الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أول واجب على المكلف
من البدهيات في التصور الإسلامي - وهو الذي عليه عقيدة السلف - أن أول ما بجب على المكلف: هو توحيد الله عز وجل وعبادته وحده، كما تضمنته كلمة التوحيد (شهادة أن لا إله إلا الله)، وهذه المعاني انتظمتها روايات حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أهل الكتاب باليمن، وبيَّن له أول ما يدعوهم إليه؛ ففي رواية:(أن يوحدوا الله)، وفي أخرى:(عبادة الله)، وفي ثالثة:(أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)(1).
على أن أولية هذه القضية لا تختص بالابتداء بها قبل كل قضية، بل تعني ما هو أهم، وهو أنها أهم وآكد القضايا.
أما وجوده سبحانه وتعالى وأنه خالق الكون؛ فأمر فطري ضروري مركوز في النفوس البشرية جيعها، وإن كابر فيه من كابر.
هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة.
أما الأشاعرة فإن مذهبهم هو عين مذهب المعتزلة المتابعين لأسلافهم من الفلاسفة المثبتين، الذين جعلوا غاية الإيمان ومحصِّله هو (العلم بحدوث العالم وقدم الصانع).
ولما كانت وسيلة هذا العلم عندهم هي العقل وحده فقد دخلوا في متاهة فلسفية، من جهة أن أول ما يتوقف عليه حصول هذا العلم
(1) الروايات جميعها صحيحة. انظر الفتح ((3) / (357)، 361) (13/ (347)).
بجب أن يكون هو أول واجب.
فذهب بعضهم إلى أن أول واجب هو النظر.
وذهب آخرون إلى أنه القصد إلى النظر.
وقال بعضهم: إنه إرادة النظر.
وقال بعضهم: إن أول واجب هو أول جزء من النظر.
وقال بعضهم: أول واجب هو اعتقاد وجوب النظر.
وقال بعضهم: بل الشك هو أول واجب؛ لأنه الذي يدفع للقصد إلى النظر.
إلى آخر ما قالوا من التكلف والتعمق فيما لا طائل فيه!!.
وأصل البلاء: هو إنكارهم للمعرفة الفطرية، بل تصريحهم بأن وجود الله تعالى غير معلوم بالاضطرار، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال.
وهذا ما قرره وصرح به القاضي المعتزلي عبد الجبار (1)، وتبعه القاضي الأشعري الباقلاني الذي قال ضمن ما يجب على كل أحدٍ اعتقاده، ولا يجوز الجهل به: «وأن يعلم أن أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد النظر في آياته
…
لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار،
(1) قال في كتابه (شرح الأصول الخمسة) الذي حققه الدكتور عبد الكريم عثمان (ص (39)) وهي الأولى من متن الكتاب: «إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكر والنظر» اهـ.
ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة.
والثاني من فرائض الله عز وجل على جميع العباد: الإيمان به، والإقرار بكتبه ورسله
…
» (1) اهـ.
ومعلومٌ من صريح القرآن أن هذا الثاني هو المطلوب الأول الذي دعت إليه رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، وأن وجوده تعالى مما أقرَّ به الكفار المكذبون للرسل، ولا جدال في حض القرآن على النظر والفكر والتدبر، ولكن الكلام هنا في أول واجب، وكونه طريق الإيمان والتوحيد.
ويذهب الجويني إلى أبعد من ذلك، وهو أن أول واجب ليس النظر، بل القصد إلى النظر، قال:«أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحُلُم شرعًا: القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم» (2) أي: حدوثه.
ثم يدخل في مسائل محيرة ذكرها في (الشامل).
مثل مسألة ما إذا بلغ إنسان ثم اخترمته المنية وهو في أثناء النظر،
(1) الإنصاف (ص (22))، مع أن الجويني في الشامل (ص121) تحقيق النشار وتبعه المتأخرون: ذهب إلى أن مذهب القاضي هو أن أول واجب هو أول جزء من النظر.
(2)
الإرشاد (ص (3))، وانظر المواقف (ص (32)).
على أن الجويني في الشامل (ص120) ذكر الأقوال، وانتهى إلى أن النزاع لفظي، ما عدا القول بالشك فهو باطل.
