الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل فيه مناقشة الشرك الواقع في مثل البردة للبوصيري]
فصل قال المعترض (1) (ومن قول هذا الرجل في موضع آخر من كلامه، قال: "اعلم أرشدك الله أن من أنواع الشرك الأكبر ما قد يقع فيه بعض المصنفين الأولين على جهالة منه، كقوله في البردة:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
قال: وفي الهمزية من جنس هذا، وهذا من الدعاء الذي هو العبادة التي لا تصلح إلَاّ لله وحده "، انتهى مع كلام لا يؤبه له.
وله كلام عليها غير هذا أشنع منه تركناه، ولأتباعه كذلك (2) ؛ وسنشير إلى شيء من قوله، ويكفي في هذا قوله (3)"من الشرك الأكبر"، وعند هذا الكلام محط الرحل، فغائلته تنقيص (4) سيد البشر صلى الله عليه وسلم والحطّ من رتبته، وغايته إبطال شفاعته بالكلية، فنقول: الأولى (5) أن شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري رحمه الله لم يقصد ما قصده هذا الرجل، وليس
(1) ف (ق) و (ح) وردت قبل: " قال المعترض: فصل ".
(2)
في (ق) و (م) : شيء من ذلك.
(3)
في (ق) و (م) : " قوله هذا ".
(4)
في (ق) و (م) زيادة: " الرسول ".
(5)
في (ح) و (المطبوعة) : "الأول".
هو بجهول عن عبادة الله ودعاء غيره من دونه الذي يكون شركاً قد نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذ ذاك لا يصلح إلَاّ لله عز وجل، إذ كل رسول يقول لقومه:"يا قوم (1) اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ".
وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ (2) مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25][الأنبياء -25] . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18][الجن -18] والآيات على الحضّ (3) على توحيد الله والنهي عن الشرك لا تعدّ ولا تحصر (4) وحاشا لعالم من علماء الأمة المعتبرين أن يقول الشرك الأكبر أو يقره؛ لأنه رحمه الله من العلماء الأمناء؛ ولو قاله أحد لأنكر عليه (5) وإنَّما هو رحمه الله تعالى يشير إلى يوم القيامة لاستحضار ذلك اليوم العظيم الذي تفزع إليه الخلائق للشفاعة العظمى لفصل القضاء حين تدني الشمس منهم، وتزفر النار (6) ويغضب الجبار، ويجاء بالنار تقاد بسبعين ألف (زمام مع كل زمام سبعون ألف)(7) ملك، وتجثو الخلائق على الركب، وهو الحادث العمم الذي يعم جميع الخلائق، بحيث لم يبقَ [120]، نبي ولا ملك إلَاّ جثا على ركبتيه يقول: نفسي نفسي لا أسألك (8) اليوم
(1) ساقطة من (ح) و (المطبوعة) .
(2)
" من قبلك " ساقطة من (ق) و (م) .
(3)
في (ح) : " الخصوص ".
(4)
في (ق) و (م) : "تحصى".
(5)
في (ق) و (م) : " لأنكرنا".
(6)
في (ق) و (م) : " جهنم ".
(7)
ما بين القوسين ساقط من (ق) .
(8)
في (ق) و (م)" " أملك ".
إلَاّ نفسي، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول:«أمتي أمتي» ) .
والجواب أن يقال: قول الشيخ: (إنَّ أشياء من أنواع الشرك الأكبر قد يقع فيها بعض المصنفين الأولين) قول صحيح، يدلّ عليه الكتاب والسنَّة والواقع والاستقراء، وقد خفي على قوم موسى عليه السلام وعلى أبي واقد الليثي وأصحابه ما طلبوه من أنبياء الله، فكيف لا يخفى أو (1) لا يقع ممن لا نسبة بينه وبينهم؟ قال تعالى عن قوم موسى (2) {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] [الأعراف -138] .
«وقال أبو واقد الليثي وأصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم: " اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط "، فقال صلى الله عليه وسلم: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم أَلهة» (3) فإذا وقع ذلك من أولئك الأخيار ورسلهم بين ظهرانيهم، فكيف يُستبعد أو يُنكر وقوعه (4) ممن هو دونهم في كل فضيلة وكل علم وكل دين؛ بل يستحي (5) العاقل من طلب المقابلة، فكيف بالمماثلة والمقاربة؟ وفي الحديث: " «اتقوا زلَة
(1) في (ق) و (م) : " ولا ".
