الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأة النحو:
ما مضى لك بيانه من أحداث اللحن حمل القوم على الاجتهاد لحفظ العربية وتيسير تعلمها للأعاجم، فشرعوا يتكلمون في الإعراب وقواعده حتى تم لهم مع الزمن هذا الفن.
والذى تجمع عليه المصادر أن النحو نشأ بالبصرة، وبها نما واتسع وتكامل وتفلسف، وأن رءوسه بنزعتيه السماعية والقياسية كلهم بصريون.
أول من أرسل في النحو كلاما أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 67هـ.
وقيل: إن علي بن أبي طالب ألقى على أبي الأسود شيئا من أصول هذا النحو، ثم قال له:"انح هذا النحو" فسمي الفن نحوا.
وقيل: إن أول من تكلم فيه: نصر بن عاصم المتوفى سنة 89هـ.
وقيل: عبد الرحمن بن هرمز المتوفى سنة 117هـ.
وقيل: لم يصل إلينا شيء عن أحد قبل يحيى بن يعمر المتوفى سنة 129هـ، وابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 117هـ.
وقيل، وقيل
…
إلخ.
ومن يقرأ بإمعان ترجمة أبي الأسود الدؤلي في "تاريخ دمشق لابن عساكر" مثلا، ثم يفكر في توارد أكثر المصادر على جعله واضع الأساس في بناء النحو لا يستبعد ذلك، فالرجل ذو ذكاء نادر وجواب حاضر، وبديهة نيرة، ثم هو بعدُ بليغ أريب مرن الذهن، وحسبك اختراعه "الشكل"1 الذي عرف
1 اختار أبو الأسود كاتبا وأمره أن يأخذ المصحف وصبغا يخالف لون المداد وقال له: "إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئا من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين" فهذا نقط أبي الأسود. أخبار النحويين البصريين لأبي سعيد السيرافي "ص16""المطبعة الكاثوليكية في بيروت" وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 109، والفهرست لابن النديم ص60.
وهذا سبب إطلاق الفتح والكسر والضم على الحركات المعروفة فيما أرى، إذ كان أبو الأسود أول من استعملها. أما السكون في هذا المصحف فعلامته التجرد من العلامة.
بنقط أبي الأسود للدلالة على الرفع والنصب والجر والتنوين، وهو ما أجمعوا عليه قديما ولم يشك فيه حديثا أحد. و"الشكل" أعود على حفظ النصوص من حدود النحو؛ ولعله أعظم خدمة قدمت للعربية حتى الآن، وكان الخطوة الأولى إلى النحو كما ذهب إليه الأستاذ أحمد أمين1.
وينص أبو الطيب اللغوي على أن أبا الأسود وضع النحو ليتعلم بنو زياد2. "واختلف الناس إليه يتعلمون العربية، وفرع لهم ما كان أصله، فأخذ ذلك عنه جماعة".
وليس يعنينا هنا تحرير هذه الأولية بتفصيل3، لكننا لا نرى
1 ضحى الإسلام 2/ 287، وانظر مراتب النحويين ص10.
2 مراتب النحويين 8، 10.
3 وما أقرب رواية أبي الفرج من الواقع والاعتدال حين سلسل لنا الخطوات في عبارة فيها كثير من الاقتصاد، قال راويا عن المدائني:
"أمر زياد أبا الأسود الدؤلي أن ينقط المصاحف فنقطها، ورسم من النحو رسوما ثم زاد فيها بعده عنبسة بن معدان ثم جاء عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء فزادا فيه، ثم جاء الخليل بن أحمد الأزدي وكان صليبة، ونجم علي بن حمزة الكسائي مولى بني كاهل من أسد فرسم للكوفيين رسوما فهم الآن يعملون عليها". الأغاني 11/ 101، وسيمر بك بعض تفصيل عن هؤلاء الأعلام، ولا بأس في تنبيهك إلى أن أبا الفرج نص في أول ترجمته لأبي الأسود على أنه "كان الأصل في بناء النحو وعقد أصوله".
