الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
39 - (باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم)
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
220 -
(حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بِشرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عنْ الزُّهْرِيِّ، عنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عن أَبِي هُرَيرَةَ، قالَ: قَالَ رَسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي، أبو محمد البصريّ، ثقة [8] 12/ 108.
2 -
(معمر) بن راشد، أبو عروة البصري، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت فاضل [7] 2/ 161. والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: شرح هذا الحديث يأتي في الحديث التالي، وهو مضطرب الإسناد، والصحيح أنه من حديث معاوية رضي الله عنه الآتي بعد هذا، ومن حديثه أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، وقد أخرجه النسائي رحمه الله في "الكبرى" من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ثم قال: وخالفه يونس عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية رضي الله عنه، انتهى، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 2/ 234، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
221 -
(حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَليدُ بنُ مسلِمٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، أنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفيَانَ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "الخيْرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِد الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هِشَامُ بْنُ عمَّارٍ) الدمشقيّ الخطيب، صدوقٌ مقرىء، كبر فصار يتلقّن،
فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5.
2 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، كثير التدليس والتسوية [8] 6/ 42.
3 -
(مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ) الأمويّ مولاهم الدمشقيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ [6].
رَوَى عن أبيه، والأعمش، ويونس بن مَيْسرة بن حَلْبَس، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وهشام بن عروة، وغيرهم.
ورَوَى عنه الوليد بن سليمان بن أبي السائب، وهو من أقرانه، وصدقة بن خالد، ومحمد بن شعيب بن شابور، والوليد بن مسلم، وجماعة.
قال الوليد بن مسلم: هو أثبت من أبي بكر بن أبي مريم. وقال دُحَيم، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: هو أحب إلي من أخيه رَوْح، وهما شيخان يُكتب حديثهما، ولا يحتج بهما. وقال الدارقطني: لا بأس به، شاميّ، أصله كوفي. وقال أبو علي النيسابوري: مروان ثقة، ورَوح في أمره نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 221 وحديث (1499) "اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك
…
"، وحديث (2619) "لزوال الدنيا أهون على الله. . . .".
4 -
(يُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ) الدمشقيّ الأعمى، ثقة عابد معمّر [3] 35/ 202.
5 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حَرب الصحابيّ ابن الصحابيّ الخليفة رضي الله عنهما 1/ 9، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالدمشقيين، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ) بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، وفتح الموحّدة، آخره سين مهملة، بوزن جعفر (أنهُ حَدَّثَهُ) أي يونس حدّث مروان، فالضمير الأول ليونس، والثاني لمروان (قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) رضي الله عنهما، حال كونه (يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (قَالَ: الخيْرُ عَادَةٌ) المراد منه -والله أعلم- أن الإنسان مجبول على حبّ الخير، كما قال الله عز وجل:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه. . . ." الحديث، متّفق عليه.
(وَالشَّرُّ لجَاجَةٌ) بالفتح، أي خصومة، أي لا ينشرح له الصدر، ولا تنبسط له الروح إلا بواسطة لجاجة النفس الأمارة بالسوء والشيطان.
قال السنديّ رحمه الله: قوله: "الخير عادة إلخ" أي المؤمن الثابت على مقتضى الإيمان والتقوى ينشرح صدره للخير، فيصير له عادة، وأما الشرّ، فلا ينشرح له صدره، فلا يدخل في قلبه إلا بلجاجة الشيطان، والنفس الأمارة، وهذا هو الموافق لحديث:"دع ما يريبك إلا ما لا يريبك، والإثم ما حاك في الصدر، وإن أفتاك المفتون"، والمراد أن الخير موافقٌ للعقل السليم، فهو لا يَقبَل إلا إياه، ولا يَميل إلا إليه، بخلاف الشرّ، فإن العقل السليم يَنفِر عنه، ويقبّحه، وهذا ربّما يميل إلى القول بالحسن والقبح العقليين في الأحكام، فليتأمل.
قال الجامع -عفا الله عنه-: قوله: "ربما يميل إلخ" إن أراد به هذه المسألة ففيه إفراط وتفريط، والحقّ بينهما، وذلك أن المعتزلة لا يرون التحسين والتقبيح الشرعيّ، بل يجعلونه للعقل فقط، والأشاعرة ينفون العقليّ، ويجعلونه كله شرعيًّا، وكلا الطرفين إفراط وتفريط، والحق مذهب السلف، وهو أن العقل له تحسين وتقبيح، ولكن ذلك لا بدّ أن يستند إلى الشرع، فهو لا يستقلّ به، فالحقّ إثبات التحسين والتقبيح الشرعيّ
والعقلي معًا، فلا استقلال للعقل وحده، وقد استوفيت هذا البحث في كتابي المسمّى "التحفة المرضية في القواعد الأصوليّة، على مذهب أهل السنة السنيّة" مع شرحه "المنحة الرضيّة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قال: ويحتمل أن المراد بالخير والشر الحق والباطل، فللحقّ نور في القلب يتبيّن به أنه الحقّ، وللباطل ظلمة يتضايق بها القلب عن قبوله، فلا يدخل فيه إلا بعد تردّد، وانقباض للقلب عن قبوله، وهذا هو الموافق للمثل المشهور:"الحقّ أبلج، والباطل لجلج"، أي يتردد من غير أن ينفذ.
ويحتمل أن يكون هذا بيان ما ينبغي أن يكون المؤمن عليه، أي اللائق بحاله أن يكون الخير عادته، والشرّ مكروهًا لا يدخل عليه إن دخل إلا بلجاجة. انتهى (1).
(وَمَن) شرطيّة، ولذا جُزم الفعلان بعده، على أنهما شرط وجواب لها.
قال السنديّ: قيل: إن لم نقل بعموم "من" فالأمر واضحٌ؛ إذ هو في قوّة بعض من أريد به الخير، وإن قلنا: بعمومها يصير المعنى كلُّ من يرد به الخير، وهو مشكلٌ بمن مات قبل البلوغ مؤمنًا ونحوه، فإنه قد أريد به الخير، وليس بفقيه.
ويجاب بأنه عامّ مخصوص، كما هو أكثر العمومات، والمراد من يرد الله به خيرًا خاصّا على حذف الصفة. انتهى.
قال السنديّ: الوجه حمل "خيرا" على أن التنكير للتعظيم، فلا إشكال، على أنه يمكن حمل الخير على الإطلاق، واعتبار تنزيل غير الفقه في الدين منزلة العدم بالنسبة إلى الفقه في الدين، فيكون الكلام مبنيًّا على المبالغة، كأن من لم يُعط الفقه في الدين ما أريد به الخير، وما ذكروه من الوجوه لا يناسب المقصود.
ويمكن حملُ "من" على المكلّفين؛ لأن كلام الشارع غالبًا يتعلّق ببيان أحوالهم، فلا يرد من مات قبل البلوغ، أو أسلم، ومات قبل مجيء وقت الصلاة مثلًا، أي قبل
(1)"شرح السندي" 1/ 144 - 145.
تقرّر التكليف. انتهى (1).
(يُردْ الله بِهِ خَيرًا) التنكير للتكثير والتعظيم؛ لأن المقام يقتضيه، أي خيرًا كثيرًا عظيمًا (يُفَقِّهه) بتشديد القاف، وجزمه؛ لكونه جواب الشرط، كما أشرنا إليه آنفًا (في الدِّينِ) أي يجعله عالمًا بالأحكام الشرعية.
وقال الفيّوميّ: الفقه: فهم الشيء، قال ابن فارس: وكلُّ علمٍ لشيء فهو فقهٌ، والفقه على لسان حَمَلة الشرع علمٌ خاصّ، وفَقِهَ فقَهًا، من باب تَعب: إذا علم، وفَقُهَ بالضمّ مثله، وقيل: بالضمّ: إذا صار الفقه له سجيّةً (2).
وقال الطيبيّ: الفقه في الأصل: الفهم، يقال: فَقِهَ الرجلُ بالكسر: إذا فَهِمَ، وفَقُهَ بالضمّ: إذا صار فقيهًا عالمًا، وجعله العرف خاصا بعلم الشريعة وتخصيصًا بعلم الفروع، وإنما خُصّ علم الشريعة بالفقه؛ لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلّة، والأقيسة، والنظر الدقيق، بخلاف اللغة، والنحو، والصرف. انتهى (3).
والأولى هنا حملُهُ على المعنى اللغويّ؛ ليشمل فهم كلّ علم من علوم الدين، وليلائمَ تنكير "خيرًا"(4)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما هذا صحيح، بل الجملة الأخيرة متفق عليها.
(1)"شرح السندي" 1/ 143 - 144.
(2)
"المصباح" 2/ 479.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 660.
(4)
راجع "المرعاة" 1/ 304.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (39/ 221) بهذا السند فقط، قال البوصيريّ رحمه الله: رواه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق هشام بن عمّار، فذكره بإسناده ومتنه سواء، والجملة الثانية في "الصحيح" من حديث معاوية رضي الله عنه من طريق الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن عنه، وكذا رواه الدارمي في "مسنده" عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن حنظلة بن عطيّة، عن ابن مُحيريز، عن معاوية، ورواه صاحب "مسند الشهاب" القضاعيّ جميعه، فروى الجملة الأولى منه من طريق الوليد بن مسلم به، وروى الجملة الثانية من طريقين: أحدهما من طريق الربيع بن سليمان المراديّ، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن كعب، عن معاوية به، والطريق الثانية من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الطبراني، وأبو داود الطيالسيّ، ومسدّد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، وأبو يعلى الموصليّ، كما أوردته في "زوائد المسانيد العشرة". انتهى.
وأخرجه (ابن حبان) في "صحيحه"(310) و (الطبراني) في "الكبير"(19/ 904) وفي "مسند الشاميين" له (2215) و (ابن عديّ) في "الكامل"(3/ 1005) و (أبو الشيخ) في "الأمثال"(20) و (أبو نعيم) في "الحلية"(5/ 252) وفي "تاريخ أصبهان" له (1/ 345) و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(22).
وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(4/ 92 و 93) و (الدارميّ)(232) من طريق عبد الله بن محيريز، عن معاوية رضي الله عنه مختصرًا على الجملة الأخيرة.
وأخرجه (أحمد)(4/ 96) و (عبد بن حُميد)(412) من طريق رجاء بن حَيْوة، عن معاوية رضي الله عنه مختصرًا على الجملة الأخيرة أيضًا.
وأخرجه (أحمد)(4/ 101) و (الدارميّ)(230) و (البخاريّ)(1/ 27 و 4/ 103 و 9/ 125) و (مسلم)(3/ 95) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1683) و (ابن حبان)(89) و (ابن عبد البرّ)(1/ 19 و 81) و (البغويّ)(131) من طريق حُميد ابن عبد الرحمن، عن معاوية رضي الله عنه وذكر فيه الجملة الأخيرة.
وأخرجه (مالك)(561) و (أحمد)(4/ 92 و 95 و 98) و (عبد بن حميد)(666) من طريق محمد بن كعب القرظيّ، عن معاوية رضي الله عنه، وذكر الجملة الأخيرة.
وأخرجه (أحمد)(4/ 93) و (عبد بن حميد)(417) من طريق زياد بن أبي زياد، عن معاوية رضي الله عنه.
و (أحمد) 4/ 93 و (مسلم) 6/ 53 من طريق يزيد الأصمّ، عن معاوية رضي الله عنه.
وأخرجه (أحمد)(4/ 92 و 93 و 98 و 99) من طريق معبد الجهنيّ، عن معاوية رضي الله عنه.
وأخرجه (أحمد)(4/ 97 و 100) و (مسلم)(3/ 94) من طريق عبد الله بن عامر اليحصبيّ، عن معاوية رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على طلب العلم؛ لأنه قائد إلى تقوى الله تعالى.
2 -
(ومنها): بيان أن الخير سهل ميسّر؛ لأنه مما اعتادته الفطرة السليمة، والقلوب المستقيمة، وأما الشرّ، فإنما يكون من تسلّط النفس الأمارة بالسوء، والشيطان.
3 -
(ومنها): أن قوله: "في الدين" فيه إشارة إلى المراد بالفقه الذي أُريد الخير بمن أوتيه هو علم الكتاب والسنّة، وما يتعلّق بهما من الوسائل، كمعرفة اللغة، والنحو، وهو العلم الذي يورث الخشية في القلب، ويَظهَر أثره في الجوارح، ويترتّب عليه الإنذار، كما يشير إليه قوله عز وجل:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الآية [التوبة: 122]، فليس لعلوم الدنيا هذا الفضل؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما جاء لبيان أحكام الدين، لا لبيان أمور الدنيا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وذلك فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرّ بقوم يُلَقِّحون، فقال:"لو لم تفعلوا لصلح"، فخرج شِيصًا، فمَرّ بهم، فقال:"ما لنخلكم؟ "، قالوا: قلت: كذا وكذا، قال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم".
4 -
(ومنها): أن فيه مدح الفقيه البصير بدينه، والمقبل على آخرته؛ لأن هذا هو ثمرة التفقّه في الدين، وروى الدارميّ عن عمران قال: قلت للحسن يومًا في شيء: يا أبا سعيد ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك، هل رأيت فقيهًا قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه (1).
5 -
(ومنها): أن مفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي يتعلّم قواعد الإسلام، وما يتّصل بها من الفروع، فقد حُرم الخير، وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر ضعيف، وزاد في آخره:"ومن لم يتفقّه في الدين، لم يبال الله به"، والمعنى صحيح؛ لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهًا، ولا طالب فقه، فيصحّ أن يوصف بأنه ما أُريد به الخير (2).
6 -
(ومنها): أن فيه بيانًا ظاهرًا لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقّه في الدين على سائر العلوم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
222 -
(حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حدثنا الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بنُ جَنَاحٍ، أبو سَعْدٍ، عنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلفِ عَابِدٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) المذكور في السند الماضي.
2 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) المذكور في السند الماضي أيضًا.
3 -
(رَوْحُ بْنُ جَنَاحٍ، أبُو سَعْدٍ) ويقال: أبو سعيد الأمويّ مولاهم، الدمشقيّ،
(1) راجع "المرقاة" 1/ 450.
(2)
راجع "الفتح" 1/ 217.
ضعيفٌ، بل اتّهمه بعضهم، وهو أخو مروان المذكور في السند الماضي [7].
رَوَى عن مجاهد، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وعطاء بن السائب، وغيرهم.
ورَوَى عنه الوليد بن مسلم، ومحمد بن شعيب بن شابور، وعبد المهيمن بن عبد الرحمن. قال عثمان الدارمي عن دُحَيم ثقة، إلا أن مروان -يعني أخاه- أوثق منه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: وفي نسخة عن أبي زرعة: مروان أحب إليّ منه، يكتب حديثهما ولا يحتج بهما، ورَوْح ليس بقوي. وقال الجوزجاني ذَكَرَ عن الزهري حديثًا معضلًا، فيه ذكر البيت المعمور، فإن كان قال: سمعت الزهري أُرجىء، ونُظِر في أمره. وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في حديثه، حديثه ليس بالقائم، وذَكَر حديثه في البيت المعمور، ثم قال: هذا حديث منكر، لا نعلم له أصلًا، من حديث أبي هريرة، ولا من حديث سعيد ابن المسيب، ولا من حديث الزهري. وقال الْعُقيليّ: قصة البيت المعمور لا يتابع عليه. وقال النسائي: ليس بالقوي.
