الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 32]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
ومِنْ في قوله- سبحانه-: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ابتدائية، والجار والمجرور في محل نصب، صفة لقوله: مَثَلًا.
أى: ضرب لكم- أيها الناس- مثلا، يظهر منه بطلان الشرك ظهورا واضحا، وهذا المثل كائن من أحوال أنفسكم، التي هي أقرب شيء لديكم.
قال القرطبي: والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية:«لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك..» «1» .
وقوله- تعالى-: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ تصوير وتفصيل للمثل، والاستفهام للإنكار والنفي. ومِنْ الأولى للتبعيض، والثانية لتأكيد النفي، وقوله شُرَكاءَ مبتدأ، وخبره لَكُمْ وقوله: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ متعلق بمحذوف حال من شركاء.
وقوله: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ جواب للاستفهام الذي هو بمعنى النفي. والجملة مبتدأ
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 23.
وخبر. وقوله: تَخافُونَهُمْ خبر ثان لأنتم، وقوله: كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ صفة لمصدر محذوف، أى: تخافونهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم.
والمعنى: ضرب الله- تعالى- لكم- أيها الناس- مثلا منتزعا من أنفسكم التي هي أقرب شيء إليكم، وبيان هذا المثل: أنكم لا ترضون أن يشارككم في أموالكم التي رزقناكم إياها، عبيدكم وإماؤكم، مع أنهم مثلكم في البشرية، ونحن الذين خلقناهم كما خلقناكم، بل إنكم لتخافون على أموالكم منهم، أن يشاركوكم فيها، كما تخافون عليها من الأحرار المشابهين لكم في الحرية وفي جواز التصرف في تلك الأموال. فإذا كان هذا شأنكم مع عبيدكم- الذين هم مثلكم في البشرية، والذين لم تخلقوهم بل نحن الذين خلقناكم وخلقناهم- فكيف أجزتم لأنفسكم أن تشركوا مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة، مع أنه- سبحانه- هو الخالق لكم ولهم، والرازق لكم ولهم؟!!.
إن تصرفكم هذا ظاهر التناقض والبطلان، لأنكم لم ترضوا أن يشارككم غيركم في أموالكم، ورضيتم أن تشركوا مع الله- تعالى-: غيره في العبادة، مع أنه- سبحانه- هو الخالق والرازق لكل شيء.
فالمقصود من الآية الكريمة، إبطال الشرك بأبلغ أسلوب، وأوضح بيان، وأصدق حجة، وأقوى دليل.
ولذا ختمها- سبحانه- بقوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أى: مثل ذلك التفصيل الجلى الواضح، نفصل الآيات الدالة على وحدانيتنا، لقوم يعقلون هذه الأمثال، وينتفعون بها في إخلاص العبادة لله الواحد القهار.
قال الإمام القرطبي: قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين، لافتقار بعضهم إلى بعض، ونفيها عن الله- سبحانه- وذلك أنه قال- سبحانه-:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا، فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا أنفسكم عن مشاركة عبيدكم، وتجعلوا عبيدي شركائى في خلقي، فهذا حكم فاسد، وقلة نظر وعمى قلب!! فإذا أبطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة، والخلق كلهم عبيد الله- تعالى- فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله- تعالى- في شيء من أفعاله.
ثم قال- رحمه الله: وهذه المسألة أفضل للطالب، من حفظ ديوان كامل في الفقه،
لأن جميع العبادات البدنية، لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب فافهم ذلك «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن هؤلاء المشركين لم ينتفعوا بهذه الأمثال لاستيلاء الجهل والعناد عليهم فقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
…
أى: لم ينتفع هؤلاء الظالمون بهذا المثل الجلى في إبطال الشرك، بل لجوا في كفرهم، واتبعوا أهواءهم الزائفة، وأفكارهم الفاسدة، وجهالاتهم المطبقة دون أن يصرفهم عن ذلك علم نافع فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أى: إذا كان هذا هو حالهم، فمن الذي يستطيع أن يهدى إلى الحق، من أضله الله- تعالى-: عنه بسبب زيفه واستحبابه العمى على الهدى.
إنه لا أحد يستطيع ذلك وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عقابه- سبحانه- لهم.
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يثبت على الحق الذي هداه- عز وجل إليه فقال:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً.. والفاء هي الفصيحة، وقوله: فَأَقِمْ من الإقامة على الشيء والثبات عليه، وعدم التحول عنه.
قوله: حَنِيفاً من الحنف، وهو الميل من الباطل إلى الحق، وضده الجنف، وحَنِيفاً حال من فاعل فَأَقِمْ.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لك- أيها الرسول الكريم- من بطلان الشرك فاثبت على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، وأقبل على هذا الدين الذي أوحاه الله إليك، بدون التفات عنه، أو ميل إلى سواه.
قال صاحب الكشاف: قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً أى: فقوم وجهك له وعدّله، غير ملتفت عنه يمينا أو شمالا، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه، وسدد إليه نظره، وقوم له وجهه، مقبلا به عليه.
والمراد بالفطرة في قوله- تعالى-: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ الملة. أى: ملة الإسلام والتوحيد.
أو المراد بها: قابلية الدين الحق، والتهيؤ النفسي لإدراكه. والأصل فيها أنها بمعنى الخلقة.
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 23.
أى: اثبت- أيها الرسول الكريم- على هذا الدين الحق، والزموا- أيها الناس- فطرة الله، وهي ملة الحق، التي فطر الناس عليها، وخلقهم قابلين لها.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يقول- تعالى-: فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه- تعالى-: فطر خلقه على معرفته وتوحيده.
وفي الحديث: «إنى خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم- أى حولتهم- الشياطين عن دينهم» .
وروى البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول: فطرة الله التي فطر الناس عليها..» «1» .
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم وحّد الخطاب أولا، ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، وخطاب الرسول خطاب لأمته، مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص «2» .
وقوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة التي فطر- سبحانه- الناس عليها.
أى: الزموا فطرة الله التي هي دين الإسلام، وقبول تعاليمه والعمل بها، لأن هذا الدين قد ارتضاه الله- تعالى- لكم، ولا تبديل ولا تغيير لما فطركم عليه وارتضاه لكم.
وذلِكَ الدين الذي اختاره- سبحانه- لكم، هو الدِّينُ الْقَيِّمُ أى: القويم المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
فاسم الإشارة يعود إلى الدين الذي أمرنا- سبحانه- بالثبات عليه، في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً.
وقوله- تعالى-: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استدراك لبيان موقف الناس من هذا الدين القيم.
أى: ذلك الدين الذي ارتضيته لكم هو الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 340.
(2)
تفسير الكشاف ج 3 ص 479.