وابن سلام يقول: أول من استن العربية وفتح بابها وانتهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود" طبقات فحول الشعراء ص12، طبعة دار المعارف.
وللزبيدي الأندلسي المتوفى سنة 379هـ رواية مفيدة يسلسل فيها الخطوات الأولى في كتابه طبقات النحويين واللغويين ص215 قال:
"ابن أبي سعد قال: حدثنا علي بن محمد الهاشمي قال: سمعت أبي يذكر قال:
كان بدء ما وضع أبو الأسود النحو أنه مر به سعد وكان رجلا فارسيا قدم البصرة مع أهله، وكان يقود فرسه فقال: ما لك يا سعد! ألا تركب؟ فقال: "فرسي ضالع" فضحك به من حضره. قال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه وصاروا لنا إخوة، فلو علمناهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول لم يزد عليه قال أبي: فزاد في ذلك الكتاب رجل من بني ليث أبوابا، ثم نظر فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه، فلما كان عيسى بن عمر قال:"أرى أن أضع الكتاب على الأكثر وأسمي الأخرى لغات، فهو أول من بلغ غايته في كتاب النحو".
بدا من أن نشير إلى أن اتفاقهم على أنه واضع "الشكل" وأن شبه الإجماع على أنه أول من تكلم بالنحو، وأنه كان يتصدر لإعراب القرآن1، وأن هؤلاء الذين تزعم لهم الأولية في بعض الأقوال: نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وعنبسة الفيل، وميمونا الأقرن، كلهم تلميذ أبي الأسود أو تلميذ تلميذه، عنه أخذوا العربية والقراءة بالبصرة؛ كل أولئك مع ما عرف عن أبي الأسود من ذكاء وقاد، وفكر متحرك، وعقل وروية، يجعلنا نقطع بأنه وضع أساسا بنى عليه من بعده. ولكن، ما هو هذا الأساس؟
لسنا نجد لهذا السؤال جوابا يشفي الغليل، فصحيفة أبي الأسود تعرف عند النحاة بـ "التعليقة"، فإذا أردنا معرفة محتوياتها لم نحظ بما يطمأن إليه2، بل فات معرفتها العلماء منذ المائة
1 في ترجمة حر بن عبد الرحمن القارئ النحوي أنه: سمع أبا الأسود وعنه طلب إعراب القرآن أربعين سنة. بغية الوعاة ص215.
2 أما ابن الأنباري فقد اطمأن إلى خبر ذكره في أول كتابه "نزهة الألباء في طبقات الأدباء ص5" حين روى أن علي بن أبي طالب دفع إلى أبي الأسود رقعة فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معني. واعلم أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر
…
" ثم يذكر ابن الأنباري أن أبا الأسود وضع أبواب "العطف، والنعت، والتعجب، والاستفهام" إلى أن وصل إلى باب إن واخواتها ما خلا لكن، فلما عرضها على علي أمره بضم "لكن" إليها، وكلما وضع بابا من أبواب النحو عرضه عليه. ا. هـ.
ولست أدري هل أبقت أمور الخلافة والحروب والفتن لعلي وقتا يفرغ فيه للتأليف في العلوم وتنقيحها واختراعها! ولعل الأستاذ أحمد أمين لم يكن بعيدا من الصواب حين روى هذا الخبر، فعلق عليه بما يأتي:
"وكل هذا حديث خرافة، فطبيعة زمن علي وأبي الأسود تأبى هذه التعاريف وهذه التقاسيم الفلسفية، والعلم الذي ورد إلينا من هذا العصر في كل فرع يتناسب مع الفطرة =
الرابعة مع شدة حرصهم عليها، فيروي ابن النديم خبرا طريفا عن رجل جَمّاعة للكتب له خزانة لم ير لأحد مثلها بما جمعت من خطوط العلماء الأولين ونوادر الكتب والرقاع، فهي متحف كل ما فيه نادر وثمين، قال الذي شاهدها:
"ورأيت عنده أمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علي عليه السلام وبخط غيره من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خطوط العلماء في النحو واللغة مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني والأصمعي وابن الأعرابي وسيبويه والفراء والكسائي، ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عيينة وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم، ورأيت ما يدل على أن النحو
= ليس فيه تعريف ولا تقسيم، إنما هو تفسير آية أو جمع لأحاديث ليس فيها ترتيب ولا تبويب، فأما تعريف وأما تقسيم منطقي فليس في شيء مما صح نقله إلينا عن عصر علي وأبي الأسود، وأخشى أن يكون ذلك من وضع بعض الشيعة الذين أرادوا أن ينسبوا كل شيء إلى علي، وأتباعه". ضحى الإسلام 2/ 285.
