المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌استخدام الفكر السياسي اليوناني - ملامح يونانية في الأدب العربي

[إحسان عباس]

الفصل: ‌استخدام الفكر السياسي اليوناني

" 6 "

‌استخدام الفكر السياسي اليوناني

مادة في الرسائل الأدبية

حاولت في الفصول السابقة أن أصور جوانب من اللقاء بين الأدبين اليوناني والعربي عن طريق الترجمة، وسأحاول فيما يلي أن أتحدث عن طرق أخرى تم فيها استخدام الفكر الإغريقي في قالب أدبي عربي، سواء أكان ذلك القالب رسالة أو شعرا أو مقامة، وسواء أكان اللقاء بين الأدبين اقتباسا للمضمون أو محاكاة له.

ولعل من أول ضروب هذه اللقاءات اقتباس عبد الحميد الكاتب المعارف اليونانية في السياسة، واستخدامها في رسائله، وقد حاول الدكتور طه حسين أن يقول إن أسلوب عبد الحميد متأثر ببعض معالم الأسلوب اليوناني (1) ، ولكن هذه القضية ليس من السهل إثباتها أو القول برأي قاطع أو محتمل فيها، والأقرب إلى الاحتمال أن عبد الحميد كان مطلعا على ما ينقل في عصره من الثقافات المختلفة وخاصة الفارسية واليونانية. فأما الفارسية فهناك إجماع من الروايات على أن عبد الحميد كان صديقا لابن المقفع، وكان ابن المقفع؟ دون ريب - داعية للثقافة الفارسية بما ينقله أو يترجمه أو يلخصه عنها، ومن المستبعد؟ والصلة وثيقة بين الرجلين - ألا يتأثر عبد الحميد بذلك اللون من الثقافة. وأما اليونانية فإن عبد الحميد كان ختنا لسالم مولى سعيد بن عبد الملك، وكان سالم كاتبا عند خلفاء بني أمية حتى عهد هشام بن عبد الملك ولا يستبعد أن يكون

(1) من حديث الشعر والنثر: 43.

ص: 99

عبد الحميد قد تخرج به وسلك طريقه ونسخ على منواله، ومن المعروف أن سالما هذا " نقل من رسائل ارسطاطاليس إلى الاسكندر ونقل له وأصلح هو " كما يقول ابن النديم (1) ، وأن رسائله التي عرفها ابن النديم كانت نحو مائة ورقة. وعلى هذا يصح أن يقال إن سالما أتاح لعبد الحميد الاطلاع على أدب سياسي منسوب إلى يونان. وقبل المضي في تبيان هذه الناحية أبادر إلى القول بأن تلك الرسائل ليست صحيحة النسبة إلى أرسطاطاليس، وإنما نحلت له، ولكن العرب ظلوا قرونا طويلة يتكئون عليها ويقتبسون منها دون أن يخالجهم شك في نسبتها. وتحتاج عبارة ابن النديم شيئا من المحاكمة فقوله " نقل " يعني أن سالما كان يعرف اليونانية أو السريانية حتى يقوم بهذا العمل، ثم قوله " ونقل له وأصلح هو " يشير إلى أنه اعتمد على جهود بعض المترجمين والنقلة، وهذا يعني أحد شيئين: أن سالما لم يكن يعرف إحدى اللغتين وهذا شيء يبطله قوله " ونقل " أو أن مشاغله الكثيرة في الدولة جعلته يستعين في بعض ما نقل بأحد النقلة، فهو على التوجيه الأخير قد قام بعملين بالنقل المباشر والإصلاح لما نقله غيره، ومعنى الإصلاح هنا منح المنقول في الأسلوب وصوغه في قالب بليغ مقبول، بحيث يلتبس بأسلوب سالم نفسه عندما ينشئ، أو يقاربه كثيرا. وعندي أن عبارة ابن النديم يجب أن تقرأ " نقل؟ أو نقل به " وأن الشك في أي الأمرين هو الذي حدث يعود إلى ابن النديم، وعلى ذلك فإن المرجح أن سالما لم يكن يحسن اليونانية أو السريانية، وإنما حكم أسلوبه البلاغي في ما أعانه به بعض المترجمين. وأي الأمرين كان فإنه يشير إلى جهود مبكرة في النقل، قبل أن يبدأ عصر الترجمة المنظم، ولهذا ما يؤيده في شهادة أخرى أوردها المسعودي، فقد ذكر أنه رأى عام 303 كتابا باصطخر يشتمل على علوم كثيرة من علوم الفرس وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياستهم وأن ذلك كان مما ترجم لهشام بن عبد الملك في سنة 113هـ؟ (2) ، فلم يكن نقل الرسائل المنسوبة إلى ارسطاطاليس هو الجهد الوحيد الذي تم في أواخر الدولة الأموية، وحسبنا أن نتذكر جهود ابن المقفع في النقل عن الفارسية، وأنه من غير الممكن أن يكون قد تنبه لذلك أو باشره في السنوات القليلة التي عاشها في ظل الدولة العباسية (3) .

