المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌معارضة مراثي الحكماء للاسكندرفي الأدب العربي - ملامح يونانية في الأدب العربي

[إحسان عباس]

الفصل: ‌معارضة مراثي الحكماء للاسكندرفي الأدب العربي

" 7 "

‌معارضة مراثي الحكماء للاسكندر

في الأدب العربي

لم يكن موقف عبد الحميد إلا نموذجا واحدا من اعتماد الرسالة الأدبية على المادة اليونانية إلا أنه نموذج هام لسببين: أولهما حدوثه في دور مبكر من تاريخ الكتابة العربية، وثانيهما أنه يمثل تأثرا مباشرا لا محض تأثر مستمد من العيش في جو ثقافي عام، كما قد يحدث في العصور التالية، وحين نفرض أنه ليس المثل الوحيد، فإننا نرجو أن نعالج استمراره؟ في القالب الرسائلي - في غير هذا الموضع، ولكن حسبنا الآن ونحن نعرض نماذج من التأثر أن ننقل إلى صورة أخرى، تعتمد المحاكاة وسيلة لها، والمحاكاة في العادة لا تكون ظاهرة مرموقة إلا لقوة الأنموذج وتميزه. وتقف قصة الاسكندر في جوانب مختلفة منها نموذجا قويا يصلح للمحاكاة وخاصة لدى أبي سليمان المنطقي وتلامذته وأصحابه، وربما كانت ثمة قصص أخرى تفرض نفسها بقوة الأنموذج ولكنها لم تجد ناقلا شغوفا بالنقل عامة، وبقل الحكمة والفلسفة بخاصة، مثل التوحيدي. ونقف من هذه القصة عند نموذجين:

1 -

أولهما قول الأسكندر وقد سئل: أيهما أحب اليك أبوك أو معلمك؟ فقال: معلمي؟ يعني ارطاطاليس - لأن والدي كان سبب كوني القريب وارسطاطاليس كان سبب تجويد كوني (1) . وفي رواية أخرى، قيل له إنك تعظم معلمك أكثر من تعظيمك

(1) صوان الحكمة: 147 (ط. طهران)، والمنتخب:51.

ص: 111

والدك فقال: لأن أبي كان سبب حياتي الفانية ومؤدبي سبب حياتي الباقية (1) .

ففي هذا القول تجاوز؟ لا يعدم تسويغا - لذلك النص الصريح في الدين على حق الوالدين، واقتران طاعتهما بطاعة الله تعالى، وها هنا نحن نجد مقارنة بين المؤدب والأب، وتميزا بينهما في المفاضلة، ولكن لا بد من أن نقر هنا بأن الآيات القرآنية تنص على شيئين هما الطاعة والرفق ثم ما يتبع من بر وحدب، بينا تقوم النظرة المنسوبة للأسكندر على الإجلال والتعظيم. وقد كان هذا الجواب، حافزا قويا لعدد من مثقفي القرن الرابع يحاكموه، فهو نموذج بارز من الإجابة إلا أنه لا يزال يفسح مجالا لوجهات نظر أخرى، وقد تناوله كل من أبي زكريا الصيمري وأبي سليمان المنطقي والنوشجاني وأبي محمد الأندلسي (2) بالإعجاب الذي لا يحول دون إبداء الموقف الذاتي، ولهذا عبر كل منهم عن نظرته الفكرية لو أن السؤال وجه إليه:

فقال الصيمري: لو قيل لي هذا لقلت: لأن أبي كان قضى وطرا بالطبيعة فعرضت، ومعلمي يفجر من أجلي أوطارا فكملت به (3) .

وقال المنطقي: لو قيل لي هذا لقلت: لأن ابي أفادني الطبيعة التي انطلقت علي بالكون والفساد، ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون أو فساد.

وقال النوشجاني: لو قلت أنا لقلت: لأن أبي كونني بالعرض، ومعلمي زينني في كوني بالعرض.

وقال الأندلسي: لو قلت أنا لقلت: لأن أبي قيدني فأوثق، ومعلمي حل قيدي وأطلق.

(1) المصدر السابق: 159 (طهران) وأورد هنا القول السابق برواية " سبب حياتي؟ سبب تجويد حياتي ". وانظر محاضرات الراغب 1: 25 والتمثيل والمحاضرة: 137.

