المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌السمعيات مع أن هذا هو موضع مبحث السمعيات اللائق به؛ لأنه - منهج الأشاعرة في العقيدة - الكبير

[سفر الحوالي]

الفصل: ‌ ‌السمعيات مع أن هذا هو موضع مبحث السمعيات اللائق به؛ لأنه

‌السمعيات

مع أن هذا هو موضع مبحث السمعيات اللائق به؛ لأنه - بحسب الظاهر - كالاستدراك على موضوع مصدر التلقي عامة، فقد كنت أريد أن يكون هو أول مبحث من مباحث ذلك الموضوع، وهكذا كتبته في المسودة، وكان ذلك خشية أن تراود القارئ - وهو يقرأ المباحث السابقة - فكرة إثبات السمعيات عند الأشاعرة، فيظن أن النتائج التي وصل إليها هناك ليست نهائية مطلقة، بل مقيدة أو مخصصة بمسألة السمعيات، فأردت أن أقدمه لكي أستأصل هذه الشبهة سلفًا.

ثم آثرت أن أؤخر بحث هذا الموضوع إلى محله اللائق - وهو هنا - تاركًا للقارئ أن يستخلص الحكم النهائي بنفسه بعد طول أناة.

وتلك الفكرة التي خشيتها قد كانت في ذهني أنا من قبل، وهي - بحق - قائمةٌ في أذهان كثيرٍ من الباحثين، فقد كنت أحسب - كما هم يحسبون - أن إثبات الأشاعرة لما يسمونه السمعيات (أي العقائد الغيبية؛ كالجنة والنار، والميزان والصراط، وعذاب القبر، وكذلك رؤية المؤمنين لربهم تعالى ونحوها) هو خروجٌ عن أصولهم في مصدر التلقي، ورجوعٌ مطلقٌ إلى المصدر السمعي (الوحي)، وأن خطأهم فيها محصورٌ في التأصيل المنهجي لها، أعني قسمة الموارد إلى دائرة عقل ودائرة وحي.

ولهذا كنت أقبل قول من يقول: «إن الأشاعرة موافقون لأهل السنة والجماعة في السمعيات، مع مخالفتهم لهم في سائر أبواب العقيدة» .

ص: 43

ولكن الواقع الذي تنطق به كتبهم أنهم في هذا الموضوع أيضًا مخالفون لأهل السنة والجماعة في قضيتين منهجيتين:

الأولى: أن أهل السنة والجماعة لم يقسموا هذا التقسيم، وليسوا بحاجة إليه أصلًا، وذلك لأن التقسيم مبني على مفهوم فاسد عن العقل وعلاقته بالسمع، يقول الجويني بعنوان:(باب القول في السمعيات): «اعلموا وفقكم الله أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلًا ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعًا، وإلى ما يدرك سمعًا ولا يتقدر إدراكه عقلًا، وإلى ما يجوز إدراكه سمعًا وعقلًا» (1).

فهذا أصل تقسيمهم الباطل، فأما هضمهم لدور النقل وتضخيم دور العقل إلى حد القول باستقلاله بإدراك أصول العقائد؛ فلن نبحثه الآن، بل نكتفي ببيان المفهوم السلفي للعقل، فالعقل عند أهل السنة والجماعة يشمل العقل الفطري الذي منحه الله لكل بنى آدم، والعقل الاستدلالي النظري الذي يكتسبه الإنسان ويستخدمه العلماء، وبمعنى أهم هو يشمل: البديهية والبصيرة، والحسّ والفهم والتفكير.

فلهذا لم يكونوا بحاجة إلى أن يسموا شيئًا من العقائد (سمعيات) بمعناها عند الأشاعرة؛ لأنه بالمقابل ليس لديهم عقائد تسمى (عقليات) بمعناها عند أولئك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (شرح الأصفهانية). «إن طرق الناس في إثبات العقائد نوعان: سمعية وعقلية» . ثم يقرر أن «العقلية

(1) الإرشاد (ص358).

ص: 44

هي أيضًا شرعية سمعية باعتبار أن السمع دل عليها وأرشد إليها، وأن الشرع أحبّها ودعا إليها» (1). وقال:«فالآيات التي يريها الناس حتى يعلموا أن القرآن حقٌّ هي آياتٌ عقليةٌ، يستدل بها العقل على أن القرآن حقٌّ، وهي شرعية دلّ الشرع عليها وأمر بها، والقرآن مملوءٌ من ذكر الآيات العقلية التي يستدل بها العقل، وهي شرعيةٌ لأن الشرع أرشد إليها، ولكن كثيرًا من الناس لا يسمي دليلًا شرعيًّا إلا ما دلّ بمجرد خبر الرسول، وهو اصطلاحٌ قاصرٌ» (2).

