المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ابن هشام الأنصاري: - من تاريخ النحو العربي

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌ابن هشام الأنصاري:

‌ابن هشام الأنصاري:

"708-761هـ":

عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري، الشيخ جمال الدين الحنبلي النحوي، الفاضل المشهور أبو محمد.

قال في الدرر: ولد في ذي القعدة سنة ثمانٍ وسبعمائة، ولزم الشهاب عبد اللطيف بن المرحل، وتلا على ابن السراج، وسمع على أبي حيان ديوان زهير بن أبي سلمى ولم يلازمه ولا قرأ عليه غيره، وحضر دروس التاج التبريزي وقرأ على التاج الفاكهاني شرح الإشارة له إلا الورقة الأخيرة، وتفقه للشافعي ثم تحنبل فحفظ مختصر الخرقي في دون أربعة أشهر، وذلك قبل موته بخمس سنين! وأتقن العربية ففاق الأقران بل الشيوخ، وحدث عن ابن جماعة بالشاطبية.

وتخرج به جماعة من أهل مصر وغيرهم، وتصدر لنفع الطالبين، وانفرد بالفوائد الغريبة والمباحث الدقيقة والاستدراكات العجيبة، والتحقيق البارع والاطلاع المفرط، والاقتدار على التصرف في الكلام، والملكة التي كان يتمكن من التعبير بها عن مقصوده بما يريد، مسهبا وموجزا مع التواضع والبر والشفقة ودماثة الخلق ورقة القلب.

قال ابن خلدون1:

"ما زلنا -ونحن بالمغرب- نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له: ابن هشام، أنحى من سيبويه".

وكان كثير المخالفة لأبي حيان، شديد الانحراف عنه.

صنف: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" اشتهر في حياته وأقبل الناس عليه "وقد كتبت عليه حاشية وشرحا لشواهده"، والتوضيح على الألفية، مجلد "يعني: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك"، رفع الخصاصة: أربع مجلدات، عمدة الطالب في تحقيق تصريف ابن الحاجب: مجلدان، التحصيل والتفصيل لكتاب التذييل والتكميل: عدة مجلدات، شرح التسهيل: مسودة،

1 شهد الدماميني شارح المغني، أن ابن خلدون شديد التغالي في الثناء على مصنف المغني، وأنه قال مرة لولد ابن هشام في مجلس:"لو عاش سيبويه لم يمكنه إلا التلمذة لوالدك والقراءة عليه" حاشية الأمير على المغني 2/ 26 طبعة حجازي بالقاهرة سنة 1372هـ.

ص: 190

شرح الشواهد الكبرى، الصغرى، القواعد الكبرى، الصغرى، شذور الذهب، وشرحه، "وقد كتبت عليه حاشية لما قرئ علي"، قطر الندى، شرحه، الجامع الكبير، الجامع الصغير، شرح اللمحة لأبي حيان، شرح بانت سعاد، شرح البردة، التذكرة: خمسة عشر مجلدا، المسائل السفرية في النحو، وغير ذلك. ولد عدة حواشٍ على "الألفية" و"التسهيل" وغير ذلك.

ومن شعره:

ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله

ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل

ومن لا يذل النفس في طلب العلا

يسيرا يعش دهرا طويلا أخا ذل

توفي ليلة الجمعة خامس ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة، ورثاه ابن نباتة بقوله:

سقى ابن هشام في الثرى نوء رحمة

يجر على مثواه ذيل غمام

سأروي له في سيرة المدح مسندا

فما زلت أروي سيرة ابن هشام

"بغية الوعاة" ص293.

ص: 191

1-

مغني اللبيب عن كتب الأعاريب:

الكتاب القيم المشهور، الحافل بالمسائل والشواهد والمناقشات وحكايات الخلاف بين المذاهب النحوية وبين النحاة أنفسهم، رزق الشهرة في حياة المصنف، فكثر الإقبال عليه وحظي بخدمة بعد وفاته فكثرت عليه الشروح والحواشي، وكرم حياله الزمان فلم يأت على نسخه، وبقي محفوظا في دور الكتب في كل البلدان.