(2)

جميع هؤلاء يتردد ذكرهم في مؤلفات أبي حيان التوحيدي، ويمكن تصورا آرائهم ومواقفهم من تلك المؤلفات، ولهذا أعتقد أن هذا القول من منقولات أبي حيان نفسه، ويمثل الأندلسي بينهم الثقافة اللغوية النحوية، مع ملابسة للفلاسفة الذين حول أبي سليمان، وقد تحدث عنه أبو حيان في عدة مواطن: انظر المقابسات: 95، 96، 126 ومثالب الوزيرين: 260 والبصائر 2: 591 وفي هذا الأخير قال إنه توفي سنة 375 ببغداد، وهذا قد يحدد تاريخ الأنموذج الذي حاكى المفكرون فيه قولة الأسكندر.

(3)

كذا وهو قلق في معناه، والنص مضطرب في أصل المنتخب.

ص: 112

2 -

النموذج الثاني؟ وهو أقرب إلى جو الأدب من النموذج السابق - مستمد من موقف المفكرين عند تابوت الاسكندر، فهناك رواية تقول؟ وليس هنا موطن البحث في قيمتها التاريخية - إن الأسكندر توفي في أرض العراق ثم نقل إلى الإسكندرية ليدفن فيها، وقد تجمع عدد من الفلاسفة والحكماء عند قبره، وقال كل منهم قولة في تأبينه إذ طلب إليهم عظيمهم أن يقول كل واحد منهم قولا " يكون للخاصة معزيا وللعامة واعظا "(1) .

وقبل أن أتحدث عن قوة هذا الأنموذج وما أثاره لا بد من وقفة عند هذه الأقوال نفسها، فهي؟ فيما يبدو - قد ترجمت في دور مبكر، تم ذلك قبل عهد حنين بن اسحاق، وربما أمكن نسبتها إلى أيام سالم وجهوده هو ومن حوله في الترجمة. وتثير هذه الأقوال عددا من الأسئلة حولها، وفي مقدمة هذه الأسئلة: كم كان عددها عندما ترجمت أول مرة؟ إنه لم يتح لي الإطلاع على نوادر الفلاسفة لحنين، ولكن اليعقوبي لا يورد منها إلا تسعة، ثم نجدها عند سعيد بن البطريق اثنين وثلاثين، وعلى نحو مقارب عند المسعودي والثعالبي، ومع أن المبشر بن فاتك يورد منها أربعة عشر، فإنه يوضح أنه لم يوردها جميعا:" وقال جماعات أخر من الناس من الحكمة والموعظة مثل ما قال هؤلاء، وحذفته اختصارا، وقد أوردته وباقي أخباره في تاريخي الكبير مستوفى على تمامه "(2) .

وهناك نصان يعتمدان أصلا واحدا هو " صوان الحكمة "، الذي يقترن باسم المنطقي وهما منتخب منه، ومختصر له، وعدد هذه الأقوال في المنتخب خمسة، وفي المختصر ثلاثة وعشرون، وقد يقال إن صانع المنتخب حذف ما شاء على أساس الانتقاء، ولكن التوحيدي وهو تلميذ أبي سليمان وصاحبه المرافق له في فترة غير قصيرة من حياته يقول ان الحكماء الذين تحدثوا حول تابوت الاسكندر كانوا عشرة (3) ، فهل قيد التوحيدي هذا

(1) مروج الذهب 2: 10 - 12، واجتماع عدد من الفلاسفة وتبادلهم الأقوال في موضع ما، شائع فيما نقل من صور الفكر اليوناني، انظر مثلا مخطوطة كوبريللي: 16 حيث يذكر أن سبعة من الحكماء اجتمعوا في بيت الذهب فقالوا نريد أن نذكر أشياء من الحكمة؟ الخ.

(2)

مختار الحكم: 241.

(3)

أبو شجاع: ذيل تجارب الأمم، 75نقلا عن كتاب الزلفة لأبي حيان.

