الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" 9 "
تحوير الحكم والأمثال اليونانية في صورة نظم
ما تقدم في الفصل السابق من تحوير الأدب السياسي المنسوب إلى يونان في أسلوب نثري جزل مسجوع، يجمع بين ما ظنه أصحابه من جمال المحتوى والشكل معا، كان؟ فيما يراه - مسبوقا بحركة أخرى، أوغل في الزمن، تم فيها نقل الأمثال والحكم من صورتها النثرية إلى نظم؛ هي حركة تستطيع أن تسميها ترجمة من العربية إلى العربية، سواء أكانت الأصول يونانية أو فارسية، وهذه الحركة تتمثل في ثلاثة تيارات، أولها: ظاهر جلي، ذو حدود واضحة وإمارات شاهدة، وذلك يتمثل في ما قام به أبان اللاحقي وسهل بن نوبخت وعلى داود في نقل كليلة ودمنة إلى الرجز، وفي نقل حكم الهند وغيرها (1) ، وهي حركة تصميمية عامدة، كانت تخضع لرغبة بعض المولعين بالثقافات الأجنبية، فقد ذكر محمد بن داود في طبقات الشعراء أن يحيى بن خالد اشتهى حفظ كتاب كليلة ودمنة، فقلبه له أبان شعرا ليسهل عليه حفظه (2) ، والثاني تيار لا لا حدود له، رأى في الحكم والأمثال ملكا شعبيا، يستطيع كل من شاء أن يستمد منه وأن يتصرف به حسبما يحلو له، وقد مر بنا من نقل الحكايات في صورة شعر مثل واضح في قصة الذئب والحمل (3) ، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أمثلة أخرى، منها قول
(1) الفهرست: 119 حيث ذكر أن أبانا نقل كتاب حكم الهند.
(2)
الجهشياري: 211.
(3)
انظر ما تقدم ص: 78 (رقم: 2) .
بعضهم في ذئب رباه مع غنمه، فعدا حين كبر على شاة له فأكلها:
فرست شويهتي وفجعت طفلا
…
ونسوانا وأنت لهم ربيب
نشأت مع السخال وأنت طفل
…
فما أدراك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء
…
(1) فليس بمصلح، طبعا، أديب ويجب ألا تستوقفنا كثيرا نسبة هذا الشعر إلى أعرابي، فجهل القائل هنا هو الشيء المهم، إذ أنه يؤكد أن هذا الشعر وأمثاله إنما أصبح تركة شعبية خالصة، تحمل في ذاتها أهميتها دون أن تكون نسبتها لمن قالها أمرا هاما. والظن قوي بأن هذا اإتجاه قد بدأ يستقوي منذ أواخر العصر الأموي، لأنه ذو دلالة على مرحلة ثقافية معينة، يصبح فيها اتكاء على التراث، وتقدير قيمته، أمرا أصيلا، وإذا نحن نظرنا إلى الشعر قبل ذلك وجدنا النزع بالحكاية الخرافية غير شائع كثيرا، وأن الميل يكاد يكون أقوى لاستشهاد بالقصص الإنسانية مثل حكاية السمؤال؟ في شعر الأعشى - وحكاية زرقاء اليمامة في شعر النابغة، أو قصة كعب بن مامة وقصير والقارظ العنزي وأمثال ذلك، حتى إذا بلغنا إلى شعر الكميت في الفترة التي أتحدث عنها، وجدنا النزع بالخرافة الحيوانية يكثر ويطغى على ما سواه إلى أن يكاد يصبح مذهبا أدبيا، كما في قوله (2) :
كما رضيت جوعا وسوء ولاية
…
لكلبتها في آخر الدهر حومل وقوله (3) :
فعل المقرة للمقالة خامري يا أم عامر
(1) الدرة الفاخرة: 294 وأشار المحقق إلى ورود الشعر في المحاسن والأضداد: 41 والحيوان 4: 48، 6: 24، 7: 56، 80 وذلك يدل على أن الشعر يرجع إلى ما قبل القرن الثالث. وانظر عيون الأخبار 2: 5 وتذكرة النهروالي: 73 وجمهرة العسكري 2: 57 والمستقصى 1: 233 والميداني 1: 302.
(2)
الدرة الفاخرة: 117 والبكري: فصل المقال: 496.
(3)
الدرة الفاخرة: 150 وفصل المقال: 188.
وقوله (1) :
كما خامرت في حضنها أم عامر
…
لدى الحبل حتى عال أوس عيالها وقوله في الرخمة؟ ونفى عنها الحمق ونسبها إلى الكيس (2) :
وذات اسمين والأسماء شتى
…
تحمق وهي كيسة الحويل
لها خب تلوذ به وليست
…
بضائعه الجنين ولا مذول ومثل هذا كثير في شعره وهو يشير إلى بداية الوعي بقيمة الخرافات الحيوانية، والتنبيه لا لاستعمالها في الشعر وحسب، بل اعتمادها في المواقف المختلفة.
ويبدو أن الحكم من نثر إلى شعر يتم على نطاق واسع، وأول الشواهد عليه انتثار عدد كبير من الأقوال الحكمية المنظومة التي بقيت في المصادر دون نسبة، وإن كان الظن قويا بأن القسم الأكبر منها قد ألحق بشعراء عرفوا بهذا الاتجاه، وكانوا كثيري العدد في هذه الفترة التي أتحدث عنها.
وهذا يسلمنا إلى الحديث عن التيار الثالث، وهو تيار أشبه شيء بالانتحال وليس به، ويمكن أن نسميه تضمينا أو اقتباسا، للحكم الأجنبية، عن طريق الغوص العامد في الثقافات الأجنبية، وشدة الإعجاب بها، ولعل في صلة أبي عمرو كلثوم بن عمرو العتابي بالفارسية ما يصلح أن يتخذ نموذجا لغيره، وخلاصة قصته أن رجلا اسمه يحيى بن الحسن دعا غلاما له وكلمه بالفارسية، ودخل العتابي فسمع ما يتحدثان به فكلم يحيى بالفارسية، فقال له: أبا عمرو، ما لك وهذه الرطانة؟! فقال: بلدكم هذه ثلاث قدمات، وكتبت كتب العجم التي في الخزانة بمرو، ثم قدمت نيسابور وجزتها بعشرة فراسخ إلى قرية يقال لها ذودر فذكرت كتابا لم أقض حاجتي منه، فرجعت إلى مرو فأقمت شهرا، فقال له يحيى: لم كتبت كتب العجم؟ فقال العتابي: وهل المعاني إلا في كتب العجم والبلاغة، اللغة لنا والمعاني لهم (3) . فإذا عرفنا بعد ذلك أن العتابي أفرد فنون الحكم
(1) الدرة الفاخرة: 152.
(2)
الدرة الفاخرة: 154 والحيوان 7: 18.
(3)
كتاب بغداد: 87.
بالتأليف (1) ، وانه انتحى في شعره منحى في شعره منحى الحكمة، لم نستغرب ذلك.
ويكاد يكون من الأمور المسلمة أن اللقاء بتلك الثقافات الأجنبية، بالإضافة إلى عوامل أخرى كالموجة الزهدية والحركة الاعتزالية والأوضاع الاقتصادية العامة وغيرها، هو الذي خلق طبقة من الشعراء الحكماء من أمثال سابق البربري وصالح بن عبد القدوس ومحمد بن حازم الباهلي وصالح بن جناح ومحمود الوراق والعتابي وأبي العتاهية: ويتميز هؤلاء الشعراء بنوع من الحكمة اللسانية التي تدعو نظريا إلى قيم أخلاقية، ربما لم يتقيد أحد منهم بها سلوكه العملي. وأكبر الظن أن هذه الحكمة التي عرفوا بها لا تعدو أن تكون في معظمها تضمينا للقواعد الأخلاقية المأخوذة عن اليونانيين والفرس والعربي، مما يتصل بآداب السلوك والمعاملة والنظرة إلى شؤون الحياة عامة.
ولعل الأرجوزة " ذات الأمثال " لأبي العتاهية؟ إن لم تكن نقلا مباشرا مما ينتسب إلى التيار الأول - إنما كانت من هذا القبيل (2) ، ويقال إنها كانت تضم أربعة آلاف مثل، بقي منها 620 شطرا وليس بين الحكم المجموعة فيها اتصال في كثير من الأحيان، بل كثيرا ما يقترن في شطرين متجاورين حكمتان لا رابطة بينهما، كما أن الحكم المتصلة بموضوع واحد، كالدنيا والموت، تجيء في مواضع متفرقة، دون أن تسلم من التكرار في المعاني، وعلى رغم طغيان النغم الزهدي على الأرجوزة فإن فيها ميلا واضحا إلى إبراز دور " العقل " وقيمته. وأحيانا يستوقف القارئ مثل قوله (3) :
لكل شيء معدن وجوهر
…
وأوسط وأصغر وأكبر
وكل شيء لاحق بجوهره
…
أصغره متصل بأكبره أو قوله (4) :
نتائج الأحوال من لا ونعم
…
والنفس من بين صموت وعدم
(1) الفهرست: 121.
(2)
ديوان أبي العتاهية: 444 - 466.
(3)
ديوانه: 449.
(4)
ديوانه: 456.
فإن مثل هذه الإشارات الموجزة ذات المنحى الغامض؟ بسبب إيجازها - لا تمكننا من الاهتداء إلى منتماها وأصلها، وإن كانت تبدو غربية في سياق زهدي يتوسل كثيرا بالقيم الدينية.
وقد مرن أبو العتاهية؟ وغيره من شعراء الحكمة في عصره - على تكوين القصيدة الحكمية من عدد من الحكم التي تقوم بينها رابطة أو يضبطها تدرج، حتى أصبحت القصيدة تمثل قفزات متباعدة، وكان في ذلك اكبر جور على الوحدة النفسية أو الشعرية في القصيدة العربية آنئذ. وهذه مقطوعة نجدها في ديوان أبي نواس، وهو من هو قدرة على حوك القصيدة في استرسال مترابط، إلا أنها أبيات مرسلة، كل بيت منها يقوم وحده (1) :
عدوك ذو العقل خير من الصديق لك الوامق الأحمق
…
وما ساس أمرا كذي شيبة
…
بصير بما ساس مستوثق
وما أحكم الرأي مثل امرئ
…
يقيس بما قد مضى ما بقي
وصمتك من غير عي اللسان
…
أزين من هذر المنطق فالبيت الأول صياغة للحكمة القائلة: " عدو عاقل خير من صديق جاهل (أحمق) ، والثاني ترجمة لقولهم " رأي الشيخ خير من مشهد الغلام " والثالث يشير إلى الاعتبار بما مضى في الحكم على ما هو حاصل، والأخير في فضيلة الصمت دون عي.
ترى أكانت قصيدة الحكمة؟ في هذا التفكك - تنظر إلى موروث سابق؟، من الغريب أننا إذا عدنا إلى العصر الجاهلي، وجدنا أبيات الحكمة في معلقة زهير، والقصيدة الدالية المنسوبة لعدي بن زيد (2) ، ووصية يزيد بن الحكم لابنه (3) ، وما أشبه ذلك، تجري على هذا المنوال أيضا، وأننا إذا قارناها بالحكم والوصايا المأثورة عن
(1) ديوان أبي نواس: 203 - 204.
(2)
ديوان عدي بن زيد: 102 - 109 (حققه وجمعه محمد جبار المعيبد، بغداد 1965) .
(3)
انظرها في الحماسة (رقم: 445 ص: 1190 من شرح المرزوقي) .
حكماء الجاهلية، وجدنا أن تلك الحكم والوصايا أشبه شيء بخطرات فكرية لا يربطها سلك واحد، سوى كونها كلها تذهب مذهب القواعد الخلقية، ولكن الموقف؟ وخاصة في الشعر - يتطلب تدقيقا، وربما كانت القصيدة التالية تصور ما أذهب إليه:
إن كنت لا ترهيب ذمي لما
…
تعرف من صفحي عن الجاهل
فأخش سكوتي إذا أنا منصت
…
فيك لمسموع خنا القائل
فالسامع الذم شريك له
…
ومعظم المأكول كالآكل
مقالة السوء إلى أهلها
…
أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمه
…
ذموه بالحق وبالباطل فهذه القطعة؟ وإن لم تكن مبنية على حكم مفككة، بل جاءت متدرجة في سياقها - تنسب لكعب بن زهير (1) ، ثم هي أيضا تنسب لمحمد بن حازم الباهلي (2) ، وقد لحظ ابن هندو أن قوله فيها " فالسامع الذم شريك له " يشبه قول أفلاطون " المصغي إلى الذم شريك لقائله "(3)، وقد استغل هذا المعنى نفسه محمود الوراق فقال (4) :
فإنك عند استماع القبيح
…
شريك لقائله فانتبه وقد أورد البكري البيت دون نسبة، على نحو غريب (5) :
وشاهد الهاجي شريك له
…
ومطعم الخنزير كالآكل وكل الدلائل تشير إلى أن القطعة وليدة ذلك الجو الحكمي في عصر متأخر كثير عن عصر كعب، وحين تختلط الرواية على هذا النحو، ولا يميز بين شعر كعب وشعر
(1) ديوان كعب: 124 والعقد 2: 444 وبهجة المجالس 1: 400 - 401.
(2)
انظر فصل المقال: 105 الحاشية رقم: 2.
(3)
الكلم الروحانية: 12 وانظر مختار الحكم: 160 حيث ورد " المصغي إلى القول " وكذلك لباب الآداب: 453.
(4)
بهجة المجالس 1: 401 وديوان الوراق: 132.
(5)
فصل المقال: 105.
محمد بن حازم، فليس من المستبعد أن تكون عملية مماثلة قد تمت في أبيات زهير الحكمية، فأضيفت إلى المعلقة وهي واضحة في مغايرتها لها، وحملت على عدي بن زيد قصيدته الدالية، ونحلت لغيره أشعار من هذا القبيل، وكان كل ذلك من نتاج جو الحكمة الذي زادته الترجمة لحكم الأمم الأخرى اتساعا وكثافة.
وفي نقل الحكم المنثورة إلى شعر، لا يمكن أن يطمئن المرء إلى قول حاسم في أن هذه الحكمة أو تلك مأخوذة عن أصل يوناني. فالعصر الذي أتحدث عنه قد أتسع صدرا لأنواع من الحكم نقلت عن أمم مختلفة، وقد تنسب الحكمة الواحدة حينا إلى الفرس وحينا إلى اليونان وتارة إلى الهند، ثم تجدها ذات أصول راسخة في البيئة العربية منذ عهود قديمة، وهذه الحكمة التالية التي أعتقد أنها منظومة عن أصل نثري، ترد على هذا النحو (1) :
وقد يرجى لجرح السيف برء
…
وجرح الدهر ما جرح اللسان ومرة أخرى تجيء كالآتي:
جراحات السنان لها التئام
…
ولا يلتام ما جرح اللسان وتروى على نحو آخر:
وجرح السيف تدمله فيبرا
…
وجرح الدهر ما جرح اللسان وتتصل هذه الحكمة بقول امرئ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
…
فليس على شيء سواه بخزان ووضعها الاخطل في صورة أخرى حين قال:
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر
…
(1) فصل المقال: 24، ونظر الرواية الأولى في العقد 2: 445 ونسب البيت ليعقوب الحمدوني.