وانفرد في تأليفه بنسق استطاع أن يضم أشتاتا كثيرة في نظام، وأن يجمع قواعد كلية تنطبق على ما لا يحصى من أجزاء وأنواع، وحشد له من الشواهد العظام كثرة قل أن تجتمع في كتاب. وكانت له على كتب النحويين المشهورة ملاحظ ومآخذ نعاها عليهم واجتهد في اجتنابها في كتابه هذا، ولا بأس في التعجيل بواحدة منها لتضمنها هدفه المزدوج من تأليفه، قال:

"الحذف الذي يلزم النحوي النظر فيه هو ما اقتضته الصناعة، وذلك بأن يجد خبرا بدون مبتدأ، أو بالعكس، أو شرطا بدون جزاء أو بالعكس، أو معطوفا بدون معطوف عليه، أو معمولا بدون عامل نحو

وأما قولهم في نحو {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} 1: إن التقدير: "

والبرد"، ونحو {وَتِلْكَ

1 سورة النحل 16/ 81.

ص: 192

نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} 1: إن التقدير: "ولم تعبدني" ففضول في فن النحو، وإنما ذلك للمفسر. وكذا قولهم:"يحذف الفاعل لعظمته وحقارة المفعول أو بالعكس، أو للجهل به، أو للخوف عليه أو منه" ونحو ذلك، فإنه تطفل منهم على صناعة البيان؛ ولم أذكر بعض ذلك في كتابي جريا على عادتهم، وأنشد متمثلا:

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

بل لأني وضعت الكتاب لمتعاطي التفسير والعربية جميعا"2. وقد كان المؤلف قيل له: "هلا فسرت القرآن أو أعربته؟ " فقال: "أغناني المغني".

وكما تفرد الزمخشري بنهج خاص في تفسيره "الكشاف" ومعجمه "أساس البلاغة" سلك ابن هشام في "مغني اللبيب" طريقا فريدا امتاز به بين النحاة، بل أربى -في تفرده- على تفرد الزمخشري بالكثير الطيب.

أما خطة التأليف، فقد جعل كتابه قسمين: القسم الأول أداره على "الأدوات في اللغة العربية"، فبعد أن أحصاها وحصرها عاملة وغير عاملة، جعل يجمع كل ما استطاع من شواهدها أداة أداة؛ حتى إذا تم له جمع الشواهد على أداة ما، أمعن فيها وفي شواهدها ثم نسق معانيها المختلفة وأحكامها تبعا لهذه المعاني، وبذلك يخرج الدارس بفائدتين عظيمتين:

1 سورة الشعراء: 26/ 22.

2 مغني اللبيب ص724، مطبعة دار الفكر بدمشق سنة 1384هـ-1964م.

ص: 193

أما الأولى فمادة قيمة غزيرة في النحو الحي المؤسس على الشواهد الصحيحة، وأما الثانية فوقوفه على المعاني المختلفة والاستعمالات الصحيحة للأدوات في اللغة العربية.

ومعظم اعتماده في استنباط معاني الحروف وأحكامها على القرآن الكريم، إذ كان المصدر الوحيد الصافي المجمع على الوثوق بصحته وسلامة أدائه وتنزهه عن التحريف، ويعتمد بعده على الشواهد من الأحاديث الشريفة والأمثال والأشعار كغيره من النحاة. ونستطيع إجمال قيمة الكتاب بقولنا: هو ثقافة شواهد ومعانٍ كما هو ثقافة قواعد وأحوال.

والقسم الثاني يظهر لك من نظرة تبويب الكتاب، وإليك مضمون أبوابه الثمانية:

الباب الأول: في تفسير المفردات "حروفا وأفعالا وأسماء" وذكر أحكامها.

وقد استغرق جميع الجزء الأول في طبعتنا المشار إليها آنفا، وهو معظم الكتاب.

الباب الثاني: في الجملة وأقسامها وأحكامها.

البالب الثالث: في شبه الجملة وأحكامها.