ص: 113

قبل أن يعرف أبا سليمان؟ وهل ظل يجهل أن لأستاذه كتابا يسمى " صوان الحكمة " بحيث لا نراه يقف عنده أو يسميه أبدا؟ إن العدد الذي يورده التوحيدي لا يختلف كثيرا عن ما ذكره اليعقوبي، وربما كان هذا الرقم يشير إلى عدد تلك الحكم في القرن الثالث، حتى إذا كان القرن الرابع أصبحت هذه الحكم تزيد على الثلاثين، فإذا رجعنا إلى مخطوطة كوبريللي (1608) وهي متأخرة كثيرا ففي تاريخها؟ وجدنا هذه الأقوال قد بلغت ثلاثة وخمسين قولا، فكيف نفسر هذه الزيادة المطردة؟ قد يكون سبب ذلك تعدد المصادر التي أخذت عنها تلك الأقوال واختلافها فيما تورده منها، وفي مخطوطة كوبريللي ما يفيد الاعتماد على نسختين سابقتين تنفرد إحداهما بعدد من الأقوال لا يرد في الأخرى، وهذا يؤدي إلى الافتراض بأن الترجمة المبكرة لهذه الأقوال قد خلفتها ترجمة أو ترجمات متوالية أضافت كثيرا إلى النواة الأولى، ولعل المقارنة بين أبن البطريق والمسعودي؟ وهما متعاصران - يوضح هذا الخلاف في الأصول المعتمدة، فالأقوال متقاربة في العدد إلا أن ابن البطريق ربما كان يعتمد مصدرا سريانيا، ولهذا فإن المؤرخين لا يتفقان إلا في اثني عشر قولا مما يوردانه، ثم ينفرد كل منهما في سائرها. وقد عثر الأستاذ بروك على صورة سريانية من هذه الأقوال وجدها أقرب إلى ما أورده ابن البطريق والمكين وأبو شاكر مما هي إلى ما أوردته المصادر العربية (1) ، وإذا تقدمنا خطوة أخرى في المقارنة واتخذنا المسعودي والثعالبي محورا لها، وجدنا التقارب في العدد موجودا إلا أن الاتفاق لا يتعدى أحد عشر قولا، ينما ينفرد الثعالبي عن سائر المصادر، لا عن المسعودي وحده، في ثمانية عشر قولا لا يشاركه في بعضها إلا مصدر متأخر عنه مثل زهر الآداب لعله ينقل عنه أيضا. فهل نقول إن الثعالبي يعتمد مصدرا فارسيا قد تفرد في أكثر ما أورده من تلك الأقوال؟ أن تعدد المصادر واختلافها أمر محتمل، بل لعله السبب الأهم لا في تفسير الزيادة المطردة وحسب، بل في الخلافات الواردة في صياغة

(1) S. P. Brock: The Laments of the Philosophers over Alexander in Syriac، Journal of Semitic Studies 15 (1970) PP. 205 - 218، cf. P. 207.

أما الصورة السريانية المشار إليها فأنها محفوظة في:

Mingana Syr. 47، f. 267

وقد وجدت المخطوطة في ألقش قرب الموصل، وتاريخ نسخها حديث (1907) .

ص: 114

بعض النصوص المشتركة (1) ، غير أن لهذه الخلافات نفسها أسبابا أخرى منها اختلاف المترجمين وتفاوتهم في الميل إلى " تعريب " الأسلوب المنقول، ويبدو أن مثل هذا الميل كان موجودا في الدوائر الأدبية، وأنه كان أحيانا يعمي الأصل وينقل القول المترجم إلى حيز جديد، وهذه ظاهرة ستعالج على نحو مفصل تال. أما هنا فيكفي أن أقول: إن من قبيل هذا الانسياق وراء أضواء الأسلوب؟ في الحالين - ورود القول التالي على صورتين أسلوبيتين متفاوتتين:

المسعودي: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحل ظل السحاب؟ وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب.

صوان الحكمة: ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل، لما أظل، فما نحس لملكك أثرا ولا نعرف له خبرا.

فالتصرف الأسلوبي في العبارتين واضح ومقصود، والمعنى الأساسي واحد.

ومن صور التصرف اليسير في الترجمة دون محاولة لرفع المستوى البلاغي، ما يتصل بتلك القولة التي تومئ إلى أن الأسكندر وضع في تابوت من ذهب، وأن المفارقة قد تمت، بين الحياة والموت، فهو في الحياة كان يخزن الذهب، وفي حال الموت أصبح الذهب " خازنا " لجسده.

ابن البطريق: كفى بهذا عبرة أن الذهب كان بالأمس كنزا للأسكندر فأصبح الأسكندر اليوم بالذهب مكنوزا.

المسعودي: هذا الإسكندر الذي كان يخبأ الذهب فصار الذهب يخبأه.

الثعالبي: ما زال الإسكندر يكنز الذهب حتى كنزه الذهب الآن.

المبشر: كان الإسكندر يكنز الذهب والفضة ويصونه، والآن أصبح الذهب يصونه ويكنزه.