وقال أبو علي الحافظ: في أمره نَظرٌ. وقال أبو نعيم: يَروي عن مجاهد مناكير، لا شيء. وذَكَر له أبو أحمد بن عديّ أحاديث، ثم قال: ولِرَوْح بن جَناح غير ما ذكرتُ من الحديث قليلٌ، وربما أخطأ في الأسانيد، ويأتي بمتون لا يأتيها غيره، وهو ممن يكتب حديثه. روى له الترمذي وابن ماجه حديثًا واحدًا، متنه:"فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد"، قال الساجي: وهو حديثٌ منكرٌ. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًّا، يَروِي عن الثقات ما إذا سمعه الإنسان شَهِد له بالوضع، رَوَى عن مجاهد، عن ابن عباس:"فقيهٌ واحدٌ. . . ." الحديث. وقال أبو سعيد النقاش: يروي عن مجاهد أحاديث موضوعة.
تفرّد به الترمذي، والمصنّف بهذا الحديث الواحد فقط.
4 -
(مُجَاهِدٌ) بن جَبْر الإمام الحجة الفقيه المفسّر المكيّ [3] 9/ 74.
5 -
(ابْن عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما 3/ 27.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث ضعيفٌ جدًّا، وحكم بعضهم بوضعه، وفيه
نظرٌ لا يخفى؛ لأن رَوْحًا، وإن ضعفه الأكثرون، فقد وثقه دُحيم، فلا يصل إلى درجة أن يكون حديثه موضوعًا، فتنبّه.
وأخرجه (المصنّف) هنا (39/ 222) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذي)(2681).
وقوله: "أشدّ على الشيطان إلخ" قيل: وجه ذلك أن غاية همة العابد أن يُخلّص نفسه من مكائد الشيطان، وقد لا يقدر عليه لجهله بذلك، فيُدركه الشيطان من حيث لا يدري، بخلاف الفقيه، فإنه يعلم بفقهه مكايد الشيطان ومداخله على العباد، ويقدر على التخلّص منه بعون من الله تعالى، بل قد يُخلّص الله تعالى على يديه العباد من مكايده.
والحاصل أن الشيطان كلما فتح بابًا على الناس من الهوى بيّن الفقيه العارف مكائده، فيسدّ ذلك الباب، ويردّه خاسئًا، وأما العابد فربما اشتغل بالعبادة، وهو في حبائل الشيطان، ولا يدري.
وهذا الحديث لو صحّ يكون المراد منه الفقيه الذي تبصّر في العلم، وعَمِل بعلمه، لا الفقيهُ الذي فُتِن بحبّ الدنيا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
223 -
(حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عِليٍّ الجَهْضَمِيُّ، حَدثنا عَبْدُ الله بْنُ دَاوُدَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ جَمِيلٍ، عَنْ كَثيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاء، في مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَأتاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أبا الدرْدَاءِ أتيْتُكَ مِنْ المدِينة، مَدِينة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لحِدِيثٍ بَلَغَني أنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فما جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلَا جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُوُل: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ الله له طَرِيقًا إِلَى الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا؛ رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وإنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الحيتَانِ في الماءِ، وَإِنَّ
فَضْلَ الْعَالِم عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأنبِيَاءِ، إِنَّ الْأنبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافر").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلي الجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقة ثَبْتٌ، طُلِب للقضاء، فامتنع [10]، 1/ 13.
2 -
(عَبْدُ الله بْنُ دَاوُدَ) بن عامر بن الرَّبيع الْهَمدانيّ، ثم الشعبيّ، أبو عبد الرحمن المعروف بالخُرَيبيّ -بمعجمة، وموحّدة، مصغّرًا- كوفيّ الأصل، سكن الخُريْبَةَ، وهي مَحِلّةٌ بالبصرة، وقيل: كان ينزل عَبَّادان، ثقة عابدٌ [9].
رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وسلمة بن نُبَيط، والأعمش، وهشام بن عروة، وابن جريج، والحسن بن صالح، وطلحة بن يحيى بن طلحة، والأوزاعي، وغيرهم.
ورَوَى عنه الحسن بن صالح بن حَيّ، وهو من شيوخه، وعارم، ومسدد، وعمرو بن علي الصيرفي، وعمرو بن محمد الناقد، وعباس بن عبد العظيم العنبري، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقةً عابدًا ناسكًا. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة صدوق مأمون. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عنه، وعن أبي عاصم، فقال: ثقتان. قال الدارمي: الخُريبي أعلى. وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: كان يميل إلى الرأي، وكان صدوقا. وقال الدارقطني: ثقةٌ زاهدٌ. وقال ابن عيينة: ذاك أحد الأحدين، وقال مرةً: ذاك شيخنا القديم. وقال الْكُدَيميّ: سمعته يقول: ما كذبت قط إلا مرة واحدة، كان أبي قال لي: قرأتَ على المعلم؟ قلت: نعم، وما كنتُ قرأت عليه. وقال أبو نصر بن ماكولا: كان عَسِرًا في الرواية.
وقال محمد بن أبي مسلم الكجي عن أبيه: أتينا عبد الله بن داود ليحدثنا، فقال: قوموا اسْقُوا الْبُسْتان، فلم نسمع منه غير هذا. قال عباس العنبري: سمعته يقول: وُلدتُ سنة (121)، قال ابن سعد: مات في شوال سنة ثلاث عشرة ومائتين، وفيها
أَرّخه غير واحد. وقال أبو قدامة عنه: نحن بالكوفة شعبيون، وبالشام شعبانيون، وبمصر شعوبيون، وباليمن ذو شعبان. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (11)، وقيل: سنة ثلاث عشرة. وقال البخاري: مات قريبًا من أبي عاصم. وقال ابن قانع: كان ثقة. وقالت الخليلي: أمسك عن الرواية قبل موته، قال الذهبي: فلذلك لم يسمع منه البخاري.
أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 223 و 1234 و 2029 و 3076 و 4107.
3 -
(عَاصِمُ بْنُ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ) الْكِنديّ الْفِلَسْطينيّ، ويقال: الأُرْدنيّ، صدوقٌ يَهِم [8].
رَوَى عن أبيه، والقاسم بن عبد الرحمن، وداود بن جميل، وربيعة بن يزيد، وعروة بن رُويم، وأبي عمران الأنصاري، ومكحول الشامي، وقيس بن كثير، إن كان محفوظًا، وغيرهم.
ورَوَى عنه إسماعيل بن عياش، وعثمان بن فائد، وعبد الله بن داود الْخُريبي، ووكيع، ومحمد بن يزيد الواسطي، وأبو نعيم، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صويلح. وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وتكلم فيه قتيبة.
أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 223 و 1056.
4 -
(دَاوُدُ بْنُ جَمِيلٍ) ويقال: اسمه الوليد، ضعيفٌ [7].
رَوَى عن كثير بن قيس، على خلف فيه، وعنه عاصم بن رجاء بن حيوة، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وفي إسناد حديثه اختلاف، وقال الدارقطني: مجهول، وقال مرة: هو ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء. وقال في "العلل": لا يصح داود، وقال الأزدي: ضعيف مجهول.
أخرج له أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
5 -
(كَثيرُ بْنُ قَيْسٍ) ويقال: قيس بن كثير، والأول أكثر الشاميّ، ضعيفٌ [3].
رَوَى عن أبي الدرداء في فضل العلم، وعنه داود بن جميل، جاء في أكثر الروايات أنه كثير بن قيس على اختلاف في الإسناد إليه، وتفرد محمد بن يزيد الواسطي في إحدى الروايتين عنه بتسميته قيس بن كثير، وهو وَهَمٌ، ورَوَى أبو عاصم النبيل عن الوليد بن مرة، عن كثير بن قيس، عن ابن عمر حديثًا آخر. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سُمَيع: أمره ضعيف، لم يُثَبِّته أبو سعيد -يعني دُحيما-. وقال الدارقطني: ضعيف. ووقع لابن قانع وهَمٌ عجيب في "معجم الصحابة"، فإن الحديث وقع له بدون ذكر أبي الدرداء فيه، فذكر كثيرًا بسبب ذلك في الصحابة، فأخطأ.
أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
6 -
(أبو الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد بن قيس، وقيل: غيره رضي الله عنه الصحابيّ الشهير 1/ 5، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ) أنه (قَالَ: كنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ) رضي الله عنه (في مَسْجِدِ دِمَشْقَ) بكسر الدال، وفتح الميم، وقد كسر: قاعدة الشام، سُمّيت باسم بانيها دِمْشَاق ابن كَنْعان. قاله في "القاموس"(1)(فَأتاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبا الدَّرْدَاءِ أتيْتُكَ مِنْ المدِينَةِ، مَدِينةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) بدل من "المدينة"(لحِدِيثٍ) أي لأجل سماع حديث (بَلَغَني أنكَ تُحَدِّثُ بِهِ) أي تحدّث بذلك الحديث، حال كونك ناقلًا (عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم) الظاهر أن الرجل سمع الحديث من غير أبي الدرداء، لكنه أراد أن يسمعه منه بلا واسطة، طلبًا لعلوّ الإسناد فإنه من الدين، أو لزيادة التفصيل والإيضاح، أو نحو ذلك (قَالَ) أبو الدرداء رضي الله عنه (فما جَاءَ بِكَ) بتقدير أداة الاستفهام، أي أفما جاء (تِجَارَةٌ؟) أي إرادة بيعُ
(1)"القاموس المحيط" ص 795.
شيء وشرائه (قَالَ) الرجل (لَا) أي ليس الحامل لي على المجيء ذلك (قَالَ) أبو الدرداء أيضًا (وَلَا جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟) أي من الأمور الدنيويّة (قَالَ) الرجل (لَا، قَالَ) أبو الدرداء رضي الله عنه (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم) قيل: يحتمل أن يكون هذا الحديث هو الحديثَ المطلوب للرجل بعينه، ويحتمل أن يكون غيرَه، وإنما ذكر هذا تبشيرًا له، وترغيبًا في مثل ما فعل، وأن سعيه مشكور عند الله، ومطلوبه من أسنى المطالب (يَقُولُ: مَنْ) يحتمل أن تكون موصولة مبتدأً خبرها جملة "سهّل الله إلخ"، ويحتمل أن تكون شرطيةً (سَلَكَ) أي دخل، أو مشى (طَرِيقًا) نكّره؛ ليشمل جميع أنواع طرق العلم، وأسباب تحصيله، من مفارقة الأوطان، والضرب في البلدان، والإنفاق في تحصيل هذا الشان، والمجاهدة في كلّ زمان ومكان، وبأي سبب كان، من التعلّم، والتعليم، والتصنيف، ونحو ذلك (يَلْتَمِسُ) أي يطلب، والجملة في محلّ نصب على الحال (فِيهِ) أي في ذلك الطريق، أو في ذلك السلوك (عِلْمًا) نكّره أيضًا ليشمل أي علم كان من علوم الدين، قليلًا كان أو كثيرًا، رفيعًا أو غير رفيع. أفاده الطيبيّ (1)(سَهَّلَ الله لَهُ) الضمير لـ"مَنْ"(طَرِيقًا إِلَى الجنَّةِ) أي أدخله الله تعالى الجنة بلا تعب في الآخرة، أو وفّقه الله تعالى في الدنيا للأعمال الصالحة، فيوصله إلى الجنّة، أو سهّل عليه ما يزيد به علمه؛ لأنه أيضًا من طرق الجنة، بل أقربها.
وفي رواية الترمذيّ: "سلك الله به طريقًا"، قال الطيبيّ: الضمير المجرور عائد إلى "من"، والباء للتعدية، أي جعله سالكًا، ووفّقه أن يسلُك طريق الجنّة، وقيل: عائد إلى العلم، والباء للسببية، و"سلك" بمعنى سَهَّل، والعائد إلى "من" محذوفٌ، والمعنى سهّل الله له بسبب العلم طريقًا، فعلى الأول "سلك"، من السلوك، وعلى الثاني من السلك، والمفعول محذوف، كقوله تعالى:{يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17](وإنَّ الملائِكَةَ) جملة معطوفة على جملة "من سلك إلخ"، وكذا الجمل الآتية المصدّرة بـ"إن"، واللام
(1)"الكاشف" 2/ 672.
للجنس، أو للعهد، أي ملائكة الرحمة، ويحتمل أن يكون المراد الملائكة كلهم، وهو أنسب بالمعنى المجازيّ في قوله:(لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا) جمع جَنَاح بالفتح، وهو محمول على الحقيقة، وإن لم يُشاهَد ذلك الوضع، أي تفرشها؛ لتكون وِطاءً له إذا مشى، أو تكفّها عن الطيران، وتَنْزِل عند مجالس العلم؛ لسماعه، كما في الحديث الصحيح الآتي:"إلا حفّتهم الملائكة، نزلت عليهم السكينة"، أو المعنى تبسطها له لتحمله عليها، وتبلّغه حيث يريد من البلاد، والمراد أنها تعينه، وتساعده في طلب العلم، وتحصيله، ويحتمل أن يكون مجازًا عن التواضع، كقوله تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، أي تضع أجنحتها تعظيمًا لعلمه، وتوقيرا لحقّه، ومحبّةً لعلمه (1). وقوله:(رِضًا) حال، أو مفعول لأجله، على معنى إرادة رضا؛ ليكون فعلًا لفاعل الفعل المعلّل به (لِطَالِبِ الْعِلْمِ) متعلق بـ"رضا"، وقيل: التقدير: لأجل الرضا الواصل منها إليه، أو لأجل إرضائها لطالب العلم بما يصنع من حيازة الوراثة العظمى، وسلوك السنن الأسنى (وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ) ووقع عند أبي داود، والترمذيّ بلفظ:"وإن العالم ليستغفر له. . . ."، وسيأتي بهذا اللفظ عند المصنّف مختصرًا في 42/ 239 (يَسْتَغْفِرُ لَهُ) أي يطلبون من الله تعالى أن يغفر له؛ أداءً لحقّه، ومجازاة على حسن صنيعه بإلهام من الله تعالى إياهم ذلك، وذلك لعموم نفع العلم، فإن مصالح كلّ شيء ومنافعه منوطة به، والاستغفار محمول على حقيقته، وقال الطيبيّ: هو مجاز من إرادة استقامة حال المستغفر له. انتهى.
قال الجامع -عفا الله عنه-: الصواب الأول؛ لأنه لا داعي إلى المجاز، واستغفار ما لا يعقل ليس بعيدًا، فقد أخبرنا الله تعالى أن جميع المخلوقات تسبح الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الآية [الإسراء: 44]، وقد ثبت في الحديث الصحيح تسبيح الطعام بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه،
(1) أفاده في "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 672 - 673، و"شرح السندي" 1/ 145 - 146 ونقلته بتصرّف.
