الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" 5 "
"
ترجمة الشعر الخمري اليوناني إلى العربية
" نظرة في بيئة الأندلس والقيروان "
قد يقال إن ما ترجمه العرب من أشعار الأمم الأخرى لا يتعدى أقوالا موجزة اختلط فيها الشعر بغير الشعر، وهي تندرج في معظمها في باب الحكم وتشتبه بها حتى ليعز التمييز بينهما، فإذا تجاوزوا ذلك استأثرت باهتمامهم الأمثال والخرافات التمثيلية، فإذا تجاوزوا هذه أيضا وقفوا عند نوع من المنظومات ليس لها من الشعر حظ إلا الوزن، عرفوها عند الهند واليونان، ولعلهم تأثروها فيما نظموه من العلوم، من ذلك كتاب دروثيوس الصيداوي (القرن الأول ب. م.) في الفلك، وهو يتألف من ستة فصول أو كتب، على وزن سداسي (Hexameter) ، وقد ترجمه أو اختصره ثوفيل الرهاوي (- 785)(1) وشرحه عمر بن الفرجان (- 815)(2) ، ويقول الأستاذ كريمر إنه كان ذا أثر لدى العرب وغيرهم يفوق الأثر الذي تركته الأعمال الشعرية الأخرى المترجمة عن أصل إغريقي (3) ، ولا بد أنهم عرفوا كتب ديمقراطيس نفسه في الأدوية وأنهما مكتوبة بشعر موزون في اليونانية (4) وأن ديمقراطيس نفسه قد وصف الدواء المتخذ
(1) ثوفيل Theophilus)) كان رئيس منجمي المهدي العباسي (القفطي: 109) .
(2)
عمر بن الفرجان أبو خفص الطبري أحد رؤساء التراجمة والمتحققين بعلم حركات النجوم وأحكامها، كان منقطعا إلى يحيى بن خالد بن برمك ثم إلى الفضل بن سهل. وقد ترجم للمأمون كتبا كثيرة وألف كتبا أخرى (القفطي: 241 - 242) .
(3)
كريمر، التعليق: 511 - 512.
(4)
تحقيق ما للهند: 61.
باللعابات التي استخرجها ماناقراطس بشعر موزون ذي ثلاثة مصاريع (1) ، ولعلهم لم ينتظروا حتى عهد أبي الريحان البيروني ليعرفوا أن للهند كتبا في العلوم مقدرة بأوزان كالأراجيز (2) ، وأنهم اختاروا أن تكون منظومة ليسهل استظهارها (3) .
قد يقال كل ذلك، ما دامت مصادرنا لا تزال تظن علينا بأي تغيير ولو جزئي، في الصورة العامة، وربما كانت إضافة شيء يسير إلى الصورة السابقة أمرا عزيزا، فلا أقل من وضعها في أبعاد جديدة وتحت أضواء كاشفة، وهذا هو ما ستحاول تحقيقه الفصول التالية. أما هنا، فإن تتبع المصادر في سبيل استنطاقها عن شيء جديد يضاف إلى الصورة المعروفة، هو الحافز الأول، وفي هذا الصدد كان لا بد من الاتجاه إلى الأندلس والقيروان.
ومن المستبعد أن تكون الأندلس قد تلقت تأثيرا مباشرا من الأدب اليوناني، وإنما اعتمدت على ما ترجم من آثار يونانية في المشرق، ولكن المثقفين، وغير المثقفين بالأندلس كانوا يحسنون اللاتينية أو صورة منها، وقد كانوا يتحدثون بهذه اللغة منذ عهد مبكر، وكان المثقفون منهم يدركون دقائق الفروق بينهما وبين العربية، وعندما وضع ابن حزم كتابه في تقريب حد المنطق، توقف عند بعض المصطلحات فقال:" ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام "، وقال في موضع آخر من كتابه هذا " ولهذا المعنى في اللطينية لفظة لائحة البيان (4) " والشواهد على اتقان الأندلسيين للغة اللاتينية كثيرة، ونحن نعلم أن الأندلسيين ترجموا كتاب أوروسيوس (هروسيس) ، وهو كتاب في التاريخ، وصل إليهم في عهد عبد الرحمن الناصر (5) ، وقد بقيت نسخة من هذا الكتاب محفوظة بمكتبة جامعة كولومبيا (تحت رقم، X 893. 712 H) ، وقد وصف هذه النسخة، وترجم بعض أجزائها إلى الإيطالية
(1) المصدر السابق: 73.
