الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرة في مصادر هذا البحث
(1)
لما كانت الزوايا التي تحاول هذه الدراسة أن تلم بها متعددة، لم يكن من الطبيعي أن تستقطبها نواة واحدة مشتركة من المصادر، تعد أصلا تتفرع عنه سائر المصادر والمراجع، فربما كانت إشارة صغيرة في كتاب كبير لا علاقة مباشرة له بالثقافة اليونانية ذات أهمية بالغة في لفت نظر القارئ إلى حقيقة كبيرة؛ ولهذا كان على الدارس ألا ييأس من تتبع المصادر على اختلاف موضوعاتها ومنتمياتها، وإن أدى به الأمر إلى أن لا يعثر على شيء يستند المقولة الكبرى في بحثه. وأنا على يقين من أن التفلية الدقيقة لمصادر أخرى لم يتح لي أن أطلع عليها، رغم ما بذلته من جهد شاق في تتبع المصادر الميسورة، سواء منها ما أثبته في قائمة المراجع وما لم أثبته، جديرة بأن تضيف إلى هذا الموضوع استطلاعات جديدة، وفي كل حين تجود الأيام بمستكشفات لم تكن متيسرة، وينتفي القول التعميمي:" ما ترك السالف للخالف شيئا " انتفاء تاما.
وهنالك حقيقتان لا بد من الإشارة إليهما لاتصالهما اتصالاً مباشرا بالتيار العام في هذه الدراسة؛ أولهما أن عهد الترجمة لم ينتظر مجيء المأمون، ولا كان وليد رغبته الجارفة في الثقافة الهيلينية، وإنما كان قد بدأ قبل ذلك بكثير، في فترة ما في الدولة الأموية (بين سنتي 105 - 132) ، والشواهد على ذلك مثبتة في مقدمتي على عهد أردشير (2) ؛ وقد اتجه البحث إلى هذه الناحية، وظهرت فيه نتائج طيبة، وإن لم تبلغ بعد مرحلة القول الفصل في هذا الأمر (3) ؛ وفي سبيل تأكيد هذا الاتجاه، وقفت عند المحتوى اليوناني؟ في أدب الرسالة - كما يمثله عبد الحميد الكاتب. وثانية الحقيقتين ظاهرة المنافسة بين أنصار الثقافة الفارسية وأنصار الثقافة اليونانية (4) ؛ ففي المرحلة
(1) حين لا اثبت المراجع هنا، فمعنى ذلك أنني أحيل القارئ على ثبت المراجع في آخر الكتاب.
(2)
انظر عهد أردشير: 33 - 34.
(3)
انظر مقالتي غرنياسكي (ثبت المراجع) ودراسة ديمتري غوتاس: 444 وما بعدها.
(4)
راجع ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدري في مقدمته على " الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام "(جا)(المقدمة ص6 - 9) حول هذه المنافسة.
الأولى؟ فترة سالم الكاتب وابن المقفع - تغلب أنصار الثقافة الفارسية، إذ لم يستطع سالم؟ فيما يبدو - وهو ميال إلى الثقافة اليونانية، أن يباري منافسا قويا مثل ابن المقفع الذي اضطلع بدور كبير في نقل الثقافة الفارسية، بل يبدو أنه كان حينئذ نقلة آخرون لتلك الثقافة عدا ابن المقفع، وشاهد ذلك الكتاب الذي رآه المسعودي باصطخر سنة 303 وكان مما ترجم عن الفارسية لهشام بن عبد الملك، وفيه علوم كثيرة من علوم الفرس وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياستهم مما لم يوجد في كتب أخرى (1) ؛ وما دام المسعودي لم ينسبه إلى ابن المقفع، فربما أشار هذا إلى وجود مترجم آخر أو مترجمين آخرين. وكان أكثر المنقولات عن الفارسية يتصل بالسياسة عامة؛ سواء أكانت الكتب المترجمة تتناول قواعد السياسة النظرية أو العهود أو سير الملوك أو آداب الآيين، حتى وقر في النفوس حينئذ أن " السياسة " مقصورة على الفرس، مثلما أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب؛ ولهذا كان اتجاه سالم ومن حوله ينحو نحو ترجمة آثار سياسية يونانية دون سواها، وكان في مقدمة ذلك تلك الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس، ليوازوا بذلك جهود أنصار الثقافة الفارسية في هذا المضمار.