(1) ابن النديم، الفهرست:117.

(2)

التنبيه والأشراف: 106.

(3)

انظر عهد اردشير، المقدمة:34.

ص: 100

أين هي رسائل ارسطاطاليس إلى الاسكندر التي نقلها سالم أو نقلت له؟ إن ضياع معظم آثار سالم الأصيلة أو المنقولة يجعلنا نتوقف دون القطع بأن الصورة التي وصلتنا من هذه الرسائل هي عينها التي عرفها سالم. نعم هناك ثلاث مخطوطات تحتوي على هذه الرسائل (1) ، عدا ما هو موجود منها منفردا، وقد قام الأستاذ ماريو غرنياسكي بدراسة هذه المخطوطات على نحو دقيق في مقالتين كبيرتين (2) ، حاول فيهما أن يثبت أن قسما من تلك الرسائل كان ولا بد من عمل سالم، وأتى على ذلك بأدلة من خلال فحصه للنصوص ومقارنته لهذه الرسائل بأصول يونانية، ومن أدلته تلك أن الرسائل تشير إلى جو الدولة الأموية، ولا تعرف كثيرا مما طرأ من تغير بعد نشوة الدولة العباسية، فالكاتب يتحدث كثيرا عن الموالي والعبيد، وإذا ذكر نظام الجيش تحدث عن الصفوف ولم يذكر الكراديس إلا عند الحديث عن الترك، وهو يصور الترك عدوا مخوف الجانب، كما كانوا في الدولة الأموية، وأن الخراسانيين شعب محارب " إذا مالوا إلى مقاتلة ثبتوا فيها وإذا رغبوا في أحد أحبوه وطال شكرهم له " ولكنه لا يذكر أبدا أنهم عماد جيش الدولة، كما أصبح حالهم أيام العباسيين، ثم إن المسؤول عن هذه الرسائل كان ذا مكانة عالية في الدولة، وتلك هي حال سالم الذي كان أثيرا عند هشام حتى إنه كان يقرأ عليه ما يرد من كتب ولا يدخل عليه منها إلا ما يسره (3) ، إلى غير ذلك من أدلة (4) ، هي أشبه بالتلمس الذي لا يبلغ اليقين أو يشارفها، ثم كأن هذه الأدلة تفترض أن سالما كان مؤلفا لتلك الرسائل، فإن لم يكن كذلك فإنه حور في الأصل كثيرا حتى يتناسب ومفهوماته عن الدولة ونظم الحرب وأحوال الأمم، ومع أن شيئا من التحوير قد يتم في مثل هذه الحال فإنه لا يمكن أن يبلغ الدرجة التي تصورها أدلة الأستاذ

(1) هي مخطوطة آيا صوفيا رقم 4260 ومخطوطة الفاتح رقم 5323 ومخطوطة كوبريللي رقم 1608.