فلو قال قائل: «إن كل ما يثبته أهل السنة والجماعة من العقائد ثابتٌ بالنص» لكان صادقًا، ولو قال آخر:«إن كل ما يثبته أهل السنة والجماعة من العقائد يثبته العقل» لكان صادقًا أيضًا، وليس هذا متحققًا في أي فرقة من الفرق الأخرى إطلاقًا.

أما الشيء الممتنع في عقيدة السلف فهو أن يكون هنالك أصلٌ من أصول العقائد يستقل العقل بإدراكه وإثباته، وهذا من أهم وأبرز الفوارق المنهجية بينهم وبين الأشاعرة.

وليس في إمكاننا تفصيل مهمة العقل ومجاله الذي أتاحه له المنهج القرآني في هذه العجالة، وحسبنا أن نشير إلى حقيقةٍ واحدةٍ فقط هي: أن هذا العقل قد فتح الله تعالى أمامه ثلاثة كتب متطابقة

(1)(5/ 49) المطبوعة مع الفتاوى الكبرى، ومثله عن الاستدلال على صحة النبوة في تعارض العقل والنقل (7/ 302).

(2)

النبوات (ص145 - 148).

ص: 45

متضافرة، شاهدة على قضيةٍ واحدةٍ كبرى، هي توحيد الله تعالى، ووجوب اتباع منهجه، والتمسك بوحيه، وهي:

(1)

- الكتاب المسطور (القرآن).

(2)

- الكتاب المنظور (الكون).

(3)

- الكتاب المأثور (التاريخ) أي أخبار الأمم الغابرة وآثارها في الأرض.

وسمَّى الله سبحانه وتعالى آحاد كل كتاب منها تسميةً واحدةً مشتركةً (آيات)، فالجزء المعروف من القرآن (آية)، والمشهد الكوني (آية)، والحدث التاريخي (آية)، وجعل الحديث عن هذه الآيات مبثوثًا في أكثر سور القرآن - لا سيما القرآن المكي - مما يصعب معه حصر مواضعها، ولكننا نشير إلى ما فيه من دلالات مشتركة متعلقة بموضوع (العقل):

(1)

- تأتي هذه الآيات في موضع واحد شامل كما في أول سورة الجاثية: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ 3 وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 4 وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 5 تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ 6} [الجاثية: (3) - (6)](1).

(2)

- وتأتي مفصلة كل كتاب منها على حدة مع اتحاد الصيغة والأسلوب مثل:

(1) فالآية الأولى تشمل ما في الأرض من آيات كونية وآثارية، والآية الأخيرة في الآيات القرآنية.

ص: 46

أ - صيغة التحضيض {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :

فقال عن القرآن {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: (10)].

وقال عن الكون: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: (80)].

ب - صيغة الوصف بالفعل المضارع {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} :

مثل قوله عن آيات القرآن: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: (28)].

وقوله عن آيات الكون: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].

وقوله عن آيات الآثار: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ 34 وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 35} [العنكبوت: 34 - 35].

(3)

- وتأتي مواضع تذكر فيها هذه الآيات مقرونةً بتذكر وتدبر {أُولِي الْأَلْبَابِ} :

ص: 47

كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: (29)].

وعن آيات الكون يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].

وعن آيات التاريخ يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. مع قوله في أول السورة: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: (7)].

(4)

- وتأتي مواضع يستعمل فيها صيغة مرادفة أخرى هي (التفكر):

فيقول عن آيات القرآن: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: (24)].

ويقول عن آيات الكون: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: (3)].

ويقول عن آيات التاريخ وإن لم يصرح بتسميتها آية هنا: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].

(5)

- وتأتي مواضع ينفي فيها العقل عن من أعرض عن شيء من هذه الآيات:

فقال عن آيات القرآن: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ

ص: 48

كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: (42)].

وقال عن آيات الكون: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 100 قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ 101} [يونس: 100 - 101].

وقال عن آيات التاريخ: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ 45 أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ 46} [الحج: 45 - 46].

(6)

- وتأتي مواضع يستعمل فيها صيغة الأمر (انظر) مع هذه الآيات: فيقول عن آيات القرآن: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: (75)].

ويقول عن آيات الكون: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: (99)].

ويقول عن الآيات التاريخية: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ 51 فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 52} [النمل: 51 - 52].

فها هي ذي نصوص الوحي تمنح العقل هذه الآفاق الواسعة، والمجال الرحيب، وقد وسعت مفهومه قبل أن توسع دائرة عمله، وهي أيضًا التي حَدَّتْ له حدودًا لا يجوز له تجاوزها بحال، فلا هي رفعته عن

ص: 49

منزلته، ولا هي هضمته دوره، ولا هي ضخمت دوره في جانب، وأهدرته في جانب آخر.

أما الأشاعرة؛ فلما كان العقل العاجز الكليل عندهم، لا يحسِّن شيئًا ولا يقبحه، وأفعال الله تعالى عندهم لا حكمة لها ولا غاية؛ جعلوا الإيمان بهذه الغيبيات من قبيل التفويض إلى النص، أي خبر الصادق كما يسمونه، فهي عندهم مثل وقوف غرابٍ الآن على منارة الإسكندرية، أو جبل قاف، كما عبَّر الرازي والإيجي.