فهل يعد مؤمنًا أم لا؟ (1) ونحوها مما يجزم المطَّلع عليها بأنها تكلفات محدثة لا أصل هنا ولا دليل.
وقد نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله كلام الجويني وغيره في شرحه لكتاب الإيمان من الفتح، ورد عليه قائلًا:«ومع ذلك فقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: (30)]، وحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) ظاهران في دفع هذه المسألة من أصلها» .
كما أورد الحافظ في أول كتاب التوحيد من الفتح كلامًا طويلًا جدًّا في هذه المسألة، ذكر فيه - ضمن ما ذكر - كلام أئمة الأشاعرة؛
(1) الشامل (ص122). ومثلها عن المعاصرين ما قاله سعيد حوى: «لقد نص فقهاء الحنفية على أن بنت المسلم إذا تزوجت قبل البلوغ من مسلم فإن الزواج صحيح، ويحكم بإسلامها تبعًا لأبويها، فإذا بلغت وسئلت عن الإسلام فلم تعرف أن تصفه، فإن العقد يعتبر لاغيًا بسبب تبين عدم إسلامها .. وعلى هذا فإن فقهاء الحنفية يعتبرون عدم معرفة الإسلام كفرًا ..» في آفاق التعاليم (ص (93)).
(2)
فتح الباري ((1) / (70) -71). على أنها ليست المسألة الوحيدة، بل صرَّح الدكتور النشار مع تعصبه الشديد للأشاعرة أنهم لم يخالفوا المعتزلة في الأصول، وإنما في فهم هذه الأصول. انظر مقدمة الشامل (ص (77)).
كالباقلاني، والجويني، وابن فورك، والإسفرائيني، ثم قال بعد ذكر كلامهم واختلافاتهم:«وقد ذكرت في كتاب الإيمان من أعرض عن هذا من أصله، وتمسك بقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}» . ثم ذكر الآية والحديث السابقين، وأعاد نقل اعتراف السمناني قائلًا:«وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا، وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة» (1).
أما مسألة أن (أول واجب هو الشك) فلم أجد من نص عليه من الأشاعرة نصًّا، بل نقلوه عن أبي هاشم الجبائي المعتزلي، ولكن القرطبي (2) - وهو أشعري - قال عن توبة الجويني التي فيها:«ركبت البحر الأعظم، وغُصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق، فرارًا من التقليد، والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف» . قال: «إن قوله: (ركبت البحر الأعظم) إشارة إلى هذا المذهب، أي مذهب الشك» (3).
ولكن واقع حال أئمة الأشاعرة يدل على أن أول طريق اليقين عندهم هو البدء من الشكِّ، وهذا ما ينطبق على كلام الجويني، وأصرح
(1) المصدر نفسه (13/ 349).
(2)
هو أبو العباس صاحب (المفهم) وهو شيخ المفسر الأشعري أبي عبد الله صاحب (الجامع لأحكام القرآن) الذي وصفه شيخ الإسلام بأنه من أكابر علماء الأشعرية. انظر التسعينية (ص244).
(3)
انظر فتح الباري (13/ 350).
من ذلك ما فعله الغزالي الذي عاش تجربة الشك، ثم انتهى به الأمر إلى اختيار طريق الصوفية، وقد تحدث بنفسه عن هذه التجربة في كتابه الذي أسماه (المنقذ من الضلال) وغيره.
وقريبٌ منه قول الرازي في توبته: «إني كنت رجلًا محبًّا للعلم، فكنت أكتب من كل شيءٍ شيئًا لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقًّا أو باطلًا» .
إلى أن يقول: «ولقد اختيرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدةً تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن» (1).
وهذا حال كثيرٍ منهم لما رفضوا ما أسموه (إيمان العوام)، أو (التقليد) تاهوا وتحيروا، وشكوا وترددوا، ونقبوا في كل سبيل، وبحثوا عن كل مصدر، وأخيرًا عاد من عاد منهم، وأخذ يضرع إلى الله أن يميته على دين العجائز.
وذِكْرُ حَيرتهم وتوبة من تاب منهم يطول شرحه، وإنما المقصود بيان ما أوجبوه وألزموا به الأمة من واقع حالهم هم بأنفسهم.
