَهى أن ينتعل الرجل، وهو قائم"، فقط والمصنّف، وله عنده أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث (213) وحديث (750) "جنّبوا مساجدكم صبيانكم
…
"، وحديث (822) "يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل
…
"، وحديث (1525) "صلّوا على كل ميت
…
".
3 -
(عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، أبو بكر المقرىء، ثقة يَهِمُ، حجة في القراءة [6] 20/ 138.
4 -
(مُصْعَبُ بْنُ سَعدٍ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقة [3].
روى عن أبيه، وعلي، وطلحة، وابن عمر وغيرهم.
وَرَوَى عنه مجاهد، وعاصم بن بهدلة، والحكم بن عتيبة، وعمرو بن مرة، وغيرهم.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث، وقال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة (103).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم 213 و 272 و 822 و 873 و 2097 و4023.
5 -
(أبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن رهرة بن كلاب، الصحابي الشهير، أحد العشرة رضي الله عنه 3/ 19.
والحديث بهذا السند ضعيف جدًّا؛ لأن الحارث بن نبهان مجمع على تضعيفه، بل صرّح كثير بأنه متروك، كما سبق في ترجمته، قال البوصيري رحمه الله: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف الحارث بن نبهان، ورواه الدارميّ، عن المعلّى بن راشد، عن الحارث ابن نبهان، والجملة الأولى في "الصحيح" من حديث عثمان رضي الله عنه انتهى.
وقوله: "وأخذ بيدي إلخ" لعل القائل هو عاصم رحمه الله؛ لأنه المشهور بإقراء القرآن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
214 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ بشارٍ، وَمُحَمَّدُ بن المثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحيَى بن سعِيدٍ، عَنْ شُعبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ المؤْمِن الَذِي يَقْرَأُ الْقرآنَ، كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ، طَعمُها طَيِّبٌ، وَرِيحُها طَيِّبٌ، وَمَثَلُ المؤْمِن الَّذِي لَا يَقْرَأ القُرانَ، كمَثَلِ التّمرَةِ، طَعمُها طَيِّبٌ، وَلَا رِيحَ لها، وَمَثَلُ المنافِقِ الَذِي يَقْرَأ الْقُرآنَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُها طَيِّب، وَطَعمُها مرٌّ، وَمَثَلُ المنافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القرآنَ، كَمَثَلِ الحنْظَلَة، طَعمُها مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لها").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَدُ بْنُ بَشَّارٍ) المذكور قبل حديثين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ المثنَّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقة حافظ [10] 9/ 66.
3 -
(يَحيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان المذكور قبل حديثين.
4 -
(شُعبَةُ) بن الحجاج المذكور قبل حديثين.
5 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت، يدلّس [4] 1/ 10.
6 -
(أَنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 3/ 24.
7 -
(أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن قيس الصحابي الشهير رضي الله عنه 10/ 88، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين.
4 -
(ومنها): أن شيخيه من المشايخ التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
5 -
(ومنها): أن فيه شعبة، وهو إذا روى عن مشايخه المدلسين، كقتادة لا يروي إلا ما صرّحوا بالسماع، فيؤمن عنعنة قتادة هنا من التدليس، وقلت في ذلك:
شُعبةُ لَا يَرْوي عَنِ المُدَلِّسِ
…
إِلَّا الَّذِي سَمِعَهُ فَاسْتَأْنِسِ
لِذَا إِذَا رَوَى عَنِ الأَعمَشِ أَوْ
…
قَتَادَةٍ أَوِ السَّبِيعِي مَا رَوَوَا
مُعَنْعَنًا لَا تَخْشَ تَدلِيسًا فَقَد
…
كفَاكَهُ هذَا الإِمَامُ المُعْتَمَدْ
6 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، ووقع في رواية البخاريّ من طريق همّام، قال: حدّثنا
قتادة، قال: حدّثنا أنس بن مالك، فصرّح قتادة بالتحديث (عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) رضي الله عنه (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) أي ويعمل به، كما وقع في رواية للبخاريّ بلفظ:"المؤمن الذي يقرآ القرآن، ويَعمَل به"، وهي زيادة مفسرة للمراد، وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن، ولا يخالف ما اشتمل عليه، من أمر، ونهي، لا مطلق التلاوة. وعبّر بصيغة المضارع لإفادة تكريره لها، ومداومته عليها، حتى صارت دأبه وعادته، كفلان يَقري الضيف، ويحمي الحريم، ويُعطي اليتيم.
قال الطيبيّ رحمه الله: إثبات القراءة في قوله: "يقرأ القرآن" على صيغة المضارع، ونفيها في قوله:"لا يقرأ القرآن" ليس المراد منها حصولها مرّة، ونفيها بالكلّية، بل المراد منها الاستمرار، والدوام عليها، فإن القراءة دأبه وعادته، أو ليس ذلك من هِجّيراه، كقولك: فلان يَقري الضيف، ويَحمِي الحريم. انتهى (1).
(كَمَثَلِ الْأُترُجَّةِ) بضم الهمزة والراء، بينهما مثناة ساكنة، وآخره جيم ثقيلة، وقد تخفف، ويزاد قبلها نون ساكنة (2)، ويقال: بحذف الألف مع الوجهين، فتلك أربع لغات، وتبلغ مع التخفيف إلى ثمانية (3). قاله في "الفتح"(4).
وقال في "القّاموس": الأُتْرُجُّ، والأُتْرُجَّةُ، والتُّرُنْجُ، والتُّرُنْجَةُ: معروف. انتهى.
(طَعمُها طَيِّبٌ، وَرِيحُها طَيِّبٌ) قيل: خَصّ صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن؛ إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح، فقد يذهب ريح الجوهر، ويبقى طعمه، ثم قيل: الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تَجْمَع طيب الطعم والربح كالتفاحة؛ لأنه يُتَدَاوى بقشرها، وهو مُفَرِّح بالخاصية، ويُسْتَخرج من
(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1637.
(2)
ذكر السنديّ أن في بعض نسخ ابن ماجه يوجد بهذا الضبط، والله تعالى أعلم.
(3)
"فتح" 8/ 683.
(4)
"فتح" 8/ 683.
حَبِّها دُهنٌ له منافع، وقيل: إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يُمَثّل به القرآن الذي لا تَقْرَبه الشياطين، وغلاف حبه أَبيض، فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضًا من المزايا كُبْر جرمها، وحسن منظرها، وتفريح لونها، ولِين مَلْمَسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نَكْهة، ودِبَاغ مَعِدَة، وجَوْدة هضْم، ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات. قاله في "الفتح"(1).
وقال المظهر: المؤمن الذي يقرأ القرآن هكذا من حيث الإيمان في قلبه ثابتٌ، طيّب الباطن، ومن حيث إنه يقرأ القرآن، ويستريح الناس بصوته، ويُثابون بالاستماع إليه، ويتعلّمون منه مثلُ الأترجّة، يستريح الناس برائحتها.
وقال التوربشتيّ: المثل عبارة عن المشابهة بغيره في معنى من المعاني؛ لإدناء المتوهّم عن المشاهد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بذلك العرب، ويُحاورهم، ولم يكن ليأتي في الأمثال بما لم تشاهده، فيجعلَ ما أورده للتبيان مزيدًا للإبهام، بل يأتيهم بما شاهدوه، وعرفوه؛ ليبلغ ما انتحاه من كشف الغطاء، ورفع الحجاب، ولم يوجد فيما أخرجته الأرض من بركات السماء، لا سيما من الثمار الشجريّة التي آنستها العرب في بلادهم أبلغ في هذا المعنى من الأترجّة، بل هي أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان الأخرى، وأجدى؛ لأسباب كثيرة جامعه للصفات المطلوبة منها، والخواصّ الموجودة فيها، فمن ذلك كبر جِرْمها، وحسن منطرها، وطيب مطعمها، ولين ملمسها، وذكَاء أرجها، تملأ الأكفّ بكبر جرمها، ويكسيها لينًا، وتُفعم الخياشيم طيبًا، وتأخذ بالأبصار صيغةً ولونًا، فاقعٌ لونها تسرّ الناظرين، تتوق إليها النفس قبل التناول، تفيد آكلها بعد الالتذاذ بذواقها طيب نكهة، ودباغ معدة، وقوّة هضم، اشتركت الحواسّ الأربع دون الاحتظاء بها: البصر، والذوق، والشمّ، واللمس، وهذه الغاية القصوى في انتهاء الثمرات إليها، وتُدْخَل في الأدوية الصالحة للأدواء المزمنة، والأوجاع المقلقة،
(1) المصدر السابق.
