الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
46 - (بَابُ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
261 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا عُمارَةُ (1) بْنُ زَاذَانَ، حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ الحكَم، حَدَّثَنَا عَطاَءٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"مَا مِنْ رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا، فَيَكْتُمُهُ إِلَّا أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ الحافظ [10] 1/ 1.
2 -
(أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) الشاميّ، نزيل بغداد، أبو عبد الرحمن، ويلقّب شاذان، ثقة [9].
رَوَى عن شعبة، والحمادين، والثوري، والحسن بن صالح، وجرير بن حازم، وجماعة.
ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وابنا أبي شيبة، وعلي بن المديني، وأبو ثور، وعمرو الناقد، وأبو كريب، والصغاني، والدارمي، والحارث بن أبي أسامة، خاتمة أصحابه، وغيرهم.
قال ابن معين: لا بأس به. وقال ابن المديني: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال ابن سعد: صالح الحديث، مات سنة (208)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات أول سنة ثمان.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث، برقم (261) و (599) و (1593) و (1991) و (2195) و (3476) و (3746) و (3765) و (4098).
3 -
(عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ) الصَّيْدَلانيّ، أبو سلمة البصريّ، صدوقٌ، كثير الخطإ [7].
روى عن مكحول، وثابت، والحسن البصري، وعلي بن الحكم البناني، وغيرهم.
(1) بضمّ العين المهملة، فما وقع في نسخة بشّار من ضبطه بالكسر فمن التصحيفات، فتنبّه.
وروى عنه عبد الله بن نمير، وأسود بن عامر، وحَبّان بن هلال، وروح بن عبادة، وغيرهم.
قال الأثرم عن أحمد: يروي عن ثابت عن أنس أحاديث مناكير. وقال مسلم، وعبد الله بن أحمد عن أحمد: شيخ ثقة، ما به بأس. وقال ابن معين: صالح. وقال البخاريّ: ربما يضطرب في حديثه. وقال الآجري عن أبي داود: ليس بذاك، وقال أيضًا: حج سبعا وخمسين حجة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة.
وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، ليس بالمتين. وقال ابن عديّ: وهو عندي لا بأس به، ممن يُكتب حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدارقطني: ضعيف، وزاد الْبَرْقاني عنه: يعتبر به. وقال البخاري: مولى بني تيم الله بن ثعلبة. وقال ابن عمار الموصلي: ضعيف. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال الساجي: فيه ضعف، ليس بشيء، ولا يقوى في الحديث.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ الحكَمِ) الْبُنَاني -بضم الموحّدة، وبنونين، الأولى خفيفة- أبو الحكم البصريّ، ثقة، ضعّفه الأزديّ بلا حجة [5].
رَوَى عن أنس، وميمون بن مِهران، وأبي عثمان النَّهْدي، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم.
وروى عنه جرير بن حازم، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وعبد الوارث بن سعيد، وجعفر بن سليمان، وعلي بن الفضل، وعمارة بن زاذان، وغيرهم.
قال أبو طالب عن أحمد: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: لا بأس به، صالح الحديث. وقال أبو داود، والنسائيّ: ثقة. ووثقه العجليّ، وأبو بكر البزار، وابن نمير، وغيرهم. وقال الدارقطني: ثقة يُجمَع حديثه. وقال أبو الفتح الأزدي: زائغٌ عن
القصد، فيه لين (1). وقال ابن سعد: هو بُنَانيّ من أنفسهم، وكان ثقةً، وله أحاديث، تُوُفي سنة إحدى وثلاثين ومائة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (3) أو (31)، وقال البخاري في "التاريخ": مات سنة (35).
أخرج له البخاريّ حديثين، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (261) و (309) و (3234).
5 -
(عَطَاَءٌ) بن أبي رَبَاح -بفتح الراء، والموحّدة- واسم أبي رَيَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكي، ثقة فقيه فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3].
رَوَى عن ابن عباس، وابن عَمْرو، وابن عُمَر، وابن الزبير، ومعاوية، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن السائب المخزومي، وعَقِيل بن أبي طالب، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه يعقوب، وأبو إسحاق السبيعي، ومجاهد، والزهري، وأيوب السختياني، وأبو الزبير، والحكم بن عتيبة، والأعمش، والأوزاعي، وابن جريج، وعبد الكريم الجزري، وخلق كثير.
قال ابن المديني: هو مولى حَبِيبة بنت مَيْسرة بن أبي خُثَيم. وقال ابن سعد: كان من موَلَّدي الجْنَد، ونشأ بمكة، وهو مولى لبني فِهْر، أو الجُمَح، وانتهت إليه فتوى أهل مكة، وإلى مجاهد في زمانهما، وأكثر ذلك إلى عطاء، سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس أشلّ أعرج، ثم عَمِي بَعْدُ، وكان ثقةً فقيهًا عالِمًا، كثير الحديث.
وقال الآجري عن أبي داود: كان أبو عطاء نُوْبِيّا، وكان يعمل المكاتل، وذَكَرَ فيه ما تقدم من العيوب، وزاد: وقُطعت يده مع ابن الزبير. وقال ضَمْرة بن ربيعة: سمعت رجلًا يقول: اسم أم عطاء بَرَكة.
وقال ابن معين: كان معَلِّم كُتَّاب. وقال خالد بن أبي نَوْف عن عطاء: أدركت
(1) قد عرفت أنه تحامل بدون حجة، فلا التفات إليه، فتنبّه.
مائتين من الصحابة. وعن ابن عباس أنه كان يقول: تجتمعون إلي يا أهل مكة، وعندكم عطاء. وكذا رُوي عن ابن عمر. وقال أبو عاصم الثقفي: سمعت أبا جعفر يقول للناس، وقد اجتمعوا عليه: عليكم بعطاء، هو والله خير مني. وعن أبي جعفر قال: ما بقي أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء. وقال عبد العزيز بن أبي حاتم عن أبيه: ما أدركت أحدًا أعلم بالمناسك منه.
وقال ابن أبي ليلى: كان عالِمًا بالحج، وكان يوم مات ابن مائة سنة، ورأيته يُفطِر في رمضان، ويقول: قال ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]: إني أطعم أكثر من مسكين. وقال عبد الله بن إبراهيم بن عُمر بن كَيْسان، عن أبيه: أذكر في زمن بني أمية صائحًا يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء. وقال ربيعة: فاق عطاءٌ أهلَ مكة في الْفُتُوَّة. وقال قتادة: قال لي سليمان بن هشام: هل بمكة أحدٌ؟ قلت: نعم أقدم رجل في جزيرة العرب عِلْمًا، قال: مَنْ؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. وقال قتادة: إذا اجتمع لي أربعة، لم أُبال مَن خالفهم: الحسن، وسعيد، وإبراهيم، وعطاء، قال: هؤلاء أئمة الأمصار.
وقال ابن عيينة عن عُمر بن قيس المكي عنه: أعقِلُ مَقْتَل عثمان وقال أبو حفص الباهلي، عن عمر بن قيس: سألت عطاء متى وُلدت؟ قال: لعامين خَلَوَا من خلافة عثمان. وذَكَر أحمد بن يونس الضبي أنه وُلد سنة (27). وقال أبو المليح الرَّقّيّ: مات سنة (114). وقال ميمون: ما خَلَّفَ بعده مثله. وقال يعقوب بن سفيان، والبخاري عن حيوة بن شُريح، عن عباس بن الفضل، عن حماد بن سلمة: قَدِمت مكة، وعطاء حي، فقلت: إذا أفطرت دخلت عليه، فمات في رمضان. وقال أحمد وغير واحد: مات سنة (14)، وقال القطان: مات سنة (14) أو (15)، وقال ابن جريج، وابن عيينة، وآخرون: مات سنة (15)، وقال خليفة: مات سنة (117).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (67) حديثًا.
6 -
(أَبُو هرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا) نافية (مِنْ) زائدة بعد النفي (رَجُلٍ) مبتدأ خبره جملة الاستثناء (يَحْفَظُ عِلْمًا) قيّده بالحفظ؛ إذ لا كتمان بدونه (فَيَكْتُمُهُ) أي إذا سئل عنه، كما في الروايات الآتية، وكأنه ترك ذكره إذ لا يظهر الكتمان قبل ذلك (إِلَّا أُتِيَ بِهِ) بالبناء للمفعول (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حال كونه (مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِن النَّارِ) أي مدخلًا اللجام في فمه؛ لأنه موضع خروج العلم والكلام.
والظاهر أن المراد أنه يحضر المحشر كذلك، ثم أمرُهُ بعد ذلك إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه؛ لأنه أمسك عن قول الحقّ وقتَ الحاجة والسؤال، فجوزي بمثله حيث أمسك الله فمه في وقت اشتداد الحاجة إلى الكلام، والجواب عند السؤال عن الأعمال، ثم لعلّ هذا مخصوص بما إذا كان السائل أهلًا لذلك العلم، ويكون العلم نافعًا، وقال الخطابيّ: هو في العلم الضروريّ، كما لو قال: علّمني الإسلام، والصلاة، وقد حضر وقتها، وهو لا يحسنها، لا في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها. ذكره السنديّ (1).
وقال الطيبيّ: قوله: "بلجام" من باب التشبيه لبيانه بقوله: "من النار"، كقوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، شُبّه ما يوضع في فيه من النار بلجام في فم الدابّة، وهو إنما كان جزاء إمساكه عن قول الحقّ، وخصّ اللجام بالذكر تشبيهًا له بالحيوان الذي سخّر، ومُنع من قصد ما يريده، فإن العالم شأنه أن يدعو الناس إلى الحقّ، ويُرشدهم إلى الطريق المستقيم، قال الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، لا سيّما وقد سئل عما يضطرّه إلى الجواب، فإذا امتنع منه جوزي بما امتنع عن الاعتذار، كما قال الله تعالى:{وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}
(1)"شرح السنديّ" 1/ 170.
[المرسلات: 36]، ويدخل في زمرة مَن قال فهم:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه، ويتعيّن فرضه عليه، كمن رأى من يريد الإسلام، ويقول: علّمني ما الإسلام؟، وكمن يرى حديث عهد بالإسلام لا يُحسن الصلاة، وقد حضر وقتها، ويقول: علّمني كيف أصلي؟، وكمن جاء مستفتيًا في حلال أو حرام يقول: أفتوني، أرشدوني، فإنه يلزم في هذه الأمور أن لا يُمنع الجواب، فمن فعل كان آثمًا مستحقًّا للوعيد، وليس كذلك الأمر في نوافل الأمور التي لا ضررة بالناس إلى معرفتها، ومنهم من يقول هو علم الشهادة. انتهى كلام الطيبيّ (1).
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكره الطيبيّ حسنٌ، غير قوله:"باب التشبيه إلخ"؛ إذ لا حاجة هنا لدعوى المجاز؛ لأن الحقيقة لا مانع يمنع منها، فإلجامه بلجام مصنوع من النار غير بعيد، فلماذا يدّعى المجاز؟ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح، وإسناده حسنٌ، فإن عُمارة بن زاذان متكَلّم فيه، ولكنه لم ينفرد بهذا الحديث، فقد تابعه حماد بن سلمة، فرواه عن عليّ بن الحكم بإسناده ومتنه، كما هو عند الإمام أحمد في "مسنده"، وأبي داود في "سننه"، وابن حبّان في "صحيحه".
والحاصل أن الحديث صحيح (2)، والله تعالى أعلم.
(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 680 - 681.
(2)
أجاد محقق "جامع بيان العلم وفضله" في تخريج هذا الحديث، والكلام على طرقه، فراجعه 1/ 3 - 22.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (46/ 261) بهذا السند، وسيعيده (266) من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2534) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 9/ 55 و (أحمد) في في "مسنده" 2/ 263 و 305 - و 344 و353 و499 و508 و (أبو داود)(3658) و (الترمذيّ)(2649) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(95) و (الطبرانيّ) في "الصغير"(1/ 60 وفي 114 و162) و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 101) و (البغويّ) في "شرح السنّة"(140)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان حكم من سئل عن علم، فكتمه، وهو أن له الوعيد المذكور.
2 -
(ومنها): أن فيه بيان وجوب نشر العلم، وعدم كتمه، ويشمل ذلك عدم حبس الكتب عن الطلّاب، لا سيمّا عند عدم تعدد نسخ الكتب، وما أكثر الابتلاء بهذا، وخصوصًا إذا كانت الكتب موقوفة.
3 -
(ومنها): أنه تقدّم أنهم حملوا الوعيد المذكور على ما إذا كان العلم ضروريّا، لا في نوافل العلوم، وهذا تأويلٌ حسنٌ؛ لأدلة كثيرة، كقصّة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه في تفسيره الرؤيا التي رآها بعض الناس، فقصّها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فطلب الصدّيق رضي الله عنه أن يعبّرها، فأذن له النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فعبّرها، ثم سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، هل أصاب أم لا؟ فقال له:"أصبتَ بعضًا، وأخطأت بعضًا"، فأقسم عليه أن يخبره بذلك، فأبى صلى الله عليه وسلم، وقال:"لا تُقسم"(1)، فقد كتمه النبيّ علم ما سأله لعدم الحاجة الضروريّة إليه، وغير هذا من
(1) هو ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظُلّة تنطُفُ السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر، فعلا به، ثم أخذ به رجل =
الأدلة التي تدلّ على أن العلم الذي يستحقّ كاتمه أن يُلجَم بلجام من النار ما إذا كان السائل محتاجًا إليه الجواب، بأن كان من العلوم الدينيّة، كمعرفة أحكام الصلاة، والصوم، ونحو ذلك.
وقد جاء ذمّ كتم العلم عن السلف رحمهم الله، فرُوي عن سفيان الثوريّ رحمه الله أنه قال: من بَخِل بالعلم ابتُلي بإحدى ثلاث: أن ينساه، أو يموت، ولا يُنتفع به، أو تذهب كتبه. وعن ابن المبارك رحمه الله أنه قال: من بَخِلَ بالعلم ابتُلي بثلاث: إما أن يموت، فيذهب علمه، أو يَنسى، أو يتّبع السلطان، وعن ابن معين رحمه الله قال: من بخل بالحديث، وكتم على الناس سماعهم لم يُفلح، وكذا قال إسحاق بن راهويه، قال الخطيب رحمه الله: ولا يحرم الكتم عمن ليس بأهل، أو لا يقبل الصواب إذا أرشد إليه، أو نحو ذلك، وعلى ذلك يُحمل ما نُقل عن الأئمة من الكتم، وقال بعضهم: ليس الظلم في إعطاء غير المستحقّ بأقلّ من الظلم في منع المستحقّ، ولله درّ القائل [من الطويل]:
فَمَنَ مَنَحَ الجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ
…
ومَن مَنَعَ المُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ
وقد قال الخليل لأبي عُبيدة رحمهما الله: لا تردّنّ على مُعْجَبٍ خطأ، فيستفيدَ منك علمًا، ويَتّخذَك عدوّا (1).