(2)
المصدر السابق: 61.
(3)
المصدر السابق: 65 - 66.
(4)
ابن حزم، التقريب لحد المنطق: 15، 54.
(5)
عن هذا الكتاب وانتقاله إلى الأندلس انظر ابن أبي أصيبعة 2: 47 وهو ينقل عن ابن جلجل في كتاب " طبقات الأطباء والحكماء "، انظر مقدمة الكتاب: كط - لج.
الأستاذ دلافيدا (1) . وعند اطلاعي على هذه النسخة تبين لي أنها في الحق تضع القارئ أو المثقف الأندلسي يومئذ في جو عجيب من الأخبار والأساطير والأشعار اليونانية والرومانية. فمن قرأ تاريخ أوروسيوس عرف قصة الحروب الطروادية وصلة أوميرس (ميرش الشاعر) بها، فهنالك نص واضح على أن سبب الحروب إنما كان اختطاف زوجة أمير من أمرائهم اسمها إلانة (Helen) وأنه " كان لابتزازها خبر يطول وصفه " وأن جميع الروم الغريقيين احتموا لها " وتحالفوا وتعاهدوا على خراب مدينة طروية (Troy) ؟ فغزوها بنحو من ألف مركب وحاصروها عشر سنين "، ثم كيف تم فتحها على نحو عجيب بعد أن سفكت الدماء وهلكت أمم " مثل الذي وصفه ميرش الشاعر في شعره الواضح الفصيح، إلى ما وصفه غيره من الشعراء وواضعي القصص ". ولا بأس من إيراد قصة الحصان الخشبي كما يرويها أوروسيوس: " وذلك أن الروم الغريقيين لما عجزوا عنها بعد محاصرتهم إياها عشر سنين عملوا صورة صورة من خشب عظيمة، مثقوبة تدور على فلك، وأدخلوا فيها خمسمائة مقاتل، ثم أمرهم المشير عليهم بذلك أن يضربوه بالسياط ضربا وجيعا فضربوه وتركوه مع الصورة، ثم احتملوا ودخلوا مراكبهم وعبوا كتائبهم يظهرون الانصراف إلى بلدهم، فلما خرج أهل المدينة وجدوا الصورة والمضروب أمامها، فسئل عنها فقال لهم: إن هذه الصورة وثنهم الذي يعبدونه، وكانوا قبل ذلك قد أظهروا عبادتها حينا، وكنت أنا خادمه وقسه، فلما كشفوني عن قوله في أمر هذه المدينة أعلمتهم عنه أنها غير مأخوذة ولا مقدور عليها، فغضبوا من أجل ذلك علي فضربوني كما تروي، وكان وجيها فيهم، معروفا عندهم، وأنا أعلمكم أنه رب صدوق، فإن أكرمتموه أعانكم عليهم ودلكم على هلاكهم، ففرحوا بذلك، ثم أخذوا الصورة وجروها على فلكها، حتى وصلت المدينة، ولما يسعها باب فتحوا لها ثلمة في السور، فلما كان الليل أقبل الذين كانوا أظهروا الانصراف إلى بلدهم؟ "
وقد قرب هذا الكتاب إلى المثقفين بعض الأساطير وعرفهم بها، من ذلك أسطورة رجل من الحدادين في الروم اسمه ديدال (Daedalus) وابنه ييقار (icaros) وأنهما عملا
(1) انظر هذا المقال في:
AI - AndaIus XIX (1954) PP. 257 - 293
وهو مضمن أيضا في كتابه:
Note di Storia Letteraria Arabo - Ispanica، Roma، 1971، PP. 79 - 107.