والأسقام الخبيثة، والأمراض الرديّة، كالفالج، واللقوة، والبرص، واليرقان، واسترخاء العصب، والبواسير، إلى آخر ما قاله (1).
ثم إنها في أجزائها تنقسم على طبائع، فقشرها حارّ يابس، ولحمها حارّ رطب، وحماضها بارد يابس، وبذرها حارّ مجفّف، وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطبّيّة، وأيّةُ ثمرة تبلغ هذا المبلغ في كمال الخلقة، وشُمول المنفعة؟ ثم إنه صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بما تُنبته الأرض، ويُخرجه الشجر؛ للمشابهة بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، فخصّ ما يُخرجه الشجر من الأترجّة، والتمر بالمؤمن، وما تنبته الأرض من الحنظلة، والريحانة بالمنافق؛ تنبيهًا على علوّ شأن المؤمن، وارتفاع عمله، ودوام ذلك، وتوقيفًا على ضَعَة شأن المنافق، وإحباط عمله، وقلة جدواه.
قال الطيبيّ رحمه الله:
(اعلم): أن هذا التشبيه، والتمثيل في الحقيقة وصف لموصوف، اشتمل على معنى معقول صِرْفٍ، لا يُبرزه عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس المشاهد، ثم إن كلام الله المجيد له تأثير في باطن العبد وظاهره، وإن العباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير، وهو المؤمن القارىء، ومنهم من لا نصيب له البتة، وهو المنافق الحقيقي، ومن تأثّر ظاهره دون باطنه، وهو المرائي، أو بالعكس، وهو المؤمن الذي لم يقرأه، وإبراز هذه المعاني، وتصويرها في المحسوسات ما هو مذكور في الحديث، ولم يوجد ما يوافقها، ويلائمها أقرب، ولا أحسن، ولا أجمع من ذلك؛ لأن المشبهات، والمشبّه بها واردة على التقسيم الحاصر؛ لأن الناس إما مؤمن، أو غير مؤمن، والثاني إما منافق صرفٌ، أو ملحق به، والأول إما مواظب على القراءة، أو غير مواظب عليها، فعلى هذا قس الأثمار المشبّه جها، ووجه التشبيه في المذكورات مركّبٌ منتزع من أمرين محسوسين: طعم وريح، وليس بمفرّق، كما في قول امرىء
(1) راجع "المرعاة على المشكاة" 7/ 117.
القيس [من الطويل]:
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسَا
…
لَدَى وَكْرِها الْعُنَّابُ وَالحشَفُ الْبَالِي
انتهى (1).
قال في "الفتح": [فإن قيل]: لو كان كذلك لَكَثُرَ التقسيم، كأن يقال: الذي يقرأ ويعمل، وعكسه، والذي يعمل ولا يقرأ، وعكسه، والأقسام الأربعة ممكنة في غير المنافق، وأما المنافق فليس له إلا قسمان فقط؛ لأنه لا اعتبار بعمله، إذا كان نفاقه نفاق كفر.
وكأن الجواب عن ذلك أن الذي حُذِف من التمثيل قسمان: الذي يقرأ ولا يعمل، والذي لا يعمل ولا يقرأ، وهم شبيهان بحال المنافق، فيمكن تشبيه الأول بالريحانة، والثاني بالحنظلة، فاكتُفِي بذكر المنافق، والقسمان الآخران قد ذُكِرا انتهى (2).
(وَمَثَلُ المؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقرآنَ) أي ويعمل به، كما في الرواية الأخرى (كمَثَلِ التَّمرَةِ) بالتاء المثنّاة، وسكون الميم (طَعمُها طَيِّبٌ، وَلَا رِيحَ لها) وفي رواية للبخاريّ: "فيها"(وَمَثَلُ المُنافِقِ) وفي رواية للبخاريّ: "ومثل الفاجر" في الموضعين (الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرآنَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ) هي كلّ نبت طيب الريح من أنوع المشموم (رِيحُها طَيِّبٌ، وَطَعمُها مُرٌّ، وَمَثَلُ المنافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقرآنَ، كَمَثَلِ الحنْظَلَةِ) هي كلّ نبات يمتدّ على الأرض كالبطيخ، وثمره يُشبه ثمر البطيخ، لكنه أصغر منه جدّا، ويُضرب المثل بمرارته (3)(طَعمُها مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لها) وفي رواية للبخاريّ: "وريحها مُرّ"، قال في "الفتح": واستُشكِلت هذه الرواية من جهة أن المرارة من أوصاف الطعوم، فكيف يوصف بها الريح. وأُجيب بأن ريحها لمّا كان كريهًا استُعير له وصف المرارة (4)، والله
(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1635 - 1637.
(2)
"فتح" 8/ 683 - 684.
(3)
"المرعاة" 7/ 178.
(4)
المصدر السابق 8/ 684.
تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسانل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 214) بهذا السند فقط، وأخرجه (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(20933) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 259 و530) و (أحمد) في "مسنده"(4/ 397 و 403 و 404 و 408) و (عبد بن حميد) في "مسنده"(565) و (الدارميّ) في "سننه"(3366) و (البخاريّ) 6/ 234 و 244 و 9/ 198 و (مسلم)(2/ 194) و (أبو داود)(4830) و (الترمذيّ)(2865) و (النسائيّ) في "فضائل القرآن" من "الكبرى"(106 و 107) و (ابن حبان) في "صحيحه"(770) و (البغويّ) في "شرح السنة"(1175)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو واضح.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة حاملي القرآن، وقارئيه.
3 -
(ومنها): ضرب المثل للتقريب للفهم، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه، لا مطلق التلاوة؛ لقوله في الزيادة السابقة:"ويعمل به".
4 -
(ومنها): ما قال التوربشتيّ رحمه الله تعالى: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار في ضرب هذا المثل إلى معان لا يَهتدِي إليها إلا من أُيد بالتوفيق، فمنها أنه ضرب المثل بما تنبته الأرض، ويُخرجه الشجر للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، والمثل وإن ضُرب للمؤمن نفسِهِ، فإن العبرة فيه بالعمل الذي يصدر منه؛ لأن الأعمال هي الكاشفة عن حقيقة الحال، ومنها: أنه ضرب مثل المؤمن بالأترجّة والتمرة، وهما مما يُخرجه الشجر، وضرب مثل المنافق بما تنبته الأرض؛ تنبيهًا على علو شأن المؤمن،
وارتفاع عمله، ودوام ذلك وبقائه ما لم تيبس الشجرة، وتوقيفًا على ضَعَة شأن المنافق، وإحباط عمله، وقلّة جدواه، وسقوط منزلته. ومنها: أن الأشجار المثمرة لا تخلو عمن يغرسها، فيسقيها، ويُصلح أودها، ويربيها، وكذلك المؤمن يقيّض له من يؤدّبه، ويُعلّمه، ويُهذّبه، ويلُمّ شَعثه، ويسوّيه، ولا كذلك الحنظلة المهملة المتروكة بالعراء، والمنافق الذي وُكل إلى شيطانه وطبعه وهواه (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
215 -
(حَدَّثَنَا بَكْرُ بنُ خَلَفٍ أبو بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عبدُ الرحمَنِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن أَنسِ بنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِن لله أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ"، قالُوا: يَا رَسُولَ الله، مَنْ هُم؟ قَالَ: "هُم أَهْلُ الْقرآنِ، أَهْلُ الله وَخَاصَّتُهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(بَكْرُ بْنْ خَلف أبو بِشْرٍ) البصريّ، ختن المقرىء، صدوقٌ [10] 34/ 175.