= آخر، فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر، فانقطع، ثم وُصِل، فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لَتَدَعَنَّي فأَعْبُرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اعبُرها"، قال: أما الظُّلّة فالإسلام، وأما الذي ينطُف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به، فيُعْليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا"، قال: فوالله يا رسول الله، لَتُحَدِّثَنِّي بالذي أخطأت، قال:"لا تقسم".
(1)
راجع "تدريب الراوي على تقريب النواوي" 2/ 146 - 147 و"شرحي على ألفيّة السيوطي" 2/ 152.
[تنبيه]: من كتم العلم كما أسلفناه كتم كتب العلم عن أهلها، فلا ينبغي أن تُمنع الكتب عن المحتاجين إليها، قال وكيع بن الجرّاح رحمه الله: أول بركة الحديث إعارة الكتب، وقال السيوطي رحمه الله: وقد ذمّ الله تعالى مانع العارية بقوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]، وإعارة الكتب أهمّ الماعون.
ثم إن على المستعير إذا أعير كتابًا أن يسرع بردّه إلى صاحبه، ولا يبطىء عليه به، فقد قال الزهريّ رحمه الله: إياك وغلولَ الكتب، قيل: وما غُلُولها؟ قال: حبسها عن أصحابها (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ولمّا وجد أبو الحسن القطان سندًا أعلى من سند المصنّف بدرجة، ذكره بقوله:(قَالَ أَبُو الحسَن: أَيِ الْقَطَّانُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا عُمارَةُ ابْنُ زَاذَانَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).
1 -
(أبو حاتم) محمد بن إدريس الإمام الحافظ الحجة الرازيّ 8/ 70.
2 -
(أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسيّ البصريّ، ثقة ثبتٌ [9] ستأتي ترجمته مطوّلة في (6/ 284) لأنه أول محل ذكر المصنّف له.
وقوله: "فذكر نحوه" الضمير لأبي الوليد، أي ذكر أبو الوليد نحو حديث أسود ابن عامر، ويحتمل أن يكون الضمير لشيخه أبي حاتم، أي ذكر أبو حاتم نحو حديث ابن ماجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1) راجع "تدريب الراوي" 2/ 2/ 86 و"شرحي على ألفية السيوطي" 2/ 53 - 54.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
262 -
(حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ الْعُثْمَانِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: وَالله لَوْلَا آيَتَانِ في كِتَابِ اللهِ تَعَالَىَ، مَا حَدَّثْتُ عَنْهُ -يَعْنِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا أَبدًا، لَوْلَا قَوْلُ الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [البقرة: 174]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو مَرْوَانَ الْعُثْمَانيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ) بن خالد الأمويّ المدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ يُخطىء [10] 2/ 14.
2 -
(إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 2/ 14.
3 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الحافظ المشهور [4] 2/ 15.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ) المدنيّ، ثقة فقيه [3] 10/ 79.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة، وقد تابعه موسى ابن إسماعيل في روايته عن إبراهيم بن سعد عند البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الزهري عن الأعرج.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روىَ (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الْرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ) رحمه الله تعالى (أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه-
(يَقُولُ: وَالله لَوْلَا آيَتَانِ في كِتَابِ الله تَعَالى مَا حَدَّثْتُ) حذف اللام من جواب "لولا" جائز، والأصل: لولا آيتان موجودتان في كتاب الله لما حدّثتُ (عَنْهُ -يَعْني عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا أبدًا) وفي رواية البخاريّ "حديثًا".
[تنبيه]: إنما قال أبو هريرة رضي الله عنه هذا؛ لأنه سمع الناس يقولون: أكثر علينا أبو هريرة، فأراد أن يزيل التُّهَم، والقصّة بطولها آخرجها الشيخان في "صحيحيهما"، فقال البخاريّ رحمه الله:
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يقولون: إن أبا هريرة يُكثر الحديث، والله الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْقُ بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأً مِسكينًا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأَعِي حين يَنْسَون، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومًا:"لن يبسط أحد منكم ثوبه، حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره، فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا"، فبسطت نَمِرَة ليس عليّ ثوب غيرها، حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا، والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئًا أبدًا:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160].
(لَوْلَا قَوْلُ الله) تعالى، وهذا بدل من "لولا" الأول، وفي رواية الشيخين:"ثم يتلو"({إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [البقرة: 174 -
175]) والمعنى أنه لولا أن الله تعالى ذمّ الكاتمين للعلم لمَا حدّثتكم أصلًا، لكن لمّا كان الكتمان حرامًا، وجب الإظهار والتبليغ، فلهذا حصل مني الإكثار؛ لكثرة ما عندي مما سمعته منه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (46/ 262) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(2/ 240 و 274) و (البخاريّ)(1/ 40 و 3/ 143 و 9/ 133) و (مسلم)(7/ 166)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده (1):
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ذمّ كتم العلم على من سئل عنه، فإن الآيتين اللتين قرأهما أبو هريرة رضي الله عنه نصّان في ذلك.
2 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على حفظ العلم، وأن التقلّل من الدنيا أمكن لحفظه.
3 -
(ومنها): فضيلة التكسّب لمن له عيال، فإن المهاجرين والأنصار ما شغلهم عن إكثار السماع إلا التكسّب.
4 -
(ومنها): جواز إخبار المرء بما فيه من فضيلة إذا اضطرّ إلى ذلك، وأَمِن من الإعجاب.
5 -
(ومنها): أن فيه فضيلة ظاهرة لأبي هريرة رضي الله عنه، ومعجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وعَلَمًا من
(1) المراد فوائد الحديث بطوله الذي أوردته من "الصحيحين"، لا خصوص سياق المصنف المختصر، فتنبّه.
أَعْلَامِ النبوّة حيث زال بسبب دعوته نسيان أبي هريرة رضي الله عنه، مع أن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة رضي الله عنه بأنه كان كثير النسيان، ثم زال عنه ببركة دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنت أنا وأبو هريرة، وآخر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ادعوا"، فدعوتُ أنا وصاحبي، وأَمّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك علمًا لا يُنسى، فأَمَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله، فقال:"سبقكما الغلام الدوسي".
6 -
(ومنها): ما كان عليه أبو هريرة رضي الله عنه من شدّة حرصه على تحصيل العلم، وقد شهد له النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: يا رسول الله، مَنْ أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألُنِي عن هذا الحديث أحدٌ أولُ منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، أو نفسه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
263 -
(حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بن أَبِي السَّرِيِّ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَميِمٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ السَّرِيِّ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا لَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلهَا، فَمَن كَتَمَ حَدِيثًا، فَقَدْ كتَمَ مَا أنزَلَ الله").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
9 -
(الحُسَيْنُ بن أبِي السَّرِيِّ الْعَسْقَلَانِيُّ) هو: الحسين بن المتوكّل بن عبد الرحمن ابن حسّان الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله بن أبي السَّرِيِّ -بفتح المهملة، وكسر الراء- ضعيف، بل كذّبه بعضهم [11].
روى عن وكيع، وضمرة بن ربيعة، وخلف بن تميم، وأبي داود الحَفَري،
وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وابن سعد، والحسين بن إسحاق التُّسْتَري، وغيرهم.
قال جعفر بن محمد القلانسي: سمعت محمد بن أبي السري يقول: لا تكتبوا عن أخي، فإنه كذّاب. وقال أبو داود: ضعيف. وقال أبو عروبة: كذّاب، هو خال أمي.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء، ويُغرِب. قال إسحاق بن إبراهيم الهروي: مات سنة (240).
تفرّد به المصنّف وله عنده في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (262) و (353) و (2191) و (2691) و (3385).
2 -
(خَلَفُ بْنُ تَميمٍ) بن أبي عَتّاب مالك التميميّ مولاهم، وقيل: غير ذلك، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، نزيل المِصِّيصة، صدوقٌ عابدٌ [9].
روى عن إسرائيل، وبشر بن أبي إسماعيل، وزائدة، والثوري، وزهير، وغيرهم.
وروى عنه الحسين بن أبي السري العسقلاني، وعلي بن محمد بن علي المصيصي، وعمرو الناقد، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، وغيرهم.
قال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عنه، فقال: هو المسكين صدوق. وقال
يعقوب بن شيبة: ثقة صدوقٌ، أحدُ النُّسَّاك، صَحِبَ إبراهيم بن أَدْهَم، وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من العباد الْخُشْن، مات سنة (206)، وكذا قال أبو مسلم المستملي في تاريخ وفاته، وقال ابن سعد: مات بالمصيصة سنة (213)، وكان عالِمًا، وكذا قال الْقَرَّاب، وحَكَى ابن قانع القولين. وقال العجلي: كوفي لا بأس به.
تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
3 -
(عَبْدُ الله بْنُ السَّرِيِّ) الأنطاكيّ الزاهد، أصله من المدائن، ضعيفٌ (1)، روى
(1) قال في "التقريب": صدوقٌ إلخ"، قلت: بل هو ضعيفٌ؛ كما سيظهر لك من أقوال العلماء في ترجمته، فتأمل. والله تعالى أعلم.
مناكير كثيرةً، تفرّد بها [9].
روى عن محمد بن المنكدر، ولم يدركه، وحفص بن سليمان الغاضري، وسعيد ابن زكريا المدائني، وشعيب بن حرب، وغيرهم.
وروى عنه خلف بن تميم، وهو أسن منه، وأحمد بن أبي الْحَوَارِيّ، وأحمد بن نصر النيسابوري، ويعقوب بن إسحاق، وغيرهم.
قال خلف بن تميم: كان من الصالحين. وقال ابن عدي: لا بأس به، وقال ابن أبي حاتم، عن عثمان الدارمي: سألت يحيى عنه، ققال: رجلٌ، قال ابن أبي حاتم: كان ابن السري رجلًا صالحًا، فأَحْسَبُ يحيى حَادَ عن ذكره لذلك. وقال العقيليّ: لا يتُابع.
وقال أبو نعيم الأصبهاني: يروي المناكير، لا شيء. وقال ابن حبان في "الضعفاء": عبد الله بن السري المدائني، رَوَى عن أبي عمران العجائب التي لا يُشَكّ أنها موضوعة، ثم ساق له حديثًا في فضل أنطاكية موضوعًا. وقال أحمد بن الحسن الترمذي: كان رجلًا صالحًا.
تفرّد عنه المصنّف بهذا الحديث فقط.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الهُدير المدنيّ، ثقة فاضلٌ [3] 15/ 122.
5 -
(جَابِر) بن عبد الله رضي الله عنهما المذكور في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا لَعَنَ آخِرُ هَذهِ الأُمَّةِ أَوَّلهَا) أي إذا كثُر الجهل، وحصلت الحاجة إلى العلم، لأَن منشأ اللعن هو الجهل، أو المراد إذا جَهِلوا بفضائل الصحابة رضي الله عنهم، وحرمة اللعن، فسبّوهم، وعلى هذا فمعنى قوله: (فَمَنْ كَتَمَ حَدِيثًا) أي في فضائل الصحابة رضي الله عنهم، وحرمة اللعن، قاله السنديّ رحمه الله تعالى (1) (فَقَدْ كَتَم مَا أَنزَلَ اللهُ) هكذا النسخ عندنا، ووقع في "تحفة الأشراف" (2/ 368) بلفظ:
(1)"شرح السنديّ" 1/ 171.
"فقد كفر بما أنزل الله". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، وهو ضعيف جدّا، قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد فيه الحسين بن أبي السريّ كذّاب، وعبد الله بن السريّ ضعيف، وذكر المزّيّ في "الأطراف": أن عبد الله بن السريّ لم يُدرك محمد بن المنكدر، قال: وهكذا رواه محمد بن عبد الرحيم صاعقة، وغير واحد، عن خلف بن تميم، ورواه أحمد بن نصر النيسابوريّ، وأبو هارون موسى بن النعمان المصريّ، وأحمد بن خُليد الحلبيّ، وغير واحد، عن عبد الله بن السريّ، عن سعيد بن زكريّا المدائنيّ عن عنبسة بن عبد الرحمن القرشيّ، عن محمد بن زاذان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، وكذا رواه محمد بن معاوية بن مالج الأنماطيّ، عن سعيد بن زكريّا، انتهى كلام الحافظ المزيّ (1).
والحاصل أن الحديث ضعيف جدّا، وقد أجاد البحث فيه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" 4/ 14 - 17 رقم (1506) و (1507) فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
264 -
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ، حَدَّثَنِي الهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنِي عُمَرَ بْنُ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُول: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ) بن منيع، أبو الأزهر العبديّ النيسابوريّ، صدوقٌ، كان يحفظ، ثم كبر، فصار كتابه أثبت من حفظه [11] 9/ 71.
(1)"تحفة الأشراف" 2/ 368 و "مصباح الزجاجة" 1/ 117.
2 -
(الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ) -بفتح الجيم- أبو سهل البغداديّ، نزيل أنطاكية، ثقة من أصحاب الحديث، من صغار [9].
روى عن جرير بن حازم، وزهير بن معاوية، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن عمر، وعبيد الله بن عَمْرو الرَّقِّي، وعُمَر بن سُليم الباهلي، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وأبو موسى محمد بن المثنى، وحسين بن حسن المروزي، وأبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري، وسعدان بن يزيد، وغيرهم.
