الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" 1 "
موقف العرب من الشعر اليوناني
ومدى معرفتهم به
إذا وضع الدارس أمام عينيه فرضية مريحة؟ مرهونة بما استكشف حتى اليوم من مصادر - مفادها أن العرب لم يترجموا شعرا يونانيا، ومن ثم لم يتأثر أدبهم بذلك الشعر، لم يبق عليه إلا أن يحشد الأسباب التي أدت إلى ذلك، وخاصة إذا كان هذا الدارس ينظر نظرة مقارنة إلى ما تم في عصور الترجمة من نقل للفلسفة اليونانية وعلوم يونان. فقد يجد؟ وهو محق في ذلك - أن العرب كانوا يرون لهم في شؤون الشعر والبلاغة والفصاحة تفوقا يميزهم عن سائر الأمم، سواء أكان لهذا الشعور ما يسوغه أم لا، وأنهم لذلك كانوا يشعرون أن لا حاجة بهم إلى أخذ تراث الأمم الأخرى، خضوعا لهذا اللون من الاكتفاء الذاتي.
ثم إن الأدب اليوناني، سواء أكان بطوليا أو مسرحيا أو غنائيا، كان يتكئ على تراث وثني، يتعارض تماما والتوحيد الصارم، ولهذا لم يكن في الإمكان ترجمته، فإذا ما ترجم منه شيء؟ مهما يكن قليلا - فلا بد من تحويره ليتفق والروح التوحيدية.
ولما كان العرب يعتقدون أن تميزهم يرجع في الدرجة الأولى إلى القدرة على التعبير، ولما كان عصر الترجمة قد واكب ظهور الشعوبية التي تعيب على العرب تخلفهم في شتى الميادين، لم يشأ هؤلاء العرب أن يقروا بحاجتهم إلى معرفة ما لدى الأمم الأخرى من أدب، فإن مثل هذا الإقرار يسلبهم أبرز أنواع التفوق، أعني الميدان الأدبي.
ومما يدل بقوة على أن العرب لم يترجموا الآثار اليونانية الكبرى في الأدب، ما تم
لديهم حينما ترجموا " كتاب الشعر " الذي يستند على شواهد أدبية، فقد وضح بقوة أن التراجمة والمعلقين على هذا الكتاب من أمثال أبي بشر يونس بن متى والفارابي وابن سينا وابن رشد وحازم القرطاجني، قد عجزوا عن فهم ما فيه من مصطلح وعن الإفادة الصحيحة من قواعده وأحكامه، لأنه لم يكن لديهم أمثلة مترجمة؟ وبالتالي أمثلة أصلية - تدلهم على مفهوم الملحمة أو المأساة.
وفي إبان عصر الترجمة، قرر الجاحظ مبدأ يعد ذا حظ كبير من الصواب، إلا أنه رغم ذلك شديد الخطورة، وذلك هو أن " الشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب (1) " ومثل هذا المبدأ من شأنه أن ينفر الناس من ترجمة الشعر إلى العربية، أو يجعل أية محاولة في هذا السبيل قليلة الجدوى، وقد بقي هذا الرأي حيا على الزمن، حتى ردده أبو سليمان المنطقي في (القرن الرابع) حين قال:" ومعلوم أن أكثر رونق الشعر ومائه يذهب عند النقل، وجعل معانيه يتداخلها الخلل عند تغيير ديباجته (2) "، ولكنه لم يكن حائلا دون الترجمة في كل وقت، وإنما اصبح عذرا للمترجم واعتذارا عن الشعر المترجم، إذا هو بدا؟ حقا - فاقد المائية والرونق في شكله النثري.
وقرن الجاحظ إلى مبدأه ذاك مبدأ آخر حين أعلن أن " فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب (3) "، ولعل هذا الحسم لا يتجشمه إلا من اطمأن من نفسه إلى معرفة واسعة بعدة لغات؟ أو على الأقل باللغات المشهورة في عصره، وهبنا فهمنا أن " فضيلة الشعر " هنا تعني " فضيلة إتقان الشعر " أي البلوغ فيه إلى درجة لا مثيل لها في اللغات الأخرى، فإن هذا المبدأ أيضا حجاب دون شعر الأمم الأخرى، وربما حمل في ذاته، إلى الشعور بالاستعلاء في هذه الناحية، تثبيطا لمن حاول أن يعرف ما لدى تلك الأمم من شعر.
ثم إن قصر " فضيلة الشعر على العرب " أمر داخل فيما أصبح يسمى المميزات الفارقة
(1) الجاحظ: كتاب الحيوان 1: 75.
(2)
أبو سليمان المنطقي: منتخب صوان الحكمة، الورقة: 71 وصوان الحكمة (طهران) : 193.
(3)
الحيوان 1: 74.