ثم نجدها نجدها في الأدب الكبير، الذي يفترض أنه مترجم عن الفارسية " جرح اللسان أشد من جرح اليد "(1) ، وترد كذلك في الحكم المنقولة عن اليونان (2) .
وها هنا أمر لابد من التوقف عنده، وهو أن العرب كانوا مشاركين في حضارة الشرق؟ قبل الإسلام وبعده - وأنهم أيضا عرفوا الحكمة اليونانية قبل عصر الترجمة بزمن طويل، مثلهم في ذلك مثل الفرس، الذين عرفوا شيئا كثيرا من الحكمة اليونانية منذ عهد الإسكندر، وربما قبل ذلك. وخير شاهد على ذلك كتاب الأدب الكبير، فإنه في شكله الذي نعرفه يمثل الحكمة الفارسية، وقد صرح أبو الحسن العامري أنه ذو صلة بكتاب " أفستا " في الحث على مكارم الأخلاق حين قال:" ولعمري أن للمجوس كتابا يعرف بأبستا وهو يأمر بمكارم الأخلاق ويوصي بها، وقد أتى بمجامعها عبد الله بن المقفع في كتابة المعروف بالأدب الكبير "(3) ، ومع ذلك فإن اللقاء بين هذا الكتاب وبين ما جاء في الحكم المنقولة عن اليونانيين أمر لافت للنظر، وهو يبين مدى التماثل بين كثير من الحكم الفارسية وما نقله العرب من حكمة يونان. ولأقدم هنا بعض الأمثلة الموضحة:
1 -
في الأدب الكبير: لا تتركن مباشرة جسيم أمرك فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزم نفسك مباشر الصغير فيصير الكبير ضائعا (4) .
وفي رسالة منسوبة إلى أرسطاطاليس بعث بها إلى الإسكندر: وإنما الأمور كلها أمران صغير لا ينبغي أن تباشر وكبير [لا] ينبغي أن تكله إلى غيرك، ومتى باشرت صغار الأمور شغلتك عن كبارها، وأن وكلت كبارها إلى غيرك أضعت أكثر مما حفظت وأفسدت اكثر مما أصلحت " (5) .
(1) رسائل البلغاء: 105 وانظر عيون الأخبار 2: 22 حيث ينقل عن كتاب للهند، وهو في أغلب الأحوال كليلة ودمنة، وفي هذا الأخير: 164 جرح اللسان لا يندمل.
(2)
في الأقوال المناندرية: السيف يجرح الجسد والكلام يجرح النفس (أولمان رقم: 220 ص: 44) .
(3)
الأعلام بمناقب الإسلام: 159 - 160.
(4)
رسائل البلغاء: 47.
(5)
شيخو: مقالات فلسفية قديمة: 40.
2 -
في الأدب الكبير: وليستوحش [الوالي] من الكريم الجائع واللئيم الشبعان فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع (1) .
أفلاطون: اتقوا صولة الكريم إذا جاع وبطر اللثيم إذا شبع (2) .
عمرو بن العاص، قال لمعاوية: أحذر طغيان اللئيم وخصاصة الكريم، فإن اللئيم إنما يصول إذا شبع، وأما الكريم فإذا جاع (3) .
كسرى: احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع (4) .
3 -
في الأدب الكبير: وأعلم أن المستشار ليس بكفيل وأن الرأي ليس بمضمون، بل الرأي كله غرر لآن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة (5) (وهو بنصه في السعادة والإسعاد لارسطاطاليس) (6) وقد أورده المبشر في مختار الحكم دون نسبة على النحو التالي: من سوء الأدب وضعف الرأي ادلال المستشار بصوابه، ومن جهل المستشير أن يلوم المستشار على ما ينزل به من القضاء، لآن الرأي غير مضمون والعمل في ذلك بالتغرير " (7) .
4 -
في الأدب الكبير: وأعلم أن اللئام أصبر أجسادا، والكرام أصبر نفوسا، وليس الصبر المحمود الممدوح بأن يكون الرجل جلدا وقاحا على الضرب، أو رجله قوية على المشي، أو يده قوية على العمل، فإن هذا من صفات الحمير، ولكن الصبر المحمود أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور محتملا، وفي الضر متحملا؟ (8) .
(1) رسائل البلغاء: 52.
(2)
مختار الحكم: 139.
(3)
السعادة والإسعاد: 305.
(4)
العقد 2: 355.
(5)
رسائل البلغاء: 101.
(6)
السعادة والإسعاد: 430.
(7)
مختار الحكم: 346.
(8)
رسائل البلغاء: 82.
وفي البصائر: وقال فيلسوف: الكرام أصبر نفوسا واللئام أصبر أبدانا (1) .
وفي السعادة والإسعاد: (دون نسبة) : اللئام أصبر أجسادا والكرام أصبر نفوسا، وصبر النفس أن يكون للهوى تاركا وللمشقة فيما يرجو نفعه محتملا (2) .
وفي مختار الحكم: وقال ارسطاطاليس أعلم أن اللئام أصبر أجساما والكرام أصبر نفوسا؟ الخ (كما جاء في الأدب الكبير)(3) .
5 -
في الأدب الكبير: أبذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحيتك، ولعدوك عدلك وإنصافك (4) .
وقال اسقلبيوس: سبيل من له دين ومروءة أن يبذل لصديقه نفسه وماله، ولمن يعرفه طلاقة وجهه وحسن محضره ولعدوه العدل.. (5) .
6 -
في الأدب الكبير: وأن استطعت أن تجعل صحبتك لمن قد عرفك منهم بصالح مروءتك قبل ولايته فافعل، فإن الوالي، لا علم له بالناس إلا ما علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع (6) .
وقال سقراط: من استطاع أن يصحب من الملوك والولاة من عرفه قبل ولايته بالصلاح والثقة والأمانة، فليفعل، فإن الملك والوالي لا علم له بالناس إلا بما كان قد علم به قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقونه بالتصنع والتعظيم (7) .
(1) البصائر 4: 187.
(2)
السعادة والإسعاد: 86.
(3)
مختار الحكم: 215.
(4)
رسائل البلغاء: 71 وعيون الأخبار 3: 15 والسعادة والإسعاد: 149.
(5)
مختار الحكيم: 29 وعيون الأنباء 1: 21 وانظر الجاحظ لطه الحاجري: 147 حيث أشار إلى هذا التشابه بين الحكمتين، إلا أنه خطأ أن قول ابن المقفع من الأدب الصغير.
(6)
رسائل البلغاء: 123.
(7)
مختار الحكم: 123.
وفي ما يسمى " الأدب الصغير " المنسوب؟ وهما - لابن المقفع حظ من هذه المشاركة، فمن ذلك:
7 -
في الأدب الصغير: أمور لا تصلح إلا بقرائنها: لا ينفع العقل بغير ورع ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضع، ولا الخفض بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق (1) .
فيلسوف: كثير من الأمور لا تصلح إلا بقرنائها: لا ينفع العلم بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق (2) .
فيلسوف: النظر محتاج إلى القبول، والحسب إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن، والقربى محتاجة إلى المودة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنجدة محتاجة إلى الجد (الجدة)(3) .
8 -
وفي ما يسمى الأدب الصغير: الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار (4) .
هذا القول الذي يحسن الاستشارة ورد منسوبا لأفلاطون على نحو معكوس وذلك في قوله: " الملك هو كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغار، فإن كان عذبا عذبت وإن كان مالحا ملحت "(5) .
(1) رسائل البلغاء: 28 وقارن بما في كليلة ودمنة: 90.
(2)
تذكرة ابن حمدون: 9 - 10.
(3)
البصائر 1: 471 وانظر القول نفسه في 4: 218 - 219 وأوله " الشكر محتاج؟ "، وقد أورده أبو حيان في البصائر 1: 378 برواية مختلفة: " لا ينتفع بالعقل إلا مع العلم " ولا ينتفع بالعلم إلا مع العقل، ولا ينتفع بالعلم إلا مع الأدب، ولا ينتفع بالأدب إلا مع الاجتهاد، ولا ينتفع بالاجتهاد إلا مع التوفيق ". وفي المواطن الثلاثة ورد منسوبا لفيلسوف.
(4)
رسائل البلغاء: 33 وهو أيضا في كليلة ودمنة: 156.
(5)
مختار الحكم: 135 وتذكرة ابن حمدون: 49 والكلم الروحانية: وفي مختار الحكم: 344 صورة أخرى.
وهذا اللقاء بين الادبين يمتد إلى نواح أخرى فلا يقف قاصرا على الأدب الكبير والأدب الصغير، ولو أن دارسا جعل همه تتبع هذا اللقاء في الأدبين اليوناني والفارسي، لأجتمع له من ذلك حصيلة كبيرة، فهنالك؟ مثلا - أثر آخر ينسب لابن المقفع باسم " يتيمة السلطان "(1)، نشر اعتمادا على مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 672 مجاميع؟ وهي ليست سوى حكم جمعت من جاويدان خرد وكليلة ودمنة في الأغلب ونقرأ فيها:" المرأة الصالحة عماد الدين وعمارة البيت وعون على الطاعة "(2) ويقابل هذا في الأقوال المناندرية: " إن المرأة الصالحة ركن بيتها "(3)، وفي هذه اليتيمة أيضا:" فلا شيء أشد من الفقر وهو رأس كل بلاء "(4)، وفي الأقوال المناندرية:" لا يكون بؤس أشد من الفقر "(5)، ويقول مؤلف هذه اليتيمة:" أمور كثيرة لا يجترئ عليها إلا أهوج ولا يسلم منها إلا القليل: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار وشرب السم للتجربة، وركوب البحر "(6)، ثم يقول في موضع آخر:" أربعة أشياء لا يستقل قليلها: النار والمرض والعدو والدين "(7) ومن الطريف أن النار وركوب البحر والمرأة قد جمعت أيضا في أحد الأقوال المناندرية: ثلاثة أشياء رديئة، البحر والنار والمرأة السوء " (8) ، وفي طني أن الأمر في هذه المقارنات لا يقف عند هذا الحد، وإنما قد يطور على نحو أوسع، كما قدمت.
ولو كان كليلة ودمنة هو موضوع المقارنة، لوجدنا فيه شواهد كثيرة من هذا اللقاء، ولكن ليس من الأنصاف اتخاذ هذا الكتاب موضوعا للمقارنة لأنه أصبح تراثا عالميا لا يقتصر على أمة دون أخرى. ومع ذلك فإن إيراد بعض الشواهد ضروري للدلالة
(1) رسائل البلغاء: 145 - 172.
(2)
رسائل البلغاء: 184.
(3)
أولمان رقم: 72 ص: 26.
(4)
رسائل البلغاء: 159.
(5)
أولمان رقم: 241 ص: 26.
(6)
رسائل البلغاء: 156.
(7)
رسائل البلغاء: 164.
(8)
أولمان، رقم: 170 ص: 37.
على هذه " العالمية " في الشيوع المشاركة. يقول بطليموس: " من كتم السلطان النصيحة والطبيب ما به من الداء، والأخ الشقيق العالم ما ينبغي أن يفضي اليه من السر فقد أرداد المصيبة لنفسه "(1) وفي كليلة ودمنة: " فإن من كتم السلطان نصيحة، والأطباء مرضه، والأخوان رأيه كان قد غش نفسه "(2)، وفي حكم بطليموس:" وينبغي للسلطان أن يعرف أولياءه على منازلهم بقدر الذي عندهم من الفضل والدين والمروءة، ثم تكون منازلهم عنده واستعانته بهم على قدر الذي عند كل واحد منهم من الغناء والمنفعة "(3)، وهذا مشبه لما في جاء في كليلة ودمنة:" ثم ان على الملك بعد ذلك تعاهد عماله والتفقد لأمورهم حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء، ثم عليهم بعد ذلك أن لا يتركوا محسنا بغير جزاء، ولا يقروا مسيئا ولا عاجزا على العجز والإساءة، فإنهم ان ضيعوا ذلك وتهاونوا به، تهاون المحسن واجترا المسيء ففسد الأمر وضاع العمل "(4) . وقد يطول بنا القول لو ذهبنا نورد النصوص المتشابهة أو المشتركة بين كليلة ودمنة والحكم اليونانية، وبحسابنا أن نختم هنا بمثل واحد فقد جاء في خاتمة - كليلة ودمنة. " إن الآمر بالخير ليس بأسعد من المطيع له فيه، ولا الناصح بأولى النصيحة من المنصوح له بها، ولا المعلم بأسعد بالعلم ممن تعلمه منه "(5) . ومن الطريف أن تكون هذه هي فاتحة رسالة منسوبة إلى أرسطاطاليس، خاطب بها الاسكندر، يقول فيها:" ليس الأمر بالخير أسعد به من المطيع له، ولا المعلم أقل انتفاعا بالعلم من المتعلم، ولا الناصح أولى به من المنصوح له بالمديح متى قبل "(6) . ذلك حسبنا في هذه المقارنة، فإن المضي فيها. يخرج بنا عما أردناه لهذا الفصل.
على أية حال لا أدري متى قل الميل إلى نقل الحكم والأمثل في صورة نظم، فإننا نجد ذلك الميل ما يزال قويا في عصر الثعالبي من منتصف القرن الخامس -
(1) مختار الحكم: 257.
(2)
كليلة ودمنة: 72 وانظر تذكرة ابن حمدون: 82 وفيه " والاخوان بثه، فقد خان نفسه ".
(3)
مختارات الحكم: 257.
(4)
كليلة ودمنة: 258 وانظر الأدب الصغير: 16.
(5)
كليلة ودمنة: 303.
(6)
رسائل فلسفية قديمة: 36.