(2)

Mario Grignaschi: Le Roman Epistolaire Classique Conserve dans la Version Arabe de Salim Abu - l - Ala، Le Museon 80، 1967 pp. 211 - 264، idem: Les Rasail Aristatalisa ila - l - Iskander de Salim Abu - l - Ala، Bulletin d'Etudes Orentles، Tome XIX، 1965 - 66 pp. 7 - 88.

(3)

الكندي: كتاب الولاة والقضاة: 80.

(4)

هي منشورة في المقالين، وانظر بخاصة المقالة الأولى ص: 25 وما بعدها.

ص: 101

غرنياسكي. ومهما يكن من شيء فإن هناك ما قد يرجح أن بعض تلك الرسائل سابق لعهد الترجمة المنظمة، وربما كان الأستاذ غرنياسكي على صواب حين يرى أن الرسالة في السياسة العامية تمثل صورة قديمة من الرسائل المترجمة، ولكن التباين الشاسع أحيانا بين أساليب تلك الرسائل مجتمعة، يجعلني أعتقد أن ما جاء في المخطوطات المذكورة ليس من الضروري أن يكون من عمل ناقل واحد، وأن ما ينتمي إلى سالم منها ما يزال بحاجة إلى إثبات، وهذه قضية لا تؤثر كثيرا في طبيعة هذا البحث، لأن هناك فرقا واسعا بين أن يقال إن سالما عرف رسائل منسوبة إلى ارسطاطاليس وأن يقال إن تلك الرسائل أو بعضها هي نفسها التي وصلتنا في المخطوطة الفلانية، فإذا انهارت كل الأدلة التي توفق بين القولين، بقي القول الأول ثابتا بشهادة ابن النديم وبعض القرائن الأخرى.

وأهم هذه القرائن اثنتان: أولاهما أن نعرض بعض هذه الرسائل على أسلوب سالم نفسه. وتعترض هذا الأمر صعوبات منها ندرة ما وصلنا من كتابات سالم وصعوبة الحكم لدى المقارنة بين الأساليب، وتقارب أساليب عصر ما في كثير من الخصائص، ومع ذلك فإن محاولة ما لا بد من أن تبذل في هذه الناحية، وقد بقي لدينا نتف يسيرة من رسائل سالم (1) ، ولكن يبدو أن له رسالة تامة كتبها عن هشام بن عبد الملك إلى عمرو بن سعيد يهدئ فيها من روعه لأن خالدا القسري استخف به واستهان بمقامه، وقد أوردها الطبري غير منسوبة (2) ، وجاءت مقترنة باسم سالم في كتاب " العطاء الجزيل في كشف غطاء الترسيل " لنحمد بن أحمد البلوي الأندلسي وهو يضم مجموعة من رسائل المشارقة والمغربة موزعة على أبواب مختلفة (3) .

يقول سالم في هذه الرسالة: " أما بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك وفهم ما ذكرت من تسليط [خالد] عليك لسانه في مجلس العامة، مستحقرا لقدرك ومستصغرا لقرابتك بأمير المؤمنين، وإمساكك عنه تعظيما لأمر أمير المؤمنين وسلكانه وتمسكا بوثائق عصم

(1) انظر جمهرة رسائل العرب 2: 425 حيث يجب أن نقرأ " سالم مولى هشام " بدل سالم بن هشام، وكذلك ص: 431، 432.

(2)

تاريخ الطبري 1: 1644 وجمهرة رسائل العرب 2: 412 ويمكن أن نعد الرسالة التي أرسلت إلى خالد لتوبيخه على موقفه من عمرو بن سعيد من إنشاء سالم أيضا، الطبري 1: 1642 وجمهرة رسائل العرب 2: 409.

(3)

مخطوطة الخزانة الملكية بالرباط رقم: 6148.

