الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" 3 "
الخلط بين أوميرس وايسوبيوس (ايسوب)
يعطينا المثل الذي أوردناه عن سقراط؟ فيما تقدم - مثلا لاستقطاب شخصية ما، عناصر متفرقة من شخصيات أخرى، ومثل هذا الشيء نفسه حدث في حال أوميرس، فإن إبراز دور الحكيم واختفاء شخصية الشاعر الملحمي، قد أفسح المجال لا لتنسب أقوال غيره إليه وحسب، بل لتضفي عليه صفات وخصائص مستمدة من شخصيات أخرى. ذلك نوع من محاولة خلق " النموذج " وهو أمر يكاد يكون ميلا مستقرا في الجبلة العربية، نشهده في الأمثال وسير الرجال ومجالات التفوق، فامرؤ القيس " نموذج " شعري، مثلما أن حاتما نموذج مطلق في الكرم، وذلك شلأن قيس في الحب. ولم يكن الأخذ بنسبة الاشعار المناندرية والاقوال الحكمية إلى أوميرس، ولا أنصراف لفظة " الشاعر " اليه عند ابن رشد، إلا نوعا من هذا التصور، أسعف عليه خطأ محبب في طبيعة المصادر المعتمدة.
حكى أوميرس أن رجلا من الفلاسفة كسر به في البحر فقال: أيها الناس اقتنوا ما إذا كسر بكم في البحر سبح معكم فإذا سلمتم به يبقى عليكم وهي العلوم والفضائل (1) . إن هذه الحكاية على هذا النحو المقتضب محفوفة بشيء من الغموض، وهي تنسب للشاعر سميونيدس (556 - 468 ق. م) فقد ذكر أن سميونيدس قام برحلة لزيارة مدن آسيا (الصغرى) ليمدح الفائزين في الألعاب الأولمبية، وفيما هو في السفينة هبت عواصف
(1) الكلم الروحية: 90.
شديدة جعلتها تجنح بركابها، فكل من كان على ظهر السفينة؟ عدا سيمونيدس - كان لديه ما يحرص على حمله رجاء أن ينتفع به إذا كتبت له السلامة، ووصل الشاعر إلى البر وغرق كثير ممن أثقلوا أنفسهم بحمل الحوائج، ولما وصل سيمونيدس والقلة الذين نجوا إلى مدينة كلازوميني (Clazomenae) أقرب المدن إلى المكان الذي وصلوا إليه، التقى سيمونيدس من عرفه من لحن القول، لأنه كان معجبا بشعره، فرحب به وأكرمه، أما بقية الناجين فأخذوا يستجدون الناس ليقيموا أودهم، وبذلك كانت فضيلة الشعر التي يحملها سيمونيدس أينما توجه هي السبب في ما لقيه من بر وإكرام. وقال سيمونيدس للقوم الذين نجوا:" لقد أخبرتكم أنني أحمل معي جميع مقتنياتي، أما أنتم فقد ضيعتم ما كنتم تقتنون، في هذه العجلة "(1) . وفي رواية مختار الحكم: أن الحكيم الذي كسر به المركب، عمل شكلا هندسيا على الأرض، فرآه قوم فمضوا به إلى ملك تلك الجزيرة، فوقع بأن يكتب إلى سائر البلدان:" أيها الناس اقتنوا ما إذا كسر بكم البحر مركب سار معكم، وهي العلوم الصحيحة والأعمال الصالحة "(2) . ومناللافت للنظر أن هذه الرواية تعلي من شأن العلم، بينما تذهب الرواية اليونانية إلى إبراز قيمة الشعر، ولكن الروايتين تومئان إلى مدلول واحد، وهي ترجيح القنية الفكرية على القنى المادية، ومثلهما في هذا الصدد رواية ثالثة تحكى عن ديوجانس وهي أنه مر بعشار فقال له العشار: أمعك شيء، فقال: نعم ووضع مخلاته بين يديه ففتشها العشار فلم يجد فيها شيئا، فقال: أين ما قلت؟ فكشف عن صدره وقال: ها هنا حيث لا تقدر عليه ولا تراه (3) .
(1) Phaedrus (in Babrius and Phaedrus) PP. 337 - 339،
(2)
مختار الحكم: 32، وقد رويت القصة على نحو مختلف في المنتخب من صوان الحكمة: 217 (طهران) عمن اسمه ارسطيس، وكان رجلا ثريا فعثر به الدهر، فركب البحر وانكسر به المركب ورسى به إلى الشط فرأى في شط بحر شكلا هندسيا في بناء هنالك، فاطمأن لأنه علم أنه وقع إلى قوم حكماء، فدخل المدينة، وخالط أهلها واسترد ثراءه السابق، ثم أنه رأى قوما يريدون ركوب البحر ذاهبين إلى بلده فسألوه هل يريد أن يرسل شيئا لأهله فقال قولوا لهم: ليكن ما تكتسونه وتقتنونه شيئا إذا كسر بكم المركب وغرقتم كان يسبح معكم.