فقد أورد للشاعر أبي الفضل السكري المروزي أحمد بن محمد بن زيد مزدوجة ترجم فيها أمثالا للفرس، منها قوله (1) :
من رام طمس الشمس جهلا أخطا
…
الشمس بالتطيين لا تغطى
أحسن ما في صفة الليل وجد
…
الليل حبلى ليس يدرى ما تلد
من مثل الفرس ذوي الأبصار
…
الثوب رهن في يد القصار
إن البعير يبغض الخشاشا
…
ما كان لكنه في إنفه ما عاشا
نال الحمار بالسقوط في الوحل
…
ما كان يهوى ونجا من العمل
نحن على الشوط القديم المشترط
…
لا الزق منشق ولا العير سقط
في المثل السائر للحمار
…
قد ينهق الحمار للبيطار
والعنز لا يسمن إلا بالعلف
…
لا يسمن العنز بقول ذي لطف وكان هذا الشاعر مولعا بنقل الأمثال الفارسية إلى العربية، وقد جرى على ذلك في غير هذه الأرجوزة، وكان يجعل تلك الأمثال في قصائده، فمن ذلك (2) :
ما كنت لو أكرمت استعصي
…
لا يهرب الكلب من القرص وقوله:
طلب الأعظم من بيت الكلاب
…
كطلاب الماء في لمع السراب وقوله:
ادعى الثعلب شيئا وطلب
…
قيل هل من شاهد؟ قال الذنب وليس ممكنا أن نقطع إن كانت هذه الأمثال فارسية قديمة أو مولدة في العصور الإسلامية، ولكن أنى كان الأمر، فإن الشغف بنقلها إلى شعر يؤكد ما أذهب اليه، كا يوضح نوعا من المنافسة بين كل من ناقلي الأمثال والحكم اليونانية والفارسية.
(1) يتيمة الدهر 4: 88.
(2)
يتيمة الدهر 4: 89.
وقد أورد الثعالبي صورة أخرى من هذه الأمثال المترجمة، ولكنه لم يبين إلى أي عصر أو أي قوم تنتمي، ومن الغريب أنها ليست أرجوزة أو مزدوجة، وإنما هي شعر يجري على بحر السريع، وكل بيت منها يستقل بنفسه، وواضح أنها محاولة لإدراج أكبر عدد من الأمثال في نطاق واحد، فمنها (1) :
انتهز الفرصة في وقتها
…
والتقط الجوز إذا ينثر
يطلب أصل المرء من فعله
…
ففعله عن أصله يخبر
كم ماكر حاق به مكره
…
وواقع في بعض ما يحفر
فررت من قطر إلى مثعب
…
علي بالوابل يثعنجر
إن تأت عورا فتعاور لهم
…
وقل أتاكم رجل أعور ثم أورد الثعالبي أيضا لشاعر آخر هو أبو عبد الله الضرير الأبيوردي، قصيدة ترجم فيها أمثال الفرس منها (2) :
صيامي إذا أفطرت بالسحت ضلة
…
وعلمي إذا لم يجد ضرب من الجهل
وتزكيتي مالا جمعت من الربا
…
رياء وبعض الجود أخزى من البخل
كسارقة الرمان من كرم جارها
…
تعود به المرضى وتطمع في الفضل
ألا رب ذئب مر بالقوم خاويا
…
فقالوا علاه البهر من كثرة الأكل
وكم عقعق قد رام مشية قبجة
…
(3) فأنسى مشاه ولم يمش كالحجل
يواسي الغراب لذئب في كل صيده
…
وما صاده الغربان في سعف النخل
(1) يتيمة الدهر 4: 90.
(2)
يتيمة الدهر 4: 90 - 91.
(3)
قارن بما في كليلة ودمنة: 299 من حديث عن الغراب الذي حاول تقليد مشية الحجلة.
وهذه الصورة الجديدة من الترجمة لا تختلف كثيرا عن الأشعار المنظومة ابتداء في الحكمة وهي في وزنها وصياغتها تمثل محاولة تتفوق على كل ما سبقها في هذا المضمار. ويجب ألا نسرع إلى القول بأن الاهتمام بالأمثال والحكم الفارسية كان أكثر من الاهتمام بالأمثال والحكم اليونانية، فهذه الأخيرة لم تجد؟ فيما يبدو - من يتنبه لها ويؤرخها كما فعل الثعالبي.
" 10 "
صهر معاني الحكم اليونانية في الشعر العربي
للأقدمين نظرات، لا بد من أن نتوقف عندها مدققين متأملين؛ من ذلك مثلا قولهم إن أبا العتاهية كان " يرمى بالزندقة مع كثرة أشعاره في الزهد والمواعظ وذكر الموت والحشر والنار والجنة " وأنه ربما كان ثنويا (1) أو أنه " كان خبيث الدين يذهب مذهب الثنوية، إلا أنه كان ناسك الظاهر "(2) ؛ وقد يكون الذي أثار هذا الحكم معرفة بعض معاصريه بمدى الخلف بين القول والعمل لديه، ووجوده في عصر اشتدت فيه التهمة بالزندقة، ولكن الذي يهمنا اليوم من كل ذلك أن أبا العتاهية في حكمته إنما كان تلميذا للثقافتين الفارسية واليونانية، وقد رأينا كيف كان من أوائل الذين ترجموا الحكم والأمثال الأجنبية، وخلطوها بالقيم الإسلامية، وربما لم يكن بين الفئتين من تعارض، ولكن محض المحاولة يضع أبا العتاهية في صف ابن المقفع وغيره ممن كانت أهدافهم في هذا المنحى مظنة ميل إلى تراث غير إسلامي خالص؛ وإذا كانت الزندقة تتضمن مثل العودة إلى ذلك التراث، فإن أبا العتاهية كان زنديقا لأنه يؤمن بالأنموذج اليوناني للمثل الأعلى، أي أنه يرى السيرة الفاضلة في الحكيم لا في النبي، وحين نقرأ قوله (3) :
(1) ابن المعتز: طبقات الشعراء، 228.
(2)
المصدر نفسه: 364.
(3)
بهجة المجالس 2: 296، والعقد 1: 37، وديوانه: 392، (وأنظر العقد 3: 273 حيث سئل يحيى البرمكي ما الكرم فقال: ملك في زي مسكين) وتمام ما يقوله أبو العتاهية:
ذاك الذي عظمت في الله حرمته
…
وذاك يصلح للدنيا وللدين
إذا أردت شريف الناس كلهم
…
فأنظر إلى ملك في زي مسكين فإننا نفهم أن شريف الناس؟ أي المثل الأعلى - هو الملك الفيلسوف، أي هو؟ دون مواربة - سقراط لو قيض له يضطلع له أن يضطلع بالمسؤلية السياسية (1) ، وإن ظن بعضهم " أن الملك في زي مسكين " إنما يتمثل في إبراهيم بن أدهم، ذلك الرمز المبكر للغني الذي رفض الدنيا.
وقد لحظ الأقدمون أيضا مدى تأثر بعض الشعراء بالتراث المنسوب إلى يونان؛ فقول صالح بن عبد القدوس:
وينادونه وقد صم عنهم
…
ثم قالوا وللنساء نحيب
ما الذق عاق أن ترد جوابا
…
أيها المقول الألد الخطيب
إن تكن لا تطيق رجع جواب
…
فبما قد ترى وأنت خطيب
ذو عظات وما وعظت بشيء
…
مثل وعظ السكوت إذ لا تجيب قد قرنه ابن طباطبا بقول أحد الحكماء ممن ورثوا الإسكندر: " طالما كان هذا الشخص واعظا بليغا، وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من وعظه بسكوته "(2) .
ولهم من أبي العتاهية موقف مشابه، نبه إليه كل من المبرد وابن طباطبا وأبي الفرج الأصفهاني والثعالبي والحصري والطرطوشي والراغب الأصفهاني (3) ؛ فحين وقف أبو العتاهية على صديقه علي بن ثابت وهو يجود بنفسه، بكى طويلا ثم قال:
(1) لا ريب في رسوخ صورة سقراط الزهدية في النفوس، انظر مثلا صوان الحكمة: 125 حيث جاء " وكان زاهدا وربما ما شبع من الخبز قط " وكذلك حديث الرازي عن السيرة الفلسفية (رسائل الرازي: 99) وأكثر الحكايات عنه تشير إلى هذه النزعة.
(2)
ابن طباطبا: عيار الشعر: 80
(3)
انظر الكامل: 230 (ط. رايت، وأشار إلى ذلك غوتاس، ص: 464) ونسب القول الثاني إلى الموبذ في قباذ الملك، وعيار الشعر: 80 والأغاني 4: 46 (دار الثقافة) وغرر السير: 454 وزهر الآداب: 673 - 674 وسراج الملوك: 13 ومحاضرات الراغب 2: 286، وراجع كذلك مخطوطة كوبريللي، الورقة:25.
يا شريكي في الخير قربك الله
…
فنعم الشريك في الخير كنتا
قد لعمري حكيت لي غصص
…
الموت فحركتني لها وسكنتا وحين دفن وقف على قبره يبكي بكاء طويلا ويقول:
بكيتك يا علي بدمع عيني
…
فما أغنى البكاء عليك شيا
وكانت في حياتك لي عظات
…
فأنت اليوم أوعظ منك حيا وفي هذين الموقفين كان أبو العتاهية، معجبا أيضا بالأقوال التي ألقاها الحكماء عند تابوت الإسكندر، فقوله " حركتني وسكنتا " مأخوذ من قول أحد الحكماء " حركنا اإسكندر بسكونه " وقوله:" فأنت اليوم أوعظ منك حيا " من قول الآخر: " قد كنت أمس أنطق وأنت اليوم أوعظ "(1) .
ويزيد المبرد على ذلك قوله: إن أبا العتاهية: " لا يكاد يخلي شعره مما تقدم من الأخبار والآثار فينظم ذلك الكلام المنثور ويتناوله أقرب متناول ويسرقه أخفى سرقة "؛ أما ابن طباطبا فيرى أن أبا العتاهية إنما ورد مورد صالح بن عبد القدوس إلا أنه جاء بالمعنى في لفظ موجز وصياغة أجمل. ويضيف الثعالبي أن أحد الحكماء قال في الإسكندر: " علمت أنك ولدت للموت وبنيت للخراب " وأن أبا العتاهية أخذ هذا المعنى أيضا فقال:
لدوا للموت وابنوا للخراب
…
(2) فكلكم يصير إلى تباب قال الثعالبي: " وجدت أبا العتاهية كثيرا ما يقول في مراثيه وزهدياته على معاني هذه الكلمات "(3) ؟ أي الكلمات التي قيلت في رثاء الإسكندر.
ماذا يعني هذا كله؟ يعني لأننا نتجاوز ترجمة الأمثال والحكم إلى شعر؟ كما بينا في
(1) انظر الملحق: 2، رقم 56، 58، والنص في الأغاني:" كان الملك أمس أهيب منه اليوم وهواليوم أوعظ منه أمس ".
(2)
غرر السير: 455، وانظر الرأي في نسبة هذا القول عكسيا (ص: 122 فيما تقدم) .
(3)
المصدر السابق: 454 - 455.
الفصل السابق - وأننا هنا إزاء شعر جميل، إلا أنه يتوكأ في بعض معانيه على الثقافة اليونانية.
وقد كان طلاب الثقافة اليونانية أكثر من غيرهم وعيا بتلك الصلة بين الثقافتين العربية واليونانية، فهم إذا قرأوا سقراط وقد سئل لماذا لا يرى عليه أثر الحزن:" لأني لا أملك ما أحزن عليه إذا عدمته "، ذكروا به قول الشاعر:
فمن سره أن لا يرى ما يسوءه
…
(1) فلا يتخذ شيئا يخاف له فقد وإذا وجدوا: " الحسدة مناشير أنفسهم "(2) أو " الحسود منشار أهله، فإنه لفرط أسفه وغمه بما نال غيره من الخير يكون كأنه يشقق نفسه "(3) قرنوا به قول شاعر آخر (4) :
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله
…
كالنار تأكل بعضها
…
إن لم تجد ما تأكله بل إن بعضهم؟ على سبيل التساهل - لا يقول ان هذا القول يذكر أو يقرن بقول هذا الشاعر أو ذاك وإنما يقول أخذه الشاعر، كما فعل صاحب صوان الحكمة حين أورد هذا القول المنسوب لارسطاطاليس:" العشق همة نفس فارغة لا شغل لها "(5) فقال: أخذه الأخطل فقال:
وكم قتلت أروى بلا دية لها
…
(6) وأرى لفراغ الرجال قتول
(1) الكلم الروحانية: 84 - 85.
(2)
الكلم الروحانية: 125.
(3)
السعادة والإسعاد: 122.
(4)
الكلم الروحانية: 125.
(5)
ورد هذا القول دون نسبة في السعادة والإسعاد: 147، منسوبا لديوجانس في لباب الآداب:441.
(6)
المنتخب الورقة.
أي أن الأخطل أخذ قول أرسطاطاليس قبل أن يترجم إلى العربية. وأسهل من ذلك أن ينسب الأخذ إلى شاعر عاش بعد شيوع الترجمة، وقد كان ابن هندو متنبها إلى هذه العلاقة سواء أسماها أخذا أو تشابها، كما مر في مثلين سابقين. ومما وقف عنده ابن هندو قولة لأفلاطون:" العفو يفسد من الخسيس بمقدار ما يصلح من الرفيع " فقد ذكر أن أبا الطيب أخذ هذا المعنى فقال:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
…
مضر كوضع السيف في موضع الندى (1) وهناك قولة أخرى لأفلاطون: " الفقير إذا تشبه بالغني كان كمن به ورم ويوهم الناس أنه سمين وهو يستر ما به من الورم " علق عليها ابن هندو بقولة: كأن أبا الطيب المتنبي لحظ هذا الكلام حيث يقول:
أعيذها نظرات منك صادقة
…
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم (2) وقرن بين قول أفلاطون " المصغي إلى الذم شريك له " وقول الشاعر؟ ولم يسمه -
والسامع الذم شريك له
…
والمطعم المأكول كالآكل (3) - حسبما تقدمت الإشارة إلى ذلك (4) .
ووجد في قول المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
…
ألا تفارقهم فالراحلون هم شبها بقول فيلن: " الذي يقبل الحكمة هو الذي ضل عنها وليست هي الضالة
(1) الكلم الروحانية: 13.
(2)
الكلم الروحانية: 13.
(3)
المصدر نفسه: 12.
(4)
انظر ما تقدم ص: 138.
عنه (1) ، ولديه وقفات أخرى في استثارة التشابه بين بعض الحكم اليونانية وأبيات شعر عربية (2) .
غير أن أكبر عمل منظم في هذا الصدد هو الرسالة الحاتمية في ما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة لأبي علي محمد بن الحسن الحاتمي (368/998)(3) ، من وضع الحاتمي؟ وإنما يثور هذا السؤال لأمرين، أولهما: أن الحاتمي لم يعرف بين طلاب الثقافة اليونلنية، وليس في ما وصلنا إلا إشارات قليلة عن صلته بالفلسفة، وبعض هذه الإشارات خاطئ (4) ، وثانيهما أن الحاتمي قد عرف بشدة الحملة على المتنبي، وما الرسالة الموضحة إلا صورة إلا صورة من ذلك الغضب الشديد، بينما يقول مؤلف هذه الرسالة التي بين أيدينا:" والذي بعثني على تصنيف هذه الألفاظ المنطقية والآراء الفلسفية التي أخذها أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي منافرة خصومي فيه لما رأيت من نفور عقولهم عنه وتصغيرهم لقدره؟ ووجدنا أبا الطيب؟ قد أتى في شعره بأغراض فلسفية ومعان منطقية، فإن كان ذلك منه عن فحص ونظر وبحث فقد أغرق في درس العلوم، وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ الغربية وهو في الحالتين على غاية من الفضل وسبيل نهاية من النبل، وقد أوردت من ذلك ما يستدل على فضله في نفسه وفضل علمه وأدبه وإغراقه في طلب الحكمة "(5) ، فهذا كلام يحمل كل تقدير للمتنبي وإشادة بفضله ونبله وغزارة علمه وتعمقه في الإطلاع، وهو يختلف كثيرا عن ذلك السب الغاضب والتقريع الشديد الذي تمثله الموضحة.