وهو يؤكل، وثبت أيضًا حنين الجذع، والصحابة يسمعونه، وصحّ سماعه صلى الله عليه وسلم تسليم حجر عليه.
والحاصل أن الاستغفار المذكور على حقيقته. والله تعالى أعلم.
(مَنْ في السَّمَاءِ) وفي بعض النسخ: "من السماوات"، أي لأنهم عُرِفوا بتعريف العلماء، وعُظِّموا بقولهم (وَالْأَرضِ) أي لأن بقاءهم، وصلاحهم مربوط برأي العلماء وفتواهم، ولذلك قيل: ما من شيء من الموجودات حيّها وميتها، إلا وله مصلحة متعلّقة بالعلم (حَتَّى الحيتَانِ) بالكسر جمع حوت (في الماء) وفي رواية أبي داود "في جوف الماء"، وخص الحيتان بالذكر لدفع إيهام أن "من في الأرض" لا يشمل من في البحر، أو تعميم بعد تعميم، بأن يراد بالحيتان جميع دواب البحر، وهي أكثر من عوالم البرّ، على ما قيل، وقيل: غير ذلك في وجه التخصيص، مما فيه نظر.
وقال بعضهم: إنما خصّ الحيان بالذكر؛ لكونها لا لسان لها، وما لا لسان له ربما يُتوهّم عدم الاستغفار لطالب العلم، بخلاف غيره من الحيوان، فإنه وإن صَغُر فله لسان. انتهى.
قال الجامع -عفا الله عنه-: كون الحيتان لا لسان لها يحتاج إلى ثبوته، فيتأمّل، والله تعالى أعلم.
(وَإِنَّ) بكسر الهمزة؛ لكونه معطوفًا على جملة، كما سبق بيانه (فَضلَ العَالمِ) أي الغالب عليه العلم، وهو الذي يقوم بنشر العلم بعد أدائه ما توجه إليه من الفرائض، والسنن المؤكّدة (عَلَى الْعَابِدِ) أي الغالب عليه العبادة، وهو الذي يصرف أوقاته بنوافل العبادات، مع كونه عالمًا بما تصحّ به عبادته (كَفَضْيلِ الْقَمَرِ) زاد في رواية أبي داود:"ليلة البدر"، أي ليلة الرابع عشر (عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ).
قيل: شبّه العالم بالقمر، والعابد بالكوكب؛ لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدى من العابد، ونور العلم يتعدّى على غير العالم، فيستضيء بنوره المتلقّى من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كالقمر يتلقى نوره من نور الشمس (إِنَّ العُلماءَ) وفي رواية أبي داود:"وإن العلماء"
بالواو (همْ وَرَثَةُ الأنبِيَاءِ) إنما سُمّي العلماء ورثة الأنبياء أخذًا من قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، ومعلوم أنه لا رتبة فوق رتبة النبوّة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة.
قيل: إنما لم يقل: "ورثة الرسل"؛ ليكون أشمل؛ إذ من العلماء من كان مبلّغًا للأمة نافعًا بنشر علمه بينها، فهم كالرسل، ومنهم من يستطيع لا ذلك؛ لسبب من الأسباب، فهو عاملٌ بعلمه، فهؤلاء كالأنبياء، والله تعالى أعلم (إِن الأَنبِيَاءَ) وفي رواية أبي داود:"وإن الأنبياء" بالواو أيضًا (لَمْ يُوَرِّثوا) بتشديد الراء من التوريث (دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا) أي شيئًا من الدنيا، وخصهما بالذكر؛ لأنهما أغلب أنواعها (إِنَّما وَرَّثُوا الْعِلْمَ) وفي رواية أحمد:"وإنما ورّثوا" بالواو، وهو بتشديد الراء أيضًا، أي بقي علمهم بين الأمة بعدهم تنتفع به الأمة في إظهار الإسلام، ونشر الأحكام، وإصلاح أحوالهم الظاهرة والباطنة، على تباين أجناسهم واختلاف أنواعهم (فَمَنْ أَخَذَهُ) أي العلم الموروث عن الأنبياء (أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) أي حصل له نصيبٌ عظيم تام لا نقص به في الدنيا والآخرة.
وقال القاري في "شرح المشكاة": قوله: "أخذ بحظّ وافر" أي أخذ حظّا وافرًا، يعني نصيبًا تامًّا، أي لا حظ أوفر منه، والباء زائدة للتأكيد، أو المراد أخذه متلبسًا بحظّ وافر من ميراث النبوّة، ويجوز أن يكون "أخذ" خبرًا بمعنى الأمر، أي فمن أراد أَخْذَهُ، فليأخذ بحظّ وافر، ولا يقتنع بقليل. انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يكون صحيحًا، وإسناده ضعيف؛ لأن داود بن جميل، وشيخه
(1)"المرقاة شرح المشكاة" 1/ 472.
كثير بن قيس ضعيفان.
[قلت]: إنما صحّ للمتابعات والشواهد، فقد أخرجه أبو داود في "سننه"(3642)، فقال -بعد أن أخرجه عن مسدّد، عن عبد الله بن داود الخُريبيّ بسند المصنّف، ومتنه-: حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد، قال: لقيت شبيب ابن شيبة، فحدثني به، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء -يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
قال في "تهذيب التهذيب" في ترجمة "شبيب بن شيبة": روى عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء في فضل العلم، قاله محمد بن الوزير الدمشقيّ، عن الوليد، عن شبيب، وقال عمرو بن عثمان، عن الوليد، عن شعيب بن رزيق، عن عثمان، وهو أشبه بالصواب. انتهى (1).
وهذا إسناد رجاله ثقات، فإن شعيب بن رزيق، وثقه الدارقطنيّ وابن حبان، وقال دحيم: لا بأس به، ولا عبرة بتضعيف ابن حزم، وعثمان بن أبي سودة روى عن جماعة، ووثقه جماعة، ولا عبرة بقول القطان: لا يعرف، والوليد بن مسلم وإن كان مدلسًا، لكنه صرّح بالتحديث، فالإسناد صحيح.
وللحديث إسناد آخر فيه انقطاع، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" 1/ 398 من طريق محمد بن حمزة المروزيّ، قال: أنبأنا علي بن الحسن بن شقيق، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا يونس بن يزيد، عن عطاء الخراسانيّ، قال: قال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقًا. . . ." فذكره.
وهذا إسناد رجاله ثقات، لكنه منقطع؛ إذ لم يسمع عطاء الخراسانيّ من أبي الدرداء.
وأما الشواهد، فكثيرة، فمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد حديث، وقد
(1)"تهذيب التهذيب" 2/ 151.
أخرجه مسلم، وحديث صفوان بن عسّال رضي الله عنه الآتي بعد حديثين، وهو حديث صحيح، وحديث أنس الآتي بعد هذا، وهو حسنٌ، وغير ذلك.
وبالجملة فالحديث صحيح بهذه المتابعات، والشواهد، ولقد أجاد في البحث محقق "جامع بيان العلم وفضله" للحافظ ابن عبد البرّ -رحمه الله تعالى-، فانظر ما كتبه 1/ 163 - 168. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (39/ 223) بهذا السند، وسيأتي بسند آخر مختصرًا في (42/ 239)، وأخرجه (أحمد)(5/ 196) و (الدارميّ)(349) و (أبو داود)(3641) و (الترمذيّ)(2682) و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان العلم"(37 و 38 و 39 و 40 و 41) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(982) و (ابن حبان) في "صحيحه"(88) و (البغوي) في "شرح السنة"(129).
وأخرجه "أبو داود" أيضًا (3642) من طريق عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء بإسناد حسن، كما سبق بيانه.
وأورد البخاريّ في "صحيحه""وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظّ وافر"، ومن سلك طريقًا يطلب به علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة عقب قوله:"باب العلم قبل القول والعمل"، من غير أن ينسبه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الحافظ في "الفتح": طرف من حديث أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وابن حبان، والحاكم مصحّحًا من حديث أبي الدرداء، وحسّنه حمزة الكنانيّ، وضُعْفُهُ عندهم باضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوّى بها، ولم يُفصح البخاريّ بكونه حديثًا، فلهذا لا يُعدّ في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة يُشعر بأن له أصلًا، وشاهده قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]. انتهى (1)،
(1)"فتح" 1/ 160.
والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على طلب العلم.
2 -
(ومنها): ما قاله الطيبي رحمه الله: لا تظنّنّ أن العالم المفضّل عاطلٌ عن العمل، ولا العابد عن العلم، بل إنّ علمَ ذلك غالبٌ على عمله، وعمل هذا غالبٌ على علمه، ولذلك جُعل العلماء ورثة الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين: العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين: الكمال والتكميل، وهذا طريق العارفين بالله تعالى، وسبيل السائرين إلى الله تعالى. انتهى (1).
3 -
(ومنها): أن العالم لمّا كان ساعيًا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع الهلكات، وكان سعيه مقصورًا على هذا، وكانت نجاة العباد على يديه جوزي من جنس عمله، وجُعل من في السماوات والأرض ساعيًا في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له.
4 -
(ومنها): أن هذا الاستغفار غير استغفار حملة العرش، ومن حوله لعموم المؤمنين الذي ذكره الله تعالى في قوله:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية [غافر: 7]، فإن ذاك خاص بحملة العرش ومن حوله، عامّ لجميع المؤمنين، وهذا عامّ من جميع من في السماوات ومن في الأرض، خاص بطالب العلم؛ زيادةً على الاستغفار الأول؛ لزيادة فضل العلم، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن فيه إيماء إلى أن طريق الجنة محصورة في طرق العلم؛ لأن الجنة جزاء العمل الصالح وهو لا يُتصوّر ولا يتحقق بدون العلم.
(1)"الكاشف" 2/ 673.
6 -
(ومنها): تعظيم الملائكة، واحترامهم، وبسط أجنحتهم لطالب العلم، ونقل ابن القيّم عن أحمد بن شعيب، قال: كنا عند بعض المحدّثين بالبصرة، فحدّثنا بهذا الحديث، وفي المجلس شخصٌ من المعتزلة، فجعل يستهزىء بالحديث، فقال: والله لأطرقنّ غدًا نعلي، وأطأ بها أجنحة الملائكة، ففعل، ومشى في النعلين، فحفت رجلاه، ووقعت فيهما الأكلة.
وقال الطبرانيّ: سمعت ابن يحيى الساجيّ يقول: كنا نمشي في أزقّة البصرة إلى باب بعض المحدّثين، فأسرعنا المشي، وكان معنا رجل ماجنٌ متّهم في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها، كالمستهزىء بالحديث، فما زال عن موضعه حتى حفَت رجلاه، وسقط إلى الأرض. انتهى.
نقلت هاتين الحكايتين من "المرقاة شرح المشكاة" لعلي القاري (1)، ولا أدري صحتهما. والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): بيان فضل العالم على العابد؛ لأن العلم متعدّ، بخلاف العبادة، قال القرطبيّ رحمه الله: هذه المفاضلة بين العالم والعابد لا تصحّ حتى يكون كلّ واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل، فإن العابد لو ترك شيئًا من الواجبات، أو عملها على جهل لم يستحقّ اسم العابد ولا تصحّ له عبادة، والعالم لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مذمومًا، ولم يستحقّ اسم العالم، فإذًا محلّ التفضيل إنما هو في النوافل، فالعابد يستعمل أزمانه في النوافل من الصلاة، والصوم، والذكر، وغير ذلك، والعالم يستعمل أزمانه في طلب العلم وحفظه، وتقييده، وتعليمه، فهذا هو الذي شبّهه بالبدر؛ لأنه قد كمُل في نفسه، واستضاء به كلّ شيء في العالم، من حيث إن علمه تعدّى لغيره، وليس كذلك العابد، فإن غايته أن ينتفع في نفسه، ولذلك شبهه بالكوكب الذي غايته أن يُظهر
(1)"المرقاة" 1/ 470.
نفسه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (1)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ. والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: أيضا: إنما خصّ العلماء بالوراثة، وإن كان العبّاد أيضًا قد ورِثُوا العلم بما صاروا به عُبّادًا؛ لأن العلماء هم الذين نابوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حملهم العلمَ عنه، وتبليغهم إياه لأمته، وإرشادهم لهم، وهدايتهم، وبالجملة هم العاملون بمصالح الأمة بعده الذّابّون عن سنّته، الحافظون لشريعته، فهؤلاء الأحقّ بالوراثة، والأولَى بالنيابة والخلافة، وأما الْعُبّاد فلم يُطلق عليهم اسم الورثة؛ لقصور نفعهم، ويسير حظّهم. انتهى (2).
9 -
(ومنها): أن فيه إشارة إلى حقارة الدنيا، وأن الأنبياء لم يأخذوا منها إلا بقدر ضرورتهم، فلم يورّثوا شيئًا منها؛ لئلا يُتوهّم أنهم كانوا يطلبون الدنيا لتورث عنهم، وفيه إيماء إلى كمال توكلهم على الله تعالى في أنفسهم وأولادهم، وإشعار بأن طالب الدنيا ليس من العلماء الوارثين لهم، ولذا قال الغزاليّ رحمه الله: أقلّ العلم، بل أقلّ الإيمان أن يعرف أن الدنيا فانيةٌ، وأن الآخرة باقية، ونتيجة هذا العلم أن يُعرض عن الفاني، ويُقبل على الباقي.
[فإن قلت]: يُعارض هذا ما ثبت أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم كان له صفايا بني النضير، وفدك، وخيبر إلى أن مات وخلفها، وكان لشعيب عليه السلام أغنام كثيرة، وكان أيوب وإبراهيم عليهما السلام ذَوَي ثروة ونعمة كثيرة.
[أُجيب]: بأن المراد أنه ما ورِثَ أولادهم، وأزواجهم شيئًا من ذلك، بل بقي بعدهم مُعَدّا لنوائب المسلمين.
وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مرّ بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟
(1)"المفهم" 6/ 686.
(2)
"المفهم" 6/ 686.
قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقسم، وأنتم هاهنا، ألا تذهبون، فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد فخرجوا سراعًا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟، فقالوا: يا أبا هريرة قد أتينا المسجد، فدخلنا فيه، فلم نَرَ فيه شيئًا يُقسَم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلّون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
224 -
(حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيمانَ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، كَمُقَلِّدِ الخنَازِيرِ الجوْهَرَ وَاللؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ").
رجال هذا الإسناد خمسة، كلهم تقدّموا في الباب الماضي (2)، غير:
1 -
(كثير بن شِنظير) -بكسر المعجمتين، وسكون النون- المازنيّ، ويقال: الأزديّ، أبو قرّة البصريّ، صدوقٌ يُخطىء [6].
رَوَى عن عطاء، ومجاهد، والحسن، ومحمد، وأنس، ابني سيرين، ويوسف بن أبي الحكم، وغيرهم.
ورَوَى عنه سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبان ابن يزيد العطار، وحفص بن سليمان الغاضري، وأبو عامر الخزاز، وعباد بن عباد، وبشر بن المفضل، وجماعة.