وأصل البلاء في هذه المسألة ونحوها: هو الإصابة بعدوى الفلسفة الوثنية الإغريقية، التي ترجمت زمن المأمون ومن بعده، والتي تنكر الوحي وتجعل العقل هو وحده الحكم والمعيار ومصدر التلقي في كل شيء، وكان مذهب فلاسفتها إخضاع المعتقدات والأديان كلها للنظر العقلي.?
(1) طبقات الشافعية (8/ 85).
فلما وافقهم المصابون بدائها من المتكلمين المنتسبين للإسلام على هذا - بغض النظر عن حسن النية وسلامة الدافع لدى بعضهم - وأدخلوا الإسلام ضمن المعتقدات القابلة للنظر والنقد، وفتحوا باب المعارضة المفتعلة بين المعقول والمنقول، وجعلوا المعقول المزعوم هو الأصل (1)؛ حصل بذلك من الضلالات والانحرافات والنكبات في دين الأمة ودنياها ما يعجز التاريخ عن حصره.
هكذا سلَّم الأشاعرة تبعًا للمعتزلة أن الإيمان بالله ورسوله بدون النظر العقلي - على الصفة التي اشترطوها - إنما هو تقليدٌ محضٌ، حتى صرح أبو حامد الغزالي - وهو من أخفِّهم في القضية - أن (جميع عقائد العوام مباديها التلقين المجرد، والتقليد المحض)(2).
ثم قالوا: كيف يصح التقليد في العقيدة وهي أصل الدين؟. وقالوا: بماذا ندفع قول الفلاسفة المعطلين - القائلين بقدم العالم - في قولهم: إن المسلم لو ولد في دار النصرانية لكان نصرانيًّا، ولو ولد في دار المجوسية لكان مجوسيًّا، لكن لما ولد في دار الإسلام صار مسلمًا، وإنما آمن كل واحدٍ بما وجد عليه قومه، وإن المسلم إذا واجهته الأدلة العقلية ربما كفر أو شك؟.
من هذا الموقف الانهزامي الدفاعي، ومن اعتبار قضية إثبات
(1) انظر تقرير هذا الموضوع في فصل (مصدر التلقي) الآتي.
(2)
إحياء علوم الدين (1/ 162) طبعة الشعب، وكلامه في الحقيقة متناقض مع أنه مناقض لما ذكره في (ص148) من الكتاب نفسه.
حدوث العالم وقِدم الصانع أساس كل قضية كما سبق، جعلوا أول واجب على المكلف هو النظر أو مقدماته، إذ بواسطته - بزعمهم - يدفع الإنسان الشكوك ويقاوم الشبهات، فيؤمن عن اقتناعٍ لا عن تقليد.
فلما تقرر هذا لديهم نظروا إلى عوام المسلمين الذين لم يعرفوا هذه المقدمات النظرية، فحاروا في حكمهم واختلفوا:
فمنهم من كفّرهم.
ومنهم من فسّقهم.
ومنهم من فصّل بحسب أهلية النظر وغيرها.
ومنهم من حكم بإيمانهم، لكن جعل النظر شرط كمال، لا شرط صحة.
إلى آخر مذاهبهم وأقوالهم التي نشير الآن إلى شيءٍ منها للاختصار:
ففي (شرح الكبرى) للسنوسي نقل الأقوال في إيمان المقلد، وأرجعها إلى ثلاثة: أنه كافر، وأنه عاصٍ، وأنه مؤمن. واختار السنوسي القول الأول (1).
والعجيب أنه ذكر ضمن ذلك عدم الاعتداد بخلاف من أسماهم (الحشوية)!.
وقال صاحب (الجوهرة):
إذ كل من قلّد في التوحيد
…
إيمانه لم يخل من ترديد?
(1) شرح الكبرى مع الحواشي (ص39). وعدم تصحيح إيمان المقلّد هو وحده الذي نسبه الكوثري إلى مذهب الأشعري. مقدمة الإنصاف (ص12).
ففيه بعض القوم يحكي الخُلفا
…
وبعضهم حقق فيه الكشفا
فقال إن يجزم بقول الغير
…
كفى وإلا لم يزل في الضير
وفي (شرح الجوهرة) للباجوري أو (البيجوري) نقل الأقوال أيضًا، ومنها: القول بالتكفير، قال:«فيكون المقلد كافرًا، وعليه السنوسي في الكبرى» (1).