(1) أشار الأستاذ روزنتال إلى الاختلاف في نصوص تلك الأقوال، انظر:

The Classical Heritage، P. 121

واختار من بينها نص الثعالبي وترجمه.

ص: 115

الحصري: كان الملك يخبأ الذهب، وقد صار الآن الذهب يخبؤه.

آيا صوفيا: كنت بالأمس للذهب جامعا واليوم الذهب قد جمعك.

فهذه ستة أقوال تختلف في الصياغة اختلافا يقل أو يكثر، فأما أن يكون اختلافا ناشئا عن الترجمة نفسها وإما أن يكون ناشئا عن الرواية بالمعنى دون التقيد الدقيق في الألفاظ، والأمر الثاني مألوف بكثرة.

على أن تزايد تلك الأقوال واختلافها؟ وهما أمران مقترنان أحيانا - إنما نجما عن نوع من الوضع، غير متعمد، فهؤلاء المؤرخون الذين رووا هذه الأقوال لم يحاولوا الكذب، ولكن الحمل على المعنى جعل نوعا مما أثبتوه يشبه الوضع عن حسن نية: مثل ذلك جميع تلك الأقوال التي تقع بين قطبي: كان؟ فصار، فإذا كانت الجملة الأصلية المقولة عند تابوته مثلا: طان آسرا فصار أسيرا، فمن السهل في الرواية على المعنى أن تجيء في صور مختلفة " ناطقا صامتا، قاتلا مقتولا، غالبا مغلوبا، مرتفعا متضعا، قاهرا مقهورا،؟ الخ (1) بل من السهل أن يتم التصرف في هذا المعنى على صيغ أخرى تبتعد عن التقابل ين طرفي المفارقة، وكل هذا عند رواته لا يعني كذبا في الوضع لأنه يظل ينقل روح المعنى المراد، ومما يقارب ذلك معنى " العظة " بالموت، فإن إيرادها في صور مختلفة يحمل معنى الوضع غير المتعمد كما يجمع إلى ذلك أحياناً وهما في حقيقة المعنى الأصلي أو نسيانا له إذا كانت الرواية من الذاكرة، فمن تلك الصور:

المسعودي: قد كنت لنا واعظا فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك.

ابن البطريق: لا تعجبوا ممن لم يعظنا في حياته ثم قد صار بموته لنا واعظا.

فنحن نرى هنا أن المسعودي قد ناقض ابن البطريق إذ زعم الأسكندر كان واعظا للناس في حياته بينا هو عند ابن البطريق لم يفعل ذلك، ثم ان ابن البطريق نفسه تحدث عن هذه العظة في قولتين أخريين، مؤدى إحداهما أن العامة تتعظ بموت الملوك كما أن الملوك يتعظون بموت العامة (رقم 43 في الملحق) وأن الإسكندر ما اتعظ بعظة أبلغ من وفاته (رقم 44) وهما يمثلان تفريعين صغيرين على الأساس الأول لهذه الحكمة،

(1) انظر الأرقام: 31، 41، 52، 54، 88، 118 في الملحق:2.

ص: 116

ويورد الثعالبي تفريعا آخر عند المقابلة بين النطق والعظة: قد كنت أمس أنطق وأنت اليوم أوعظ (رقم: 58) ثم نجد لدى الشهرستاني انطلاقة جديدة ينكر فيها وعظ الإسكندر للناس في حياته (كما هي الحال عند ابن البطريق) ولكنه وعظهم في مماته، إلا أن الجديد هنا أن عدم الوعظ كان اختيارا وأن الوعظ كان اضطرارا (رقم: 80) ، هل كل هذه الأقوال ترجع إلى أصل واحد؟ يبدو أن الأمر كذلك، ولكن استغلال المعنى الواحد من عدة أنحاء يدل على البراعة أيضا، وأن هذا النوع من التشقيق مبني على الأصل.

وشبيه بهذا التفريع تولد داخلي أعانت عليه نزعة أخلاقية زهدية دينية تتحرك بقوة في موقف الموت، وليس من الضروري أن يتم ذلك على أيدي الرواة العرب بل لعلهم وجدوه في الرواية المسيحية السريانية فنقلوه على حاله، أو بشيء يسير من التغيير، ولا نكران في أن كثيرا من هذه الأقوال إنما حور عن أصله؟ أو وضع أصلا - ليلائم بعض المشاعر الدينية التي تزهد في الدنيا أو تؤمن بالبعث، والأقوال التالية أمثلة على ذلك:

1 -

أعجب لمن كانت هذه سبيله كيف شرهت نفسه بجمع الحطام البائد والهشيم الهامد (الملحق: 15) .