قال ابن سعد: سمعت موسى بن داود يقول: أفلس الهيثم بن جَميل في طلب الحديث مرتين، وكان ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان من أصحاب الحديث ببغداد، هو وأبو كامل، وأبو سلمة الخزاعي، وكان الهيثم أحفظ الثلاثة، وأبو كامل أتقنهم، وقال في موضع آخر: الهيثم ثقة. وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. وقال إبراهيم الحربي: أما الصدق فلا يدفع عنه، وهو ثقة. وقال الدارقطني: ثقة حافظ. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن الْبَرَاء: ثنا سفيان بن محمد المصيصي، قال شهدت الهيثم ابن جميل، وهو يموت، وقد سُجِّيَ نحو القبلة، فقامت جاريته تَغْمِز رجليه، فقال: اغمزيهما، فالله يعلم أنه ما مشتا إلى حرام قط.
قال ابن قانع: مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، وأرخه ابن حبان: سنة أربع عشرة، وقال ابن عدي: ليس بالحافظ، يَغْلَط على الثقات، وأرجو أنه لا يتعمد الكذب.
وقال أبو نعيم الأصبهاني: إنه متروك، ذكر ذلك في أماليه، ونقله الذهبي في "الميزان" في ترجمة أحمد بن يوسف المنبجي.
قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن عديّ، وأبي نعيم في الهيثم عندي محلّ نظر، فإن الأئمة اتّفقوا على مدحه، والثناء عليه وتوثيقه، كما سبق آنفا، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "القدر"، والنسائيّ في "مسند عليّ"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، برقم (264) و (390) و (1136) و (1247) و (1293) و (1992) و (2150) و (3248).
3 -
(عُمَرَ بْنُ سُلَيْمٍ) الباهليّ، أو المُزَنيّ البصريّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [7].
روى عن الحسن، وقتادة، وأبي شيبة، يوسف بن إبراهيم الجوهري، وأبي غالب، صاحب أبي أمامة، وأبي الوليد، صاحب ابن عمر.
وروى عنه عبد الوارث بن سعيد، وابنه عبد الصمد بن عبد الوارث، وسهل بن تَمّام بن بزيع، وزيد بن الحباب، وكثير بن هشام، وعُبيد بن عَقِيل، والهيثم بن جَميل، ومسلم بن إبراهيم.
وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال العقيليّ: مشهور، يحدث بمناكير. وذكره ابن حبان في "الثقات". وروى له ابن خزيمة في "صحيحه"، ووقع في طريقه أنه كان يَنْزِل في بني قُشَير، ووقع عند بعضهم المُزَني بدل الباهلي.
تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
[تنبيه]: وقع في نسخ "سنن ابن ماجه" عَمْرو بن سُليم بفتح العين، وسكون الميم، وهو غلطٌ، والصواب "عُمَر" بضم العين، وفتح الميم، كما في "تحفة الأشراف" 1/ 440 و"المجرّد في أسماء رجال ابن ماجه" للإمام الذهبيّ ص 165 وقد ترجمه على الصواب ترجمة واضحة في "تهذيب الكمال" 21/ 379 - 380 - و"تهذيب التهذيب" 3/ 231 مبيّنًا أنه وقع له عند ابن ماجه حديث واحد في كتم العلم، بل أورد المزّيّ هذا الحديث الواحد بسنده بعلو، ثم قال: وليس لعمر بن سُليم عنده غيره، ومن الغريب ما تنبه المحقّقون لهذا الكتاب إلى هذا الغلط. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
4 -
(يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) التميميّ، أبو شيبة الجوهريّ اللآل الواسطيّ، ضعيفٌ [5].
روى عن أنس، وعنه أبو قتيبة، ومحمد بن الحسن المزني الواسطي، وعُمَر بن سُليم الباهلي، وعقبة بن خالد السَّكُوني، وغيرهم.
قال البخاري: صاحب عجائب. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، عنده عجائب. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن حبان:
يروي عن أنس ما ليس من حديثه، لا تحل الرواية عنه. وذكره العقيليّ في "الضعفاء".
وقال ابن عدي: ليس بالمعروف، ولا له كثير حديث.
تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان، هذا (264) و (1475).
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه 3/ 24.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا ضعيف الإسناد جدّا، وأما المتن فصحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه 46/ 261، فراجعه تستفد.
قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، فيه يوسف بن إبراهيم، قال ابن حبّان: روى عن أنس ما ليس من حديثه، لا تحلّ الرواية عنه. وقال البخاريّ: صاحب عجائب. رواه ابن ماجه، والترمذيّ بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة، وقال: حديثٌ حسنٌ. ورواه الحاكم أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومن حديث عبد الله بن عمرو. انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
265 -
(حَدَّثَنَا إِسماعِيلُ بْنُ حِبَّانَ بْن وَاقِدٍ الثَّقَفِيُّ، أَبُو إِسْحَقَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَابٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "منْ كَتَمَ عِلمًا، مِمَّا يَنْفَعُ الله بِهِ، في أَمْرِ النَّاسِ، أَمْرِ الدِّينِ، أَلْجمَهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ حِبَّانَ -بكسر الحاء المهملة، بعدها موحّدة- ابْنِ وَاقِدٍ الثَّقَفِيُّ، أَبُو إِسْحَقَ الوَاسِطيُّ) القطّان، صدوقٌ [11].
روى عن عبد الله بن عاصم الْحِمّاني، وزكرياء بن عدي، وغيرهم. وروى عنه ابن
(1)"مصباح الزجاجة" 1/ 117.
ماجه، وابن أبي داود، وعلي بن عبد الله بن مبشر، وعِدَّةٌ، ضبط ابن ماكولا أباه بالكسر والموحدة، وذكره ابن عساكر بعد إسماعيل بن حفص، فهو عنده بالمثناة، وتبعه عبد الغني في "الكمال"، قال الحافظ المزّيّ: وهو وَهَمٌ فيما أظن.
تفرّد عنه المصنّف بهذا الحديث فقط.
2 -
(عَبْدُ الله بْنُ عَاصِمٍ) الْحِمّانيّ -بكسر المهملة، وتشديد الميم- أبو سعيد البصريّ، صدوقٌ [9].
روى عن محمد بن داب المديني، ومهدي بن ميمون، وعثمان بن مقسم البري، وغيرهم. وروى عنه أبو حاتم، وأبو زرعة، ومحمد بن أيوب بن الضريس، وإسماعيل ابن حبان بن واقد الثقفي، ومحمد بن غالب تمتام، وغيرهم.
قال أبو زرعة، وأبو حاتم: صدوق. وقال محمد بن مسلم بن وَارَة: سمعت أبا الوليد الطيالسي، وذكر عبد الله بن عاصم، فقال: كان يجيئني، ولم أَرَهُ ذَكَرَه بسوء.
وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد عنه المصنف بهذا الحديث فقط.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ دَابٍ) بغير همز، كذّبه أبو زرعة [8].
روى عن صفوان بن سليم، وابن أبي ذئب، وعنه محمد بن سلام الْجُمَحي، وعبد الله بن عاصم الْحِمّاني، وغيره.
قال أبو زرعة: ضعيف الحديث، كان يكذب. وقال الأصمعي: قال لي خلف الأحمر: ابنُ داب يَضَع الحديث بالمدينة، وابن شول يَضَعُ الحديث بالسِّند. وقيل: إن ابن داب الذي ذكره خلف، هو عيسى بن يزيد.
قال الحافظ: عيسى بغداديّ، كان يُنادم المهديَّ، فلعل خَلَفًا إن كان قصده، عَنَى مدينة المنصور، وإلا فظاهر الإطلاق يدل على أنه أراد الأولَ، وفي عيسى يقول الشاعر [من الوافر]:
خُذُوا عَنْ مَالِكٍ وَعَنِ ابْنِ عَوْنٍ
…
ولَا تَرْوُوا أَحَادِيث ابْنَ دَابٍ
تفرّد عنه المصنّف بهذا الحديث فقط.
4 -
(صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْم) أبو عبد الله الزهريّ مولاهم المدنيّ، ثقهّ مُفْتٍ عابدٌ، رُمي بالقدر [4] 42/ 243.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) أبو حفص، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو جعفر الأنصاري الخزرجيّ المدنيّ، ثقة [3].
رَوى عن أبيه، وعمارة بن حارثة الضمري، وأبي حميد الساعدي، وروى عنه ابناه: رُبيح، وسعيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، وسهيل بن أبي صالح، وصفوان بن سُليم، وشريك بن أبي نَمِر، وزيد بن أسلم، وعمرو بن سليم الزُّرَقي، وسعيد القبري، وعُمارة بن غزية، وعمران بن أبي أنس، وسليط بن أيوب، وغيرهم.
قال النسائي: ثقة. وقال العجلي تابعي مدني ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة اثنتي عشرة ومائة، وهو ابن سبع وسبعين، وفيها أَرّخه ابنُ نمير، وعمرو بن علي. وقال ابن سعد مثل ما قال ابن حبان، وزاد: كان كثير الحديث، وليس هو بِثَبْتٍ، ويستضعفون روايته، ولا يحتجون به.
أخرج له البخاري في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (265) و (397) و (661) و (954) و (4204).
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 4/ 37.
وقوله: "في أمر الناس، أمر الدين" هكذا في نسخ ابن ماجه، فيكون "أمر الدين" مجرورًا على البدليّة، ووقع في نسخة مصباح الزجاجة "في أمر الناس في الدين"، وهو واضح.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا إسناده ضعيفٌ جدّا،
قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، فيه محمد بن داب كذّبه أبو زرعة وغيره، ونُسِبَ إلى وضع الحديث (1). انتهى.
قال الجامع: أما نسبته إلى الوضع، فهو منقول عن خلف الأحمر، وقد ترددوا فيه، كما تقدّم في ترجمته، فتأمله.
وأما متن الحديث فقد سبق أنه صحيح، وقد سبق، فراجعه في 46/ 21، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
266 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ حَفْصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيم الْكَرَابِيسِيُّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سُئِلَ عَن عِلْمٍ فَكتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ حَفْصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ زيدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ البصريّ، صدوقٌ [11].
روى عن محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، وعن إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، ويحيى بن كثير أبي النضر، وأبي عاصم، وغيرهم.
وروى عنه ابن ماجه، وأبو قريش الحافظ، ومحمد بن صالح النَّرْسي، وابن خزيمة، وسَلْم بن عصام الأصبهاني، وأبو عروبة، ويحيى بن صاعد، وذكره ابن حبان في "الثقات".
(1) ذكره الدكتور بشار بلفظ "ونسبه إلى الوضع"، ثم تعقّب البوصيريّ بأن أبا زرعة لم ينسبه إلى الوضع، قلت: فيه أنه أساء نقل نصّ البوصيري، ثم تعقبه، ونصه ليس فيه "نسبه" بالضمير، وإنما هو "ونُسب"، فتأمل العبارتين، ترشد، والله الهادي إلى سواء السبيل.
تفرّد به المصنِّف وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (266) و (431).
2 -
(أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسماعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَرَابِيسِيُّ) أبو إبراهيم البصريّ، صاحب الْقُوهِيّ -بضم القاف (1) - ليّن الحديث [8].
روى عن أبيه، وابن عون، وسُليم القاصّ، وروى عنه حفص بن عَمْرو الرَّبَالي، ومثنى بن معاذ، ومحمد بن عبد الله بن حفص الأنصاري، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ربيع الأول سنة (194).
تفرّد به المصنّف روى له هذا الحديث فقط، قال العقيليّ: ليس لحديثه أصل، يعني هذا، قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي: الصواب موقوف.
3 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضلٌ، من أقران أيوب السختياني في العلم والعمل [5](2) 3/ 23.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) المذكور في الباب الماضي.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا في إسناده ضعفٌ؛ إذ فيه إسماعيلَ الكرابيسيّ، وقد تكلّم فيه العقيليّ، إلا أن الحديث يشهد له ما سبق من الروايات، فهو صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[خاتمة]: نختم بها أبواب العلم: وهو أن نذكر فصلين مهمّين لكلّ طالب علم.
[الفصل الأول]: في ذكر رحلة أهل العلم في طلبه، ولا سيّما أصحاب الحديث، وما لاقوه من المشاقّ، والمحن في ذلك.
(1) قال في "القاموس": القُوهيُّ بالضم: ثياب بيض اهـ.
(2)
جعله في "التقريب" من السادسة، ولكن الأرجح أنه من الخامسة؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه، فهو من صغار التابعين، كالأعمش، فتنبّه.
قال الإمام البخاريّ في "صحيحه":
"باب الخروج في طلب العلم" ورَحَل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله ابن أنيس في حديث واحد، ثم أخرج بسنده قصّة موسى مع الخضر عليهما السلام المشهور في كتاب الله تعالى، في "سورة الكهف"، وفي "الصحيحين"، وغيرهما.
ونصّ الحديث: عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نَوْفًا الْبِكَالي يزعُم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قام موسى النبي خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب وكيف به؟ فقيل له: احمِلْ حُوتا في مِكْتَل، فإذا فقدته فهو ثَمَّ، فانطلق، وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحملا حوتا في مكتل، حتى كانا عند الصخرة وضعا رءوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وكان لموسى وفتاه عجبًا، فانطلقا بقيةَ ليلتهما ويومَهِما، فلما أصبح قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا، ولم يجد موسى مسّا من النصب حتى جاوز المكان الذي أُمر به، فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصًا، فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجلٌ مُسَجًّى بثوب، أو قال: تسجى بثوبه، فسلم موسى، فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلمت رشدًا؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا، يا موسى إني على علم من علم الله، علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه، قال: ستجدني -إن شاء الله- صابرًا، ولا أعصي لك أمرًا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرف الخضر، فحملوهما بغير نَوْلٍ، فجاء عصفور، فوقع على حرف
السفينة، فنقر نقرةً أو نقرتين في البحر.
فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله، إلا كنقرة هذا العصفور في البحر، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة، فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم، فخرقتها لتغرق أهلها؟، قال: ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرا، فكانت الأولى من موسى نسيانًا، فانطلقا، فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه، فاقتلع رأسه بيده، فقال موسى: أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: ابن عيينة: وهذا أوكد، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، قال: الخضر بيده فأقامه، فقال له موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرًا، قال: هذا فراق بيني وبينك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتى يُقَصَّ علينا من أمرهما".