أما الدسوقي في (شرح أم البراهين) فقد أطال جدًّا، واستغرق في ذكر أقوال أئمة المذهب بدءًا بأبي الحسن الأشعري الذي ينقل عنه أنه يرى عدم صحة إيمان المقلد، ومرورًا بالقاضي، وأبي المعالي، وابن العربي، وسائر أتباعهم ممن يطول ذِكرُه ونَقْلُ كلامه، ومن أراد الاستقصاء والتفصيل فليراجعها هنالك (2)، هذا مع النقول المستفيضة التي أوردها الحلافظ عنهم في كتاب التوحيد من الفتح وتقدمت الإشارة إليها.
(1)(ص32) فما بعدها، وقد ذكر عنهم ستة أقوال في حكم إيمان المقلد، واثني عشر قولًا في أول الواجبات.
(2)
انظر من (ص54 - 70) مع دقة الحروف وتقارب الأسطر.
(3)
(ص33).
قال البغدادي في (أصول الدين): «قال أصحابنا: كل من اعتقد أركان الدين تقليدًا من غير معرفةٍ بأدلتها ننظر فيه: فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال: لا آمن أن يَرِدَ عليها من الشبه ما يفسدها (؟). فهذا غير مؤمنٍ بالله ولا مطيع، بل هو كافر، وإن اعتقد الحق ولم يعرف دليله، واعتقد مع ذلك أنه ليس في الشبه ما يفسد اعتقاده، فهو الذي اختلف فيه أصحابنا:
فمنهم من قال: هو مؤمنٌ، وحكم الإسلام له لازمٌ، وهو مطيعٌ لله تعالى باعتقاده وسائر طاعاته، وإن كان عاصيًا بتركه النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدين.
قال: وبه نقول.
ومنهم من قال: إن معتقِد الحق قد خرج باعتقاده عن الكفر؛ لأن الكفر واعتقادَ الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان، غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلا إذا عرف الحق - في حدوث العالم وتوحيد صانعه، وفي صحة النبوة - ببعض أدلته، سواءً أحسن صاحبها العبارة عن الدلالة، أو لم يحسنها.
وهذا اختيار الأشعري، وليس المعتقد للحق بالتقليد عنده مشركًا، ولا كافرًا، وإن لم يسمّه الإطلاق مؤمنًا» (1).
فالبغدادي كما ترى ينقل أن رأي الأشعري: هو أن العامي المقلد ليس كافرًا ولا مؤمنًا، فهي إذن المنزلة بين المنزلتين التي ذهب إليها?
(1) أصول الدين (ص254 - 255)، طبعة استانبول (1346هـ).
المعتزلة، وفي هذا تصديق لما قاله أبو جعفر السمناني الذي نقلنا كلامه من قبل.
على أن تكفير العوام ليس هو اللازم الوحيد لهذا القول، بل ذلك ليشمل السلف أيضًا من الصحابة والتابعين؛ إذ إن إيمانهم لم يكن قطعًا على الكيفية التي رتبوها وقرروها، وحسْبُك تكفير أكمل الخلق إيمانًا دليلًا على بطلان هذا المذهب، وعلى قول من لم يكفِّر المقلد منهم، أليس الحكم بفسقهم وأنهم عاصون - كما في (المواقف) - أمرًا خطيرًا؟.
وهذا ما جعل بعض الأشاعرة - مثل السمناني السابق ذكره، وأبي المظفر ابن السمعاني، وأبي حامد الغزالي، ونحوهم - ينتقدون المذهب في هذه المسألة، وبعضهم - كالقرطبي - صرَّح بتكفير من جعل الشك أول واجب، ومن اعتقد كفر من لم يعرف الله على طريقته الكلامية (1).
وقد سبقت الإشارة إلى أن أبا حامد من أخفِّهم في المسألة؛ إذ نسبوا إليه أنه لا يرى النظر شرط صحة، بل شرط كمال (2)، وقد اعترف في (الإحياء) بخطأ منهج أصحابه في القضية، ومما قاله: «فقس عقيدة
(1) انظر الفتح كتاب التوحيد (13/ 349 - 352). ومن ذلك أن ابن تومرت - تلميذ الغزالي - ألف (المرشدة) على هذا الاعتقاد، وقال:«يجب على كل أحدٍ أن يعتقدها» . وقال بعض أتباعه: من لم يقرأها فهو كافر!. انظر مجموعة الفتاوى.