ص: 102

طاعته، على مؤلم ما تداخلك من قبيح ألفاظه وشرة منطقه، وإكبابه عليك عند إطراقك عنه، مرويا ما أطلق أمير المؤمنين من لسانه وأطال من عنانه ورفع من درجته ونوه من خموله، وكذلك أنتم؟ آل سعيد - في مثلها عند هذر الذنابى وطائشة أحلامها صمت من غير ما إفحام تنهضون بأحلام تخف الجبال عندها وزنا، وقد أحمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه وتوقيرك سلطانه وشكره، وجعل أمر خالد إليك عزله واقراره، فإن عزلت أمضى عزلك، وأن أقررت فتلك منة على خالد لا يشكرك أمير المؤمنين فيها " (1) .

يمكن أم يسمى هذا أسلوب الأناة الفكرية حيث يعمد الكاتب إلى الامتداد بالجملة قبل أن يبلغها غايتها ولذلك قد يعمد الكاتب فيه إلى جمل فرعية معتمدة على الجملة الأصلية، إما بإيراد جمل وصلية أو بالخروج إلى حيز متفرع عن الحال الموصوفة:" تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه وتمسكا بوثائق عصم طاعته على مؤلم ما تداخلك من قبيح ألفاظه وشره منطقه واكبابه؟ الخ " ففي بدئه " على مؤلم؟ " تفريع جديد على الأصل/ ولكنه لا ينسى أبدا أن التفريع له حظ الأصل، من الجمل المتعاطفة والمزدوجات، فبعد قوله تعظيما؟ وتمسكا " يورد " من قبيح؟ وشرة؟ واكبابه "، فإذا انتقل إلى تفريع جديد قال: " مرويا فيما أطلق؟ وأطال؟ ورفع؟ ونوه؟ " وبذلك تتركب الفقرة من مستويات متدرجة إلا أنها مستويات مفسحة ممطوطة، تمنح الفكر المتأمل حظا من النقلة دون وثب أو عجلة (2) .

ضع إزاء هذا ما جاء في إحدى الرسائل: " أما بعد فإن دوائر الأسباب ومواقع العلل وإن كانت ساعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائنين، فانا جد واجدين لمس

(1) العطاء الجزيل، الورقة:125.

(2)

أعتقد أن هذا اللون من الأسلوب كان هو العامل الأكبر في نقلة الكتابة العربية إلى أسلوب سريع قصير الفقرات مسجوع، خروجا من الملل ورغبة في السرعة في بلوغ القصد وكان هذا ما حققه البديع في المقامات، وجرى الأمر على ذلك إلى أن حدث تغيير صناعي في استحداث أسلوب يجمع بين السجع والاسترسال، والسجع داخل الاسترسال، والاستطالة بالعبارات حتى يفقد القارئ نفسه ويغدو لاهثا قبل ان يصل إلى النهاية، وهذا ما نجده لدى القاضي الفاضل وابن الأثير والعماد الكاتب في رسائله لا في وصفه للمعارك. ولأبي العلاء شأن آخر، يشذ عن قاعدة هذا التطور، وهو اختياره دائما هذا الأسلوب " المتوتر " داخل إطار من الأغراب.

ص: 103

الاضطرار إلى حكمتك، غير جاحدين للإقرار بفضلك، والاستنامة إلى مشورتك والاجتباء لرأيك والاعتقاد لأمرك ونهيك، لما بلوناه من جدا مغبة ذلك علينا، وذقنا من جنى منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترشيحه لعقولنا (1) كالغذاء الذي تلتاط به الطباع بالتقوت به؟ وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر والقهر وبلغنا في العدو من النكاية ما يعجز القول عن وصفه ويقصر اللسان عن أداء مفترض الشكر للمنعم به " (2) . لاحظ في هذا الأسلوب ورود الجملة الوصلية " وإن كانت ساعدتنا "؟ وهي فرعية، ثم هذا الاسترسال مع " الإقرار؟ والأستنامة؟ والاجتباء.. والاعتقاد " ثم التفريع على التفرع " بنجوعه؟ وترشيحه "؟ ثم العودة إلى التعداد المسترسل " سيق، أتيح، بلغنا؟ " وأدل من كل ذلك " مفترض الشكر للمنعم على الأنعام به " فلو لم تكن الأناة المسترسلة هي القاعدة لاكتفى الكاتب بقوله " مفترض الشكر للمنعم ".