أجنحة من ريش وكانا يطيران بها (1) ، ولكن الأهم من ذلك أنه يضع أولئك المثقفين في جو من الشعر، يبعدهم إبعادا كاملا عن التصور بأن العرب وحدهم هم المتميزون بفضيلة الشعر. ففي كل موقف اسم شاعر أو أسماء شعراء، فالحروب بين فارس وأثينا وإسبارطة وصفها بلقاط الشاعر والحروب بين الاقطانيين والطشاليين (Thessalians) وصفها أيضا هذا الشاعر نفسه، وفي حرب المشانيين (Messenians) واللجذمونيين (Lacedaemonians) كان أمير اللجذمونيين هو تراؤش الشاعر (Tyrtaios) فلما غلب قومه وتهيبوا القتال نظم قصيدة أنشدها إياهم فحييت بها قلوبهم وعادوا للقتال وأبلوا فيه بلاء حسنا. وفي زمان شحشار (Xerxes) ملك الفرس كان يعيش بأثينا الفلاسفة اشيليوس (Aeschylus) وبناروش (Pindarus) وشفقلاؤس (Sophocles) الذين إليهم أشعار المراثي. ومن الطريف هنا أن كلمة " المراثي " تطلق على التراجيديا، وأن الذين استغلوا كتاب الشعر شرحا واقتباسا إنما سموها " المدائح ".
وتتسع دائرة الحديث عن الشعر: فسليمان شاعر على ما يحكيه ديوان أخبار الأنبياء، له في الكلام الموزون ألف قصيدة وخمس قصائد في طريق التهليل، على مثل ما كان الأنبياء يستعملون فيه موزون الكلام في عصرهم ذلك. وشبيلة (Sibyl) العالمة تنسب إليها الأشعار وأنواع من الكهانات والعلوم.
وللرومان شعراءهم من أمثال مرقش (Marcus) وفرقيلش (Virgil - Virgilius) وججرون (Ciceron) . كذلك ترد في الكتاب إشارات إلى مواطن من الشعر الروماني، منها قوله عند الحديث عن بعض الحروب:" وهي الحروب التي قال فيها فرقيليش أشعاره المعروفة عند العامة (2) ، وفرقيليش هذا هو الذي يقول في سبأ: " أن أغصان البخور للسبأيين خصوصا ". وثمة شاعر روماني آخر يقول في نهر صرنة الذي فاض عندما غزا أنيبال (Hannibal) إيطاليا: " ناهيك بالأبحر التي مادتها صرنه ". ومن ذلك؟ وهو شيء يلفت النظر حقا - أن المترجم نقل بعض الشعر الروماني إلى شعر عربي، أو
(1) يشير إلى الأسطورة اليونانية التي تتحدث كيف هرب ديوالوس وابنه ايقاروس من سجن في كريت على أجنحة من الريش والشمع، وان الابن لم يسمع أبيه فأعتلى في طيرانه حتى أقترب من الشمس، فذاب الشمع وسقط في البحر جنوب جزيرة ساموس.
(2)
تاريخ اوروسيوس: 283 وكتاب دلافيدا: 99.
لعله حاكي الشعر الروماني بقول من عنده، فقد جاء هنالك: وفي ذلك (أي في محاولة صلب المسيح) يقول مركش الشاعر الروماني، وكان مجوسيا (في كلمة طويلة) :
لما رأى الناس الكسوف مخالفا
…
لسبيله حسبوه ليلا سرمدا
فرحت له الدنيا وظنت أنه
…
أمرا عليها لا يزال مؤبدا وفيها يقول:
صلبت بنو يعقوب يوما ربها
…
إيسوعها فاديها الممجدا
ظنت بأن تخفي بذلك أمره
…
وأبى الإله بأمره إلا الهدى ثم ذكر الحواريين فقال:
وكأنني حينا بنور إياته
…
يعلو ويسمو في الدهور مؤيدا وقد يكون لهذا الشعر في ذاته قيمة يسيرة أو لا يكون، ولكن وجوده يفتح أفقا جديدا للأمل في وجود صور أخرى من هذا اللقاء، بين الأدبين العربي والروماني، ترى ألم يتساءل المثقفون الأندلسيون عن ماهية أشعار فرقيليش المعروفة عند العامة، ثم ألم يحاولوا التعرف إليها؟