(1) الكلم الروحانية: 120.
(2)
انظر مثلا ص: 10، 20، 69، 70، 80، 86، 93، 100، 101، 105، 120، 136 من الكتاب المذكور.
(3)
انظر في ترجمته ابن خلكان 3: 362 والحاشية، وراجع كتابي تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 253 وما بعدها، والفصل الخاص بالرسالة الحاتمية: 243 - 250.
(4)
انظر تاريخ النقد: 244.
(5)
الرسالة الحاتمية: 22 - 23.
ورغم هذين الأمرين ففي تأييد نسبة هذه الرسالة إلى الحاتمي يمكن للدارس أن يقول إن ما جاء به الحاتمي هنا لا يتطلب ثقافة فلسفية، فقد عاش في عصر كانت قد كثرت فيه الكتب التي تتردد فيها مختارات من أقوال الفلاسفة، كان كتاب حنين بن اسحاق معروفا، وربما كان صوان الحكمة وجاويدان خرد والسعادة والإسعاد وغيرها قد أعان أبا حيان على إيراد كثير من أقوال الفلاسفة في كتابه البصائر، فغير مستبعد أن يكون الحاتمي وهو ممن يلابس عصبة التوحيدي أن يكون ملما بتلك المصادر مطلعا عليها. كذلك قد يقال إن هذه الحاتمية إنما تمثل لحظة من لحظات الهدوء قبل الموضحة أو بعدها، وان حملة قد أثارتها حوافز شخصية وسياسية لا بد أن تحور إلى هدوء، بل أن الموضحة نفسها لا تنكر فضل المتنبي إنكارا تاما، وإنما كان الرجل مغيظا فقال ما قال وهو يغلي على لهب الغيظ. وإزاء هذا كله لا يستبعد أن تكون الرسالة صحيحة النسبة للحاتمي، ومن المستبعد أن يكون الحاتمي إنما يوري في هذه المقدمة بمدح يشبه الذم، وإنه إنما يحاول أن يفضح المتنبي؟ على نحو عملي - حين يجعل أقواله مأخوذة من غيره، فقد كان الحاتمي شغوفا بموضوع السرقات الشعرية، ورسالته هذه قد تندرج تحت ذلك الموضوع، لولا أن عنوانها يقول:" فيما وافق " فإذا كان هذا العنوان من وضع الحاتمي، فهو أيضا قد تنازل للمتنبي عن الاتهام بالسرقة، وجعل التشابه بين شعره وتلك المعاني المنطقية محض " موافقة ".
وهناك اشكالات أخرى تتصل بالرسالة منها أن المقدمة التي تصور صاحب الرسالة امرءا من المتشيعين للمتنبي الرادين على خصومه لم ترد؟ فيما يبدو - في المخطوطات التي اعتمد عليها ريشر في نشره لهذه الرسالة (1) ، ويرد على هذا بأنها ثابتة في مخطوطات أخرى، وأن عدم ورودها يحجب عن أعيينا موقف الناقد من المتنبي، ولكنه لا يضعف نسبتها إلى الحاتمي بل ربما كان يقويها، ويبدو أن ابن هندو لم يعرف شيئا عن هذه الرسالة مع تأخر وفاته كثيرا عن وفاة الحاتمي، فقول المتنبي:
(1) Islamica، Vol. II، fasc 3، Lipsiace، 1926، PP. 439 - 473.
وقد ترجمها ريشر إلى الألمانية، وانظر روزنتال: The Classical Heritage ص: 261 - 263 حيث ترجم بعض الأقوال إلى الإنجليزية.
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
…
ألا تفارقهم فالراحلون هم يقرنه الحاتمي بقول أرسطو: " من لم يردك لنفسه فهو النائي عنك وان كنت قريبا منه، ومن يردك لنفسك فأنت قريب منه وان تباعدت عنه "(1)، بينا يقرنه ابن هندو بهذه الحكمة:" الذي [لا] يقبل الحكمة هو الذي ضل عنها وليست هي الضالة عنه "(2) ، وقد مر بنا قول المتنبي " ووضع الندى في موضع السيف؟ " وان ابن هندو يراه مشبها لقول من أقوال من أقوال أفلاطون، وهو مختلف عن القول الذي يورده الحاتمي لأرسطو (3) ، كذلك استقل ابن هندو بإبراز الشبه بين قول المتنبي " أعيذها نظرات منك صادقة؟ البيت " وبين قول آخر لإفلاطون، ولم يتنبه الحاتمي لذلك. وكل هذا يدل على أن ابن هندو لم يتأثر بالرسالة الحاتمية لأنه؟ فيما يبدو - لم يعرف عنها شيئا.
وأقدم نقل عن الحاتمية نجده لدى ابن حمدون صاحب التذكرة (4)(562/ 1166) إلا أنه لا يسميها، ولا يذكر الحاتمي، وقد يعد عمل ابن حمدون مضللا لأنه اهتم بإيراد الحكم المنسوبة لأرسطاطاليس اكثر من اهتمامه بإيراد ما يقارنها من شعر المتنبي، وبذلك كاد يخفي أخذه من الحاتمية ويوهم من يقرأ كتابه أنه يعتمد مجموعة من مختارات الحكم، ولما كانت هذه الحكم التي أوردها الحاتمي ليست جميعا لأرسطاطاليس، فقد أكد ابن حمدون هذا الاضطراب في نسبتها، ومن الغريب أن ابن حمدون أورد هذه الحكمة:" الذكر في الكتب عمر لا يبيد " ونسبها لأفلاطون وأعقبها بقول المتنبي المشابه لها (5) ، مع أنها في الحاتمية لأرسطاطاليس (6) ، فكأنه إنما كان في هذا الموطن ينقل عن مصدر آخر، أو كان ضحية للسهو والوهم.
(1) الحاتمية، رقم: 13، ص:30.
(2)
الكلم الروحانية: 120.
(3)
الحاتمية رقم: 22، ص:34.
(4)
تذكرة ابن حمدون: 29 - 30.
(5)
تذكرة ابن حمدون: 22.
(6)
الحاتمية رقم: 91، ص:69.
وبعد ابن حمدون نجد أسامة بن منقذ (584/ 1188) يدرج هذخ الرسالة ضمن كتابه " البديع في نقد الشعر "(1) ، مصرحا بنسبتها للحاتمي، ويتبين لدى مقارنة جميع الصور التي وردت فيها الحاتمية؟ بما في ذلك بديع أسامة - أن ثمة اختلافا كبيرا في ترتيب فقرات الرسالة، واختلافا كبيرا في عددها (2) ، وواضح أن الخطر في ذلك كله انزلاق المقارنات عن مواضعها الصحيحة، ودمج حكمة وبيت لا علاقة بينهما، ومفتاح ذلك ما ورد في طبعه فؤاد أفرام البستاني فإن رقم 100 فيها مكرر، وهو بعينه قد ورد في رقم: 44 وفي كل مرة ذكرت الحكمة وذكر معها بيت مختلف، والحكمة هي: من صحة السياسة أن يكون الإنسان مع الأيام كلما أظهرت سنة عمل فيها بحسب السياسة، والبيت المقترن بها أول مرة هو:
كلما انبت الزمان قناة
…
ركب المرء في القناة سنانا وهو في المرة الثانية:
وكل امرئ يولي الجميل محبب
…
وكل مكان ينبت العز طيب وليس بين البيتين والحكمة أدنى علاقة، وإذا استطعنا عن طريق التأويل المتعسف للبيت الأول أن نجد فيه إثارة من شبه بالحكمة نفسها فإن البيت الثاني منقطع الصلة بها تماما.
وهذا ضعف عام يعتري كثيرا من فقرات الرسالة، وليس مرده إلى اضطراب النساخ وحسب، بل إلى المؤلف نفسه أحيانا، فإنه كان يعتمد أبسط صور التشابه الظاهري ليقيم علاقة بين حكمة وبيت، دون أن يفتش بدقة عن الاختلاف الواسع بينهما. فقول أرسطو " الذي لا تعلم علته لا يوصل إلى برئة " منقطع الصلة بالبيت المقترن به وهو:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله
…
(3) ويجهل علمي أنه بي جاهل
(1) البديع في نقد الشعر: 264 - 283.
(2)
هي مائة فقرة في طبعة البستاني، و 98 في نشرة ريشر، و 92 عند أسامة، و79 في طبعة ان انطون بولاد (بيروت 1868) ، و97 في طبعة الجوانب (1302) .
(3)
الحاتمية رقم: 70، ص:58.
وقوله: " من كان همه الأكل والشرب والنكاح فهو بطبع البهائم، لأن البهائم متى خلي بينهما وبين ما تريده لا تفضل شيئا غير ذلك " لا يربطه أي شبه بقول المتنبي:
أرى أناسا على غنم
…
وذكر جود ومحصولي على كلم (1) إلى أمثال أخرى من هذا النوع.
ويعتري الرسالة ضعف آخر وهو إيراد المعاني المتشابهة مع مراعاة تفريقها كأنها عدة معان مختلفة، ومن أمثلة ذلك ما جاء من أقوال تتحدث عن فعل الزمان والفناء مثل:
- تعاقب أيام الزمان مفسد لحال الحيوان (رقم: 8)
- الزمان ينشئ ويلاشي (رقم: 5)
- الكون والفساد يتعاقبان الأشياء (رقم: 9)
- ترداد حركات الفلك يحيل الكائنات عن حقائقها (رقم: 10)
ثم ما الفرق بين هذين القولين؟:
- لسنا نمنع ائتلاف الأرواح وإنما نمنع ائتلاف الأجسام (رقم: 9)
- الائتلاف بالجواهر قبل الائتلاف بالأجسام (رقم: 48)
وفي كل مرة منهما تقترن الحكمة ببيت جديد من أبيات المتنبي.
ويعض الأقوال فيها يستبعد صدوره عن أرسطو أو عن غيره من الفلاسفة، مثل:" الظلم من طبع النفوس "(رقم: 33) ومثل " ثلاثة أن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وزوجك ومملوكك، فسبب صلاحهم التعدي عليهم " رقم: 38) كما أن بعض الحكم لا يحتاج فيه إلى الاستئناس بأرسطو مثل: " إذا كان البناء على غير قواعد كان الفساد أقرب إليه من الصلاح "(رقم: 60) ومثل: " إذا لم ترفع نفسك عن قدر الجاهل رفع
(1) الحاتمية رقم: 72، ص:59.
الجاهل قدره عليك " (رقم: 69) ولكن هذه المسألة الأخيرة لا تنطبق على بعض ما جاء في الحاتمية وحسب، بل على أكثر المختارات الحكمية المنقولة عن يونان وفارس.
وكل هذا يؤدي بنا إلى أن نتساءل: من أين جاء الحاتمي بهذه الأقوال؟ من الصعب أن نعين لهذه الحكم مصدرا واحدا، كما أن نسبتها جميعا إلى أرسطاطاليس أمر مستغرب، وعند محاولة مقارنتها بما جاء في مجاميع الأقوال اليونانية مثل مختار الحكم ومنتخب صوان الحكمة ومختصره والكلم الروحانية وغيرها نجد بعضها موجودا في تلك المصادر إلا أنه غير منسوب دائما إلى أرسطاطاليس. وأورد في ما يلي ما وجدته من هذه الأقوال أو ما يقاربها ويجري مجراها في مصدر آخر:
1 -
الحاتمية: روم نقل الطباع عن ذوي الأطماع شديد الامتناع (رقم: 2، ص: 24)
مختار الحكم: وكل شيء يستطاع نقله إلا الطباع (أرسطاطاليس)(1) .
2 -
الحاتمية: من لم يقدر على فعل الفضائل فلتكن فضائله ترك الرذائل (رقم: 89، ص: 68) .
مختار الحكم: من لم يقدر على فعل فضيلة فليكن همه ترك رذيلة (أرسطاطاليس)(2)
3 -
الحاتمية: آخر لإفراط التوقي أول موارد الخوف (رقم: 77، ص: 62) .
مختار الحكم: إن من الترقي ترك الإفراط في التوقي (أفلاطون)(3) .
4 -
الحاتمية: الفرق بين الحلم والعجز أن الحلم لا يكون إلا عن قدرة والعجز لا يكون إلا عن ضعف (رقم: 52، ص: 49) .
مختار الحكم: الحلم لا ينسب إلا إلى من قدر على السطوة، والزهد لا ينسب إلا إلى من ترك بعد القدرة (أفلاطون)(4) .
(1) مختار الكلم: 200.
(2)
مختار الحكم:198.
(3)
مختار الحكم: 174.
(4)
مختار الحكم: 165، 157 وانظر عيون الأخبار 1:52.
5 -
الحاتمية: من علم أن الكون والفساد يتعاقبان الأشياء لم يحزن لورود الفجائع، لعلمه أنه من كونها (رقم: 9، ص: 28) .
مختار الحكم: ليس الحكيم التام من فرح بشيء من هذا العالم أو جزع لشيء من مصيباته واغنم له (أفلاطون)(1) .
6 -
الحاتمية: قال وقد نظر إلى غلام حسن الوجه فاستلطفه فلم يجد عنده علما: نعم الدار لو كان فيها ساكن (رقم: 25، ص: 36) .
مختار الحكم: وقال وقد رأى رجلا شريرا حسن الوجه: نعم البيت وبئس الساكن (ذيوجانس الكلبي)(2) .
الكلم الروحانية: أما البيت فحسن وأما الساكن فيه فردىء (ذيوجانس)(3) .
الكلم الروحانية: ورأى غلاما صبيحا لا أدب له فقال: وأي بيت لا أساس له (ذيوجانس)(4) .
البصائر: أما البيت فحسن وأما الساكن فيه فخبيث (ذيوجانس)(5) .
7 -
الحاتمية: موت النفوس حياتها، وعدمها وجودها لأنها تلحق بعالمها العلوي (رقم 54، ص: 50) .
السعادة والإسعاد: من أحب لنفسه الحياة أماتها، فإن النفس الناطقة إنما تحيا بموت النفس الشهوانية (سقراط)(6) .