2 -
(عَبْدُ الرحمَنِ بْنُ مَهْدِيً) بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظ، عارف بالرجال والحديث [9] 3/ 25.
3 -
(عَبْدُ الرحمَنِ بن بُدَيْل) بن ميسرة الْعُقيليّ البصريّ، لا بأس به [8].
رَوَى عن أبيه، وعَوْسَجة الْعُقَيليّ، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
ورَوَى عنه ابن مهدي، وأبو داود الطيالسي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، والأصمعي، وأبو عُبيدة الحداد، وغيرهم.
قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين، وأبو داود، والنسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود الطيالسي: ثنا عبد الرحمن بن بُديل، وكان ثقةً صدوقا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن أبي خيثمة أيضا عن ابن معين: ضعيف. وقال أبو الفتح الأزدي:
(1) راجع "المرعاة" 7/ 178 - 179.
فيه لين.
تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(أبوه) بُديل -مصغّرًا- ابن ميسرة العُقيلي البصريّ، ثقة [5].
رَوَى عن أنس، وأبي الجوزاء، وعبد الله بن شَقيق، وعطاء، وعبد الله بن الصامت، وعبد الله بن عبيد بن عُمير، وأبي العالية، وغيرهم.
ورَوَى عنه قتادة، ومات قبله، وشعبة، وحماد بن زيد، وإبراهيم بن طهمان، وحسين المعلم، وأبان العطار، وابناه عبد الله وعبد الرحمن ابنا بديل، وهشام الدستوائي، وهارون النحوي، وقرة بن خالد، وغيرهم.
قال ابن سعد، وابن معين، والنسائي. ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال العجليّ: بصري ثقة. وقال البزار: لم يسمع من عبد الله بن الصامت، وإن كان قَدِيمًا. وذكره ابن حبان في "الثقات" كتاب الطبقة الثالثة. وحكى البغوي عن محمد بن سعد أنه قال: ميسرة والد بديل هذا، هو ميسرة الفجر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البغوي: وهو عندي وهمٌ.
قال البخاري عن علي بن المديني: مات سنة (13).
أخرج له الجماعة، سوى البخاري، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم 214 و 812 و 869 و 893 و 2634 و 2738 و 2987 و 3264.
5 -
(أَنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابي المذكور في الحديث الماضي رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنف.
2 -
(ومنها): أن رجاله موثّقون.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، مات سنة (3) أو (92)، وقد جاوز مائة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنسِ بْنِ مَالك) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لله أَهْلِينَ) جمع أهل، يُرفع بالواو، ويجرّ ويُنصب بالياء؛ لكونه مُلحقًا بجمع الذكّر السالم، كما قال في "الخلاصة":
وَارفَع بِوَاوٍ وَبَيَا اجْرُر وَانْصِبِ
…
سَالِمَ جمع عَامِرٍ وَمُذْنِبِ
وَشِبْهِ ذَيْنِ وَبِهِ عِشْرُونَا
…
وَبَابُهُ أُلحقَ وَالأَهْلُونَا
وإنما جمعه إشارةً إلى كثرتهم (مِنْ النَّاسِ) بيان لـ"أهلين"(قَالُوا) أي الصحابة السامعون لهذا الحديث (يَا رَسُولَ الله، مَنْ هم؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (هُم أَهْلُ الْقُرآنِ) أي حفظته، الذين يقرءونه آناء الليل وأطراف النهار، ويعملون به (أَهْلُ الله) خبر لمحذوف، أي هم أهل الله (وَخَاصَّتُهُ) أي الذين اختصّهم بمحبّته، والعناية بهم، كاختصاص الإنسان بأهل بيته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس بن مالك صلى الله عليه وسلم هذا صحيح، قال البوصيريّ في "مصباح الزجاجة": وهذا إسناد صحيح، رجاله موثّقون. انتهى، وهو من أفراد المصنّف أخرجه هنا 38/ 215 بهذا السند فقط، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(3/ 127 و 242) و (الدارميّ) في "سننه"(3329) و (النسائيّ) في "فضائل القرآن" من "الكبرى"(56)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذا الحديث صحيح، كما مرّ آنفا، وهذا مما يُفنّد قول من زعم أن كلّ حديث انفرد به ابن ماجه عن بقية الأصول، فهو ضعيف، فإن هذا قول صدر من غير تأمّل، وقد مرّ تفنيده غير مرّة، فلا تنس، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو واضح.
2 -
(ومنها): بيان فضل القرآن، وأن قراءته أفضل العبادة؛ لأنه كلام الله تعالى.
3 -
(ومنها): أن الله تعالى يخصّ بعض عباده، فيلهمهم العمل بأفضل الأعمال، حتى يرفع درجاتهم فوق كثير من الناس، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
216 -
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الحمصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَدُ ابْنُ حَربٍ، عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمرَةَ، عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ الْقرآنَ، وَحَفِظَهُ أَدخَلَهُ الله الجنّةَ، وَشَفَّعَهُ في عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتهِ، كُلُّهُم قَدْ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الحمصيُّ) أبو حفص القرشيّ مولاهم، صدوق [10].
رَوَى عن أبيه، ومحمد بن حرب الخولاني، والوليد بن مسلم، ومروان بن معاوية، ومروان بن محمد، وإسماعيل بن عياش، وبقية، وسفيان بن عيينة، وغيرهم.
ورَوى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ورَوَى النسائي في "اليوم والليلة" عن زكريا السجزي عنه، وأبو زوعة، وأبو حاتم، والذهلي، وبقي بن مخلد، وغيرهم.
قال أبو زرعة: كان أحفظ من أبي مُصَفَّى، وأحب إليّ منه. وقال أبو حاتم: صدوق. ووثقه النسائيّ في "أسماء شيوخه"، وكذا أبو داود، ومَسْلَمة وثّقاه. وقال عبد الله، ومحمد بن سنان عن موسى بن سهل -هو الجَوْني-: عمرُو بنُ عثمان أحب إليّ من محمد بن مُصَفَّى. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (250). وله في هذا الكتاب (15) حديثا.
2 -
(مُحَمَدُ بْنُ حَرب) الْخَولانيّ الحمص المعروف بالأبرش -بالمعجمة- كاتب محمد بن الوليد الزبيدي، ثقة [10].
رَوَى عن الأوزاعي، وابن جريج، ومحمد بن زياد الألهاني، وعمر بن رؤبة التغلبي، وسعيد بن سنان، وعبيد الله بن عمر العمري، وغيرهم.
ورَوَى عنه أبو مسهر، وخالد بن خَليّ، وحيوة بن شريح، ومحمد بن وهب بن عطية، وإبراهيم بن موسى الرازي، وهارون الحمال، وحاجب بن الوليد، وعمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، وآخرون.
قال ابن سعد: ولي قضاء دمشق. وقال المُرّوذي عن أحمد: ليس به بأس، وقدّمه على بقية. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: فبقية كيف حديثه؟ قال: ثقة، قلت: هو أحب إليك أو محمد بن حرب؟ قال ثقة ثقة. قال عثمان: وهو الأبرش الحمصي ثقة. وقال العجلي، ومحمد بن عوف، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال خُشنام بن الصديق. ثنا محمد بن حرب الخولاني، وكان من خيار الناس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (192)، وقال يزيد بن عبد ربه، وعمرو بن عثمان: مات سنة أربع وتسعين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم 216 و1665 و 2742 و 3241 و 3349 و 4054.
3 -
(أبو عُمَرَ) حفص بن سليمان الأسديّ، أبو عُمَر البزّاز الكوفيّ القارىء، ويقال له: الْغَاضريّ -بمعجمتين- ويُعرف بحُفيص، وقيل: اسم جدّه المغيرة، وهو حفص بن أبي داود قرأ على عاصم بن أبي النَّجُود، وكان ابن امرأته، متروك الحديث، مع إمامته في القراءة [8].
رَوى عن عاصم بن بهدلة، وعاصم الأحول، وعبد الملك بن عمير، وليث بن أبي سليم، وأبي إسحاق السبيعي، وكثير بن زاذان، وجماعة.
