الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا نرى الآيات الكريمة، تصور لنا أحوال الكافرين في الآخرة هذا التصوير المؤثر، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
وبعد أن فصلت السورة الكريمة ما فصلت من أحكام، وأرشدت إلى ما أرشدت من آداب، وقصت ما قصت من أحداث.. بعد كل ذلك وجهت في أواخرها نداءين إلى المؤمنين، أمرتهم فيهما بتقوى الله- تعالى- وبالاقتداء بالأخيار من عباده، وباجتناب سلوك الأشرار، كما ذكرتهم بثقل الأمانة التي رضوا بحملها، وبحسن عاقبة الصالحين وسوء عاقبة المكذبين، قال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
والمراد بالذين آذوا موسى- عليه السلام في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى
…
قومه الذين أرسله الله إليهم.
فقد حكى القرآن الكريم ألوانا من إيذائهم له، ومن ذلك قولهم له: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ
…
وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.
ومن إيذائهم له- عليه السلام ما رواه الإمام البخاري والترمذي عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بنى إسرائيل، وقالوا: ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما آفة. وإن الله- تعالى- أراد أن يبرئه مما قالوا، وإن موسى خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، وأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ بنى إسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله- تعالى-، وأبرأه الله- تعالى- مما يقولون..
فذلك قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى
…
«1» .
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، التزموا الأدب والطاعة والاحترام لنبيكم صلى الله عليه وسلم واحذروا أن تسلكوا معه المسلك الذي سلكه بنو إسرائيل مع نبيهم موسى- عليه السلام حيث آذوه بشتى أنواع الأذى.
وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ
…
واتخاذهم العجل إلها من دون الله في غيبة نبيهم موسى- عليه السلام..
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أى: فأظهر الله- تعالى- براءته من كل ما نسبوه إليه من سوء.
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أى: وكان عند الله- تعالى- ذا جاه عظيم، ومكانة سامية، ومنزلة عالية، حيث نصره- سبحانه- عليهم، واصطفاه لحمل رسالته..
يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه وقدر..
ثم أمرهم- سبحانه- بمراقبته وبالخوف منه، بعد أن نهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في إيذائهم لنبيهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً
…
والقول السديد: هو القول الصادق الصحيح الخالي من كل انحراف عن الحق والصواب، مأخوذ من قولك: سدد فلان سهمه يسدده، إذا وجهه بإحكام الى المرمى الذي يقصده فأصابه. ومنه قولهم: سهم قاصد. إذا أصاب الهدف.
أى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وراقبوه وخافوه في كل ما تأتون وما تذرون، وفي كل ما تقولون وما تفعلون، وقولوا قولا كله الصدق والصواب.
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 474.
فإنكم إن فعلتم ذلك يُصْلِحْ الله- تعالى- لَكُمْ أَعْمالَكُمْ بأن يجعلها مقبولة عنده وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ التي فرطت منكم، بأن يمحوها عنكم ببركة استقامتكم في أقوالكم وأفعالكم.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل الأقوال والأعمال فَقَدْ فازَ في الدارين فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره، ولا يعلم أحد كنهه وعلو منزلته.
ثم بين- سبحانه- ضخامة التبعة التي حملها الإنسان فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ
…
وأرجح الأقوال وأجمعها في المراد بالأمانة هنا: أنها التكاليف والفرائض الشرعية التي كلف الله- تعالى- بها عباده، من إخلاص في العبادة، ومن أداء للطاعات، ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه.
وسمى- سبحانه- ما كلفنا به أمانة، لأن هذه التكاليف حقوق أمرنا- سبحانه- بها، وائتمننا عليها، وأوجب علينا مراعاتها والمحافظة عليها، وأداءها بدون إخلال بشيء منها.
والمراد بالإنسان: آدم- عليه السلام أو جنس الإنسان.
والمراد بحمله إياها: تقبله لحمل هذه التكاليف والأوامر والنواهي مع ثقلها وضخامتها.
وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهات، فمنهم من يرى أن الكلام على حقيقته، وأن الله- تعالى- قد عرض هذه التكاليف الشرعية المعبر عنها بالأمانة، على السموات والأرض والجبال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها لثقلها وضخامتها وَأَشْفَقْنَ مِنْها أى: وخفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك ما يؤدى بهن إلى عذاب الله وسخطه بسبب التقصير في أداء ما كلفن بأدائه.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أى: وقبل الإنسان حمل هذه الأمانة عند عرضها عليه، بعد أن أبت السموات والأرض والجبال حملها، وأشفقن منها.
إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أى: إنه كان مفرطا في ظلمه لنفسه، ومبالغا في الجهل، لأن هذا الجنس من الناس لم يلتزموا جميعا بأداء ما كلفهم الله- تعالى- بأدائه. وإنما منهم من أداها على وجهها- وهم الأقلون-، ومنهم من لم يؤدها وإنما عصى ما أمره به ربه، وخان الأمانة التي التزم بأدائها.
فالضمير في قوله إِنَّهُ يعود على بعض أفراد جنس الإنسان، وهم الذين لم يؤدوا
حقوق هذه الامانة التي التزموا بحملها.
قال الآلوسى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أى: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله ويكفى في صدق الحكم على الجنس بشيء، وجوده في بعض أفراده، فضلا عن وجوده في غالبها.. «1» .
وقال بعض العلماء: ورجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي معروف في اللغة التي نزل بها القرآن.
وقد جاء فعلا في آية من كتاب الله، وهي قوله- تعالى-: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ
…
لأن الضمير في قوله: وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي، كما هو ظاهر.
وهذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة: عندي درهم ونصفه. أى: ونصف درهم آخر «2» .
وأصحاب هذا الاتجاه يقولون: لا مانع إطلاقا من أن يخلق الله- تعالى- إدراكا ونطقا للسموات والأرض والجبال، ولكن هذا الإدراك والنطق لا يعلمه إلا هو- سبحانه-.
ومما يشهد لذلك قوله- تعالى-: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «3» .
قال الجمل: وكان هذا العرض عليهن- أى على السموات والأرض والجبال تخييرا لا إلزاما، ولو ألزمهن لم يمتنعن عن حملها. والجمادات كلها خاضعة لله- تعالى- مطيعة لأمره، ساجدة له.
قال بعض أهل العلم: ركب الله- تعالى- فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن الخطاب، وأجبن بما أجبن «4» .
ويرى بعضهم أن العرض في الآية الكريمة من قبيل ضرب المثل، أو من قبيل المجاز.
قال الإمام القرطبي ما ملخصه: لما بين- تعالى- في هذه السورة من الأحكام ما بين، أمر بالتزام أوامره، والأمانة تعم جميع وظائف الدين، على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور..
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 96. [.....]
(2)
تفسير «أضواء البيان» ج 6 ص 606 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.
(3)
سورة الإسراء الآية 44.
(4)
حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 458.
ويصح أن يكون عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال على سبيل الحقيقة..
وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أى: أن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها، لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب.
أى: أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد حمله الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ، لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ....
وقال قوم: إن الآية من المجاز: أى: أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبّر عن هذا بعرض الأمانة. كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد: قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه..
وقيل: عَرَضْنَا يعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة. ورجحت الأمانة بثقلها عليها.. «1» .
ويبدو لنا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى بالقبول، لأنه ما دام لم يوجد مانع يمنع منه، فلا داعي لصرفه عن ذلك.
ومما لا شك أن قدرة الله- تعالى- لا يعجزها أن تخلق في السموات والأرض والجبال إدراكا وتمييزا ونطقا لا يعلمه إلا هو- سبحانه.
واللام في قوله- سبحانه-: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ.. متعلقة بقوله:
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ....
أى: وحملها الإنسان ليعذب الله- تعالى- بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يؤدوا ما التزموا بحمله وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أى: ويقبل الله- تعالى- توبة المؤمنين والمؤمنات، بأن يكفر عنهم سيئاتهم وخطاياهم.
وَكانَ اللَّهُ- تعالى- وما زال غَفُوراً رَحِيماً أى: واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 254.
أما بعد: فهذا تفسير لسورة (الأحزاب) نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده..
والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر مساء الخميس: 18 من رمضان سنة 1405 هـ 6/ 6/ 1985 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى