الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" 4 "
أثرايسوبيوس في الشخصيات والأمثال العربية
وقضية اللقاء بين آثار الشرق والغرب
تلقي شخصية إيسوب ظلالا على بعض الشخصيات الجاهلية والإسلامية؟ وبخاصة في القرنين الأولين - عن طريق الحوار، وفي موقف عبد المسيح بن بقيلة الحيري الذي بعث به قومه ليقابل خالد بن الوليد حين توجه لفتح الحيرة (13/634) ما يعيد إلى الذهن بعض مواقف إيسوب على نحو احرفي، فقد سأله خالد حين حضر بين يديه: أين أقصى أثرك؟ قال: ظهر أبي، قال: ومن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: علام أنت؟ قال: على الأرض، قال ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: فمن اين أقبلت؟ قال: من خلفي، قال: فأين تريد؟ قال: أمامي، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال: أتعقل؟ قال: نعم وأقيد، قال: أحرب أنت أم مسلم، قال: بل سلم، قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه حتى يجيء حليم فينهاه (1) .
وفي قصة الغضبان بن القبعثري مشابه من هذه الطريقة نفسها، حيث يتجنب المسؤول الجواب المباشر، ويحاول التلاعب اللفظي، فقد ذكر المسعودي أن الحجاج وجه الغضبان إلى بلاد كرمان ليأتيه بخبر ابن الأشعث، فلما ضرب خباءه هنالك، إذا هو بأعرابي قد أقبل عليه فقال: السلام عليك، فقال الغضبان: كلمة مقولة، قال الأعرابي: من أين جئت، قال، من ورائي: قال: وأين تريد؟ قال: أمامي، قال: وعلام جئت،
(1) حمزة الأصفهاني: الدرة الفاخرة: 457.
قال: على فرسي قال: وفيم جئت؟ قال: في ثيابي؟ " وفي تتمة قصة الغضبان عندما خرج على الحجاج، وحواره معه، استمرار لهذا النموذج أيضاً (1) .
ويبدو أن هذه الطريقة كانت تلائم شخصيات بعض القضاة المتمتعين بحدة في الذكاء مثل الشعبي وشريح وإياس. فقد سئل الشعبي مرة، كيف بت البارحة؟ فطوى كساءه في الأرض ثم نام عليه وتوسد يده وقال: هكذا بت (2) ، أما شريح (أو إياس) فإن الحوار بينه وبين عدي ابن أرطاة يمثل نموذجا واضحا لهذه الطريقة الايسوبية، مع مزجها بقسط غير قليل من السخرية والدعابة (3) ، (ع عدي، ش شريح) .
ع: أين أنت
ش: بينك وبين الحائط
ع: فاسمع مني
ش: للاستماع جلست
ع: إني تزوجت امرأة
ش: بالرفاء والبنين
ع: وشرطت على أهلها ألا أخرجها من بينهم
ش: أوف لهم بالشرط
ع: فأنا أريد الخروج
ش: في حفظ الله
ع: فاقض بيننا
(1) مروج الذهب 3: 355 - 358.
(2)
البصائر 2: 72.
(3)
الدرة الفاخرة: 457 - 458 وابن الجوزي: أخبار الأذكياء: 68 ومحاضرات الراغب 2: 416.
ش: قد فعلت
وإذا نحن أمعنا النظر في هذا الحوار وجدنا فيه صورة من خرافة جاهلية وردت على ألسنة الحيوانات (إيسوبية المنزع) وذلك حين ذهبت الأرنب تخاصم الثعلب عند الضب، فقالت الأرنب: يا أبا الحسل، قال: سميعا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال: عادلا حكيما، قالت: فأخرج إلينا، قال: في بيته يؤتى الحكم، قالت: إني وجدت ثمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فأختلسها الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بحقك أخذت، فلطمني، قال: حر أنتصر لنفسه، قالت: فأقض بيننا، قال: قد قضيت (1) .
أما شخصية لقمان التي أرجأنا الحديث عنها إلى هذا الموضع فإن التطابق بينها وبين شخصية إيسوب تم إلى حد كبير، كلا الرجلين كان عبدا دميم الخلقة، ثم أعتق، وكلاهما يرمز إلى أن بذلذة الهيئة والقماءة وقبح المنظر ليست مقياسا للذكاء ولا حائلا دون الحكمة، وهما يقفان عند حد قوله شقة بن ضمرة؟ وكان يشاركهما في دمامة المنظر، وقد وفد على النعمان، فأستهان به:" إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه (2) "، وكلاهما له قصة مع سيدة تتعلق بهذين الأصغرين أيضا: لقمان أعطاه سيدة شاة وأمره بذبحها وأن يأتيه بأطيب ما فيها فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها، ثم أعطاه في يوم آخر شاة أخرى وأمره أن يذبحها ويأتيه بأخبث ما فيها فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها، فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إن طابا وأخبث ما فيها إن خبثا (3) ، وفي سيرة إيسوب حديث طويل عن الملأدبة التي أقامها سيده لتلامذته، وأمره أن يطبخ لهم أحسن شيء وأطيبه، فلم يطبخ سوى الألسنة (4)، وكلاهما كان يستعمل ذكاءه لإنقاذ سيده من ورطة يقع فيها:
(1) الدميري: حياة الحيوان الكبرى 1: 20 وانظر رواية أخرى في الدرة الفاخرة: 456 والمفضل بن سلمة: الفاخر: 76 وجمهرة أمثال العسكري 1: 230 والومخشري: المستقصى 2: 61 وثمة رواية ثالثة في العقد 3: 66 ورابعة في أخبار الأذكياء: 255 ومحاضرات الراغب 2: 415.
(2)
انظر العقد 3: 287 - 288 وفصل المقال: 137.
(3)
الدميري 2: 36 وبإيجاز في مختار الحكم: 262، والمقترح في جوامع الملح (فصل في الصمت)(مخطوطة رقم 3358 من مجموعة يهودا بجامعة برنستون) .
(4)
دالي: 56 - 58.
فقد قمر سيد لقمان، وكان شرط خصمه أن يشرب ماء النهر، وبعل بالأمر، فقال له لقمان: لا تغتم فإن لك عندي فرجا، قال: وما هو؟ إذا قال لك الرجل أشرب ما في هذا النهر فقل له أشرب ما بين الضفتين أو المد الذي يجيء؟ فإنه سيقول لك: أشرب ما بين الضفتين، فإذا قال لك فقل له: احبس عني المد حتى أشرب ما بين الضفتين، فإنه لا يستطيع أن يحبس عنك المد (1) ، ففعل ذلك سيده ونجا من الغرم. والفرق بين هذه الرواية وما ورد في سيرة إيسوب أن سيد إيسوب، كان في حال سكر، لا في جولة ميسر، وأنه تعهد بأن يشرب البحر، فأشار عليه إيسوب أن يقول لمن طالبه بالوفاء: ثمة أنهار كثيرة وجداول تصب في البحر، فأوقفوها عن الانصباب فيه لكي أشرب ماءه (2) ".