(1) راجع "صحيح الترغيب والترهيب" للشيخ الألبانيّ 1/ 144 رقم (83).
(2)
أي غير ابن سيرين، فقد تقدّم قبل باب برقم (204).
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال: صالح، ثم قال: قد روى عنه الناس، واحتملوه، وقال مرة: صالح الحديث. وقال إسحاق بن منصور ابن معين: صالح. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء. وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وكان ابن مهدي يحدث عنه. وقال أبو زرعة: لين. وقال النسائيّ: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: أرجو أن تكون أحاديثه مستقيمة، وقال أيضًا: ليس في حديثه شيء من المنكر. وقال ابن سعد: كان ثقة -إن شاء الله-.
وقال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن كثير بن شِنظِير، هو صحيح الحديث: أو قيل: ثبت الحديث؟ قال: لا، ثم قال كلاما، معناه: يكتب حديثه. وقال الساجي: صدوق، وفيه بعض الضعف، ليس بذاك، ويحتمل لصدقه. وقال الحاكم: قول ابن معين فيه: ليس بشيء، هذا يقوله ابن معين، إذا ذُكِر له الشيخ من الرواة يَقِلّ حديثه، ربما قال فيه: ليس بشيء -يعني لم يُسنِد من الحديث ما يُشتَغل به. وقال البزار: ليس به بأس. وقال ابن حزم: ضعيف جِدّا.
قال الجامع -عفا الله عنه-: قد تبيّن بما ذُكِرَ من هذه الأقوال على أَنَّ الأكثرين على توثيق كثير بن شِنظير، فقول ابن حزم هذا مجازف فيه، فأيّ ضعف بعد توثيق هؤلاء الأئمة له؟ والله تعالى المستعان.
أخرج له الجماعة، سوى النسائيّ، وله في البخاري حديثان فقط، أخرج مسلم أحدهما، هو حديث جابر في السلام على المصلى، وأبو داود، والترمذي الآخر، وهو حديث جابر:"خمروا الآنية"، وابن ماجه حديث أنس:"طلب العلم فريضة"، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عن أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم: طَلَب الْعِلْمِ) أي الشرعي (فريضة) قال البيهقيّ رحمه الله في "المدخل": أرد -والله تعالى أعلم- العلم الذي لا
يسع البالغ العاقل جهله، أو علم ما يطرأ له، أو أراد أنه فريضة على كلّ مسلم حتى يقوم به من فيه كفاية، قال: وقد سئل ابن المبارك عن تفسير هذا الحديث، فقال: ليس هو الذي يظنون، إنما هو أن يقع الرجل في شيء من أمور دينه، فيسأل عنه حتى يعلمه.
وقال البيضاويّ: المراد من العلم ما لا مندوحة للعبد منه، كمعرفة الصانع، والعلم بوحدانيته، ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيفيّة الصلاة، فإن تعلّمه فرض عين.
(عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) أي مكلّف، فيخرج غير المكلّف، من الصبيّ والمجنون، وموضوعه الشخص، فيشمل الذكر والأنثى، وقد ألحق بعض المصنّفين بآخر هذا الحديث لفظة "ومسلمة"، قال الحافظ السخاويّ في "المقاصد الحسنة": وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كانت صحيحة المعنى.
(وَوَاضِعُ العِلْمِ عِندَ غيْرِ أَهْلِهِ) كمن لا يُصغي، ولا يفهم، أو من يريد به غرضًا دنيويًّا، أو من لا يتعلّمه لله تعالى (كَمُقَلِّدِ الخنَازِير الجوْهَر وَاللُّؤْلؤ وَالذَّهَبَ") هذا يُشعر بأن كلّ علم يختصّ باستعداد، وله أهل، فإذا وضعه: في غير موضعه، فقد ظلم، فمثّل معنى الظلم بتقليد أخسّ الحيوانات بأنفس الجواهر؛ تهجينًا لذلك الوضع، وتنفيرًا عنه، وما قيل [من الطويل]:
وَمَن مَنَحَ الجُهَّالَ علْمًا أَضَاعَهُ
…
وَمَنْ مَنَعَ المُستَوجِبِينَ فَقَد ظلم
وتعقيبُ هذا التمثيل بقوله: "طلب العلم فريضة" إعلام بأنه ينبغي لكل أحد طلب ما يليق باستعداده، ويوافق منزلته بعد حصول ما هو واجب من الفرائض العامّة، وعلى العالم أن يخصّ كلَّ طالب بما هو مستعد له.
وقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: "حدّثوا الناس بما يَعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله؟ ".
قال في "الفتح" في شرح هذا الأثر: المراد بقوله: "بما يعرفون"، أي يفهمون، وزاد آدم بن أبي إياس في "كتاب العلم" له في آخره:"ودَعُوا ما ينكرون"، أي يشتبه عليهم
فهمه، وكذا رواه أبو نعيم في "المستخرج".
وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يُذكَر عند العامة، ومثلُهُ قول ابن مسعود رضي الله عنه:"ما أنت محدثًا قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"، رواه مسلم.
وممن كَرِهَ التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج علي السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومِن قبلهم أبو هريرة رضي الله عنه، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: حَفِظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وِعَاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطِع هذا الْبُلْعُوم.
والمراد ما يقع من الفتن، ونحوُهُ عن حذيفة رضي الله عنه، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس رضي الله عنه للحجاج بن يوسف الأمير المبير بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلةً إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي.
وضابط ذلك أن يكون ظاهرُ الحديث يُقَوّي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يُخْشَى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله تعالى أعلم.
انتهى ما في "الفتح"(1)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، وهو ضعيف الإسناد جدًّا؛ لأن فيه حفص بن سليمان المقرىء الغاضريّ، وقد تقدّم (38/ 216) أنه متروك.
لكن قوله: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم"، قد رُويت من طرق متعدّدة عن أنس رضي الله عنه يعضد بعضها بعضًا، فهو حسن.
(1)"فتح الباري" 1/ 297 - 298.
قال الحافظ السخاويّ رحمه الله في "المقاصد": وفي الباب عن أُبيّ، وجابر، وحذيفة، والحسين بن علي، وسلمان، وسمرة، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وعليّ، ومعاوية بن حيدة، ونُبيط بن شَرِيط، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأم المؤمنين عائشة، وعائشة بنت قُدامة، وأم هانىء، وآخرين، وبسط الكلام في "تخريجه الكبير للإحياء"، ومع هذا كلّه قال البيهقيّ: متنه مشهور، وإسناده ضعيف، وقد روي من أوجه كلها ضعيفة، وسبقه الإمام أحمد فيما حكاه ابن الجوزيّ في "العلل المتناهية" عنه، فقال: لم يثبت عندنا في هذا الباب شيء، وكذا قال إسحاق ابن راهويه: إنه لم يصحّ، أما معناه فصحيح، في الوضوء، والصلاة، والزكاة، إن كان له مال، وكذا الحجّ وغيره، وتبعه ابن عبد البرّ بزيادة إيضاح وبيان، فقال رحمه الله: هذا حديث يُروى عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، كلها معلولة، لا حجة في شيء منها عند أهل العلم بالحديث من جهة الإسناد (1).
وقال أبو عليّ النيسابوريّ الحافظ: إنه لم يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه إسناد، ومثّل به ابن الصلاح للمشهور الذي ليس بصحيح، وتبع في ذلك أيضًا الحاكم، ولكن قال العراقيّ: قد صحّح بعض الأئمة بعض طرقه، كما بينته في "تخريج الإحياء".
وقال المزّيّ: إن طرقه تبلغ به رتبة الحسن، وقال غيره: أجودها طريق قتادة، وثابت كلاهما عن أنس، وطريق مجاهد عن ابن عمر، وقال ابن القطان، صاحب ابن ماجه في "كتاب العلل" عقب إيراده له من جهة سلام الطويل عن أبيه: إنه غريب حسن الإسناد (2).
وقال السيوطيّ: سئل الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله تعالى- عن هذا الحديث، فقال: إنه ضعيفٌ -أي سندًا- وإن صحيحًا -أي معنى، وقال تلميذه جمال
(1)"جامع بيان العلم وفضله" 1/ 23.
(2)
"المقاصد الحسنة" ص 275 - 276.
الدين المِزّيّ: هذا الحديث رُوي من طرق تبلغ رتبة الحسن،، وهو كما قال: فإني رأيت له نحو خمسين طريقًا، وقد جمعتها في جزء. انتهى كلام السيوطيّ.
والحاصل أن الحديث حسنٌ بكثرة طرقه، وقد أجاد الكلام الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ في "جامع بيان العلم وفضله" 1/ 23 - 62 واستوفى محقق الكتاب الكلام، فأجاد وأفاد، وكذا الحافظ السخاويّ في "المقاصد الحسنة" ص (275 - 277). والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): أخرج الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله بسنده عن إسحاق بن راهويه، قال: طلب العلم واجب، ولم يصحّ فيه الخبر، إلا أن معناه أن يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه، وصلاته، وزكاته إن كان له ماله، وكذلك الحجّ وغيره، قال: وما وجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه، ومن كان منه فضيلةً لم يخرج إلى طلبه حتى يستأذن أبويه.
قال أبو عمر: يريد إسحاق -والله أعلم- أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقالٌ لأهل العلم بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم، وإن كانوا قد اختلفوا فيه اختلافًا متقاربًا على ما نذكره هاهنا إن شاء الله.
ثم أخرج عن ابن وهب، قال: سئل مالك عن طلب العلم أهو فريضة على الناس؟ فقال: لا والله، ولكن يطلب منه المرء ما ينتفع به في دينه.
قال: وروينا عن الحسن بن الربيع، قال: سألت ابن المبارك عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم" قال: ليس هو الذي يطلبونه، ولكن فريضة على من وقع في شيء من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه. وسئل ابن المبارك أيضًا ما الذي لا يسع المؤمن من تعليم العلم إلا أن يطلبه؟ وما الذي يجب عليه أن يتعلّمه؟ قال: لا يسعه أن يُقْدِم على شيء إلا بعلم، ولا يسعه حتى يسأل.
وأخرج عن ابن عيينة قال: طلب العلم والجهادُ فريضة على جماعتهم، ويجزىء فيه بعضهم عن بعض، وقرأ هذه الآية: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ} الآية [التوبة: 122].
قال أبو عمر: قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعيّن على كل امرىء في خاصّة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع، واختلفوا في تلخيص ذلك، والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه، نحو الشهادة باللسان، والإقرار بالقلب بأن الله تعالى وحده لا شريك له، ولا شبه له، ولا مثل له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، خالق كل شيء، وإليه يرجع كل شيء، المحيي المميت الحي الذي لا يموت، عالم الغيب والشهادة، هما عنده سواء، لا يعزُبُ عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
والذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، وهو على العرش استوى.
والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه حقٌّ، وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال، والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة، ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حقٌّ، وأن القرآن كلام الله، وما فيه حقّ من عند الله، يلزم الإيمان بجميعه، واستعمال مُحكمه، وأن الصلوات الخمس فريضة، ويلزمه من علمها علم ما لا تتمّ إلا به، من طهارتها، وسائر أحكامها، وأن صوم رمضان فرضٌ، ويلزمه علم ما يفسد صومه، وما لا يتمّ إلا به، وإن كان ذا مال وقدرة على الحج لزمه فرضًا أن يعرف ما تجب فيه الزكاة، ومتى تجب، وفي كم تجب، ولزمه أن يعلم بأن الحج عليه فرض مرّة واحدة في دهره إن استطاع السبيل إليه، إلى أشياء يلزمه معرفة جُمَلها، ولا يُعذر بجهلها، نحو تحريم الزنا، وتحريم الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، والأنجاس كلها، والسرقة والربا والغصب والرشوة في الحكم، والشهادة بالزور، وأكل أموال الناس بالباطل، وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئًا لا يتشاحّ فيه، ولا يُرغب في مثله، وتحريم الظلم كله، وهو كل ما منع الله عز وجل منه، ورسوله صلى الله عليه وسلم،
وتحريم نكاح الأمهات، والبنات، والأخوات، ومن ذُكر معهنّ، وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حقّ، وما كان مثل هذا كلّه مما قد نطق به الكتاب، وأجمعت الأمة عليه.
ثم سائر العلم، وطلبه والتفقّه فيه، وتعليم الناس إياه، وفتواهم به في مصالح دينهم ودنياهم، والحكم به بينهم فرض على الكفاية، يلزم الجميع فرضه، فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين بموضعه، لا خلاف بين العلماء في ذلك، وحجتهم فيه قول الله عز وجل:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} الآية [التوبة: 122]، فألزم النفير في ذلك البعض دون الكلّ، ثم ينصرفون، فيُعلّمون غيرهم، والطائفة في لسان العرب الواحد فما فوقه.
قال: وروى يونس بن عبد الأعلى، وابن المقرىء، وابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: وجدنا علم الناس كله في أربع: أولها أن تعرف ربّك، والثاني: أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يُخرجك من دينك. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله ملخّصًا، وهو بحث نفيس جدّا. والله تعالى أعلم بالصواب.
وقال الإمام ابن القيّم -رحمه الله تعالى-: في كتابه "مفتاح دار السعادة": العلم الذي هو فرض عين لا يسع مسلمًا جهله أنواعٌ:
[النوع الأول]: علم أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإن لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحقّ اسم المؤمن، قال الله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية [البقرة: 177]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]، ولمَّا سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال:"أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر"، قال: صدقت، فالإيمان بهذه الأصول فرع معرفتها، والعلم بها.
[والنوع الثاني]: علم شرائع الإسلام، واللازم منها ما يخُصّ العبد من فعلها،
كفعل الوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وتوابعها، وشروطها، ومبطلاتها.
[والنوع الثالث]: علم المحرّمات الخمس التي اتّفقت عليها الشرائع، والرسل، والكتب الإلهيّة، وهي المذكورة في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فهذه محرمات على كل أحد في كل حال على لسان كلّ رسول، لا تباح قطّ، ولهذا أتى فيها بـ"إنما" المفيدة للحصر مطلقًا، وغيرها محرّمٌ في وقت، مباح في غيره، كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، ونحوه، فهذه ليست محرّمة على الإطلاق والدوام، فلم تدخل في التحريم المحصور المطلق.
[والنوع الرابع]: علم أحكام المعاشرة، والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس، خصوصًا وعمومًا، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس، ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيّته، كالواجب على الرجل مع أهله وجيرانه، وليس الواجب على من نَصَبَ نفسه لأنواع التجارات من تعلّم أحكام البياعات، كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعوا الحاجة إليه.