لكل أمة على حدة، وهو شيء يأخذ بالظاهر الأغلب، وعن ذلك عبر صاحب الامتناع والمؤانسة حين قال:" فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم والعلم والحكمة، وللهند الفكر والروية والسحر والأناة، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان (1) ". ومن أطراف ما يمر به المرء متصلا بهذا الموضوع ما ورد في رسالة السياسة العامية المنسوبة إلى ارسطاطاليس فإن الكاتب يقرن فيها بين العرب والهند في مميزات شتى منها: أنهم على السنة " ولهم الكرم والمروءة والأنفة وبذل الأموال والصبر في اللقاء ولزوم الغيرة والمعرفة بالشعر والسعة في الكلام؟ " ثم ينصح الإسكندر بإن يكثر لهم من المخاطبة " فإنهم يأنسون باللفظ ويميلون إلى حسن الكلام "، ويملي عليه كتابا يكتبه إليهم وفيه:" واعلموا أن الشعر جزء من أجزاء كثيرة من الحكمة فتنازعوا على طلب الحكمة (2) .. "، وفي هذا ما فيه من إقرار اليونانيين أنفسهم بما للعرب من تفوق في هذه الناحية، إلا أنها مفردة لا بد من موازنتها بسائر أجزاء الحكمة، وهذا ما يفسر؟ أو يسوغ - إقبال العرب على ترجمة حكمة اليونانيين والفرس، تتميما واستكمالا لما ينقصهم، حسبما تمليه هذه النصيحة المنسوبة لارسطاطاليس.
ولا ريب في أن موقف الجاحظ كان ينبع من إيمانه العميق بإن العرب ذوو حظ متفرد في البلاغة، وفيهم نزل القرآن لما أوتوا من ذوق أدبي رفيع، وربما زاد من تمسكه بهذه النظرة أمران: أولهما بعض النماذج الأدبية المترجمة، وهذه؟ مهما يكن حظها من الروعة في لغتها الأصلية - تفقد كثيرا من روائها وروعتها حين تقرأ في غير لغتها، والثاني أن الجاحظ كان يتخذ من هذه الفكرة سندا يدافع به عن العرب، ضد الشعوبية، وبه يثبت فضل العرب وتميزهم عن سواهم من الأمم، ويرى في شعرهم " ديوانا " كاملا للمعارف الإنسانية، ويسوءه؟ من ثم - أن يرى كتاب عصره - مدفوعين بروح معادية للعرب وتراثهم - يبحثون عن ثقافتهم في كتاب مزدك ودفتر كليلة ودمنة وأمثال بزرجمهر (3) .
(1) التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة 1: 74.
(2)
مخطوطة كوبريللي، الورقة 100، 101 - 102.
(3)
الجاحظ: رسالة في ذم أخلاق الكتاب (ضمن ثلاث رسائل) : 42.
ولا أظنه غاب عن الجاحظ أن كل أمة كانت ذات نصيب من الأدب والشاعر، وأن اليوان - بالذات - كان لديهم شعرهم الخاص بهم، وهو الذي يروي أن زوسموس اليوناني سئل كيف يعلم الناس الشاعر، وهو ليس بشاعر، فأجاب: زوسيمون كالمسن الذي يشحذ ولا يقطع (1) .
وحين يبتعد شبح الشعوبية، يصبح الإقرار بحظ الشعوب الأخرى من الشعر والأدب جملة أمرا طبيعيا، يقول الزبير بن بكار:(256/829) كان لي غلام يسوق أهجنا لي ويرطن بالزنجية شيئا يوقع عليه شبه شعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له ثم قال، إنه يقول:
فقلت لها أنى أهتديت لفتية
…
أناخوا بجعجاع قلائص سهما
فقالت كذاك العاشقون ومن يخف
…
(2) عيون الأعادي يجعل الليل سلما والشاهد أن ذلك الغلام الزنجي كان يتغنى بكلم موزون في لغته، فأما الترجمة لما قال، فإنها تومي إلى تقارب بين المعنيين، في أغلب الظن، لا أنها ترجمة دقيقة.
وفي عصر الجاحظ نفسه سمع حنين بن إسحاق (260/873) ذات مرة ينشد شعرا بالرومية لأوميرس رئيس شعراء يونان (3) ، ولا ريب في أن الذي سمعه وأدرك أنه يتغنى بشعر، وأن الشعر إنما كان لأوميرس، كان يشارك حنينا في الاطلاع على شيء من الشعر اليوناني في لغته الأصلية. وإلى حنين وغيره من التراجمة يعود الفضل في اتساع المعرفة؟ نسبيا - بدور اليونان في الشعر، حتى إذا بلغنا إلى الفارابي وجدنا أن تلك المعرفة بلغت حدا من السعة لم تتجاوزه من بعد إلا قليلا.
ويعتمد الفارابي في أحكامه نظرة موضوعية مقارنة، فهو وقف على أشعار كثير
(1) الحيوان 1: 290 (وكتب هنالك ريسموس) . وفي الكلم الروحانية لابن هندو: 80 - 81 نسب هذا القول إلى سقراط، وجاء منسوبا إلى زوسيموس في منتخب الصوان: 102 (254ط. طهران) وفي العقد 2: 268 نسب للخليل بن أحمد، وفي محاضرات االراغب الأصفهاني 1: 55 لابن المقفع.
(2)
التوحيدي: البصائر والذخائر 2: 15.
(3)
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 1: 185.