(2)
أم البراهين بشرح الدسوقي (ص57).
أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحركه الدواهي والصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء؛ تفيئه الريح مرة هكذا ومرة هكذا، إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقفه تقليدًا، كما تلقف نفس الاعتقاد تقليدًا، إذ لا فرق في التقليد بين تعلم الدليل أو تعلم المدلول، فتلقين الدليل شيءٌ، والاستدلال بالنظر شيءٌ آخر بعيدٌ عنه» (1).
ونحن مع موافقتنا لمن نقد المذهب من أصحابه وغيرهم على تفضيل عقيدة أهل الصلاح والتقى على عقيدة المتكلمين؛ لا نوافقهم على أن إيمان هؤلاء الصالحين المتقين - فضلًا عمن هو أعظم منهم إيمانًا من سلف الأمة - مجرد تقليد، كما قال أبو حامد. فمن أخذ الشيء بدليله ليس مقلدًا، واتباع نصوص الوحي ليس تقليدًا، بل هو الإيمان الذي يدل عليه العقل والنقل والفطرة!!.
وعلماء الأشاعرة لما حصروا القضية في التقليد والنظر، ثم تبين لهم من تجاربهم الخاصة فساد النظر الكلامي، وهزاله؛ عادوا إلى تفضيل التقليد حتى أوصى كثير من أئمتهم في توباتهم المشهورة آخر أيامهم؛ كالجويني، والغزالي، والرازي، وغيرهم بالتمسك بدين العجائز، ووصفوه بأنه أفضل عقيدة وأسلمها (2).?
(1) كتاب قواعد العقائد من الإحياء (1/ 162) طبعة الشعب.
(2)
حتى من لم يصرح بدين العجائز إنما طلب الرجوع إلى الإيمان المجمل الذي هو حقيقة عقيدة العجائز والعوام.
ونحن نقول: بل إن أفضل من دِينِ العجائز دِينُ الراسخين في العلم من سلف الأمة ومن اتبعهم، الذين لم يقفوا عند الإيمان المجمل، بل عرفوا من تفصيلات حقائق العقيدة ما تحترق به أعظم شبهات المبطلين، وهم الذين أظهر الله على أيديهم حجته على العالمين في كل زمان، وأورثهم ميراث النبوة والكتاب، ولكنكم - معشر الأشاعرة - لا تنفكون تصفونهم بأنهم حشوية، أو غثاء، أو نابتة، بل ترمونهم بالكفر والزندقة (1).
أما قضية التقليد فمدفوعةٌ من أصلها، فإن الفطرة التي فطر الله عليها خلقه لا تسمى تقليدًا، ومن ادَّعى أن إيمان المسلمين كإيمان اليهود والنصارى والبراهمة في أنه محض تقليد، فقد افترى وبغى، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: (وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين
…
) (2).
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رواية: (ما من مولود يولد إلا على هذه الملَّة). ولذلك لم يقل في أيٍّ من الروايات: (أو يسلمانه). بل
(1) قال صاحب الحواشي على شرح الكبرى للسنوسي (ص62): (قوله: ابن تيمية، أي الحنبلي المشهور زنديق وبغضه للدين وأهله لا يخفى). وينقل وهبي غاوجي الألباني عن السبكي ما ظاهره تكفير شيخ الإسلام ابن تيمية ويؤيده، انظر كتابه أركان الإيمان (ص298 - 299)، الطبعة الثانية، وانظر مجلة المجتمع عدد (646 لعام 1404هـ).
(2)
أخرجه مسلم (2865).
قال: (فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه)(1). فكيف نجعل من اجتالته الشياطين وأفسدته تربية الأبوين، ومن بقي على الفطرة النقية سواء؟!.?