ومع أن الحقبة الثانية من حقب الترجمة قد اتجهت إلى الآثار اليونانية الفكرية والعلمية، وعرجت على النصوص السياسية تتطلبها حيثما وجدتها، وترجمها إلى العربية، فإن الصبغة " الفارسية " في السياسة، ظلت هي المسيطرة في هذا الجانب الثقافي، وخاصة لأن أغلب السياسيين حول المأمون كانوا من الفرس، حتى المأمون نفسه لا يزال يأمر معلم الواثق بالله أن يعلمه؟ بعد كتاب الله - عهد أردشير ويحفظه كليلة ودمنة (2) ؛ وقد ظلت طبقة البيروقراطية في الدولة تتجه نحو الثقافة الفارسية، فالكاتب يكتفي بأن يروي لبزرجمهر أمثاله، ولأردشير عهده ولابن المقفع أدبه، وبأن يصير كتاب مزدك معدن علمه ودفتر كليلة ودمنة كنز حكمته (3) ؛ ويظل الحذر من الثقافة اليونانية إلى ما بعد ذلك بزمن عند مؤلفي كتب الأدب، أمثال ابن قتيبة، فإن ما أورده مما يتصل بالسياسة من تراث الفرس، لا يقف إلى جانبه تلك الأقوال
(1) التنبيه والإشراف: 106.
(2)
المبرد: الفاضل: 4 وانظر عهد أردشير: 34.
(3)
ذم أخلاق الكتاب (في ثلاث رسائل للجاحظ) : 42.
اليسيرة التي نسبها إلى اليونانيين؛ وقد عبر ابن قتيبة عن هذا الحذر في أدب الكاتب حين قال يصف المثقف في عصره: " وأنحرف إلى علم قد سلمه له ولأمثاله المسلمون، وقل فيه المتناظرون، له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغمر والحدث الغر قوله: الكون والفساد، وسمع الكيان المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل والأخبار المؤلفة راعه ما سمع؟.. "(1) .
وتمثل تلك الصرخة التي أطلقها ابن الداية؟ الذي كان هو وأبوه من محبي الثقافة اليونانية - حلقة في سلسلة تلك المنافسة بين أنصار الثقافتين، في حقل السياسة على وجه الخصوص؛ إذ يتصور ابن الداية أن شخصا قد أخذ يبين؟ بحق - فضل الفرس في السياسة، ولكن جماح التعصب لم يقف به عند هذا الحد، وإنما دفعه إلى تنقص اليونانيين في هذا الشأن، وكرر ذلك على سمع صاحبه، مما اضطر ابن الداية إلى أن يقدم له نموذجا من آراء اليونانيين في الحقل السياسي لكي يستطيع صاحبه أن يدرك " محلهم من حسن السيرة وفضلهم على غيرعم في السياسة "(2) ؛ وسواء أكانت هذه التوطئة " حيلة " تأليفية، أو حقيقية واقعة، فأنها تصور رد ابن الداية على طغيان الأدب السياسي الفارسي حينئذ.
وكان على أنصار الثقافة اليونانية أن يقوموا برد آخر، في حقل متصل بالسياسة، وهو " الآداب "، فقد كاد يستقر في الأذهان أيضا أن قواعد الآداب وقف على الفرس؛ ولهذا نرى جهودا كبيرة تبذل في حقبة الترجمة على يد حنين وغيره من التراجمة لنقل الأقوال الحكمية اليونانية، موازاة لما يقوم به أنصار الثقافة الفارسية أمثال الحسن بن سهل من نقل جاويدان خرد وغيره من آثار الفرس (3) ؛ وكان ما ينقله
(1) أدب الكاتب: 3 - 4، ويعد ابن عبد ربه في العقد عالة على عيون الأخبار، ومع ذلك الأقوال المنسوبة لليونانيين تقل عنده، وتندرج تحت كلمة مبهمة مثل " وقال الحكماء " أو تنسب لشخصية عربية، وعن موقف ابن عبد ربه من " العلوم الجديدة " انظر بخاصة: إحسان عباس، تاريخ الشعر الأندلسي (عصر سيادة قرطبة) : 137 (ط:1960) .