من الأمم (1) لا على أشعار العرب واليونان وحسب، فعرف أن العرب يعنون بنهايات الأبيات أكثر من سائر الأمم الأخرى، وأنهم لا يجعلون التلحين أو النغم المرافق للإنشاد جزءا من الشعر نفسه، بينما تفعل ذلك بعض الأمم الأخرى، فإذا قرئت أشعارها دون اللحن بطل وزنها (2)، ويتطرق الفارابي من ذلك إلى مشكلة أخرى وهي: إذا تمت عناصر التخيل في القول ولكنه لم يبن على وزن وإيقاع محدد، فهل يسمى شعرا؟ ويجيب على ذلك بقوله: إنه لا يعد شعرا وإنما هو: قول شعري (3) . ويقارن بين الوزن في الشعر العربي والشعر اليوناني فيرى كلا منهما قائما على وحدات تعرف عند العرب بالأسباب والأوتاد وعند اليونانيين بالمقاطع والأرجل (4) .
وإذا تناولنا الفارابي أصناف الشعر وجد أنها إما أن تتنوع من ناحية الأوزان أو من ناحية المعاني، وهو على وعي بأن العلماء المعاصرين له الذين تحدثوا عن أشعار العرب والفرس تناولها من ناحية المعاني فقسموا الأشعار إلى الأهاجي والمدائح والمفاخرات والألغاز والمضحكات والغزليات (5) ، وما ذلك إلا لأن الشعراء في جميع الأمم خلطوا أوزان أشعارهم بأحوالها، أي أنهم نظموا في المديح أو الرثاء على عدة أوزان، وانفرد اليونان بين الأمم بأن خصصوا لكل موضوع وزنا مستقلا، فوزن المدائح غير وزن الأهاجي، ووزن الأهاجي غير وزن المضحكات (6) ، فإذا قلنا إن من أنواع الشعر اليوناني الطراغوذيا والقوموذيا كان معنى ذلك أن الطراغوذيا يشمل موضوعا ووزنا يحددان طبيعته ويميزانهعن القوموذيا.
وقد عد الفارابي من أنواع الشعر اليوناني ثلاثة عشر نوعا منها الطراغوذيا وديثرمبي وقوموذيا وإيامبو وأفيقي (Epic) وريطوري (7) ، وعرف كل نوع منها، فكان مما قاله في تعريف الطراغوذيا: هو نوع من الشعر له وزن معلوم يلتذ به كل من سمعه من
(1) الفارابي: جوامع الشعر (مع تلخيص ابن رشد) : 171.
(2)
المصدر نفسه: 172.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
الفارابي: إحصاء العلوم: 65.
(5)
الفارابي: رسالة في قوانين صناعة الشعر (ضمن: فن الشعر) : 152.
(6)
المصدر السابق نفسه.
(7)
المصدر السابق: 152 - 153.
الناس أو تلاه، يذكر فيه الخير والأمور المحمودة المحروص عليها ويمدح بها مدبر والمدن، وكان الموسيقاريون يغنون بها بين يدي الملوك، فإذا مات الملك زادوا في أجزائها نغمات أخرى وناحوا بها على أولئك الملوك.
وفي تعريف ديثرمبي قال: نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا يذكر فيه الخير والأخلاق الكلية المحمودة والفضائل الانستنية، ولا يقصد به مدح ملك معلوم ولا إنسان معلوم لكن تذكر فيه الخيرات الكلية؟ وأما أيامبو فهو نوع من الشعر له وزن معلوم تذكر فيه الأقاويل المشهورة سواء كانت تلك من الخيرات أو الشرور، بعد أن كانت مشهورة مثل الأمثال المضروبة. وكان يستعمل هذا النوع من الشعر في الجدال والحروب وعند الغضب والضجر (1) .
وقد خلص الفارابي من دراسته هذه إلى أن ما شعر به أهل اللسان العربي من القوانين الشعرية بالإضافة إلى ما جاء في كتاب الشعر لأرسطو وفي كتاب الخطابة له أيضا إنما هو نزو يسير (2) ، وإذا كان هذا في ظاهره حكما على عدم اتساع النظرية النقدية عند العرب، فلا بد أن يكون حكما غير مباشر على الشعر نفسه، فقد ذهب الفارابي، وتابعه ابن رشد؟ من تصورهما الخاص لمعنى قيام الشعر اليوناني على الخير والتحبيب به ودفع الشر والتنفير منه - إلى أن الشعر العربي في أكثره منغمس في النهم والكرية (3) وزاد ابن رشد قوله: وذلك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق، ولذلك ينبغي أن يجنبه الولدان، ويؤذبون من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فإنه ليس تحث العرب في أشعارها من الفضائل على شيء سوى هاتين الفضيلتين، وإن كانت ليس تتكلم فيهما على طريق الحث عليهما وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر (4) . وقال في موضع آخر: ولكون أشعار العرب خلية من مدائح الأفعال الفاضلة وذم النقائض أنحي الكتاب العزيز عليهم (5) .
(1) انظر المصدر السابق: 153 - 154.