وإذا كانت شخصية لقمان تقترب من شخصية إيسوب، فإن حكمة لقمان جاءت أقرب إلى حكمة أحيقار الحكيم البابلي، وهذه مسألة لست أنوي أن أقف عندها، فأنها خارجة عن نطاق هذا البحث (3) ولا ريب في أن هؤلاء الثلاثة يمثلون جوانب هامة من الأدب الحكمي في الشرق والغرب، ويقف لقمان حلقة وصل بين الحكيمين الآخرين. وحين نقرأ أن بعض أهل الجاهلية كان يحمل مجلة لقمان يثور لدينا هذا السؤال: أترى مجلة لقمان هذه كانت شيئا شبيها بأقوال أحيقار أو بخرافات إيسوب؟
ويبدو أننا بالنظر إلى أدب إيسوب أمام فرضية مقبولة: وهي أن ذلك الأدب كان معروفا لدى العرب في الجاهلية عن طريق اللغة الآرامية وعن طريق نصارى الحيرة بالذات (4) ، فنحن نجد نماذج من الخرافات والأمثال الجاهلية مضمنة أيضا في أدب إيسوب، ولكن علينا أن نأخذ الشاهد بحذر، فقد أثبتت الكشوف الحديثة أن بعض
(1) مختار الحكم: 260 - 261 وأخبار الأذكياء: 16 - 17.
(2)
دالي: 64 - 66.
(3)
عن أحيقار انظر:
F. Conybeare، J. Rendel Harris and Agnes Smith Levis: The Story of Ahikar، 2 nd ed. Cambridge، 1913.
وأنيس فريحة: أحيقار: حكيم من الشرق الأدنى، بيروت 1962.
(4)
عبد المجيد عابدين: الأمثال في النثر العربي القديم: وانظر:
Jewish Encyclopaedea 1: 221، 5:324.
العناصر عند إيسوب ترجع إلى أصول مشرقية موغلة في القدم، وبخاصة إلى أصول سومرية، وهذا واضح في النتائج التي توصل إليها الأساتذة إدمند غوردن ون. س. كريمر ولامبرت في أبحاثهم (1) ، وربما أضيفت إلى خرافات إيسوب عناصر من أصل عربي خالص، وإن كان من المعتقد أنها في دور متأخر نسبيا.
ونكتفي من الأمثلة السومرية بثلاثة لعلاقتها بهذا النوع من الأدب في اللغة العربية أيضا:
(1)
قصة الحيوان الذي ذهب يطلب قرنين فعاد مجدوع الأذنين: هذا الحيوان في الأمثال والخرافات السومرية هو الثعلب (2) ، وفي الأمثال العبرية هو الجمل (3) ، وكذلك هو عند إيسوب (4) ، أما في الأمثال العربية فيقال إنه الحمار ولكن الأشهر أنه الظليم (5)(أو النعامة)، وقد جرى المثل العربي على إسقاط اسم الحيوان المقصود؟ عمدا فيما يظن - فجاء على هذه الصورة:" كطالب القرن، جدعت أذنه "، ولكن الظليم؟ أو النعامة - قد ذكر في الشعر القديم (6) ، وإطلاق المثل على الظليم أنسب لأنه يوصف بأنه
(1) E. Gordon: Sumeran Proverbs، Universty Museum؛ Univ. of Pensylvania، Philadelphia 1959. Idem: Sumerian Animal Proverbs، Journal of Cuneiform Studies xll (1958) PP. 1 - 35، 43 - 75؛ W.G.
Lambert: Babylonian Wisdom Literature، Oxford، 1960، Kraemer and Gor - don. Biblical Paralells From Sumerian Lit، Univ. Mus. Philadelphia. 1954. And Kramer. From the Tablets of Sumer، Colorado. 1956.
(2)
Biblical Paralells. P. 25.
(3)
A. Cohen: Ancient Jewish Proverbs، London، 1911، No. 107.
P.62. and S.D. Goitin: the Original and Historical Significance of the Present - Day Arabic Proverb، Islamic Culture. 1952، P. 176.
(4)
دالي: رقم 117 ص: 143 و Babrius، Appendix، P.444.
(5)
الحيوان 4: 323 - 324 والدميري 2: 310 والدرة الفاخرة: 553 والميداني: مجمع الأمثال (القاهرة 1310) 2: 57 وأبو الفرج الاصبهاني: كتاب الأغاني (ط. دار الكتب) 3: 5، وانظر الحديث عن السبب في وضع الحمار موضع الظلم في ما يلي.
(6)
من ذلك قول أبي العيال الهذلي (ديوان الهذليين 2: 268 والحيوان 4: 324 والدرة الفاخرة: 554 والمستقصى 2: 219) :
أو كالنعامة إذ غدت من بيتها
…
ليصاغ قرناها بغير أذين
فاجتثت الأذنان منها فانثنت
…
صلماء ليست من ذوات قرون
" أصلم "؟ أي مقطوع الأذنين - كما أن اسمه قد يدل على ما لحق به من ظلم حين قطعت أذناه (1) ، وحين يذكر الثعلب أو الحمار في هذا المثل فإن ذلك لا يقصد إلى تعليل خاصة فيزيولوجية ثابتة وإنما يشير إلى حادثة بعينها. أما أين ذهب ذلك الحيوان، فأمر تتجاهله الرواية العبرية والعربية بينا تنص عليه الروايتان السومرية واليونانية، فهو في الأولى قد ذهب إلى إنليل وفي الثانية إلى زوس (Zeus) . ويبدو أن نقله إلى خرافات إيسوب قد تم عن السومرية والعبرية، بعد أن أجري التحوير الضروري المطلوب عليه، ولكن من الصعب أن نجد تفسيرا لتغيير الثعلب السومري وجعله جملا في خرافات العبرانيين واليونانيين، إلا أن يكون صغر أذني الجمل بالنسبة لجسمه هو السبب في ذلك.
وترد الخرافة في كليلة ودمنة عن الحمار (2) ، وهي هناك حافلة بتفصيلات لا نجدها في أية رواية من الروايات الأخرى سواء أكانت سومرية أو يونانية أو عربية. ويدخل فيها عنصر الأيل الذي رآه الحمار وهو يشرب فأعجب بقرونه وأحب أن يكون له مثلها، وظل يتحين الفرصة حتى ذهب إلى الدار التي يعيش فيها الأيل، وخاطبه فلم يستطع أن يفهم لغة الحمير، وضاق صاحب الأيل به ذرعا فضربه، فارتد إليه الحمار فكدمه، فعندئذ عمد الأيل إلى أذني الحمار فجدعهما. وأغلب الظن أن الأيل هنا تحريف عن " انليل "، والا فليس في المألوف أن يكون الأيل مما يدجن ويأخذه صاحبه إلى الماء ليسقيه. وربما كان حلول الحمار محل الظليم؟ أو النعامة - في الشعر العربي من تأثير كليلة ودمنة، إذ نجد الإشارة إلى ذلك في شعر محدث، فقد نسب إلى بشار قوله:
فصرت كالعير غدا طالبا
…
(3) قرنا فلم يرجع بأذنين ومثله قول الآخر:
ذهب الحمار ليستعير لنفسه
…
قرنا فآب وما له أذنان وقول ثالث:
(1) الحيوان 4: 323 - 324، والدميري 2:310.