(2)
الأصول اليونانية: 3 - 4.
(3)
خارج نطاق هذه المنافسة، كانت ترجمة العلوم والفلسفة انتصارا واضحا للثقافة اليونانية، ولذلك نرى حتى بعض المنتمين إلى الثقافة الفارسية. يحاول أن يحاكي المأمون في شغفه بذلك، مثال ذلك طاهر بن الحسين الذي طلب إلى أبي قرة أسقف حران أن يترجم له كتاب أرسطاطاليس في فضائل النفس (مخطوطة كوبريللي:66) . ومثل بني المنجم الذين كانوا يرزقون جماعة من النقلة في الشهر خمسمائة دينار للنقل والترجمة والملازمة (القفطي: 30 - 31) ويمكن ذكر أمثلة عديدة في هذا الصدد.
التراجمة من تلك الأقوال يقع تحت اسم ((Gnomonologia أو (Florilegia) ويضم أقوالا حكمية وأشعاراً لا تفترق في كثير عن الأقوال الحكمية، وأكثر المقصود فيها الغاية الأخلاقية، كما تؤدي إليه لفظة " أدب " التي تطلق على ما يترجم أو ينقل عن الفارسية، وقد لقيت تلك الأقوال عناية كبيرة، وخاصة بعد مرحلة الترجمة، إذ أفردت بالتأليف، أو نثرت على نطاق واسع في الكتب الأدبية.
ومن الممكن أن نتبين في هذه الدراسة أربعة خطوط متوازية في مختلف فصولها، إذ هي تعالج الشعر المترجم، وتحوير الحكم النثرية في صور شعرية، وتشكيل الأدب السياسي في قوالب وصور أدبية، واللقاء على مستوى الأمثال والخرافات والأساطير بين الأدبين، ومن ثم كان من الممكن أيضا معالجة مصادرها في أربعة أقسام كبرى:
1 -
مصادر الشعر:
إن القول بأن العرب عرفوا الشعر اليوناني؟ أو على وجه أدق تلقوا ما عرفوه منه - بطريقة عارضة (1) ، لا يزال يلجأ إلى النماذج الشعرية التي وردت في ترجمة كتابي الشعر والخطابة لارسطاطاليس، وفي بعض التعليقات عليهما، وقد استطاعت النماذج الواردة في هذين الكتابين، رغم ما أصاب بعضهما من تحريف؟ أن ترسخ في نفوس طلاب الثقافة اليونانية أهمية أوميرس (2) وتدل على مكانته بين اليونانيين وخاصة لدى ارسطاطاليس الذي كان يحتفظ بديوان شعره معه فلا يفارق متكأه (3) . ويمثل كتاب " تحقيق ما للهند من مقولة " وكتاب " الآثار الباقية " للبيروني مصدرا هاما لبعض الأقوال الشعرية العارضة، التي تتميز عن النماذج الأخرى المنقولة بدقة قرابتها إلى الأصل، وبصحة نسبها. ويقدم كل من البيروني وتاريخ أوروسيوس (هروشيس) نموذجين للجو العام الذي عاش فيه الشعر اليوناني نفسه، أعني بذلك جو الأسطورة، إذ يوردان عددا من
(1) هذا هو رأي كريمر في مقالته (انظر ص:263) وراجع رأي روزنتال في The Glassical Heritage p.255. حول هذا الموقف نفسه.
(2)
هذه هي الصورة التي اخترناها هنا وفي سائر الكتاب، وإن كان الاسم يرد في صور مختلفة، ويرد عند المحدثين بصورة " هومر " أو هوميروس؟ الخ.
(3)
صوان الحكمة (طهران) : 192.
الأساطير اليونانية، كما ينفرد أوروسيوس بنشر المعلومات عن الشعر الروماني وشعراء الرومان، وعلى التوسيع من مدلول كلمة " شعر " وعلى مشاركة عدة أمم فيه. ويمكن الإضافة إلى هذه المنقولات العارضة، وخاصة من الأقوال والأشعار المنسوبة إلى أوميرس، إذا تتبع الدارس نصوصا يونانية أخرى مثل الرسائل المنحولة إلى أرسطاطاليس، ففيها غير قليل من تلك الأقوال، ولتلك الرسائل وما شابهها مصادر متعددة، ولكن يمكن الإشارة هنا إلى مخطوطات ثلاث محفوظة في كوبريللي وآيا صوفيا والفاتح (1) .