(2)
عن قوم موسى " ساقطة من (ق) و (م) .
(3)
أخرجه الترمذي (2180) ، وقال حسن صحيح، وأحمد (5 / 218) ، والبيهقي (6 / 346، 11185) .
(4)
ساقطة من (ق) .
(5)
في (ح) : " استحى ".
العالم وفتنة العابد» " (1) وعنه صلى الله عليه وسلم: "«أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: زلَّة العالم، وجدال المنافق (2) والأئمة المضلون» " (3) وفيه أيضاً: "«أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» (4) فإذا خافه صلى الله عليه وسلم على خيار أمته، وأمر باتقائه (5) فكيف يُستغرب وقوعه، وينكر من الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون؟
وقد تقدَّم (6) ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من شعر ابن النعمان وغيره (7) من هذا الضرب، وأنكره أشدّ الِإنكار، وأخبر أنه من أنواع الشرك ودعاء المخلوق بما لا (8) يصلح إلَاّ لله.
قال رحمه الله في أثناء كلام له (9) (ونحن نعلم بالضرورة أن
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل (1-41) ، والبيهقي (10 / 211) ، وذكره الهيثمي في المجمع (1 / 187) ، وعزاه للبزار وليس فيهما (فتنة العابد) ، وضعَّفه المناوي كما في فيض القدير (1 / 140) .
(2)
في (ق) و (م) زيادة: بالقرآن ".
(3)
في (ق) و (م) : "المضلين "، والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (25 / 138، 282) ، والصغير (2 / 186) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 186) ، والثالثة (دنيا تفتح عليكم)، ولفظ:(الأئمة المضلين) ، عند الدارمي (1 / 82، 214) من قول عمر موقوفاَ عليه.
(4)
أخرجه ابن ماجه (4 420) بمعناه، وأحمد (5 / 428، 429) ، والطبراني في الكبير (20 / 253) .
(5)
في (ح) : " بإنفائه ".
(6)
ساقطة من (ق) و (م) .
(7)
في (ق) و (م) زيادة: " كثيرا ".
(8)
ساقطة من (ق) و (م) .
(9)
انظر " الرد على البكري "(2 / 731) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت (1) ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلَاّ تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ من أصحابنا يقول: هذه (2) أعظم ما بيَّنت لنا. لعلمه أن هذا أصل دين الإسلام، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرَّعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعون دعاء المضطرين، راجين قضاء [121] حاجاتهم بدعائه أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم لله تعالى، فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلُّف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف الضر، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر
…
لُوذُوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عُوذُوا بقبر أبي عمر
…
ينجيكمو من الضرر
(1)" ولا إلى ميت " ساقطة من (ق) و (م) .
(2)
في (المطبوعة) : " هذا ".
فقلت لهم: إن هؤلاء الذين تستغيثون بهم، لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزَم من انهزم من المسلمين يوم أحد، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله تعالى به ورسوله، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين والاستغاثة (1) بالله، وأنهم لا يستغيثون (إلَاّ إيَّاه، لا يستغيثون)(2) بملك مقرَب ولا بنبي مرسل، (فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم)(3) نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدَّم نظيره) . انتهى كلامه.
وقول صاحب البردة أبلغ مما أنكره شيخ الإسلام، فإن صريحه دعاء مضطر محتاج، ذي فاقة وفقر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس له ملجأ وملاذ ومفزع عند حلول (4) الحادث العام العظيم سوى رسول صلى الله عليه وسلم، وإذا حرَّم مجرد سؤاله ما لا يقدر عليه إلَاّ الله، وسؤاله بعد مماته ما دون ذلك من الأسباب العادية، فكيف بهذا الدعاء الذي هو من أبلغ الأدعية في إظهار الفقر والفاقة، واستعطاف المسؤول بتوحيده وإفراده لهذا المطلوب العظيم، والخطب الجسيم؛ وإذا كان الدعاء حُزم لتضمنه التسوية بين الله وبين غيره في القصد والرجاء، والذل والمحبة، فكيف بما دلَّ على ما هو أبلغ من ذلك مما ذكر (5) في البُرْدة والهمزية ونحوها (6) وفي حديث
(1) في (ق) و (م) : " والاستعانة ".
(2)
" إلا إياه، ولا يستغيثون " ساقطة من (ق) و (م) .
(3)
ما بين القوسين ساقط من (ق) .
(4)
في (ح) : " علول".