قال بعض أهل العلم: إن فيما عاناه موسى من الدأب والسفر، وصبر عليه من التواضع، والخضوع للخضر، بعد معاناة قصده، مع محلّ موسى من الله، وموضعه من كرامته، وشرف نبوته، دلالةً على ارتفاع قدر العلم، وعلوّ منزلة أهله، وحسن التواضع لمن يُلْتَمس منه، ويؤخذ عنه، ولو ارتفع عن التواضع لمخلوق أحدٌ بارتفاع درجةٍ، وسُمُوّ منزلةٍ لسبق إلى ذلك موسى عليه السلام، فلما أظهر الجدّ والاجتهاد، والانتزاع عن الوطن، والحرصَ عن الاستفادة، مع الاعتراف بالحاجة إلى أن يصل من العلم إلى ما هو غائبٌ عنه دلّ على أنه ليس في الخلق من يعلو على هذه الحال، ولا يكبر عنها (1).
وقد رحل غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى البلاد البعيدة، وعددٌ من التابعين بعدهم:
فممن رحل في حديث واحد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فقد أخرج الإمام
(1)"الرحلة في طلب الحديث" ص 106 - 107.
أحمد في "مسنده" من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله، يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا، حتى قَدِمُت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أُنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني، واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُحشر الناس يوم القيامة، أو قال: العباد عُراةً غُرْلًا بُهْمًا"، قال: قلنا: وما بُهمًا؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه مَن قَرُب: أنا الملك، أنا الديّان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حَقٌّ، حتى أَقُصَّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده حقّ، حتى أقصه منه، حتى اللطمة"، قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عُراةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قال: "بالحسنات والسيئات".
وهذا الحديث، وإن كان في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو ضعيف في حفظه، إلا أن له شواهد، فهو حسن، وقد أروده البخاريّ في "صحيحه" معلّقًا بصيغة الجزم (1).
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا سعد الأعمى، يحدث عطاء، قال: رحل أبو أيوب إلى عقبة بن عامر، فأتى مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّد، فخرج إليه، قال دلوني، فأَتَى عقبة، فقال: حَدِّثْنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحدٌ سمعه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر على مؤمن في الدنيا، ستره الله يوم القيامة، فأتى راحلته، فركب ورجع".
وقال الإمام الدارميّ: أخبرنا يزيد بن هارون، حدثنا الجريري، عن عبد الله بن
(1) راجع "صحيح الأدب المفرد" للشيخ الألباني ص 371.
بريدة، أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رَحَلَ إلى فَضَالة بن عُبيد، وهو بمصر، فقدم عليه، وهو يَمُدُّ لناقة له، فقال: مرحبًا، قال: أما إني لم آتك زائرًا، ولكن سمعت أنا وأنت حديثًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجَوْتُ أن يكون عندك منه علم، قال: ما هو؟ قال كذا وكذا.
وأسند الخطيب من طريق نصر بن مرزوق، أبي الفتح المصريّ قال: سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول: قلت للأوزاعيّ: أنا ألزمك منذ أربعة أيّام، ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثًا؟ قال: وتستقل ثلاثين حديثًا في أربعة أيام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى مصر، واشترى راحلةً، وركبها حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد، وانصرف، وأنت تستقلّ ثلاثين حديثًا في أربعة أيام.
وممن ذُكر عنه الرحلة من التابعين ومن بعدهم ما أخرجه الخطيب بسنده عن مالك قال: قال سعيد بن المسيّب: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
قال مالك: وكان سعيد بن المسيّب يختلف إلى أبي هريرة رضي الله عنه بالشجرة، وهو ذو الحليفة.
وأخرج أحمد من طريق علي بن زيد، عن أبي عثمان، قال: بلغني عن أبي هريرة، أنه قال: إن الله عز وجل يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، قال: فقضي أني انطلقت حاجًّا أو معتمرًا، فلقيته، فقلت: بلغني عنك حديث أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل يعطي عبده المؤمن الحسنة ألف ألف حسنة، قال أبو هريرة: لا، بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة، ثم تلا:{يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، فقال: إذا قال: أجرًا عظيمًا، فمن يقدر قدره؟ (1).
(1) في سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو متكلّم فيه، لكن لم ينفرد به، بل تابعه زياد الجصّاص عند ابن أبي حاتم في تفسيره، وهو وإن تُكلم فيه إلا أنه يصلح للمتابعة، =
وأخرجه الخطيب أيضًا، وفيه: عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة. . . . فحججت ذلك العام، ولم أكن أريد الحجّ إلا للقائه، في هذا الحديث، فأتيت أبا هريرة، فقلت: يا أبا هريرة بلغني عنك حديث، فحججتُ العام، ولم أكن أريد الحج إلا لألقاك. . . فذكره (1).
وأخرج الدارميّ بسند صحيح عن أبي قلابة، قال: لقد أقمت في المدينة ثلاثًا، ما لي حاجة إلا وقد فرغت منها، إلا أن رجلًا كانوا يتوقعونه، كان يروي حديثًا، فأقمت حتى قدم، فسألته.
وأخرج الخطيب عن عروة بن رُويم، عن عبد الله بن الديلميّ الذي كان يسكن بيت المقدس أنه ركب في طلب عبد الله بن عمرو بن العاص إلى المدينة، فسأل عنه، فقالوا: قد سار إلى مكة، فاتبعه، فوجده في زرعه الذي يُسمّى الْوَهْطَ (2)، قال ابن الديلميّ: فدخلت عليه، فقلت: يا عبد الله ما هذا الحديث الذي بلغني عنك؟ قال: ما هو؟ قلت: إنك تقول: "صلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيرها إلا الكعبة" قال: اللهم إني لا أُحِلُّ لهم أن يقولوا عليّ ما لم أقُل: "إن سليمان حين فرغ من بيت المقدس قرّب قربانًا، فتُقبّل منه، فدعا الله بدعوات، منهنّ: اللهم أيما عبد مؤمن زارك في هذا البيت تائبًا إليك إنما جاء يتنصّل عن خطاياه وذنوبه أن تتقبّل منه، وتتركه من خطاياه كيوم ولدته أمه"(3).
وأخرج الرامهرمزيّ في "المحدّث الفاصل" ص 313 - 315 - عن نصر بن حماد،
= ولذا صحح الحديث العلامة أحمد محمد شاكر فيما كتبه على "المسند" 15/ 90 - 991 فراجعه تستفد.
(1)
راجع "الرحلة في طلب الحديث" ص 132 - 133.
(2)
"الوَهْط" بفتح الواو، وسكون الهاء: قرية زراعيّة صغيرة تقع قرب مكة.
(3)
"الرحلة" ص 137 - 138.
قال: كنا بباب شعبة نتذاكر الحديث، فقلت: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتناوب رعاية الإبل، فرُحت ذات يوم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله أصحابه، فسمعته يقول:"من توضأ فأحسن الوضوء، ثم دخل المسجد، فصلى ركعتين، واستغفر الله غَفَر الله له"، قال: فما ملكت نفسي أن قلتُ: بَخٍ بَخٍ، قال: فجذبني رجل من خلفي، فالتفتُّ فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا ابن عامر الذي قال قبلَ أن تجيء أحسن، قلت: ما قال فداك أبي وأمي؟
قال: قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فُتِحت له ثمانية أبواب من الجنة، من أيها شاء دخل، قال: فسمعني شعبة، فخرج إليّ فلطمني لطمةً، ثم دخل ثم خرج فقال: ما له يَبكِي؟ فقال عبد الله بن إدريس: لقد أسأت إليه، فقال: أما تسمع ما يحدث عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، وأنا قلت لأبي إسحاق: أسمع عبد الله بن عطاء من عقبة بن عامر؟
قال: لا، وغَضِب، وكان مسعر بن كدام حاضرًا، فقال لي مسعر: أغضبت الشيخ، فقلت: ما له؟ ليصححن لي هذا الحديث، أو لأُسقطن حديثه، فقال مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة، فرحلت إليه لم أُرد الحج، إنما أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء، فسألته، فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، فقال لي مالك بن أنس: سعد بن إبراهيم بالمدينة، لم يحج العام، فدخلتا المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فسألته، فقال: الحديث من عندكم، زياد بن مِخْرَاق حدثني، فقلت: أيُّ شيء هذا الحديث؟ بينا هو كوفي، صار مكيا، صار مدنيا، صار بصريا، فدخلت البصرة، فلقيت زياد بن مخراق، فسألته، فقال: ليس هذا من بابتك، قلت: بلى، قال: لا تريده، قلت: أريده، قال: شهر بن حَوْشب حدثني، عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر، قال: فلما ذكر لي شهرًا، قلت: دَمَّرَ عليَّ هذا الحديثَ، لو صحّ لي هذا الحديث، كان أحب إلي من أهلي ومن مالي، ومن
الدنيا كلها (1).
وأخرج الخطيب عن عبد الحميد بن بيان، قال: سمعت هُشيمًا يقول: كنت أكون بأحد المصرين (2)، فيبلغني أن بالمصر الآخر حديثًا، فأرحل فيه حتى أسمعه، وأرجع.
وأخرج الرامهرمزيّ عن عامر الشعبيّ أنه خرج إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذُكرت له، فقال: لعلي ألقى رجلًا لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وعن عليّ بن المدينيّ قال: قيل للشعبيّ: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبُكور كبكور الغراب (3).
وعن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قيل له: أيرحل الرجل في طلب العلوّ؟ فقال: بلى والله شديدًا، لقد كان علقمة، والأسود يبلغهما الحديث عن عمر رضي الله عنه، فلا يُقنعهما حتى يخرجا إلى عمر رضي الله عنه، فيسمعانه منه (4).
وأخرج الإمام أبو داود في "سننه" بسنده عن يحيى بن حمزة قال: سمعت أبا وهب يقول: سمعت مكحولًا يقول: كنت عبدًا بمصر لامرأة من بني هُذيل، فأعتقتني، فما خرجت من مصر وبها علم، إلا حَوَيت عليه فيما أَرَى، ثم أتيت الحجاز، فما خرجت منها، وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق، فما خرجت منها، وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام، فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النَّفَل، فلم أجد أحدًا يخبرني فيه بشيء، حتى لقيت شيخًا يقال له: زياد بن جارية التميمي، فقلت له: هل سمعت في النَّفَل شيئا؟ قال: نعم، سمعت حبيب بن مَسْلَمة الْفِهْرَّي يقول:"شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الربع في البدأة، والثلث في الرجعة"(5).
(1) أصل الحديث المرفوع دون قصّة شعبة صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه" 1/ 144.
(2)
أي الكوفة والبصرة، وبينهما مسافة تزيد على 350 كيلو مترًا.
(3)
"تذكرة الحفاظ" ص 81.
(4)
"علوم الحديث" لابن الصلاح ص 223.
(5)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (2750).
وعن ابن إسحاق قال: سمعت مكحولًا يقول: طُفت الأرض في طلب العلم (1).
وعن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي رحمه الله يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: مَن أغرب عليّ حديثًا غريبًا مسندًا صحيحًا، لم أسمع به، فله عليّ درهم يتصدق به، وقد حضر على باب أبي الوليد خلقٌ من الخلق، أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي أن يُلْقَى عليّ ما لم أسمع به، فيقولون: هو عند فلان، فأذهب فأسمع، وكان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يُغْرِب عليّ حديثًا (2).
وأخرج الخطيب في "الكفاية" بسنده عن محمود بن غيلان قال: سمعت المؤمل ذُكر عنده الحديث الذي يُرْوَى عن أُبَيّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن، فقال: لقد حدثني رجل ثقة سماه، قال: حدثني رجل ثقة سماه، قال: أتيت المدائن، فلقيت الرجل الذي يروي هذا الحديث، فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي البصرة، فقال: هذا الرجل الذي سمعناه منه هو بواسط، في أصحاب القصب، قال: فأتيت واسطًا، فلقيت الشيخ، فقلت: إني كنت بالمدائن، فدَلَّني عليك الشيخ، وإني أريد آتي البصرة، قال: إن هذا الذي سمعتُ منه هو بالكلاء، فأتيت البصرة، فلقيت الشيخ بالكلاء، فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي عبادان، فقال: إن الشيخ الذي سمعناه منه هو بعبادان، فأتيت عبادان، فلقيت الشيخ، فقلت له: اتق الله ما حال هذا الحديث؟ أتيت المدائن فقصصت عليه، ثم واسطًا، ثم البصرة، فدُللت عليك، وما ظننت إلا أن هؤلاء كلهم قد ماتوا، فأَخْبِرني بقصة هذا الحديث، فقال: إنّا اجتمعنا هنا، فرأينا الناس قد رَغِبوا عن القرآن، وزهدوا فيه، وأخذوا في هذه الأحاديث، فقعدنا، فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى
(1) راجع: تذكرة الحفاظ ص 108.
(2)
"تقدمة الجرح والتعديل" ص 355.
يرغبوا فيه (1).
ومن طرائف ما تحمّلوه من المشاقّ في طلب الحديث:
ما ذكره في "تهذيب التهذيب" في ترجمة يعقوب بن سفيان الحافظ الجوّال رحمه الله كان ممن جَمَع وصنَّف، مع الورع والنسك والصلابة في السنة، قال الحاكم: فأما سماعه ورحلته وأفراد حديثه فأكثر من أن يمكن ذكرها، وقال محمد بن يزيد العطار: سمعت يعقوب بن سفيان يقول: كنت في رحلتي، فقلت نفقتي، فكنت أدمن الكتابة ليلًا، وأقرأ نهارًا، فلما كان ذات ليلة كنت جالسًا أنسخ في السراج، وكان شتاء، فنزل الماء في عيني، فلم أُبصر شيئًا، فبكيت على نفسي لانقطاعي عن بلدي، وعلى ما فاتني من العلم، فغلبتني عيناي، فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فناداني: يا يعقوب لم أنت بكيت؟ فقلت: يا رسول الله ذهب بصري، فتحسرت على ما فاتني، فقال لي: ادْنُ مني، فدنوت منه، فَأَمَرَّ يده على عيني، كأنه يقرأ عليهما، ثم استيقظت فأبصرت، فأخذت نسخي، وقعدت أكتب (2).
ومما نُقل عن الإمام يحيى بن معين رحمه الله ما ذكره ابن عديّ أن والد يحيى خلّف له ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم، فأنفق ذلك كله على الحديث، وقال يحيى: قد كتبت بيدي ألف ألف حديث، وقال صالح جزرة: ذُكر لي أن يحيى بن معين خلّف من الكتب لمّا مات ثلاثين قِمَطْرًا، وعشرين حُبّا (3).