أما القيروان فإن المجالات الثقافية التي توفرت في زمن بني زيري، وخاصة في عهد باديس وابنه المعز، ما تزال بحاجة إلى مزيد من البحث والاستجلاء، وقد تحملنا الأسماء الأدبية التي لمعت في تلك الفترة مثل عبد الكريم النهشلي وابن شرف وابن رشيق والحصري الضرير والحصري صاحب زهر الآداب، على القول بأننا هنا نواجه ثقافة عربية خالصة، ولكن التفاتة إلى زاوية أخرى قد تجعل هذا الحكم يبدو متحيزا، وحسبنا أن نذكر راعي الأدب والأدباء في عصره ومن بأسمه ألف ابن رشيق كتاب العمدة أعني علي بن أبي الرجال، فقد كان مضطلعا بالثقافة اليونانية، وكتابه " البارع " في علم النجوم خير دليل على ذلك، ففي هذا الكتاب نقول مستفيضة عن المصادر المترجمة والمؤلفة في هذا العلم، وقد احتفظ بكثير مما ترجمه توفيل أو فسره عمر بن الفرخان من
كتاب دروثيوس المنظوم؟ الذي تقدم ذكره - وخاصة في باب " الاختبارات "(1) . وفي الكتاب ما يدل على أن ابن أبي الرجال كان يمارس العمل بالنجوم أيضا فهو ينبئنا أنه حكم اعتماداً على حساباته النجومية في عدة أحداث، ويقول إن المعز بن باديس طلب إليه أن يستخرج مدة ولاية ثقة الدولة أحمد بن الحسين أمير صقلية، فحكم بأن المدة ستكون سبع عشرة سنة شمسية ونصفا، فلما بلغها وزاد عليها مدة جمعة قتل، كذلك استكشفه المعز عن مدة ولاية المنصور بن عبد الله بن محمد لبيت المال فوجد أنها خمسة وخمسون شهرا، قال: فو الله متا زاد عليها سوى أحد عشر يوما، قال:" وقد جربت وحكمت في عدة من العمال وولاية الثغور والمدن والدواوين وبيت المال عدة لا أحصيها، فما انخرم منها شيء واطردت على سنن واحد؟ "(2) ، ولا نستبعد أن يكون لعلي بن أبي الرجال الذي كان في رأي ابن رشيق مجليا في فني المنظوم والمنثور على السواء (3) أثر في من حوله من طلاب العلم والأدب، وفي توجههم وجهة الثقافة اليونانية، وحين نتذكر أثر ابن أبي الرجال والميدان الذي استأثر باهتمامه لا نستغرب أن يقول ابن رشيق، " ومن فضائله (أي الشعر) أن اليونانيين إنما كانت أشعارهم تقيد العلوم والأشياء النفيسة (4) والطبيعية التي يخشى ذهابها "(5) . وفي مثل ذلك الجو نستطيع أن نفهم موقف عبد الكريم النهشلي في النقد على نحو أوضح، فهو يسرع إلى المقارنة بين العرب (6) ، وينظروا إلى قسمة الشعر من زاوية الخير والشر (7) ويجيز الفوارق المتأتية لا عن اختلاف المقامات والأزمنة وحسب، بل عن اختلاف البلاد أيضا " ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن
(1) قد اعتمدت على النسخة المحفوظة في مجموعة يهودا رقم: 292 بجامعة برنستون، من هذا الكتاب، انظر الورقة 55 ب حيث يقول " غير أن الذي عليه العمدة هو قول دروثيوس؟ "، ويبدأ باب الاختيارات على الورقة: 224/أ، وانظر أيضا مقالة كريمر، الملحق: 512 وما بعدها.
(2)
البارع، الورقة: 102/أ - ب.
(3)
ابن رشيق: كتاب العمدة 1: 6 (ط/ 1907) .
(4)
لا أرى هذه القراءة صحيحة، ولعل الصواب " النفسية " لتجيء على وفق " الطبيعية ".
(5)
العمدة 1: 9.
(6)
يرى عبد الكريم أن الشاعر عند العرب هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة (العمدة 2: 100) .
(7)
العمدة 1: 76، 28.
عند أهل غيره " (1) ، ولا إخال إلا أن هذا كله يعود إلى شيء من أثر الثقافة اليونانية.