2 -

إن دنيا يكون هذا آخرها فالزهد فيها أولى أن يكون في أولها (24) .

3 -

هذه طريق لا بد من سلوكها فارغبوا في الباقية كرغبتهم في الفانية (34) .

4 -

ما أرغبنا في ما فارقت وأغفلنا عما عانيت (82) .

5 -

خرجنا إلى الدنيا جاهلين وأقمنا فيها غافلين ونخرج عنها كارهين (89) .

6 -

قل للملوك ليس بعد الحياة إلا الموت، ولعل ما بعد الموت أشد من الموت (96) .

7 -

قل للملوك ما الحياة بثقة فيرجى غدها ولا الموت بغابر فيؤمن يومه (97) .

8 -

لو كان له يقين لم ينصب نفسه لجمع ما تخلف عنه (107) .

وحين يصرح المسعودي بأن القول الثاني إنما صدر عن أحد نساك الهند، فإنما ذلك إشارة إلى هذا الوتر الزهدي القوي الذي يتخلل أقوال أولئك الحكماء.

ص: 117

ولعل جانبا من هذا التكاثر قد تم بالنقل المعاكس فنحن نعرف مثلا صلة أبي العتاهية بهذه الأقوال؟ وذلك ما سيتم توضيحه في فصل تال - ولكن يبدو أن بعض أسباب الوصل بين أقوال الحكماء وأبي العتاهية إنما تمت بطريق معاكس، فأبو العتاهية هو الذي يقول " لدوا للموت وابنوا للخراب " وبسبب من تلك الصلة يعكس الأمر، وينقل قول أبي العتاهية ويدرج بين أقوال الحكماء على أنه لواحد منهم ويصبح:" الآن علمت أنك ولدت للموت وبنيت للخراب "(1) . كذلك حدث؟ فيما أعتقد - في كثير من صور الرثاء المألوفة عند العرب مثل:

1 -

انظروا كيف خر الطود الشامخ ونضب البحر الزاخر وسقط القمر الطالع (74)

2 -

قد كان هذا الأسد يصيد الأسود والآن وقع في الحبالة (59)

3 -

انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى (17)

ولن يغيب عن التأمل في هذه الأقوال وجود تيارين متضاربين فيها: أحدهما مليء بالأسف على الأسكندر وعلى العظمة التي زالت والقوة التي تلاشت، والثاني حافل بالشماتة والتقريع (2) ، ومهما نحاول أن نقول إن الروح الزهدية التي تقؤع من يجمع المال للوارث (3) ، وتتحدث كثيرا عن الأجل والأمل (4) وتشجب السعي الدائب من أجل الدنيا (5) ، هي المسئولة عن ذلك فإنها لا تكفي وحدها لتفسير التيار الثاني، خصوصا وان الإسكندر لدى المسلمين لم يكن محض ملك، ولا عد جبارا في الأرض، وإنما كان لدى الكثيرين هو ذا القرنين الذي اضطلع بعبء الإصلاح (6)، فهل هناك عامل آخر؟ أو عوامل أخرى ساعدت النزعة الزهدية على إبراز جانب التقريع والشماتة في تلك الأقوال؟ حقا إننا نجد هذا التيار في الصور المبكرة عند ابن البطريق والمسعودي مثل: " أيها الساعي المغتصب جمعت ما خذلك؟ الخ (رقم: 6 في الملحق) ، ولكن

(1) انظر رقم 73 وهو مما انفرد به الثعالبي وقد أشار إلى أن أبا العتاهية أخذ قوله منه. انظر غرر السير: 453، 455.

(2)

لحظ ذلك الأستاذ غرنياسكي، انظر مقالته الأولى: 229، 231.

(3)

انظر رقم 100، 113 في الملحق:2.

(4)

رقم: 5 في الملحق: 2.

(5)

رقم: 104 في الملحق: 2.

(6)

انظر مقالة غرنياسكي الأولى ص: 230.