وأنا مع عدم استبعادي كثيرا صدور كلام مثل هذا عن أبي الأسود بعد موت علي بسنين حين اعتزل العمل الرسمي وفرغ لمثل هذه الشئون، لا أطمئن إلى ما روى ابن الأنباري.
حتى ابن فارس الذي ذهب إلى قدم النحو قبل زمن أبي الأسود بكثير لا ينكر إمامته وتجديده، فقد قال:"فإن قال قائل: لقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العلمين قد كانا قديما وأتت عليهما الأيام وقلا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان" الصاحبي في فقه اللغة ص10 ونقله بنصه السيوطي في المزهر 2/ 345.
لكي أقف عند قولة المبرد "قرأت أوراقا من كتابي عيسى بن عمر فكان كالإشارة إلى الأصول" وأقول: إذا كانت كتب الطبقة الثالثة هذه كالإشارة إلى الأصول، فما حال نحو أبي الأسود! "توفي أبو الأسود سنة 67 وعيسى بن عمر سنة 149هـ". انظر نزهة الألباء.
وأبو نوفل بن أبي عقرب1، وعن هؤلاء أخذ علماء البصرة طبقة بعد طبقة، ثم نشأ بعد نحو مائة عام من تلاميذهم من ذهب إلى الكوفة فعلم بها، فكان منه ومن تلاميذه ما يسمى بمدرسة الكوفة2.
وهذا جدول3 يوضح لك تتابع هذه الطبقات إلى المائة الثالثة للهجرة، وترى فيه أن أعلام الكوفة كلهم أخذوا عن أئمة البصريين بأخرة:
1 إنباه الرواة 2/ 382.
2 على أن هناك من ذهب إلى وجود مدرسة ثالثة هي مدرسة المدينة، وأن رأسها عبد الرحمن بن هرمز الذي مر بك "ص27" أنه أحد الذين نسبت إليهم أولية الكلام في النحو.
وهذا شيء لم يشتهر، لكن القفطي ذكر في هذا كلاما أنا مثبته لفائدته، فقد جاء في إنباه الرواة في ترجمته:
قال أهل العلم: إنه أول من وضع علم العربية، والسبب في هذا القول أنه أخذ عن أبي الأسود الدؤلي وأظهر هذا العلم بالمدينة، وهو أول من أظهره وتكلم فيه بالمدينة، وكان من أعلم الناس بالنحو وأنساب قريش، وما أخذ أهل المدينة النحو إلا منه ولا نقلوه إلا عنه، وإليه أشار ابن برهان النحوي في أول شرحه في "اللمع" بأن قال:
"النحاة جنس تحته أنواع: مدنيون، بصريون، كوفيون" ويروي أن مالك بن أنس إمام دار الهجرة تردد إليه لطلب النحو واللغة قبل إظهارهما، مات سنة 117. إنباه الرواة 2/ 172.
هذا واحد، وأما الثاني فبشكست الذي مر بك خبره ص13.
3 عن ضحى الإسلام 2/ 284، وتكرر الاسم معناه تعدد مشايخ صاحبه، أما الأعلام المدرجة أسماؤهم بخط رقعي فهم كوفيون، والباقون بصريون.