ورَوى عنه أبو شعيب صالح بن محمد القَوّاس، وقرأ عليه، وحفص بن غياث،
وعلي بن عياش، وآدم بن أبي إياس، وعلي بن حجر، وهشام بن عمار، ومحمد بن حرب الخولاني، وعلي بن يزيد الصدائي، ولُوَين، وغيرهم.
قال محمد بن سعد الْعَوفي عن أبيه: حدثنا حفص بن سليمان، لو رأيته لقرّت عيناك فهمًا وعِلْمًا. وقال أبو علي بن الصواف، عن عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح. وقال ابن أبي حاتم عن عبد الله، عن أبيه: متروك الحديث، وكذا قال حنبل بن إسحاق عن أحمد. وقال حنبل عن أحمد مرة أخرى: ما به بأس. وقال يحيى بن معين: زعم أيوب ابن المتوكل -وكان بصريا من القراء- قال: أبو عمر أصح قراءةً من أبي بكر بن عياش، وأبو بكر أوثق منه. وقال عثمان الدارمي وغيره عن ابن معين: ليس بثقة. وقال ابن المديني: ضعيف الحديث، وتركته على عمد. وقال الجوزجاني: قد فُرغ منه من دهر. وقال البخاري: تركوه. وقال مسلم: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه، وقال في موضع آخر: متروك الحديث. وقال صالح بن محمد: لا يكتب حديثه، وأحاديثه كلها مناكير.
وقال الساجي: يُحدّث عن سماك وغيره أحاديث بواطيل. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لا يكتب حديثه، هو ضعيف الحديث، لا يَصدُق، متروك الحديث، قلت: ما حاله في الحروف؟ قال أبو بكر ابن عياش أثبت منه. وقال ابن خِرَاش: كذّاب، متروك، يَضَعُ الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث.
وقال يحيى بن سعيد عن شعبة: أخذ مني حفص بن سليمان كتابًا، فلم يردّه، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها. وقال الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي عن ابن معين: كان حفص، وأبو بكر من أعلم الناس بقراءة عاصم، وكان حفص أقرأ من أبي بكر، وكان كذّابا، وكان أبو بكر صدوقًا. وقال ابن عديّ: عامة حديثه عمن رَوَى محفوظ.
قيل: إنه مات سنة (180)، وله تسعون سنة، وقيل: قريبًا من سنة تسعين، قاله
أبو عمرو الداني. وقال: قال وكيع: كان ثقة. وقال ابن حبان: كان يَقْلِب الأسانيد، ويَرفَع المراسيل. وحكى ابن الجوزي في "الوضوعات" عن عبد الرحمن بن مهدي قال: والله ما تَحِلّ الرواية عنه. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال الساجي: حفص ممن ذهب حديثه، عنده مناكير. وذكره البخاري في "الأوسط" في "فصل من مات من ثمانين إلى تسعين ومائة"، وأورد له البخاري في "الضعفاء" حديثه عن ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، عن ابن عمر في الزيارة.
أخرج له الترمذيّ، والنسائي في "مسند علي" متابعةً، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (216) وحديث (224).
4 -
(كثِيرُ بْنُ زَاذَانَ) النخعيّ الكوفيّ، مجهول [7].
رَوَى عن سلمان أبي حازم الأشجعي، وعاصم بن ضمرة، وعبد الرحمن بن أبي نُعْم.
ورَوى عنه حفص بن سليمان الغاضريّ، وحماد بن واقد، وعنبسة بن عبد الرحمن قاضي الرّيّ. قال عثمان بن سعيد عن ابن معين: لا أعرفه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه، وأبي زرعة: شيخ مجهول. وقال الأزديّ: فيه نظر. وأفاد الخطيب أنه كثير مُؤَذِّن النَّخَع، الذي رَوَى عنه سفيان.
تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف بهذا الحديث فقط، قال الترمذيّ: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ليس له إسناد صحيح.
5 -
(عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ) السَّلُوليّ الكوفيّ، صدوق [3].
رَوَى عن علي، وحكى عن سعيد بن جبير.
ورَوَى عنه أبو إسحاق السبيعي، ومنذر بن يعلى الثوري، والحكم بن عتيبة، وكثير بن زاذان، وحبيب بن أبي ثابت، وغيرهم.
قال يحيى بن سعيد عن الثوري: كنا نَعرِف فضل حديث عاصم على حديث الحارث. وقال حرب عن أحمد: عاصم أعلى من الحارث. وقال عباس عن يحيى: قُدِّمَ عاصمٌ على الحارث. وقال ابن عمار: عاصم أثبت من الحارث. وقال علي بن المديني،
والعجلي: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال البزار: هو صالح الحديث، وأما حبيب بن أبي ثابت، فرَوَى عنه مناكير، وأحسب أن حبيبًا لم يَسمع منه، ولا نعلمه رَوَى عن علي إلا حديثًا أخطأ فيه مسكينُ بن بكير، فرواه عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن ابن أبي بَصِير، عن أُبَيّ بن كعب، وهذا مما لا يُشَكّ في خطئه، يعني أن الحديث معروف لأبي إسحاق، عن ابن أبي بصير ليس بينهما عاصم، مع أن مسكينًا لم ينفرد بهذا، فقد رواه مَعْمر بن سليمان الرَّقّيّ، عن الحجاج كذلك، والوهم فيه من حجاج بن أرطاة.
وقال أبو إسحاق الجوزجاني: هو عندي قريب من الحارث. ورَوى عنه أبو إسحاق حديثًا في تطوع النبي صلى الله عليه وسلم ست عشرة ركعة، فيا لعباد الله، أما كان ينبغي لأحد من الصحابة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يَحكِي هذه الركعات؟ إلى أن قال: وخالف عاصم الأمة واتفاقها، فرَوَى أن في خمس وعشرين من الإبل خمسًا من الغنم.
قال الحافظ: تَعَصُّبُ الجوزجاني على أصحاب عليّ رضي الله عنه معروف، ولا إنكار على عاصم فيما رَوَى هذه عائشة أَخَصّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول لسائلها عن شيء، من أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم: سل عليّا، فليس بعجب أن يروي الصحابي شيئًا، يرويه غيره من الصحابة بخلافه، ولا سيما في التطوع، وأما حديث الغنم فلعل الآفة فيه ممن بعد عاصم (1).
وقد تبع الجوزجاني في تضعيفه ابن عديّ، فقال: وحدث عن علي بأحاديث باطلة، لا يتابعه الثقات عليها، والبلاء منه. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، على أنه أحسن حالًا من الحارث. وقال خليفة بن خياط: مات في ولاية بشر بن مروان سنة أربع وسبعين ومائة، وكذا أَرّخه ابن سعد، وقال كان ثقة، وله أحاديث.
أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم 216 و1161 و 1169 و 1186 و1460 و 1462.
(1) الظاهر في العبارة سقط، ولعلّها "فلعل الأمة اتفقت عليه بعد عاصم". والله أعلم.
6 -
(عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه 2،20.
شرح الحديث:
(عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَرَأَ الْقُرآنَ) أي بالنظر (وحَفِظَهُ) أي غيّبه في قلبه، وقال السنديّ: أي حفظه بمراعاة العمل به، والقيام بموجبه، أو المراد بالحفظ قراءته غيبًا، والواو لا تفيد الترتيب، فيحتمل أن المعنى من حفظ القرآن، وداوم على قراءته بعد ذلك، ولا يتركه، ويحتمل أن المعنى من داوم على قراءته حتى حفظه، وعلى الوجهين ينبغي أن يُعتبر مع ذلك العمل به أيضًا، إذ غير العامل يعدّ جاهلًا، ورواية الترمذيّ صريحة في اعتبار أنه يقرأ بالغيب، وإثباته، ولفظه:"من قرأ القرآن، واستظهره، فأحل حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله به الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت له النار".