وتفصيل هذه الجملة لا ينضبط بحدّ؛ لاختلاف الناس في أسباب العلم بالواجب، وذلك يرجع إلى ثلاثة أصول: اعتقاد، وفعل، وترك، فالواجب في الاعتقاد مطابقته للحقّ في نفسه، والواجب في العمل معرفة موافقة حركات العبد الظاهرة والباطنة الاختياريّة للشرع أمرا وإباحة، والواجب في الترك معرفة موافقة الكفّ والسكون لمرضاة الله تعالى، وأن المطلوب منه إبقاء هذا الفعل على عدمه المستعمل، فلا يتحرّك في طلبه، أو كفّ النفس عن فعله على الطريقتين، وقد دخل في هذه الجملة عَلِمُ حركات القلوب والأبدان. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه الله تعالى-، وهو بحثٌ نفيس جدّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
225 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيبةَ، وَعَلي بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كرْبَةً، مِنْ كرَبِ الدنْيَا، نَفَّسَ الله عَنْهُ كرْبَةً، مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتر مُسْلمًا، سَتَرَهُ الله في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَن يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ الله عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالله في عوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَن سلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلمًا، سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله، يَتْلُونَ كتَابَ الله، وَيَتَدَارسونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا حَفَّتْهُم الملائِكَةُ، وَنَزَلَتْ عَليْهِم السكِينة، وَغشِيَتْهُم الرحْمَةُ، وَذَكرَهُمْ الله فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أبطَأَ بِهِ عَمَلهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 1/ 1.
2 -
(علي بْنُ مُحَمدٍ) الطنافسيّ الكوفي، صدوق عابد [10] 9/ 57.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة، من كبار [9] 1/ 3.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفي الحافظ الحجة الثبت [5] 1/ 1.
5 -
(أبو صَالِحٍ) ذكوان السمان الزيات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 1/ 1.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنف.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فأخرج له النسائيّ في "مسند" علي رضي الله عنه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى أبي صالح.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في
حديث غيره.
5 -
(ومنها): أن الأعمش ممن أكثر الرواية عن أبي صالح، يقال: إنه سمع منه ألف حديث.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش عن أبي صالح.
7 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ الْأَعْمَشِ) وفي رواية لمسلم من طريق أبي أسامة عن الأعمش قال: حدّثنا أبو صالح، فصرح الأعمش بالتحديث، فزالت تهمة التدليس، كما زعمه بعضهم (عَن أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان (عن أَبِي هُرَيرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَفَّس) بتشديد الفاء، أي فرّج.
قال الطيبيّ رحمه الله: يقال: نَفّستُ عنه كُرْبةً تنفيسًا. إذا رفعتها، وفرجتها عنه، مأخوذ من قولهم: أنت في نَفَس، أي سَعَة، كأن من كان في كُرْبة وضِيق سُدّ عنه مداخل الأنفاس، فإذا فُرِج عنه فُتحت المداخل انتهى (1)، أي من أزال، وأذهب (عَنْ مُسْلِمٍ) ولفظ مسلم "عن مؤمن"، أي ولو كان فاسقًا؛ مراعاة لإيمانه (كُربَةً) بضم، فسكون، أي غمّا وشِدّةً، نكّرها تقليلًا، أي أيّ كربة كانت، شديدةً أو حقيرةً، وميزها بعد الإبهام، وبيّنها بقوله (مِنْ) تبعيضيّة، أو ابتدائية (كربِ الدُّنْيَا) الفانية والمنقضية؛ للإيذان بتعظيم شأن التنفيس، يعني أن أقلّه المختصّ بالدنيا يفيد هذه الفائدة، فكيف بالكثير المختصّ بالعقبى؟.
فلذلك لم يقيّد هذه القرينة بما قيّده في القرينتين الأخيرتين من ذكر الدنيا والآخرة معًا، ولأنهما تخصيص بعد تعميم؛ اهتمامًا بشأنهما. قاله الطيبيّ (2)(نَفَّسَ الله عَنْهُ كُربَةً) أي عظيمةً (مِنْ كُربِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي الباقية غير المتناهية، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا
(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665.
(2)
المصدر السابق.
الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، ولا يرد على هذا أنه تعالى قال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فإنه أعمّ من أن يكون في الكميّة، أو الكيفيّة (1)(وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا) أي في قبيح يفعله، أو كساه ثوبًا لعُرْيه، وقال الطيبيّ: يجوز أن يراد به الظاهر، وأن يراد به ستر من ارتكب ذنبًا، فلا يفضحه (سَتَرَهُ الله) أي ستر عيوبه، أو عورته (في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) وفي "شرح مسلم": أي ستر بدنه بالإلباس، أو عيوبه بعدم الغيبة له، والذبّ عن معايبه، وهذا الستر إنما يندب على ذوي الهيئات ممن ليس معروفًا بالأذى والفساد، وأما المعروف به، أو المتلبّس بالمعصية، فيجب إنكارها عليه، ورفع أمره إلى ولاة الأمور إن لم يقدر على منعه، ولم يترتّب عليه مفسدة، وأما جرح الرواة والشهود، وأمناء الصدقات، فواجب (2).
(وَمَنْ يَسَّرَ) أي سهّل (عَلَى مُعْسِرٍ) أي الفقير الذي ركبه الدين، وتعسّر عليه قضاؤه، وهو يشمل المؤمن والكافر المعاهد، أي من كان له دينٌ على فقير، فسهّل عليه بترك كلّه، أو بعضه، بإمهاله (يَسَّرَ الله عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أي في أمورهما؛ جزاء تيسيره على عبده {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] (وَالله في عَوْنِ الْعَبْدِ) الواو للاستئناف، وهو تذييل للكلام السابق.
قال الطيبيّ: تذييل للسابق، لا سيّما على دفع المضرّة عن أخيه المسلم، وعلى جلب النفع له، ولذلك أخرجه من سياق الشرطية، وبنى الخبر على المبتدأ؛ ليقوى به الحكم، وخصّ العبد بالذكر؛ تشريفًا له بنسبة العبدية له، كما شرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} الآية [الإسراء: 1]، وكرّره، وقال:"في عون العبد"، ولم يقل: والله يُعينه في كذا، كما قال:{وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، أي إن الله تعالى يوقع العون في العبد، ويجعله مكانًا له؛ مبالغة في
(1)"المرقاة" 1/ 454.
(2)
راجع "المرعاة" 1/ 308.
الإعانة. انتهى (1)(مَا كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ)"ما" مصدريّة ظرفيّة، أي مدّةَ كون العبد مشغولًا في عون أخيه بأي وجهٍ كان، من جلب نفع، ودفع ضرّ.
ولمّا فرغ من الحثّ على الشفقة لخلق الله تعالى أتبعه بما يُنبىء عن التعظيم لأمر الله، وهو العلم؛ لأن العلم وسيلة إلى العمل، ومقدمة له، ومن ثَمّ ختمه بقوله:"ومن بطّأ به عمله إلخ"، فقال:
(وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا) نكّره ليشمل الأسباب والطرق كلها، أي من تسبّب في تحصيل العلم أَيَّ سبب كان، من مفارقة الأوطان، والضرب في البلدان، والإنفاق فيه، والتعلّم والتعليم، والتصنيف، والْكَدْح فيه، مما لا يُحصى كثرةً، وقال في "المرعاة":"ومن سلك طريقًا" حقيقيّا حسيّا، وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، أو معنويّا، مثل حفظ العلم، ومدارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتفهّم له، ونحو ذلك من الطرق المعنويّة التي يُتوصّل بها إلى العلم. انتهى (يَلْتَمِسُ) أي يطلب، وهو حال، أو صفة (فِيهِ عِلْمًا) نكّره ليشمل كل نوع من أنواع علوم الدين، قليله، أو كثيره، إذا كان بنيّة القربة، والانتفاع، والنفع (سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ) أي بذلك السلوك، أو الطريق، أو الالتماس، أو العلم، والباء سببيّة (طَرِيقًا) أي موصلًا، ومُنْهِيًا (إِلَى الجنَّةِ) أي يسهّل الله له العلم الذي طلبه، وسلك طريقه، وييسره عليه، فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة، أو ييسر الله له إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنّة بذلك، وقد يُيسّر الله لطالب العلم علومًا أخرى ينتفع بها، وتكون موصلة إلى الجنة، أو يسهّل الله له طريق الجنة الحسيّ يوم القيامة، وهو الصراط، وما قبله، وما بعده من الأهوال، فييسّر ذلك على طالب العلم للانتفاع به.
(وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيتٍ مِن بُيُوتِ اللَّه) عدل عن التعبير بالمساجد ليشمل جميع ما يُبنى لله تقرّبًا إليه، من المساجد، والمدارسَ، والرُّبُط، وقال القرطبيّ: بيوت الله هي
(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665.
المساجد، كما قال الله تعالى:{في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ} [النور: 36] انتهى، والأول أقرب، والله تعالى أعلم.
(يتلُونَ كِتَابَ اللَّه) أي القرآن، والجملة حاليّة من "قوم"؛ لتخصيصه (وَيَتَدَارسونَهُ بَينَهُمْ) قيل: التدارس قراءة بعضهم على بعض؛ تصحيحًا لألفاظه، أو كشفًا لمعانيه، وقيل: المراد المدارسة المتعارفة، بأن يقرأ بعضهم عشرا مثلًا، وبعضهم عشرًا آخر، وهكذا، فيكون أخص من التلاوة، والأظهر أنه شامل لجميع ما يتعلّق بالقرآن من التعلم، والتعليم، والتفسير، والتحقيق في مبانيه، والاستكشاف عن دقائق معانيه (1)(إِلَّا حَفَّتْهُم الملائِكَةُ) أي ملائكة الرحمة والبركة، أحدقوا، وأحاطوا بهم؛ تعظيمًا لصنيعهم، أو طافوا بهم، وداروا حولهم إلى السماء الدنيا، يستمعون قراءتهم ودراستهم، ويحفظونهم من الآفات، ويزورونهم، ويُصافحونهم، ويؤمّنون على دعائهم (وَنَزَلَت عَلَيْهِم السَّكِينَةُ) قيل: المراد بالسكينة هنا الرحمة، وهو الذي اختاره القاضي عياض.
قال النووي: وهو ضعيف؛ لعطف الرحمة عليه، وقيل: الطمأنينة، والوقار، وهو أحسن، انتهى (2)، وقيل: إنها شيء من مخلوقات الله تعالى، فيه طمأنينة، ورحمة، ومعه الملائكة.
وقال القرطبيّ: هي إما السكون، والوقار، والخشوع، وإما الملائكة الذين يستمعون القرآن، سُمُّوا بذلك؛ لما هم عليه من السكون والخشوع. انتهى (3)(وَغشَيتهُم) أي عَلَتهم، وغطّتهم، وسترتهم (الرَّحْمَةُ) أي تكفير خطيئاتهم، ورفع درجاتهم، وإيصالهم إلى جنته وكرمته. قاله القرطبيّ (وَذَكَرَهُمْ الله فِيمَنْ عِنْدَهُ) أي الملإ الأعلى،
(1) راجع "المرقاة" 1/ 456.
(2)
"شرح مسلم" 17/ 21.
(3)
"المفهم" 6/ 687 - 688.
والطبقة الأولى من الملائكة، وذكره لهم عندهم للمباهاة بهم، يقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء يذكروني، ويتدارسون كتابي، ونحو ذلك، وقال القرطبيّ: يعني في الملإ الكريم من الملائكة المقرّبين، كما قال:"إن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم"، متّفق عليه (وَمَنْ أبْطَأَ) من الإبطاء، وفي رواية مسلم:"ومن بطّأ" بتشديد الطاء، من التبطة، ضدّ التعجيل.
قال الطيبيّ: هذا أيضًا تذييل بمعنى التعظيم لأمر الله، فالواو فيه، وفي قوله:"والله في عون العبد" استئنافيّة، وبقية الواوات عاطفة (بِهِ) الباء للتعدية، أي من أخّره عن بلوغ درجة السعادة في الآخرة (عَمَلُهُ) السيء، أو تفريطه في العمل الصالح في الدنيا (لم يُسرِعْ) بضم أوله، من الإسراع، أي لم يقدّمه (بِهِ نَسَبُهُ) أي لم ينفعه في الآخرة شرف نسبه، فإن العمل الصالح هو الذي يرفع العبد إلى الدرجات العلى في الآخرة، فمن لم ترفعه أعماله إليها، لم تنفعه أنسابه، فتُبْلِغَه إليها؛ لأن الله تعالى رتّب الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب، قال عز وجل:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وقال القرطبيّ: يعني أن الآخرة لا ينفع فيها إلا تقوى الله تعالى، والعمل الصالح، لا الفخر الراجح، ولا النسب الواضح (1).
وقال النووي: معناه: من كان عمله ناقصًا لم يُلحقه نسبه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل. انتهى (2).
[فإن قلت]: هذا ينافي قوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية [الطور: 21]، فإنه يدل على أن النسب ينفع.
(1)"المفهم" 6/ 688.
(2)
"شرح مسلم" 17/ 22 - 23.
[قلت]: هذه الآية فيمن تبع في الإيمان، ولكنه مقصّر في بعض الأعمال، فيُلحق بهم تكريمًا لهم، وأما الحديث فهو محمول على من اتبع هواه، فضلّ السبيل، فإنه لا ينفعه نسبه، ولا يُلحقه بآبائه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (39/ 225) بهذا السند فقط، وأخرجه (ابن أبي شيبة)(9/ 85 - 86) و (أحمد)(2/ 252 و 274 و 325 و 406 و 500 و 514 و 522) و (الدارميّ)(351) و (مسلم)(8/ 71 و 72) و (أبو داود)(3643) و (4946) و (الترمذيّ)(1425) و (2646) و (2945) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(534 و 5045) و (أبو نعيم) في "الحلية" 8/ 119 و (القُضاعيّ)(458) و (البغويّ)(127)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على العلم.
2 -
(ومنها): أن هذا الحديث حديث عظيم، جامع لأنواع من العلوم والقواعد، والآداب.
3 -
(ومنها): بيان فضل تنفيس الكربة عن المسلم.
4 -
(ومنها): بيان فضل إنظار المعسر، والتخفيف عنه.
5 -
(ومنها): بيان فضل ستر المسلم، والستر عليه.
6 -
(ومنها): فضل قيام العبد بعون أخيه المسلم، وقضاء حوائجه، ونفعه بما تيسّر، من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك.
7 -
(ومنها): فضل المشي في طلب العلم، والمراد به العلم الشرعيّ، علم الكتاب
والسنة، كما سبق بيانه في الحديث الأول، ومن شروطه أن يقصد به وجه الله تعالى، وهو وإن كان شرطًا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيّدون هذه المسألة به؛ لكونه قد يَتساهل فيه بعض الناس، ويغفُل عنه بعض المبتدئين ونحوهم.
8 -
(ومنها): بيان استحباب الرحلة في طلب العلم، وقد ذهب موسى عليه السلام في طلب الخضر عليه السلام لذلك، فقال له:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه مسيرة شهر في حديث واحد، كما علّقه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" في "باب الخروج في طلب العلم"، وأخرج قصة موسى والخضر عليهما السلام في ذلك الباب. (ومنها): بيان فضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد.
قال النوويّ رحمه الله: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال مالك: يكره، وتأوله بعض أصحابه، ويُلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة، ورباط، ونحوهما -إن شاء الله تعالى-، ويدلّ عليه إطلاقه في رواية لمسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهما، بلفظ:"لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفهم الملائكة. . . ." الحديث، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع، ويكون التقييد في الحديث الأول خرج مخرج الغالب، لاسيما في ذلك الزمان، فلا يكون له مفهوم يُعمل به. انتهى كلام النووي (1).