(2)
ابن رشد: تلخيص كتاب ارسطاطاليس في الشعر (ضمن: فن الشعر) : 250، وتلخيص (سالم) :163.
(3)
تلخيص ابن رشد: 250 و (سالم) : 67.
(4)
المصدر السابق.
(5)
تلخيص ابن رشد: 229 و (سالم) : 123.
وفي المائة سنة التي تلت وفاة الفارابي (339/950) تواجهنا ظاهرة تلفت النظر حقا، وهي زيادة الاهتمام بأدب الحكمة اليوناني: كان قسم كبير من هذا الأدب قد ترجم في فترة مبكرة، فكان هم المثقفين في الحقبة التي أشير إليها أن يجدوا النظر فيما كان قد ترجم، وأن يعيدوا إبرازه، أو أن يترجموا أشياء جديدة لم تكن قد ترجمت من قبل (1) . وهنا علينا أن نلحظ أمرا هاما راعاه أولئك المثقفون أو بعضهم، فإنهم كانوا حريصين على الفصل بين أدب الحكمة وبين الشعر، كذلك فعل أبو سليمان المنطقي في الفصل الذي عقده لاوميرس (2) ، وعلى ذلك جرى ابن هندو في " الكلم الروحانية " فإنه بعد أن نسب الأقوال الحكمية لكل فيلسوف على حدة، عقد فصلا خاصا بعنوان " مما نقل من أشعارهم إلى العربية (3) "، ومن بعد تلك الحقبة التزم الشهرستاني (548/1153) بهذا المبدأ، وخاصة في ترجمة أوميرس، جريا على ما أختطه أبو سليمان (4) . وقد كان لهذا الفصل بين النوعين قيمة محدودة ذلك لأنه دل بأمانة على مصادر الترجمة، ولكن طبيعة الشعر المترجم، كانت شديدة الشبه بالأقوال الحكمية، حتى ليمكن القول إن هذا الشعر لم يترجم إلا لأنه كان يمثل وجها من وجوه الحكمة اليونانية، وأن روعته الشعرية لم تكن هي لحافز الأول على الاهتمام به. وإذا كانت تلك النماذج الشعرية قد أثبتت أن الشعر لم يكن مقصورا على العرب، فإنها لم تزد على أن أكدت أن اليونان قوم حكماء، وأن حكمتهم لا تقل في أهميتها عن " أدب " الفرس.
من هنا يتبين لنا أن طلاب الثقافة اليونانية وقعوا في دائرتين مغلقتين، فهم إما عرفوا منزلة اليونان في الشعر، وبعض النماذج الشعرية، عن طريق كتابي الشعر والخطابة لارسطاطاليس وما حولهما من شروح كشرح ثامسطيوس، وإما عرفوا أقوالا شعرية؟ غير دقيقة النسبة - لا تفترق في كثير عن الحكم. ولا نعرف أحدا استطاع أن يخرق هاتين الدائرتين سوى أبي الريحاني البيروني (بعد 442/1050) وسبب ذلك أن أبا الريحان لم يقع كما وقع الفارابي وابن سينا وابن رشد ضحية لنماذج أدبية لا يعرفها، كما يقع من يقرأ " كتاب الشعر " دون أن يعرف حقيقة المأساة والملهاة مثلا، وإنما كانت
(1) سيجيء الحديث عن هذا الأدب في موضعه من هذه الدراسة، انظر الفصل التاسع.
(2)
انظر منتخب صوان الحكمة، الورقة: 71 وما بعدها، وصوان الحكمة:(طهران) 193 - 194.
(3)
الكلم الروحانية:135.
(4)
انظر ترجمة أوميرس في الملل والنحل 2: 164 - 167.
مصادره علمية تستشهد بالأدب، وعلى هذا قد تكون معرفته بالأدب اليوناني عارضة، ولكنها؟ في النهاية - معرفة دقيقة لارتباطها بالحقائق العلمية. بل لعل طبيعة الموضوعات التي عالجها البيروني في كتابيه " تحقيق ما للهند من مقولة " و " الآثار الباقية عن القرون الخالية " هي التي جعلته ينطلق إلى جذور الأدب اليوناني، لا إلى الأدب وحسب، وأعني بذلك الأسطورة اليونانية نفسها، وهي التي تحاشاها كل من كتب قبله، لأنها قد تتعارض والإيمان بالتوحيد. ولعل بعض الأمثلة التالية يوضح ما أعنيه:
(1)
ولدزوس (Zeus) في جبل ديقطاون (Dicte) في قريطي (Grete) حيث كانت والدته تخبؤه من أبيه قرونس (Gronus) لئلا يبتلعه كما ابتلع غيره، ثم ما في التواريخ المشهورة من تزوجه بالنساء المعروفات واحدة بعد أخرى وإحبال بعض منهن مغصوبات غير منكوحات، ومنها أورفة (Europa) بنت فونيكوس (Phoenix) الذي أخذها منه أسطارس (Asterius) ملك اقريطي وأولدها بعده مينوس (Minos) وردمنتوس (Rhadamanthys) وذلك بعد زمان خروج بني اسرائيل من التيه إلى فلسطين، وما ذكر أنه مات بأقريطي ودفن بها في زمان شمسون الاسرائيلي، وله سبع مائة وثمانون سنة، وأنه سمي زوس لما طال عمره بعد أن كان يسمى ديوس (Deus) وأن أول من سماه بهذا الأسم ققرفس (Gecrops) الملك بأثينية؟. (1) .