وعن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: بقيتُ بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطع نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئًا بعد شيء، حتى بقيتُ بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى
(1) راجع "الكفاية" ص 401.
(2)
راجع "تهذيب التهذيب" 11/ 338 - 339.
(3)
راجع "تهذيب التهذيب" 11/ 280.
المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي، ورجعت إلى بيتٍ خالٍ، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد، وغدا عليّ رفيقي، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني، وانصرفت جائعًا، فلما كان من الغد غدا عليّ، فقال: مُرّ بنا إلى المشايخ، قلت: أنا ضعيف، لا يمكنني، قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طَعِمتُ فيهما شيئًا فقال لي: قد بقي معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل النصف الآخر في الكراء، فخرجنا من البصرة، وقبضت منه النصف دينار (1).
قال أبو عبد الله الحاكم في ترجمة الحافظ البارع الجوّال القدوة أبي عبد الله محمد ابن المسيب بن إسحاق بن عبد الله النيسابوريّ: ما نصّه: كان من العُبّاد المجتهدين وأحد من مشايخنا يذكرون عنه أنه قال: ما أعلم منبرًا من منابر الإسلام بقي عليّ، لم أدخله لسماع الحديث، وسمعت أبا إسحاق المزكي يقول: سمعت محمد بن المسيب يقول: كنت أمشي في مصر، وفي كمي مائة جزء في كل جزء ألف حديث، وسمعت أبا علي الحافظ يقول: كان محمد بن المسيب يمشي بمصر، وفي كمه مائة ألف حديث، كان دقيق الخط، وصار هذا كالمشهور من شأنه (2).
وكان محدث أصبهان الإمام الرحال الحافظ الثقة، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان الأصبهاني الخازن المشهور بابن المقرئ، صاحب المعجم الكبير، والأربعين حديثا المتوفّى سنة (381 هـ) يقول: طفت الشرق والغرب أربع مرات، ورُوي عنه أنه قال: مشيت بسبب نسخةِ مُفَضَّل بن فَضالة سبعين مرحلةً، ولو عُرضت علي خَبّاز برغيف لم يقبلها، وكان يقول: دخلت بيت المقدس عشر مرات (3).
(1)"تقدمة الجرح والتعديل" 1/ 363 - 364.
(2)
"تذكرة الحفّاظ" 3/ 789 - 790.
(3)
المصدر السابق 3/ 973 - 974.
وكان الإمام الحافظ الجوّال أبو عبد الله، محمد بن إسحاق يحيى بن منده من أئمة هذا الشأن، وثقاتهم، وُلد سنة (310 هـ) طوّف الأقاليم، وبقي في الرحلة نحوًا من أربعين سنة، وكتب بيده عدّة أحمال، وعدة شيوخه الذين سمع، وأخذ عنهم ألف وسبع مائة شيخ، ولمّا رجع من الرحلة الطويلة، كانت كتبه عدة أحمال، حتى قيل: إنها كانت أربعين حِمْلًا من الكتب والأجزاء، وما سُمع أن أحدًا من هذه الأمة سَمِعَ ما سَمِعَ، ولا جَمَعَ ما جَمَعَ، وكان ختام الرحالين، وفرد المكثرين، مع الحفظ والمعرفة والصدق، وكثرة التصانيف.
وقال جعفر المستغفريّ: ما رأيت أحدًا أحفظ من أبي عبد الله بن منده، سألته يومًا كم يكون سماعات الشيخ؟ قال: تكون خمسة آلاف منّ، قلت: المنّ يجيء عشرة أجزاء كبار. وقال الباطرقانيّ: سمعت أبا عبد الله يقول: طفتُ الشرق والغرب مرّتين.
توفّي ابن منده في سلخ ذي القعدة (395 هـ). (1).
وكان محمد بن طاهر بن علي الحافظ العالم المكثر الجوال، أبو الفضل المقدسي المتوفّى سنة (507 هـ) ما كان على وجه الأرض له نظير في عصره، قال السلفي: سمعت ابن طاهر يقول: كتبت "الصحيحين"، و"سنن أبي داود" سبع مرات بالأجرة، و"سنن ابن ماجه" عشر مرات بالري. قال أبو مسعود عبد الرحيم الحاجيّ: سمعت ابن طاهر يقول: بُلْتُ الدم في طلب الحديث مرتين: مرة ببغداد، ومرة بمكة، كنت أمشي حافيًا في الحرّ، فلحقني ذلك، وما ركبت دابةً قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في حال الطلب أحدًا، كنت أعيش على ما يأتي، وقيل: كان يمشي دائمًا في اليوم والليلة عشرين فرسخًا، وكان قادرًا على ذلك (2).
وذكر الحافظ أبو إسحاق الْحَبّال قال: كنت يومًا عند أبي نصر السجزي (3)، فَدُقّ
(1) المصدر السابق 3/ 1031 - 10 - 36.
(2)
المصدر السابق 4/ 1242 - 1243.
(3)
هو الحافظ الإمام علم السنة، عبيد الله بن سعيد بن حاتم بن أحمد أبو نصر الوائلي =
الباب، فقمت ففتحته، فدخلت امرأة، وأخرجت كيسا فيه ألف دينار، فوضعته بين يدي الشيخ، وقالت أنفقها كما ترى، قال: ما المقصود؟ قالت: تتزوجني، ولا حاجة لي في الزوج، ولكن لأخدمك، فأمرها بأخذ الكيس، وأن تنصرف، فلما انصرفت قال: خرجت من سجستان بنية طلب العلم، ومتى تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئًا (1).
وذكر الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيتُ ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أُحصي حتى لمّا زاد على ألف فرسخ تركته، أما ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد ففي لا أُحصى كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشيًا، ومن مصر إلى الرملة ماشيًا، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طَرَسُوس، ثم رجعت من طَرَسوس إلى حمص، وكان بقي عليّ شيء من حديث أبي اليمان، فسمعت، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرَّقَّة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيًا، كلُّ هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين، خرجت من الرَّيِّ سنة ثلاث عشرة ومائتين، قَدِمنا الكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة، والمقرئ حيّ بمكة، وجاءنا نعيه، ونحن بالكوفة، ورجعت سنة إحدى
= البكري نزيل الحرم ومصر وصاحب "الإبانة الكبرى في مسألة القرآن"، المتوفّى سنة (4444 هـ) من أحفظ أهل زمانه للحديث، طوّف الآفاق في طلب الحديث. "تذكرة الحفاظ" 3/ 1118 - 1119.
(1)
المصدر السابق.
وعشرين ومائتين، وخرجت المرة الثانية سنة اثنتين وأربعين، ورجعت سنة خمس وأربعين، أقمت ثلاث سنين، وقَدِمت طَرَسوس سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة.
وقال عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: كنا في البحر، فاحتلمت، فأصبحت، وأخبرت أصحابي به، فقالوا لي: اغمس نفسك في البحر، قلت: إني لا أحسن أن أَسْبَح، فقالوا: إنا نَشُدّ فيك حبلًا، ونُعَلِّقُك من الماء، فشَدُّوا فيّ حبلًا وأرسلوني في الماء، وأنا في الهواء أريد إسباغ الوضوء، فلما توضأت، قلت لهم: أرسلوني قليلًا، فأرسلوني، فغمست نفسي في الماء، قلت: ارفعوني، فرفعوني.
وقال عبد الرحمن أيضًا: سمعت أبي يقول: لمّا خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري، صرنا إلى الجار، وركبنا البحر، وكنا ثلاثة أنفس: أبو زهير الْمرْوَرُّوذِيّ شيخ، وآخر نيسابوري، فركبنا البحر، وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا، وفني ما معنا من الزاد، وبقيت بقية، فخرجنا إلى البر، فجعلنا نمشي أيامًا على البر، حتى فني ما معنا من الزاد والماء، فمشينا يومًا وليلةً لم يأكل أحد منا شيئًا، ولا شربنا، واليوم الثاني كمثله، واليوم الثالث، كل يوم نمشي إلى الليل، فإذا جاء المساء صلينا، وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضَعُفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء، فلما أصبحنا اليوم الثالث، جعلنا نمشي على قدر طاقتنا، فسقط الشيخ مغشيا عليه، فجئنا نحركه، وهو لا يعقل، فتركناه ومشينا أنا وصاحبي النيسايوري قدر فرسخ أو فرسخين، فضعفت، وسقطت مغشيا عليّ، ومضى صاحبي وتركني، فلم يزل هو يمشي إذ بَصُرَ من بعيد قومًا، قد قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى صلى الله عليه وسلم، فلما عاينهم لَوَّح بثوبه إليهم.
فجاءوه معهم الماء في إداوة، فسَقَوه، وأخذوا بيده، فقال لهم: الحقوا رفيقين لي قد القوا بأنفسهم مغشيّا عليهم، فما شَعَرت إلا برجل يصب الماء على وجهي، ففتحت عيني، فقلت: اسقني، فصب من الماء في ركوة، أو مشربة شيئًا يسيرًا، فشربت،
ورجعت إلي نفسي، ولم يروني ذلك القدر، فقلت: اسقني فسقاني شيئًا يسيرًا، وأخذ بيدي، فقلت: ورائي شيخ مُلْقًى.
قال: قد ذهب إلى ذاك جماعة، فأخذ بيدي، وأنا أمشي أجُرّ رجلي، ويسقيني شيئًا بعد شيء، حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم، وأتوا برفيقي الثالث الشيخ، وأحسنوا إلينا، فبقينا أيامًا حتى رجعت إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتابا إلى مدينة، يقال لها: راية إلى واليهم، وزوّدونا من الكعك والسويق والماء، فلم نزل نمشي حتى نَفِدَ ما معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشي جياعًا عطاشًا على شط البحر، حتى وقعنا إلى سُلَحْفاة قد رَمَى به البحر مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير، فضربنا على ظهر السلحفاة، فانفلق ظهره، وإذا فيها مثل صفرة البيض، فأخذنا من بعضَ الأصداف الملقى على شط البحر.
فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر، فنتحساه حتى سكن الجوع والعطش، ثم مررنا وتحملنا حتى دخلنا مدينة الراية، وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم، فأنزلنا في داره، وأحسن إلينا، وكان يُقَدِّم إلينا كل يوم القرع، ويقول لخادمه هاتي لهم باليقطين المبارك، فيقدم إلينا من ذاك اليقطين مع الخبز أيامًا، فقال واحد منا بالفارسية: لا تدعو باللحم المشؤوم، وجعل يسمع الرجل صاحب الدار، فقال أنا أحسن بالفارسية، فإن جدتي كانت هروية، فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا هناك، وزوّدنا إلى أن بلغنا مصر. انتهى (1).
ومما كتبه الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابورّي رحمه الله المتوفّي (405 هـ) في كتابه "معرفة علوم الحديث" جـ: 1 ص: 2: أما بعد: فإني لمّا رأيت الْبِدع في زماننا كثُرَت، ومعرفة الناس بأصول السنن قد قَلَّت مع إمعانهم في كتابة الأخبار، وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف، يشتمل على ذكر
(1)"تقدمة الجرح والتعديل" 1/ 363 - 366.
أنواع علم الحديث، مما يحتاج إليه طلبة الأخبار، المواظبون على كتابة الآثار، وأَعمِد في ذلك سلوك الاختصار، دون الإطناب في الإكثار.
ثم أخرج بسنده من طريق شعبة، عن معاوية بن قرة، قال: سمعت أبي، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يزال ناسٌ من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة"(1)
قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن عبد الحميد الأدمي بمكة، يقول: سمعت موسى بن هارون يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول -وسئل عن معنى هذا الحديث-: فقال: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحابَ الحديث، فلا أدري من هم؟.
قال الحاكم: وفي مثل هذا قيل: مَن أَمَّر السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحقّ، فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يُرْفَع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث، ومن أحقّ بهذا التأويل من قوم، سلكوا مَحَجَّة الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودَمَغُوا أهل البِدَع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، ومن قوم آثروا قَطْعَ المفاوز والقفار، على التنعم في الدِّمَنِ والأوطار وتَنَعَّمُوا بالبؤس في الأسفار، مع مُساكنة العلم والأخبار، وقَنِعُوا عند جمع الأحاديث والآثار، بوجود الكِسَر والأَطْمار، قد رَفَضُوا الإلحاد الذي تَتُوق إليه النفوس الشهوانية، وتوابعَ ذلك من البدع والأهواء، والمقاييسَ والآراء والزيغ، جعلوا المساجد بيوتهم، وأساطينها تُكَاهم، وبَوَاريها فُرُشهم.
ثم أخرج بسنده عن عمر بن حفص بن غياث، قال: سمعت أبي، وقيل له: ألا تنظر إلى أصحاب الحديث، وما هم فيه؟ قال: هم خير أهل الدنيا.
وأخرج أيضًا عن علي بن خَشْرَم يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: إني
(1) حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ (2192) ونقل عن البخاريّ، عن ابن المدينيّ قال: هم أهل الحديث، ورواه ابن ماجه، وتقدّم برقم (6).
لأرجو أن يكون أصحاب الحديث خير الناس، يقيم أحدهم ببابي، وقد كتب عني، فلو شاء أن يرجع، ويقول: حدثني أبو بكر جميع حديثه فَعَل، إلا أنهم لا يكذبون.
قال الحاكم: ولقد صدقا جميعًا إن أصحاب الحديث خير الناس، وكيف لا يكونون كذلك، وقد نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاؤهم الكتابة، وسَمَرَهم المعارضة، واسترواحهم المذاكرة، وخَلُوقَهم المداد، ونومهم السُّهَاد، واصطلاءهم الضياء، وتوسدهم الحصى، فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس، فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تَعَلُّم السنن سرورهم، ومجالس العلم حُبُورهم، وأهل السنة قاطبةً إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم.
قال الحاكم: سمعت أبا الحسين، محمد بن أحمد الحنظلي ببغداد يقول: سمعت أبا إسماعيل، محمد بن إسماعيل الترمذي يقول: كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فقال له أحمد بن الحسن: يا أبا عبد الله، ذَكَروا لابن أبي قتيلة (1) بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله، وهو ينفض ثوبه، فقال: زنديق زنديق زنديق، ودخل البيت.