(أَدخَلَهُ اللهُ الجَنّةَ) أي ابتداء، وإلا فكلّ مؤمن يدخلها (وَشَفَّعَهُ) بتشديد الفاء: أي قَبِل شفاعته (في عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتهِ، كلُّهُم قَدْ اسْتَوْجَبُوا النارَ) أي استحقّوا دخولها بسبب ذنوبهم، لا بالكفر، نعوذ بالله منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا ضعيف، أبو عمر حفص بن سليمان متروك الحديث، كما سبق في ترجمته، وشيخه كثير مجهول، قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله بعد إخراجه: هذا حديث غريب، لا تعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، وحفص بن سليمان يُضَعَّف في الحديث. انتهى، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 216) بهذا السند فقط، وأخرجه (عبد الله بن أحمد) في "زيادات المسند"(1/ 148 و 149) و (الترمذي)(2905)، والله تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
217 -
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبدِ الله الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أبو أُسَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الحمِيدِ بْنِ جَعفَرٍ، عَنْ المقْبُرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، مَوْلَى أَبِي أحمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَلَّمُوا الْقرآنَ، وَاقْرَءُوهُ، وَارقُدُوا، فإِنَّ مَثَلَ القُرْآنِ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ، فَقَامَ بِهِ، كمَثَلِ جِرَابٍ مَحشُوٍّ مِسْكًا، يَفُوحُ رِيحُهُ كلَّ مَكَانٍ، وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ، وَهُوَ في جَوْفِهِ، كمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِيَ عَلَى مِسْكٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله الْأَوْدِيُّ) الكوفيّ، ثقة [10] 11/ 96 من أفراد المصنّف.
2 -
(أبو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت ربما دلّس، من كبار [9] 12/ 102.
3 -
(عَبْدُ الحمِيدِ بْنُ جَعفَرٍ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاريّ الأوسيّ، أبو الفضل، ويقال: أبو حفص المدنيّ، ويقال: إن رافع بن سنان جده لأمه صدوقٌ، رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6].
رَوَى عن أبيه، وعن عم أبيه عمر بن الحكم، ووهب بن كيسان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأسود بن العلاء بن جارية، وسعيد المقبريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن المبارك، وخالد بن الحارث، وأبو خالد الأحمر، وعبد الله بن حمران، وهشيم، ووكيع، ويحيى القطان، وأبو أسامة، وغيرهم.
قال أحمد: ثقة ليس به بأس، سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان سفيان يضعفه من أجل القدر. وقال الدُّوري عن ابن معين: ثقة ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد يضعفه، قلت ليحيى فقد رَوَى عنه، قال: قد رَوَى عنه، وكان يضعفه، وكان يرى القدر. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد يوثقه، وكان الثوري يضعفه، قلت: ما تقول أنت فيه؟ قال: ليس بحديثه بأس، وهو صالح. وقال عثمان
الدارمي عن ابن معين: ثقة.
وقال ابن المديني، عن يحيى بن سعيد: كان سفيان يَحمِل عليه، ما أدري ما كان شأنه وشأنه؟. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وهو ممن يُكتَب حديثه. وقال الفضل بن موسى: كان ممن خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن. وقال الساجي: ثقة، صدوق، ضعفه الثوري. ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقال النسائي في "كتاب الضعفاء": ليس بقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو ابن سبعين سنة.
أخرج له مسلم، والأربعة، وعلّق له البخاريّ، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
4 -
(المقْبُرِيُّ) سعيد بن أبي سعيد كيسان، أبو سَعد المدنيّ، وكان أبوه مكاتبًا لامرأة من بني ليث، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة، كان مجاورًا لها، ثقة تغيّر قبل موته بأربع سنين [3].
رَوَى عن سعد، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعائشة، وأم سلمة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي شُريح، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وعن أبيه أبي سعيد، وخلق كثير.
ورَوَى عنه مالك، وابن إسحاق، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، وعبد الحميد بن جعفر، وعبيد الله بن عمر، وخلق كثير.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: سعيد أوثق -يعني من العلاء بن عبد الرحمن-. وقال ابن المديني، وابن سعد، والعجلي، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن خِرَاش: ثقة جليل أثبت الناس فيه الليث بن سعد. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال يعقوب بن شيبة: قد كان تغير، وكبر، واختلط قبل موته، يقال: بأربع سنين، وحسان شعبة يقول: ثنا سعيد المقبري بعد ما كبر.
وقال الواقدي: اختلط قبل موته بأربع سنين. وقال ابن عدي: إنما ذكرته لقول شعبة
هذا، وأرجو أن يكون من أهل الصدق، وما تكلم فيه أحد إلا بخير. وقال البخاري رَوَى عنه يحيى بن أبي كثير، فقال: عن أبي سعد، عن أبي شُريح. وقال ابن حبان في "الثقات": اختلط قبل موته بأربع سنين. وقال الساجي: قال ابن معين: أثبت الناس في سعيدٍ ابنُ أبي ذئب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي هل سمع المقبري من عائشة؟ فقال: لا. وذكر عبد الحق الإشبيلي أنه لم يسمع من أم سلمة أيضًا.
وقال ابن عساكر: قَدِم الشام مرابطًا، وحَدّث بساحل بيروت. قال: وقد فَرّق الخطيب بين سعيد بن أبي سعيد الذي حدث ببيروت، وبين المقبري، ووَهِمَ في ذلك (1).
قال البخاري: مات بعد نافع، وقال نوح بن حبيب: مات سنة (117)، وقال يعقوب بن شيبة وغيره: مات في أول خلافة هشام. وقال ابن سعد، وابن أبي خيثمة: مات في آخر خلافة هشام سنة (123)، وقال أبو عبيد: مات سنة (25)، وقال خليفة سنة (26).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (49) حديثًا.
(1) قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 2/ 22: ما نصّه: وذكر الحافظ سعد الدين الحارثيّ أن ابن عساكر لم يُصِب في توهيم الخطب، فقد جاء في كثير من الروايات، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد الساحليّ، عن أنس، والرواية التي وقعت لابن عساكر، وفيها: عن ابن جابر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، كأنها وَهمٌ من أحد الرواة، وهو سليمان بن أحمد الواسطي، فإنه ضعيف جدّا، وأن المقبري لم يقل أحدٌ أنه يُدعَى الساحلي، وهذا الساحليّ غير معروف، تفرد عنه ابن جابر، وقد روى ابن ماجه في "الجهاد"، عن عيسى بن يونس الرمليّ، عن محمد بن شعيب ابن شابور، عن سعيد بن خالد بن الصيداوي، ويقال: البيروتي، عن أنس، حديثًا فيحتمل أن يكون سعيد بن أبي سعيد الساحليّ هو سعيد بن خالد هذا، فقد أخرج له ابن ماجه حديثين، من رواية ابن شعيب، عن ابن جابر عنه، فيحتمل أن يكون ابن جابر سقط في حديث سعيد بن خالد، والله أعلم.
وفي الرواة سعيد بن أبي سعيد غير هذا أربعة عشر رجلًا، ذكر أكثرهم الخطيب في "المتفق والمفترق"، وتركتهم تخفيفًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى.
5 -
(عَطَاءٌ، مَوْلَى أَبِي أَحمَدَ) أو ابن أبي أحمد بن جَحْش الحجازي، مجهول (1)[3].
رَوَى عن أبي هريرة هذا الحديث، وعنه سعيد القبريّ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: لا يُعرَف.
أخرج له أبو داود، والنسائي، والمصنف هذا الحديث الواحد، وحسنه الترمذي.
6 -
(أبو هرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1.
شرح الحديث:
(عَن أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (تَعَلَّمُوا الْقرآنَ) سبب قوله صلى الله عليه وسلم: تعلّموا إلخ هو ما أخرجه الترمذيّ مطوّلًا، ولفظه:
قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو أسامة، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد المقبري، عن عطاء مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثًا، وهم ذُو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كلَّ رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل منهم، مِن أحدثهم سِنًّا فقال:"ما معك يا فلان؟ " قال: معي كذا وكذا، وسورة البقرة، قال:"أمعك سورة البقرة؟ " فقال: نعم، قال:"فاذهب، فأنت أميرهم"، فقال رجل من أشرافهم: والله يا رسول الله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة، إلا خشية ألّا أقوله بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تعلموا القرآن، واقرءوه، فإن مَثَلَ القرآن لمن تعلمه فقرأه، وقام به، كمَثَل جراب مَحْشُوّ مسكًا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد، وهو في جوفه كمثل جراب، وُكِئ على مسك".