(2)
ابن المقفع: كليلة ودمنة: 232.
(3)
انظر التمثيل والمحاضرة: 344.
كمثل حمار كان للقرن طالبا
…
(1) فآب بلا أذن وليس له قرن (2) قصة البعوضة (أو الذبابة) التي حطت على ثور (أو فيل) ثم قالت له: استمسك كيما أطير:
وجدت هذه الخرافة في مجموعة أمثال أشورية نسخت سنة 716 ق. م. عن نسخة أقدم (2) ، وقد وردت كذلك خرافات إيسوب (3) ، ولم أعثر عليها منسوبة إلى الجاهلية، ولكن لابد أن تكون قد عرفت في دور مبكر قبل نهاية القرن الثاني الهجري، فقد وردت في رسالة بعث بها إبراهيم بن الأغلب (196/811) إلى خريش بن عبد الرحمن الكندي يقول فيها:" أما بعد فإن مثلك مثل البعوضة التي قالت للنخلة إذ سقطت عليها استمسكي فإني أريد الطيران، فقالت النخلة: ما شعرت بسقوطك فيكربني طيرانك (4) "، وبوضع " النخلة " بدل " الثور " أو " الفيل " يتحاشى ضارب المثل تشبيه نفسه بالحيوان، ومن الطريف أن هذا المثل ظل يحتفظ بصورته هذه في الأمثال العربية العامية حتى وقت متأخر، فقد عده الابشيهي من أمثال النساء، ونصه:" باتت ناموسة على جميزة، قالت: صبحك الله بالخير، قالت: مين دري بك قبله (5) ".
(3)
قصة الثعلب الذي لم يستطع أن يحصل على عنقود العنب، فقال معزيا نفسه: هو حامض.
تبدو القصة السومرية؟ على رغم ما أصاب النص من تشويه - حافلة بالتفصيلات (6) ، فالحيوان هو الكلب وما اشتهاه عذق من التمر، وأما في خرافات إيسوب فإن الحيوان
(1) الميداني 2: 57.
(2)
Sumerian Animal Provrbs (J. C. S.) vol. Xll، P. 1. And Iambert، PP. 216 - 219.
(3)
دالي رقم: 137 ص: 151 وبابريوس رقم: 84 ص: 103.
(4)
ابن الأبار، الحلة السيراء 1: 103، وانظر التمثيل والمحاضرة: 376 وتذكرة النهروالي: 96 وفيهما بعض اختلاف عما في الحلة.
(5)
الابشيهي، المستطرف 1:55.
(6)
Gordon: Animal Proverbs، J. C. S. part I، Vol. Xll. 1959، no. 5 - 90، P. 80.
ثعلب والثمر المشتهى عناقيد من العنب (1)، ومن صور هذا المثل في العربية (2) :
أيها العاتب سلمى
…
أنت عندي كثعاله
رام عنقودا فلما
…
أبصر العنقود طاله
قال هذا حامض
…
لما رأى ألا يناله وهي على الأغلب مستمدة من قصة إيسوب، ومما يلفت النظر أن المثل في العربية العامية يتجاوز عن ذكر الحيوان، ويرد على النحو الآتي: عنقود مدلى في الهوا، من لا يصل إليه يقول: حامض ما استوى (3) .
فهذه الأمثلة الثلاثة تدل على أن خرافات إيسوب ذات أصول موغلة في القدم، وأن منها ما هو مشرقي في أصله وليس نتاجا يونانيا خالصا، وأن التلاقي بين آداب الشرق والغرب؟ وخاصة في هذا المجال - كان أوسع نطاقا. ويذكر كلمنت الإسكندري أن ديموقريطس خلال رحلاته في المشرق اقتبس من أقوال أحيقار وضمنها كتاباته الأخلاقية، وقد كان الباحثون في مطلع هذا القرن يميلون إلى استبعاد هذه الرواية، ولكن الشهرستاني أورد ثلاث حكم لديموقريطس موجودة في نصائح أحيقار (4) ، كما أن في الأدب اليوناني حكما أخرى تبدو مستمدة من أحيقار نفسه، مما يؤكد هذا التلاقي (5) .
فإذا عدنا إلى البحث عن العلاقة بين خرافات الجاهلين على ألسنة الحيوانات وبين أساطير إيسوب، وجدنا خرافات الجاهلية من هذا المنطلق تسير في نوعين متوازيين
(1) دالي رقم: 15، ص: 100 وبابريوس رقم: 19 ص: 31 وفايدرس، الكتاب الرابع رقم: 3،ص:303.
(2)
الدرة الفاخرة: 319 ومحاضرات الراغب 2: 416 والتمثيل والمحاضرة: 358 والمستقصى 1: 235 والميداني 1: 336.
(3)
المستطرف 1: 51.
(4)
هي قوله: لا تطمع أحدا أن يطأ عقبك اليوم فيطأك غدا، وقوله: لا تكن حلوا جدا لئلا تبلغ ولا مرا جدا لئلا تلفظ، وقوله: ذنب الكلب يكسب له الطعام وفمه يكسب له الضرب (الملل 2: 171) وتنسب لغيره من حكماء اليونان، انظر المبشر: 297، 302، 199.
(5)
شتروماير: 467 - 468، وانظر منتخب الصوان: 4 حيث يرد ذكر لعلاقة بين لقمان وانبذوقليس، وهو أمر يومىء إلى الإحساس بوجود لقاء ثقافي مستمر بين الشرق والغرب.
