المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ مسألة سوف:

وما اتجهوا إليه في إعراب "نعم وبئس"1 أيسر وأقرب إلى الفطرة اللغوية من مذهب إخوانهم البصريين، وكذهاب بعضهم في قضية "أشياء" وأنها جمع لشيء، منعت من الصرف لشبه ألفها بألف التأنيث2، ولهم أشباه هذه المسائل.

وبذلك تدرك صواب الظاهرة التي قدمت بها هذا الكلام من أن الحق يصيبه هؤلاء تارة، وهؤلاء تارة.

ونختتم هذه الفقرة بمثل صغير من الخلاف بين المدرستين ننتزعه من كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري" نموذجا لقضايا جاوزت المائة في هذا الكتاب، يبسط في كل منها رأي الكوفيين وحججهم، ثم رأي البصريين وحججهم مع ردودهم على حجج الكوفيين غالبا.

1 انظرها في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص66.

2 المصدر السابق ص482، فقد ركب البصريون في هذه المسألة متن عمياء واضطروا إلى الاستغاثة بأوهى العلل حتى بانحراف اللسان، وكان من حججهم قول بعض العرب:"ما أيطبه" بدل "ما أطيبه"!.

ص: 77

‌نموذج من الخلاف بين المذهبين:

92-

‌ مسألة سوف:

ذهب الكوفيون إلى أن السين التي تدخل على الفعل المستقبل نحو "سأفعل" أصلها "سوف"، وذهب البصريون إلى أنها أصل بنفسها.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك؛ لأن سوف كثر

ص: 77

استعمالها في كلامهم وجريها على ألسنتهم، وهم أبدا يحذفون لكثرة الاستعمال كقولهم:"لا أدر، ولم أبل، ولم يك، وخذ، وكل" وأشباه ذلك، والأصل:

"لا أدري، ولم أبال، ولم يكن، واأخذ، واأكل" فحذفوا في هذه المواضع وما أشبهها لكثرة الاستعمال، فكذلك ههنا: لما كثر استعمال "سوف" في كلامهم حذفوا منها الواو والفاء تخفيفا.

والذي يدل على ذلك أنه قد صح عن العرب أنهم قالوا في "سوف أفعل": "سو أفعل" فحذفوا الفاء، ومنهم من قال:"سف أفعل" فحذف الواو، وإذا جاز أن يحذف الواو تارة والفاء أخرى لكثرة الاستعمال جاز أن يجمع بينهما في الحذف مع تطرق الحذف إليهما في اللغتين لكثرة الاستعمال. والذي يدل على ذلك أن السين تدل على ما تدل عليه سوف من الاستقبال، فلما شابهتها في اللفظ والمعنى دل على أنها مأخوذة منها، وفرع عليها.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك؛ لأن الأصل في كل حرف يدل على معنى ألا يدخله الحذف وأن يكون أصلا في نفسه، والسين حرف يدل على معنى، فينبغي أن يكون أصلا في نفسه لا مأخوذا من غيره.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: إن "سوف" لما كثر استعمالها في كلامهم حذفوا الواو والفاء لكثرة الاستعمال قلنا: هذا فاسد؛ فإن الحذف لكثرة الاستعمال ليس بقياس ليجعل أصلا لمحل الخلاف، على أن الحذف ولو وجد كثيرا

ص: 78

في غير الحرف من الاسم والفعل فقلما يوجد في الحرف، وإن وجد الحذف في الحرف في بعض المواضع فهو على خلاف القياس، فلا يجعل أصلا يقاس عليه.

وأما ما رووه عن العرب من قولهم في "سوف أفعل": "سو أفعل" و"سف أفعل" فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: إن هذه رواية تفرد بها بعض الكوفيين؛ فلا يكون فيها حجة.

والوجة الثاني: إن صحت الرواية عن العرب، فهو من الشاذ الذي لا يعبأ به لقلته.

والثالث: أن حذف الفاء والواو على خلاف القياس؛ فلا ينبغي أن يجمع بينهما في الحذف؛ لأن ذلك يؤدي إلى ما لا نظير له في كلامهم؛ فإنه ليس في كلامهم حرف حذف جميع حروفه طلبا للخفة على خلاف القياس، حتى لم يبق منه إلا حرف واحد، والمصير إلى ما لا نظير له في كلامهم مردود.

وأما قولهم: "إن السين تدل على الاستقبال كما أن "سوف" تدل على الاستقبال" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن يستويا في الدلالة على الاستقبال على حد واحد، ولا شك أن "سوف" أشد تراخيا في الاستقبال من السين، فلما اختلفا في الدلالة دل على أن كل واحد منهما حرف مستقل بنفسه غير مأخوذ من صاحبه، والله أعلم"1.

1 الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري ص379 "مطبعة الاستقامة في القاهرة".

ص: 79