(وَاقْرَءُوهُ) أي داوموا على قراءته، مع العمل به (وَارقُدُوا) قال السنديّ رحمه الله: ذكره للتنبيه على أن قارىء القرآن لا يُمنع من النوم، ولا يُعاقب عليه، إذا كان مع
(1) هذا أولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه مجهول عين؛ إذ لم يرو عنه غير المقبريّ، ولا يُعرف إلا في هذا الحديث، فتنبّه. راجع ما كتبه الدكتور بشّار في تحقيقه لهذا الكتاب 1/ 208.
أداء حقّ القرآن، وإنما يعاقب عليه إذا فَوّت عليه أداء حقّ القرآن. انتهى (فَإِنَّ مَثَلَ القرآن، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ، فَقَامَ بِهِ) أي تشمّر لأداء حقّه قراءةً وعملًا (كمَثَلِ جِرَابٍ) بكسر الجيم وعاءٌ معروف، وفي "الصحاح": والعامّة تفتحها، وفي "المصباح": الجِرَابُ معروفٌ، والجمع جُرُبٌ، مثلُ كتابٍ وكُتُبٍ، وسُمِع أَجْرِبةٌ أيضًا، ولا يقال جَرَابٌ بالفتح، قاله ابن السّكّيت، وغيره. انتهى (1).
وفي "القاموس": ولا يُفتح، أو هي لُغيّة فيما حكاه النوويّ، وعياض قبله: المِزوَد، أو الْوِعَاءُ. انتهى (2)(مَحْشُوٍّ) بتشديد الواو، كمَدعُوّ: أي مملوء (مِسْكًا) بكسر الميم، وسكون السين المهملة، قال في "المصباح": المسكُ طيب معروف، وهو معَرَّبٌ، والعرب تسمّيه المشموم، وهو عندهم أفضل الطيب، ولهذا ورد "لخلُوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"، ترغيبًا في إبقاء أثر الصوم، قال الفرّاء: المِسْكُ مذكّرٌ، وقال غيره: يُذكَّر ويؤنَّثُ، فيقال: هو المسكُ، وهي المسكُ، وأنشد أبو عُبيدة على التأنيث قولَ الشاعر [من الرجز]:
وَالمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ خَيْرُ طِيبِ
…
أُخِذَتَا بِالثَّمَنِ الرَّغِيب
وقال السجستانيّ: من أنّثَ المسك جعله جمعًا، فيكون تأنيثه بمنزلة تأنيث الذهب والعَسَلِ، قال: وواحدته مِسْكَةٌ، مثلُ ذهب وذَهبة (3).
(يَفُوحُ رِيحُهُ) أي ينتشر، يقال: فاح المسك يفوح فَوْحًا، ويفيح فَيْحًا أيضًا: إذا انتشر ريحه، قالوا: ولا يقال: فاح إلا في الريح الطيّبة خاصّةً، ولا يقال في الخبيثة والمنتنة: فاح، بل يقال: هبَّتْ ريحها. قاله الفيّوميّ (4)(كلَّ مَكَان) منصوب على الظرفيّة،
(1)"المصباح المنير" 1/ 9.
(2)
"القاموس" ص 63.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 573.
(4)
"المصباح" 2/ 482.
متعلّق بـ "يفوح"(وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ) أي غفل ونام (وَهُوَ في جَوْفِهِ) جملة في محلّ نصب على الحال (كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِيَ) بضم أوله، مبنيّا للمفعول، من أوكيتُ السقاء: إذا ربطتَ فمه بالوكاء، بالكسر: خيطٌ تُشدّ به الأوعية. والمعنى أنه ملأه مسكًا، وربط فمه (عَلَى مِسْكٍ) أي لأجله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا ضعيف؛ لجهالة عطاء مولى أبي أحمد؛ إذ لم يرو عنه إلا المقبريّ، ولا يُعرف إلا بهذا الحديث، فتحسين الترمذيّ له غير مقبول، قال الترمذيّ: وقد رواه الليث بن سعد، عن سعيد المقبريّ، عن عطاء، مولى أبي أحمد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ولم يذكر فيه "عن أبي هريرة"، حدثنا قتيبة، عن الليث، فذكره. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 217) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ)(2876) و (النسائيّ) في "الكبرى"(1) و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1509) و (2540) والمزيّ في "تهذيب الكمال" من طريق الطبرانيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1) راجع "تحفة الأشراف" 10/ 280.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
218 -
(حَدَّثَنَا أبو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمانَ الْعُثْمانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهاب، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَبِي الطُّفَيْلِ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الحارِثِ، لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الخطَّابِ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: عُمَرُ مَنْ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِم ابْنَ أبزَى، قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أبزَى؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ عُمَرُ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِم مَوْلًى؟ قَالَ: إِنهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ الله تَعَالَى، عَالمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَاضٍ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُم صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الله يَرفَعُ بِهذَا الْكِتَابِ أَقوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمانَ الْعُثْمانِيُّ) المدنيّ، نزيل مكة المذكور قبل باب.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعدٍ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8] 2/ 14.
3 -
(ابْنُ شِهابٍ) محمد بن مسلم بن الزهريّ الإمام الحجة الثبت [4] 2/ 15.
4 -
(عامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، أبو الطُّفَيْلِ) هو: عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جَحْش، ويقال: خميس بن جري بن سَعْد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة، أبو الطفيل الليثيّ، ويقال: اسمه عَمرو، والأول أصح، وُلد عام أُحُد.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ بن جبل، وحذيفة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي سَرِيحة، ونافع بن عبد الحارث، وزيد بن أرقم، وغيرهم.
ورَوَى عنه الزهريّ، وأبو الزبير، وقتادة، وعبد العزيز بن رُفيع، وسعيد بن إياس الجُريري، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر، وخلق كثير.
قال مسلم: مات أبو الطفيل سنة مائة، وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال خليفة: مات بعد سنة مائة، ويقال. مات سنة سبع. وقال وهب بن جرير ابن حازم عن أبيه: كنت بمكة سنة عشر ومائة، فرأيت جنازة، فسألت عنها، فقالوا: هذا أبو الطفيل. وقال ابن الْبَرْقي: مات سنة 102. وقال موسى بن إسماعيل: ثنا
مبارك بن فَضَالة، ثنا كثير بن أعين، سمعت أبا الطفيل بمكة سنة سبع ومائة يقول: ضَحِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فذكر قصة، وقال ابن السكن: رُوِي عنه رؤيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة، ولم يُرو عنه من وجه ثابت سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن سعد: حدثنا عمرو بن عاصم، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الطفيل، قال: كنت أطلب النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يطلبه ليلة الغار، قال: فقمت على باب الغار، ولا أرى فيه أحدًا، ثم قال ابن سعد: وهذا الحديث غَلَطٌ، أبو الطفيل لم يولد تلك الليلة، وينبغي أن يكون حَدَّث بهذا الحديث عن غيره، فأوهم الذي حَمَل عنه، وكان أبو الطفيل ثقة في الحديث، وكان مُتَشَيِّعا. وذكر البخاري في "التاريخ الصغير" هذا الحديث عن عمرو بن عاصم، وقال: الأول أصح -يعني قوله: أدركت ثمان سنين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا عقبة بن مكرم، ثنا يعقوب بن إسحاق، ثنا مهدي بن عمران الحنفي، قال: سمعت أبا الطفيل يقول: كنت يوم بدر غلامًا، قد شددت علي الإزار، وأنقل اللحم من السهل إلى الجبل.