8 -
الحاتمية: تعاقب أيام الزمان مفسد لأحوال الحيوان (رقم 8، ص: 27) .
الحاتمية: ترداد حركات الفلك يحيل الكائنات عن حقائقها (رقم: 10، ص 28) .
(1) مختار الحكم: 141.
(2)
مختار الحكم: 79.
(3)
الكلم الروحانية: 107 - 108.
(4)
الكلم الروحانية: 107.
(5)
البصائر: 395 - 396 وانظر أيضا 1: 139 (رواية ولكن لا أساس له) .
(6)
السعادة والإسعاد: 84.
البصائر: باختلاف الحركة والسكون بادت الأمم والقرون (فيلسوف)(1) .
9 -
الحاتمية: النفوس المتوهره تأبى مقارنة الذلة جدا، وترى فناءها في ذلك حياتها، والنفوس الدنيئة بضد ذلك (رقم 11، ص: 29)
مختار الحكم: الموت خير من المقام في دار الهوان (سقراط)(2) .
10 -
الحاتمية: الدنيا تطعم أولادها وتأكل مولوداتها (رقم: 34، ص: 40) .
الأقوال المناندرية: أن الأرض تلد كل شيء ثم تسترده (أولمان رقم: 64، ص: 25) .
11 -
الحاتمية: الزمان ينشىء ويلاشي ففناء كل قوم سبب لكون قوم آخرين (رقم: 5، ض: 26) .
مختار الحكم: حوادث الزمان هلاك لقوم ووعظ لآخرين (سقراط)(3) .
12 -
الحاتمية: لسنا نمنع ائتلاف الأرواح، وإنما نمنع ائتلاف الأجسام، فإن ذلك من طبع البهائم (رقم 19، ص: 23) .
البصائر: ليس ينبغي أن نمنع من معاشقة النفس النفس، ولكن من معاشقة البدن البدن (فيلسوف)(4) .
13 -
الحاتمية: ليس جمال ظاهر الإنسان مما يستدل به على حسن فعله وفضيلته (رقم: 56، ص: 51) .
مختار الحكم: البهيميون من الجهال إنما يقضون على الحسن والقبيح بقدر ما تنال حواسهم الظاهرة، وإنما ترى الحواس الظاهرة حسن الأعضاء
(1) البصائر 1: 341.
(2)
مختار الحكم: 106.
(3)
مختار الحكم: 101 - 102.
(4)
البصائر: 7، الفقرة:18.
فأما حسن الصورة فلا تراها إلا الحواس الباطنة (أفلاطون)(1) .
14 -
الحاتمية: الصبر على مضض السياسة ينال به شرف الرياسة (رقم:32، ص: 39) .
العقد: من طلب الرياسة صبر على السياسة (علي بن أبي طالب)(2) .
هذا هو القدر الذي استطعت العثور عليه، وفي كل ذلك ما يدل على أن الأقوال التي وردت في الحاتمية لا تعدم صلة بحكم ثبتت في المصادر العربية منقولة عن اليونانيين. فأما نسبتها جميعا إلى أرسطاطاليس فقد كان من طريق التجوز، على اعتبار انه النموذج الأعلى للحكمة مثلما كان أوميرس النموذج الأعلى للشعر. ولم تستغرق الرسالة الحاتمية كل ما يمكن أن يتم من رابط بين الأفكار اليونانية وشعر المتنبي، ومن شاء استطاع أن يضيف إليها كثيرا، ففي الأقوال المناندرية:" ان الرأي في الجبان جبان أيضا "(3)، وهو مشبه إلى بعيد لقول المتنبي:
تلقى الحسام على جراءة حده
…
مثل الجبان بكف كل جبان ونجد في قول مهاد رجيس: " من ساءت ظنونه تنغصت عيشته وعطمت مصيبته (4) " طرفا مما أسهب فيه المتنبي بقوله:
إذا ساء فعل المرء ساءت طنونه
…
وصدق ما يعتاده من توهم
وعادي محبيه بقول عداته
…
وأصبح في ليل من الشك مظلم وتعريف أرسطاطاليس (أو غيره)(5) للصديق: " هو أنت، إلا أنه بالشخص
(1) مختار الحكم: 135.
(2)
العقد 2: 420.
(3)
أولمان، رقم: 91، ص:28.
(4)
مختار الحكم: 283.
(5)
في منتخب صوان الحكمة: 244 - 245 (طهران) أن من اسمه ثيا فندورس سئل ما حقيقة الصديق فقال: انسان هو أنت إلا أنه غيرك، حيوان غير موجود، اسم على غير معنى، وفي مختار الحكم: 213 انه لأرسطاطاليس.
غيرك " قد تلاعب به المتنبي، حتى أخرجه على النحو الآتي، منكرا وجود الصديق البية:
صديقك أنت: (لا من قلت خلي
…
وار كثر التجمل والكلام) والأمثلة كثيرة على مدى صلة المتنبي بالمصطلح الفلسفي والأفكار الفلسفية واستغلال كل ذلك في شعره، ولكن المتنبي لم يكن مترجما لتلك الأفكار والمصطلحات، كما فعل جيل الشعراء الذين كانت همتهم منصرفة إلى نظم الحكم، وإنما تمثل كل ذلك على نحو فذ، فكان شعره ثمرة عجيبة لذلك اللقاء الثقافي، وليس معنى ذلك انتقاصا من موهبته في إحراز تجربة عميقة في الحياة، كانت المنبع الهام في تلك العبقرية الشعرية.
فراغ
" 11 "
اتخاذ المقامة وعاء للفكر الحكمي والسياسي اليونانيين
للمقامة في تاريخ الأدب العربي شأن خطير لعله لم ينل ما يستحقه من عناية حتى اليوم. فقبل أن تخلق القصة القصيرة بمئات السنين، عرف العرب شكلا أدبيا، يعبر للأرستقراطية المثقفة بما يدور في حياة العامة، ويتحدث عن شؤون المجتمع؟ في ملابساتها اليومية - بلغة جزلة: كان السؤال الكبير في القرن الرابع الهجري هو: كيف يمكن للأدب أن ينقل الصورة الأسطورية من فصاحة الأعراب التي جعلها ابن دريد وغيره من الرواة محكا للقدرة على التمسك بالطبع في الأداء، مع التعبير عن حاجات المدينة. وفجأة وجد بديع الزمان ضالته في أبي دلف الخزرجي الينبعي، فقد كان يعرفه معرفة وثيقة، ويعرف أنه عن طريق الكدية يمثل النظرة إلى المجتمع المدني، وعن طريق الفصاحة يمثل صفاء اللغة الإعرابية، فأتخذه نموذجا، وسماه أبا الفتح الإسكندري (1) ، وجعله قناعا لنقد الحياة الاجتماعية والأدبية في مختلف صورها، وكان لا بد لهذا البطل القصصي أن يكون مكديا، كي يدور البلاد، ويتعرف إلى الناس والعادات، ويتحدث عن تجارب مختلفة، ويستكشف المدينة وحياتها، ويتحدث عنها بأسلوب فصيح معروف عن الأعراب. وهكذا ولدت المقامة؟ قطعة نثرية مسجوعة قصيرة الفقرات، ذات طول معين، لا يتجاوز في طولها مقام واعظ يتحدث إلى جمهوره، وفي الغالب
(1) يقول الثعالبي: وأنشدني بديع الزمان لأبي دلف، ونسبه في بعض المقامات إلى أبي الفتح الإسكندري (اليتيمة 3: 358) وهو شاهد على النموذج الذي كان يسيطر على ذهن البديع حينما خطر له أن ينشيء المقامات.
يكون البطل فيها متنكرا، فهي تقع بين " عقد " و " حل "، قصيري الأمد، ويكون الحل إشباعا للتشويق، ويصبح " الانكشاف " مدعاة للارتياح وسبيلا إلى طمأنينة النفس. وحين نستعمل هذه المصطلحات، أعني: العقد والحل والأنكشاف، فلسنا نعني أن المقامة متأثرة بالنظرية الارسطاطاليسية في " التراجيديا "، وبعبارة أخرى لا نعني أن " المقامة " وليدة جو يوناني، إذ يبدو أن المقامة وليدة جو محلي لا علاقة له بالدراما اليونانية، ولكن الذي نحب أن نؤكده هنا، هو أن ولادة هذا الفن الذي لم تعرفه الآداب الأخرى؟ فيما نقدر - كان يرضي رغبة روائية لدى العرب كتلك الرغبة التي وجدت رضاها عند غيرهم في الدراما.
ومثلما أن المقامة لم تجد حتى اليوم من يتوفر على إبراز أهميتها الدقيقة بين الأشكال الأدبية كذلك كان حظ أثرها، ذلك أن سعة المجال الذي يمكن أن تغطيه المقامة؟ حسب سعة الحياة الإنسانية - قد جعل أثرها مترامي الأطراف، وأتاح للأدباء؟ بعد البديع - مجالا للتخصص، فثمة من اكتفى من المقامة بالنقد الأدبي (1) ، ومن رصد فيها الحياة الريفية (2) ، ومن اتخذها قالبا لوصف الرحلة ومن اجتزأ منها بوصف العناصر الجزئية إبراز لمقدرته الأدبية (3) ، وآخرون قد فتنتهم قدرة البديع في وصف الطعام والمائدة، وهذا هو ما عمد إليه بعض كتاب مصر في العصر الفاطمي (4) ، وفي مقدمتهم العميدي، فإن في رسالته المطبخية (5) محاولة واضحة لمحاكاة بديع الزمان.
وقد كانت المقامة المضيرية من أكثر المقامات تأثيرا في من جاء بعد البديع، فهي في
(1) يعد ابن شرف نموذجا لهذا النوع من المقامات، انظر الذخيرة ج 4: 154 ورسالة أعلام الكلام (ط. مصر 1926) وتاريخ النقد الأدبي عند العرب: 460 وما بعدها.
(2)
في مقامة لابن أبي الخصال، انظر تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين) :316.
(3)
ذلك هو ما فهمه ابن شهيد من المقامات، انظر رسالته في الحلواء، في الذخيرة 1/1: 230 - 232 ووصفه للماء 1/1: 236 في معارضته وصف البديع له.
(4)
انظر تاريخ المسبحي، الورقة: 212 وما بعدها.
(5)
رسائل العميدي: (مخطوطة في مجموعة يهودا بجامعة برنستون، منها نسختان رقم 4059، 4548 ومخطوطة ثالثة لم تلاقم بعد، وهي التي اعتمدها بالإشارة) والرسالة المطبخية موجودة في النسخ الثلاث، وهي الرسالة الأولى في النسخة الثالثة.
حقيقتها نقد لاذع لطبقة التجار وأسلوب هذه الطبقة في الحياة: فالتاجر يسكن في دار في أشرف محلة ببغداد، وكل شيء فيها يدل على الرفاهية والعز والغنى، ولكن صاحبها قد حصلها من شاب أفلس، بالخديعة والحيلة، ثم هو لا يستنكف أن يعرف بأن امرأة فقيرة ألجأها فقر إلى بيع عقد كان لديها بأبخس الأثمان، وأن الحصير المفروش في الدار إنما اشتري " وقت المصادرات وزمن الغارات "(1) ، وأن الأبريق إنما اشتراه مالكه عام المجاعة بثمن بخس أيضا، وهكذا يظل البديع يغمز من " وصولية " هذه الطبقة وقدرتها على انتهاز الفرص، بما لا يدع مجالا للشك في أن غايته الأولى؟ في إطار المقامة - هو النقد الاجتماعي، وكل ما يجيء بعد ذلك فإنما هو مكمل للموضوع الأساسي أو هوامش تحلية على جوانبه.
إن الغاية الأساسية في هذه المقامة ربما لم تجد من يفهمها على حسب دلالتها الصحيحة، بين من تأثروا بها، ولكن ما يهمنا في هذا الصدد، هو أن هذا الشكل الأدبي قد وجد صالحا لاستيعاب جوانب من الحكمة اليونانية والفكر اليوناني أيضا. ولعل أوضح محاولة في هذا السبيل هي ما قام به ابن بطلان. ففي كتاب " دعوة الأطباء "(الذي ألفه ابن بطلان سنة 450) أثر كبير من المقامة في الشكل بوجه عام ومن المقامة المضيرية على وجه الخصوص. أما ما جاء في مقدمة الكتاب من أنه صيغ على أسلوب كليلة ودمنة، فذلك ضرب من الوهم لا يثبت للفحص أبدا، وقد سماه القفطي " مقامة "(2) ، وسماه ابن أبي أصيبعة " رسالة "(3) ، والتسمية الأولى أدق، والثانية جائزة من حيث شمول مدلول الرسالة، وقد احتذى ابن المطران حذوه فيها في كتاب ألفه (4) .
(1) المقامات: 111.
(2)
تاريخ الحكماء: 298.
(3)
عيون الأنباء 1: 242، 243.
(4)
عيون الأنباء 2: 181، وقارن بدعوة الأطباء كتاب " التشويق الطبي " لصاعد بن الحسن، فإن الروح تكاد تكون واحدة، إلا أن صاعد بن الحسن جرد كتابه من شكله الأدبي، وإن كنت تلمح فيه - في بعض المواقف - أسلوبا يذكر بالمقامات كما في قوله:" فإن سئل عن شيء من العلم ابرز ثيابه، واظهر أردائه، وأشار بخاتمه، ونغص لحيته، وسعل وتنحنح، وانقطع وتشجع وقال: أنا داويت وعالجت، وقطعت وبططت، وجبرت وكحلت، وفصدت وحقنت؟ "(ص: 6، ب) وهو أيضا قريب الشبه من دعوة الأطباء في كثرة اعتماده على حكم الأقدمين.
وهذه المقامة تنظر في عنوانها إلى كتاب وضعه أثنايوس النقراطسي (Athenaeus of Naucratis) بعنوان " مأدبة الحكماء "(the Deinosophists) وهي مأدبة أقامها رجل ثري ودعا إليها عددا كبيرا من المثقفين في جميع الفنون، فكان بينهم الفيلسوف والمؤرخ والشاعر واللغوي والخطيب والقاضي وجرى فيها الحوار على الطريقة السقراطية، وشمل ما يتعلق بالطعام من أسماك ولحوم وخضار، وما يتعلق بالشراب من ألوانه وأسماء كؤوسه وغير ذلك من أمور (1) .
وإذا كاناثنايوس قد استطاع أن يجمع إلى المأدبة المتخيلة عددا من ذوي الاختصاصات المتنوعة، في مدينة روما، والحياة الثقافية فيها مزدهرة، فإن ابن بطلان قد اقتصر على عدد من المشتغلين بالصناعة الطبية، ولم يستطع أن يجعل بغداد مكانا لتلك الدعوة إذ كان قد فارقها وأكثر المفكرين فيها قد ماتوا، من أمثال ابن الخمار وابن عبدان ونظيف القس وابن بكس وأبي الوفاء المهندس، وإنما جعل ميافارقين ساحة لها أيام دولة أبي نصر أحمد بن مروان الكردي، وقد كسدت سوق الصناعة الطبيعة لسببين: كثرة الدخلاء فيها، ثم تغلب الصحة على المرض وانكشاف الوبأ والعلل عن الناس منذ أن ملك أبو نصر، ذلك الرجل الميمون النقيبة (2) .