9 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ: فيه ما يدلّ على جواز تعليم القرآن في المساجد، أما للكبار الذين يتحفّظون بالمسجد فلا إشكال فيه، ولا يُختلف فيه، وأما الصغار الذين لا يتحفّظون بالمساجد، فلا يجوز؛ لأنه تعريض للمسجد للقذر والعبث، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم"(2).
(1)"شرح مسلم" 17/ 21 - 22.
(2)
هذا أخرجه المصنّف (750) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جَنِّبوا =
قال الجامع -عفا الله عنه-: الحديث ضعيف، فلا يصلح حجةً للمسألة، والله تعالى أعلم.
قال: وقد تمسّك بهذا الحديث من يُجيز قراءة القرآن على لسان واحد، كما يُفعل عندنا بالمغرب، وقد كره بعض علمائنا ذلك، ورأوا أنها بدعة؛ إذ لم تكن كذلك قراءة السلف، وإنما الحديث محمول على أن كلّ واحد يدرس لنفسه، أو مع يُصلح عليه، ليستعين به. انتهى (1).
قال الجامع -عفا الله عنه-: القول بالكراهة هو الصواب؛ لأن ذلك ليس من هدي السلف، بل هو مما أحدثه الناس في الأزمان المتأخّرة، والله تعالى المستعان.
10 -
(ومنها): أن العبرة بالأعمال الصالحات، لا بالنسب الشريف، ولذا ترى أكثر العلماء من السلف والخلف لا أنساب لهم يتفاخرون بها، بل كثير منهم من الموالي، ومع ذلك هم سادات الأمة، وينابيع الحكمة، بينما كثير من ذوي الأنساب العليّة ليسوا كذلك بسبب جهلهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين"(2)، ويؤيّده قوله صلى الله عليه وسلم:"يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا. . . ." الحديث متّفقٌ عليه.
ولبعضهم [من الطويل]:
عَلَيْكَ بتَقْوَى الله في كُلِّ حَالَةٍ
…
وَلَا تَترُكِ التَّقوَى اتكالًا عَلَى النَّسَبْ
= مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسَلّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجَمِّروها في الجمع"، وهو ضعيف؛ لأن في سنده الحارث بن نبهان، متروك، وشيخه ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" (1726) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 26 وقال: رواه الطبرانيّ في "الكبير"، ومكحول لم يسمع من معاذ. انتهى. والحاصل الحديث ضعيف.
(1)
"المفهم" 6/ 687.
(2)
أخرجه مسلم في "صحيحه"، وتقدّم للمصنف برقم (218).
فقد رَفعَ الإِسلامُ سلمان فارِسٍ
…
وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيف أبا لهَبْ
ولآخر [من الكامل]:
إِنَّا وإِنْ كَرُمت أَوائِلُنَا
…
لسنَا عَلَى الأَحسَابِ نَتَّكِلُ
نَبْنِي كَمَا كانَت أَوَائِلُنَا
…
تَبْني وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا
ولآخر:
كُنِ ابنَ مَنْ شِئْتَ وَاكْتَسِب أَدَبًا
…
يُغنيكَ مَحْمُودُهُ عَن النَّسَبِ
إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَا أنا ذا
…
لَيْسَ الفَتَى منْ يَقُولُ كَانَ أَبِي
ولآخر [من البسيط]:
مَا بَالُ نَفْسِكَ تَرضَى أَنْ تُدَنِّسَها
…
وَثوبُ جِسمِكَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنَسِ
تَرجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسلُكْ مَسَالِكَهَا
…
إِنَّ السَّفِينة لا تجرِي عَلَى الْيَبَسِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل التي الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
226 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يحيَى، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأنا مَعمَرٌ، عَن عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: أتيْتُ صَفوَانَ بنَ عَسَّالٍ المُرَادِيَّ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْت: أُنْبِطُ الْعِلمَ، قالَ: فَإِنِّي سمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: "مَا مِن خَارج خَرَجَ مِنْ بَيتهِ في طَلَب الْعِلْمِ، إِلَّا وضَعَتْ لَهُ الملائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا؛ رِضًا بِمَا يَصنَعُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) الذهليّ النيسابوريّ الإمام الحافظ [11] المذكور قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همام الصنعاني، ثقة حافظ، تغيّر في آخره، ويتشيّع [9] 2/ 16.
3 -
(مَعْمَرٌ) بن راشد، أبو عروة البصري، ثم اليمني، ثقة ثبت، من كبار [7] 2/ 16.
4 -
(عَاصِمُ بْنُ أَبِي النجُودِ) هو ابن بَهْدلة الكوفيّ المقرىء، ثقة يَهِم [6] 20/ 138.
5 -
(زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ) الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 14/ 114.
6 -
(صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ المرَادِيُّ) الجَمَليّ الصحابيّ المعروف، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، ورَوَى عنه، وسَكَن الكوفة، ورَوَى عنه زِرّ بن حُبَيش، وعبد الله بن سَلَمَةَ المُرَاديّ، وحُذيفة بن أبي حذيفة، وأبو الْغَرِيف، عُبيد الله بن خَلِيفة، وغيرهم.
أخرج له الترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم 226 و 391 و 478 و 2857 و 3705 و 4070، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير الصحابي، وأما عاصم، فأخرج له الشيخان مقرونًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.
غير شيخه، فنيسابوريّ، وعبد الرزاق، فصنعانيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زِرِّ) بكسر الزاي، وتشديد الراء (ابْنِ حُبَيْشٍ) بضم الحاء المهملة، مصغّرًا، أنه (قَالَ: أتيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ) بفتح العين، وتشديد السين المهملتين (المُرَادِيَّ) أي المنسوب إلى بطن من مَذْحِج، وهو يحابر بن مالك بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ومالك بن أُدد هو مَذْحِج. قاله في "اللباب" 3/ 188 (فَقَالَ) صفوان رضي الله عنه (مَا) استفهاميّة، أي أيُّ شيء (جَاءَ بِكَ؟) من محلّك، قال زِرّ (قُلْتُ) جئتُ (أُنْبِطُ الْعِلْمَ) أي أستخرجه من صدور العلماء، قال في "القاموس":
نضبَطَ الماءُ يَنْبطُ -يعني من بابي ضرب، ونصر-: نبَعَ، والْبِئْرَ: استخرجَ ماءَهَا. انتهى (1).
فأفادت عبارته أن نَبَطَ يتعدّى ويلزم، وما هنا من المتعدي، والمراد أنه جاء يطلب العلم، ويستخرجه من صدور العلماء، ويجعله في قلبه، وقال السنديّ: وقال السيوطيّ تبعًا لصاحب "النهاية": أي أستنبطه، أي أُظهره، وأُفشيه في الناس. انتهى. وظاهره أنه خرج يُعلّم الناس، وهو لا يناسب اللفظ، ولا آخر الحديث، فليتأمّل. انتهى كلام السنديّ رحمه الله (2).
قال الجامع -عفا الله عنه-: المعنى الأول هو الأوضح، لكن لما قاله السيوطيّ أيضًا وجه، وذلك أنه يُفشيه ويُظهره للناس بعد أن يتعلّمه، فيكون من باب الحثّ لصفوان رضي الله عنه أن يَعْتَنِي بتعليمه؛ لأنه سيقوم في إفادة الناس، وتعليمهم بعد أن يتعلّم منه. والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صفوان رضي الله عنه (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا) نافيةٌ (مِنْ) زائدة للتأكيد، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ في نَفِي وَشِبْهِهِ فَجَرْ
…
نكرَةً كـ "مَا لِبَاغ مِنْ مَفَرْ"
(خَارِجٍ) مبتدأ مرفوع بضمة مقدّر؛ لأجل حركة حرف الجرّ الزائد، وخبره جملة "إلا وضعت إلخ"(خَرَجَ مِنْ بَيْتهِ في طَلَبِ الْعِلْمِ) أي لأجله، فـ "في" تعليليّة، كما في قوله عز وجل:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، وقوله:{لَمَسَّكُمْ في مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14]، وفي الحديث:"عُذِّبت امرأة في هرّة حبستها حتى ماتت جوعًا. . . ." متّفقٌ عليه، (إِلَّا وَضَعَتْ لَهُ الملائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا؛ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ) هذه الجملة تقدّم شرحها مستوفًى شرح حديث أبي الدرداء رضي الله عنه برقم (223)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)"القاموس المحيط" ص 620.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 148 - 149.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث صفوان بن عسّال رضي الله عنه هذا صحيح.
[تنبيه]: هذا الحديث روي مطوّلًا، ومختصرًا، وممن ساقه مطولًا الإمام أحمد رحمه الله، فقال في "مسنده":
(17401)
حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عاصم، سمع زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عَسّال المرادي، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم، قال: فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم؛ رضا بما يطلب، قلت: حَكّ في نفسي مسح على الخفين، وقال سفيان مرة: أو في صدري بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتك: أسألك، هل سمعت منه في ذلك شيئًا؟ قال: نعم كان يأمرنا إذا كنا سَفْرًا، أو مسافرين أن لا نَنْزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم، قال: قلت له هل سمعته يذكر الْهَوَى، قال: نعم بينما نحن معه في مسيرة، إذ ناداه أعرابي بصوت جَهْوَريّ، فقال: يا محمد، فقلنا ويحك، اغضض من صوتك، فإنك قد نُهيت عن ذلك، فقال: والله لا أغضض من صوتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هاء، وأجابه على نحو من مسألته، وقال سفيان مرة: وأجابه نحوا مما تكلم به، فقال: أرأيت رجلًا أَحَبَّ قومًا، ولمّا يلحق بهم؟ قال: "هو مع من أحب"، قال: ثم لم يزل يحدثنا حتى قال: "إن من قبل المغرب لبابًا مسيرة عرضه سبعون، أو أربعون عامًا، فتحه الله عز وجل للتوبة، يوم خلق السموات والأرض، ولا يغلقه حتى تطلع الشمس منه.
وفي رواية: وذلك قول الله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} الآية [الأنعام: 158].
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا (39/ 226) بهذا السند، ويعيده بجزء مسح الخفين من طريق ابن عيينة، عن عاصم برقم (478)، وأخرجه (الشافعيّ) 1/ 33 و (عبد الرزاق)
(792 و 793 و 795) و (ابن أبي شيبة) 1/ 177 و 178 و (الحميديّ) في "مسنده"(881) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 239 و 240 و 241 و (الدارميّ) في "سننه"(363) و (الترمذيّ)(96 و 2387 و 3535 و 3536) و (النسائي)(1/ 83 و 98) وفي "الكبرى"(131 و 143 و 144) و (ابن خزيمة)(17 و 193 و 196) و (ابن حبّان)(1100) و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" 1/ 82 و (الطبراني)(7353) و (البيهقيّ) في "الكبرى" 1/ 276 و (البغويّ) في "شرح السنّة"(161).
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على طلب العلم.
2 -
(ومنها): بيان الخروج في طلب العلم.
3 -
(ومنها): بيان محبّة الملائكة لطالب العلم، وبسط أجنحتها له؛ رضًا بصنيعه.
4 -
(ومنها): بيان شرف الآدميّ المطيع لربّه، حيث تخضع له الملائكة الكرام، وتحفّه بأجنحتها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
227 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْنُ أَبِي شَيْبةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، عَنْ المقْبُرِيِّ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَن جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا، لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لخيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ، أَوْ يُعَلِّمُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ المُجَاهِدِ في سبِيلِ اللَّه، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْره").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبو بَكْرِ بن أَبِي شَيبةَ) المذكور قريبًا.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسماعِيلَ) الحارثي، أبو إسماعيل المدني، كوفيّ الأصل، صدوقٌ،
صحيح الكتاب [8] 17/ 130.
3 -
(حُمَيْدُ بْنُ صَخْرٍ) هو: حُميد بن زياد، أبو صخر بن أبي المخارق الخْرّاط، صاحب الْعَبَاء، مدنيّ سكن مصر، ويقال: هو حميد بن صخر، أبو مودود الخرّاط، وقيل: هما اثنان، صدوقٌ يَهِمُ [6].
رأى سهل بن سعد، وروى عن أبي صالح السمان، وأبي حازم سلمة بن دينار، ونافع مولى ابن عمر، وكريب، ومكحول، وأبي سعيد المقبريّ، ويزيد بن قسيط، وشريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، وسعيد المقبريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه سعيد بن أبي أيوب، وحَيْوَة بن شُريح، وابن وهب، ويحيى القطان، وضمام بن إسماعيل، وحاتم بن إسماعيل، وغيرهم.
قال أحمد: ليس به بأس. وقال عثمان الدارمي عن يحيى: ليس به بأس. وقال إسحاق بن منصور، وابن أبي مريم عن يحيى: ضعيف، وكذا قال النسائي. وقال ابن عدي -بعد أن روى له ثلاثة أحاديث-: وهو عندي صالح، وإنما أُنكِر عليه هذان الحديثان:
"المؤمن يألف"، وفي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيمًا، ثم قال في موضع آخر: حميد بن صخر، وعنه حاتم بن إسماعيل، ضعفه النسائي، وأخرج له ابن عدي غير تلك الأحاديث، وقال: وله أحاديث، وبعضها لا يتابع عليه. وكذا فرق بينهما ابن حبان، وبَيَّن البغوي في "كتاب الصحابة" أن حاتم بن إسماعيل وَهِمَ في قوله: حميد بن صخر، وإنما هو حميد بن زياد، أبو صخر، وهو مدني صالح الحديث، وقال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال أبو إسحاق الصريفيني: مات سنة (89) وقيل: سنة (192)، قال الحافظ: رأيت ذلك بخط مغلطاي، وفيه نظر. انتهى (1).
(1)"تهذيب التهذيب" 1/ 495.
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في "مسند علي رضي الله عنه"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم 227 و 1489 و 3840 و 4061.
4 -
(المقْبُرِيُّ) سعيد بن أبي سعيد كيسان المدنيّ الثقة المذكور في الباب الماضي.
5 -
(أبو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ جَاءَ مَسْجدِي
هَذَا) أراد المسجد النبويّ، وتخصيصه بالذكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلا للكلام حينئذ، وحكم سائر المساجد كحكمه. قاله السنديّ (1).
قال الجامع -عفا الله عنه-: يؤيّد الإطلاق حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلّم خيرًا، أو يُعلّمه، كان له أجر معتمر تامّ العمرة، فمن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلّم خيرًا، أو يعلّمه، فله أجر حاجّ تامّ الحجة". رواه الحاكم، وصححه، ووافقه الذهبيّ. والله تعالى أعلم.
(لم يَأْتِهِ إِلَّا لخيْرٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه غير آتٍ إلا لأجل خير (يَتَعَلَّمُهُ) من غيره (أَوْ يُعَلِّمُهُ) لغيره.