تكاد تكون العلاقة بينهما واهية، النوع الأول خرافات تصور حياة الحيوانات وعلاقاتها فيما بينها وطبائعها وحيلها ومكايدها، دون أن يرمي إثارة عبرة أخلاقية، أو إعطاء مثال للسلوك، وكأن غرض هذا النوع من الخرافات أن يقول إن ما يجري في عالم الإنسان من تظالم وغصب واستبداد وما إلى ذلك موجود مثله في عالم الحيوان، كالخرافة التي تروي أن الضفدع كان ذا ذنب فسلبه الضب ذنبه (1)، وكالقصة التي يشير إليها أمية بن أبي الصلت في شعره فيقول:
بآية قام ينطق كل شيء
…
وخان أمانة الديك الغراب إذ يقول الجاحظ في تفسير هذه الإشارة: " وفي كثير من الروايات من أحاديث العرب أن الديك كان نديما للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمار ولم يعطياه شيئا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن حين شرب، ورهن الديك، فخاس به فبقي محبوسا (2) ". وإلى مثل هذا النوع تنتسب الأمثال المبنية على أفعل، مثل: آلف من كلب، أجرا من الذباب، أجهل من حمار، أحمق من نعامة، وغير ذلك، فإنها جميعا في تبيان طبائع الحيوان، وإلى ذلك يشير حمزة الأصفهاني بقوله:" فحين تأموا (أي العرب) أخلاق تلك البهائم، فألفوها متفرقة في أنواعها ثم رأوها مجتمعة في الإنسان الذي يجمع إلى حرص الذئب حذر الغراب، وإلى تدبير الذر كسب النمل، وإلى هداية الحمام حزم الحرباء، وإلى حراسة الكراكي ختل الثعلب، إلى غير ذلك من أخلاقها، قالوا عند ضرب الأمثال بأخلاق الإنسان، إن فلانا له جرأة الأسد ووثوب النمر وروغان الثعلب وختل الفهد (3) ؟ ".
غير أن العرب؟ من ناحية ثانية - أجروا الحيوانات مجرى الأناسي، فتصوروها تذهب مذهب الإنسان في التهاجي والتفاخر، وعقدوا بينها منافرات كالتي كانت تجري بينهم، فالقطاة والحجلة تهاجيا، فقالت الحجلة للقطا: قطا قطا أرى، أمعك بيضك ثنتان وبيضتي مائتان، فقالت القطاة: حجل حجل، أنت تفرين في الجبل، إذا بصرت
(1) الدرة الفاخرة: 212.
(2)
الحيوان 2: 320 - 321.
(3)
الدرة الفاخرة: 60.
بالرجل (1) ، وشبيه بذلك منافرة الأرنب للوبر، إذ قالت الأرنب: وبر وبر، عجز وصدر، وسائرك حقر نقر، فقالت الوبر، اران اران، عجز وكتفان، وسائرك أكلتان (2) ، وليس وراء هذا النثر المسجوع أية عبرة أخلاقية، وإنما هو مذهب من التعبير والتباهي، جرى عليه الناس أنفسهم في منافراتهم.
أما النوع الثاني فهو تلك الخرافات التي تهدف إلى العبرة، ومنها ما يبدو عربيا خالصا، لا سمة فيه لمؤثرات خارجية، كقصة الغراب الذي قال لأبنه: يا بني إذا رميت فتلوص؟ أي تلو - فقال: يا أبت إني أتلوص قبل أن أرمى، وقصة الضب الذي قال لأبنه: يا بني أتق الحرش، فقال يا أبه وما الحرش؟ قال: أن يأتيك الرجل فيمسح بيده على جحرك ويفعل، ثم إن جحره هدم بالمرداة، فقال: يا أبت، أهذا الحرش، فقال: يا بني، هذا أجل من الحرش (3) ، وها هنا تتبدى البساطة والإيجاز معا في الخرافات ومنها ما هو ذو صلة وثيقة بالمؤثرات الخارجية، كهذه القصة المستمدة من أحيقار؟ وإن كنا لا نقطع بأنها كانت معروفة لدى الجاهليين - وتقول القصة إن رجلا من بني إسرائيل نصب فخا فجاءت عصفورة فنزلت عليه فقالت: مالي أراك منحنيا، قال: لكثرة صلاتي انحنيت، قالت: فمالي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي، قالت: فمالي أرى هذا الصوف عليك؟ قال: لزهدي في الدنيا لبست الصوف، قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكأ عليها وأقضي حوائجي، قالت، فما هذه الحبة في يدك؟ قال: قربان إن مر بي مسكين ناولته إياها، قالت: فإني مسكينة، قال: فخذيها، فدنت فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها، فجعلت تقول: قعي قعي (4) ؛ هذه القصة مروية عن وهب بن منبه، ونسبتها إلى رجل من بني إسرائيل قد جعلت
(1) الدرة الفاخرة: 555.
(2)
المصدر السابق.
(3)
الدرة الفاخرة: 156،118 - 119 وانظر أخبار الأذكياء: 253 والمستقصي 1: 50، 62 والميداني 1: 126، 153.
(4)
العقد 3: 67 - 68 والنص العربي في:
The Story of Ahikar No. 10، P. 28
وانظر أيضا أخبار الأذكياء: 254 والدميري 2: 103 حيث تجد الخرافة نفسها برواية أخرى.
الأستاذ عبد المجيد عابدين يعدها من الخرافات التي تعود إلى أصل إسرائيلي (1) ، مع أنها بابلية في نسبتها، ولكن رواية وهب بن منبه لها تدل على دور المثقفين بالثقافة اليهودية أو المسيحية في إشاعة هذا اللون من الخرافات قبل الإسلام وبعده، في البيئة العربية والإسلامية، ولهذه الخرافة نظائر أخرى لا حاجة بنا إلى إيرادها (2) .
ومن هذا النوع ذي الصلة الوثيقة بالمؤثرات الخارجية خرافات نجدها عند إيسوب، وإن لم يكن من الضروري أن تعود في الأصل إلى البيئة اليونانية، ومن أقدم هذه الصور المشتركة قصة الرجل والحية، وهي ذات جذور عميقة في الأدب الجاهلي (3) حتى لنجدها مسرودة في قصيدة تنسب للنابغة الذبياني، يقول فيها (4) :
وإني لألقى من ذوي الضغن منهم
…
وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره
كما لقيت ذات الصفا من حليفها
…
وما انفكت الأمثال في الناس سائره
فقالت له أدعوك للعقل وافيا
…
ولا تغشيني منك بالظلم بادره
فواثقها بالله حين تراضيا
…
فكانت تديه المال غبا وظاهره
فلما توفى العقل إلا أقله
…
وجارت به نفس عن الخير جائره
تذكر أنى يجعل الله جنة
…
فيصبح ذا مال ويقتل واتره
فلما رأى أن ثمر الله ماله
…
وأثل موجودا وسد مفاقره
أكب على فأس يحد غرابها
…
مذكرة من المعاول باتره
فقام لها من فوق حجر مشيد
…
ليقتلها أو تخطى الكف بادره
فلما وقاها الله ضربة فأسه
…
وللبر عين لا تغمض ناظره
تندم لما فاته الذحل عندها
…
وكانت له إذ خاس بالعهد قاهره
(1) الأمثال في النثر العربي: 82 - 83.
(2)
انظر الحيوان 5: 238 - 239 والعقد 3: 68.
(3)
انظر أمثال الضبي: 84 - 85 والميداني 2: 61 والدميري 1: 254.
(4)
ديوان النابغة: 131 - 135 (تحقيق محمد الطاهر بن عاشور) والمصادر المذكورة في الحاشية السابقة.