إن العيب في هذا البرهان أنه ينقل فيما ينقل إحساسا ذاتيا بطبيعة الأسلوب، ولكن هب أنه أصبح مقبولا بنوع من الإحساس الغامض لموسيقى الأسلوب وإيقاعه فإنه يظل يشكو من عيب آخر، وهو أن هذه السمة تنطبق على عصر لا على كاتب واحد، وحين تقرأ ابن المقفع أو عبد الحميد أو حتى الجاحظ؟ بعد زمن - تكاد تقف مبلسا إزاء الفوارق الداخلية التي تميز أسلوب كل واحد منهم. إن هذه دراسة لم يحاولها أحد بعد، أعني وضع السمات الفارقة التي تميز كل كاتب عن غيره من أبناء عصره، ويزداد الأمر صعوبة حين تجد كاتبا قديرا مثل أبي إسحاق الصابي، يعيش في عصر، ويكتب بأسلوب عصر آخر. ولكن مهما يكن من شيء فإن الرسالة التي اقتبست منها آنفا لا بد أن تكون قد كتبت في عصر سالم وعبد الحميد وابن المقفع. وفي الرسالة المتعلقة بالسياسة العامية ملامح كثيرة من هذا الأسلوب مما قد يجعل على القول بأنها تمثل ما قام به سالم أبو العلاء أو أحد من معاصريه.

أما القرينة الثانية؟ وهي الأمم فيما يتصل بهذا البحث - فهي العثور على أناس معاصرين

(1) في شرح النهج: وترسخه في أذهاننا.

(2)

مخطوطة آيا صوفيا، الورقة 92/أ - ب والمقالة الثانية لغرنياسكي: 59 وهي حسب ترقيم غرنياسكي تعد الرسالة الحادية عشرة بين مجموعة الرسائل، وانظر أيضا شرح نهج البلاغة 17:52.

ص: 104

لسالم، تأثروا بتلك الرسائل وأفادوا منها، وانعكست بعض مادتها في كتاباتهم. وهنا يبرز؟ دون مواربة - دور عبد الحميد، أظهر معاصر لسالم وأجدر من يمكن أن يتأثر به من خلال التلمذة والمعاصرة، وحالنا مع عبد الحميد خير من حالنا مع سالم من حيث تنوع ما وصلنا من رسائله وخاصة بعد الإطلاع على مخطوطة " العطاء الجزيل " التي تحوي من رسائله أربع عشرة رسالة لم يكن معروفا منها سوى رسالة واحدة (1) .

وفي كل ما وصلنا من كتابات عبد الحميد تقف رسالته إلى عبد الله بن مروان ولي العهد حين وجهه أبوه لمحاربة الضحاك الشيباني الخارجي متميزة بين سائر رسائله في هذا الصدد، فهذه الرسالة؟ حسبما أوردها ابن أبي طاهر طيفور في كتابه " اختيار المنظوم والمنثور " - تحمل تاريخ 129 من الهجرة، وموضوعها في السياسة الحربية (2) ، ولهذا فإن ما قد تحمله من شبه برسائل ارسطاطاليس إنما يدور حول هذا الموضوع نفسه. وقد لمح الأستاذ غرنياسكي بعض شبه بين ما جاء في رسائل ارسطاطاليس ورسالة عبد الحميد (3) ، وكان هذا في الحق هو المنطق الصحيح لإثبات أن تلك الرسائل كانت معروفة في ذلك الدور الكبير المبكر.