غير أن ترجمة الشعر اليوناني لم تكن دائما عارضة، وإنما هناك ترجمة عامدة، قصد القائمون بها الشعر لذاته، ونقلوه ليعرفوا العرب بأقوال شعرية يونانية، وقد كان هؤلاء يميزون دائما بين هذه الأقوال الشعرية والأقوال الحكمية، وعلى ذلك فان عدم الصحة في نسبة تلك الأقوال الشعرية لا يقلل من شأن الغاية المعتمدة في ترجمتها، ومن ذلك تلك الأشعار المنسوبة إلى أوميرس التي ترجمها اصطفن بن بسيل (معاصر حنين بن إسحاق) وكلها من اللون الأيامبي. وقد وصلتنا في كتاب " منتخب صوان الحكمة "(2) وعنه نقل بعضها الشهرستاني في الملل والنحل، وهي أقوال تولاها الدارسون المحدثون بالدراسة؟ كما سأعرض عند الحديث عنها في الفصل الخاص بأميرس - وردها إلى أصولها، وقد أصبحت تعرف بين هؤلاء الدارسين بأسم " الأقوال المناندرية " نسبة إلى شاعر يوناني اسمه مناندر (Menander) . ولدى ابن هندو صاحب كتاب " الكلم الروحانية في الحكم اليونانية " فصل يتضمن صورة من هذه الأقوال الشعرية. ونتقدم خطوة أخرى في هذه الترجمة العامدة للشعر حين نجد في كتاب " قطب السرور " للرقيق القيرواني (حوالي 426) مقطعات شعرية؟ أقوالا - تنتمي كلها، بسبب طبيعة الكتاب (إذ هو في وصف الأنبذة والخمور) إلى الشعر الخمري، ولا تزال هذه القطع تتطلب مزيدا من البحث، لردها إلى أصولها، ومعرفة صاحب كل مقطوعة منها على التعيين.
2 -
مصادر الحكم النثرية:
ليس من هذه الدراسة البحث في الحكم النثرية نفسها، ولكن التعرف إلى
(1) هي التي تحمل رقم: 1608، 4260، 5323 على التوالي، وقد استخرج الأستاذ غرنياسكي منها بعض أقوال أوميرس، وادرجها في ملحق بآخر مقالته الأولى (انظر فهرس المصادر) .
(2)
صوان الحكمة (طهران) : 194 - 203.
مصادرها يعد أمرا ضروريا إلى درس ما جرى لهذه الحكم حين استغلت في الصور الأدبية العربية، وبخاصة عند إدراجها في الشعر. وقد لقيت هذه الحكم عناية واهتماما بالغين خلال العصور، لطبيعتها الإنسانية والأخلاقية، فلم يقتصر الاهتمام بها على طلاب الفلسفة، وإنما شمل بعض الدارسين ممن كان يقف من الفلسفة موقف الحذر أو الانكار، فأدرجت في كتب الأدب من مثل مؤلفات الجاحظ وعيون الأخبار لابن قتيبة والعقد لابن عبد ربه والمجتنى لابن دريد، حيث عقد فصلا مستقلا لأقوال الفلاسفة اليونانيين (1) ، كما نثر أبو حيان التوحيدي عددا كبيرا منها في كتابيه " البصائر والذخائر " و " الامتناع والمؤانسة " وفي كتب أخرى له لم تصلنا، ويبدو أن أبا حيان مر بمرحلتين: مرحلة النقل عن المصادر السابقة، في البصائر، وكانت معرفته بالثقافة الفلسفية لا تزال محدودة، ولذا فهو لا يسمي من الفلاسفة إلا قليلا، ويجعل تلك الأقوال مصدرة بقوله:" وقال فيلسوف " ومرحلة التعرف المباشر إلى الفلسفة عن طريق أبي سليمان المنطقي ومدرسته، كما يبدو ذلك واضحا في الامتناع. وفي محاضرات الراغب الأصفهاني عدد منها وإن لم يكن كثيرا، وعدد أكثر في التذكرة الحمدونية لابن حمدون، وقد جرى أسامة بن منقذ على منهاج ابن دريد في إفراد فصل خاص بها (2) ، بعد أن نثر في تضاعيف كتابه " لباب الآداب " عددا منها، وربما كان ما ورد منها في " ربيع الأبرار " للزمخري معتمدا في أكثره على بصائر التوحيدي. كما اهتم بها المؤلفون في السياسة مثل أبي الحسن العامري في كتابه " السعادة والإسعاد " والطرطوشي في " سراج الملوك "، أو من جمع بين الموضوعين؟ اعني السياسة والأدب - مثل ابن هذيل الأندلسي في كتابه " عين الأدب والسياسة "، ومثل هذه المصادر لا تذكر على وجه الاستقصاء، فذلك أمر يبدو غير مستطاع، لضياع كثير من تلك المصادر، أو لوجود كثير منها في صورة خطية، بعيدة عن متناول الأيدي.