ولم تكن تلك الحلقة الثقافية التي التأمت حول ابن أبي الرجال إلا نتاجا طبيعيا لتلك الحقبة الباديسية، التي يمثلها المؤرخ الكبير إبراهيم الرقيق (حوالي 425/1033)(2) وقد كان إبراهيم جامعا لضروب من الثقافات الضرورية لمن يقوم بدور النديم ودور المؤرخ، وإذا كانت لفظة " الرقيق " صفة تتوجه إليه، لا إلى أبيه، فربما أوحى ذلك أنه لم يكن بعيدا بحكم الانتماء عن ثقافات أخرى غير العربية. مهما يكن من شيء فإن اطلاعه على الثقافة اليونانية أمر تشهد به مؤلفاته، وخاصة كتابه " قطب السرور "، فلأول مرة يقدم لنا هذا الكتاب أشعارا يونانية مترجمة إلى العربية، لا في الحكمة والأمثال والخرافات، ولا في المنظومات العلمية، وإنما في موضوع آخر كنا نظن أن العرب قد وقفوا فيه من يحس بالاكتفاء والرضى الذاتي فيه، وذلك هو شعر الخمر. ففي الفصل عقده الرقيق بعنوان " منافع الأشربة ومضارها على مذاهب الفلاسفة "(3) ، لم يكتف بالإحالة على آراء جالينوس وبقراط وكتاب روفس في الشراب ترجمة قطسا ابن لوقا وكتاب " الكرمة " لارسطاطاليس وآراء أطباء العرب مثل إسحاق بن عمران ومحمد بن زكريا الرازي، وإنما ضمن ذلك الفصل شعرا في الخمر لشعراء يونان. ولسنا نستطيع أن نجزم إن كان الرقيق؟ وأصله قد يغري بالقول إنه كان يعرف لغة أخرى غير العربية - هو الذي ترجم تلك الأشعار، أو أنه وجدها مترجمة ونقلها، وإن كان قد وجدها مترجمة فمتى ترجمت، وهل كان مترجمها مشرقيا أو مغربيا؟ وإن كان قد نقلها فهل تم ذلك عن طريق مصادره الطبية أو الأدبية، وإذا كانت الثانية فما هي تلك المصادر؟ أسئلة كثيرة لا يمكن الإجابة عليها، على أن ثمة ما يوحى بأنه كان يعرف اليونانية، إذ قال في التعليق على إحدى المقطعات المترجمة:" وهذا بكلام اليونانيين شعر موزون "(4) ، وهي قولة يحاول أن يؤكد بها أن الأصل
(1) العمدة 1: 58.
(2)
في ترجمة الرقيق انظر معجم الأدباء لياقوت 1: 288 (الطبعة الأوربية) وورقات لحسن حسني عبد الوهاب 2: 438 ومقدمة المنجي الكعبي على القطعة الباقية من تاريخه، بعنوان:" تاريخ أفريقية والمغرب " تونس 1968.
(3)
إبراهيم الرقيق: قطب السرور في أوصاف الخمور: 225 وما بعدها.
(4)
قطب السرور: 260 وانظر القطعة رقم: 3 في ما يلي.
لديه على غير ما توحي به الترجمة، إن لم يكن ينقل ذلك التعليق عن شخص آخر.
من هم أصحاب هذه القطع الشعرية؟ من الصعب أن يقال في هذا الصدد قول دقيق، لأن أسماء الشعراء قد حرفها النساخ، ولأن بعض الأسماء قد تصرف بها المحقق، على هواه، كما أن المؤلف نفسه في حالات أخرى لم يذكر أسم الشاعر. أما القطع نفسها فتتفاوت طولا بين سطر وعشرة أسطر، غير أنها جميعا تتمتع برفعة في الأسلوب، حتى إن إحداهما لترد في معظمها على شكل مسجوع (1) ، وهذا أمر قد يجعلها مستساغة أكثر لدى القارئ العربي، ولكنه يلقي شكا على الدقة في الترجمة. ولكن من اللافت للنظر أن جمال الأسلوب ليس وقفا على القطع الشعرية بل إنه يشمل أقوال الحكماء والأطباء التي وردت في هذا السياق. أما من حيث المحتوى فيجب أن أقرر أن جميع القطع تمجد صفات الخمر، ما عدا قطعة واحدة منسوبة لأفلاطون (2) ، وربما كانت تلك القطع بذلك تثبت قوة انتسابها إلى الشعر.