ومع وضوح دلالة هذه المسألة من الكتاب والسنة الصحيحة؛ نجد الآمدي يقول: «إن العلم برسالة الرسول، والقول بتصديقه يتوقف على معرفة وجود المُرسِل وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز بتوسط الحادثات والكائنات والممكنات، وذلك كله ليس هو مما يقع بديهةً، فإنه لو خلّي الإنسان ودواعي نفسه في مبدأ نشوئه من غير التفات إلى أمرٍ آخر لم يحصل له العلم بشيءٍ من ذلك أصلًا (2).
وهذا الرد الصريح للنصوص الواردة في الفطرة وغيرها، ليس غريبًا إذا عرفنا قاعدة الأشاعرة العامة في موقفهم من العقل والنقل على النحو المبين في الفصل الخاص بذلك.
ولهذا فكل من قال: (أفرغ ذهني من كل الاعتقادات ثم أبحث عن الحقيقة حتى أجدها) كما وقع من الغزالي، والرازي، والجويني، وأضرابهم، فلا شك في ضلال طريقته حتى وإن أوصله بحثه إلى الحق في النهاية.
وقد يكون فلاسفة أوربا الذين سلكوا هذه الطريقة مثل (ديكارت) و (هيوم) معذورين في هذا التفريغ؛ لأنهم فرغوا أذهانهم من خرافات
(1) أخرجه البخاري (1359)، ومسلم (2658).
(2)
غاية المرام (ص323)، وكذا في (ص18).
الكنيسة ووثنية (بولس)، بل هذا هو الواجب على كل من دان بغير الإسلام، أما من ولد بين المسلمين والحق يسطع أمام عينيه وفطرته ناطقة وعقله شاهد، فما عذره إذا فرغ ذهنه من هذا الحق الأبلج وتنكر لشواهده البينات؟ (1).
إنه لا واسطة بين الكفر والإيمان، فإذا فرغ نفسه من الإيمان فقد كفر قبل أن يفكر وينظر ويقدّر، وليتهم إذ ابتلاهم الله بهذا الداء ستروا على أنفسهم وسكتوا عن مطالبة الناس به وإيجابه عليهم، بل عن كونه أول واجب وأعظم فريضة، أو ليتهم طالبوا به أمم الكفر والضلال، لا أمة الحنيفية والفطرة.
قال ابن القيم رحمه الله: «سمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: كيف يُطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟. وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
ومعلومٌ أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود
(1) وهذه الطريقة الضالة هي ما يطالب به المنهج الاستشراقي الخبيث باسم (الموضوعية) فيطلبون من المسلم أن ينسلخ عن عقيدته ويتجرد من اعتقاد عصمة القرآن من التحريف واعتقاد صحة ثبوت السنة النبوية، ويدرس السيرة المطهرة، وتاريخ الخلفاء الراشدين، كما يدرس الأناجيل، وسيرة نابليون، وجورج واشنطن، وتاريخ القرون المظلمة الأوربية، ويزعمون أن هذا هو مقتضى البحث العلمي النزيه الموصل إلى الحقائق دون تعصب ولا تقليد.
النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما» (1).
ولهذا لم يرد في كتاب الله وسنة رسوله إطلاق التقليد على أتباع الأنبياء لا لفظًا ولا حقيقةً، وإنما ذمَّ الله سبحانه وتعالى الكفار الحائدين عن دعوة الرسل بأنهم مقلدون لأسلافهم متابعون لهم بالباطل، بل إن الله تعالى سمى إسلام المشركين توبةً فقال:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: (5)].
وأمر اليهود والنصارى بالتوبة التي هي الرجوع إلى الإسلام فقال بعد قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: (72)]. وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: (73)]. قال: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: (74)]. وما ذلك إلا لأنهم خرجوا عن دين أنبيائهم (التوحيد) إلى هذا الكفر.
ولولا ما التزمناه من الاختصار لأفضنا في هذه المسألة، غير أننا نرجو أن تكون قد اتضحت.
فإن قيل: إن بعض الأشاعرة رجح أن أول واجب هو المعرفة، كما قال في الجوهرة:
وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَوَّلًا مِمَّا يَجِبْ
…
مَعْرِفَةً وَفِيهِ خُلْفٌ مُنْتَصِبْ
(1) مدارج السالكين (1/ 60) تحقيق حامد الفقي.
أفلا يكون هذا هو ما يريده السلف بتوحيد المعرفة والإثبات؟.