فإذا تجاوزنا هذه المصادر الأدبية والسياسية بحثا عن المصادر الأصيلة لتلك الحكم وجدنا أن العناية بها مرت في مرحلتين: مرحلة الترجمة في الحقبتين المشار إليها آنفا
(1) انظر باب " من نوادر كلام الفلاسفة " في المجتنى: 51 - 57، وقد استأثر هذا الفصل باهتمام الأستاذ فرانتز رونتال، فقام بترجمته وتخريجه ورد بعض الأقوال فيه إلى أصولها اليونانية (انظر ثبت المصادر) .
(2)
لباب الآداب: 428 - 467.
أعني فترة سالم الكاتب وفترة حنين بن إسحاق، على وجه لا يقبل الشك أن الحكم التي قالها الفلاسفة عند تابوت الاسكندر، كانت معروفة قبل حنين، وأن هذا ربما رجح ترجمتها في فترة سالم. وفي فترة حنين قام هو نفسه بترجمة كثير من الحكم وكذلك فعل ابنه إسحاق، وتلميذه اصطفن بن بسبيل، وأبو عثمان الدمشقي، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التنسيق والاستقصاء، وقد شغلت هذه المرحلة القرنين الرابع والخامس، والجهود التالية المبنية على ما بذل في هذين القرنين من جهد، وعلى ذلك يمكن ترتيب المصادر الأصلية لتلك الحكم على النحو التالي:
1 -
كتاب نوادر الفلاسفة لحنين بن إسحاق: وصلنا برواية شخص اسمه محمد بن علي الأنصاري (1) ، وقد كان هذا المصدر المبكر أصلا معتمدا لدى المؤلفين في هذا الموضوع من بعد، وممن اعتمد عليه اعتمادا كبيرا ابن أبي أصيبعة كما أن مخطوطة كوبريللي (رقم: 1608) تحتفظ بقسم كبير مما نقله حنين، بالإضافة إلى ما نقله إسحاق وغيرهما.
2 -
صوان الحكمة الذي يقرن باسم أبي سليمان المنطقي: لم يصلنا هذا الكتاب في صورته الأصلية، وإنما وصلنا في صورتين متفاوتتين، إحداهما تسمى: منتخب صوان الحكمة، والأخرى تسمى مختصر صوان الحكمة، وهذه الثانية من عمل زين الدين عمر ابن سهلان الساوي (2) . وقد اعتمد مؤلف صوان الحكمة على عدة مصادر في طليعتها ما ترجم من أقوال الحكماء على يدي حنين ومدرسته (3) . فقد أثبت الأستاذ رونتال (4) أن الفصل عن تاريخ الأطباء في منتخب صوان الحكمة (5) والمؤسس على مادة مأخوذة من
(1) منه مخطوطة بالاسكوبال رقم: 76 وأخرى في ميونخ رقم: 651، ولم يتح لي الاطلاع عليهما، وقد ترجمه يهودا بن سليمان الحريزي (المتوفى حوالي 1200) إلى العبرية، ونشر هذه الترجمة A.Lowenthal كما قام بترجمته إلى الألمانية (1896) وكانت قد ظهرت له ترجمته أسبانية سنة 1879 (انظر غوتاس: 39 ومقالة شتروماير عن حنين في الموسوعة الإسلامية، الطبعة الثانية) .
