الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في مناقشة وتضعيف رواية سيف بن عمر في ذكر قول الصديق عند دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته]
فصل قال المعترض: (وأبلغ من هذا وأدحض كلام صدّيق هذه الأمة أبي بكر (1) رضي الله عنه، حين وجد النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً، فقد قال سيف بن عمر التميمي في فتوحه، الذي قال أبو العباس بن تيمية إنها أصح ما وضع في ذلك، وهو من تابعي التابعين، ومن كبار شيوخه: هشام بن عروة بن الزبير رضي الله عنه.
فقال: حدثنا عمرو بن محمد عن تمام بن العاص عن القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه وكان من خواص أبي بكر الصدِّيق (2) رضي الله عنه قال: "جاء الخبر بثقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وواتر [130] أهل البيت إليه الرسل. فجاء، فلقيه آخرهم، بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم ودخل أبو بكر البيت وهو يسترجع ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فأكب عليه وكشف عن وجهه؟ وقبل جبينه وخديه، ومسح وجهه؛ وجعل يبكي ويقول: بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي، طبتَ حيًّا وميتا، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد قبلك من الأنبياء: النبوة، فعظُمتَ عن الصفة،
(1) ساقطة من (ق) و (م) .
(2)
ساقطة من (ق) و (م) .
وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة، وعممت حتى صرنا فيك سواء، فلولا موتك كان اختيارا منك لجدنا بالنفوس لحزنك، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا (1) عليك الشؤون، فأمَّا ما لا نستطيع نتقيه عنا فكمد، وادكار (2) متحالفان أن لا (3) يبرحا، اللهم فأبلغه عنا، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك؛ فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة، اللهمَّ أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا" (4) .
ثم (5) قال المعترض: (وكان القعقاع قد شهد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، (وروى عنه سيف أنه قال: شهدت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (6) وذكر قصة السقيفة، فهل ترى الصدّيق عند هذا الرجل كافراً بقوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك؛ والنثر أوسع من النظم) .
والجواب أن يقال: آفة هؤلاء الجهال عدم التمسك بأصول أهل العلم والهدى، التي إليها المرجع في الاستدلال والمنتهى، وقد وضع أهل العلم والحديث من القوانين الشرعية، ما يميّز به بين (7) الآثار الصحيحة والمكذوبة والموضوعة والضعيفة، التي لا تثبت بها أحكام دينية.
(1) في (ح) : " لأنقذنا ".
(2)
في (الأصل) و (ح) : " والدكار ".
(3)
في (المطبوعة) : " لا يبرحان ".
(4)
انظر: فتوح سيف بن عمر.
(5)
ساقطة من (ق) و (م) .
(6)
ما بين القوسين ساقط من (ح) .
(7)
ساقطة من (المطبوعة) .
فمن ذلك: ردَّهم ما انفرد به أحد الرواة عن أصحابه الثقات الأثبات، كما رُدَّ على معمر ما انفرد به عن أصحاب الزهري، وكما رد على ابن إسحاق ما انفرد به في حديث أبي مسعود البدري في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكما رُدَّ على ابن عيينة مع جلالته وحفظه ما انفرد به عن أصحاب الزهري: من ذكر دبغ الِإهاب في حديث ميمونة.
وقد روى كلام أبي بكر ومقالته حين دخل على النبي صلى الله عليه وسلم عدد كثير، وجم غفير، وذكرها أصحاب السِّيَر عمَّن هو أعدل من القعقاع وأوثق وأشهر، فما وجه الأخذ بها لو سلمنا صحتها؛ وقد خالفت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، بل والإجماع، كما حكاه شيخ [131] الإسلام وغيره؛ وهل يدع هذا كله ويرميه وراء ظهره إلَاّ من غلب عليه متابعة الهوى، وعدم الوقوف مع الكتاب والسنَّة والِإجماع؛ وهل ضلَّ أهل الكتاب إلَاّ بنبذهم (1) كتاب الله وراء ظهورهم، واتباع ما لم يثبت عن أنبيائهم وعلمائهم، بل هو مما أحدثه خلوفهم وجهالهم.