(2)
إن نقطانيبوس (Nectanebus) ملك مصر لما هرب من أردشير الأسود واختفى في مدينة ما قيدنيا (Macedonia) يتنجم ويتكهن، احتال على اولمفيذا (Olympias) أمرأة بيلبس (Philippus) ملكها وهو غائب حتى كان يغشاها خداعا ويري نفسه على صورة أمون الإله في شبح حية ذات قرنين كقرني الكبش إلى أن حبلت بالأسكندر، وكاد بيلبس عند رجوعه أن ينتفي منه وينفيه، فرأى في المنام أنه نسل الإله آمون، فقبله وقال: لا معاندة مع الآلهة (2) .
(3)
فإن اراطس (Aratus) يقول في ظاهراته ورموزه على البرج السابع: تأمل
(1) أبو الريحان البيوني: تحقيق ما للهند: 46 - 47.
(2)
تحقيق ما للهند: 47.
تحت رجلي البقار؟ أي العواء - في الصور الشمالية العذراء التي تأتي وبيدها السنبلة المنيرة؟ يعني السماك الأعزل - وهي إما من الجنس الكوكبي الذي يقال إنه أبو الكواكب لبقديمة، وإما متولدة من جنس آخر لا نعرفه، وقد يقال إنها كانت في الزمن الأول مع الناس في حيز النساء غير ظاهرة للرجال، واسمها عندهم العدل (Justice) وكانت تجمع المشيخة والقوام في المجامع والشوارع، وتحثهم بصوت عال على الحق، وتهب الأموال التي لا تحصى، وتعطي الحقوق، والأرض حينئذ تسمى ذهبية، وما كان أحد من أهلها يعرف المراء المهلك في فعل أو قول، ولا كان فيهم فرقة مذمومة، بل كانوا يعيشون عيشا مهملا، وكان البحر مرفوضا غير مركوب بسفن، وإنما كانت البقر تأتي بالمير. فلما أنقرض الجنس الذهبي وجاء الجنس الفضي عاشرتهم غير منبسطة، واختفت في الجبال غير مخالطة للنساء كما كانت من قبل، ثم كانت تأتي عظام المدن وتنذر أهلها وتعيرهم على سوء الأعمال وتلومهم على إفساد الجنس الذي خلفه الآباء الذهبيون وتخبرهم بمجيء جنس شر منهم، وكون حروب ودماء ومصايب عظيمة، فإذا فرغت عنهم إلى الجبال، إلى أن انقرض الفضيون، وصار الناس من جنس نحاسي، فإستخرجوا السيف الفاعل للشر، وذاقوا لحم البقر، وهم أول من فعل ذلك، فأبغضت العدل (Justice) جوارهم، وطارت إلى الفلك: وقال مفسر كتابه: إن هذه العذراء هي بنت زوس وكانت تخبر الناس في المجامع بالشرائع العامية، والناس حينئذ خاضعون للحكام، غير عارفين بالشر والخلاف، لا يخطر ببال أحد منهم شغب ولا حسد، يعيشون من الحرث ولا يسلكون البحر في تجارة أو حرص، وهم على طبيعة في الصفاء كالذهب، فلما انتقلوا من تلك السيرة وصاروا غير حافظين للحق لم تعاشرهم العدل، ولكنها كانت تشاهدهم وتسكن الجبال، فإذا أتت محالفهم بكراهة هددتهم، لأنهم كانوا ينصتون لقولها كآبائهم، ومن أجل ذلك لم تكن تظهر للذين يدعونها كما كانت تفعل أولا، فلما أتى الجنس النحاسي بعد الفضي واشتبكت الحروب ونشأ الشر، عزمت على أن لا تكون معهم البتة وأبغضتهم وصارت إلى الفلك (1) .
(4)
ومن أساطير اليونانيين أن أيفسطس (Hephaestus) عشق أثينا (Athene) وراودها فدافعته حفظا للعذرة، واختفى لها في بلاد أثنية، وأراد القبض عليها فطعنته
(1) تحقيق ما للهند: 192 - 193.
بحربة حتى تركها، وأرسل النطفة على الأرض فكان منها أرقتونيوس (Erichthonius) وأنه جاء على عجلة مثل رخ الشمس ومعه ممسك الأعنة (the Gharioteer) راكب (1) .