(2)
ترجم له البيهقي في تتمة صوان الحكمة (أو تاريخ حكماء الإسلام: 132) وقال إنه كان من ساوة وارتحل إلى نيسابور واستوطنها، وكان متعففا يتكسب بالوراقة، فيبيع نسخة من كتاب الشفاء بخطه بمائة دينار. وله تصانيف في المنطق والحساب وغيرهما ورسائل مختلفة، إلا أن مؤلفاته احترقت مع بيته بساوة بعد وفاته.
(3)
اعتمدت فيما ذكرته ما يلي عن مصادر صوان الحكمة على رسالة الأستاذ غةتاس: 447 - 449.
(4)
صوان الحكمة (طهران) : 98.
(5)
Rosenthal F. Ishaq b. Hunayns Tarikh el - Atibba Oriens7 (1954) pp.55 - 80.
(John Philoponus) إنما كان من ترجمة إسحاق بن حنين، كما أن وصية فيثاغورس الذهبية (1) - حسب تقدير الأستاذ أولمان (2) - إنما نقلها مترجم معاصر لحنين أو سابق له. ويقر مؤلف صوان الحكمة نفسه أن الأقوال المناندرية المنسوبة إلى أوميرس من ترجمة اصطفن بن بسيل تلميذ حنين (3) . ووردت في ترجمة ديموقراطيس (4) جملتان أوردهما الجاحظ؟ معاصر حنين - في رسالة التربيع والتدوير (5) ، وقولة لزوسيموس وردت بين أقواله التي أوردها الجاحظ في كتاب الحيوان (6) . ولا ريب في أن هناك مصادر أخرى اعتمدها مؤلف صوان الحكمة، ولكن الكشف عنها لا يتم إلا بعد مقارنة ما في هذا الكتاب بما جاء في غيره من أقوال الحكماء. وقد أفاد الشهرستاني من هذا الكتاب كثيرا في كتابه الملل والنحل في ما أورده من تلك الأقوال، كما أن صوان الحكمة كان أنموذجا لما جاء بعده من كتب في هذا الموضوع.
3 -
الكلم الروحانية في الحكم اليونانية لأبي الفرج ابن هندو: وما بين أيدينا منه صورة لم تنل حظها من التحقيق الدقيق كما أنها مؤسسة على مخطوطة ناقصة (7) . ويمثل الكتاب مجموعة قيمة هامة من الحكم، بينها فصل عن شعر اليونان؟ كما تقدم القول - وفصل آخر عن الخرافات اليونانية. وتتميز بعض نصوص ابن هندو بدقتها إذا هي عورضت بالأصول اليونانية.
4 -
جاويدان خرد أو الحكمة الخالدة لمسكويه: يجمع أقوالا حكمية للفرس واليونان والعرب والهنود، ومع أن ما يخص اليونان منه لا يمثل إلا جزءا صغيرا فإنه هام للمقارنة مع سائر المجموعات، كما يبدو أنه اعتمد ما نقله حنين ومدرسته.
(1) صوان الحكمة (طهران) : 159.
(2)
أولمان: 28 - 29.
(3)
صوان الحكمة (طهران) : 204.
(4)
صوان الحكمة (طهران) : 194.
(5)
رسالة التربيع والتدوير، الفقرة:190.
(6)
الحيوان 1: 140.
(7)
نشرت بعناية مصطفى القباني الدمشقي، القاهرة 1900، ويذكر بروكلمان من مخطوطات الكتاب ثلاثا (باريس 5139 والفاتح 4041 وآيا صوفيا 2452)، انظر غوتاس:41.
5 -
مختار الحكم للمبشر بن أضخم مجموعة لدينا من الأقوال الحكمية، ويتميز بمقدمات تحتوي معلومات بيوغرافية في أول كل ترجمة.
6 -
الأحاديث المطربة لابن العبري: للمؤلف كتاب بالسريانية يعرف بالقصص المضحكة، (وقد ترجمه بدج Budge إلى الإنكليزية) ، ولعل الأحاديث المطربة صورة وضعها بالعربية هو نفسه، وهو في ستة عشر فصلا وتحتل اليونانية الفصل الأول، وهذا النص نشره الأب لويس شيخو (1) .