(5)
في (ق) و (المطبوعة) : " ذكره ".
(6)
في (ق) و (م) : " ونحوهما ".
النعمان بن بشير رضي الله عنه " «الدعاء هو العبادة» (1) وحصر أحد الجزئين في الآخر يفيد ما قاله بعض الشراح من أن الدعاء لبها (2) وخالصها وركنها الأعظم، وفي حديث أنس رضي الله عنه: "«الدعاء مخ العبادة» " (3) وبه يظهر معنى الحصر في حديث النعمان، وفي الحديث: "«من لم يسأل الله يغضب عليه» " (4) مفهومه أن من سأله رضي (5) عليه، وهل هذا الرضا وهذا الغضب إلَا لحصول عبادة يحبها ويرضاها، أو لفقدها الموجب لغضبه وسخطه، فإذا صرف ذلك لغير الله في الأمور العامة الكلية التي مصدرها عن قدرة كاملة ليست في قوى البشر، وليست من جنس الأسباب العادية، فهذا عين الشرك.
قال أبو العباس ابن تيمية (6) فيمن سأل الأموات ما لا يُطلب إلَاّ من [122] الله، كمغفرة الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر:(إنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل؛ لأن هذا عين الشرك الذي نهت عنه الرسل، ونزلت الكتب بتحريمه وتكفير فاعله) . انتهى.
وقد نفى الله عن غيره ملك (7) الشفاعة، ونفى فعلها بغير إذنه،
(1) أخرجه أبو داود (1479) ، والترمذي (2969، 3247) ، وابن ماجه (3828) ، وأحمد (2 / 2442) .
(2)
8 في (المطبوعة) : " لب العبادة ".
(3)
أخرجه الترمذي (3371) وقال: غريب من هذا الوجه. وانظر تخريجه في: كشف ما ألقاه إبليس " ص (71) .
(4)
أخرجه الترمذي (3373) وابن ماجه (3827) ، والبخاري في الأدب المفرد (658) ، وأبو يعلى (12 / 10) .
(5)
في (ق) و (م) و (المطبوعة) زيادة: " الله ".
(6)
انظر: " زيارة القبور " ص (18) ، ومجموع الفتاوى " (3 / 395".
(7)
في (ق) و (م) و (المطبوعة) : " مالك ".
وأن (1) تكون فيمن لا يرضى قوله وعمله، وقد ذكر جل ذكره أنه المنفرد والمختص بملك ذلك اليوم، وتمدح بذلك في غير آية من كتابه، وثبت من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الله يقبض السماوات بيمينه ويقبض الأرض فيقول: أنا الملك، أنا الديان، أين ملوك الأرض» (2) وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17] * {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 18] * {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19][الانفطار 17-19] وهذه نكرة في سياق النفي وهي عامة.
وكذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] في موضعين من سورة البقرة (آية 48 وآية 123] .
ولا ينافي هذا ما ورد من إثبات شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره؛ لأن المراد بالنفي اختصاصه بالملك، وعدم مشاركة أحد له تعالى في ملك ذلك اليوم، وما ورد من حصول الشفاعة فهو عن أمره وإذنه ورضاه تعالى وتقدَّس، فالشافع عبد مأمور لا ملك له ولا يبتدىء بالشفاعة، بل هو مدَبَّر مأمور) (3) فكيف يطلب منه ما لا يملك، وما (4) لا يحصل إلَاّ بإذن من ربه تبارك وتعالى؛ وهذا هو المراد بالاستثناء في مثل (5) قوله تعالى:
(1) في (ق) و (م) : " أو أن ".
(2)
أخرجه البخاري (7412، 2787) ، ومسلم (2787)، وقوله:(أنا الديان)، ففي حديث آخر أخرجه البخاري تعليقًا عن جابر. انظر: كتاب التوحيد باب (32) . وأخرجه أحمد (3 / 495) .
(3)
ما بين القوسين ساقط من (ق) .
(4)
ساقطة من (ق) و (م) .
(5)
ساقطة من (ق) و (م) .
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255][البقرة 255] .
فتعليقها على الِإذن والرضى يراد به هذا المعنى، الذي هو صرف القلوب إلى باريها وفاطرها، وإسلام الوجوه له، عكس ما يفهمه المشرك من أن الاستثناء يفيد طلب ذلك من غير الله، وسؤال (1) ذلك الغير هذا المطلوب العظيم.