لقد كانت الأسطورة هي الحجاب الكثيف دون فهم الشعر اليوناني وتذوقه، ترى لو أنها وجدت؟ في تاريخ مبكر - تسامحا في التقبل كالذي فعله البيروني، هل كانت تؤدي إلى لقاء من نوع آخر بين الأدبين اليوناني والعربي؟
ويختلف البيروني عمن سبقه اختلافا جوهريا، لعله من أثر اطلاعه على أساطير يونان والهند، وإجراء المقارنات بينهما، وذلك أنه لم يحاول أن يسخر حكمة اليونان وأدبهم، أو يحورهما، في سبيل خدمة التوحيد، إى قليلا كأن يعتقد أن ما يسميهم الحنفاء آلهة إنما هم الملائكة؟ نقلا عن أفلاطون في طماوس (2) - إذ كان يعرف أن زوس مثلا يجمع عندهم بين البشرية وما لا يتصل بالبشرية، ويقرأ في افتتاح كتاب اراطس في الظاهرات قوله في تمجيد زوس: وأنه الذي نحن معشر الناس لا ندعه ولا نستغني عنه، ملأ الطرق ومجامع الناس، وهو رؤوف بهم مظهر للمحبوبات، ناهض بهم إلى العمل، مذكر بالمعاش، مخبر بالأوقات المختارة للحفر والحرث (3) ؟. " ويردد مع جالينوس قوله:" نحب أن نعرف أي زوس عنى اراطس: الرمزي أم الطبيعي لأن اقراطس الشاعر سمى الفلك زوس (4) ؟ "، أما من عداه، فأنهم لخضوعهم لفكرة التوفيق بين الدين والفلسفة سارعوا إلى اكتساب المفهومات اليونانية معاني إسلامية توحيدية، ذلك شيء يكاد يكون عاما في الفلسفة، غير أنه امتد أيضا إلى الأدب نفسه، ولعل القول الذي اقتبسه أبو سليمان المنطقي من أوميرس يوضح ذلك، فقد قال أوميرس:" لا خير في كثرة الرؤساء (5) "، وهو قول يعود إلى الالياذة (20402) وإن كان ناقصا. (6)
(1) تحقيق ما للهند: 202 - 203.
(2)
تحقيق ما للهند: 17،46.
(3)
المصدر السابق: 47.
(4)
المصدر السابق: 48.
(5)
منخب صوان الحكمة، الورقة: 71، صوان الحكمة: 193 (طهران) .
(6)
J. Kraemer: Arabische Homerverse، in ZDMG 109 (1956) p.280
(يشار إليه فيما يلي باسم كريمر) .
وحين يعلق عليه المنطقي؟ ويتابعه في ذلك الشهرستاني - بقوله " وفي هذا كفاية لمن تأمل ريع هذه الكلمة واحتواها على معان جليلة جعلها كل من تكلم في التوحيد من الفلاسفة والمتكلمين بعده قدوة وعمدة فيما أثبتوه من ذلك "(1) نعلم أن المعنى اتخذ في خدمة غرض غير الذي وضع له، ومن الطبيعي تبعا لهذا المنهج طمس أكثر الدلالات الوثنية عند نقل الأشعار اليونانية، وربما لم يبق من هذه الدلالات إلا إثارة باهتة هنا وهنالك، كما في هذا القول المنسوب إلى أوميرس:" إن المغلوب من قاتل الله البخت (2) ".
وقد كان من أثر النظر إلى الشعراء اليونانيين والشعر اليوناني من خلال منظار الحكمة، نشوء تصورات خاصة بالشعراء أنفسهم، فليس شعرهم في معظمه حثا على الفضائل وحسب، وإنما هم أنفسهم أيضا ذوو منهج سلوكي خاص، فهم يترفعون عن الإسعاف في المهاترة، ويوجهون الأقوال اللاذعة عن طريق التلميح والتمثيل، وهذا هو معنى قول ابن بطلان:" بلغنا عن شعراء اليونانيين أنهم كانوا إذا راموا في الهجاء إمضاء عزيمة القوة الغضبية لم يخرجوا بذلك عن تدبير الناطقة (3) ".
ثم إن اتقان البيروني للغة السنكريتية منحه بعدا جديدا في النظر، فهو شغوف بإجراء المقارنات بين الهنود واليونان والعرب، كلما وجد إلى ذلك سبيلا، غير أنه لم يتحدث عن قواعد الشعر أو أصول البلاغة عند الهنود وإنما وقف وقفة طويلة عند علم العروض، لأهمية هذا العلم عندهم، إذ يجعلون كتبهم في سائر العلوم منظومة حتى يسهل استظهارها (4) ، وكما عمل العرب " من الأفاعيل قوالب لأبنية الشعر وأرقاما للمحرك منها والساكن يعبرون بها عن الموزون، فكذلك سمى الهند لما تركب من الخفيف والثقيل
(1) منتخب صوان الحكمة، الورقة: 71 وصوان الحكمة (طهران) : 193 والشهرستاني، الملل والنحل 2: 164 - 165.
(2)
الملل والنحل 2: 166 والكلم الروحانية: 39 وانظر كريمر: 309
و M. Uimann: Die Arabische Uberlieferung der Sogenannten Menander - sentenzen، Wiesbaden (1961) No 168، P. 37.
(ويشار إليه باسم: أولمان أو الأقوال المناندرية فيما بعد) .
(3)
خمس رسائل لابن بطلان وابن رضوان: 62.
(4)
تحقيق ما للهند: 65 - 66 وانظر ص: 72 - 73 حيث يشير الى أن اليونانيين كانوا يذهبون مذهب الهند في نظم العلوم.