ويتطلب اسطفن الرهاوي (3) - صاحب إحدى القطع - وقفة خاصة إذ يقر المحقق أن الاسم غير واضح في النسخة الأصلية، ولست أعتقد أنه اسطفن ابن بسيل الذي ترجم الأقوال المناندرية، لأنه 0في أعلى تقدير - مترجم لا منشىء، ورغم اهتمامه الكبير بترجمة الأشعار اليونانية، فانا لا نستطيع أن ننسب إليه المقطعة التي أوردها الرقيق، كما لا نستطيع أن نصدق أن الرقيق يدرجه بين الحكماء والفلاسفة، وعلى هذا فإن في سند الرواية سقطا، ولا بد فإن لم يكن الأمر كذلك فربما افترضنا أن صاحب هذه القطعة العميقة شاعر يوناني قد تحرف اسمه أو تصحف. وفي القطعة المنسوبة إليه نبرة من التوحيد، وهذا غير مستغرب في الآراء والأفكار الفلسفية اليونانية المنقولة إلى العربية، لأنها قد حورت لتطابق المشاعر الإسلامية. ويجري نص القطعة المشار إليها على النحو التالي:
- 1على أي شيء نشكر رب الكل ومبدع الأشياء، أعلى اصطناعه الخمرة أم على أنه ملكنا إياها وأباحها لنا مع أباح من الذهب والفضة، فمن بين محروم ومرزوق،
(1) انظر القطعة رقم: 5 في ما يلي.
(2)
قطب السرور: 257.
(3)
قطب السرور: 258.
لأن هذه الثلاث معادن بها قوام هذا العالم، والخمرة أفضل الثلاثة، لأنه الاثنين جوهر البدن، والخمرة جوهر الروح، لأن النفس تتربى بالخمر وتسر بها وتفرح لها، والبدن يتربى بالآخرين ويسر بهما ويفرح لهما، والخمرة تستعمل من داخل والجوهر من خارج، والداخل أفضل (1) .
2 -
والقطعة الثانية المؤلفة من سطر تنسب إلى الحكيم (2) مع التأكيد بأنها ترد في شعره لا في حكمته، ولكن من هو الحكيم المقصود؟ ذلك أمر لا يمكن تبينه، فهو قد يكون ارسطاطاليس كما قد يكون أوميرس، يقول الحكيم:" الخمرة جوهر ذائب والجوهر خمرة جامدة "، وهذا القول قد ورد نصا عند أبي نواس (3) :
أقول لما تحاكيا شبها
…
أيهما للتشابه الذهب
هما سواء وفرق بينهما
…
أنهما جامد ومنسكب 3 - وترد القطعة دون ان يذكر اسم ناظمها، ولكن لا مجال للشك؟ حسب تصريح الرقيق - بأن صاحبها شاعر، وهي تتحدث عن الشراب على النحو الآتي:" هو أخو إخوان ونديم ندمان، يشربه أقوام كرام يشاكلونه في الأفعال، يتصاحبون ويتزاورون، ويتحابون ويتآلفون، لا كأقوام يرون الحسنات مساوئ والمساوئ حسنات، غفران الذنوب طبع لهم، وترك الأحقاد سنة لهم، لا يتجاوزون طبعهم ولا يتركون سنتهم، الحسنة الصغيرة عندهم عظيمة، والسيئة العظيمة عندهم صغيرة مغفورة "(4) .
هذه القطعة السابقة هي التي شغفها الرقيق بقوله: " وهذا بكلام اليونانيين شعر موزون "، والقطعة تتحدث عن المشاكلة بين الخمر والشاربين في كرم الطباع، على
(1) قطب السرور: 258.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
ديوان أبي نؤاس: 243 (آصاف) وقطب السرور: 520.
(4)
قطب السرور: 259 - 260.
أساس من التكافؤ، وتذكر أيضا من هذه الناحية بقول أبي نؤاس (1) :
والخمر قد يشربها معشر
…
ليسوا إذا عدوا بأكفائها ثم تأخذ في الحديث عن فضائل الندامى في الألفة والتغاضي والمغفرة، وربما كان الحديث عن أخلاق الندامى في الشعر العربي مستفيضا، ولكن هذه القطعة ما تزال تنفذ إلى خصائص فيهم يمر بها الشعر العربي مجملا دون تفصيل.