فالجواب:
أولًا: أن هذا ليس قول جميعهم، بل بعضهم، ولذلك قال ناظم الجوهرة:«وفيه خلفٌ منتصب» ، والأغلب على ما سبق من اشتراط النظر أو مقدماته.
ثانيًا: أن المراد بالمعرفة عند الأشاعرة ليس هو المراد عند السلف، فإن مراد الأشاعرة بها هو أن يعرف بالنظر العقلي ما يجب له، وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه على نحوٍ خاصٍّ رتبوه وقرروه، كما سبق في كلام الآمدي، حتى أن من قال: إن أول واجب هو النظر ونحوه خَرّجوا كلامه على أن النظر أساس المعرفة.
قال في (الجوهرة):
فكل من كُلِّف شرعا وجبا
…
عليه أن يعرف ما قد وجبا
لله والجائز والممتنعا
…
ومثل ذا لرسله فاستمعا
إذ كل من قلد في التوحيد
…
إيمانه لم يخل من ترديد
وقال الدردير في (الخريدة البهية)(1):
وواجب شرعًا على المكلف
…
معرفة الله العلي فاعرف
أي يعرف الواجب والمحالا
…
مع جائز في حقه تعالي
(1) مجموع مهمات المتون (ص24).
فالواجب العقلي ما لم يقبل
…
الانتفا في ذاته فابتهل
والمستحيل كل ما لم يقبل
…
في ذاته ضد ثبوت الأول
وكل أمر قابلٌ للانتفا
…
وللثبوت جائز بلا خفا
ويدل على ذلك: أن شارح (الجوهرة) رد على من قال: إن أول واجب هو الإيمان. ومن قال: هو الإسلام بقوله: «وهذان القولان متقاربان مردودان باحتياج كل من الإيمان والإسلام للمعرفة» (1).
فالنظر أو مقدماته أو متعلقاته عند من قال به منهم ما هو إلا بداية للمعرفة، فاتضح أنَّ الخلاف بينهم لفظي، وأن الكل بعيدٌ عن المفهوم السلفي للمعرفة.
والعجب أن التزام الأشاعرة باعتبار النظر أو مقدماته أول واجب عيني على كل مكلف، وتسمية الإيمان الفطري تقليدًا أفضى بهم إلى عدم اعتبار التواتر في مسألة وجود الله كافيًا، بل أخرجوا هذه المسألة في إفادة العلم الضروري من مسمَّى التواتر كما سنوضحه.
وذلك أنهم وافقوا ملاحدة الفلاسفة في عدم اعتبار اتفاق بني آدم - جميعهم من الملِّيين (أتباع الأديان) وغيرهم من المثبتين على وجود الله تعالى وحدوث العالم - مفيدًا للعلم الضروري؛ لأن المقلدين - بزعمهم - مهما كثروا لا يُعْتَدُّ بهم، والناظرون مهما تواتروا لا يُعْتَدُّ إلا بتواترهم على المحسوس.
(1)(ص34).
والأشاعرة يحصرون حصول العلم اليقيني في طريقين:
(1)
- التواتر.
(2)
- خبر الصادق المؤيد بالمعجزة (1).
والفلاسفة المعطلة ينكرون الثاني بإطلاق، ويقرُّون بالأول في المحسوسات، فأمكن إبطال قول الفلاسفة بطرائق كثيرة؛ منها:
(1)
- إبطال قولهم باشتراط المحسوسات في التواتر، وإدخال العقليات فيه. فيقال لهم: إذا نظر جمعٌ غفيرٌ من الناس فأوصلهم نظرهم إلى نتيجة عقلية نحو وجود الله، فلم لا يعد هذا تواترًا؟ (2).
(2)
- لو سلمنا لهم اشتراط الحسية نقول: إن أتباع الأنبياء وهم أكثر بني آدم ينقلون جيلًا بعد جيل أن رسل الله المتتابعين جاءوا بمعجزات باهرة، أوجبت صدقهم، فإيمان أتباعهم ليس تقليدًا، وإنما هو عملٌ بمقتضى ما ثبت نقله تواترًا، وهو محسوسٌ.
