الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّامِن: مَعَ الإِمَام أبي إِسْحَاق الشاطبي فِي بَيَان الْمَقْصُود بِالرَّأْيِ المذموم والرأي الممدوح فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم
…
المبحث الثَّامِن1:
مَعَ الإِمَام أبي إِسْحَاق الشاطبي فِي بَيَان الْمَقْصُود بِالرَّأْيِ المذموم والرأي الممدوح فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم2
قَالَ أَبُو إِسْحَاق رَحمَه الله تَعَالَى: "إِعْمَال الرَّأْي فِي الْقُرْآن جَاءَ ذمه، وَجَاء أيض - اما يَقْتَضِي إعماله، وحسبك من ذَلِك مَا نقل عَن الصدِّيق، فَإِنَّهُ نقل عَنهُ أَنه قَالَ - وَقد سُئل فِي شَيْء من الْقُرْآن -: "أَي سَمَاء تُظِلنِي وَأي أَرض تُقِلني إِن أَنا قلت فِي كتاب الله مَا لَا أعلم
…
" 3. ثمَّ سُئل عَن الْكَلَالَة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فَقَالَ: "أَقُول فِيهَا برأيي، فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان، الْكَلَالَة كَذَا وَكَذَا" 4.
فهذان قَولَانِ اقتضيا إِعْمَال الرَّأْي وَتَركه فِي الْقُرْآن، وهما لايجتمعان"5.
ثمَّ أجَاب أَبُو إِسْحَاق عَمَّا رُوي عَن أبي بكر رضي الله عنه مِمَّا يَقْتَضِي إِعْمَال الرَّأْي وَتَركه فَقَالَ: "وَالْقَوْل فِيهِ أَن الرَّأْي ضَرْبَان: أَحدهمَا:
1 - تعرض السُّيُوطِيّ وَغَيره لهَذَا المبحث. انْظُر الإتقان (2/507، 509) ، ومناهل الْعرْفَان (1/501) ، وبحوث فِي أصُول التَّفْسِير ومناهجه، ص (79) وَمَا بعْدهَا.
2 -
اسْتَفَادَ القاسمي من هَذَا المبحث فِي مُقَدّمَة تَفْسِيره. انْظُر مِنْهُ (1/101) .
3 -
أخرجه الإِمَام الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره (1/78) . وَذكره الْحَافِظ فِي الْفَتْح (13/271) من طَرِيقين قَالَ: فيهمَا انْقِطَاع، لَكِن أَحدهمَا يُقَوي الآخر.
4 -
أخرجه الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره (8/53) ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى (6/223) عَن الشّعبِيّ قَالَ سُئل أَبُو بكر فَذكره. وَالشعْبِيّ لم يدْرك أَبَا بكر، وَلَا يكَاد يُرْسل إِلَّا صَحِيحا. انْظُر السّير (4/301) .
5 -
انْظُر الموافقات (4/276) .
جَار على مُوَافقَة كَلَام الْعَرَب، وموافقة الْكتاب وَالسّنة، فَهَذَا لَا يُمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور:
أَحدهَا: إِن الْكتاب لَا بُد من القَوْل فِيهِ بِبَيَان معنى، واستنباط حكم وَتَفْسِير لفظ، وَفهم مُرَاد، وَلم يَأْتِ جَمِيع ذَلِك عَمَّن تقدم، فإمَّا أَن يتَوَقَّف دون ذَلِك فتتعطل الْأَحْكَام كلهَا أَو أَكْثَرهَا، وَذَلِكَ غير مُمكن، فَلَا بُد من القَوْل فِيهِ بِمَا يَلِيق.
وَالثَّانِي: أَنه لَو كَانَ كَذَلِك؛ للَزِمَ أَن يكون الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مُبينًا ذَلِك كُله بالتوقيف؛ فَلَا يكون لأحد فِيهِ نظر وَلَا قَول، والمعلوم أَنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذَلِك1، فَدلَّ على أَنه لم يُكَلف بِهِ على ذَلِك الْوَجْه، بل بيَّن مِنْهُ مَا لَا يُوصل إِلَى علمه إلَاّ بِهِ، وَترك كثيرا مِمَّا يُدْرِكهُ أَرْبَاب الِاجْتِهَاد باجتهادهم، فَلم يلْزم فِي جَمِيع تَفْسِير الْقُرْآن التَّوْقِيف.