- 4 والقطعة الرابعة تنسب إلى من اسمه لبيروس، ومن الصعب أن نجزم أهو شاعر أم لا، ووقوع هذه القطعة بين اقتباستين شعريتين لا يمكن أن يتخذ دليلا على أنها مقطوعة شعرية، ومع ذلك فإن طبيعتها ترجح أنها شعر، يقول لبيروس:" ينتقد بالخمرة الناس فيعرف الزائف منهم والمغشوش كالحجر الذي يحك به الذهب فيعرف خالصه من مغشوشه، كذلك الخمر في الأشربة إن عدت فيما يطرب النفس وينشر السرور والفرح ويسلي الأفكار الرديئة كانت حقيقة بذلك، وإن عدت فيما يزيل الهموم ويذهب الغموم اجتمع ذلك فيها، وإن قلنا إنها تنشط الكسلان وتروي العطشان وتشجع الجبان وتسخي البخيل فيعطي الجزيل ويراه نزرا قليلا وتعزي عن المصائب وتسلي عن العشق المبرح، ولولاها لم تعمل الملاهي، ولكانت الأحزان والهموم دائمة لا تبرح، لكنها تزيلها وتذهب بها وتبدلها بأضدادها "(2) .
وأول ما يلفت النظر في هذه القطعة طبيعتها التحليلية، فهي تبدأ بالقاعدة العامة. " الخمر محك وصيقل " ثم تذهب بعد ذلك في جزئيات تتحدث عن نواحي مختلفة من الآثار الإيجابية للخمر، مع إغفال التعرض لآثارها السلبية، وتلك الآثار الإيجابية تتردد في الشعر العربي، وليس فيها شيء كثير يميزها من حيث المحتوى، ولكنها؟ من ناحية ثانية - تذكر بشعر للشاعر اليوناني ألقايوس (Alcaeus)(3)، إذ يقول في إحدى قطعه: " إن كان امرؤ يشكو ألما فليشرب؟ وإذ قال لك بعضهم: لا خير
(1) ديوان أبي نؤاس: 239.
(2)
قطب السرور: 260.
(3)
كان في أواخر القرن السابع وأوائل السادس (ق. م) ، من مواطني جزيرة لسبوس، شارك في الحياة السياسية ونفي، وبينه وبين أبي نواس مشابه في غير ما وجه.
في الشراب فقل له: أغرب عن وجهي " (1) ويقول في أخرى: " وخير دواء أن تدعو بالخمر وتمعن في الشراب " (2) ولا ريب في ان هذا الموضوع عام شائع في الشعر الخمري، ولا يسعفنا على ترجيح نسبة المقطوعة السابقة إلى القايوس (وإن كان رسم الكلمة قد يلتبس برسم لبيروس) .
- 5 وآخر هذه القطع الشعرية أطرفها نسبة لأنها لشاعرة اسمها طريطاوس، وقد أنجبت يونان شاعرات كثيرات، أبعدهن شهرة صافو، ومنهن من عرفن بنظم " أغاني الخمر " وهي قصائد ليس من الضروري أن تتحدث عن الخمر، وإنما كانت تنشد في احتفالات باخوس، ومن أولئك الشواعر مثلا براكسيلا (3) غير أن المحير في نسبة هذه القطعة التي أوردها الرقيق أن الاسم " طريطاوس " لا ينصرف إلى المؤنث، وإنما هو صورة من الاسم (Tyrtaeus) وهو اسم شاعر إيوني عاش في إسبارطة أيام الحروب المسينية (685 - 668 ق. م.)(4) ، غير أنه ليس فيما تبقى من شعره ما يشير إلى اهتمامه بموضوع الخمر، وعلى هذا فمن العسير أن ننشئ صلة بينه وبين القطعة المترجمة، وأقرب صورة أخرى للاسم هو اسم (myrtis) وهو اسم لشاعرة من معاصري بندار (5) ، وتظل المشكلة نفسها قائمة لأن هذه الشاعرة لم يبق لها من المقطعات ما ينبئ باتجاه خمري.
وتقوم هذه القطعة: " الشراب معدن اللذات وجالب المسرات، يطيب النفوس،
(1) Lyra Graeca، ed. And translated by J.M. Edmunds، The Loeb Classical Library، 1928، Vol. 1، pp. 421 - 22.