وإذا كان الحال هكذا فمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما لا يطلب إلَاّ من الله كمغفرة الذنوب وهداية القلوب، ودخول الجنة والنجاة من النار وأنزل المطر، والنصر على الأعداء ودفع السوء والردى، ونحو ذلك مما يختص به (2) تعالى، ولا يشاركه فيه مشارك فقد أشرك بربه وجعل له ندًّا وشريكاً في خالص حقِّه.
ولا ريب أن هذا الدعاء (3) يقتضي إثبات قدرة عامة (4) وعلم عام، وسمع محيط، لا سيَّما إن كان من يدعو الصالحين ويسألهم، جعل ذلك دَيدنَه في كل (5) مكان وإن بعدت الديار وتناءت الأقطار، وإن زعم أنه لم يثبت قدرة ولا علماً ولا سمعاً عامًّا محيطاً لا يليق بالمخلوق، فهو مكابر ملبوس عليه، ثم في ذلك من الخضوع والذل والمحبة والِإنابة ما هو من خالص العبادة ولبها، فكيف جاز صرفه لغير الله؟
(1) في (ح) : " وسؤاله ".
(2)
في (ق) و (م) و (المطبوعة) زيادة: الله ".
(3)
في المطبوعة " زيادة: " الذي دعاه البوصيري واستغاث فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم ".
(4)
في (ح) : " تامة.
(5)
في " المطبوعات " زيادة: " زمان و ".
إذا عرفت هذا: فهذه الأبيات التي قالها صاحب البردة فيها من الغلو والإطراء، والدعاء، والالتجاء، ما لا يليق ولا ينبغي (1) صرفه لمخلوق ولو نبيًّا أو ملكا (2) وأين قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي
…
فضلا وإلا َّفقل: يازلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
مما دل عليه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب (إسلام الوجوه له تعالى والإنابة إليه، ووجوب)(3) اتخاذه تعالى (4) ملجأ، ومفزعاً، ومَعَاذًا، وملاذا عند الشدائد والمهمات (5) .
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40][الأنعام 40] ففي هذه الآية أنهم يلجأون إليه، ويفردونه (6) بالدعاء إن أتاهم العذاب أو أتتهم الساعة، واحتج بذلك على وجوب إفراده بالدعاء في حال الرخاء وفي جميع الحالات، فكيف ترى بمن أعدَّ غير الله لشدَّته،
(1) في (ق) و (م) : " ينبغي ولا يليق ".
(2)
في (المطبوعة) : (نبي أو ملك"، وفيها بعدها زيادة: "ولو كان أفضل الأنبياء وأقربهم إلى الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(3)
ما بين القوسين ساقط من (ح) وبها تكرار.
(4)
في " المطبوعة " زيادة: " وحده ".
(5)
في (المطبوعة) زيادة: "وأن النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء من قبله ما جاءوا كلهم إلا لتخليص هذا الحق لله وحده، وإبعاد كل شبهة يقيمها الشيطان حوله ".
(6)
في (ق) : " ويقرون ".
ولهول الساعة وكربها؟ كما في أبيات البوصيري، وإذا اقترن بذلك نفي التعلُق والرجاء والتوكُل في ذلك عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وأضاف المتكلم إلى هذا إثبات عموم العلم وإحاطته بالكليات والجزئيَّات، وأن الدنيا والآخرة حصلتا وكانتا عن جوده وإحسانه، و (1) معلوم أن هذا يدخل فيه كل تدبير وتأثير وتقدير وتيسير، فأي فرد يبقى لله؟ وأي شيء اختص به؟ فافهم ما في هذه الأبيات من منافاة مقتضى الرسالة، وصريح الآيات.
وإذا عرفت ذلك: عرفت أنَّ المعترض قَصُرت رتبته عن درجة العلم بأصل الإيمان، وعن معرفة الحكمة في خلق الجن والإنس والسماوات والأرض وما فيهما؛ فلذلك اعترض، ورأى أن كلام الشيخ على هذه الأبيات شنع بشع، فإنه ارتاع من (2) عدّ ذلك من قسم (3) الشرك الأكبر.