وهذه الكلمة وهي قوله: اذكرنا (2) عند ربك، لو جاء بسندها المذكور كلمة تخالف الثابت من المرفوع والمأثور، في حكم من أحكام (3) الفروع وجزئيَّات المسائل، كآداب التخلي ونحوه لم يسغ الأخذ بها، وترك ما هو أصح وأثبت وأدل، فكيف بالطلب من الموتى، ودعاء الأنبياء، والتوجه إليهم، الذي تظاهرت النصوص والآثار على تحريمه والمنع منه.
(1) في (ق) و (م) : " بنبذ ".
(2)
في (ق) و (م) زيادة: " يا محمد ".
(3)
في (ح) : " الأحكام ".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإن طلب الحوائج من الموتى هو أصل شرك العالم (1) . اهـ.
وفد حمى صلى الله عليه وسلم حِمَى التوحيد وسد ذرائع الشرك حتى نهى عن قول: "ما شاء الله وشاء فلان "(2) ونهى عن الحلف بغير الله (3) ونهى عن الصلاة عند القبور واستقبالها (4) ونهى عن عبادة الله بالذبح في مكان يذبح فيه لغير الله (5) ونهى عن قول الرجل: " عبدي وأمتي "(6) وقد بالغ أصحابه رضي الله عنهم في صيانة قبره الشريف عن (7) أن يصل إليه أهل الغلو والِإطراء، فجعلوا جداره مثلثاً، وكره مالك رحمه الله للرجل كلما دخل المسجد إتيان القبر للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"لم يكن أهل العلم من أهل بلدنا يفعلونه " فكيف ترى بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، والطلب منه،
(1) انظر " إغاثة اللهفان "(2 / 232) .
(2)
أخرجه أبو داود (4985) ، وأحمد (5 / 384، 394، 398) .
(3)
أخرجه الترمذي (1535) بلفظ: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك "، وفي الصحيحين:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"، وأخرجه البخاري (6646) ، ومسلم (1646) ، وأبو داود (3249) .
(4)
أخرجه مسلم (927) .
(5)
أخرجه أبو داود (3314) ، وأحمد (3 / 419)، وفيه: أن رجلا نذر أن يذبح إبلاً ببوانة (موضع) فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "هل بها من الأوثان شيء؟ هل كان بها عيد للمشركين؟) .
(6)
أخرجه البخاري (2552) ، ومسلم (2249) ، أبو داود (4975) ، وأحمد (2 / 316، 423، 463، 484) .
(7)
ساقطة من (ح) .
والتوجه إليه في الحوائج والملمات، فبين هدى الصحابة وأهل العلم، وفعل هؤلاء الضُّلَاّل كما بين المشرق والمغرب. شتَّان بين مشرق ومغرب.
هذا لو فرضنا صحة هذه الكلمة، فكيف (1) والأمر بخلاف ذلك، وفي نفس هذا الأثر الذي أورده ما يرد عليه من وجوه.
منها: قوله: "اللهمَّ فأبلغه عنا"، فإذا سأل الله أن يبلغ نبيه عنهم فكيف يقول بعدها:"اذكرنا يا محمد عند ربك "، وهل هذا إلَاّ عكس ما قبله، ومن دون أبي بكر يتحاشى العاقل من نسبته إليه، فكيف بصدِّيق الأمة؟ وقد ثبت في الصحيح وغيره أن الشهداء قالوا:"ألا بلّغوا عنا قومنا أنَّا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا"(2) ولم يأتِ أحد من أصحاب [132] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شهيد من الشهداء يطلب منه أن يبلغ عنه ربه، وهم أجلّ وأفقه من ذلك، فكيف بالصدِّيق رضي الله عنه؛ فإذا جاءت السنَّة بأنَّ الله هو الذي (3) يبلغ عمَّن عنده من الشهداء، فكيف تعكس القضية ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبلغ ربه؟
والمشهور والمعروف في اللغة أن الإبلاع إنما يستعمل في من رفع إليه وبلغ ما ليس عنده.
قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19][الأنعام -19]
(1) ساقطة من (ق) .
(2)
أخرجه البخاري (3064) ، ومسلم (677) ، وأحمد (3 / 109، 210، 215، 255) ، والبيهقي (9 / 225، 18602) .
(3)
" هو الذي " ساقطة من (ق) .