(3)
ابن دريد: المجتنى: 51 والكلم الروحية: 110 ومختار الحكم: 81 ومنتخب صوان الحكمة: 28 وصوان (طهران) : 171، ويقول الاستاذ روزنتال إن هذا الموضوع شائع في الأدب اليوناني، انظر:
Sayings of the Ancients in Ibn Durayds Kitab al - Mujtana Orientalia 27 (1958) P. 33، No. 6،
فإذا لم نقل إن شخصية أوميرس تلتبس هنا بشخصية سيمونيدس أو ديوجانس (لأنه يروي الحكاية عن غيره) ، فإنه يصلح أن يكون رمزا لهذا المفهوم الذي تعبر عنه الروايتان، ويشترك مع كل من الشاعر والحكيم في نظراته إلى بعض شئون الحياة. وهذا قد يكون شيئا طبيعيا مقبولا، غير أن الأمر الذي يستوقف النظر ويثير الدهشة حقا التباس شخصية أوميرس بشخصية ايسوبيوس (ايسوب: ايجازا) ، إن قلة المعلومات التاريخية التي لدينا عن الشاعر لا تمكن المرء من أجراء المقارنات بين الأخبار المروية عنه وعن إيسوب، كما أن قلة هذه المعلومات ربما كانت السبب في إفساح المجال لذلك الخلط بين الشخصيتين، بالإضافة إلى أسباب أخرى، أشرت إلى نماذج منها فيما تقدم.
فالحديث عن أسر أوميرس وبيعه واسترقاقه وإقامته في الرق مدة طويلة ثم عتقه بعد ذلك، وما يتصل بهذه الأحداث من أقوال (1) إنما هو ترديد لقصة إيسوب التي قد تكون بدورها أيضا قصة ملفقة من عدة قصص، للخيال فيها دور كبير (2) . روى المبشر بن فاتك أن أوميرس لما عرض للبيع قال له الذي أراد شراءه: أترى أن أشتريك؟ فقال له: بعد لم تشترني، أمشيرا في مالك جعلتني (3) ؟ ووردت هذه القصة في المجتنى لابن دريد على نحو مقارب:" وأسرييوش وأراد رجل شراءه فقال له: أشتريك؟ فقال كيف تشتريني وأكون لك عبدا بعد ما اتخذتني وزيرا (يريد بعدما شاورتني في ابتياعي) (4) ، واسم اسيوش قد يقرأ بسهولة " أيسوبيوس " والقصة واردة في ترجمة ايسوب عندما أراد شراءه ختنثوس (Xanthus) الفيلسوف (5) . وعلى هذا السياق نفسه يمكن أن تحمل الرواية الأخرى التي جاء فيها: واشتراه بعضهم فقال له: لأي شيء تصلح، فقال: للحرية (6) ، فإن أقوى الروابط بين شخصيتي أوميرس وايسوب
(1) مختار الحكم: 30.
(2)
انظر حياة إيسوب في:
Lioyd W. Daly: Aesop without Morals (New York، London، 1961) PP. 11 - 90.
ويشار إليه باسم " دالي ".
(3)
مختار الحكم: 30.
(4)
المجتنى: 52 وانظر أيضا منتخب الصوان: 91 (232 ط. طهران حيث كتب اسونس) .
(5)
انظر دالي: 43، وروزنتال رقم:17.
(6)
مختار الحكم: 30.
أن كليهما يحسن الإجابة الحادة المسكتة ويستطيع أن يفاجئ السائل غير ما قد يتوقعه من جواب، فإذا سأل: من أين أنت؟ (مثلا) قال: من أبي وأمي (1) .
ويتصور إن البطلان الشاعر أوميرس نموذجا للطريقة اليونانية لدى الشعراء، فهو إذا هاتره أحدهم لم يهجه مباشرة وإنما رد نازعا بمثل خرافي، فقد جاءه مرة أبانو الماجن فقال: اهجني بهجائك إذا لم أكن أهلا لمديحك، فقال اوميرس: لست فاعلا ذلك أبدا، فقال له: إني أمضي إلى رؤساء اليونانيين وأشعرهم بنكولك، فقال له مرتجلا: بلغنا أن كلبا حاول قتال أسد بجزيرة قبرص، فامتنع الأسد أنفة منه، فقال له الكلب: إني لأشعر السباع بضعفك، فقال السبع: لأن تعيرني الأسد بالنكول عن مبارزتك أحب إلي من أن ألوث شاربي بدمك (2)(وهي القصة التي تروى عن الحمار والخنزير البري عند فايدرس 1: 29)(3) .