وتتخلص قصة المقامة في أن رجلا (هو ابن بطلان نفسه) فارق بغداد وقصد ميافارقين، وفي نيته أن يدخل عمر (دير) الزعفران ليرتسم بالطب وليلقى راهبا هنالك فيتزود ببركة دعائه، وفي طريقه في ميافارقين أرشد إلى دكة بالعطارين عليها شيخ من أبناء السبعين، فيتحدث إليه الشيخ عن كساد صنعة الطب عندهم، وعندما يعرف أن
(1) انظر الجزء الأول من كتاب اثنايوس ص: 3 وما بعدها وربما عرف ابن بطلان كتبا أخرى بهذا العنوان في اليونانية. فقد كان الموضوع - فيما يبدو - محببا إلى المؤلفين بتلك اللغة. لأنه يفسح المجال للحوار والاستقصاء وتعدد الآراء، ويبدو كذلك أن ابن بطلان شغف أيضا بهذا الشكل الأدبي، إذ نجد له كتابا آخر بعنوان " دعوة القوس "، أما " وقعة الأطباء " فربما كان في أكثره تهكما وسخرية، وخاصة بابن رضوان (ابن أبي أصيبعة 1: 242، 243) .
(2)
هذه طريقة من المدح، وإلا فان ابن مروان قد أنشأ في ميافارقين بيمارستانا أنفق عليه أموالا كثيرة وزوده بكل ما يحتاج إليه، وكان فيه من الأطباء المشهورين زاهد العلماء أبو سعيد منصور بن عيس النصراني النسطوري (ابن أبي أصيبعة 2: 253) . وقد ملك أبو نصير من 401 - 453/1010 - 1061.
القادم عليه ضعيف المعدة ناقص الشهوة يحدثه حديثا طبيا عن أنواع الطعام وما يصلح له منها ثم عن الشراب وفوائده ومضاره، وضم مجلس الشراب أبا جابر الفاصد (ومعه عوده) وأبا موسى الصيدلاني وأبا سالم الجرائحي وأبا يعقبوب الكحال، وإزاء هذا كله ينكر الضيف انه طبيب ويزعم انه طبائعي فتجري المحاورة بين الشيخ وضيفه حول ما لا بد للطبائعي أن يعرفه من مسائل، فحين يظهر عجز الضيف في الإجابة عنها ينكر أنه طبائعي ويدعي أنه كحال، فإذا أعيته المسائل التي لا بد أن يعرفها الكحال زعم أنه جرائحي، فإذا سقط في الامتحان، ادعى أنه فاصد ثم أنه صيدلي يعرف شؤون العقاقير والأدوية، وفي النهاية يقول: أنا رجل جئت بكتب إلى أهل هذه البلدة، فيقول له الشيخ " أنت من طب الرقاع والرسائل " ويستطرد إلى الحديث عن فتى " أمسى في بعض الليالي معافى وأصبح يدعي أنه حكيم " فيغمز بذلك من شخص معروف بدعوى الفهم في صناعة الطب، ويذهب إلى الحديث عن جهلة الأطباء وأن هذا قد جر إلى استهانة العامة بالصناعة الطبية، فهم لا يصدقون ما يقوله الأطباء لهم:" إذا قال لهم طبيب هذا غذاء يضر يقولون كم قد أكلناه وما ضرنا، وما يعلمون أن الطبيعة تحامي ما أمكنها عن نفسها وتعجز عن المحاماة فتعطب، ويقولون: ما دام للإنسان خبز عند الخباز فما يضره شيء، فإذا جاء أبو ضابط ما ينفعه شيء، يسمون الخبز الحياة ومعطي الحياة الخباز، ويكنون الموت أبا ضابط "(1) . وفي خاتمة الكتاب يهم الضيف بالإنصراف، فيستبقيه غلام الشيخ لأنه إن ذهب لم يمكنه الحصول على شيء من الطعام والشراب من سيده البخيل، وإنما إذا أقبل على الأكل والضيف موجود، وشاهده سيده احتج بوجود الضيف، فيقبل الضيف والغلام وأبو جابر الفاصد تلميذ الشيخ على الطعام والشراب بنهم، والشيخ قد نام وثقل لما أفرط في الشرب، وإذا يصحو ويرى ما حل بطعامه وشرابه يغضب ويقسم أنه لن يضيف غريبا بقية عمره، وينصرف الضيف ثم يعاود دار الشيخ لعله يلقاه مرة أخرى، فإذا بالشيخ يراعي الطريق من الشباك، مخافة أن يفجأه ضيف طارق، وإذ الضيف يقول لغلامه:" احفظ الباب والممرق، فقد ورد الغرار الملمق، وأخاف أن يلج الدار ويتسلق "، ويحييه الضيف، فيغلق الشباك في وجهه، ويكون ذلك آخر العهد به.
(1) دعوة الأطباء: 88 - 89.
وتتألف " دعوة الأطباء " من اثني عشر فصلا (أو أن شئت فقل من اثني عشرة مقامة) بما في ذلك الفاتحة والخاتمة، ومنذ الفصل الثالث تتخلل الفصول مواقف الشرب، والقطع الغنائية، وتمثل فقرات ارتياح بين الفوائد الطبية، والنقد لأوضاع الأطباء والغمز من جهالة كثيرين منهم، ونقد المجتمع في نفوره من طلب والأطباء.
ويمثل الطبيب الشيخ دور التاجر " الوصولي " في المقامة المضيرية، فهو مثله في حرصه وبخله، وما نصائحه الطبية لضيفه ومنعه من الأكل والشرب في داره، مع أن المائدة جاهزة، إلا صنو مماطلة التاجر لأبي الفتح الإسكندري في إحضار المضيرة، ولكن أقوى المشابه بينهما من نبل المشاعر الإنسانية، فالتاجر ينصب الشباك للمفلس والفقير كي يستولي على ما تبقى لديهما، والشيخ شديد الأسف، لانحسار الأوبئة والأمراض وكساد عمل الحفارين والحمالين:" اليوم جمهور الحفارين والحمالين قد بعدوا عن هذه الديار، وتشتتوا في القرى والأمصار، واشتغل أكثرهم بالمزروعات وسوق العجل والفدان، ونقل الجبصين من رؤوس الجبال إلى البلدان "(1)، ويجمع إلى هذا الأسف حنينا رومنطقيا إلى تلك الأيام التي كانت تخرج فيها الجنائز إلى المقابر:" بالثياب الديباج كأنها زهر البستان؟ والجنائز تجلى كالعرائس وتحط على المقابر كالنجوم الزواهر، وأصوات الصدائح في المآتم والنوائح كترنم المزاهر، واصطخاب الآلات والمزامر، ومغسلوا الموتى لا يوصل إليهم إلا بالملاطفات، والأطباء يتزاحم على دكاكينهم بالمهارى والبغلات؟. "(2) . وهو أيضا شبيه بالتاجر في الوقوف عند كل مادة من مواد خوانه، كما كان التاجر يتوقف ليصف كال آنية أو آلة في داره، وحين أحضر الغلام طبقا علمه منديل وفوقه خبز وبقل، أخذ الشيخ رغيفا وقال: " رحم الله العجوز لقد كانت لها عناية حسنة بالخبز، وهي علمت هذا الغلام يخبز هذا الخبز، كل يا سيدي فإنه مغسول الحنطة، مختمر العجين، معتدل الملح، خلنجي الظهر، مورد الوجه، علك المضغ، سريع الهضم، ملائم للجسم. ثم أخذ طاقة هندباء وقال: اعلم يا سيدي أن الهندباء أنواع: أجودها الرقيقة فإنها خير من غيرها، وأصلح في إصلاح الكبد، وأسرع في تفتيح السدد، وكثيرا ما سقي ماؤها من الراوند، انظر يا سيدي إلى عرض ورقها،
(1) دعوة الأطباء: 16 - 17.
(2)
دعوة الأطباء: 16 - 17.
وصفاء خضرتها، وتطعم عذوبة طعمها ورطوبتها وبردها، لا سيما إذا أكلت، فخير أن تؤكل مع هذا الخل الثقيف، انظر اليه، فما معولي في دفع الصفراء إلا عليه؟. " (1) في هذا المقطع يبلغ احتذاء المقامة المضيرية ذروته.
في هذا الإطار، وجدت الحكمة اليونانية والفكر اليوناني مجالها الرحب، فقد كان ابن بطلان طبيبا شديد التعلق بما ثقفه من أصول الطب اليوناني والمعارف اليونانية جملة، فلذا أفرغ في مقامته كثيرا من الآراء الطبية والأقوال الحكمية، وغرضه في الأساس تعليمي، إلا أنه يمزج كل ذلك بفكاهته ونقده وميوله الأدبية، وخاصة لأن أكثر هذه الأقوال يرد على لسان رجل بخيل لا يريد لرغيفه أن يكسر ولا لطعامه أن يؤكل، فهذا فيثاغورس يقول:" من ساس معدته فقد قرب جميع الأعضاء من الاعتدال "(2) ، وما أحسن ما قال سقراط وقد اجتاز على كساح قد أخرج من حش كساحة " يا أهل أثينا هذا الذي كنتم تغلقون عليه أبوابكم وتقيمون لحفظه الخزان "(3)، والحكيم بقراط يقول:" ليس بالخبز يحيا الإنسان بل بكل كلمة طيبة "(4)، وسقراط يقول:" أن أحببت أن تأكل فلا تأكل حتى تأكل " وأفلاطون يقول: " آكل لأعيش لا أعيش لأكل "(5)، وجالينوس يقول:" أجيل الناس من ملأ بطنه من كل ما يجده "(6) ، إلى غير ذلك من أقوال يتحدد هدفها بمعرفة الشخص الذي يرددها. بل أن ابن بطلان ليقتبس من هذه الثقافة في المواقف المختلفة دون أن يعنى أحيانا بنسبة القول إلى صاحبه، فقوله: اعلم يا سيدي أنه ليس الآمر بأسعد من المطيع له، ولا الناصح أولى بالنصيحة من المنصوح له " (7) ، هو فاتحة رسالة منسوبة إلى أرسطاطاليس بعث بها إلى
(1) دعوة الأطباء: 21.
(2)
دعوة الأطباء: 22.
(3)
دعوة الأطباء: 23.
(4)
في نسبة هذا القول - إلى ابقراط غرابة لأنه ينسب إلى المسيح، ومما يزيد الأمر غرابة أن يرويه ابن بطلان كذلك وهو مسيحي متدين.
(5)
دعوة الأطباء: 26.
(6)
دعوة الأطباء: 27.
(7)
دعوة الأطباء: 31.
الإسكندر، وقد ذكرتها فيما تقدم (1) ، وقد يطول بنا القول لو أردنا الاستمرار في الاستشهاد بما يورده من حكم الأقدمين وأقوالهم، وبخاصة لأنه يتعرض بجميع فروع الصناعة الطبية التي كانت معروفة في زمنه. وهو يخلط ذلك أيضا بالحكمة الفارسية متأثرا بابن المقفع وكليلة ودمنة كأن يقول مثلا:" ومن المعلوم أن ذا العقل لا تبصره منزلة أصابها وإن عظم أمره، كالجبل الذي لا يتزلزل وإن اشتدت به الريح، والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذي يحركه أدنى ريح، فإن الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الأحمق سكرا، كالنهار يزيد كل ذي بصر بصرا، ويزيد الخفاش عماء "(2) .
ومع أن المقامة حافلة بالإنحاء على ما وصلت إليه حال الطب في أيدي الجهال، فإنها لا تعفي الجهل المتفشي في المجتمع من النقد اللاذع:" تقول شعثاء العاتكة ما في الدنيا مثل دخنة أبي الحسين العطار، وتقول عليا القابلة ومن أين مثل قشوتة، وتقول سكينة الماشطة: إن عنده دهن العافية، شيء ما في الدنيا مثله، وتحلف أن ما في العالم مثل حوائجه؟ فلا يبقى حمام ولا مجلس قاض ولا سوق غزل ولا دكان قطعان الا والحديث كله صفة أبي الحسين العطار "(3) . وكثير من المسائل التي عرضها ابن بطلان في هذه المقامة، كان مما عايى به أبا علي ابن رضوان في رسائله، ولكن هذا خارج عن غرض هذا الفصل.
ويعود إطار المقامة فيتخذ وعاء للفكر اليوناني أو المنسوب إلى يونان، بعد ما يزيد على ثلاثة قرون، وهنا يعود إلى ظهور ذلك الموضوع المحبب إلى كثير من طبقة الكتاب، وهو الفكر السياسي، ففي القرن الثامن، وفي دولة بني نصر بغرناطة، وقع اختياء لسان الدين ابن الخطيب على عهدين من العهود الثلاثة التي كان ابن الداية قد ترجمها أو صاغها تحت عنوان:" كتاب العهود اليونانية المستخرجة من رموز كتاب السياسة لأفلاطون " وهما " عهد الملك إلى ابنه "(4) و " عهد الوزير إلى ولده "(5) ،
(1) انظر ما تقدم ص: 145.
(2)
دعوة الأطباء: 64.
(3)
دعوة الأطباء: 60 - 61.
(4)
الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام: 5 - 41 الفلسفة السياسية: 47 - 94.
(5)
الأصول اليونانية: 42 - 54 والفلسفة السياسية: 95 - 113.
فقد صاغ الأول في " مقامة سياسية "(1) ، والثاني في ما سماه " كتاب الإشارة إلى أدب الوزارة "(2) ، وقد كان الأستاذ دنلوب هو الذي استكشف الصلة بين العهد اليوناني والمقامة (3) كما كانت الدكتورة وداد القاضي هي التي درست العلاقة بين كتاب الإشارة وعهد الوزير إلى ولده في بحث ألقي بمؤتمر المستشرقين المنعقد بمدينة اكس آن بروفانس، في شهر سبتمبر 1976 حول النظرية السياسية لدى لسان الدين بن الخطيب، وليس يعنيني هنا مدى التغيرات التي أجراها لسان الدين على كلا النصين؟ فذلك شيء قد تكفل به البحث القيم المشار إليه - وإنما يهمني هنا المزاوجة بين الشكل الأدبي العربي والمحتوى الفكري اليوناني.