أقول: كان يمكن للأشاعرة أن يردوا عليهم بهذا مع عدم مخالفتهم لأصولهم، ولكن الحاصل: أن الأشاعرة لم يُلزموا الفلاسفة بما أقروا به وهو التواتر؛ بل سلَّموا لهم فيه، وحاولوا إلزامهم بما?
(1) العقائد النسفية (ص28) مجموع أمهات المتون، ومثله في الإرشاد وسيأتي بعضه.
(2)
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم التواطؤ على ليلة القدر بالرؤى المنامية، فكيف بتواتر النظر والاستدلال الجلي!.
ينكرونه وهو مجرد المعجزة، ولما كان استدلالهم بهذا الثاني قاصرًا؛ ظهر عليهم الفلاسفة وألزموهم.
وها هو ذا نص كلام الجويني في ذلك، قال:«إنما يثبت التواتر بشرائط: فمنها: أن يكون المخبرون عالمين بما أخبروا عنه على الضرورة، مثل أن يخبروا عن محسوسٍ أو معلومٍ بديهةً بجهةٍ أخرى سوى درك الحواس» .
فانظر كيف يعتبر العلم بحدوث العالم علمًا غير ضروري؛ لأنه ليس قائمًا على دليلٍ حسيٍّ أو بدهي، بل على دليلٍ نظريٍّ استدلالي، والإيمان ببلدة لم نرها ضروريًّا؛ لأنه حسي.
وكيف يجوز أن نصدق - بالضرورة - أعدادًا من الناس عن بلدة لم نرها، ولا نصدق بالضرورة بني آدم كلهم في إجماعهم إلا من شذ علي حدوث العالم، والإنسان قد يجد في نفسه ضرورةً أعظم من كل نظرٍ بعينه، فكيف إذا كانت هذه الضرورة مشتركة بين بني آدم كلهم.
ثم بعد هذا وقبله نسأل أنفسنا ونسأل الأشاعرة: ما قيمة الاعتراف?
(1) الإرشاد (ص413). وتبعه الرازي في الأربعين (ص304).
بحدوث العالم في العقيدة الإسلامية إذا نظرنا للكتاب والسنة وألقينا كلام (الحكماء)(1) جملة؟. الجواب واضح مما سبق.
ثم نقول من قبيل التنزل: ما هي الأدلة العقلية التي تثبتون بها معشر الأشاعرة وجود الله، والتي يجب على كل مكلف معرفتها حتى يكون إيمانه صحيحًا ولا يكون تقليدًا؟.
إن غاية ما تستدلون به هو ذلك الدليل المكرر اليتيم: (دليل الحدوث)(2).
فأما من تسمونهم (الحكماء) من المعطلة، فيجزمون ببطلانه من وجوه عقلية كثيرة، وقد جاء في ترجمة إمامكم الكبير صاحب (البراهين) المشهورة (الرازي) أنه (أو تلميذه الأرموي مختَصِرُ كُتُبِه) قال:«عندي كذا وكذا مائة شبهة على القول بحدوث العالم» (3).
وأما علماء السنة فيقولون: إنه يقوم على مقدمات عقلية طويلة، منها
(1) هكذا يسمي الأشاعرةُ الفلاسفةَ في معظم ما اطلعنا عليه من كتبهم حتى المعاصرين منهم.
(2)
انظر مثلًا المواقف (ص266).
(3)
لسان الميزان (4/ 428) ترجمة الفخر الرازي، وهذا يدل على أن حكايته مع العجوز لها أصل، وهي أن عجوزًا رأت موكبًا ضخمًا فتعجبت وقالت: من صاحب هذا الموكب، فقيل لها: هذا الإمام الرازي الذي جاء بألف دليل على وجود الله، قالت: لو لم يكن لديه ألف شك لما جاء بألف دليل. سبحانه ومتى غاب حتى يستدل عليه. اهـ.
الخطأ، ومنها الغامض المتكلف، ومنها المنازع فيه، وما في نتائجها من صواب تعرفه العامة فطرةً، ويمكن تقريره بأخصر مما تكلفتموه وأبيَن (1). ورحمة الله أوسع من أن يسد على عباده أبواب معرفته والإيمان به، إلا هذا من السبيل الوعر المتكلف.
(1) انظر مقدمة شرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية، على سبيل المثال.