7 -
روضة الأفراح ونزهة الأرواح لشمس الدين الشهرزوري، وهو لتأخر مؤلفه في الزمن يعتمد على المجموعات السابقة وخاصة على صوان الحكمة (2) .
ولا تتم صورة المصادر التي تورد الأقوال الحكمية دون العودة إلى أصول أخرى منها الكتب المؤلفة في تراجم الحكماء مثل كتاب ابن جلجل وطبقات الأمم لصاعد الأندلسي وتاريخ الحكماء للقفطي وعيون الأنباء لابن أبي أصيبعة، ومنها مجموعات لا يزال أكثرها مخطوطا، ونميز من بينها في هذا الصدد مخطوطة كوبريللي (1608) والفاتح (4260) وآيا صوفيا (5323) وتمتاز الأولى من بينها بأنها جمعت القدر الأكبر من تلك الأقوال (3) ، ويبدو أن ناسخها (أو جامعها الأول) قد اطلع على عدة صور من الحكم، ولهذا مثلا نجد أن حكم سقراط تجيء في غير موضع واحد، وكذلك هو حال النقل عن حنين وابنه اسحاق، وقد أدرج فيها عهد أردشير وحكم لسليمان بن داود مما يجعل بعض اجزائها غير قاصر على حكم يونان، ومن الهام أن أشير هنا إلى أن ما جاء فيها من حكم فيثاغورس وسليمان وابن سيرا (برسين في لباب الآداب) يتفق وما أورده أسامة في لباب الآداب (443 - 445) ، وإلى جانب هذه المخطوطات الثلاث رابعة بعنوان " مختار من كلام الحكماء الأربعة الأكابر (4) " وهم فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، وقد قام الأستاذ غوتاس بتحقيقها والتعليق عليها في دراسته
(1) لويس شيخو: مقالات فلسفية: 39 - 60.
(2)
لا يزال هذا الكتاب مخطوطا وهو يمثل تاريخا للفلاسفة من أقدم العصور إلى عصر المؤلف (القرن السابع) .
(3)
وصف الأستاذ غوتاس هذه المخطوطة وتحدث بتفصيل عن محتوياتها، انظر ص: 43 - 49.
(4)
حققت على أساس مخطوطة آيا صوفيا (2460) وآيا صوفيا (2822) وباريس (202) .
التي تكررت الإشارة إليها، وقد اتضح للمحقق مدى صلتها بنص صوان الحكمة من أقوال الحكماء الأربعة، وأنها لا تعدو أن تكون رواية أخرى منه، قد أدخلت عليها بعض الإضافات، وأنها أقرب إلى مختصر الصوان منها إلى المنتخب، وأن جمعها قد تم على الأغلب في الثلث الأول من القرن الحادي عشر (1) .
ولن يفوتنا هنا أن نذكر ذلك الفصل من أقوال الحكماء الذي ورد في كتاب " طب النفوس " لابن عقنين (1226) وهو مؤلف بالعربية مكتوب بحروف عبرية، وقد حقق هذا الفصل وترجمه الأستاذ هالكن، وعليه كان اعتمادي في هذا البحث.
أما الأقوال الحكمية التي رثى الحكماء بها الاسكندر فقد حاولت أن استقصي مصادرها الأدبية والتاريخية، وقد أفردتها في ملحق خاص بها (انظر الملحق الثاني) فلهذا لا حاجة بي إلى التنويه بأهم مصادرها في هذا المقام.