أما الصلة بين أثري ابن الخطيب والعهدين المذكورين فإنما واضحة تمام الوضوح، واكتفي للدلالة عليها بمثل واحد من كل منهما: جاء في العهد الأول حول الرعية: " اعلم أن رعيتك ودائع الله قبلك وأمانته عندك، وأنك لا تصل إلى ضبطهم إلا بمعونته جل وتعالى، وأفضل ما استدعيت به عونه لك تقديم نفسك لهم، وحسن النية فيهم وحراستهم والمنع منهم والرفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة منهم بما لها وعليها حتى تشعر عليتهم رأفتك، وأوساطهم إنصافك، وسفلتهم خوفك "(4) . وقد صاغ ابن الخطيب هذا النص على النحو التالي: " رعيتك ودائع الله تعالى قبلك (ومرآة العدل الذي عليه جبلك) ولا تصل إلى ضبطهم إلا بإعانة الله تعالى (التي وهب لك) ، وأفضل ما استدعيت به عونه فيهم، (وكفايته التي تكفيهم) تقويم نفسك عند قصد تقويمهم (ورضاك بالسهر لتنويمهم) ، وحراسة (كهلهم ورضيعهم) والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما عليها وما لها، (أخذا يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها، ويقصر عن غير الواجبات آمالها) حتى تستشعر عليتها رأفتك (وحنانك) وتعرف أوساطها
(1) نفح الطيب 5: 431 - 445.
(2)
من مطبوعات المجمع العلمي، تحقيق عبد القادر زمامة، دمشق 1972.
(3)
D. M. Dunlop: A Iittle Known Work on Politics by Lisan al - Din Ibn al - Khatib (Miscellania de Estudios Arabis y Hebraecus؟.Granada، 1959، PP. 47 - 54.
(4)
الأصول اليونانية: 6.
(في النصب) امتناعك، وتحذر سفلتها سنانك " (1) .
وجاء في عهد الوزير إلى ولده: " ومما أخافه عليك أن تسول لك قوة الإمكان الزيادة في الاحتكار من الضياع والأموال وما تدعوا إليه جلالة المحل فينقسم شغلك ويشيع سعيك، ويحصيه عليك من لا يمكنك الاحتراز منه، من محروم لديك، ومتطلع إلى أوفى من منزلته عندك، قد أضرم الحسد وأذكى نوازع صدره، فيعظم صغيره ويزيد في مقداره ويتشوف إلى مناهضتك من كان مقصرا عنها، فيستدعي بذلك الارتياب بك والاستظهار عليك، وقوة طمع الخاصة فيك "(2)، ويقابل هذا في الإشارة:" واحذر أن تسول لك قوة الإمكان (ودالة السلطان) الزيادة في الاستكثار من الضياع (والعقار) ، والجواهر النفيسة والأحجار، (وغير ذلك من الاختزان والاحتكار) وما تدعو اليه جلالة المحل (ونباهة المقدار) ، فينقسم (فكرك) وشغلك ويضيع سعيك (وفضلك) ، ويحصيه عليك من (يضمر لك الافتراس) ولا يمكنك (من كيده) الاحتراس، ممن حرم حظه، (أو وكس معناه ولفظه) أو متطلع إلى أوفى من ميزانه، (متسام إلى ما وراء إمكانه) (أقصرت به السياسة من شأنه) فأضرم الحسد ناره، وأذكى أواره، وأعظم صغيره (وأثاره) ويتشوف إلى مناهضتك من كان عنها مقصرا، (أو يجهر من كان مستترا) ويستدعي الارتياب بما جلبه الحظ إليك والاستظهار بع عليك، وطمع الحاسد فيما لديك "(3) .
وتجدر الإشارة هنا إلى أمور منها: إن تتبع ابن الخطيب في " الإشارة " لمقارنتها بعهد الوزير إلى ولده أعسر مطلبا منه في حال المقامة، لأنه يجمع أحيانا عبارات من أماكن متباعدة، ويقدم ويؤخر، لا بين الجمل وحسب، بل بين الفصول التي يتألف منها العهد. ثم إن من قرأ المثلين السابقين ورأى أن سجع ابن الخطيب يجعل عدد العبارات مضاعفا توقع أن تكون صياغته للعهدين في مثلي حجميهما، ومع ذلك فإن هذا لا يطابق الواقع،
(1) نفح الطيب 5: 433 وما بين قوسين هو الزيادات التي أضافها ابن الخطيب مع بعض التغيير في العبارات الواقعة خارج الأقواس، ليتسق حال السجع.
(2)
الأصول السياسية: 50 وقوله: " وقوة طمع الخاصة فيك " قد ورد في أحد النسخ " وقوة طمع الحاسد فيك، وهو ما اعتمده لسان الدين، فيما يلي، وفي الأصول " طبع الخاصة " ولا معنى له، وانظر الفلسفة السياسية: 106 والحاشية رقم: 8.
(3)
الإشارة: 16.
فالعهد الأول الذي يقع في ما لا يقل عن خمس وثلاثين صفحة قد جاء لدى ابن الخطيب فيما لا يجاوز ثلاث عشرة، والثاني وهو في الأصل في حوالي اثنتي عشرة صفحة قد جعله ابن الخطيب في سبع عشرة. وهكذا نرى أن الأول؟ وهو أكبرهما - قد نقص كثيرا (فأصبح ثلث الحجم الأصلي) ، وزاد الثاني قليلا بمقدار نصف حجمه، والسبب في ذلك أن ابن الخطيب يحذف ما لا يتلاءم ونظرته السياسية في كلا العهدين، كما أنه اختار شكل المقامة بالنسبة للعهد الأول، ولذلك اضطر أن يحافظ على طول المناسب لها، وكان موضوع العهد الثاني ألصق بنفسه وتجربته؟ لأنه عهد وزير إلى ولده، فهو يعكس دور ابن الخطيب نفسه في الحياة السياسية، ولهذا زاده السجع كما زادته الرغبة في الموضوع طولا، وهكذا يكون ابن الخطيب قد عالج المحتوى اليوناني في شكلين أدبيين، اختار لأحدهما المقامة، واختار للثاني ما جرى عليه الكتاب الذين أعادوا صياغة الرسائل الارسطاطاليسية المنحولة؟ حسبما تبين في الفصل الثامن - بأسلوب جزل مسجع، وبخاصة ما قام به مؤلف كتاب " القلائد والفرائد ".
وقد تأنى ابن الخطيب لشكل المقامة بأن خلق حول النص اليوناني جوا ملائما لهذا الشكل، إذ تصور هارون الرشيد وقد أصابه الأرق، فبعث رسله ترتاد كل سبيل ليأتوه بأول طارق يصادفونه، وكان أن وقع في أيديهم " شيخ طويل القامة، ظاهر الاستقامة، سبلته مشمطة، وعلى أنفه من القبح (1) مطة، وعليه ثوب مرقوع، لطير الخرق عليه وقوع "؟ شيخ في مثل حال أبي الفتح الإسكندري، إلا أنه حكيم لا وعظ من الذين يتصيدون الرزق بالحيلة، " فارسي الأصل، أعجمي الجنس، عربي الفصل " قد جمع فضائل أمم ثلاث، فيسأله الرشيد عن رأيه " في هذا الأمر الذي بلينا بحمل أعبائه " أي رياسة الدولة وسياسة الأمة، فيقدم له رأيه في الموضوع، بما لا يخرج كثيرا عما رسمه الملك في عهده لابنه، حتى إذا استوفى الحظ من الحديث في السياسة، أصلح عوده وتغنى، ثم غير اللحن " إلى لون التنويم، فأخذ كل في النعاس والتهويم " وانسل من المجلس، كما يفعل أبو الفتح في بعض المواقف، وطلب فلم يعثر له على أثر، تماما كما يختفي أبو الفتح أيضا، إلا أن اختتام المجلس بالموسيقى والتفنن في اللحون، أليق بالحكيم منه بالمكدي.
(1) في النفح: من القبع، واظنه خطأ، وقد صوبته هنا وعجزت عن تصويبه هنالك.
وسواء أكان بطل المقامة مكديا أو حكيما أفقيا لا يعرف لنفسه مستقرا (فهو شبيه بالمكدي) فإن الإطار المقامي يسوغ هذا الذي استحدثه ابن الخطيب ليعرض الآراء الأساسية في السياسة، إلا أن الشكل الذي اختاره لكتابه " الإشارة " وهو الرجوع إلى الجو الحيواني، أعسر على التسويغ، فالملك في هذا النص أسد ووزيره نمر " يعرف بالمرقط، كأنه بالنجوم منقط، شثن الكفين، بعيد ما بين العينين، كأن ذناباه ذؤابة كوكب، أو جديلة مركب؟ عظيم الوثب والطفور، حديد الناب والأظفور " وقد شاخ النمر وأراد أن يتغزل الوزارة، لضعفه وهرمه، ومن الطريف أن يقول في مخاطبة ملك الوحوش:" فسوغني التفرغ لمعادي، والنظر في بعد طريقي وقلة زادي "؟ كأنه إنسي الفكر والغاية وحشي الاسم لا غير - ويصادف أن يكون للنمر ابن قد حاز أيضا ثقة الأسد، فهو ينقل الوزارة من الأب إلى الابن، في صنيع يقيمه ويستدعي إليه " الأشراف وقومه الجهاد وطوائف النساك والزهاد "؟ طبعا من الوحوش - وبعد أن يؤدي النمر الشعائر في هيكل العبادة، يجثو لديه ولده، ويطلب إليه أن يوجهه بنصائحه، فتكون هذه النصائح هي خلاصة ما يريده ابن الخطيب من عهد الوزير إلى ولده. وواضح من هذا أن ابن الخطيب، لم يستطع أن يعمق الرمز، وكان الموقف الحيواني يختلط في تعبيراته بالموقف الآدمي، وواضح أيضا أن ابن الخطيب كان يرد في كليلة ودمنة وما شابهه من كتب نموذجه الأثير، ولكن طبيعة الأسطورة هنا لم تسعفه كثيرا، إذا كانت الخرافة - كما جاء بها - مجرد توطئة للقول، دون استمرار في الجو الحيواني، كما هي الحال في مثل كليلة ودمنة.
وخلاصة القول أن ابن الخطيب وإن وضع تجربته في هذه الرسالة، وصبغ جوها بمسحة إسلامية، ورفض ما لا يتفق ونظرته من آراء - وهو شيء قد مارسه كثيرون من قبله - وأضاف إليها ما اعتقد انه ضروري لبيئته ودولته، فإنه في المقامة والرسالة، ربما كان خاتمة من حاولوا هذا الجمع بين إطار أدبي ومحتوى يوناني أو منسوب إلى يونان.
" 12 "
ملاحظات على طريق الدراسة المقارنة
حين يقول الشاعر اليوناني: " الحياة كالخمر، فان القليل المتبقي منها يحور حامضا "(1)، ويقول الشاعر العربي:
والعمر مثل الكاس يرسب في أواخرها القذى
…
يستوقفنا التشبيه الأساسي لا التفصيلات الملحقة به؛ الحياة كالخمر.. الحياة كالكأس؛ صورتان متقاربتان، تنبعثان من منبع واحد؛ فهل الثاني أخذ عن الأول، أو أن هذا نتاج مظهر حضاري مشترك؟ وكذلك يثور التساؤل نفسه حين نسمع الشاعر العربي يقول:" عيرتني بالشيب (وهو وقار) " والشاعر اليوناني يقول " عيرتني بالشيخوخة (وقلت إنها رديئة) "(2) ؛ فإن استعمال " التعبير " عن هذا الموقف هو الذي يلفت النظر. وحين يصر كلا الشاعرين على عدم إفشاء السر للمرأة (3) ، أو يتحدثان
(1) هو أنتيفانس (Antiphanes) ونص قوله في الترجمة الإنكليزية:
Life's just like wine، wfen little yet remains sour it becomes،
أنظر:
F.A. paley: Fragments of the Comic Poets، 2nd ed. 1892. 51.
(2)
المصدر نفسه: 51.
(3)
المصدر نفسه: 49.
بنغمة واحدة عن (مآسي) الزواج (1) ، أو يذهبان إلى القول بأن الشعراء لم يغادروا متردما؟ كما يقول عنترة واكزنارخوس (2) ، أو يغبطان الحجر لأنه لا يحس أو الحيوان لأنه لا يعني نفسه بالإجابة عن هذه المسألة أو تلك (3) ، أو يشجبان التفاخر بالمحتد النبيل تغطيه لتخلف في العمل (4) - فعلى أي شيء نحمل كل هذا التشابه وأمثاله في أمور مختلفة؟
الواقع أن كل ذلك وغيره قد يحمل على التشابه في نتائج التجارب الإنسانية، ولكن التماثل يبلغ حدا من الدقة يتعذر عنده نفي كل صورة اللقاء بين الأدبين، وهنا قد يذهب بعض الناس إلى القول بالأخذ أو الاحتذاء نتيجة الإطلاع المباشر، وهذه قضية لا يسهل إثباتها، لأنها تحتاج إلى وثائق مؤيدة، ومثل هذه الوثائق المؤيدة لا وجود له في الغالب. وقد يذهب البعض الآخر إلى القول باللقاء بين حضارتين لقاء تجاوز التأثر السطحي، فمن المؤكد أن العرب بعد الفتح انتشروا في عالم تغلب عليه الحضارة الهلنستية، والثقافة الكلاسيكية، وأنهم ورثوا من هذه الحضارة لا كتبا ترجموها وحسب، بل مؤسسات وأصولا ثقافية ومناهج تعليمية، ولهذا كان ظهور المشابه أمرا يكاد يكون محتوما، والأمثلة على ذلك عديدة، في المجالات المختلفة، وإنما أكتفي منها هنا بأمثلة موجزة (5) :
1 -
اعتقد العرب - مثلما اعتقد اليونانيون أن الشعر " ديوانهم "، ولهذا كان اليونانيون يرون أن أوميرس هو نموذج " التراث "، ولم يحد العرب عن هذا المعتقد، إلا حين رسخت لديهم العلوم وتدريسها، أما اليونان فإن المفهوم تغير لديهم قليلا بعيد عصر الفلسفة. على أن الفريقين اعتقدا أن الشعر أداة للتخليد، ومن أقدم الشواهد على ذلك
(1) المصدر السابق: 65.
(2)
المصدر السابق: 89.
(3)
المصدر السابق: 98.
(4)
المصدر السابق: 111.
(5)
هذه الأمثلة مستوحاة - إلا أشير إلى ذلك - من كتاب:
E.R. Curtius: European Literature and the Middle Ages، Princeton، Princeton University Press، 1973.