وأبلغ من هذا: أنه يفهم من التوحيد وإخلاص الدعاء لله، والنهي عن دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم تنقيصا (4) له وحطًّا من رتبته وإبطالاً لشفاعته بالكلية:{أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95][هود 95] . وهذا بعينه قول من غلا في المسيح وأمه، أو غلا في أحد من الأنبياء والملائكة، وقد قال عمرو بن العاص وأصحابه للنجاشي لما قدموا عليه يريدون جعفر بن أبي طالب وأصحابه:"إنهم يقولون في المسيح قولاً 318 عظيماً- يعني أنَّه (5) عبد، رسول، ليس بإله "(6) وكذلك قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى توحيد (7) الله: "قد (8) عبت ديننا وسببت آلهتنا". وكذا قال قوم نوح كما يدل عليه قوله جل ذكره: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} [نوح: 23] الآية (9)[نوح 23] .
وقال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] * {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58](10) إلى قوله ( {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59][الزخرف 57- 59] .
فالأمر بتوحيد الله وإخلاص الدعاء له والنهي عن دعاء الأنبياء والصالحين ليس بتنقص (11) بل هو الكمال والعزّ والسيادة، وهل نال الأنبياء وغيرهم من الملائكة المقرَّبين، ما نالوه من المقامات التي يتقاصر عنها المتطاولون إلَاّ بتجريد التوحيد، وتحقيقه ومعرفة الله والعلم به، والدعوة إلى سبيله، والبراءة مما نسبه إليه أعداؤه المشركون؟ وأمَّا صرف حق الله وما يجب له من الدعاء والعبادة إلى غيره: فهذا
(1) في المطبوعة زيادة: " بل بعض وجوده كما تدل عليه (من) الموضوعة في اللغة العربية للتبعيض ".
(2)
في (المطبوعة) : " تعاظم ".
(3)
ساقطة من (المطبوعة) .
(4)
في المطبوعة " تنقصا ".
(5)
سقطت من (المطبوعة)، وفي (ق) :" إنهم ".
(6)
أخرجه أحمد (1 / 203، 5 / 292) وتقدم تخريجه، انظر: ص (96) ، هامش 3.
(7)
في (ق) : " التوحيد ".
(8)
في (ح) و (المطبوعة) : " قالوا " مكان: " قد ".
(9)
في (ق) و (المطبوعة) زيادة: (ولا يغوث ويعوق ونسرا) .
(10)
في (المطبوعة) زيادة " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ".
(11)
في (المطبوعة) زيادة: " لهم ".
محض التنقص لله ولعباده المخلصين؛ ولهذا نزَّه (1) تعالى نفسه عمَّا يشركون في غير موضع من القرآن وكذلك في السنَّة.
وفيه تنقص أيضاً (2) بالأنبياء والصالحين؛ لظن (3) من فعل ذلك أنهم يرضون به ويقرون (4) عليه، وأنهم ما نهوا عن هذا الجنس من الشرك وإنَّما جاءوا بتحريم الشرك في الربوبية، ووجوب اعتقاد اختصاصه تعالى بالملك والتدبير، كما صرَّح به كثير من عباد القبور، وأنكروا توحيد العبادة غاية الِإنكار، وجعلوا معنى كلمة الِإخلاص يرجع إلى توحيد الربوبية فقط، ومن نهاهم عن عبادة غير الله قابلوه بأشد الِإنكار؛ وقالوا: تنقصت المشايخ والكبار، وهم قد تنقصوا الملك الحق العزيز الغفار.
فما أشد غربة هذا الدين، وما أقلَّ من يعرفه من المدَّعين للعلم والمنتسبين (5) .
وأما إبطال الشفاعة: فالشفاعة التي يشير إليها هذا الرجل وإخوانه من المشركين قد نفاها الله تعالى وأبطلها في كتابه العزيز في غير موضع؛ وأخبر تعالى أنه لا يعلم وجود شفيع يشفع هذه الشفاعة التي قصدها المشركون لا في السماوات ولا في الأرض، وما لا يعلمه سبحانه فهو مستحيل الوجود.
والشفاعة المثبتة نوع آخر، وجنس ثانٍ لا يعقلها المشركون،
(1) في " المطبوعة " زيادة: " الله ".
(2)
في (ح) و (المطبوعة) : " أيضا تنقص ".
(3)
في (ح) و (المطبوعة) : " إذا يظن ".
(4)
في (ح) و (المطبوعة) : " ويقرونه ".
(5)
في (المطبوعة) زيادة: " لهم ".
وما يعقلها إلَاّ العالمون (1) والِإشارة (2) إلى سببها (3) ومقتضيها وموجبها جاء (4) صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال:" «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إِله إلَاّ الله خالصاً من قلبه» "(5) . إذا عرفتَ هذا عرفتَ أن المعترض أجنبي عن علوم أهل الإسلام لا يعقل منها شيئاَ، فلا جَرَم اعترض على شيخنا، وصاح لما سمع (6) بتجريد التوحيد، والحمد لله العزيز الحميد.