وقوله: "يوم بدر" -كما قال الحافظ- وَهمٌ، والصواب "يوم حنين"، والله أعلم، قال: فقد رَوَيناه هكذا من طريق أخرى، عن أبي الطفيل. وقال ابن عديّ له صحبةٌ، قد رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم قريبًا من عشرين حديثًا، وكانت الخوارج يرمونه باتصاله بعليّ، وقولِهِ بفضله وفضل أهل بيته، وليس في رواياته بأس. وقال ابن المديني: قلت لجرير: أكان مغيرة يَكره الرواية عن أبي الطفيل؟ قال: نعم. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: أبو الطفيل مكي ثقة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط، برقم 218 و1070 و 1536 و 1537 و 2949 و 2953 و 3119 و4041 و4055.
5 -
(عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) رضي الله عنه 3/ 28، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابي.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة البشرين بالجنّة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن عَامِرِ بنِ وَاثِلَةَ، أَبِي الطُّفَيلِ) رضي الله عنه (أَنَّ نَافِعَ بنَ عَبْدِ الحارِثِ) بن خالد بن عُمير بن الحارث الخزاعيّ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه أبو الطفيل، وجَمِيل بن عبد الرحمن، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن فَرُّوخ، مولى عمر رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: كان من كبار الصحابة وفضلائهم، وقيل: إنه أسلم يوم الفتح، وأقام بمكة، ولم يهاجر، قال: وأنكر الواقدي أن تكون له صحبة، وذكره ابن سعد في طبقة الفَتْحِيين، وذكره ابن حبان، والعسكريّ، وجماعة في الصحابة. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، سوى الترمذيّ.
(لَقِيَ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ) رضي الله عنه (بِعُسفَانَ) بصم العين، وسكون السين المهملتين، موضع بين مكة والمدينة، وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، ونونه زائدة، وهو يُذكّر ويؤنّث (1) (وَكَان عُمَرُ) رضي الله عنه (اسْتعمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ) أي جعله أميرًا عليها (فقالَ: عمر) رضي الله عنه (مَنْ اسْتَخلَفْت على أَهْلِ الوَادِي؟) أي على أهل مكة (قَالَ) نافع رضي الله عنه (استَخلَفتُ ابنَ أبزَى) بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، بعدها زاي، مقصورًا، وهو: عبد الرحمن بن أبزى الخزاعيّ، مولى نافع بن عبد الحارث، مختلف في صحبته، استخلفه نافع بن عبد الحارث على أهل مكة أيام عمر، وقال لعمر: إنه قارىء لكتاب الله، عالم بالفرائض، ثم سكن الكوفة، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وعمار، وأُبي بن كعب، وغيرهم، وعنه ابنه سعيد، وعبد الله بن أبي المجالد، والشعبي، وأبو مالك غَزْوان
(1) راجع "المصباح المنير" 2/ 409.
الغِفَاريّ، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال ابن أبي داود: لم يحدِّث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من التابعين، إلا ابن أبزي، وقال البخاريّ: له صحبة، وذكره غير واحد في الصحابة.
وقال أبو حاتم: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وصَلَّى خلفه، وقال ابن عبد البر: استعمله عليّ على خراسان، وذكره ابن سعد فيمن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أحداث الأسنان، وممن جزم بأن له صحبةً خليفةُ بن خياط، والترمذي، ويعقوب بن سفيان، وأبو عروبة، والدارقطني، والْبَرْقيّ، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم، وفي "صحيح البخاري" من حديث ابن أبي المُجالد أنه سأل عبد الرحمن ابن أبزي، وابن أبي أوفى عن السلف، فقالا: كنا نُصيب المغانم مع النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، وقال ابن سعد: أخبرنا أبو عاصم، أنا شعبة، عن الحسن بن عمران، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه، أنه صلَّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان إذا خفض لا يكبر.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 569 و1171 و 1182 و 2282.
(قَالَ) رضي الله عنه (وَمَنْ ابْنُ أبزَى؟، قَالَ) نافع رضي الله عنه (رَجُل مِنْ مَوَالِينَا) بفتح الميم، جمع مولًى، يُطلق على المُعْتِق، بكسر التاء، والمُعْتَق، بفتحها، وهو المراد هنا (قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه، (فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِم مَوْلًى؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أفاستخلفت إلخ، والاستفهام للإنكار، وليس إنكار عمر رضي الله عنه توليته عليهم؛ استخفافًا به، واحتقارًا له، وإنما أنكر فوات غرض التولية، وذلك أن المقصود من التولية ضبط أمور الناس، وسياستهم، وهذا يحتاج أن يكون الموَلَّى عليهم رجلًا مُهابًا، له عظمةٌ وشرفٌ في قلوب العامّة، وإلا استخفّوا به، ولم يُطيعوه، فيفوت بذلك غرض الولاية، والله تعالى أعلم (قَالَ) نافع رضي الله عنه مبيّنًا سبب توليته عليهم، وأنَّ له مؤهّلًا لذلك (إِنَّهُ قَارِئ لِكِتَابِ الله تَعَالَى) أي عالم بالقرآن، وعاملٌ به (عَالم بِالْفَرَائِضِ) أي بقسمة المواريث على كتاب الله (قَاضٍ) أي عالم بالقضاء بين الناس بالعدل.
والمعنى أن هذا الأمير رفعه الله تعالى عليهم بهذه الأمور، وهم يعرفون منه ذلك، فيحترمونه، ويُعظّمونه، ويطيعون أمره، فتستقيم أمورهم، وتستقرّ أحوالهم (قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه عند ذلك، مستحسنًا فعل نافع، وأنه قد ولّى عليهم من يستحقّ الولاية (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا" (إِنَّ نَبِيَّكُم) بكسر همزة "إن"؛ لوقوعها في الابتداء صلى الله عليه وسلم (قَالَ: إِنَّ الله يَرْفَعُ) أي يشرّف، ويكرم في الدنيا والآخرة، بأن يحييهم حياةً طيّبةً في الدنيا، ويجعلهم {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] في الآخرة (بِهذَا الْكِتَابِ) أي القرآن الكريم البالغ في الشرف، وظهور البرهان مبلغًا لم يبلغه غيره من الكتب المنزّلة على الرسل المتقدّمة.
قال الطيبيّ: أطلق الكتاب على القرآن ليثبت الكمال؛ لأن اسم الجنس إذا أُطلق على فرد من أفراده يكون محمولًا على كماله، وبلوغه إلى حدّ هو الجنس كلّه، كأن غيره ليس منه انتهى (1)(أَقْوَامًا) أي يرفع درجة أقوام بسبب الإيمان به، وتعظيم شأنه، والعمل بما فيه (وَيَضَعُ بِهِ) أي يُحقّرهم، ويُصغّر قدرهم في الدنيا والآخرة، بسبب إعراضهم عنه، وعدم عنايتهم به، وتضييعهم حدوده، وجهلهم بها فيه (آخَرِينَ) وهم الذين لم يؤمنوا به، أو آمنوا، ولم يعملوا به، كما قال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقال:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
(1) رجع "المرعاة" 7/ 179.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 218) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(1/ 35) و (الدارميّ) في "سننه"(3368) و (مسلم)(2/ 201) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(772) و (البغويّ) في "شرح السنة"(1184)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل من تعلم القرآن وعلمه، وهو واضح.
2 -
(ومنها): بيان أن من قرأ كتاب الله، وعمل بمقتضاه، مخلصًا رفعه الله تعالى فوق كثير من عباده المؤمنين، ومن قرأه مرائيًا، غير عامل به، وضعه الله أسفل السافلين.
3 -
(ومنها): ما كان عليه عمر رضي الله عنه من متابعة أمرائه في سياستهم لرعيتهم؛ لئلا يضيعوا حقوقهم، فيكون هو المسئول عن ذلك؛ لأنه الراعي الأول، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، متّفقٌ عليه.
4 -
(ومنها): أن من كان عالِمًا بكتاب الله، وبالفرائض، وعرف أحكام القضاء هو الذي يستحقّ أن يتولّى أمور المسلمين، وإن كان دنيء النسب، وأن من كان جاهلًا بهذه الأمور لا يستحقّ ذلك، وإن كان شريف النسب.