وفي الحديث: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» (1) هذا لو صح سنده، فكيف وهو عمن لا يحتج به؟ قال ابن السكن:(سيف بن عمر: ضعيف) . وقال أبو حاتم: (قعقاع بن عمرو، قال: شهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا فيما رواه سيف بن عمر عن عمرو بن تمام عن أبيه عنه، وسيف متروك، فبطل الحديث، وإنَما ذكرناه للمعرفة)، وقال الحافظ (2) (أخرجه ابن السكن من طريق إبراهيم بن سعد عن سيف بن عمر عن عمرو عن أبيه عن القعقاع بن عمرو قال: "شهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا صلَّينا الظهر جاء رجل حتى قام بالمسجد وأخبر بعضهم أن الأنصار أجمعوا أن يولوا سعداً قال ابن السكن: سيف بن عمر ضعيف، واختلف في صحبة القعقاع ولم يجزم بذلك ابن عساكر، بل قال: يقال: إن له صحبة) (3) .
قلت: وهذان الطريقان ليس فيهما عمرو بن محمد، بل هو عمرو بن تمام عن أبيه تمام (4) فلا أدري أذكر عمرو بن محمد المعترض بقصد التدليس، أو جاء التدليس من غيره.
إذا عرفت هذا: بطل هذا الحديث، وأبطل منه الاحتجاج به، والثابت عند أهل العلم ما رواه محمد بن شهاب الزهري إمام الحجازيين
(1) أخرجه البخاري (105) ، ومسلم (1679) .
(2)
" الحافظ " ساقطة من (ق) .
(3)
انظر: (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر (3 / 239، 240) في حرف العين القسم الأول ترجمة القعقاع بن عمرو (7127) .
(4)
ساقطة من (ق) .
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر رضي الله عنه فقال: (إنَّ رجالَا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله (1) ما (2) مات، ولكنه ذُهب به (3) إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات. قال: وأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت حتى دخل على [133] رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجَّى ببرد حبرة (4) فأقبل حتى كشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه وقبَّله. ثم قال: بأبي أنت وأمي أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ثم لم تصبك بعدها موتة أبداً؛ ثمَّ ردَّ الثوب على وجهه؛ وخرج وعمر يكلِّم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، فأنصت، قال: فأبى إلَاّ أن يتكلَّم، فلمَّا رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلمَّا سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ} [آل عمران: 144] إلى آخر الآية (5)[آل عمران 144] .
(1) لم تذكر (ق) لفظ الجلالة.
(2)
ساقطة من (ح) .
(3)
ساقطة من بقية النسخ.
(4)
في (ق) و (م) : " محبرة ".
(5)
في (ح) و (المطبوعة) : سياقة الآية إلى أعقابكم الآية.
قال: فو الله لكأنَّ الناس لم يعلموا أنَّ هذه الآية نزلت على رسول صلى الله عليه وسلم حتى تلاها أبو بكر يومئذِ. قال: فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم) (1) .
هذا هو الثابت عند أهل العلم بالحديث، وهو الذي ذكره الأئمة في كتبهم، التي إليها المرجع عند أهل الإسلام في سائر الأبواب والأحكام.
وقد عُلِم أن القعقاع لم يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، ولا يمكن من هو أفضل منه، ولم يدَّع أنَّ أبا بكر أخبره بذلك، ولا غير أبي بكر، فصار الأثر منقطعا، وهذه علة رابعة.
وأظن هذا المعترض رأى هذا الأثر في مصنف ابن فيروز أو غيره ممن تعرَّض لردِّ هذا الدين والتوحيد الذي منَّ الله بتجديده على يد شيخنا رحمه الله، والغالب على من تعرَّض لردّ ذلك هو الجهل وعدم العلم، مع غلبة الهوى وشدَّة العداوة، فأجْلَبوا بذكر ما يظنون أن لهم تعلقاً به، وأنه من الحجج التي تدفع الخْصم، وليست لهم عناية بصناعة العلم، ومدارك الأحكام، ويأبى الله إلَاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
تعرض قوم للغرام فأعرضوا
…
بجانبهم عن صحبتي (2) فيه واعتلوا
(1) أخرجه البخاري (1241، 1242) ، وأحمد (1 / 334، 367) ومواضع أخرى.
(2)
في (ق) و (م) : " صحتي ".
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم
…
وخاضوا بحار الحب دعوى ، فما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم
…
وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
وعن مذهبي لما استحبوا الهوى (1) على الهدى
…
حسداً من عند أنفسهم ضلوا
(1) في (ق) و (م) : " العمى ".