قال الحاكم: سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ يقول: سمعت جعفر بن محمد بن سنان الواسطي يقول: سمعت أحمد بن سنان القطان يقول: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نُزع حلاوة الحديث من قلبه.
قال الحاكم: سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارا يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن سلام الفقيه يقول: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد والبدع، ولا أبغض إليهم من سماع الحديث، وروايته بإسناده.
(1) قال ابن الصلاح: هو يحيى بن إبراهيم بن أبي قتيلة، بصريّ ليس بذاك، يروي عن مالك، وعبد الصمد بن محمد.
قال الحاكم: وعلى هذا عَهِدنا في أسفارنا وأوطاننا كُلَّ من يُنسَب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة، ويسميها الْحَشْوِيَّة.
قال الحاكم: سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، وهو يناظر رجلًا، فقال الشيخ: حدثنا فلان، فقال له الرجل: دَعْنَا من حدثنا، إلى متى حدثنا؟ فقال له الشيخ: قم يا كافر، ولا يحل لك أن تدخل داري بعد هذا، ثم التفت إلينا، فقال: ما قلت قط لأحد لا تدخل داري إلا لهذا. انتهى كلام الحاكم رحمه الله تعالى (1).
ومما كتبه الحافظ أبو بكر الخطيب في مدح أهل الحديث في كتابه "شرف أصحاب الحديث":
قال: وقد جعل الله تعالى أهله -يعني أهل الحديث- أركان الشريعة، وهَدَم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملّته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحُججهم قاهرة، وكلُّ فئة تتحيّز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيًا تعكُف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عُدّتهم، والسنّة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرّجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يُقبَل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حَفَظة الدين وخَزَنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختُلِف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع، ومنهم كلُّ عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارىء متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم، وكلُّ مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، لا يضرّهم من خذلهم، ولا يُفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير.
(1)"معرفة علوم الحديث" ص 1 - 6 - 110.
ثم قال: قال عليّ بن المدينيّ في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم. . .": هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذاهب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذبّون عن العلم، لولاهم لم تجد عند المعتزلة، والرافضة، والجهميّة شيئًا من السنن.
قال الخطيب رحمه الله: وقد جعل ربّ العالمين الطائفة المنصورة حُرّاس الدين، وصَرَف عنهم كيد المعاندين؛ لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآئار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا يعرّجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولًا وفعلًا، وحَرَسوا سنته حفظًا ونقلًا، حتى ثبّتوا بذلك أصلها، وكانوا أحقّ بها، وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذبّ بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفّاظ لأركانها، والقوّامون بأمرها وشأنها، إذا صُدِف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون.
انتهى المقصود من كلام الخطيب رحمه الله تعالى (1).
ومما كتبه العلامة الكبير الحافظ المفسّر الواعظ المشهور عبد الرحمن بن علي بن محمد المشهور بابن الجوزيّ المتوفّى سنة (597 هـ) في مدح العلم في كتابه "صيد الخاطر" قوله:
تأملتُ أحوال الناس في حالة علوّ شأنهم، فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ، فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب، ومنهم من فرّط في اكتساب العلم، ومنهم من أكثر من الاستمتاع باللذّات، فكلهم نادم في حالة الكبر حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوى ضعُفت، أو فضيلة فاتت، فيُمضي زمان الكبر في حسرات، فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال: وأسفاه على ما جنيت،
(1)"شرف أصحاب الحديث" ص 8 - 11.
وإن لم يكن له إفاقة صار متأسّفًا على فوات ما كان يلتذّ به، فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يَحْمَدُ جنى ما غَرَس، ويلتذّ بتصنيف ما جَمَع، ولا يرى ما يفقد من لذّات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذّاته في الطلب الذي كان تأمل به إدراك المطلوب، وربّما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها، كما قال الشاعر:
أَهْتَزُّ عِنْدَ تَمنِّي وَصْلِهَا طَرَبًا
…
وَرُبَّ أُمْنِيَّةٍ أَحْلَى مِنَ الظَّفَرِ
ولقد تأمّلت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندِمتُ عليه، ثم تأملت حالي، فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم، فقال لي إبليس: ونسيتَ تعبك وسهَرَك؟ فقلتُ له: أيها الجاهل تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف، وما طالت طريق أدّت إلى صديق:
جَزَى اللهُ الْمسِيرَ إِلَيْهِ خَيْرًا
…
وَإِنْ تَرَكَ الْمطَايَا كَالْمزَادِ
ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذّة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عُرِفت بكثرة سماعي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحواله، وآدابه، وأحوال الصحابة، وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود (1). انتهى كلام ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى (2).
(1) هكذا النسخة، ولينظر.
(2)
"صيد الخاطر" 234 - 235.
(الفصل الثاني): في ذكر قصائد في مدح أهل الحديث:
(فمنها): ما قاله السيّد المرتضى الحسينيّ رحمه الله تعالى في أماليه الشيخونيّة [من الطويل]:
عَلَيْكَ بأَصْحَاب الحدِيثِ فَإنَّهُمْ
…
خَيَارُ عِبَادِ الله في كُلِّ مَحْفَل
وَلَا تَعْدُوَنْ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فَإنَّهُمْ
…
نُجُومُ الهُدَى في أَعْيُنِ المُتأَمِّل
جَهَابِذَةٌ شُمٌّ سَرَاةٌ فَمَنْ أَتَى
…
إِلَى حَيِّهِمْ يَومًا فَبِالنُّورِ يَمْتَلِي
لَقَدْ شَرَقَتْ شَمْسُ الهُدَى في وُجُوهِهِمْ
…
وَقَدْرُهُمُ في النَّاسِ مَا زَالَ يَعْتَلِي
فَلِلَّهِ مَحْيَاهُمْ مَعًا وَمَمَاتُهُمْ
…
لَقَدْ ظَفِرُوا إِدْرَاكَ مَجْدٍ مُؤَثَّلِ
وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مَقَالَةً
…
غَدَتْ مِنْهُمُ فَخْرًا لِكُل مُحَصِّلِ
أَرَى الْمرْءَ مِنْ أَهْلِ الحدِيثِ كَأَنَّهُ
…
رَأَى الْمرْءَ مِنْ صَحْبِ النَّبِيِّ المُفَضَّلِ
عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ مَا ذَرَّ شَارِقٌ
…
وَآلٍ لَهُ وَالصَّحْبِ أَهْلِ التَّفَضُّلِ
(ومنها): ما قاله السيّد المرتضى الواسطيّ [من البسيط]:
عِلْمُ الْحدِيثِ شَريفٌ لَيْسَ يُدْرِكُهُ
…
إلَّا الَّذِي فَارَقَ الأَوْطَانَ مُغْتَرِبَا
وَجَاهَدَ النَّفْسَ في تَحْصِيلِهِ فَغَدَا
…
يَجْتَابُ بَحْرًا وَفي الأَوْطَارِ مُضْطَربَا
يَلْقَى الشُّيُوخَ وَيَرْوِي عَنْهُمُ سَنَدًا
…
وَحَافِظٌ مَا رَوَى عَنْهُمْ وَمَا كَتبَا
ذَاكَ الَّذِي فَازَ بِالحُسْنَى وَتَمَّ لَهُ
…
حَظُّ السَّعَادَةِ مَوْهُوبًا وَمُكْتَسَبَا
طُوبَى لمَنْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ صَاحِبَهُ
…
لَقَدْ نَفَى اللهُ عَنْهُ الهمَّ وَالْوَصَبَا
(ومنها): ما قاله بعضهم [من البسيط]:
أَصَحُّ مَا قِيلَ بَعْدَ الذِّكْرِ في الْخبَرِ
…
حَدِيثُ خَيْرِ الْبَرَايَا سَيِّدِ الْبَشَر
أَعْظِمْ بهِ هَادِيًا زَكَّاهُ خَالِقُهُ
…
بالْعَدْلِ وَالْفَضْل وَالآيَاتِ وَالسُّوَرِ
فَلَوْ تَمَسَّكَ خَلْقُ الله أَجْمَعُهُمْ
…
بِلَفْظَةٍ مِنْهُ نَالُوا أَشْرَفَ الْوَطَرِ
هَذَا هُوَ الْعِلْمُ وَالْبَحْرُ الَّذِي سَعِدَتْ
…
غُوَّاصُهُ بِأَعَالِي جَوْهَرِ الدُّرَرِ
تُشْفَى الصُّدُورُ بِهِ حَقًّا وَخَادِمُهُ
…
يَوْمَ الْوُرُودِ تَرَاهُ فَازَ بِالصَّدَرِ
تُلْقِي مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ أَجْنِحَةً
…
لَهُ إِذَا سَارَ هَذا أَفْخَرُ الْبُشَرَ
يَسْتَغْفِرُ الله حِيتَانُ الْبِحَارِ لمَنْ
…
يَرْعَاهُ بِالْفَهْمِ لَوْ وَقَتًا مِنَ الْعُمُرِ
الْفَضْلُ لله هَذَا نُورُ من شَرَقَتْ
…
لَهُ الْبَشَائِرُ في الآفَاقِ بِالْبُشَرِ
صَلَّى عَلَيْهِ إِلاهُ الْعَرْشِ مَا صَدَحَتْ
…
وُرْقٌ عَلَى فَنَنِ الأَغْصَانِ وَالشَّجَرِ
(ومنها): ما قاله العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعانيّ رحمه الله تعالى [من الطويل]:
سَلَامٌ عَلَى أَهْلِ الْحدِيثِ فَإنَّني
…
نَشَأْتُ عَلَى حُبِّ الأَحَادِيثِ مِنَ مَهْدِي
هُمُ بَذَلُوا في حِفْظِ سُنَّةِ أَحْمَدِ
…
وَتَنْقِيحِهَا مِنْ جُهْدِهِمْ غَايَةَ الجُهْدِ
وَأَعْنِي بِهِمْ أَسْلَافَ أُمَّةِ أَحْمَد
…
أُولَئِكَ في بَيْتِ الْقَصِيدِ هُمُ قَصدِي
أُولَئِكَ أَمْثَالُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمِ
…
وَأَحْمَدَ أَهْلِ الجدِّ في الْعِلْمِ وَالجدِّ
بُحُورٌ وَحَاشَاهُمْ عَنِ الجزْرِ إِنَّمَا
…
لهُمْ مَدَدٌ يَأْتِي مِنَ الله بِالمدِّ
رَوَوْا وَارْتَوَوْا مِنْ بَحْرِ عِلْمِ مُحَمَّدٍ
…
وَلَيْسَتْ لهُمْ تِلْكَ الْمذَاهِبُ مِنْ وِرْدِ
كفَاهُمْ كتَابُ اللهِ وَالسُّنّةُ الَّتِي
…