5 -
(ومنها): فضل علم الفرائض، وشرفه، فإنه العلم الذي أعلى الله تعالى قدره، حيث تولّى بنفسه قسمته في كتابه العزيز، ولم يكله إلى أحد.
6 -
(ومنها): فضل معرفة أحكام القضاء؛ لأن به تنحلّ المشكلات بين الناس، وتصلح أحوالهم، وتستقيم معاشهم، ويحسن معادهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
219 -
(حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الله الْوَاسِطِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ غَالِبٍ الْعَبَّادَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ زِيَادٍ الْبَحْرَانِيِّ، عَنْ عَليِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يَا أبا ذَرٍّ لَأَنْ تَغْدُوَ، فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كتَابِ اللَّه خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ، عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَل، خيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّه الْوَاسِطِيُّ) هو: العباس بن عبد الله بن أبي عيسى الواسطيّ البَاكِسَائِيّ، أبو محمد، ويقال: أبو الفضل التَّرْقُفِيّ بفتح المثناة، وسكون الراء، وضم القاف، بعدها فاء -نزيل بغداد، ثقة عابدٌ [11].
روى عن أبي عبد الرحمن المقرىء، وأبي مسهر، وعبد الله بن غالب العباداني، ورَوّاد بن الجراح، وأبي عاصم، ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبي حذيفة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن ماجه حديثًا واحدًا، وأبو عوانة الإسفرائيني، وأبو العباس بن شُريح الفقيه، وأبو بكر بن مجاهد المقرئ، وموسى بن هارون الحمال، وغيرهم.
قال محمد بن إسحاق السَّرّاج: حدثني العباس بن عبد الله التَّرْقُفِيّ، صدوق ثقة.
وقال الدارقطني: ثقة. وذكر ابن حبان في "الثقات". وقال محمد بن مخلد: ما رأيته ضَحِكَ، ولا تبسم. وقال الخطيب: كان ثقةً دَيِّنًا صالحًا عابدًا. وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقةً، حدثنا عنه أبو سعيد بن الأعرابيّ، وقال أبو سعد بن السمعاني: كان ثقةً صدوقًا حافظًا، رَحَلَ إلى الشام في الحديث. وقال ابن المنادي: مات سنة سبع وستين ومائتين، وكذا قال ابن كامل قال: وكان ثقةً، وقال ابن قانع: مات سنة (7)، وقيل في المحرم: سنة (68)، وقال أبو القاسم البغويّ: مات سنة (57)، قال الخطيب: وهو خطأ لا شُبْهَة فيه، والصحيح الأول.
وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
[تنبيه]: العباس بن عبد الله هذا من الشيوخ الذين تفرّد بهم المصنّف، وهو مجمع على ثقته، وجلالته، وهذا مما يُفنّد زعم من زعم أن كلّ من تفرّد بهم ابن ماجه ضعفاء، فإن هذا كلام مجازف فيه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بالاعتساف، والله تعالى وليّ التوفيق.
2 -
(عَبْدُ اللَّه بْنُ غَالِبٍ الْعَبَّادَانِيُّ) مستور [9].
رَوَى عن عبد الله بن زياد البحراني، والربيع بن صَبِيح، وعامر بن يساف، وهشام بن عبد الرحمن الكوفي، وإسماعيل بن زياد العمي.
ورَوَى عنه العباس بن عبد الله التَّرْقُفِيّ، ومحمد بن عَبْدَك الْقَزّاز، ويحيى بن عبد الأعظم الْقَزْويني، وأحمد بن نصر الفراء النيسابوري، وسهل بن عاصم، وأبو بدر عباد ابن الوليد الْغُبَريّ، وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق الْعَلَوِيّ، ويونس بن سابق.
تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
3 -
(عَبْدُ اللَّه بْنُ زِيَاد الْبَحْرَانِيِّ) البصريّ، مستور [6].
رَوَى عن عَليّ بن زيد بن جُدْعان، ورَوَى عنه عبد الله بن غالب الْعَبّاداني، وأبو المهلب هُرَيم بن عثمان.
قال الحافظ: ما أستبعد أن يكون عبد الله بن زياد اليماني السُّحَيميّ، فإن له روايةً عن علي بن زيد بن جُدعان وطبقته.
تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديث (1617)"كسر عظم الميت ككسر عظم الحيّ. . . .".
4 -
(عَليُّ بْنُ زَيْدٍ) بن عبد الله بن زُهير بن عبد الله بن جُدْعان التيميّ البصريّ، ضعيف [4] 14/ 116.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ المسَيَّبِ) بن حزن المدنيّ الفقيه الحجة الثبت، من كبار [3] 12/ 104.
6 -
(أبو ذَرٍّ) الغِفَاريّ الصحابيّ جُنْدَب بن جُنادة، وقيل: غيره رضي الله عنه 12/ 108.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنادة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا ذَرٍّ لَأَنْ) اللام لام الابتداء، و"أَن" بفتح الهمزة، وسكون النون مصدريّة (تَغْدُوَ) صلة "أن" والمصدر المؤوّل مبتدأ خبره قوله:"خير".
وهو كقوله عز وجل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، و"غدا يغدو" من باب قعد: ذهب غُدْوة، وهي ما بين صلاة الصبح، وطلوع الشمس، وجمعه غُدًى، مثلُ مُدية ومُدى، هذا أصله، ثم كثُر حتى استُعمل في الذهاب، والانطلاق أيَّ وقتٍ كان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"واغدُ يا أُنيس"، أي وانطلق (1).
والمعنى هنا خروجك من بيتك غُدْوَةً، أي صباحًا (فَتَعَلَّمَ) يحتمل أن يكون بفتح التاء، وسكون العين، وفتح اللام، من العلم ثلاثيّا، ويحتمل أن يكون من التعلّم، فيكون من باب حذف إحدى التاءين، وأصله، فتتعلّم، كما قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَتبَيَّنُ الْعِبَرْ
والاحتمال الثاني أظهر معنى (آيَةً) منصوب على المفعوليّة (مِنْ كتَابِ اللهِ) أي القرآن العظيم (خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكعَةٍ) أي نافلةً؛ لأن تعلّم الآية فرض، ولو على سبيل الكفاية، بخلاف الصلاة النافلة (وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ) بالضبطين المذكورين (بَابًا) أي نوعًا (مِنْ الْعِلْمِ) الشرعيّ، سواء كان الأصل، وهو كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو فرعًا، وهي الوسائل، كمعرفة القواعد العربيّة، من النحو والصرف، والاشتقاق، والبلاغة، وغيرها (عُمِلَ بِهِ) ببناء الفعل للمفعول، أي سواء عَمِلَ به الناس في الحال؛ لأنه سيُعمل به في المآل (أَوْ لَمْ يُعْمَلْ) بالناء للمفعول أيضًا، أي أو لم يَعْمَل به أحدٌ في الحال أيضًا، وقال السنديّ، أي سواء كان علمًا متعلّقًا بكيفيّة العمل، كالفقه، أو لا بأن يكون متعلّقا بالاعتقاد مثلًا، وليس المراد أن يكون علمًا لا يُنتفع به.
(1) راجع "المصباح المنير" 2/ 443.
انتهى (1) والمعنى الأول أقرب؛ لأن الاعتقاد عمل قلبيّ أيضًا، فليس ما يتعلق به خارجًا عن العمل، فتأمل. والله تعالى أعلم.
(خَيرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ) إنما زاد فضل تعلّم العلم؛ لأن به تصحيح العبادة، فلا يتمكنّ عامة الناس من معرفة صحة الصلاة، وبطلانها، ونحو ذلك إلا عن طريق الفقه، بخلاف تعلّم القرآن، فإن معرفتهم عنه، وأخذهم أحكام ذلك عنه مباشرة صعبٌ إلا على أهل العلم المجتهدين. والله تعالى أعلم بالصواب.
قال الجامع -عفا الله عنه-: حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، وهو حديث ضعيف؛ لضعف عليّ بن زيد بن جُدْعان، وعبد الله بن غالب، وعبد الله بن زياد من مجهولي الحال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)"شرح السندي" 1/ 143.