وأما قوله: (إنَّ البوصيري لم يقصد ما قصده شيخنا وأنه ليس بجهول) .
فجوابه: أن البحث هنا في الألفاظ وما دلت عليه صريحاً، وأمَّا القصد والنية فليس هذا مبحثه، والسرائر إلى الله يحاسب العباد (7) بعلمه، وصريح اللفظ دال على ما قرره شيخنا.
وأما قوله: (وليس بجهول عن عبادة الله تعالى، ودعاء غيره من دونه الذي يكون شركاً قد نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ ذاك لا يصلح إلا لله) . فالجواب: إن العقلاء نصُّوا أنَّ من الحمق المتناهي تكذيب العين
(1) في (المطبوعة) : " العاملون "، وهو خطأ مطبعي ".
(2)
في (ق) : " والإرشاد ") .
(3)
في (ق) : " سبيلها ".
(4)
ساقطة من (ح) .
(5)
أخرجه البخاري (99، 6570) ، وأحمد (2 / 307، 373) .
(6)
ساقطة من (ح) .
(7)
في (المطبوعة) زيادة: " عليها ".
وتصديق الظن والحدس، فكيف تقبل منك هذه الدعوى ونحن نرى قوله ونسمعه؟ ويكفي الحس في إبطال دعواك أنه ليس بجهول، وهل هذا الذي صدر منه إلَاّ غاية الجهل ومنتهى الضلال؟
وأمَّا كون الرسل يقولون لقومهم: اعبدوا الله، والله يقول: 30 {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18][الجن 18] . فنعم؛ هذا حق وهو دين الرسل، والنزاع بيننا وبينكم في التزامه والعمل به، فكيف تحتج علينا بأن الله تعالى قال هذا، وقد خالفتم مقتضاه، وخرجتم عمَّا دلَّ عليه، وكيف ننهاك (1) عن دعاء غير الله وتحتج علينا بأنك تعلم أنه لا يدعى إلا الله؛ هذا ولو عقلتم المعنى والمقصود من هذه الآيات وأنصفتم لاستراح الخصم، والآفة كل الآفة (2) مخالفة هذا ومناقضته ممن يتلوه ويؤمن بألفاظه (3) .
وأما كونه عالماً من علماء الأمة: فهذا من الجهل بالعلم والعلماء، أين العنقاء لتُطْلَب، وأين السمندل ليجلب؟
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] * {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112][البقرة 111- 112] هؤلاء هم أهل العلم ورثة الجنة، وسادات الأمة، لو سلم عقلك
(1) في (ق) و (م) : " ننهاكم ".
(2)
في (المطبوعة) زيادة: " في ".
(3)
في (المطبوعة) زيادة: " ويكفر بمعناه ".
لعرفت أن من يدعو العباد إلى الله، ويردَّهم إليه وينهاهم عن الالتفات والتعلُق على غيره، وصرف الوجوه لسواه هو العالم الأمين، لكن أعماك الهوى عن معرفة الرشاد والهدى.
وأمَّا كون الناظم يشير إلى يوم القيامة: فنعم، ولكن لا يدعى لذلك اليوم إلَاّ الله وحده، وكون الخلائق تفزع إليه في ذلك اليوم لا يوجب ذلك ويقتضي دعاءه، وقصده من دون الله في دار التكليف والعمل، والملائكة والمؤمنون والأطفال يشفعون في ذلك اليوم، وهل يقول مسلم بقصدهم ودعائهم والتعلُّق عليهم من دون الله في هذه الدار، لما يرجى في الدار الآخر ة ويؤمل فيها؟ ومن قال بقصدهم ورجائهم ودعائهم لذلك، وشرعه، فقد فتح باب الشرك وسوَّغه، ودخل فيما دخل فيه الصابئة المشركون من التعلق على الأنفس المفارقة وعبادتها ودعائها مع الله.
وقولك: (حين تدني الشمس) هذا خطك بيدك، وهو لحن فاحش يدل على أنك أُمِّيٌّ (1) لا تُحسن شيئاً من العلم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " «أمتي أمتي» "(2) ليس فيه أنه يُدْعى ويُقصد لذلك قبل يوم القيامة.
(1) ساقطة من (ق) و (م) .
(2)
أخرجه البخاري) 7072، ومسلم (193) .