بالتقديم والتأخير وحفظ الوزان في التقدير دون تعديد الحروف ألقابا يشيرون بها إلى الوزن المفروض (1)"، والبيت الشعري عند الهنود يتكون كما في العربية من شطرين، يسمى كل واحد منهما رجلا " وهكذا يسميها اليونانيون أرجلا (2)"، ويثني البيروني من ثم على الخليل بن أحمد لأنه كان موفقا في الاقتضابات، ولكنه لا يستبعد أن يكون الخليل قد سمع عما لدى الهند من موازين شعرية، كما ظن به عض الناس (3) . وصلة الخليل بالثقافات الأجنبية؟ سواء أكانت هندية أو يونانية - موضوع تحوم حول الظنون، ولم يكن البيروني منفردا في الإشارة إليه. ولعل الأسطورة التي رواها الزبيدي إنما هي تعبير غير مباشر عن الظن في أنه كان يعرف اليونانية، فقد قال الزبيدي: " ويروى أن ملك اليونانية كتب إلى الخليل بن أحمد كتابا باليونانية، فخلا بالكتاب شهرا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، فقال: قلت إنه لا بد من أن يفتتح الكتاب ببسم الله أو ما أشبهه، فبنيت أول حروفه على ذلك، فاقتاس لي (4) ". ولما تحدث شمس الدين محمد بن ابراهيم بن ساعد الانصاري أستاذ الصفدي عن عروض الشعر اليوناني، قدر أن الخليل ربما وصل إلى علمه شيء من عروض يونان (5) .
وبعد اليروني وابن بطلان قل أن نجد رغبة أصيلة في الكشف عن منابع جديدة في أدب يونان، فإذا التقينا دارسا مخلصا للمعرفة كالشهرستاني (548/1153) وجدناه يتكىء على مصادر القرنين السابقين، وليس الحديث عن الشعر اليوناني عنده إلا مكملا للصورة العامة التي يريد رسمها للفكر اليوناني، وقد أصاب الشهرستاني حين ذكر أن وجود الشعر في أمة يونان كان قبل الفلسفة (6) ، ولكنه خالف كل من تقدمه في قوله إن الشعر اليوناني لا يعتمد على وزن، وأن الوزن ليس ركنا في الشعر عندهم " بل الركن في الشعر إيراد المقدمات المخيلة فحسب، ثم قد يكون الوزن والقافية معينين
(1) المصدر السابق: 67.
(2)
المصدر السابق: 68.
(3)
المصدر السابق: 71.
(4)
الزبيدي: طبقات النحويين واللغويين: 51.
(5)
الصفدي: الغيث المسجم 1: 30.
(6)
الملل والنحل 2: 167 وهذا ليس رأيا أصيلا له، وانما يتابع فيه أبا سليمان المنطقي، انظر منتخب صوان الحكمة: 11 والصوان (طهران) : 592.
في التخيل (1) "، وقد تقدم رأى الفارابي في هذا الموضوع، وهو حتما أدق مما قاله الشهرستاني.
وقد أصبح ما أورده ابن سينا في كتاب " الشفاء " عن الشعر والخطابة أهم مرجع للدارسين الذين يعنون بالثقافة اليونانية. فعلى ذلك الكتاب اتكأ صاحب لابن الأثير (637/1239) وهو يحاوره في شؤون النقد والبلاغة، واستنتج ابن الأثير حين أطلع عليه أن كل الذي ذكره ابن سينا " لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا "، يقول ابن الأثير:" ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكر لأبي علي ابن سينا في الخطابة والشعر، وذكر ضؤوبا من ضروب الشعر اليوناني يسمى اللاغوذيا (لعلها: طراغوذيا) وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي، ووقفني على بعض ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته، فإنه طول وعرض، كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا (2) ".
وواضح أن ابن الأثير لم يدرك أن أبن سينا يعرض كتابا يونانيا أو كتابين يونانيين وأنه لا ينشىء قولا في الشعر من عند نفسه، ثم إنه جمع بين الخطأ والصواب في جملة واحدة حين قال:" لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا " فهو ليس لغوا، ولكن صاحب الكلام العربي لا يستطيع حقا الإفادة منه لأنه لم يكن لديه ذلك النوع من الشعر المسمى " طراغوذيا ". غير أن ابن الأثير أساء فهم ما قرأه من وجه آخر، فهو قد ظن أن الإنشاء الشعري يقوم على نحو منطقي من متقدمين ونتيجة، وأعاد إلى الذهن ذلك الصراع القديم بين الشعر والمنطق حسبما أوجزه البحتري في قوله:
كلفتمونا حدود منطقكم
…
الشعر يغني عن صدقه كذبه ولهذا نجده يقول: " بل أقول شيئا آخر وهو أن اليونان أنفسهم لما نظموه
(1) الملل والنحل 2: 153.
(2)
ابن الأثير: المثل السائر 1: 311 - 312.
من أشعارهم لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ونتيجة، وإنما هذه أوضاع توضع ويطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر (1) ".
