الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
وقوله- سبحانه-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ.. بيان لحال قوم ضعف إيمانهم، واضطراب يقينهم، بعد بيان حال المؤمنين الصادقين في قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ
…
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
…
قال مجاهد:
نزلت في ناس من المنافقين بمكة، كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. وقال عكرمة:
كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلى بدر، فقتل بعضهم» «1» .
والمعنى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بلسانه دون أن يواطئ هذا القول قلبه آمَنَّا بِاللَّهِ.
وقوله فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ بيان لحال هذا البعض من الناس عند ما تنزل بهم المصائب والنكبات.
أى: فإذا أوذى هذا البعض- بعد قوله آمنا بالله- من أجل هذا القول ومن أجل تركه
(1) تفسير القرطبي ج 13 ص 330.
الدين الباطل، ودخوله في الدين الحق جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ له أى جعل عذابهم له، وإيذاءهم إياه كَعَذابِ اللَّهِ أى بمنزلة عذاب الله في الشدة والألم، فيترتب على ذلك أن يتزلزل إيمانه، ويضعف يقينه، بل ربما رجع إلى الكفر بعد الإيمان.
وفي جعل هذا البعض فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ دليل واضح على ضعف إيمانه، وفساد تفكيره، لأن عذاب الناس له دافع، أما عذاب الله فلا دافع له، ولأن عذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، أما عذاب الله فهو بسبب غضب الله- سبحانه- على من عصاه، ولأن عذاب الناس معروف أمده ونهايته أما عذاب الله فلا يعرف أحد مداه أو نهايته.
ثم بين- سبحانه- حال هذا الفريق إذا ما منّ الله- تعالى- على المؤمنين الصادقين بنصر، فقال: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ، لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ.
والضمير في قوله: لَيَقُولُنَّ بضم اللام يعود إلى مِنَ في قوله: مَنْ يَقُولُ.
باعتبار معناها، كما أن إفراد الضمائر العائدة إليها باعتبار لفظها، أى: هكذا حال ضعاف الإيمان، عند الشدائد يساوون عذاب الناس بعذاب الله، ولا يثبتون على إيمانهم أما إذا جاءكم النصر- أيها الرسول الكريم- فإن هؤلاء الضعاف في إيمانهم، يقولون بكل ثقة وتأكيد: إنا كنا معكم مشايعين ومؤيدين، ونحن إنما أكرهنا على ما قلنا، ومادام الأمر كذلك فأشركونا معكم فيما ترتب على النصر من مغانم وخيرات.
وقوله- سبحانه-: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ رد عليهم في دعواهم الإيمان، وفي قولهم للمؤمنين: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ والاستفهام لإنكار ما زعموه، ولتقرير علم الله- تعالى- الشامل للسر والعلانية.
أى: إن الله- تعالى- عالم بما في صدور العالمين جميعا من خير وشر، وإيمان وكفر. وإن هؤلاء الذين يقولون آمنا، ليس الله- تعالى- في حاجة إلى قولهم، فهو- سبحانه- يعلم السر وأخفى وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ- تعالى- علما تاما الَّذِينَ آمَنُوا به حق الإيمان وَلَيَعْلَمَنَّ حال المنافقين، علما لا يخفى عليه شيء من حركاتهم وسكناتهم. وسيجازيهم بما يستحقون من عقاب. وأكد- سبحانه- علمه بلام القسم وبنون التوكيد، للرد على دعاوى ضعاف الإيمان بأقوى أسلوب، وأبلغه، حتى يقلعوا عن نفاقهم، ويتبعوا المؤمنين الصادقين في ثباتهم.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما زعمه أئمة الكفر من دعاوى باطلة، ورد عليها فقال:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ.
أى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا على سبيل التضليل والإغراء: اتبعوا سبيلنا أى
طريقنا الذي وجدنا عليه آباءنا، وهو عبادة الأصنام، ولنحمل عنكم خطاياكم يوم القيامة، إن كان هناك بعث وحساب.
واللام في قوله: وَلْنَحْمِلْ لام الأمر، كأنهم آمرين أنفسهم بذلك، ليغروا المؤمنين باتباعهم.
أى: اطمئنوا إلى أننا لن نتخلى عنكم، ولن ننقض عهودنا معكم في حمل خطاياكم لو اتبعتمونا، أو هو أمر في تأويل الشرط والجزاء. أى: إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم.
وقد رد الله- تعالى- زعمهم هذا بقوله: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أى: وما هؤلاء الكافرون بحاملين لشيء من خطايا غيرهم التي زعموا حملها يوم القيامة، وإنهم لكاذبون في كل أقوالهم.
ومِنْ الأولى بيانية، والثانية لنفى حمل أى خطايا مهما صغرت. وقد جاء التكذيب لهم بهذا الأسلوب المؤكد، حتى يخرس ألسنتهم، ويمحو كل أثر من أقوالهم من الأذهان.
ثم بين- سبحانه- أن الأمر على عكس ما زعموه فقال: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ. أى: ليس الأمر- كما- زعموا من أنهم يحملون خطايا المؤمنين، بل الحق أن أئمة الكفر هؤلاء سيحملون خطاياهم كاملة غير منقوصة، وسيحملون فوقها خطايا أخرى، هي خطايا تسببهم في إضلال غيرهم، وصرفه عن الطريق الحق.
وعبر عن الخطايا بالأثقال، للإشعار بغاية ثقلها، وفداحة حملها، وعظم العذاب الذي يترتب عليها.
وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تأنيب وتوبيخ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أى: عما كانوا يختلقونه في الدنيا من أكاذيب، وأباطيل، أدت بهم إلى سوء المصير.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ «1» .
قال الإمام ابن كثير: وفي الصحيح: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم، مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» «2» .
(1) آية 25 من سورة النحل.
(2)
تفسير ابن كثير ج 6 ص 377.