كفَتْ قَبْلَهُمْ صَحْبَ الرَّسُولِ ذَوِي الْمجْدِ
أَأَنْتُمُ أَهْدَى أَمْ صَحَابَةُ أَحْمَدِ
…
وَأَهْلُ الْكِسَا هَيْهَاتَ مَا الشَّوْكُ كَالْوَرْدِ
أُولَئِكَ أَهْدَى في الطَرِيقَةِ مِنْكُمُ
…
فَهُمْ قُدْوَتِي حَتَّى أُوَسَّدَ في لحْدِي
وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمُقَلِّدِ في الهُدَى
…
وَمَنْ يَقْتَدِي وَالضِّدُّ يُعْرَفُ بِالضِّدِّ
فَمَنْ قَلَّدَ النُّعْمَانَ أَصْبَحَ شَارِبًا
…
نَبِيذًا وَفِيهِ الْقَوْلُ لِلْبَعْض بِالحدِّ
وَمَنْ يَقتَدي أَضْحَى إِمَامَ مَعَارِفٍ
…
وَكَانَ أُوَيْسًا في الْعبادةِ والزهدِ
فَمُقتَدِيًا في الحَقِّ كُنْ لا مُقَلِّدًا
…
وَخَلِّ أَخَا التَّقْلِيدِ في الأَشْرِ بِالقدِّ
(ومنها): ما قاله أبو محمد هبة الله بن الحسن الشيرازيّ رحمه الله تعالى [من الطويل أيضًا]:
عَلَيْكَ بأَصْحَاب الحدِيث فَإِنَّهمْ
…
عَلَى مَنْهَج لِلدِّين مَا زَالَ مُعْلمَا
وَمَا النُّورُ إلَّا في الْحدِيثِ وَأَهْلِه
…
إذَا مَا دَجَى اللَيلُ الْبَهِيمُ وَأَظْلَمَا
فَأَعْلَى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى السُّنَنِ اعْتَزَى
…
وَأَعْمى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى الْبِدَعِ انْتَمَى
وَمَنْ تَرَك الآثَارَ ضَلَّلَ سَعْيَهُ
…
وَهَلْ يَترُكُ الآثَارَ مَن كَان مُسْلِمَا
(ومنها): ما قاله أبو بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله [من الطويل أيضًا]:
تَمَسَّكْ بِحَبْلِ اللهِ وَاتَّبِع الهُدَى
…
وَلَا تَكُ بِدْعِيًّا لعَلَك تُفْلِحُ
وَلُذْ بِكِتَابِ الله وَالْسُّنَنِ الَّتِي
…
أَتَت عَنْ رَسُولِ الله تَنْجُو وَتَرْبَحُ
وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلهمْ
…
فَقَوُل رَسُولِ الله أَزْكَى وَأَشْرَحُ
وَلَا تَكُ في قَوْمٍ تَلَهَّوْا بِدِينِهِمْ
…
فَتَطْعَنُ في أَهْلِ الْحدِيثِ وَتجْرَحُ
إِذَا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يَا صَاح هَذِهِ
…
فَأَنْتَ عَلى خَيْرٍ تَبِيتُ وتُصْبِحُ
(ومنها): ما قاله أبو بكر حميد القرطبيّ رحمه الله تعالى [من البسيط]:
نُورُ الحدِيثِ مُبِينٌ فَادْنُ وَاقْتَبِسِ
…
وَاحْدُو الرِّكَابَ لَهُ نَحْو الرِّضَى النَّدُسِ
وَاطْلُبْهُ بِالصِّينِ فَهْوَ الْعِلْمُ إِنْ رُفِعَتْ
…
أَعْلَامُهُ بِرُبَاهَا يَا ابْنَ أَنْدَلُسِ
فَلَا تُضِعْ في سِوَى تَقْيِيدِ شارِدِهِ
…
عُمْرًا يَفُوتُكَ بَيْنَ اللَّحْظِ وَالنَّفَسِ
وَخلِّ سَمْعَكَ عَنْ بَلْوَى أَخِي جَدَلٍ
…
شُغْلُ اللَّبِيبِ بِهَا ضَرْبٌ مِنَ الْهوَسِ
مَا إِنْ سَمَتْ بِأَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرٍ
…
وَلَا أَتَتْ عَنْ أَبِي هِرٍّ وَلَا أَنَسِ
إِلَّا هَوَى وَخُصُومَاتٍ مُلَفَّقَةً
…
لَيْسَتْ بِرَطْبٍ إِذَا عُدَّتْ وَلَا يَبَسِ
فَلَا يَغُرُّكَ مِنْ أَرْبَابِهَا هَذَرٌ
…
أَجْدَى وَجِدُّكَ مِنْهَا نَغْمَةُ الْجرَسِ
أَعِرْهُمُ أذَنًا صُمًّا إِذا نَطَقُوا
…
وَكُنْ إِذَا سَألُوا تُعْزَى إِلَى خَرَسِ
مَا الْعِلْمُ إِلَّا كتَابُ الله أَوْ أثرٌ .... يَجْلُو بِنُورِ هُدَاهُ كُلَّ مُلْتَبِسِ
نُورٌ لمُقْتَبِسٍ خَيرٌ لِمُلْتَمِسٍ
…
حِمًى لمُحْتَرِسٍ نُعْمَى لمُبْتَئِسِ
فَاعْكُفْ بِبَابِهِما عَلَى اطِّلَابِهِمَا
…
تَمْحُو الْعَمَى بِهِمَا عَنْ كُلِّ مُلْتَمِسِ
وَرِدْ بِقَلْبِكَ عَذْبًا مِنْ حِيَاضِهِمَا
…
تَغْسِلْ بِمَاءِ الهُدَى مَا فِيهِ مِنْ دَنَسِ
وَاقْفُ النَّبيَّ وَأَتْبَاعَ النَّبِيِّ وَكُنْ
…
مِنْ هَدْيِهِمْ أَبدًا تَدْنُوا إِلَى قَبَسِ
وَالْزَمْ مَجَالِسَهُمْ وَاحْفَظْ مُجَالِسَهُمْ
…
وَانْدُبْ مَدَارِسَهُمْ بِالأَرْبُع الدُّرُسِ
وَاسلُكْ طَرِيقَهُمُ وَالْزَمْ فَرِيقَهُمُ
…
تَكُنْ رَفِيقَهُمُ في حَضْرَةِ الْقُدُسِ
تِلْكَ السَّعَادَةِ إِنْ تُلْمِمْ بِسَاحَتِها
…
فَحُطَّ رَحْلَك قَدْ عْوِفيتَ مِنْ تَعَسِ
وقال بعض علماء الهند في ذمّ من يشتغل بعلم الكلام والمنطق، مُعْرِضًا عن علم الحديث [من الطويل]:
أَيَا عُلَمَاءَ الهنْدِ طَالَ بَقَاؤُكُمْ
…
وَزَالَ بِفَضْلِ الله عَنْكُمْ بَلَاؤُكُمْ
رَجَوْتُمْ بِعِلْمِ الْعَقْلِ فَوْزَ سَعَادَةٍ
…
وَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ يَخِيبَ رَجَاؤُكُمْ
فَلَا في تَصَانِيفِ الأَثِيرِ هِدَايَةٌ
…
وَلَا في إِشَارَاتِ ابْنِ سِينَا شِفَاؤُكُمْ
وَلَا طَلَعَتْ شَمْسُ الهُدَى مِنْ مَطَالِعِ
…
فَأَوْرَاقُهَا دَيْجُورُكُمْ لَا ضِيَاؤُكُمْ
وَلَا كَانَ شَرْحُ الصَّدْرِ لِلصَّدْرِ شَارِحًا
…
بَلِ ازْدَادَ مِنْهُ في الصُّدُورِ صَدَاؤُكُمْ
وَبَازِغَةٌ لَا ضَوْءَ فِيهَا إِذَا بَدَتْ
…
وَأَظْلَمَ مِنْهَا كَاللَّيَالِي ذَكَاؤُكُمْ
وَسُلَّمُكُمْ مِمَّا يَزِيدُ تَسَفُّلًا
…
وَلَيْسَ بِهِ نَحْوَ الْعِليِّ ارْتِقَاؤُكُمْ
فَمَا عِلْمُكُمْ يَوْمَ الْمعَادِ بِنَافِع
…
فَيَا وَيْلَتِي مَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُكُمْ
أَخَذْتُمْ عُلُومَ الْكُفْرِ شَرْعًا كَأَنَّمَا
…
فَلَاسِفَةُ الْيُونَانِ هُمْ أَنْبِيَاؤُكُمْ
مَرِضْتُمْ فَزِدْتُمْ عِلَّةً فَوْقَ عِلَّةٍ
…
تَدَاوَوْا بِعِلْمِ الشَّرْع فَهْوَ دَوَاؤُكُمْ
صِحَاحُ حَدِيثِ المُصْطَفَى وَحِسَانُهُ
…
شِفَاءٌ عَجِيبٌ فَلْيَزُلْ مِنْهُ دَاؤُكُمْ
(ومنها): ما قاله العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود الإِلْبِيريّ الأندلسيّ
المتوفّى في نحو (460 هـ)(1) يحثّ فيها ولده المدعُوّ أبا بكر على طلب العلم الشريف، والعمل به، والزهد في الدنيا، وترك الخيلاء، وغير ذلك من الأخلاق الكريمة التي ينبغي أن يَتَخَلَّق، ويَتَحَلَّى بها طالب العلم، قال رحمه الله تعالى [من بحر الوافر]:
تَفُتُ فُؤَاكَ الأَيَّامُ فَتًّا (2)
…
وَتَنْحِتُ جِسْمَكَ السَّاعَاتُ نَحْتَا
وَتَدْعُوكَ المنُونُ (3) دُعَاءَ صِدْقٍ
…
أَلَا يَا صَاح أَنْتَ أُرِيدُ أَنْتَا
أَرَاكَ تُحِبُّ عِرْسًا ذَاتَ خِدْرٍ
…
أَبَتَّ طَلَاقَهَا الأَكيَاسُ بَتَّا
تَنَامُ الدَّهْرَ وَيْحكَ في غَطِيطٍ
…
بِهَا حَتَى إِذَا مُتَّ انْتبَهْتَا
فَكَمْ ذَا أَنْتَ مَخْدُوعٌ وَحَتَّى
…
مَتَى لَا تَرْعَوِي عَنْهَا وَحَتَّى
أَبَا بَكْرٍ دَعَوْتُكَ لَوْ أَجَبْتَا
…
إِلَى مَا فِيهِ حَظُّكَ لَوْ عَقَلْتَا
إِلَى علمِ تَكُونُ بِهِ إِمَامًا
…
مُطَاعًا إِنْ نَهَيْتَ وَإِنْ أَمْرْتَا
وَيَجْلُو مَا بِعَيْنِكَ مِنْ غِشَاهَا
…
وَيَهْدِيكَ الطَّرِيقَ إِذَا ضَلَلْتَا
وَتَحْمِلُ مِنْهُ في نَاديكَ تَاجَا
…
وَيَكْسُوكَ الجمَالُ إِذَا عَرِيتَا
يَنَالُكَ نَفْعُهُ مَاَ دُمْتَ حَيًّا
…
وَيَبْقَى ذِكْرُهُ لك إذ ذَهْبْتَا
هُوَ الْعَضْبُ المُهَنَّدُ لَيْسَ يَنْبُو
…
تُصِيبُ بِهِ مَقَاتِلَ مَنْ أَرَدْتَا
وَكَنْزٌ لَا تخَافُ عَلَيْهِ لِصًّا
…
خَفِيفُ الْحمْلِ يُوجَدُ حَيْثُ كُنْتَا
يَزِيدُ بِكَثْرَةِ الإِنْفَاقِ مِنْهُ
…
وَيَنْقُصُ إِنْ بِهِ كَفًّا شَدَدْتَا
(1) هو إبراهيم بن مسعود بن سعيد، أبو إسحاق التُّجيبيّي الإِلْبِيريّ المتوفى في نحو (460 هـ) شاعر أندلسيّ. انتهى "معجم الأعلام" ص 23. وقال العلامة ابن الأبّار في "التكملة لكتاب الصلة": كان الناظم أبو إسحاق رحمه الله تعالى من أهل العلم والعمل، شاعرًا مجيدًا، وشعره مدوّن كله في الحكم والمواعظ.
(2)
أي تكسره كسرًا.
(3)
"الْمَنُون" بفتح فضم: الموت.
فَلَوْ قد ذُقْتَ مِنْ حَلْوَاهُ طَمْعًا
…
لآثَرْتَ التَعَلُّمَ وَاجْتَهَدْتَا
وَلَمْ يَشْغَلْكَ عَنْهُ هَوًى مُطَاعٌ
…
وَلَا دُنْيَا بِزُخْرُفِهَا فُتِنْتَا
وَلَا أَلهاكَ عَنْهَ أَنِيقُ رَوْضٍ
…
وَلَا خِدْرٌ بِزِينَتِهَا كَلِفْتَا
فَقُوتُ الرُّوحِ أَروَاحُ الْمعَانِي
…
وَلَيْسَ بِأَنْ طَعِمْتَ وَلَا شَرْبْتَا
فَوَاظِبْهُ وَخُذْ بِالحدِّ فِيهِ
…
فَإِنْ أَعْطَاكَهُ اللهُ انْتَفَعْتَا
وَإِنْ أُعطِيتَ فِيهِ طُولَ بَاعِ
…
وقَالَ النَّاسُ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَا
فَلَا تَأْمَنْ سُؤَالَ الله عَنْه
…
بِتَوْبيخ عَلِمْتَ فَهَلْ عَمِلْتَا
فَرَأْسُ الْعِلْم تَقْوَى الله حَقًّا
…
وَلَيْسَ بِأَنْ يُقَالَ لَقَدْ رَئسْتَا
وَاَفْضَلُ ثَوْبِكَ الإِحْسَانُ لَكِنْ
…
تُرَى ثَوْبَ الإِسَاءَةِ قَدْ لَبِسْتَا
إذَا مَا لم يُفِدْكَ الْعِلْمُ خيْرًا
…
فَخَيرٌ مِنْه أَنْ لَوْ قَدْ جهِلْتَا
فَإِن أَلْقَاكَ فَهْمُكَ في مَهَاوٍ
…
فَلَيْتَكَ ثُمَ لَيتَكَ مَا فَهِمْتَا
سَتَجْنِي مِن ثِمارِ الْعَجْزِ جَهْلًا
…
وَتَصغُرُ في الْعُيُونِ إِذَا كَبرْتَا
وَتفْقَدُ إِن جَهِلَتَ وَأَنْتَ بَاقٍ
…
وَتُوجَدُ إِنْ عَلِمْتَ وَلَوْ فُقِدْتَا
وَتَذْكُرُ قَوْلَتِي لَكَ بَعْدَ حِينٍ
…
إِذَا حَقًّا بِهَا يَوْمًا عَمِلْتَا
وَإِنْ أَهْمَلْتَهَا وَنَبَذْتَ نُصْحًا
…
وَمِلْتَ إِلَى حُطَامٍ قَدْ جَمَعْتَا
فَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَم عَلَيْهَا
…
وَمَا تُغْنِي النَّدَامَةُ إِنْ نَدِمْتَا
إذَا أَبْصَرْتَ صَحْبَكَ في سَمَاءٍ
…
قَدْ ارْتَفَعُوا عَلَيْكَ وَقَدْ سَفَلْتَا
فَرَاجِعْهَا وَدَع عَنْكَ الهُوَيْنَا
…
فَمَا بِالْبُطْىءِ تُدْرِكُ مَا طَلَبْتَا
فَلَا تختَلْ بِمالِك وَالْهَ عَنْه
…
فَلَيْسَ الْمالُ إِلَّا مَا عَمِلْتَا
فَلَيسَ لجِاهِلٍ في النَّاسِ مُغْنٍ
…
وَلَوْ مُلْكُ الْعِرَاقِ لَهُ تَأَتَّى
سَيَنْطِقُ عَنْكَ عِلْمُكَ في مَلإٍ
…
وَيَكْتُبُ عَنْكَ يَوْمًا إِنْ كَتَبْتَا
وَمَا يُغنِيكَ تَشْيِيدُ الْمَبانِي
…
إِذَا بِالجهْلِ نَفْسَكَ قَدْ هَدَمْتَا
جَعَلْتَ الْمَالَ فَوْقَ الْعِلْمِ جَهْلًا
…
لَعَمْرِي في الْقَضِيَّةِ مَا عَدَلْتَا
وَبَينَهُمَا بِنَصِّ الْوَحْي بَونٌ
…
سَتعْلَمُهُ إِذَا طهَ قَرَأْتَا
لإِنْ رَفَعَ الْغَنيُّ لِوَاءَ مَالٍ
…
لأَنْتَ لِوَاءَ عِلْمِكَ قَدْ رَفَعْتَا
لإِنْ جَلَسَ الْغَنِيُّ عَلَى الْحشَايَا
…
لأَنْتَ عَلَى الْكَوَاكِبِ قَدْ جَلَسْتَا
وَإِن رَكِبَ الجْيَادَ مُسَوَمَّاتٍ
…
لأَنْتَ مَنَاهِجَ التَّقْوَى رَكِبْتَا
وَمَهْمَا افتَضَّ أَبْكَارَ الْغَوَانِي
…
فَكَمْ بِكْرٍ مِن الحِكَم افْتَضَضْتَا
وَلَيْسَ يَضُرُّكَ الإِقْتَارُ شَيْئًا
…
إِذَا مَا أَنْتَ رَبَّكَ قَدْ عَرَفْتَا
فَمَاذَا عِنْدَهُ لَكَ منْ جَمِيلٍ
…
إِذَا بِفِنَاءِ طَاعَتِه أَنَخْتَا
فَقَابِلْ بِالْقَبُولِ لِنُضح قَوْلِي
…
فَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ فَقَدْ خَسِرْتَا
وَإِنْ رَاعَيْتَهُ قَوْلًا وَفِعْلًا
…
وَتَاجَرْتَ الإِلهَ بِهِ رَبْحْتَا
فَلَيسَتْ هَذِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ
…
تَسُوءُكَ حِقْبَةً وَتَسُرُّ وَقْتَا
وَغَايَتُهَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيهَا
…
كَفَيْئِكَ أَوْ كَحُلْمِكَ إِذْ حَلَمْتَا
سُجِنْتَ بِهَا وَأَنْتَ لهَا مُحِبُّ
…
فَكَيْفَ تُحِبُّ مَا فِيهِ سُجِنْتَا
وَتُطْعِمُكَ الطَّعَامَ وَعَنْ قَرِيبٍ
…
سَتَطْعَمُ مِنْكَ مَا فِيهَا طَعِمْتَا
وَتعْرَى إِنْ لَبِسْتَ بِهَا ثِيَابًا
…
وَتُكْسَى إِن مَلَابِسَهَا خَلَعْتَا
وَتَشْهَدُ كُلَّ يَوْم دَفْنَ خِلٍّ
…
كَأَنَّكَ لَا تُرَادُ لِمَا شَهِدْتَا
وَلم تُخْلَقْ لِتَعْمُرَهَا وَلَكِن
…
لتَعْبُرَهَا فَجِدَّ لِمَا خُلِقْتَا
وَإِنْ هُدِمَتْ فَزِدْهَا أَنْتَ هَدْمًا
…
وَحَصِّنْ أَمْرَ دِينِكَ مَا اسْتَطَعْتَا
وَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا
…
إِذَا مَا أَنْتَ في أُخْرَاكَ فُزْتَا
فَلَيْسَ بِنَافِع مَا نِلْتَ مِنْهَا
…
مِنَ الْفَانِي إِذَا الْبَاقِي حُرِمْتَا
وَلَا تَضْحَكْ مَعَ السُّفَهَاءِ يَوْمًا
…
فَإِنَّكَ سَوْفَ تَبْكِي إِنْ ضَحِكْتَا
وَمَنْ لَكَ بِالسُّرُورِ وَأَنْتَ رَهْنٌ
…
وَمَا تَدْرِي أَتُفْدَى أَمْ غُلِلْتَا
وَسَلْ مِنْ رَبِّكَ التَّوْفِيقَ فِيهَا
…
وَأَخْلِصْ في السُّؤَالِ إِذَا سَألْتَا
وَنَادِ إِذَا سَجَدْتَ لَهُ اعْتِرَافًا
…
بِمَا نَادَاهُ ذُو النُّونِ ابْنُ مَتَّى
وَلَازِمْ بَابَهُ قَرْعًا عَسَاهُ
…
سَيَفْتَحُ بَابَهُ لَكَ إِنْ قَرَعْتَا
وَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ في الأَرْضِ دَأْبًا
…
لِتُذْكَرَ في السَّمَاءِ إِذَا ذَكْرْتَا
وَلَا تَقُلِ الصِّبَا فِيهِ امْتِهَالٌ
…
وَفَكِّرْ كَمْ صَغِير قَدْ دَفَنْتَا
وَقُلْ يَا نَاصِحِي بَلْ أَنْتَ أَوْلَى
…
بِنُصْحِكَ لَوْ لِفِعْلِكَ قَدْ نَظَرْتَا
تُقَطِّعُنِي عَلَى التَّفْرِيطِ لَوْمًا
…
وَبِالتَّفْرِيطِ دَهْرَكَ قَدْ قَطَعْتَا
وَفي صِغَرِي تُخَوِّفُنِي الْمنَايَا
…
وَمَا تَدْرِي بِحَالِكَ حَيْثُ شِخْتَا
وَكُنْتَ مَعَ الصِّبَا أَهْدَى سَبِيلًا
…
فَمَا لَكَ بَعْدَ شَيْبِكَ قَدْ نَكَثْتَا
وَهَا أَنَا لَمْ أَخُضْ بَحْرَ الْخطَايَا
…
كَمَا قَدْ خُضْتَهُ حَتَّى غَرِقْتَا
وَلَمْ أَشْرَبْ حُمَيَّا أُمِّ دَفْرٍ (1)
…
وَأنتَ شَرِبْتَهَا حَتَّى سَكِرْتَا
وَلَمْ أَنْشَأْ بِعَصْرٍ فِيهِ نَفْعٌ
…
وَأَنْتَ نَشَأْتَ فِيهِ وَمَا انْتَفَعْتَا
وَلَمْ أَحْلُلْ بِوَادٍ فِيهِ ظُلْمٌ
…
وَأَنْتَ حَلَلْتَ فِيهِ وَانْتَهَكْتَا
لَقَدْ صَاحَبْتَ أَعْلامًا كبَارًا
…
وَلَمْ أَرَكَ اقْتَدَيْتَ بِمَنْ صَحِبْتَا
وَنَادَاكَ الْكِتَابُ فَلَمْ تُجِبْهُ
…
وَنَبَّهَكَ الْمشِيبُ فَمَا انْتبَهْتَا
وَيَقْبُحُ بِالْفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي
…
وَأَقْبَحُ مِنْهُ شَيْخٌ قَدْ تَفَتَّى
وَنَفْسَكَ ذُمَّ لَا تَذْمُمْ سِوَاهَا
…
لِعَيْبٍ فَهْيَ أَجْدَرُ مَنْ ذَمَمْتَا
وَأَنْتَ أَحَقُّ بِالتَّفْنِيدِ مِنِّي
…
وَلَوْ كُنْتَ اللَّبِيبَ لمَا نَطَقْتَا
وَلَوْ بَكَتِ الدِّمَا عَيْنَاكَ خَوْفًا
…
لِذَنْبِكَ لَمْ أقلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَا
وَمَنْ لَكَ بِالأَمَانِ وَأنتَ عَبْدٌ
…
أُمِرْتَ فَمَا ائْتَمَرْتَ وَلَا أَطَعْتَا
(1)"الحميّا": الخمر، والدفر: النتن، ومنه قيل للدنيا: أم دفر.
ثَقُلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَسْتَ تَخْشَى
…
لجِهْلِكَ أَنْ تَخِفَّ إِذَا وُزِنْتَا
وَتُشْفِقُ لِلْمُصِرِّ عَلَى الْمعَاصِي
…
وَتَرْحَمُهُ وَنَفْسَكَ مَا رَحِمْتَا
رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى وَخَبَطْتَ عَشْوَى
…
لَعَمْرُكَ لَوْ وَصَلْتَ لمَا رَجَعْتَا
وَلَوْ وَافَيْتَ رَبَّكَ دُونَ ذَنْبٍ
…
وَنُوقِشْتَ الحسَابَ إِذَنْ هَلَكْتَا
وَلَمْ يَظْلِمْكَ في عَمَلٍ وَلَكِنْ
…
عَسِيرٌ أَنْ تَقُومَ بَما حُمِّلْتَا
وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الحشْرِ فَرْدًا
…
وَأَبْصَرْتَ المنازِلَ فِيهِ شَتَّى
لأَعْظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيهِ لهفًا
…
عَلَى مَا في حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا
تَفِرُّ مِنَ الْهجِيرِ وَتَتَّقِيهِ
…
فَهَلَّا مِنْ جَهَنَمَ قَدْ فَرَرْتَا
وَلَسْتَ تُطِيقُ أَهْوَنَهَا عَذَابًا
…
وَلَوْ كُنْتَ الْحدِيدَ بِهَا لَذُبْتَا
وَلَا تُنْكِرْ فَإِنَّ الأَمْرَ جِدٌّ
…
وَلَيْسَ كَمَا حَسِبْتَ وَلَا ظَنَنْتَا
أَبَا بَكْرٍ كَشَفْتَ أقَلَّ عَيْبِي
…
وَأَكْثَرَهُ وَمُعْظَمَهُ سَتَرْتَا
فَقُلْ مَا شِئْتَ فِيَّ مِنَ الْمخَازِي
…
وَضَاعِفْهَا فَإِنَّكَ قَدْ صَدَقْتَا
وَمَهْمَا عِبْتَنِي فِلِفَرْطِ عِلْمِي
…
بِبَاطِنِهِ كَأَنَّكَ قَدْ مَدَحْتَا
فَلَا تَرْضَ الْمعَايِبَ فَهْوَ عَارٌ
…
عَظِيمٌ يُورِثُ الْمحْبُوبَ مَقْتَا
وَيَهْوِي بِالْوَجِيهِ مِنَ الثُّرَيَّا
…
وَيُبْدِلُهُ مَكَانَ الْفَوْقِ تَحْتَا
كَمَا الطَّاعَاتُ تُبْدِلُكَ الدَّرَارِي
…
وَتَجْعَلُكَ الْقَرِيبَ وَإِنْ بَعُدْتَا
وَتَنْشُرُ عَنْكَ في الدُّنْيَا جَمِيلًا
…
وَتَلْقَى الْبِرَّ فِيهَا حَيْثُ شِئْتَا
وَتْمْشِي في مَنَاكِبِهَا عَزِيزًا
…
وَتَجْنِي الْحمْدَ فِيمَا قَدْ غَرَسْتَا
وَأَنْتَ الآنَ لَمْ تُعْرَفْ بِعَيْبٍ
…
وَلَا دَنَّسْتَ ثَوْبَكَ مُذْ نَشَأْتَا
وَلَا سَابَقْتَ في مَيْدَانِ زُورٍ
…
وَلَا أَوْضَعْتَ فِيهِ وَلَا خَبَبْتَا (1)
(1) الخبب: نوع من العدْوِ، أي الإسراع.
فَإِن لَمْ تَنْأَ عَنْهُ نَشِبْتَ فِيهِ
…
وَمَنْ لَكَ بِالْخلَاصِ إِذَا نَشِبْتَا
تُدَنِّسُ مَا تَطَهَّرَ مِنْكَ حَتَّى
…
كَأَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا طَهَرْتَا
وَصِرْتَ أَسِيرَ ذَنْبِكَ في وَثَاقٍ
…
وَكَيْفَ لَكَ الْفَكَاكُ وَقَدْ أُسِرْتَا
فَخَفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُمْ
…
كَمَا تَخْشَ الضَّرَاغِمَ وَالسَّبَنْتَى (1)
وَخَالِطْهُمْ وَزَائِلْهُمْ حِذَارًا
…
وَكُنْ كَالسَّامِرِيِّ إِذَا لُمِسْتَا
وَإِنْ جَهِلُوا عَلَيكَ فَقُلْ سَلَامٌ
…
لَعَلَّكَ سَوْفَ تَسْلَمُ إِنْ فَعْلْتَا
وَمَنْ لَكَ بِالسَّلَامَةِ في زَمَانٍ
…
تَنَالُ الْعِصْمَ إِلَّا إِنْ عُصِمْتَا
وَلَا تلْبَثْ بِحَيٍّ فِيهِ ضَيْمٌ
…
يُمِتُّ الْقَلْبَ إِلَّا إِنْ كُبِلْتَا
وَغَرِّبْ فَالتَّغَرُّبُ فِيهِ خَيْرٌ
…
وَشَرِّقْ إِنْ بِرِيقِكَ قَدْ شَرِقْتَا
فَلَيْسَ الزُّهْدُ في الدُّنْيَا خُمُولًا
…
لأَنْتَ بِهَا الأَمِيرُ إِذَا زَهِدْتَا
وَلَوْ فَوْقَ الأَمِيرِ تَكُونُ فِيهَا
…
سُمُوًّا وَارْتفَاعًا كُنْتَ أَنْتَا
فَإِنْ فَارَقْتَهَا وَخَرَجْتَ مِنْهَا
…
إِلَى دَارِ السَّلَامِ فَقَدْ سَلِمْتَا
وَإِنْ أَكْرَمْتَهَا وَنَظَرْتَ فِيهَا
…
لإِكْرَامِ فَنَفْسَكَ قَدْ اهَنْتَا
جَمَعْتُ لَكَ النَّصَائِحَ فَامْتَثِلْهَا
…
حَيَاتَكَ فَهْيَ أَفْضَلُ مَا امْتَثَلْتَا
وَطَوَّلْتُ الْعِتَابَ وَزِدْتُ فِيهِ
…
لأَنَّكَ في الْبَطَالَةِ قَدْ أَطَلْتَا
وَلَا يَغْرُرْكَ تَقْصِيرِي وَسَهْوِي
…
وَخُذْ بِوَصِيَّتِي لَكَ إِنْ رَشَدْتَا
وَقَدْ أَرْدَفْتَهَا تِسْعًا حِسَانًا
…
وَكَانَتْ قَبْلَ ذَا مِائَةً وِسِتَّا
وَصَلِّ عَلَى تَمَامِ الرُّسْلِ رَبِّي
…
وَعِتْرَيهِ الْكَرِيمَةِ مَا ذُكِرْتَا
انتهت القصيدة بحمد الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)"الضراغم" بالفتح: جمع ضِرْغام بالكسر، وهو الأسد، و"السبنتى" بفتح السين: الجريء والنمر، يُجمع على سَبَانِت.
قال الجامع الفقير إلى رحمة ربه القدير: محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبيّ عفا الله تعالى عنه، وعن والديه آمين:
انتهى الجزء الرابع: من شرح "سنن الإمام الحافظ الحجة محمد بن يزيد ابن ماجه رحمه الله تعالى المسمّى "مشارق الأنوار الوهّاجة، ومطالع الأسرار البهّاجة، في شرح سنن الإمام ابن ماجه".
وذلك يوم الاثنين المبارك عصرًا قُبيل صلاة المغرب بتاريخ 20/ 6/ 1424 هـ الموافق 18 (أغسطس) 2003 م.
وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} . {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
"اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه الجزء الخامس مفتتحًا: بـ (2)(كِتَابُ الطَّهَارةِ، وَسُنَّتِهَا) رقم الحديث (267).
أسأل الله تعالى أن يوفّقني لإكمال شرح الكتاب كلّه كما وفّقني لهذا، إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
"سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، أستغفرك، وأتوب إليك".