وَالثَّالِث: أَن الصَّحَابَة كَانُوا أولى بِهَذَا الِاحْتِيَاط من غَيرهم، وَقد علم أَنهم فسروا الْقُرْآن على مَا فَهموا، وَمن جهتهم بلغنَا تَفْسِير مَعْنَاهُ، والتوقيف يُنَافِي هَذَا؛ فإطلاق القَوْل بالتوقيف وَالْمَنْع من الرَّأْي لَا يصحّ.
وَالرَّابِع: أَن هَذَا الْفَرْض لَا يُمكن؛ لأنّ النّظر فِي الْقُرْآن من جِهَتَيْنِ:
من جِهَة الْأُمُور الشَّرْعِيَّة، فقد يسلم القَوْل بالتوقيف فِيهِ وَترك الرَّأْي وَالنَّظَر جدلاً.
وَمن جِهَة المآخذ الْعَرَبيَّة؛ وَهَذَا لَا يُمكن فِيهِ التَّوْقِيف، وَإِلَّا لزم ذَلِك فِي السّلف الأوّلين، وَهُوَ بَاطِل، فاللازم عَنهُ مثله، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أوضح من إطناب
1 - هَذِه الْمَسْأَلَة مَحل خلاف بَين الْعلمَاء، وَالرَّاجِح فِيهَا مَا قَالَه أَبُو إِسْحَاق. وَإِن أردْت الِاطِّلَاع على أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ، وَالتَّرْجِيح بَينهمَا فَانْظُر كتاب اخْتِلَاف الْمُفَسّرين أَسبَابه وآثاره، ص (16 - 24) .
فِيهِ"1.
ثمَّ وضَّح أَبُو إِسْحَاق الْمَقْصُود بِالرَّأْيِ المذموم فَقَالَ: "وَأما الرَّأْي غير الْجَارِي على مُوَافقَة الْعَرَبيَّة، أَو الْجَارِي على الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة2 فَهَذَا هُوَ الرَّأْي المذموم من غير إِشْكَال كَمَا كَانَ مذموما فِي الْقيَاس أَيْضا حَسْبَمَا هُوَ مذكورٌ فِي كتاب الْقيَاس؛ لِأَنَّهُ تَقول على الله بِغَيْر برهَان، فَيرجع إِلَى الْكَذِب على الله تَعَالَى، وَفِي هَذَا الْقسم جَاءَ من التَّشْدِيد فِي القَوْل بِالرَّأْيِ فِي الْقُرْآن مَا جَاءَ"3.
ثمَّ أورد أَبُو إِسْحَاق الشاطبي عَن جملَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ذمّ هَذَا النَّوْع من الرَّأْي4.
ثمَّ ختم هَذِه الْمَسْأَلَة بقوله: "فَالَّذِي يُسْتَفَاد من هَذَا الْموضع أَشْيَاء:
مِنْهَا: التحفظ من القَوْل فِي كتاب الله تَعَالَى إلَاّ على بَيِّنَة، فَإِن النَّاس فِي الْعلم بالأدوات الْمُحْتَاج إِلَيْهَا فِي التَّفْسِير على ثَلَاث طَبَقَات: إِحْدَاهَا: من بلغ فِي ذَلِك مبلغ الراسخين كالصحابة وَالتَّابِعِينَ، وَمن يليهم، وَهَؤُلَاء قَالُوا مَعَ التوقي والتحفظ والهيبة وَالْخَوْف من الهجوم، فَنحْن أولى بذلك مِنْهُم، إِن ظننا بِأَنْفُسِنَا أَنا فِي الْعلم والفهم مثلهم، وهيهات.