الباب الرابع: في ذكر أحكام يكثر دورها.

ص: 194

الباب الخامس: في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها.

الباب السادس: في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين، والصواب خلافها.

الباب السابع: في كيفية الإعراب.

الباب الثامن: في ذكر أمور كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية1.

ألف الكتاب لطبقة حظيت من العلم بقسط وافر، في ثقافتها العامة من علوم شريعة وتاريخ وفلسفة ومن علوم اللغة العربية وآدابها على المستوى المألوف في عصر المؤلف، وهو مستوى يعلو كثيرا على المستوى الميسر لطبقة المثقفين اليوم ثقافة رسمية "بدرجة الدكتوراه مثلا"، وهذا يكلف دارس الكتاب جهدا لتدارك بعض ما ينقصه، كما عليه أن يلقي باله إلى مآخذ

1 وصف ابن خلدون كتاب المغني في مقدمته فقال: "وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة، وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها، وسماه بالمغني في الإعراب، وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها، وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظم سائرها، فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها، ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته، واطلاعه".

ص: 195

ومزايا فيه؛ ليستطيع أن يحظى منه بفائدة واسعة؛ فمما ينبغى أن يتنبه إليه:

1-

أن عبارته تحتاج إلى تدقيق نظر، فلا يسرعن في القراءة، بل ليتروَّ ويمعن ولا يجاوز جملة إلى غيرها حتى يستوعب المقصود منها.

2-

وأنه كثير الاستطراد على غير ما نألف في تآليفنا الحديثة، فبينما هو -مثلا- يبين الفرق بين الجملة والكلام1، إذ ينقل عن الزمخشري تجويزه الاعتراض بين المتعاطفين بسبع جمل، فيورد الشاهد ويورد وجهة النظر الثانية على الشاهد نفسه، ثم يعترض على كل من الفريقين في صميم مذهبه بنظرات فرعية. وكثيرا ما يجره الشاهد إلى تعليق، فعرض خلاف في التعليق، فمناقشة وجهات النظر بما يبعد بالذهن عن أصل الحكم الذي بدأ به، ولا بد أن نتحلى بشيء من الصبر وحسن الصحبة لتتم لنا الفائدة، إذ لا شك أن في استطراداته وشواهده وتمريناته وتدريباته وتوهيماته وترجيحاته رياضة ذهنية ممتعة في كثير من الأحيان، وإن ذلك لأعود على نشأة الملكة وتقويتها من حفظ القواعد بلا نقاش، ولا محاسبة.

3-

يزخر هذا الكتاب بشواهد من القرآن الكريم، إلا أنه كثيرا ما يقتصر من الآية على موضع الشاهد ويكون أحيانا كلمتين أو جملة مبتورة منه لا نجد صلة لها بما قبلها وما بعدها

1 ص419.

ص: 196

في الكتاب، فعلى الدارس أن يتمم في صفحة على حدة شواهد1 كل بحث قبل قراءته ليكون من المعنى العام للشاهد معين له على فهم القاعدة وموضع الاستشهاد، فتتسنى له مشاركة قيمة.

وإنما كان يفعل ذلك ابن هشام وغيره من القدامى لسبب يرجع إلى تاريخ التعليم، فنحن نعلم أن أول ما كان يبدأ به طالب العلم قديما حفظ القرآن الكريم، فإذا أتم ذلك حفظ طرفا من الأحاديث، ثم أخذوه بتعلم النحو والصرف والبلاغة والتفسير وفن الحديث وبقية العلوم. فدارس المغني قديما مفروض فيه استظهار القرآن، فإذا مر ببعض آية كان أسرع إلى إكمالها من حفظه، وليس الأمر كذلك اليوم، وإنما يتم الدارس الباحث نقصه بتحضير الشواهد قبل تمثل البحث، وإذًا سيكون نفعه من هذه الشواهد الكاملة عظيما.

4-

يحسن ألا يقتصر الدارس على موضع الشاهد الذي أتي به من أجله، بل عليه أن يقف منه في مواضع قد تتعدد؛ ليقوي مرانته النحوية واللغوية والبيانية.