ص: 118

الأقوال الدالة على الشماتة؟ في هذه الفترة - تظل أضعف بكثير من الأقوال التي تدل على الأسف، حتى نصل إلى الثعالبي، فنجدها قد ازدادت كثيرا، وهناك نقرأ:

1 -

كل يحصد ما يزرعه فاحصد الآن ما قد زرعت (60)

2 -

استرحت من أشغال الدنيا فانظر كيف تستريح من أهوال الأخرى (62)

3 -

ما ينبغي لك ذلك التجبر أمس مع كل هذا الخضوع اليوم (1)(57)

4 -

ما كان أغناك عن إماتة الخلق الكثير مع موتك هذا السريع (63)

5 -

دخلت الظلمات لطلب نور الحياة ولم تعلم أن مصيرك إلى ظلمة التابوت (68)

فهذه الأقوال وغيرها؟ مما انفرد به الثعالبي - تقوي الظن بأنها وليدة بيئة فارسية، كان رضاها عن الأسكندر المغتصب، الذي سيحصد ما زرع ويلقى جزاء جبروته أقل بكثير من رضى الروايات الأخرى مسيحية كانت أو إسلامية. إلا أن هذه الروح في الرواية الفارسية قد وجدت من بعد عونا من النزعة الزهدية العامة. ويقف القول الخامس فيما تقدم عن دخول الظلمات وطلب نور الحياة فريدا، وذا دلالة على محاولة استخراج تلك الأقوال من التحركات التاريخية للإسكندر نفسه (أو على الأقل محاولة لاستخراجها من قصته تاريخية كانت أو أسطورية) .

ومما يجب أن نلحظه في تلك الأقوال تسمية بعض قائليها وإغفال أكثرهم، واضطراب المصادر في أسماء المذكورين منهم، ونسبة القول لغير واحد، مما لن أحاول الوقوف عنده، بعد إذ أصبح ظاهرة تكاد تكون طبيعية في مثل هذه الأقوال. ولكن مما يلفت النظر أن اليعقوبي والمسعودي والمبشر بن فاتك لا يذكرون أسماء القائلين، ولعلهم كانوا على وعي بالخطأ التاريخي في جمع عدد من الأشخاص لا يجمعهم زمان، ولا يتأتى جمعهم في مكان، حول تابوت الإسكندر، ثم نجد ابتداء من المسعودي أنهم لم يكونوا جميعا من حكماء يونان بل كان فيهم بعض حكماء الهند ونساكها، وأنهم أيضا لم يكونوا جميعا من طبقة الفلاسفة والحكماء، وغنما كانوا يضمون صاحب مائدة الإسكندر وصاحب بيت المال وأحد الخزان (إلا أن يكون هؤلاء أيضا كانوا حكماء) كما برزت بينهم

(1) انظر التعليق على هذه العبارة في الملحق (رقم: 75) حيث ترد العبارة في مخطوطة كوبريللي والحصري على نحو أكثر قسوة في الشماتة.

ص: 119

زوجة روشنك وأمه. ومن الطريف أن القول المنسوب إلى زوجته قد ألمح إلى تلك الشماتة التي تحدث عنها آنفا: " وأن كان هذا الكلام الذي سمعت منكم معاشر الحكماء فيه شماتة فقد خلف الكأس الذي تشرب به الجماعة "(1) .

وتستحق القولة المنسوبة إلى أم الأسكندر وقفة خاصة، لتباينها في المصادر على نحو واضح:

1 -

ابن البطريق ومخطوطة كوبريللي (2) : قد بالغتم في التعزية والذي كنت أحذره على الأسكندر قد صار إليه، فلم يبق له ملك ولا عليه، فليكثر في الدنيا زهدكم وأعطوا الحق من أنفسكم، فقد قبلت تعزيتكم.

2 -

اليعقوبي ومختصر الصوان والمبشر (3) : العجب يا بني لمن بلغت السماء حكمته وأقطار الأرض ملكه ودانت له الملوك عنوة كيف هو اليوم نائم لا يستيقظ وساكت لا يتكلم، فمن ذا يبلغ الإسكندر عني فيعظم حباؤه مني وتجود منزلته عندي بأنه وعظني فاتعظت وعزاني فتعزيت وصبرت، ولولا أني لاحقة به ما فعلت، فعليك السلام يا بني حيا وميتا فنعم الحي كنت ونعم الهالك أنت.

3 -

مروج الذهب: لئن فقد من ابني أمره فما فقد من قلبي ذكره (4) .

4 -

الثعالبي: يا بني قد كنت أرجوك وبيني وبينك بعد المشرقين وقد أمسيت منك الآن وأنت أقرب إلي من ظلي.