وأحب أن لا يتبادر إلى الذهن أن عبد الحميد قد اقتبس معلوماته في السياسة الحربية عن الرسائل المنسوبة إلى أرسطاطاليس، فإنه قد لازم مروان بن محمد مدة طويلة منذ أن كان مروان واليا بأرمينية (114/732) إلى أن قتلا معا، بعد معركة الزاب (132/ 749) ، ومهما ينس التاريخ من مآثر مروان فإنه لا ينسى جهوده في تنظيم الجيوش، وفي سياسة الحروب، ولكن الذي أعنيه هنا أن عبد الحميد كان نموذج المثقف في عصره، وأنه بالإضافة إلى معرفته التجريبية في شتى شئون الحياة كان يجمع إلى تلك المعرفة اطلاع المثقف على ما لدى الفرس واليونان وغيرهم من الأمم في قواعد الحرب والسلم، وأنه حين كتب رسالته إلى ولي العهد فإنه كان يستمد من التجربة والثقافة معا، ولا ريب في أن الرسائل المنسوبة إلى ارسطاطاليس قد أعطته القالب العام للمشورة في شئون الحرب، حتى أننا لو فرضنا أن الجانب التاريخي في رسالته لم يكن حافزا واقعيا، فإن

(1) يذكر ابن النديم أن رسائل عبد الحميد كانت تجيء في نحو ألف ورقة (الفهرست: 117) .

(2)

انظر رسائل البلغاء: 173 - 210.

(3)

المقالة الثانية: 23، التعليق رقم:5.

ص: 105

صوغها؟ أنموذجا فيما يمكن أن يتبع في مثل ذلك الموقف - لم يكن لينقصها حظها من الأصالة والفائدة والقيمة العملية.

وتجيء رسالة عبد الحميد في قسمين واضحين: أولهما يتضمن حديثا عن السلوك الأخلاقي الذي يجب أن يتصف به القائد الحربي من جميع الوجهات، والثاني القواعد الحربية التي يجب أن يأخذ بها في جميع المراحل داخل نظام الجيش وعند التعبئة أو الرحيل أو النزول أو خوض المعركة، وقد بلغ من الدقة في هذه الأمور بحيث أصبحت رسالته ركازا لبعض ما كتب في الفن الحربي من بعد. ويبدو أنه في القسم الأول منها خضع لجانب من ثقافته الفارسية كما خضع في بعض جوانب القسم الثاني للثقفة اليونانية، ولكنه سلك في كل ذلك مسلكا بارعا حقا، فأعتمد في الجانب الأخلاقي، الذي يشغل القسم الأول؟ جانب التركيز:" ومن ذلك أن تملك أمورك بالقصد وتصون سرك بالكتمان، وتداوي جندك بالإحسان، وتداوي حقدك بالأنصاف، وتذلل نفسك بالعدل، وتحصن عيوبك بتقويم أودك، وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي، وأناتك فوقها الملال وفوت العمل، ومضاءتك فدرعها روية النظر واكفها بأناة الحلم؟ "(1) - وهذه وغيرها صفات وجوانب قد عولجت بالتفصيل فيما نقله ابن المقفع عن الفرس في " الأدب الكبير ". حتى إذا تناول القواعد الحربية - وهي القسم الأهم من الرسالة - عالجها بالتفصيل والتحليل، فهذه اقولة المجملة في رسائل أرسطاطاليس " حصن العورة، واضبط الضيعة، وأذك العيون، واجتهد في الاحتراس "(2) تنحل في عدة فقرات، تبدأ كل فقرة بواحدة من هذه النصائح:" حصن جندك (189) ؟ ثم أذك عيونك (190) ؟ واعلم أن موضع الأحراس (194) ؟ ".

وإذا قال ارسطاطاليس: واجعل الحرب آخر أمرك " (3) عانيا بذلك إدراك ما لا بد من إدراكه بالمكيدة بدل الحرب، وجدنا عبد الحميد يقف عند هذه القاعدة في موضعين يقول في أولهما: " اعلم أن الظفر ظفران أحدهما وهو أعم منفعة وأبلغ في حسن الذكر قالة وأحوطه سلامة، وأتمه عافية، وأعوده عاقبة، وأحسنه في الأمور موردا،

(1) رسائل البلغاء: 177.