ما قاله عمر بن الخطاب لأولاد هرم بن سنان. وكلا الفريقين اعتقد أن الشعر للتسلية، وهي فكرة أبرزتها بقوة مدرسة الإسكندرية، ثم أضيف إلى التسلية عنصر الفائدة والتعليم:" يشجع الجبان ويسخي البخيل " -
2 -
لم يضع العرب واليونان حدودا فارقة في الشكل بين الشعر والنثر بحيث فترقان في الجوهر والأصل، كلاهما ضرب من الكلام، يفرق بينهما الوزن، أو الوزن والقافية، ولهذا استطاع بعض النقاد الشعراء أمثال ابن طباطبا أن يرى في القصيدة رسالة، تنشأ على أصول الرسالة وترتب فيها الأفكار، ثم تنسق أبياتها بحسب تناسب تلك الأفكار. ولما كان المدح عند اليونان من موضوعات الخطابة، وكان عند العرب من موضوعات الشعر، اختلطت صورة الشعر بصورة الخطابة لدى العرب منذ عهد مبكر، وقد حدث هذا في الأدب اليوناني ولكنه تأخر في الزمن نسبيا. ومن المزج بين الصناعتين (لا الفنين) انبثق التفنن في حل النظم، ونظم النثر، وتولدت قضايا المفاضلة بين الشعر والنثر: أيهما أهم وأيهما أصهب وما أشبه ذلك.
3 -
قضية الطبع والصنعة في الشعر مشتركة، ويبدو أن التطور في الأدب سار عند كلتا الأمتين في خطين متوازيين حتى انتهى إلى صور لا يفهمها إلا المثقفون وامتلا بصور البديع إلا أن التمدح في الشعر العربي بالتجويد والحوك والتنقيح ينتمي إلى عهد مبكر.
4 -
الصراع بين القدامى والمحدثين، شغلت في الأدبين دورا هاما، وهي ظاهرة مستمرة في تاريخ الأدب، وفي الأدب العربي؟ كما في الأدب اليوناني - نجد الانتصاف للمحدثين هو الذي ينتصر، رغم المعارك الآنية بين الفريقين.
5 -
خير جليس في الزمان كتاب: قضية خطيرة، فلقد كان للكتاب في العالم الهلنسي شأن عظيم، وكذلك ظلت له هذه المكانة عند العرب؟ على رغم الاعتماد على الرواية والغض من الصحفي الذي يعتمد في علمه على الدفاتر - ويكفي أن نقرأ مقدمة الجاحظ في الحيوان، حيث يتحدث عن الكتاب لندرك مبلغ ما كان له من أهمية.
6 -
قضايا التناظر؟ الطبيعي والمجتلب - من تراث العالم الهلنسي: نبل المحتد أو شرف العلم، السيف أو القلم (الجمع بينهما أولاً كما في وصية أحدهم لأبنائه: لا تقفوا إلا عند بائع السلاح أو بائع الكتب) ، الورد أو البنفسج، النخل أو الزرع، الشجاعة أو
الحكمة، ويمكن الإشارة هذه الأخيرة بقول المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
…
هي أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة
…
بلغت من العلياء كل مكان إن المتنبي " يلخص " - في شكل تقريري - معنى البطولة في الالياذة، مثلا، حيث لا بد في الأوضاع الايجابية من اقتران الحكمة والشجاعة، وتحدث الفاجعة في حال الابتعاد عن هذا المعيار المثالي.
7 -
الحب كالبطولة من موضوعات الشعر، أعراض الحب: من سهر وبكاء وجنون وموت أصبحت محور الحديث منذ العذريين، في هذا المجال كان النموذج الكلاسيكي ينسخ حرفيا (1) كما أن التعبيرات والصور تشبه ما في الموروث الكلاسيكي، - لاحظ المجازات الحربية بشكل خاص - والمنظرين لقضية الحب عند الإغريق والعرب ساروا في خط واحد، متخذين أساس تنظيرهم الشعر نفسه (2) .
8 -
كثير من طرق التعبير عن المواقف المختلفة في الحياة ينتهج نهجا واحدا، من ذلك التعزي بموت العظماء " حتى هرقل نفسه مات " أو:
ماذا أومل بعد آل محرق
…
تركوا منازلهم وبعد إياد وإبقراط الطبيب عجز عن أن يدفع الموت عن نفسه:
يموت راعي الضأن في جهله
…
ميتة جالينوس في طبه ثم التعبير عن استشعار العجز كأن يقال مثلا إن هرقل نفسه قد عجز، أو إن أوميرس لا يستطيع؟ الخ، أو ربما أدى هذا إلى تصوير التحدي والتجاوز:" فمن عبد الحميد؟ أو ابن العميد؟ "؟ ثم اللجوء إلى استنفار الطبيعة: " وأجهشت للتوباد لما
(1) Grunebaum: Greek Form Elements in the Arabian Nights LXII JAOS، (1942) ، P. 284.
(2)
المصدر نفسه: 285.
رأيته؟ " " أيها الليل؟ "، " يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا " " ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا؟ ".
9 -
تشكي الزمن في الأدبين، وهنا لا بد من التنويه بقيمة كلمة " الدهر " أو الأيام " في الأدب العربي، فإن ما يرد في الأدب اليوناني خاصا بالتحدث عن انفعال " الطبيعة " قد يرد إلى الدهر، أو القدر أو الحظ.
10 -
الفتى الشيخ، أو اجتماع القوة والحكمة، أو الشباب والحلم، يلعب دورا هاما في الأدبين، ولنذكر قول المتنبي:
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
…
مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
فما الحداثة من حلم بمانعه
…
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب وهو موضوع هام في الرثاء - وخاصة في رثاء من مات صغير السن، وأبو تمام يقول:
لهفي على تلك المخايل منهما
…
لو أمهلت حتى تكون شمائلا والمتنبي يعود للتلاعب بهذه العلاقة على نحو آخر في قوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
…
كأنهم من طول ما التثموا مرد 11 - المجازات: هنالك ميادين للافتراق، فالمجازات البحرية والمسرحية قليلة في الأدب العربي وافرة في الأدب الكلاسيكي، ولكن مجازات " القرابة "(ابن، بنت، أم؟) وافرة في الأدبين، فبنات الدهر المكاره، وبنات الصدر الفكر، وبنات الصدر الفكر، وبنات الليل النجوم، وبنات طبق الدواهي، وبنات أوبر الكمأة، وأبو مرة أبليس، وأبو مرة عمرة الجوع، وابنه العنب عند بندار كما هي عند أبي نواس ويستمر هذا المجاز حيا حتى شوقي " يا ابنة اليم ما أبوك بخيل "(السفينة) والأمثلة كثيرة تتطلب تنسيقا ودراسة، لتطورها وتصورها (1) ، ومجازات الطعام والشراب، ومجازات الحواس (كالعين والأذن)
(1) بعض هذه الأمثلة مأخوذ عن البصائر 1: 66 - 67 ومن المفيد أن يرجع القارئ إلى كتاب " المرصع " لابن الأثير، فأنه - حتى عصر مؤلفه - أوفى مصدر لهذا النوع من المجازات.
موفورة في الأدبين، كمايشتركان في المجازات المستمدة من النحو والبلاغة، وينفرد الأدب العربي بالمجازات المتصلة بالفقه والحديث.
12 -
الإيجاز؟ من الوجهة المثالية - هو معيار الإجادة في الأدبين، ولكن تحديده على نحو دقيق ربما لم يكن ممكنا، وحسبنا أن نتذكر أن عبد الحميد الكاتب كان يرى الإيجاز أساسا في البلاغة والترسل، وهو المعروف بالأصلة وتشقيق الكلام.
13 -
اللقاء على مستوى الأساطير: هذه مسألة عرض الأستاذ غرنباوم لجانب منها حين درس مواطن التشابه بين الحكاية اليونانية (Greek novel) وقصص ألف ليلة وليلة. وقد أصبح رأيه معتمدا عند بعض الدارسين (1)، حسبما عرضه في موضوعين: في مقالة له سبقت الإشارة إليها (2) ، وفي كتابه " الإسلام في العصور الوسطى "(3)، وفيما يلي عرض موجز لأهم ما جاء في هذين المصدرين:
(1)
بين قصص ألف ليلة والحكايات اليونانية مشابه، إذ تعتمد كلتاهما على تجواب محبين يطاردهما القدر، ويحكم على المحبين بالأنفصال حتى يتاح للقصة أن تتحدث فيما بعد عن التئام شملهما أكثر من حديثها عن تطور عواطفهما. ويلعب القدر هنا الدور الأكبر في الحالين، إذ يجعل من المرء ألعوبة مسخرة لتقبل النتائج. وفي التفصيلات خروج عن مقتضى " الحكاية " اليونانية، ونزوع إلى المفهوم الإسلامي حول تقلب الحظوظ وعدم ثبات الدنيا على حال، واستشعار الخضوع للقدر بدلا من الثورة عليه.
(2)
التجواب مشترك حقا بين القصة العربية والحكاية اليونانية ولكن كلتا القصتين تهتم بالأحداث لا بالأبطال، وإذا حاولت الحكاية اليونانية ولكن إبراز دور المرأة، فإن القصة العربية تحاول إبراز دور الرجل (البطل) .
(1) انظر مثلا:
The Classical Heritagc، P. 255.
(2)
هي:
Greek Form Elements in the Arabian Nights، JAOS، 1942، PP. 277 - 92.
(3)
Medival Islam، the Univ. of Chicago Prss، 1971 (Chap IX) PP. 294 - 319.
(3)
الحب من أول نظرة مشترك بين القصص اليونانية والعربية، وهو في كلتيهما مرض. ثم إن التعرض للبكاء والإغماء واليأس والجنون أمر متوقع، كذلك فإن الإعلاء من شأن العفة هام فيهما (وأن لم يحل دون التردي في إسار الشهوة) .
(4)
كل أبطال الحكايات اليونانية والقصص العربية في ألف ليلة يتمتعون بقسط وافر من الجمال، فالجمال هو سر وجودهم، ومن ثم تجيء سلسلة من أوصاف الرجال والنساء. وتهتم ألف ليلة على وجه الخصوص بتصوير الأشخاص أكثر من تصوير المناظر الطبيعية، ومع ذلك فإن منظر الحديقة هام في الفئتين من الحكايات.
(5)
قد تكون مواقف المناظرة (مثل المفاضلة بين الجنسين، وأيهما أحق بالحب) إغريقية الأصل.
(6)
عودة القاص في ألف ليلة إلى التحدث عن حياة البطل من مبتداها يرجى إاى نموذج يوناني.
(7)
في ألف ليلة كما في الحكاية اليونانية صديق للبطل لا يفارقه، وله شأن هام في تطوير القصة.
(8)
النهاية في كلتيها تتفق ورغمبات المحبين وآمالهما.
(9)
للرسائل قيمة هامه، وكذلك الأحلام.
(10)
رد الفعل عند الجهود إزاء كلتيهما هو " العجب ".
(11)
تتفقان في اتخاذ الكلمة السحرية وسيلة لفتح الأبواب وغير ذلك. وتوضيحا لبعض هذا الاتجاه، دعنا نعرض أمثلة من المشابه القصصية نفسها:
(1)
العسكري المهذار في قصة (Miles Gloriosus) من تأليف بلوتس (Plautus) اختطف حبيبة شاب أثيني اسمه بلوسكليس. وعندما اكتشف الشاب هذا الأمر، اتخذ له مسكنا بجوار دار العسكري وتمكن من خلال سرب يصل بين البيتين أن يلتقي بحبيبته، ولما شاهد خادم العسكري الفتاة في البيت المجاور وهي في أحضان صاحبها قيل له - على سبيل التمويه - إن لها أختا توأما كانت قد وصلت حينئذ. ثم إن العسكري يحاول إغراء امرأة أخرى، فيقتنع بأن يسرح صاحبة الشاب الأثيني، ويعطيها عبدها الأمين الذي شاركها في حوك خيوط الحيلة، كي تترك هـ وشأنه، فتنطلق مع صاحبها على مرأى من العسكري نفسه.
إن عناصر الشبه بين هذه الحكاية وقصة " قمر الزمان وزوجة الجواهري " في ألف ليلة وليلة كثيرة لافتة للنظر، لا في الحبكة القصصية وحسب، بل في عدة مواقف أخرى منها منظر الوداع، ونهب أموال الجوهري، والمساعدة التي قام بها الوسيط، وتقديم العبد هدية في الحالين..
(2)
قصة السندباد في رحلاته السبع: (وان لم تكن في الأصل من ألف ليلة وليلة) يكاد كل عنصر أسطوري فيها أن يجد ما يوازيه في أدب الشرق والمغرب، وفيها عناصر تشبه بعض ما في حكايات الاسكندر، وعناصر تشبه بعض المواقف في قصة عولس (Ulysses) وغيرهما (1) .
(3)
ثمة ما لا يقل عن ثماني قصص (أو مقاطع كبيرة من قصص) في ألف ليلة وليلة يتردد فيها نموذج الحكاية اليونانية (2) .
هذا هو؟ بإيجاز شديد - ما يراه غرونباوم، وقد أقر أنه ليست لدينا أية شهادة وثائقية تثبت اخذ مادة ألف ليلة أو بعض تلك المادة أخذا مباشرا عن التراث اليوناني (3) ، ولهذا لجأ قرائن ومقايسات، عن الأخذ في مجالات أخرى مثل بعض صور البيان، والمفاضلة بين الطبع والتكلف، والاشتراك في رثاء الحيوان؟ الخ: وفي ظني أن ذلك كله لا يقدم مقنعا. فكل ما ساقه من أمثلة واقع؟ إن صح الأخذ فيه؟ ضمن عصر الترجمة، وليس الأمر في ألف ليلة وليلة كذلك، فنحن حتى اليوم لا نستطيع أن نجيب على أسئلة كثيرة تتعلق بهذه القصص: متى كتبت؟ وفي أي قطر؟ وكل الدلائل تشير إلى أن ما بين أيدينا يمثل تدوينا متأخرا في الزمن، فإذا وجدت في النص المدون آثار هندية أو فارسية، فذلك يشير إلى الأصل لتلك القصص، فأذن متى وكيف تسربت إليها المؤثرات اليونانية؟ إذا سلمنا بإمكان تسرب تلك المؤثرات فلا بد من ان نفترض أن كثيرا من أصول تلك القصص كان أدبا شفويا يتردد في أرجاء
(1) Medieval Islam، pp. 296 - 97.
(2)
المصدر السابق: 307 وانظر المقالة: 282 وما بعدها.
(3)
انظر مقالة غرونباوم: 290.
حوض البحر المتوسط، على نحو أو آخر، دون أن يتوقف على مر الزمن.
ومن يقف على صور التشابه التي عرضها الأستاذ غرونبارم أمكنه أن يرى في أكثرها صورا لتجارب متشابهة، في مجتمعين مختلفين، وبعضها يدل على أنه نتيجة طبيعية لإنفاذ العجز الإنساني، وجمال البطل حتمية ضرورية ليكون محبوبا، وهكذا؟ على أن صور التشابه؟ أيا كان سببها - تستحق دراسة مقارنة، وذلك هو ما حققه دراسة غرونباوم، على نحو دقيق ممتع مفيد.
فراغ
ملحقات
فراغ