5-

المصنف قوي الشعور بقيمة كتابه وبالمكانة العظمى التي له بين كتب العربية، وعلينا أن نتحرى المزايا التي تحدث عنها بصدق في مقدمته. وقد كان ضاع تأليفه الأول مع بقيه كتبه ثم استأنف العمل، يقول: "ثم شمرت عن ساعد الاجتهاد ثانيا، واستأنفت العمل لا كسلا ولا متوانيا، ووضعت هذا التصنيف

1 تداركنا ذلك في طبعتنا بإتمام الشواهد في الحواشي على قدر الحاجة التي قدرناها.

ص: 197

على أحسن إحكام وترصيف، وتتبعت فيه مقفلات مسائل الإعراب فافتتحتها، ومعضلات يستشكلها الطلاب فأوضحتها ونقحتها، وأغلاطا وقعت لجماعة من المعربين وغيرهم، فنبهت عليها وأصلحتها.

فدونك كتابا تشد الرحال فيما دونه، وتقف عنده فحول الرجال ولا يعدونه، إذ كان الوضع في هذا الغرض لم تسمح قريحة بمثاله، ولم ينسج ناسج على منواله.

واعلم أني تأملت كتب الإعراب، فإذا السبب الذي اقتضى طولها ثلاثة أمور:

أحدها: كثرة التكرار، فإنها لم توضع لإفادة القوانين الكلية بل للكلام على الصور الجزئية.

والأمر الثاني: إيراد ما لا يتعلق بالإعراب، كالكلام في اشتقاق "اسم" أهو من السمة كما يقول الكوفيون، أم من "السمو" كما يقول البصريون؟

والثالث: إعراب الواضحات.

وقد تجنبت هذين الأمرين1 وأتيت مكانهما بما يتبصر به الناظر، ويتمرن به الخاطر من إيراد النظائر القرآنية، والشواهد الشعرية، وبعض ما اتفق في المجالس النحوية2.

1 كذا، والذي عده أمور ثلاثة لا اثنان.

2 ص2-4.

ص: 198

الكتاب متداول بكثرة في البيئات التعليمية بحيث كان من الممكن الاستغناء عن إيراد نص منه نموذجا، لكني رأيت الاكتفاء بنص صغير عن حرفي "السين وسوف" لتظهر لك النواحي التي يعنى المصنف بها من الأداة وأسلوبه في بحثها، وتقابل ذلك بما مر معك عن الأداة نفسها من كتاب "الإنصاف لابن الأنباري" وبهذا النص الآتي نستتم الكلام على الكتاب.

ص: 199

حرف السين المهملة 1:

السين المفردة: حرف يختص بالمضارع، ويخلصه للاستقبال وينزل منه منزلة الجزء؛ ولهذا لم يعمل فيه مع اختصاصه به.

وليس مقتطعا من "سوف" خلافا للكوفيين، ولا مدة الاستقبال معه أضيق منها مع "سوف" خلافا للبصريين، ومعنى قول المعربين فيها "حرف تنفيس": حرف توسيع، وذلك أنها نقلت المضارع من الزمن الضيق -وهو الحال- إلى الزمن الواسع وهو الاستقبال، وأوضح من عبارتهم قول الزمخشري وغيره:"حرف استقبال". وزعم بعضهم أنها تأتي للاستمرار لا للاستقبال، ذكر ذلك في قوله تعالى:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} 2 الآية، واستدل عليه بقوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} 3 مدعيا أن ذلك إنما نزل بعد قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ} قال: "فجاءت السين إعلاما بالاستمرار لا بالاستقبال" انتهى.

وهذا الذي قاله لا يعرفه النحويون، وما استند إليه من

1 ص1/ 147.

2 سورة النساء 4/ 91: {سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا

} .

3 سورة البقرة 2/ 142: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

ص: 200

أنها نزلت بعد قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ} غير موافق عليه. قال الزمخشري: "فإن قلت: أي فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن المفاجأة للمكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع" انتهى.