فإذا انتقل ابن الأثير إلى ميدان آخر ذي شواهد واضحة فارقته غلواؤه، وهذا الميدان هو الأدب الفارسي، ففي معرض حديثه عن الفرق بين الشاعر والناثر، وأن الأول إذا قال قصيدة من مائتي بيت أو أكثر لا يجيد في كل بيت، وأن الكاتب مهما يطل فهو مجيد في كل ما يأتي، التفت إلى الشعر الفارسي فقال:" وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها. فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاهنامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحائهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر (2) ". وليس هذا موضع مناقشة ابن الأثير في المقارنات المختلة التي يجريها هنا، وإنما أوردت ذلك للدلالة على أنسه بالمعرفة لما يجري عند الفرس، حين كان صيت الشاهنامه ذائعا، والبنداري قد ترجم بعضها إلى العربية (بين 615 - 624) ، ونفرته من الأدب اليوناني، لجهله به وعدم وجود نماذجه لديه، وربما كان ابن الأثير يعرف الفارسية، فهناك في أقواله ما يوهم أنه كان يعرفها ويعرف لغات أخرى من بينها اليونانية، وإذا كان من الممكن التسليم بمعرفته للفارسية، لشيوعها في العصر الأيوبي، فمن المستبعد أن تكون اليونانية بين اللغات التي يعرفها (3) .
(1) المصدر السابق.
(2)
المثل السائر 2: 418 - 419.
(3)
يقول ابن الأثير " ومما وجدته في لغة الفرس "(المثل السائر 2: 281) وهذا قد يعني معرفة وقد يعني نقلا عن كتب مترجمة، ثم يحكي أن خطيب ملطية عرض عليه قصيدة في مائة بيت كل عشرين بلغة من هذه اللغات: العربية والفارسية والتركية والرومية والأرمنية، ويضيف أنه كان أفصح في سائر اللغات منه في العربية، مما حمل محققي " الجامع الكبير " أن يقولا إنه كان يعرف أربع لغات أخرى (انظر المقدمة: 32) ومن استطاع أن يقارن بين المستويات في خمس لغات فلا بد أن يتقنها بأنصباء متقاربة، وهذه دعوى لا تصح.
وكان كتاب الشفاء أيضا معتمد حازم القرطاجني (684/1285) في تصوره للشعر اليوناني، فهو ينقل عن ذلك الكتاب في غير موطن من كتابه:" منهاج البلغاء وسراج الأدباء " ومن خلاله يكرر ما قاله الفارابي وابن سينا عن اعتماد كل نوع شعري عند اليونان على وزن حاص (1) . ويضيف إلى ذلك ثلاثة مفهومات أخرى وهي:
1 -
أن الشعر اليوناني يرتكز إلى الأساطير والخرافات التي تفترض وجود أشياء لا حظ لها من الواقعية.
2 -
أن الشعر اليوناني أيضا يتكئ على خرافات حول أمور موجودة، تشبه خرافات كليلة ودمنة وخرافة " ذات الصفا " التي ذكرها النابغة الذبياني.
3 -
أن لهم طريقة خاصة في الشعر يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه وتنقله (2) .
فإذا تجاوزنا هذه المفهومات لم نجد لليونان نصيبا كبيرا في الشعر، ولهذا ما يزال حازم يعتقد أن الشعر اليوناني ضيق المجال إذا هو قيس بالشعر العربي، ويذهب إلى أن " أرسطو " لو عرف الإبداع في الشعر العربي لزاد ما وضع من القوانين الشعرية (3)، وهو قول يناقض ما قاله الفارابي (4) . وإنما جرا حازما على قوله هذا ما وعد به ابن سينا في آخر كتاب الشعر بقولة:" ولا يبتعد أن نجتهد نحن فنبدع في علم الشعر المطلق؟ كلاما شديد التحصيل " فكأن حازما ظن أن ابن سينا كان ينوي أن يضيف قواعد جديدة؟ بناء على الشعر العربي - إلى القواعد التي وضعها أرسطاطاليس (5) .
وقد يحسن بنا أن نتوقف هنا، لنتذكر طبيعة التحول الذي طرأ على فكرة الجاحظ بأن " فضيلة الشعر مقصورة على العرب "، وكيف ساعد الانفتاح على الأمم الأخرى
(1) منهاج البلغاء: 68.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
منهاج البلغاء: 69.
(4)
راجع ما تقدم ص: 28.
(5)
في عرض آراء حازم في النقد أنظر، تاريخ النقد الأدبي: 539 - 574.
ولغاتها وآدابها في توسيع دائرة التعرف والمقارنة، وكأنما كان ابن خلدون يلخص هذه الدورة الطويلة من التطور ويرد على الجاحظ ومن ذهب مذهبه حين يقول:" أعلم أن الشعر لا يخص بالسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغة، سواء كانت عربية أو عجمية، وقد كان الفرس شعراء وفي اليونان كذلك، وذكر منهم في كتاب المنطق أوميرس الشاعر وأثنى عليه، وكان في حمير أيضاً شعراء متقدمون (1) ".
(1) مقدمة ابن خلدون: 1314 - 1315.