وَالثَّانيَِة: من علم من نَفسه أَنه لم يبلغ مبالغهم وَلَا داناهم، فَهَذَا طرف لَا إِشْكَال فِي تَحْرِيم ذَلِك عَلَيْهِ.
1 - الموافقات (4/276 - 279) .
2 -
هَكَذَا فِي النّسخ المطبوعة الَّتِي اطَّلَعت عَلَيْهَا، وَقد نبه بعض الْمُحَقِّقين للموافقات بقوله:((لَعَلَّ الصَّوَاب غير الْجَارِي)) .
3 -
الموافقات (4/279، 280) .
4 -
انْظُر الْمصدر نَفسه (4/280 - 282) .
وَالثَّالِثَة: من شكّ فِي بُلُوغه مبلغ أهل الِاجْتِهَاد، أَو ظن ذَلِك فِي بعض علومه دون بعض فَهَذَا أَيْضا دَاخل تَحت حكم الْمَنْع من القَوْل فِيهِ؛ لِأَن الأَصْل عدم الْعلم، فعندما يبْقى لَهُ شكّ أَو تردد فِي الدُّخُول مدْخل الْعلمَاء الراسخين فانسحاب الحكم الأول عَلَيْهِ بَاقٍ بِلَا إِشْكَال، وكل أحد فَقِيه نَفسه فِي هَذَا المجال، وَرُبمَا تعدى بعض أَصْحَاب هَذِه الطَّبَقَة طوره، فَحسن ظَنّه بِنَفسِهِ، وَدخل فِي الْكَلَام فِيهِ مَعَ الراسخين، وَمن هُنَا افْتَرَقت الْفرق، وتباينت النَّحْل، وَظهر فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْخلَل.
وَمِنْهَا: أَن من ترك النّظر فِي الْقُرْآن، وَاعْتمد فِي ذَلِك على من تقدّمه، ووكل إِلَيْهِ النّظر فِيهِ غير ملوم، وَله فِي ذَلِك سَعَة، إلَاّ فِيمَا لَا بُد لَهُ مِنْهُ، وعَلى حكم الضَّرُورَة، فَإِن النّظر فِيهِ يشبه النّظر فِي الْقيَاس، كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي بَابه، وَمَا زَالَ السّلف الصَّالح يتحرجون من الْقيَاس فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَكَذَلِكَ وجدناهم فِي القَوْل فِي الْقُرْآن، فَإِن الْمَحْظُور فيهمَا وَاحِد، وَهُوَ خوف التقول على الله، بل القَوْل فِي الْقُرْآن أَشد، فَإِن الْقيَاس يرجع إِلَى نظر النَّاظر، وَالْقَوْل فِي الْقُرْآن يرجع إِلَى أَن الله أَرَادَ كَذَا أَو عَنى كَذَا بِكَلَامِهِ الْمنزل، وَهَذَا عَظِيم الْخطر.
وَمِنْهَا: أَن يكون على بالٍ من النَّاظر والمفسر، والمتكلِّم عَلَيْهِ أَن مَا يَقُوله تقصيد مِنْهُ للمتكلم، وَالْقُرْآن كَلَام الله، فَهُوَ يَقُول بِلِسَان بَيَانه: هَذَا مُرَاد الله من هَذَا الْكَلَام، فليتثبت أَن يسْأَله الله تَعَالَى: من أَيْن قلت عني هَذَا؟ فَلَا يَصح لَهُ ذَلِك إِلَّا بِبَيَان الشواهد، وَإِلَّا فمجرّد الِاحْتِمَال يَكْفِي بِأَن يَقُول: يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى كَذَا وَكَذَا، بِنَاء أَيْضا على صِحَة تِلْكَ الِاحْتِمَالَات فِي صلب الْعلم، وإلَاّ فالاحتمالات الَّتِي لَا ترجع إِلَى أصل غير مُعْتَبرَة، فعلى كل تَقْدِير لَا بُد فِي كل قَول يجْزم بِهِ أَو يحمّل من شَاهد يشْهد لأصله، وإلَاّ كَانَ