فقال تعالي نجعل الله بيننا
…
على مالنا أو تنجزي لي آخره
فقالت يمين الله أفعل إنني
…
رأيتك مسحورا يمينك فاجره
أبى لي قبر لا يزال مقابلي
…
وضربة فأس فوق رأسي فاقره والقصة في الأساطير العربية أن أخوين خربت بلادهما فأرادا انتجاع مرعى، وكان في جوارهما واد فيه حية قد حمته، فنزلاه، فعدت الحية على أحدهما فقتلته، فحلف أخوه ليأخذن بثأره، فلما لقيها ليقتلها عرضت عليه الصلح وأن تعطيه دية أخيه، كل يوم دينارا، وحلف كلاهما للآخر، حتى كان أن تذكر الرجل أخاه، وكأنه وجد من العار أن يقبل الدية بديلا عن الثأر، فلما حاول قتلها أخطأها، وأصاب صفاة كانت عند جحرها، ثم ندم لما فاته الذحل؟ كما يقول النابغة - فأراد أن يتعاهدا ثانية، فأبت الحية ذلك، وقالت له:" كيف أعاودك وهذا أثر فأسك "؟.
أما في خرافات إيسوب فخلاصة القصة أن حية قتلت ابنا لأحد المزارعين، فغضب، وحمل فأسه وذهب إلى وكر الحية ولبث يترقب ظهرها ليضربها حالما تبرز، فلما أخرجت الحية رأسها أهوى عليها المزارع بفأسه ولكنه أخطأها وأصاب صخرة كانت هنالك، ثم عرض على الحية نوعا من التسوية والمصالحة، فقالت له الحية: لا، لأني لا أستطيع أن أحس بمشاعر الصداقة نحوك بعد أن رأيت أثر فأسك في الصخرة، وأنت لا تستطيع أن تنسى حين تنظر إلى قبر ابنك (1) . والمقتول؟ حسب الرواية العربية - أخ لا ابن، كما أن هناك عنصرا هاما قد حذف من الرواية اليونانية وهو الذهب، فالحية حسب الرواية العربية قبلت المصالحة، وأخذت تعطي الرجل كل يوم دينارا، فلما استشعر الغنى رأى أنه لم يعد بحاجة إلى الحية، وأخذ يتذكر ما كان من فقد أخيه، ولكن للقصة رواية لاتينية لا تتحدث أولا عن مقتل ابن أو أخ، وإنما عن صداقة عقدت بين رجل وحية، يقدم الرجل بموجبها اللبن للحية وتقدم الحية إليه ذهبا، وأن زوجة الرجل أشارت عليه بقتل الحية، بعد إذ أصبح الذهب لديه وفيرا، وحين أخطأ الرجل الحية وأثرت ضربته في الصخر، هاجمت الحية غنمه وقضت على عدد كبير منها، ثم قتلت ابنه فأشارت عليه زوجته مرة أخرى أن يصالح الحية، وحين حاول الرجل ذلك وأخذ قعبا من لبن
(1) دالي رقم: 51، ص: 115 وملحق بابريوس رقم: 573 ص: 529.
ليقدمه لها، دلالة على حسن نيته، قالت الحية له:" لن نستطيع أن نعود إلى ما كنا عليه لأني حين أرى أثر الضربة سأتذكر الفأس، وأنت حين ترى سرير ابنك خاليا ستتذكر إساءتي إليك "(1) .
هذه الخرافة ترجع فيما يقال إلى أصل هندي (2) ، ومع ذلك فإننا نلحظ فيها تغييرا أساسيا في الرواية العربية، وذلك هو جعل المقتول أخا لا ابنا، لأن ذلك هو الذي يتفق مع النسبة الكبرى من قصائد الرثاء في العصر الجاهلي (3) .
وبعد العصر الجاهلي تصبح هذه الروايات أو الخرافات، جزءا هاما من الأدب الإسلامي، حتى إن رواتها لا يترددون في نسبة مثلها إلى الرسول. فقد نسب إلى النبي قوله:" مثل الذي يفر من الموت كالثعلب تطلبه الأرض بدين، فجعل يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني ديني، فخرج فلم يزل كذلك حتى انقطعت عنقه فمات (4) ". وترد قصة الأثوار الثلاثة في خطبة لعلي ابن أبي طالب، على النحو التالي: " إنما مثلي ومثل عثمان كمثل ثلاثة أثوار كانت في أجمة، أبيض وأسود وأحمر، ومعها أسد فكان لا يقدر منها على شيء لاجتماعها عليه، فقال الأسد للثور الأسود وللثور الأحمر: إنه لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت، فقالا: دونك وإياه فكله، فأكله، ومضت مدة على ذلك ثم إن الأسد قال للثور الأحمر: لوني على لونك فدعني آكل الثور الأسود، فقال له: شأنك به، فأكله، ثم بعد أيام قال للثور الأحمر: إني آكلك لا محالة، فقال: دعني أنادي ثلاثة أصوات، فقال افعل، فنادى: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض (قالها ثلاثا)(5) ، وهذه أيضا من قصص إيسوب (6) .
(1) دالي رقم: 573 ص: 261 وبابريوس، الملحق:530.
(2)
عابدين: 42 - 43 نقلا عن:.Ency. of Religion and Ethics
(3)
بعض الأمثلة قد يكون هاما في تبيان هذه الحقيقة مثل مراثي لبيد والخنساء وكعب بن سعد الغنوي ودريد بن الصمة ومتمم بن نويرة وغيرهم.
(4)
الدميري 1: 164.
(5)
الدميري 1: 167، والمستقصى 1: 417 والميداني 1: 17.
(6)
بابريوس رقم: 44 ص: 59.
وتعود إلى الظهور تلك القصة التي تتصل بأوميرس عن الليث الذي يأبى أن يلطخ شاربه بدم الخنزير، في رسالة كتب بها المنصور العباسي إلى ابن هبيرة، حين دعاه للمبارزة، ونص الرسالة:" يا ابن هبيرة إنك امرؤ متعد لطورك، جار في عنان غيك، يعدك الشيطان ما الله مكذبة، ويقرب لك ما الله مباعده؟ مثلي ومثلك أن أسدا لقي خنزير، قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني اليه فقتلتك قيل: قتل خنزيرا، فلم أعتقد بذلك فخرا ولا ذكرا، وإن نالني منك شيء كان مسبة علي وإن قل، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت فأعلمت السباع أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذلك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك "(1) وورود هذه الحكاية على هذا النحو في تاريخ إسلامي مبكر، ينفي ما حاول ابن بطلان أن يرسخه في اذهاننا، وهو أن هذه الحكاية مترجمة مباشرة عن اللغة الإغريقية (2) ، إلا أن نفترض أن مثل هذه الترجمة قد تم في تاريخ مبكر جدا قد يرجع إلى العصر الجاهلي.