3 -
مصادر الفكر السياسي:
سيتضح في هذه الدراسة أن الفكر السياسي اليوناني كان من أهم المواد التي عني الأدباء بالإفادة منها في مختلف الأشكال الأدبية، وفي مقدمة ذلك الرسائل المنحولة لارسطاطاليس، والأخرى المنحولة لأفلاطون. ويتفق الفكر السياسي في كثير من مصادره مع الأقوال الحكمية. ففي صوان الحكمة ومختار الحكم مثلا أقوال كثيرة تتصل بذلك الفكر. وربما كانت المخطوطات الاستانبولية الثلاث؟ المشار اليها من قبل - من أهم المصادر التي حفلت بالنصوص السياسية، كما أن المؤلفات ذات الطابع السياسي الأخلاقي مثل السعادة والإسعاد وسراج الملوك مصدر طبيعي لها. ولا يزال الفكر السياسي بحاجة إلى عناية من تحقيق ودرس، وقد نشرت بعض الرسائل في " مقالات فلسفية قديمة " لشيخو، وفي الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي، ويضم هذا الكتاب عهودا ثلاثة منسوبة لأفلاطون من صنع ابن الداية (وقد أعاد نشرها عمر المالكي بعنوان " الفلسفة السياسية عند العرب " دون أن يشير إلى ما
(1) انظر غوتاس: 429 - 345.
صنعه الدكتور بدوي) وكتاب سر الأسرار المنسوب لارسطاطاليس.
4 -
مصادر الخرافات والأمثال:
في اللقاء بين الأدبين على مستوى الأمثال والخرافات، وبخاصة الحكايات على ألسنة الحيوانات، كان لا بد من العودة إلى ثلاثة أنواع من المصادر (أ) كتب الحيوان ككتاب الجاحظ وكتاب الدميري، وليس لدى الجاحظ ميل كبير إلى هذه الخرافات، أما الدميري فإنه يعتمد في هذه الخرافات على مصادر سابقة، (ب) كتب الأمثال، وتحتفظ بعض مصادر الأمثال المبكرة بخرافات قليلة تتصل اتصالا مباشرا ببيئة الجاهلية، ولكن منذ حمزة الأصفهاني يبدو الاهتمام بهذه الخرافات أكثر فقد أفرد في أواخر كتابه " الدرة الفاخرة " فصلا خاصا بها. وتمثل أمثال العامة ذخيرة هامة في هذا المجال، ولهذا كان لابد من الاعتماد على ما أورده الثعالبي منها في " التمثيل والمحاضرة " وما أورده الابشيهي في المستطرف، (ج) كتب الأدب، فقد ورد منها في العقد " جانب. إن لم يكن كثيرا، كما أن التوحيدي؟ الذي أهتم كثيرا بأدب العامة وأمثالهم - قد أورد منها في البصائر عددا غير قليل. واقتفى الراغب الأصفهاني خطوات حمزة فأفرد لها في أواخر محاضراته بابا خاصا، وكذلك فعل أبن الجوزي في كتاب أخبار الأذكياء، وقد حرصت على أن أبعد من هذه الحكايات ما ورد منها في كليلة ودمنة وغيره من المصادر الفارسة مثل " مرزبان نامه " وصنوه " فكاها الخلفاء "، وإذا تجاوزنا هذه المصادر الرئيسية وجدنا هذه الخرافات تستأثر باهتمام ابن هندو فيعقد لها فصلا في كتابه " الكلم الروحانية " وهي تلك الخرافات المترجمة عن يونان، وفي هذا السياق يقع أيضا جهد أبن بطلان فيما يتعلق بالحكايات التي أوردها في رسائله، والتي نقل عنه القفطي بعضها في أخبار الحكماء.
واضح أذن أن المثقفين كانوا يعرفون أن بعض الحكايات ترجم مباشرة عن اليونانية، وبعضها الآخر قديم لا يعرف أصله، ولهذا جرى عرض هذه الخرافات على قصص إيسوب وبابريوس وفايدرس، وعلى الخرافات البابلية واليهودية، من أجل المقارنة، واستيفاء متطلبات هذه الدراسة.
تلك نظرة عاجلة لا تستطيع أن تصور تماما طبيعة المصادر الضرورية في سياق هذه الدراسة، ولكنها تعطي لمحة عنها، على أن نتذكر أن الحاجة إلى مصادر فرعية، كانت دائما ضرورية. وقد أفدت في دراستي هذه من بحوث عدد كبير من الدارسين الغربيين (ممن أثبت أسماءهم وأسماء بحوثهم في ثبت المراجع) ووجدت الكثير من العون في تعليقاتهم وآرائهم، ولولا خطواتهم في هذا الميدان، لكان لهذه الدراسة شأن آخر.