ومرة أخرى لجأ أوميرس إلى هذه الطريقة نفسها حين افتخر عليه إبرخس (Hipparchus) الشاعر بكثرة الشعر وسرعة العمل وعيره ببطء عمله وقلة شعره، فقال أوميرس: بلغنا أن خنزيرة بإنطاكية عيرت لبوة بطول زمان حملها وقلة الولد فافتخرت عليها بضد ذلك، فقالت اللبوة: لقد صدقت، إني ألد الولد بعد الولد، ولكن أسد (4) (وتروى عن اللبوة والثعلب في قصص إيسوب (5) وهي كذلك في الكلم الروحانية: 131 وابن العبري: 50) .
ويمكننا أن نرد هذا التوافق بين الشخصيتين وأقوالهما وطريقتهما إلى الأسباب العامة التي ذكرناها عند الحديث عن الاضطراب في نسبة القول الواحد إلى غير واحد من الناس، ولكن لا بد من أن نضيف هنا شيئا آخر، وهو أن المجموعة التي تعرف باسم
(1) منسوبة لاوميرس في مختار الحكم: 30 ولايسوب عند دالي: 42.
(2)
خمس رسائل، مخطوطة الموصل الورقة: 162 وتاريخ الحكماء: 67 (ويبدو أنه نقلها عن ابن بطلان) .
(3)
Phaedrus، Book 1، P. 225.
(4)
خمس رسائل، مخطوطة الموصل: 162 وتاريخ الحكماء: 70.
(5)
دالي رقم: 257 ص: 200 وتحريج المصادر الأخرى في:
Babrius، Appendix No. 257.
خرافات ايسوب، لم تكن بطبيعة الحال من تأليف رجل واحد، وإنما تمثل تراثا واسعا، بعضه يوناني وبعضه غير يوناني، وأن اليونان عرفوا هذا اللون من الخرافات في عهد مبكر، يرقى إلى أيام ايسيودس (Hesiod)(1) ، وليس ثمة ما يمنع أن يرقى إلى أيام أوميرس نفسه. وقد كان هذا اللون من الأدب شفويا وشعبيا في آن معا، يدور على الالسنة، ويستغله المتمثل به بحسب مقتضى الحال أما لعبرة أخلاقية أو لتوضيح مسألة أو لتأكيد موقف جدلي (2) . وقد أشار أرسطاطاليس إلى أهمية هذا اللون وفائدته في الخطابة وأورد ابن سينا مثالين من تلك الخرافات: أحدهما قول أحد المشيرين لقومه: إياكم وأن تصيروا بحالكم إلى ما صار إليه الفرس، عندما زاحمه الأيل في مرعاه ونغصه عليه ففزع إلى إنسان من الناس يعتصم بمعونته ويقول له: هل لك في إنقاذي من يدي هذا الايل؟ فأنعم الإنسان له الإجابة على شرط أن بالتقام ما يلجمه، وبتمطيته ظهره وهو ممسك قضيبا، فلما أذغن له صار فيما هو شر له من الايل، والثاني قول آخر: إني أوصيكم أن تستنوا بسنة الثعلب الممنو بالذبان، فقال له: وما فعل ذلك الثعلب؟ قال: بينما ثعلب يعبر نهرا من الأنهار إلى العبر الآخر إذ اكتنفته القنصة وحصل في حومة الكلب، فلم ير لنفسه مخلصا غير الانقذاف في وهدة غائرة انقذافا أثخنه، وكلما راود الخروج منه أعجزه، فلم ير إلا الاستسلام، وهو في ذلك إذ جهدته الذبان محتوشة إياه، وإذا في جواره قنفذ يشاهد ما به من الغربة والحيرة ولذع الذباب وانحلال القوة، فقال له: هل لك يا أبا الحصين في أن أذب عنك؟ فقال: كلا، ولا سبيل إلى ذلك، وإنه لمن الشفقة الضائرة ومن البر العاق، فقال له القنفذ: ولم ذلك؟ قال: اعلم أن هؤلاء الذبان قد شغلت المكان فلا موقع لغيرهم من بدني، وقد امتصت ريها من دمي، فهي الآن هادئة، فإن ذبت خلفها جماعة أخرى غراث كلبي تنزف بقية دمي (3) .
كذلك فإن العناصر التي يمثلها إيسوب من حدة وسرعة خاطر ومفاجأة وإفحام وعمق في الحكمة، كانت محببة لدى العرب، مستقرة في تراثهم منذ عهد بعيد، فلا غرابة إذا هم رأوها أيضا في شخص مقدم في الشعر والحكمة مثل أوميرس، فانبهم لديهم التمييز بين الرجلين. وهذا ينقلنا إلى الحديث عن شخصية إيسوب وأدبه عند العرب، في الفصل التالي.
(1) انظر دالي: 12.
(2)
المصدر السابق: 14.
(3)
الخطابة لابن سينا: 168 - 169.
فراغ