وفي عهد المنصور العباسي نفسه نصادف خرافة أخرى يرويها وزيره أبو أيوب المورياني، فقد كان أبو أيوب يخشى المنصور، فيما قيل، وإذا طلبه للمثول بين يديه اصفر وارتعد، فلما سئل عن سبب ذلك ضرب مثلا فقال: زعموا أن بازيا وديكا تناضرا، فقال البازي للديك: ما أعرف أقل وفاء منك، فقال: وكيف؟ قال: لأنك تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ها هنا وها هنا وصحت، وإن علوت حائط دار كنت فيها سنين طرت وتركتها وصرت إلى غيرها، وأنا أوخذ من الجبال وقد كبرت سني، فأطعم السيء القليل وأونس يوما أو يومين ثم أطلق على الصيد فأطير وحدي، فآخذه وأجىء به إلى صاحبي، فقال له الديك: ذهبت عنك الحجة، أما لو رأيت بازيين في سفود ما عدت اليهم أبدأ، وأنا كل يوم ووقت أرى السفافيد مملوءة ديوكا، وأقيم معهم، فأنا أوفى منك لو كنت مثلك (3) .
(1) البلاذري، أنساب الأشراف 3: 152 وانظر محاضرات الراغب 2: 417.
(2)
انظر ما تقدم ص: 51.
(3)
الحيوان 2: 362 والأذكياء: 256 والدميري 1: 101 والجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب: 102 ومحاضرات الراغب 2: 417 والغيث 1: 209.
وهذه القصة؟ وإن لم توجد في خرافات إيسوب - تدل على أن نقل كليلة ودمنة إلى العربية، في حدود هذه الحقبة التي نومئ إليها، كان يمثل رغبة الناس في هذا اللون من الأمثال، كما أنه أيضا كان ذا أثر في توجيه الأنظار إلى الينابيع الفارسية والهندية التي يستمد منها ذلك الأدب. وحين نجد أن أبان بن عبد الحميد اللاحقي وغيره قد نظموا قصص كليلة ودمنة (1) ، ليسهل حفظها في أغلب الظن، وأن سهل بن هارون قد عارضها بكتاب سماه " ثعلة وعفرة "(2) يتجلى لنا أن الاهتمام بهذا اللون من الأدب كان آخذا في الازدياد، رغم أن مصادرنا من القرن الثالث لا تؤيد هذه الحقيقة على نحو مباشر (3) ، ولكن يحق لنا أن نعتبر مصادر القرن الرابع، مصداقا على ما كان يجري في القرنين السابقين، وبخاصة كتب المختارات المتنوعة مثل البصائر للتوحيدي، فإنما هي عودة إلى تنسيق ضروب النشاط الأدبي في ذينك القرنين السابقين.
ولما كان ما يهمنا من ذلك الأدب هو مدى لقائه بنظيره اليوناني، فإني سأعرض؟ في إيجاز - نماذج تمثل ذلك اللقاء، على أن يرد أكثر الحكايات بشكله الكامل، في ملحق خاص بها (4) .
1 -
قصة الشيخ الذي نصب للعصافير فخا، وضربه البرد، فكلما قبض على عصفور، دمعت عينه مما كان يصك وجهه من برد الشمال، فظنته العصافير امرءا صالحا رقيق الدمعة، فقال عصفور منها: لا تنظروا إلى دموع عينيه، ولكن انظروا إلى عمل يديه (الحيوان 5: 238 - 239 وملحق بابريوس رقم: 193، ص 458) ، وقد مرت حكاية أخرى عن مناسك نصب فخا (انظر: 72 فيما تقدم) ، ويمكن أن تقارن
(1) من هؤلاء الذين نظموا كليلة ودمنة أيضاً سهل بن نوبخت وعلي بن داود كاتب زبيدة، انظر عبد الله بن المقفع لمحمد غفراني خراساني (ط. القاهرة) ص:255.
(2)
نشرت قطعة من هذا الكتاب في حوليات الجامعة التونسية (العدد الأول، ص 19 - 40) بعنوان: النمر والثعلب، تحقيق عبد القادر المهيري.
(3)
لم يعره الجاحظ اهتماما كثيرا في الحيوان، وكذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار والمبرد في الكامل؟ الخ. كما ان كتب الأمثال حتى عهدئذ أبرزت جانبا من البيئات المحلية للأمثال دون أن تعنى كثيرا بالمؤثرات الخارجية.
(4)
انظر الملحق الأول في آخر الكتاب.
القصتان بثالثة رواها صاحب العقد (3: 68) عمن صاد قبرة فرجته أن يطلقها على أن تقدم له ثلاث نصائح. ويبدو أن هذا النوع من القصص قد كان ملائما للتعبير عن الحقيقة الخادعة تحت مظهر نسكي.
2 -
قصة الذئب الذي أخذ يعدد الذنوب على الحمل افتئاتا، لكي يسوغ لنفسه أكله (1) (الدرة الفاخرة: 294 وانظر الميداني 1: 302 والزمخشري 1: 233 وبابريوس رقم 89، ص: 111 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 1، ص: 91) ويبدو أن هذه القصة قد وضعت في صيغة شعرية، في عهد مبكر، إذ جاءت على هذا النحو (2) :
وأنت كذئب السوء إذ قال مرة
…
لعمروسة والذئب غرثان مرمل
أأنت الذي من غير جرم سببتني
…
فقال متى ذا قال ذا عام أول
فقال ولدت العام بل رمت ظلمنا
…
فدونك كلني لا هنا لك مأكل 3 - قصة الحمار الذين يهين الفيل بقوله له: " يا أخي "، وإذ يستغرب الفيل هذه القرابة يشير الحمار إلى الشبه بين غرموله وخرطوم الفيل (الدرة الفاخرة: 552 ومحاضرات الراغب 2: 416 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 29، ص: 225 وقد جمعت هذه القصة أيضا عند فايدرس معنى الاستعلاء الذي أدى بالليث إلى أن يعف عن دم الخنزير لئلا يلطخ به شاربه) .
4 -
قصة الأسد والثعلب والذئب الذين اصطحبوا معا في رحلة صيد، فصادوا حمارا وظبيا وأرنبا، وسئل الذئب أن يقوم بالقسمة فأعطى الحمار للأسد والأرنب للثعلب واحتفظ لنفسه بالظبي، فخبطه الأسد فأطاح رأسه، قم أقبل على الثعلب وطلب إليه إجراء القسمة فقال الثعلب: الحمار لغدائك والظبي لعشائك والأرنب في ما بين ذلك، وقد تعلم القسمة العادلة من رأس الذئب الطائح عن جثته (الدميري 1:
(1) ذكر حمزة في كتاب الدرة الفاخرة أن هذه الخرافة تقع في حديث طويل من حديث الأعراب، وتابعه في ذلك الميداني، إلا أنهما لم يذكراه، ولا ريب في أن ذلك الحديث يمثل الخرافة وما فيها من حوار بين الذئب والحمل، ولكني لم أعثر عليه.