قال السنديّ: والكلام فيمن لم يأت للصلاة، وإلا فالإتيان لها في الأصل هو المطلوب في المساجد انتهى (2)(فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ المُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللَّه) وجه مشابهة طلب العلم بالجهاد في سبيل الله أنه إحياء للدين، وإذلال للشيطان، وإتعابٌ للنفس، وكسر ذُرى اللذّة، كيف وقد أُبيحِ له التخلّف عن الجهاد، فقال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية [التوبة: 122](وَمَن جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ) أي ممن لم
(1)"شرح السنديّ" 1/ 149.
(2)
المصدر السابق.
يأت للصلاة كما تقدّم (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غيره") أي بمنزلة من دخل السوق، لا يبيع ولا يشتري، بل ينظر إلى أمتعة الناس، فهل يحصل له بذلك فائدة؟ فكذلك هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أعله الدارقطني، وصححه الشيخ الألباني، وقال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح، احتجّ مسلم بجميع رواته، رواه الحاكم في "المستدرك" من طريق حميد بن صخر، وقال: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين، فقد احتجّا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، قال: ولا أعلم له علّة.
قال البوصيريّ: قد أعله الدارقطنيّ في "علله" بأنه اختلف فيه على سعيد المقبريّ، فرواه حميد عنه هكذا، وخالفه عبيد الله بن عمر، فرواه عن المقبريّ، عن عمر ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن كعب الأحبار قولَه، ورواه ابن عجلان عن المقبري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن كعب قولَه، وقول عبيد الله بن عمر أشبه بالصواب.
وقول الحاكم: إن الشيخين احتجّا بجميع رواته فيه نظرٌ، فلم يحتجّ البخاري بحميد، ولا أخرج له في "صحيحه"، وإنما روى له في "كتاب الأدب المفرد" حديثين، نعم أخرج له مسلم في "صحيحه".
رواه محمد بن يحيى بن أبي عمر في "مسنده" عن المقبريّ، عن حيوة، عن أبي صخر حميد بن صخر به، وأبو يعلى الموصليّ، ثثا أبو بكر بن أبي شيبة، فذكره. انتهى كلام البوصيريّ -رحمه الله تعالى- (1).
(1)"مصباح الزجاجة" 1/ 95 - 96.
قال الجامع -عفا الله عنه-: الحديث صحيح إن سَلِمَ مما أعله به الدارقطنيّ، فإنه إعلال قويّ.
وقد أخرج له الحاكم شاهدًا من طريق ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أُمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلّم خيرًا، أو يُعلّمه، كان له أجر معتمر تامّ العمرة، فمن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلّم خيرًا، أو يعلّمه، فله أجر حاجّ تامّ الحجة". قال: وقد احتجّ البخاريّ بثور بن يزيد في الأصول، وخرج له مسلم في الشواهد، ووافقه الذهبيّ على شرط البخاريّ، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا (39/ 227) بهذا السند، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 209) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 350 و 418 و 527 و (ابن حبان) في "صحيحه"(87) و (الطبراني)(5911) و (الحاكم) في "مستدركه" 1/ 91، وأخرجه أيضًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه 1/ 91، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله أول الكتاب قال:
228 -
(حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّار، حَدثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدثَنَا عُثمانُ بْنُ أبِي عَاتِكَةَ، عَنْ عِليِّ بْنِ يَزِيدَ، عَن القَاسِمِ، عَن أَبِي أُمَامَةَ، قَال: قَالَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبضُهُ أنْ يُرْفَعَ -وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى والتي تَلِي الإبْهَامَ- هَكَذا"، ثُمَّ قَال: "الْعَالم وَالمتعَلِّمُ شرِيكَانِ في الْأَجْر، وَلَا خَير في سَائِرِ النَّاسِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هِشام بن عمَّار) الدمشقي المذكور قريبًا.
2 -
(صَدَقَةَ بْنُ خَالِدٍ) الأمويّ، أبو العباس الدمشقي، ثقة [8] 35/ 199.
3 -
(عُثمانُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ) واسمه سليمان الأزديّ، أبو حفص الدمشقيّ القاصّ، ضعّفوه في روايته عن عليّ بن يزيد الألهانيّ [7].
رَوَى عن خالد بن اللجلاج، وسليمان بن حبيب، وعلي بن يزيد الألهاني، وغيرهم.
ورَوَى عنه الوليد بن مسلم، وصدقة بن خالد، ومحمد بن شعيب بن شابور، وغيرهم.
قال الدُّوري عن ابن معين: ليس بالقوي، وقال في موضع آخر: ليس بشيء، وكذا قال الغلابي، وابن الجنيد، وعثمان الدارمي عن ابن معين، وزاد الغلابي عنه: أحاديثُهُ أصح من أحاديث عبيد الله بن زَحْر. وقال الجوزجاني: رأيت يحيى بن معين لا يحمل حديثه. وقال عثمان الدارمي: سمعت دُحيما يُثني عليه، وينسبه إلى الصدق. وقال ميمون بن الأصبغ عن أبي مسهر: كان قاصّا، فإن كان وَهَمٌ فمنه. وقال إسحاق بن سيار عن أبي مسهر: ضعيف الحديث. وقال إسحاق: وهو كما قال. وقال أبو حاتم عن دُحيم: لا بأس به، كان قاصَّ الجند، ولم ينكر حديثه عن غير علي بن يزيد، والأمر من علي بن يزيد. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا بأس به، بليّتُهُ من كثرة روايته عن علي بن يزيد، فأما روايته عن غير علي فهو مقاربٌ يُكتَب حديثه. وقال أبو زرعة الدمشقي: شيخان معناهما واحد: عثمان بن أبي العاتكة، ومُعَان بن رِفاعة، وأخبرني دُحيم أن معانا أرفعهما. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث. وقال أبو داود: صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال في موضع آخر: ضعيف.
وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال دُحَيم: مات سنة نيف وأربعين ومائتين. وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن العلاء، شيخ قديم، قال: وُلِّينا الفضلَ بن صالح سنة (174) سبع سنين ومات عثمان بن أبي العاتكة، وهو علينا. وقال خليفة: مات سنة (155)، وكان ثقة كثير الحديث.
وقال ابن عدي: ثنا جعفر بن أحمد بن عاصم، عن هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، عن عثمان، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة بثلاثين حديثًا، عامتها ليست مستقيمة، وفيها أَرَّخه ابن قانع، وابنُ سعد عن الواقدي، وقال: كان ثقة في الحديث.
وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة ثنتين وخمسين. وقال العجلي: لا بأس به.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 228 و 289 و 1857 و 3662 و 4090.
4 -
(عَليُّ بْنُ يَزِيدَ) بن أبي هلال الألهانيّ، ويقال: الْهِلاليّ، أبو عبد الملك، ويقال: أبو الحسن الدمشقيّ، صاحب القاسم بن عبد الرحمن، ضعيف [6].
رَوَى عن القاسم بن عبد الرحمن، صاحب أبي أمامة نسخة كبيرةً، وعن مكحول الشامي.
ورَوَى عنه عبيد الله بن زَحْر، وعثمان بن أبي العاتكة، والوليد بن سليمان بن أبي السائب، ومُعان بن رِفاعة السلمي، وغيرهم.
قال حرب عن أحمد: هو دمشقي، كأنه ضعفه، قال: وقال محمد بن عمر: قال يحيى بن معين: علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة ضعاف كلها. وقال يعقوب: علي بن يزيد واهي الحديث، كثير المنكرات. وقال الغلابيّ عن ابن معين: أحاديث عبيد الله بن زَحْر عن عليّ بن يزيد ضعيفة. وقال محمد بن يزيد المستملي عن أبي مسهر: ما أعلم إلا خيرًا. وقال الجوزجاني: رأيتُ غير واحد من الأئمة ينكر أحاديثه التي يرويها عنه عبيد الله بن زَحْر، وابن أبي العاتكة، ثم رأيت جعفر بن الزبير، وبشر بن نمير يرويان عن القاسم أحاديث تشبه تلك الأحاديث، وكان القاسم خيارًا فاضلًا، ممن أدرك أربعين من المهاجرين والأنصار، وأظنهما أُتيا من قِبَل علي بن يزيد، على أن بشر ابن نمير، وجعفر بن الزبير ليسا بحجة. وقال أبو زرعة الرازي: ليس بالقوي.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال. ضعيف الحديث، أحاديثه منكرة.
وقال محمد بن إبراهيم الكناني الأصبهاني: قلتُ لأبي حاتم: ما تقول في أحاديث في ابن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة؟ قال: ليست بالقوية، هي ضعاف. وقال البخاري: منكر الحديث، ضعيف. وقال الترمذي، والحسن بن علي الطوسى: يُضَعَّف في الحديث، وفي موضع آخر: قد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد، وضعفه. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال في موضع آخر: متروك الحديث. وقال ابن يونس: فيه نظر. وقال الأزدي، والدارقطني، والبرقيّ: متروك.
وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن عدي: ولعلي بن يزيد أحاديثُ ونُسَخٌ، ولعبيد الله بن زَحْر عنه أحاديث، وهو في نفسه صالح، إلا أن يَروي عنه ضعيف، فيؤتى من قِبَل ذلك الضعيف. وقال الساجي: اتفق أهل العلم على ضعفه. وقال أبو نعيم الأصبهاني: منكر الحديث. وذكره البخاري في "الأوسط" فيمن مات في العشر الثاني بعد المائة.
تقرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم 228 و 245 و 289 و 299 و 1857 و 3662 و 3954.
5 -
(الْقَاسِمُ) بن عبد الرحمن، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ، مولى آل أبي سفيان بن حَرْب الأمويّ، صاحب أبي أُمامة، صدوق يرسل كثيرًا [3].
روى عن علي، وابن مسعود، وتميم الداري، وعدي بن حاتم، وعقبة بن عامر، ومعاوية، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وعمرو بن عبسة، وعنبسة بن أبي سفيان، وغير واحد، وقيل: لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أبي أمامة.
ورَوَى عنه علي بن يزيد الألهاني، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، والوليد بن جَمِيل، ويحيى بن الحارث الذماري، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، وغيرهم.
قال ابن سعد: له حديث كثير، قال بعض الشاميين: إنه أدرك أربعين بدريّا، وقال الدوري عن ابن معين: ليس في الدنيا القاسم بن عبد الرحمن شاميّ غير هذا.
وقال البخاري: سمع عليًّا، وابن مسعود، وأبا أمامة، روَى عنه العلاء بن الحارث،
وابن جابر، وكثير بن الحارث، ويحيى بن الحارث، وسليمان بن عبد الرحمن أحاديث مقاربة، وأما من يُتكَلَّم فيه مثل جعفر بن الزبير، وبشر بن نمير، وعلي بن يزيد، وغيرهم، ففي حديثهم عنه مناكير واضطراب. وقال أبو حاتم: روايته عن علي، وابن مسعود، وعائشة مرسلة. وقال الأثرم: سمعت أحمد، وذُكر له حديثٌ عن القاسم الشاميّ، عن أبي أمامة، فأنكره، وحَمَل على القاسم، وقال يروي عنه علي بن يزيد أعاجيب، وتكلم فيها، وقال: ما أرى هذا إلا من قِبَل القاسم، قال أحمد: وإنما ذهبت رواية جعفر بن الزبير؛ لأنه إنما كانت روايته عن القاسم، قال أحمد: لمّا حَدّث بشر بن نمير عن القاسم، قال شعبة ألحقوه به.
وقال جعفر بن محمد بن أبان الحراني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أرى البلاء إلا من القاسم. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: القاسم ثقة، والثقات يروون عنه هذه الأحاديث، ولا يرفعونها، ثم قال: يجيء من المشايخ الضعفاء ما يدل حديثهم على ضعفهم، وقال ابن معين في موضع آخر: إذا رَوى عنه الثقات أرسلوا ما رفع هؤلاء.
وقال العجلي: ثقة يُكتب حديثه، وليس بالقوي. وقال يعقوب بن سفيان، والترمذي: ثقة. وقال الجوزجاني: كان خيارًا فاضلًا، أدرك أربعين رجلا من المهاجرين والأنصار.
وقال أبو حاتم: حديث الثقات عنه مستقيم، لا بأس به، وإنما يُنكر عنه الضعفاء. وقال الغلابي: منكر الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، وقال في موضع آخر: قد اختلف الناس فيه.
وقال البخاري: قال أبو مسهر: حدثني صدقة بن خالد، حدثثا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: ما رأيت أحدًا أفضل من القاسم، كنا بالقسطنطينية، فكان الناس يرزقون رغيفين رغيفين في كل يوم، فكان يتصدق برغيف، ويصوم، ويفطر على رغيف.
وقال ابن حبان: كان يروي عن الصحابة المعضلات. وقال أبو إسحاق الحربي:
كان من ثقات المسلمين.
قال ابن سعد وغيره: مات سنة اثنتي عشرة ومائة، ويقال: سنة ثماني عشرة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
6 -
(أبو أُمَامَةَ) صُديّ بن عجلان الباهليّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه 7/ 48.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) صُدَيّ بن عَجْلان الباهليّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ) الإشارة إلى علم الدين، علم الكتاب والسنّة الذي بُعث به النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وقام بنشره، وأمر بتبليغه، فإنه العلم الذي له الفضل العظيم، والثواب الجسيم، وأما علم الدنيا، فإنه إن أراد به صاحبه وجه الله، فهو خير كسائر الخيرات، يؤجر عليه أجر أيّ خير، وليس له فضل العلم النبويّ، وقد سبق بيان هذا مستوفًى، فلا تغفل (قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ) أي يؤخذ من الناس، ثم فسّر قبضه بقوله: (وَقَبْضُهُ أَنْ يُرْفَعَ) بالبناء للمفعول، أي يرفع من بين الناس، بموت أهله، لا أنه يمسح من صدورهم، كما بين ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"، متّفق عليه.
وفي رواية: "إن الله لا يَنْزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم. . . ." الحديث.
قال في "الفتح": وكان تحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع، كما رواه أحمد، والطبرانيّ من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه قال: لمّا كان في حجة الوداع قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا العلم قبل أَنْ يُقبض، أو يُرفع"، فقال أعرابيّ: كيف يُرفع؟ فقال: "ألا إن ذهاب العلم ذهاب حَمَلَته" ثلاث مرّات.
قال ابن المنيّر: محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دلّ على عدم وقوعه. انتهى (1).
(وَجَمَعَ) النبي صلى الله عليه وسلم إشارةً إلى قرب أوان القبض؛ لما بينهما من الاتصال، أو جمع يشير بهما إلى كيفيّة الرفع إلى السماء بأن أشار بهما إلى جهة العلو. قاله السنديّ (2)(بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ) بكسر الهمزة، مع فتح الموحّدة، أفصح لغاتها العشر، وقد تقدّمت (الْوُسْطَى) بضم، فسكون: تأنيث الأوسط (وَالتِي تَلي الْإِبْهَامَ هَكَذَا) أشار به الراوي إلى كيفية الجمع (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (الْعَالمُ وَالمتعَلِّمُ شَرِيكَانِ في الْأَجْرِ) لكون كلّ منهما ممن أراد الله به خيرًا، حيث يسّر له العلم، هذا بنشره بين الناس، وهذا بطلبه حتى يهتدي به، ويهدي به الناس (وَلَا خَيْرَ في سَائِرِ الناسِ) أي الذين لا يشتغلون بالعلم، نشرًا أو طلبًا، والمراد بالخير خير خاصٌّ، وهو الذي سبق أنه يناله العلماء بسبب العلم، وأما مطلق الخير الذي يناله أَيُّ مؤمن بإيمانه، وعمله الصالح فلا يراد هنا، فتنبّه. قال السنديّ رحمه الله: هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين"، فأشار إلى أن طالب الفقه كالفقيه، ومن لا فقه له، ولا طلب فلا خير له؛ لتنزيل الحرمان عن خير الفقه منزلة الحرمان عن مطلق الخير. انتهى (3).