ثم لو سلم، فالاستمرار إنما استفيد من المضارع كما تقول:"فلان يقري الضيف ويصنع الجميل" تريد أن ذلك دأبه. والسين مفيدة للاستقبال، إذ الاستمرار إنما يكون في المستقبل.

وزعم الزمخشري أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أنه واقع لا محالة، ولم أر من فهم وجه ذلك، ووجهه أنها تفيد الوعد بحصول الفعل، فدخولها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتضٍ لتوكيده وتثبيت معناه، وقد أومأ إلى ذلك في سورة البقرة فقال في {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} 1:"ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة، وإن تأخر إلى حين". وصرح به في سورة براءة فقال في {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} 2: السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة؛ فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد إذا قلت: سأنتقم منك.

1 سورة البقرة: 2/ 137.

2 سورة التوبة: 9/ 71.

ص: 201

سوف 1:

مرادفة للسين، أو أوسع منها، على الخلاف2. وكأن القائل بذلك نظر إلى أن كثرة الحروف تدل على كثرة المعنى وليس بمطرد.

ويقال فيها "سف" بحذف الوسط، و"سو" بحذف الأخير، و"سي" بحذفه وقلب الوسط ياء مبالغة في التخفيف، حكاها صاحب المحكم.

وتنفرد عن السين بدخول اللام عليها نحو: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 3 وبأنها قد نفصل بالفعل الملغى كقوله:

وما أدري وسوف -إخال- أدري

أقوم آل حصن أم نساء4

ملاحظة: الذين خدموا كتاب المغني شرحا واختصارا وتعليقا وعناية بالشواهد كثيرون، وأكثر كتبهم مخطوطة محفوظة في دور الكتب، والذي طبع منها حتى الآن فيما علمنا:

1-

حاشية الشيخ محمد الأمير على مغني اللبيب، طبعت في جزأين سنة 1372هـ بمطبعة حجازي

1 ص1/ 148.

2 يعني الخلاف على مدة الاستقبال في السين وسوف، وقد أشار إليه في أول حديثه عن السين.

3 سورة الضحى 93/ 5.

4 لزهير بن أبي سلمى.

ص: 202

في القاهرة، والمؤلف شديد العناية بالناحية الأدبية فهو يكمل أبيات الشواهد، ساردا ما قبلها وما بعدها مع بعض الشرح، وهذه مزية حاشيته على غيرها.

2-

تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب للدماميني وصل فيه إلى حرف الفاء، وقد طبع على متن مغني اللبيب، وعليه حاشية الشمني "لا تاريخ" طبع في المطبعة البهية بالقاهرة.

3-

المنصف من الكلام على ابن هشام، وهو حاشية للشمني طبعت بهامش الكتاب السابق، مطول جدا.

4-

حاشية الدسوقي على مغني اللبيب لابن عرفة الدسوقي، طبعت على هامش المغني في جزأين سنة 1301هـ بدار الطباعة الأميرية بالقاهرة، وهي تعنى كثيرا بتوضيح عبارة المؤلف.

5-

القصر المبني على حواشي المغني للشيخ الأبياري، وهو تقرير على حاشية الأمير المتقدمة، مطولة كثيرة الفوائد.

ص: 203

2-

كتاب شذور الذهب وشرحه:

أكثر ما حظي بالشهرة والذيوع من كتب ابن هشام ما كان ذا صبغة تعليمية مدرسية، فقد كثر الانتفاع منها وأقبل المقرئون على إقرائها طلابهم لما لمسوا من سرعة فائدتها، وألفوا أن يتدرجوا مع طلابهم بالسلسلة المعروفة له: يبدءون بكتاب "القطر" ثم بشرحه ثم بشذور الذهب ثم بشرحه للمصنف نفسه، ثم بالشرح المشهور لابن هشام لألفية ابن مالك المسمى "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" ويختمون السلسلة بتاجها "مغني اللبيب".