فإذا كان كل قسم من هذه الأقسام يمثل مجموعة من الروايات، فإن المجموعة الأولى

(1) الملحق 2 رقم: 29 ونصه عند ابن البطريق: " أن كان منطقكم في الأسكندر باستهزاء فقد خلف الكأس التي نشربها معكم ولكلكم فيها ارواء (ص: آراء) وان كان تعزيه وبكاء فاستعدوا للجواب وأعدوا الحجة فإن مما ذاق ستذوقون فليكن العمل على حسب القول فأنكم غير آمنين "(ص: 84) .

(2)

تاريخ ابن البطريق: 84 - 85 ومخطوطة كوبريللي، الورقة:4.

(3)

تاريخ اليعقوبي 1: 145 ومختصر الصوان: 30 ومختار الحكم: 241 وأثبت رواية الثالث، وهناك اختلاف جزئي عنها لدى اليعقوبي ومختصر صوان الحكمة.

(4)

الملحق 2 رقم: 30.

ص: 120

تتمشى وروح الزهد العامة في الأقوال، كما أن الثالثة والرابعة أوجز من أن تنسب إلى أم ثاكلة. وتتميز المجموعة الثانية بأنها قد جمعت جانبا غير قليل مما نثر في الحكم، مع الإلحاح على تذرع الأم الثاكلة بالصبر والعزاء، وإذا وضعناها إلى جانب قولة أخرى أوردها المبشر بن فاتك نفسه وجدنا الانتقال من الصبر إلى الجزع واضحا تماما حيث يرد على لسانها " قد ولت الدنيا عني، وهد الموت ركني، وأذعنت بحلول الزوال علي، والدوام لبارئ الكل الحي الذي لا يموت ولا يزول ولا يفنى. وكل مرضعة فللموت تربي، وللفناء تغذو وإلى الثكل تصير، فما العوض من فراق الحبيب وثمرة القلب ومنى النفس!! ما أرى أن في الدنيا وطنا ولا مقرا بعد هلاكه إلا بأن أهيم مع الوحوش إلى أن يكرمني الله باللحوق بدار الحبيب "(1) ، ومن تأمل هذه الاختلافات في الأقوال المنسوبة لأم الأسكندر أدرك أنها تمثل مواقف مختلفة، بحسب نفسيات الذين كانوا يتصورون أنا تشهد تابوت ابنها وبحسب تفاوت أمزجتهم وانتماءاتهم.

لقد أطلت القول بالحديث عن أقوال الحكماء لأنها اكتسبت أهمية لا في تاريخ الأدب العربي وحسب بل في الأدب السرياني والفارسي والتركي، وشاعت في الغرب منذ القرن الثاني عشر الميلادي (2) ، ولست أنوي أن أتحدث هنا عن ما تركته من أصداء غير مباشرة في الأدب العربي، فقد بان من الأمثلة السابقة مدى التلاقي؟ اطرادا وعكسا - بين هذه الأقوال وبين المرثية العربية، وإنما أكتفي بعرض صورة واحدة تمثل دور المحاكاة، - بقوة الأنموذج - كما أوضحت في مطلع هذا الفصل، وهذا يقضي عودة إلى مدرسة أبي سليمان المنطقي، ومؤرخها المخلص أبي حيان التوحيدي.

وتتصل المناسبة بوفاه عضد الدولة الذي ينعته أبو سليمان المنطقي بالملك السعيد (3) ، وقد كان هذا الملك يرعى أبا سليمان ويفضل عليه، ولهذا نجده يقول بعد وفاته:" من يذكرني وقد مضى الملك؟ رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي ويجري على عادته معي، ومن يسأل عني ويهتم بحالي، هيهات! فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه؟ إن الزمان بمثله لبخيل - كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال وملتقى القفال ومحقق الأقوال والأفعال؟ "(4) "، ويبدو أن فضل عضد الدولة

(1) مختار الحكم: 242.

(2)

انظر التوحيدي: الامتناع والمؤانسة 2: 116.

(3)

انظر التوحيدي: الامتناع والمؤانسة 2: 116.

(4)

الامتناع 1: 30.