(2)

العامري: السعادة والإسعاد: 332.

(3)

السعادة والإسعاد: 325.

ص: 106

وأعلاه في الفضل شرفا، وأصحه في الرؤية حزما وأسلمه عند العامة مصدرا، ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة " (1) ويقول في الموضع الثاني " اعلم أن أحسن مكيدتك أثرا في العامة وأبعدها صوتا في حسن القالة ما نلت الظفر فيه بحسن الروية وحزم التدبير ولطف الحيلة " (2) .

وإذا كانت نصيحة ارسطاطاليس في باب المكايد نوعين أولهما: " أدخل المكايد على عسكر عدوك بإفساد مياههم وبإلقاء البذور التي تهلك الدواب في مروجهم "(3) وثانيهما " كاتب أشد قواد عدوك بأسا وأوفرهم نصيحة لعدوك لتوقع وهما في قلب عدوك على صاحبه الناصح له، واعمل على أن يقع كتابك بيد حراس عدوك "(4) ، اختار عبد الحميد المكيدة الثانية وأهمل الأولى لأنها لا تتفق مع عقيدة الدينية، فقلب في ذلك:" وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات ومنهم الولايات وسوغهم التراث، وضع عنهم الإحن، واقطع أعناقهم بالمطامع، واستدعهم بالمثاوب، واملأ قلوبهم بالترهيب، أن أمكنتك منهم الدوائر وأصارتهم إليك الرواجح، وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة، ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جوابات كتب اليهم، وتكتب عل ألسنتهم كتبا تدفعها إليهم، وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده منزلة التهمة ومحل الظنة؟ "(5) .

ومن الطريف أن هذا المبدأ الذي تتضمنه الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس قد ورد أيضاً في نصوص سياسية منحولة لأفلاطون، فلدينا ثلاثة عهود يقال إنها مستخرجة من رموز كتاب السياسة لأفلاطون من تأليف أحمد بن يوسف المشهور بابن الداية (حوالي 340/951) وقد جاء في العهد الأول منها: " وينبغي أن تسلك في مجاهدة من أعرق في الرياسة واضطلع بتدبير المدن أن قصدك غير هذا المسلك من بث الجواسيس في عسكره وإظهار الكتاب على ألسنة خواصه بطلب الأمان منك، وتضمنها ما صح عندك من

(1) رسائل البلغاء: 189.

(2)

رسائل البلغاء: 209.

(3)

السعادة والإسعاد: 333 وسر الأسرار: 150 ومخطوطة كوبريلي: 88.

(4)

السعادة والإسعاد: 334.

(5)

رسائل البلغاء: 209.

ص: 107

أسراره، ولتحمل هذا جواسيسه اليه فيضطرب أمره ويرتاب بمن كان يثق به، ومكاتبة من قدرت إجابته من جيشه من كاف حزم؟ " (1) .

وإذا تحدث ارسطاطاليس عن نوع السلاح الذي به تؤخذ الأهبة على نحو موجز: " وربما احتاج إلى آلات يقابل بها مكايد العدو كمنجنيق ينصب بازاء منجنيق وعرادة إزاء عرادة "(2) ، وجدنا عبد الحميد يطيل في هذه الناحية ويتفنن في وصف ضروب الأسلحة اللازمة في موضعين من رسالته، وبحسبنا هنا للتمثيل أن نقتبس جزءا مما جاء في الموضع الأول:" وخذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد، شاكة النسج، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير، وأسوق الحديد مموهة الركب، محكمة الطبع، خفيفة الصوغ، وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي، رقاق المعاطف بأكف واقية وعمل محكم، وبلق البيض مذهبة ومجردة، فارسية الصوغ، خالصة الجوهر، سابغة الملبس، واقية الجنن، مستديرة الطبع، مبهمة السرد وافية الوزن؟ معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات مسمومة الشحذ غير كليلة الحد، مشطبة الضرائب معتدلة الجواهر صافية الصفائح لم يدخلها وهن الطبع ولاعابها أمت الصوغ؟ الخ "(3) . ودقة عبد الحميد هنا؟ كما هي في غير موطن - دليل على مبلغ معرفته التجريبية، كما أنها قد تشير إلى ابتهاجه بإظهار تلك المعرفة.