(2)
يضاف إلى المصادر المذكورة في المتن لهذه الأبيات، محاضرات الراغب 1:138.
161 -
عن المعافى بن زكريا النهرواني (390/999) صاحب كتاب أنيس الجليس ومحاضرات الراغب 2: 417 وملحق بابريوس رقم: 149، ص: 449، وفي الحديث عن " حصة الأسد " انظر أيضا بابريوس رقم: 68، ص: 83 وفايدرس، الكتاب الأول، رقم: 5، ص: 199) .
5 -
قصة الأسد الذي اعتل فزارته جميع السباع إلا الثعلب، فكاد له الذئب، فانتقم منه الثعلب بأن جاء عائدا للأسد ووصف له دواء يشفيه من مرضه وهو مرارة الذئب، فضربه الأسد، وكان ضعيفا، فسلخ بعض جلده، ومضى الذئب ملطخا بدمه والثعلب يصيح في أثره " يا صاحب السراويل الأحمر، إذا جلست عند الملوك فأعقل كيف تتكلم "(البصائر 2: 727 وكتاب الأذكياء لابن الجوزي والدميري 1: 161 ومحاضرات الراغب 2: 416 ودالي رقم: 258، ص: 200 - 201 وبابريوس ص: 473) . ومع أن العبرة في الروايتين متفقة، فثمة فروق أساسية بينهما، منها أن الدواء في القصة الأيسوبية هو جلد الذئب ومرارته، وهو هنالك يموت ولا ينجو بنفسه، وإنما يقف الثعلب فوق جثته شامتا ويقول:" لا بد للمرء من أن ينصح الملك بالحب ر بالكراهية ".
6 -
قصة الثعلب (أو الذئب) الذي ابتلع عظما فبقي في حلقه، فاستخرجه الكركي بأجر فلما طالب بأجره قال له الثعلب إن أجرتك خروج رأسك صحيحا من حلق الثعلب (البصائر 2: 702 - 705 والكلم الروحانية: 131 ومحاضرات الراغب 2: 416 وبابريوس رقم: 94، ص 115 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 8، ص: 201) .
7 -
قصة الكلب الذي عدا خلف غزال، فقال الغزال: أنك لن تلحقني لأني أعدو لنفسي وأنت تعدو لصاحبك (البصائر 2: 305 وعند بابريوس عن كلب وأرنب بري، رقم: 69، ص: 85 وعند الدميري 1: 160 عن كلب وثعلب وعند ابن الجوزي: 255 عن كلب وذئب) .
8 -
قصة الجمل الذي قيل له أتصعد أو تهبط؟ فقال: ذهب الاستواء من الأرض؟! (البصائر 7 الفقرة رقم: 62 وبابريوس رقم: 28، ص: 15) .
9 -
قصة الرجل الذي أراد أن يثبت لأبنائه فائدة الاتحاد، فعرض عليهم أن يكسوا حزمة من عصي مجتمعه فما قدروا، ولكن كل واحد منهم كان يقدر على ان يكسر العصا مفردة (1) (بابريوس رقم: ص: 63، وأعتقد أنها مبكرة في تاريخها، وأنها تنسب للمهلب بن أبي صفرة، وإنما أضعها هنا، بحسب الترتيب الزمني (أواخر القرن السابع) لأنها تروى عن زاوي بن زيري أحد زعماء البربر في الفتنة البربرية في الأندلس (انظر لسان الدين ابن الخطيب، الإحاطة 1: 523) .
10 -
قصة الجدي الذي وقف على سطح، وشتم ذئبا مارا، فقال له الذئب لست أنت الذي تشتمني إنما يشتمني الموضع الذي أنت فيه (الكلم الروحانية: 131 - 132 وبابريوس رقم: 96، ص: 125) .
11 -
قصة ثعلب رأى أفعى فوق جرزة شوك وقد حملها السيل فقال: هذه السفينة لا يصلح أن يصلح أن يكون لها إلا مثل هذا الملاح (الكلم الروحانية: 132 والمجتنى رقم: 4 ومحاضرات الراغب 2: 417 وانظر تخريجها عند روزنتال، حيث يذكر أن لها شبها في قول من أقوال أحيقار، النص العربي رقم: 28) .
12 -
قصة ثعلب أراد أن يصعد حائطا فتعلق بعوسجة فجرحته فلما لامها قالت: لقد أخطأت حين تعلقت بي وأنا من عادتي أن أتعلق بكل شيء (الكلم الروحانية: 132 ومحاضرات الراغب 2: 417 وملحق بابريوس ص: 425 رقم: 19 وهي عند دالي رقم 19، ص: 102) .
13، - 14 - قصة الكلب الذي عير الأسد بنكوله، وقصة الخنزيرة التي عيرت اللبؤة بقلة الأولاد (وقد مرت القصتان ص: 50؟ 51، وهما عن ابن بطلان، ومر تخريجهما) .
(1) ليست هذه القصة من الخرافات على ألسنة الحيوانات. ولكني أوردها هنا لوقوعها في المصادر العربية وعند بابريوس.
15 -
تمثل برسيس (Persius)(1) لما بلغة أن عدوه اغتابه فقال: بلغنا أن كلبا وقردا اجتازا بمقبرة سباع، فقال القرد للكلب، اصعد بنا نترحم على إخواننا هؤلاء، فقال الكلب: ومن أين بينكما معرفة؟ فقال القرد: سبحان الله! ما اعلم شيئا من هذا، ولكني كنت أود أن يكون أحدهم حاظرا وتقول هذا (رسائل ابن بطلان، الورقة: 162 وبابريوس رقم: 81، ص: 101 والملحق ص: 435 - 436 حيث تخريجها) .
16 -
ذكروا أن فيلسوفا أودع بعض أمناء قضاة أثينية ثوبا فضاع عنده فأغتنم به الفيلسوف غما شديدا، فعير بذلك، فقال: بلغنا أن خطافة عششت في مجلس قاض فسرقت الحية فراخها، فعزاها الطير فلم تتعز فأنكر ذلك عليها فقالت: والله ما بكائي لتفردي دون الطير بهذه الرزية وإنما بكائي لما يأتي علي من الجور في مجلس الحكم (رسائل ابن بطلان، الورقة: 162 وتاريخ الحكماء: 309 وبابريوس رقم: 118، ص: 155) .
هذه نماذج وحسب، يمكن أن يضاف إليها غيرها، وبعضها قد عرفه العرب مترجما عن الإغريق (مثل 6، 10 - 16) ، وبعضها مشترك بين أمم مختلفة، كما أن قسما منها قد يكون عربيا خالصا (انظر رقم: 8) ، وقد زاد نطاق التلاقي بين الأدبين بعد إذ أصبح " كليلة ودمنة " جزءا من التراث العربي (2) ، كما أن نطاق الخرافات الأيسوبية أتسع على مر الزمن، فنسب إلى إيسوب كثير من الحكايات التي كانت من قبل تروى عن غيره، وأكتفي هنا بإيراد مثلين:
(1) ورد عند القفطي (109) باسم " ثوسيوس " وقال: انه شاعر يوناني قد أحكم الطريقة اليونانية، وهو ينقل عن ابن بطلان.