شذور الذهب متن صغير للمبتدئين بالنحو لم يجاوز في طبعته "34" صفحة من القطع الصغير، عبارته موجزة مكثفة تصلح لأن تستظهر، وقد أكسبها التكثيف غموضا يصعب معه اجتلاء

ص: 204

مقصودها على الطالب الصغير، ولعل هذا ما حدا ابن هشام على شرحه في خطة أوضحها في مقدمته بقوله:

"وبعد، فهذا كتاب شرحت به مختصري المسمى بـ "شذور الذهب في معرفة كلام العرب"، تممت به شواهده، وجمعت به شوارده، ومكنت من اقتناص أوابده رائده. قصدت فيه إلى إيضاح العبارة، لا إلى إخفاء الإشارة، وعمدت فيه إلى لفّ المباني والأقسام، لا إلى نشر القواعد والأحكام، والتزمت فيه أنني كلما مررت ببيت من شواهد الأصل ذكرت إعرابه، وكلما أتيت على لفظ مستغرب أردفته بما يزيل استغرابه، وكلما أنهيت مسألة ختمتها بآية تتعلق بها من آي التنزيل، وأتبعتها بما تحتاج إليه من إعراب أو تفسير أو تأويل، وقصدي تدريب الطالب، وتعريفه السلوك إلى أمثال هذه المطالب".

اختلطت في تسلسل أبواب الكتاب بحوث الأسماء ببحوث الأفعال، إذ إنه أدار ترتيبه على المبنيات فالمعربات، فذكر المرفوعات فالمنصوبات من الأسماء والأفعال، ثم عقب بالمجرورات فالتوابع، وختم بالأعداد، فهو يختلف تبويبا عما ألف في بقية الكتب من البدء ببحوث الأسماء فالأفعال فالحروف، لكنه مستوعب كل ما يجب على الطلاب علمه، ونقدر أن الطلاب قديما كانوا يختمون به وبأوضح المسالك شبه ما نسميه اليوم بالمرحلة الإعدادية.

ويؤخذ عليه ما يؤخذ على كثير من مؤلفات النحو القديمة

ص: 205

عدم الاقتصار على ما يناسب مقدرة الطالب، فتراهم يتعرضون في باب ما إلى وجوه القراءات وتخريجها، وإلى ذكر أقوال مختلفة في إعراب شاهد، ولو اقتصروا على خطوط البحث العريضة مرجئين القضايا الجانبية والاستطراد إلى مرحلة أعلى كانوا أقرب إلى التدرج الطبيعي في التعليم.

وأسلوبه في الشرح أن يورد عبارة المختصر بعد كلمة "قلت" في صيغة الماضي، ويبدأ الشرح بكلمة "وأقول" في صيغة المضارع الحالي. والملاحظ أن حجم الشرح يتفاوت بين جملة وجملة، فلم يأخذ المصنف نفسه بمراعاة حجم ما، ولكن بما رأى أن المقام والأحكام تقتضيه. وإليك نموذجا مسألتين متجاورتين في الكتاب من باب المرفوعات: الأولى خبر "لا" النافية للجنس لتقابلها بما مر من شرح ابن عقيل آنفا، والثانية المضارع المجرد عن الناصب والجازم:

ثم قلت: التاسع خبر "لا" التي لنفي الجنس نحو: "لا رجل أفضل من زيد" ويجب تنكيره كالاسم، وتأخيره ولو ظرفا، ويكثر حذفه إن علم وتميم لا تذكره حينئذ.

وأقول: التاسع من المرفوعات: خبر "لا" التي لنفي الجنس. اعلم أن "لا" على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون ناهية، فتختص بالمضارع وتجزمه نحو

ص: 206

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 2 {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 3، وتستعار للدعاء فتجزم أيضا نحو:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} 4.

الثاني: أن تكون زائدة دخولها في الكلام كخروجها، فلا تعمل شيئا نحو {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} 5 أي:"أن تسجد"، بدليل أنه قد جاء في مكان آخر بغير "لا"، وقوله تعالى:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 6، وقوله تعالى:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} 7.