وفي النظرة إلى العدو يورد أرسطاطاليس هذه النصيحة: " ضع أمر عدوك على أن في الدرجة العليا من القوة ثم عامله بقدر ذلك، واقصده من قبل أن يطول وارتق الفتن قبل أن يتمكن من فاتقه "(4) ويقابل هذا عند عبد الحميد: " معظما أمر عدوك لأكثر مما بلغك حذرا يكاد يفرط لتعد له من الاحتراس عظيما ومن المكيدة قويا "(5) .

غير أنه لا يفوتنا أن كثيرا من هذه القواعد الحربية كان قد اصبح متأثلا في كل أمة، بحيث يمكن أن يكون التشابه فيها أقل من الفروق التي تصلح لأمة دون أخرى،

(1) الأصول اليونانية للنظريات السياسية: 31.

(2)

السعادة والإسعاد: 326.

(3)

رسائل البلغاء: 196 وانظر الموضع الثاني: 207

(4)

السعادة والإسعاد: 332 وسر الأسرار: 83 ومخطوطة كوبريلي: 83.

(5)

رسائل البلغاء: 191.

ص: 108

فمبدأ تجنب القتال؟ ما كان إلى ذلك سبيل - أمر نجده أيضا عند الفرس، إذ ينقل ابن قتيبة عن الآيين:" ولا يحاربن جندا إلا على اشد الضرورة، وعلى حال لا يوجد معها من المحاربة بد "(1) ثم ينقل المؤلف نفسه نصيحة بهذا المعنى عن كتاب للهند " الحازم يكره القتال ما وجد بدا، لأن النفقة فيه من الأنفس، والنفقة في غيره من المال "(2) . أما طرح الحسك في المواضع التي يتخوف فيها البيات فإنه يكاد يكون خطة عامة (3)، وقد نجد عبد الحميد يقول:" ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك "(4) ، ونجد سابور يقول لابنه هرمز " اجعل على كل مائة رئيسا "(5) ، ثم لا يكون هذا التشابه إلا تعبيرا عن قاعدة حربية أصبحت عامة لا يتميز فيها الفرس عن العرب ولا يستقل فيها هؤلاء دون اليونان، ولهذا فإن ميزة رسالة عبد الحميد ليست في هذه المشابه بمقدار ما هي في قدرته على توجيه القواعد العسكرية بحيث تلائم جيشا إسلاميا يحارب جيشا آخر، يعتقد أصحاب الأمر أن الجند فيه من الخوارج " المتسمين باسم الإسلام "، ولهذا لن نجد عند عبد الحميد حديثا عن مدى متابعة العدو عند الهزيمة أو حديثا عن الغنائم أو ما أشبه ذلك. ولكن مهما يكن من شيء فإن ميل عبد الحميد إلى التفنن والأصالة لم يستطع أن يحجب مقدار حركته في الإطار الثقافي الموجود لدى الفرس واليونانيين.

(1) عيون الأخبار 1: 113.

(2)

عيون الأخبار 1: 112 وهذا القول في كليلة ودمنة: 156 (وقارن بما ورد ص: 84) وفي وصايا أسطاليس، انظر السعادة والإسعاد:325.

(3)

عيون الأخبار 1: 113.

(4)

رسائل البلغاء: 207، وهذا المثل نفسه قد جعل الدكتور طه حسين يستدل على ان عبد الحميد كان متأثرا لا باليونانية وحدها بل بما كان مألوفا عند اليونان لأن الوحدة الصغرى في الجيش البيزنطي كانت تتألف من مائة (من حديث الشعر والنثر: 45 - 46) .

(5)

السعادة والإسعاد: 331.

ص: 109

فراغ

ص: 110