(2)
قارن قصة النسر الذي علم السلحفاة كيف تطير (بابريوس رقم: 115) بقصة السلحفاة والبطتين في كليلة ودمنة: 86 - 88 وقصة الزانيين (ملحق بابريوس رقم: 520) بقصة المرأة وجارها المصور (كليلة ودمنة: 108) وهناك مجالات أخرى للمقارنة لمن أراد الاستقصاء.
1 -
قصة مصارع كان يفتخر فقيل له إنه لا معنى لافتخاره لأنه لم يغلب من هو أقوى منه أو من هو مثله وإنما غلب من هو دونه (رويت لسيمونيدس الشاعر في الكلم الروحانية: 119 ومنتخب الصوان: 88 وانظر فايدرس رقم: 13، ص: 391) .
2 -
قول ديوخانس لرجل أصلع شتمه: أما أنا فلا أشتمك ولكنني أغبط شعرك على مقدمة رأسك فإنه قد استراح منك (الكلم الروحانية: 109 وملحق بابريوس رقم: 248، ص: 471) .
وقد تم للخرافات العربية اتجاه جديد حين ابتعد بعضها عن دائرة العبرة الأخلاقية، وأصبح جزءا أساسيا من الفكاهات الشعبية أو النقد الاجتماعي والفكري والسياسي، وان لم تبارح الدائرة العامة للأمثال. وتتجلى السخرية الفكاهية في مثل: قالت الخنفساء لأمها: ما أمر بأحد إلا بزق علي، قالت: من حسنك تعوذين (1)، ومن التعليقات الفكرية الحادة ما تنطوي عليه القصة التالية: دخل كلب مسجدا خرابا فبال على المحراب، وفي المسجد قرد نائم، فقال الكلب: أما تستحي أن تبول في المحراب؟! فقال الكلب: ما أحسن ما صورك حتى تتعصب له (2) . أما النقد السياسي المباشر فتصوره هذه القصة: كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لإبنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل إلا أن تجعلي لي صداقها مائة ضيعة خراب، فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن، ولكن إن دام والينا علينا؟ سلمه الله - سنة واحدة فعلت لك ذلك (3)، ونختم هذا اللون بهذه الحكاية. نظر ثعلب إلى حمل يعدو فقال: ما وراءك؟ قال: جعلت فداك، سخرت الحمير والبغال، فقال: وما أنت والحمير والبغال، قال: أخاف جور السلطان (4) . وأحيانا أصبحت
(1) البصائر 2: 464 وتذكرة النهروالي: 96 نقلا عن التمثيل والمحاضرة: 379 وابن العبري: 51.
(2)
البصائر 2: 719 ومحاضرات الراغب 2: 417.
(3)
الدميري 1: 147 ومحاضرات الراغب 1: 101 وسراج الملوك: 107 وابن العبري: 51 وقد قدم لها بمقدمة تجعل جوها غير عربي.
(4)
البصائر 2: 719.
هذه الخرافات مادة لتصوير بعض جوانب من العصبية، كالمفاضلة بين البلدان مثلا، ومن أوضح الأمثلة على ذلك قصة الثعلب الشامي والثعلب العراقي، ودعوى الأول، وقدرة الثاني على ابتكار الحيلة للنجاة (1) .
ومهما يكن من أمر هذه الصبغة التي أصبحت تمثلها بعض الخرافات، فإن الأثر الإيسوبي ظل ملموسا على مر الزمن، وتغلغل هذا الأثر في أعماق الحياة الشعبية حتى أصبح جزءا منها، وقد مر بنا كيف احتفظت الأمثال العامية حتى القرن العاشر الهجري؟ وربما بعده - بقصة الذبابة التي شاءت أن تحط على نخلة أو جميزة (2) ، ومن غير المستبعد أن يكون هذا الأثر قد واكب الآداب العامية منذ أن بدأت تأخذ حيزها إلى جانب الأدب الفصيح، ونحن نجد في الأمثال التي احتفظ بها الوهراني في مناماته، هذا المثل:" قال الحائط للوتد: لم تشقني؟ قال: سل من يدقني؟ لم يتركني ورائي، الحجر الذي من ورائي "(3) وهو مما ورد في أمثال إيسوب (4) ، وفي ذلك الأدب الشعبي نجد الجمل الذي تجنب الأدب الفصيح أن يمس جانبه بالسخرية (5) ، يصبح؟ كما هو أحيانا في بعض خرافات إيسوب - موضع سخرية وتندر، من ذلك هذا المثل الذي أورده الوهراني:" قالوا للجمل: ما لرقبتك معوجة؟ قال: وأي شيء في مقوم حتى تكون رقبتي مقومة؟! "(6)، وهذا المثل الآخر الذي أورده الأبشيهي: " قالوا للجمل زمر،
(1) البصائر 2: 727 - 729 ومحاضرات الراغب 2: 416 دون توضيح لنسبة كل من الثعلبين.
(2)
انظر ما تقدم ص: 67.
(3)
ركن الدين محمد بن محمد الوهراني: منامات الوهراني: 70، وروائي الأولى تعني: ورأيي.
(4)
ملحق بابريوس رقم: 270، ص:476.
(5)
في الأدب الفصيح أحيانا قدح في الجمل، وذلك أمر تقتضيه المقايسة بين ضخامة الجسم وقلة العقل، ومثل هذا يصدر في الغالب عن رجل ضئيل يعبره الناس بضآلته، فهو يرد على ذلك بقوله:
لقد عظم البعير بغير لب
…
فلم يستغن بالعظم البعير (ديوان كثير عزة: 530) ، ويتحاشى هذا الموقف آخرون، كما في قول القائل " جسم البغال وأحلام العصافير " وكان في مقدوره أن يقول " جسم الجمال ".
(6)
منامات الوهراني: 171 - 172.
قال: لا شفف ملمومة، ولا أيادي مفرودة " (1) ، ومن ثم يتجلى كيف ظل الأدب الشعبي يهتم بهذا النوع من الأمثال والخرافات، ولعل من أبرز الشواهد على ذلك، إدخال قصة " أحيقار " كلها ضمن الإطار القصصي في ألف ليلة وليلة، ذلك الكتاب الذي ينبئ أيضا عن عدد من مواطن اللقاء مع الأساطير الإغريقية (2) .
(1) المستطرف 1: 52 وقارن ذلك بما ورد عند بابريوس رقم: 80، ص: 99 حيث اراد صاحب الجمل في حفلة شرب ان يقسر جمله على الرقص، فقال له الجمل، حتى أتقن المشي أولا.
(2)
سيأتي الحديث عن هذه الناحية في فصل تال.