(2)
Ibid، p. 417. Of. Greek Lyric Poets، Selected and Translated by Francis Brooks، London، 1896، p. 67.
(3)
من شعراء القرن الخامس، انظر Lyr. Graeca المجلد 3: 73 - 79.
(4)
انظر Greak Lyr. Poets ص2 - 3 وكتاب:
Greek Lyric Poetry، trans. By Wills Barnstone، Secnd printing.
Newyork، 1975، p. 39.
(5)
في المصادر العربية إشارات إلى نساء عرفن في حقل الفلسفة، انظر مثلا المجتنى لابن دريد: 89 والسعادة والإسعاد: 389، 391 حيث يذكر حكيمة اسمها " فرياغوراس " ومرة يرد الرسم " فيثاغوراس "(392 - 395) .
ويصرف البؤس ويعفي على النحوس ويولد طرب الجليس، ويشد القلب ويزيل الكرب، ويذكي الأذهان ويغسل الادران، وينير البصر ويصفي الكبد، ويغرس العلوم ويوفر الحلوم، إذ كان بقصد واعتدال، وإذا جاوز الحد وزاد عادت أفعاله إلى الأضداد " (1) : ومن الواضح أن موضوع القطعة هو أثر الخمر أو " مآثرها الإيجابية " وأنها بذلك تنحو منحى القطعة السابقة.
وإذا نحن قارنا بين هذه الأقوال الشعرية وقول مترجم عن أرسطاطاليس لم نجد فرقا كبيرا لا في الموضوع ولا في مستوى الصياغة. يقول ارسطاطاليس " إن الذي استخرج القوة التي غيرت ماء الكرم حتى صيرته خمرا يتولد عنها لشرابها الفرح والسرور، قد أتى بشيء تقصر عنه عقول المستنبطين، وقد أتى بما فاق وعلا كل قوة شجرية، وقد أشرقت الأرض بفعله وأزهرت بصنيعه، لأن نور الخمرة لا يعدله نور من الأنوار الأرضية، وإذا عدت المحاسن كلها وجدتها قد كملت فيها فصارت غاية المحبوب ونهاية المطلوب، وكما أنها ملكه الأشجار صار من يشربها ملكا بها، ومن فضائلها؟. الخ "(2) فهذه القطعة أعرق في الشاعرية من القطع السابقة.
ومن المؤسف أن النص يضطرب عند بداية إيراد الأشعار، إذ يورد الرقيق أن اليونانيين يسمون القوة التي تعيد ماء الكرمة خمرا؟ وهي تلك القوة التي تحدث عنها ارسطاطاليس - " القوة المتقدمة في الشرف على جميع الأنوار " لأنها أشرف الشجر وماؤها أشرف المياه " لأنها تولد السرور والفرح " وبعد هذا تأتي عبارة " ففي خيرها أكون باقي حياتي " وهي عبارة شعرية تدل على أن ما قد سقط من النص كان اقتباسا شعريا، لقول المؤلف بعده " وقال شاعر آخر "، إلا أن ننسب كل ما تقدم إلى بيلسون، المذكور في أول الفقرة، وعندئذ يكون بيلسون هو الشاعر المقصود، وبذلك تصبح القطع التي أوردها الرقيق ستا (إذا عددنا قطعة اصطفن الرهاوي بينها) . ولكن ما هو الوجه الصحيح لهذا الاسم " بيلسون "؟ ذلك ما لم يمكن التوصل إليه كما هي الحال في الأسماء الأخرى.
(1) قطب السرور: 260 - 261، وقيام المقطوعة على السجع قد يحملنا على أن نقرأ " وينير البصر ويصفي الكدر ".
(2)
قطب السرور: 256 - 257.
وعلى الجملة تمثل هذه القطع نغمة جديدة في سياق الصلات بين الأدبين اليوناني والعربي، وتشير إلى أن الترجمة لم يبق وقفا على الأشعار الحكمية والعلمية وإنما شملت أيضاً جانبا من الشعر الغنائي. وقد تكشف الأيام لنا عن جوانب أخرى إلى جانب الشعر الخمري، فإن كتاب الرقيق قد قوى مثل هذا الاحتمال، إذ ما كان أحد قبل ظهور هذا الكتاب يظن أن العرب عنوا أدنى عناية بالشعر الغنائي عند اليونانيين.
فراغ