وقال بعضهم: قوله: "ولا خير" أي كامل "في سائر الناس"، أي في باقي الناس بعد العالم والمتعلّم، وذلك لأن الخير كله في العلم وأهله، فمن لم يحصّله مع قدرته على تحصيله فلا خير فيه، بل لا يُعدّ من الناس، ولأن الخاصيّة التي يتميّز بها الإنسان عن سائر البهائم هو العلم والعمل، فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك الشرف بقوّة شخصه، فإن الجمل الذي ضُرب به المثل في عجيب خلقه أقوى منه، ولا
(1)"الفتح" 1/ 257.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 150.
(3)
المصدر المذكور.
بكبر جثّته، فإن الفيل أعظم منه جثة، ولا بشجاعته وقوّته، فإن الأسد أشجع منه وأقوى، ولا لأكله كثيرًا، فإن الجمل أوسع منه بطنًا، وأكثر أكلا، ولا ليجامع النساء، فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يُخلق إلا للعلم والعمل، قال الله عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فبهذه الخاصيّة الخاصّة يتميّز عن غيره من البهائم، فإذا عَدم العلم بقي معه القدر المشترك بينه وبين سائر البهائم، وهي الحيوانيّة المحضة، فلا يبقى فيه فضل عليهم، بل قد يبقى شرًّا منهم، كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقال {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، فهؤلاء هم الجهال الذين لم يحصل لهم حقيقة الإنسانيّة التي يتميّز بها صاحبها عن سائر الحيوانات، قال بعضهم: ليت شعري أي خير أدرك من فاته العلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع -عفا الله عنه-: حديث أبي أُمامة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف، وهو حديث ضعيف؛ لضعف علي بن يزيد الألهانيّ، فالجمهور على تضعيفه، بل قال بعضهم: منكر الحديث، وقال بعضهم: متروك الحديث، كما سبق في ترجمته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
229 -
(حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ هِلَال الصَّوَّافُ، حَدَّثنَا دَاوُد بن الزِّبْرِقَان، عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيسٍ، عن عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَاد، عَن عَبْدِ الله بْنِ يَزيد، عَنْ عَبد الله بنِ عَمْرو، قَالَ: خَرجَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، مِنْ بَعْض حُجَرِهِ، فَدَخَلَ المسْجِدَ، فإِذَا هُوَ بِحَلقَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، وَيَدْعُونَ الله، وَالْأُخْرَى يَتعَلَّمون وَيُعَلَّمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "كلٌّ عَلَى خَيرٍ، هَؤُلَاءِ يَقرَءون الْقرْآنَ، وَيَدعُونَ الله، فَإِن شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شاءَ
منعهُم، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَلَّمونَ، وإنما بُعِثت مُعَلِّما، فجلَسَ مَعَهم").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(بِشْر بن هلَالٍ الصوَّافُ) أبو محمد النُّمَيريِّ -بضم النون، مصغّرا- ثقة [10].
رَوَىَ عن جعفر بن سليمان، وعبد الوارث بن سعيد، ويزيد بن زريع، ويحيى القطان، وغيرهم.
ورَوَى عنه الجماعة، إلا البخاري، وإسحاق الكَوسج، وبقِي بن مخلد، وحرب الكرماني، وابن خزيمة، وأبو حاتم، وقال: محله الصدق، وكان أيقظ من بشر بن معاذ. وقال ابن حبان في "الثقات": يُغْرِب. ووثقه النسائي في "أسماء شيوخه"، وأبو علي الجياني في "أسماء شيوخ أبو داود". وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (247). وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.
2 -
(دَاوُد بْنُ الزِّبْرقَانِ) الرقاشي، أبو عمرو، وقيل: أبو عمر البصري، نزيل بغداد، متروك، [8].
رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وأَيوب، وإسماعيل بن مسلم، وبكر بن خنيس، وداود بن أبي هند، وغيرهم.
ورَوى عنه سعيد بن أبي عروبة، وشعبة بن الحجاج، وبقية بن الوليد، وأبو صالح المصري، وبشر بن هلال الصواف، وعلي بن حجر المروزي وغيرهم.
قال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المديني: كتبت عنه شيئًا يسيرًا، ورميت به، وضعفه جدّا. وقال الجوزجاني: كذاب. وقال يعقوب بن شيبة، وأبو زرعة: متروك. وقال البخاري: مقارب الحديث. وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرة: ليس بشيء، وقال أيضًا: تُرِك حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه عن كل من رَوَى عنه مما لا يُتابعه عليه أحد، وهو في جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. وقال ابن خِرَاش، ويعقوب بن سفيان، والساجي، والعجلي: ضعيف الحديث. وقال
الأزديّ: متروك.
وقال ابن حبان: كان نَخّاسا بالبصرة، اختَلَف فيه الشيخان: أما أحمد فحسن القول فيه، ويحيى وَهّاه، قال: وكان داود صالحًا يحفظ، ويذاكر، ولكنه كان يَهِمُ في المذاكرة، ويَغْلَط في الرواية إذا حدّث من حفظه، ويأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، إلى أن قال: وداود عندي صدوق فيما وافق الثقات، إلا أنه لا يُحتج به إذا انفرد. وقال البزار: منكر الحديث جدّا، قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: مات سنة نيف وثمانين ومائة.
تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
3 -
(بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ) -بالخاء المعجمة، والنون، آخره سين مهملةٌ، مصغّرًا- الكوفيّ العابد، نزيل بغداد، صدوق، له أغلاط [7].
رَوَى عن ثابت، وليث بن أبي سُليم، وعبد الرحمن بن زياد، ومحمد بن سعيد الشامي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم.
ورَوَى عنه أبو النضر، ووكيع، وإبراهيم بن طهمان، وداود بن الزِّبْرِقان، وآدم بن أبي إياس، وحجاج الأعور، وعلي بن الجعد، وغيرهم.
قال ابن أبي مريم عن يحيى بن معين: صالح لا بأس به، إلا أنه يَروي عن ضعفاء، ويُكتب من حديثه الرِّقاق، وقال عبّاس وغيره عنه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: سألت ابن المديني عنه، فقال للحديث رجال. وقال ابن عمار الموصلي: ليس بمتروك، وهو شيخ، صاحب غزو. وقال أحمد بن صالح المصري، وابن خراش، والدارقطني: متروك. وقال عمرو بن علي، ويعقوب بن شيبة، والنسائي: ضعيف، زاد يعقوب: وكان يوصف بالزهد والعبادة. وقال النسائي أيضًا: ليس بالقوي. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كان رجلًا صالحًا غَزّاءً، وليس بقوي في الحديث، قلت: هو متروك الحديث؟ قال: لا يبلغ الترك. وقال أبو داود: ليس بشيء. وذكره يعقوب بن سفيان في "بابُ من يُرْغَبُ عن الرواية عنهم".
وقال الجوزجاني: كان يَروِي كل منكر، وكان لا بأس به في نفسه. وقال ابن عدي: وهو ممن يُكتب حديثه، ويحدث بأحاديث مناكير عن قوم لا بأس بهم، وهو في نفسه رجل صالح، إلا أن الصالحين يُشَبَّه عليهم الحديث، وربما حدثوا بالتوهم، وحديثه في جملة الضعفاء، وليس ممن يُحتج بحديثه. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألت أبي عنه؟ فضعفه. وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث. وقال العقيليّ: ضعيف. وقال البزار: ليس بقوي. وقال ابن حبان: رَوَى عن البصريين والكوفيين أشياء موضوعة، يسبق إلى القلب أنه المُتَعَمِّدُ لها. وقال ابن أبي شيبة: ضعيف الحديث، وهو موصوف بالرواية والزهد. وأَرَّخه الذهبي في حدود السبعين ومائة.
تفرد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيادٍ) بن أنعُم الإفريقيّ، قاضيها، ضعيف في حفظه [7] 8/ 54.
5 -
(عَبْدُ اللَّه بْنُ يَزِيدَ) المعافريّ، أبو عبد الرحمن الحُبُليّ -بضم المهملة، والموحّدة- المصريّ، ثقة [3].
رَوَى عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر، وأبي ذر، وفَضالة بن عبيد، وعُمارة بن شَبيب، وأبي أيوب الأنصاري، وغيرهم.
ورَوَى عنه أبو هانئ حميد بن هانئ، وشُرَحبيل بن شَريك، وعقبة بن مسلم، وعبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، وربيعة بن سيف، ويزيد بن عَمْرو المُعَافري، وغيرهم.
قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال ابن يونس: يقال: تُوُفّي بإفريقية سنة مائة، وكان صالِحًا فاضلًا. وقال ابن سعد، والعجلي: ثقة، وقال ابن خلفون: يقال: إنه تُوُفّي بقرطبة. وقال أبو بكر المالكي في "تاريخ القيروان": بعثه عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية؛ لِيُفَقِّههم، فَبَثَّ فيها علمًا كثيرًا، ومات بها، ودُفِن بباب تونس.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب تسعة
أحاديث، برقم 229 و 425 و 446 و 1614 و 1855 و 1859 و 2785 و 4138 و 4300.
6 -
(عَبْدُ الله بن عَمْرٍو) بن العاص رضي الله عنهما 8/ 52.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله بن عَمرٍو) بن العاص رضي الله عنهما أنه (قَالَ: خَرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ) أي يومًا من الأيام (مِن بَعْضِ حُجَرِهِ) بضم، ففتح: جمع حُجرة، بضم، فسكون: البيت، ويجمع أيضًا على حُجُراتٍ، مثلُ غرفة وغُرَف وغُرُفَات (فَدَخَلَ المسجِدَ) النبويّ (فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ) أي بجماعتين مجتمعتين مستديرتين، فـ "إذا" هي الفُجائيّة، أي ففاجأه وجود حلقتين، تثنية حَلْقة بفتح، فسكون، على المشهور.
قال الفيّوميّ: حَلْقَةُ الباب بالسكون من حديد وغيره، وحَلقَةُ القوم الذين يجتمعون مُستديرين، والحَلْقَةُ السلاح كلّه، والجمع حَلَقٌ بفتحتين على غير قياس، وقال الأصمعيّ: والجمعُ حِلَقٌ بالكسر، مثلُ قَصْعَةٍ وقِصَعٍ، وبَدْرَةٍ وبِدَرٍ، وحَكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن الحَلَقَةَ بالفتح لغة في السكون، وعلى هذا فالجمع بحذف الهاء قياس، مثلُ قَصَبَةٍ وقَصَبٍ. انتهى (1).
(إِحدَاهُمَا) أي إحدى الحلقتين (يَقْرَءُون القرْآنَ، وَيَدعون اللَّه) أي يطلبون منه تعالى أن يقضي حوائجهم (وَالْأُخْرى) أي الحلقة الثانية (يَتعَلَّمونَ) أمور دينهم (وَيُعَلِّمُونَ) الناس، أي بعضهم طلاب العلم، وبعضهم علماء يفيدون الناس (فَقَالَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلٌّ) بتنوين العوض، أي كل الحلقتين (عَلَى خيْرٍ) التنوين للتعظيم، أي على خير عظيم (هَؤُلَاءِ) مشيرًا إلى إحدى الحلقتين (يَقْرَءُونَ الْقُرآن، وَيَدْعُونَ اللَّه) تعالى (فَإِنْ شَاءَ أَعطَاهُمْ) أي مطلوبهم؛ إذ لا وجوب عليه تعالى، لكن في ترك هذا فيما بعدُ تنبيهٌ على أن إعطاء أولئك مطلوبهم كالمتعيّن المتحقّق، ففيه إشارة إلى بَوْنٍ بعيدٍ بينهما،
(1)"المصباح المنير" 1/ 146 - 147.
وقد حَمَل بعضهم حديث "من يرد الله به خيرًا" على هذا المعنى، فقال: لا يدري أحد أنه أريد له الخير في الدنيا إلا الفقهاء، وكأنه مبنيّ على أن من يريد له الخير يفقهه لا غيره؛ بناءً على اعتبار مفهوم الشرط، لكن هذا المعنى بعيد، وهذا الإطلاق لا ينبغي شرعًا، فليُتأمل. قاله السنديّ (1)(وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ) مشيرًا إلى الحلقة الثانية (يَتَعَلَّمُونَ، وَإِنَّما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا) فيه إشعار بأنهم منه، وهو منهم، ولذا جلس معهم، كما قال (فَجَلَسَ مَعَهُمْ) تفضيلًا لهم، فدلّ على أن طلب العلم، ونشره، وتعليمه للناس أفضل من قراءة القرآن، والذكر، والدعاء، وذلك لأنه وظيفة الأنبياء، ومهمة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع -عفا الله عنه-: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا ضعيف جدًّا؛ لأن في سنده داود بن الزِّبْرقان، متروك، بل كذبه الجوزجانيّ (2)، وبكر بن خُنيس أيضًا ضعفه بعضهم، وعبد الرحمن بن زياد الإفريقيّ ضعيف أيضًا.
والحديث أخرجه (المصنّف) هنا (39/ 229) بهذا السند، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول أحد غيره، وأخرجه (الدارميّ) في "سننه"(355)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الشيخ الألبانيّ في "سلسلة الأحاديث الضعيفة": وقد اشتهر الاحتجاج بهذا الحديث على مشروعيّة الذكر على الصورة التي يفعلها بعض أهل الطرق من التحلّق، والصياح في الذكر، والتمايل يمنة ويسرةً وأماما وخلفًا مما هو غير مشروع باتفاق الفقهاء المتقدّمين، ومع أن الحديث لا يصحّ كما علمت، فليس فيه هذا الذي زعموه، بل غاية ما فيه الاجتماع على ذكر الله تعالى، وهذا فيه أحاديث صحيحة في "صحيح مسلم"، وغيره، تغني عن هذا الحديث، وهي لا تفيد أيضًا إلا مطلق
(1)"شرح السنديّ" 1/ 151.
(2)
هذا هو الصواب، كما في "تهذيب التهذيب"، فما وقع في "التقريب"، وتبعه بشار عواد "كذبه الأزديّ" فغلط، فتنبّه.
الاجتماع، أما ما يضاف إليه من التحلّق، وما قُرن معه من الرقص، فكله بدعٌ وضلالاتٌ، يتنزه الشرع عنها. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى- (1)، وهو بحثٌ نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)"السلسلة الضعيفة" 1/ 23 رقم (11).