الثالث: أن تكون نافية وهو نوعان: داخلة على معرفة فيجب إهمالها وتكرارها نحو: "لا زيدٌ في الدار ولا عمرو"، وداخلة على نكرة وهي ضربان: عاملة عمل ليس فترفع الاسم وتنصب الخبر كما تقدم وهو قليل، وعاملة عمل "إن" فتنصب الاسم وترفع الخبر، والكلام الآن فيها وهي التي أريد بها نفي الجنس على سبيل التنصيص، لا على سبيل الاحتمال.

وشرط إعمالها هذا العمل أمران: أحدهما أن يكون اسمها وخبرها نكرتين كما بينا، والثاني أن يكون الاسم مقدما والخبر مؤخرا وذلك كقولك:"لا صاحب علم ممقوت" و"لا طالعا

1 سورة الإسراء 17/ 37.

2 سورة الإسراء 17/ 33.

3 سورة التوبة: 9/ 40.

4 سورة البقرة: 2/ 236.

5 سورة الأعراف: 7/ 12.

6 سورة الحديد: 57/ 34.

7 سورة الأنبياء: 21/ 95.

ص: 207

جبلا حاضر".

فلو دخلت على معرفة أو على خبر مقدم وجب إهمالها وتكرارها، والأول كما تقدم من قولك:"لا زيدٌ في الدار ولا عمرو"، وأما قول العرب:"لا بصرةَ لكم" وقول عمر: "قضيةٌ ولا أبا حسن لها" يريد علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقول أبي سفيان يوم فتح مكة: "لا قريشَ بعد اليوم"

وقول الشاعر:

أرى الحاجات عند أبي خبيب

نكدن ولا أميةَ في البلاد1

فمؤول بتقدير "مثل" أي: ولا مثل أبي حسن، ولا مثل البصرة، ولا مثل قريش، ولا مثل أمية.

والثاني كقول الله سبحانه وتعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} 2.

ويكثر حذف هذا الخبر إذا علم، كقول الله سبحانه وتعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} 3 أي: فلا فوت لهم، وقوله تعالى:{لَا ضَيْرَ} 4 أي: لا ضير علينا. وبنو تميم يوجبون حذفه إذا كان معلوما، وأما إذا جهل فلا يجوز حذفه عند أحد فضلا عن أن يجب، وذلك نحو:"لا أحد أغير من الله عز وجل". ا. هـ.

1 البيت لعبد الله بن الزبير الأسدي، يهجو عبد الله بن الزبير أبا خبيب؛ لأنه مدحه فلم يكافئه.

2 سورة الصافات 37/ 47.

3 سورة سبأ 34/ 51.

4 سورة الشعراء 36/ 50.

ص: 208

ثم قلت: العاشر المضارع إذا تجرد من ناصب أو جازم.

وأقول: العاشر من المرفوعات -وهو خاتمتها- الفعل المضارع إذا تجرد من ناصب وجازم كقولك: "يقوم زيد" و"يقعد عمرو". فأما قول أبي طالب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:

محمد تفد نفسَك كلُّ نفس

إذا ما خلت من أمر تبالا

فهر مقرون بجازم مقدر وهو لام الدعاء، وقوله "تبالا" أصله "وبالا" فأبدل الواو تاء كما قالوا في "وراث" و"وجاه": تراث وتجاه.

وأما قول امرئ القيس:

فاليوم أشربْ غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل1

فليس قوله "أشرب" مجزوما وإنما هو مرفوع، ولكن حذفت الضمة للضرورة، أو على تنزيل "رَ بُ غَ" بالضم من قوله "أشرب غير" منزلة "عضد" بالضم، فإنهم قد يجرون المنفصل مجرى المتصل، فكما يقال في "عضد" بالضم:"عضد" بالسكون، كذلك قيل في "ر ب غ" بالضم:"ربغ" بالإسكان2.

1 مستحقب: مكتسب، استحقب الشيء: وضعه في حقيبته. الواغل: الداخل على مجلس شراب بغير دعوة.

2 ص249-255 شرح شذور الذهب، مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1946.

ص: 209