ص: 121

لم يقف عند أبي سليمان، وإنما عم رجال مدرسته، ولهذا لا يستغرب أن يقف أولئك الفلاسفة وعهم أساتذتهم؟ أبو سليمان - يؤبنون عضد الدولة على نحو ما فعل الحكماء عند تابوت الإسكندر، وعلى ضوء المناسبة نستطيع أن نحدد تاريخ الأقوال لاتصالها بوفاة عضد الدولة (أي سنة: 372/982) وتلك الأقوال قد ذكرها أبو حيان في كتاب الزلفة؟ وهو من كتبه التي لم تصلنا حتى اليوم - فقال: " لما صحت وفاة عضد الدولة كنا عند أبي سليمان السجستاني، وكان القومسي حاضرا والنوشجاني وأبو القاسم غلام زحل وابن المقداد والعروضي والأندلسي والصيمري، فتذكروا الكلمات العشر المشهورة التي قالها الحكماء العشرة عند وفاة الإسكندر "(1) . وكان الذي اقترح عليهم محاكاتها هو الأندلسي فاستحسن أبو سليمان اقتراحه، وكان أول القائلين، ثم توالى بعده أصحابه على الترتيب الآتي:

1 -

المنطقي: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها وأعطاها فوق قيمتها، وحسبك انه طلب الربح فيها فخسر روحه في الدنيا.

2 -

الصيمري: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم بها فهذا انتباهه.

3 -

النوشجاني: ما رأيت غافلا في غفلته ولا عاقلا في عقله مثله، لقد كان ينقض جانبا وهو يظن أنه مبرم، ويغرم وهو يرى أنه غانم.

4 -

العروضي: إما إنه لو كان معتبرا في حياته لما صار عبرة في مماته.

5 -

الأندلسي: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل من درجاتها إلى معال.

6 -

القومسي: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغبا عنها جدت له، انظر إلى هذا كيف انتهى أمره وإلى أي حظ وقع شأنه، وإني لأظن أن الرجل الزاهد الذي مات في هذه الأيام ودفن بالشونيزية احفظهما واعز ظهيرا من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.

7 -

غلام زحل: ما ترك هذا الشخص استظهارا بحسن نظره وقوته، ولكن غلبه ما منه كان، وعنه بان.

(1) ذيل تجارب الأمم: 75.

ص: 122

8 -

ابن المقداد: إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف.

ولا يخفى ما في هذه الأقوال من استجلاب للجو الزهدي حول الدنيا وشؤونها، وإذا استثنينا القولين اللذين يقران لعضد الدولة بحسن النظر وقوة الركن، فإن الأقوال الأخرى إما تنحو نحو التعميم وإما تحاول أن تغض من قيمة الطموح الدنيوي كما يمثله ملك، وقد تتفق في بعض دلالتها مع بعض ما جاء في أقوال الحكماء الذين أبنوا الإسكندر. ولعل إيمان أولئك المفكرين؟ ولو نظريا - بالسيرة الفلسفية التي يمثلها سقراط هو المحرك في هذا كله، إذ كم يبدو التباين جليا بين ما يقوله أبو يليمان المنطقي في لحظة فلسفية وبين ما يقوله في وصف عضد الدولة في لحظة شعوره باليأس من السند المادي. وكذلك سائر هؤلاء المفكرين فإنهم تجنبوا أن يذكروا ما كان للرجل من أثر في تشجيع العلم والفلسفة، وكان قمة ما يصبون إليه لا أن يحاكوا الأقوال الزهدية يمثلها وحسب، بل أن يعتقدوا؟ وشيخهم أبو سليمان دليلهم إلى ذلك - أن كل ما يمكن أن يقال في ذلك الموقف قد أتى عليه أبو إسماعيل الهاشمي الخطيب حين قال على المنبر يوم الجمعة يرثي عضد الدولة:" كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنة تقيك، ماذا صنعت بأموالك والعبيد، ورجالك والجنود، وبخولك العتيد، وبدهوك الشديد، هلا صانعت من عجل (؟) على السرير، وبذلت له من القنطار إلى القطمير، من أين أتيت وكنت شهما حازما، وكيف مكنت من نفسك وكنت قويا صارما؟ "(1) ، فكل هذه الأقوال ترد موردا واحدا، وإن كانت خطبة الخطيب أبلغ أسلوبا. ولدى سبط أبن الجوزي تعليق يقول فيه:" بين كلام هؤلاء وأولئك المتقدمين المتكلمين على تابوت الإسكندر كما بين الملكين في المساواة "(2) . وليس الأمر كذلك بإطلاق، ولكن الذين حاكوا الأقوال القديمة حددوا لأنفسهم مجالا ضيقا، فلم يستطيعوا أن يقولوا شيئا يتعدى دائرة الزهد إلا قليلا.

(1) ذيل تجارب الأمم: 76 - 77.

(2)

هامش ذيل تجارب الأمم رقم: 6 ص 77 نقلا عن مرآة الزمان.

ص: 123

فراغ

ص: 124