ثم لما كان العقل عندهم هو الحَكَم ومصدر التلقي - وهو مجرد زعم - قالوا: «إن العقل لا يحكم باستحالتها» . وجعلوا هذه العبارة شرطًا في كل مسألةٍ من مسائل السمعيات، كما سيأتي في الأمثلة.

فلما حصروا مفهوم العقل فيما ذكرنا مع تحكيمه في كل شيءٍ، أفضى بهم ذلك حتمًا إلى افتعال التعارض بين العقل والنقل، وتخصيص دائرة عمل لكل منهما، مع إطلاق يد العقل في الأصول الكلية، وإشرافه على كلتا الدائرتين.

فظهر التناقض في أصولهم بين تحكيم العقل واستقلاله بإدراك بعض أصول العقائد من جهة، وبين وقوفه في هذه القضايا الاعتقادية موقفًا سلبيًّا هو مجرد عدم الحكم باستحالتها من جهة أخرى.

أما أهل السنة والجماعة؛ فمن منطلق النظرة الشمولية التي يتميز بها منهجهم - لأنه منهج الوحي - كانت هذه المسألة المنهجية عندهم في غاية الاتزان والاتساق والوضوح، كما قررت الآيات السابقة.

ومن أسباب هذا الاتزان باعتقادهم - حسب دلالة نصوص الوحي -

ص: 50

أن الإيمان بالغيب - في الجملة والأصل - فطريٌّ في النفوس البشرية كلها، وكل عاقلٍ مهما بلغت بدائيته يؤمن بالغيب، ويعلم ذلك في نفسه اضطرارًا، ولكن من البشر من يكابر بعد التلقين والتربية الضالة، مع أنه مهما بلغت به المكابرة إنما ينكر بعض مسائل الغيب لا كلها، وهذا هو المعروف عن الملحدين قاطبةً؛ قديمهم وحديثهم (1).

فإذا ورد النص بأمورٍ غيبيةٍ، كان هذا بالنسبة للعقل من قبيل تفصيل ما أجمل، لا أكثر، فإذا انضم إلى ذلك شهادة العقل وتسليمه المطلق سلفًا بصدق النص وصحته، لم يبق هنالك أدنى شبهةٍ للتعارض، ومن ثَمَّ فلا حاجة للتقسيم بهذا الاعتبار، ولا لتضخيم شيءٍ من جانبٍ، وإهدار قيمته في الجانب الآخر.

وعبارة: «إن العقل لا يحكم باستحالة شيءٍ من الغيبيات الثابتة بالنص» هي عند السلف قضيةٌ بديهيةٌ، ولهذا لم يحتاجوا أن يذكروها عند كل مسألة، فضلًا على أن يجعلوها شرطًا في إثبات ما أخبر به الله ورسوله، وإذا ذكروها فمن قبيل تعاضد الأدلة، وتزييف شبهات الملحدين.

أما الأشاعرة؛ فإذا قالوا: «إن العقل لا يحكم باستحالة كذا وكذا ..» مما أخبر به الشرع. فهم لا يقولونه تقريرا لبداهة القضية؛ بل تأصيلًا لتحكيم العقل، واشتراطًا لوجوب التصديق، وهذا ما ينقلنا إلى القضية الثانية وهي:

(1) وهذا ما نص عليه شيخ الإسلام في حديثه عن (السمنية)، وهم الطائفة التي تقول كتب الفرق: إنهم ينكرون ما عدا الحواس. انظر التسعينية (ص36).

ص: 51

(2)

- أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالسمعيات؛ لأن النص أخبر بها، أما الأشاعرة فيؤمنون بها لتحقق شرطين:

(1)

- أن الصادق أخبر بها.

(2)

- أن العقل لم يحكم باستحالتها.

ولو حكم عقلهم باستحالتها لردوا النص، أو فوضوه، أو أَوَّلُوه، كما فعلوا في الصفات وغيرها مما يسمونه (العقليات)، والأمثلة توضح ذلك، فلنأخذ مثالين للمقارنة، ثم نسرد أمثلة خاصة بالأشاعرة لبيان منهجهم من كلامهم.

(1)

- إثبات العلو:

يثبت أهل السنة والجماعة علو الله تعالى على خلقه إثباتًا تتعاضد فيه نصوص الوحي بفطر النفوس بنظر العقول، حسب المنهج المتسق الذي سبقت الإشارة إليه آنفًا، وأي كتاب في العقيدة السلفية تجده يقرر ذلك بوضوح ويسر.

أما الأشاعرة فينكرون العلو، وفي مقابل ذلك يؤمنون بالرؤية، بل بما هو دونها من جهة قوة الثبوت، وهو الصراط مثلًا.

فهاهنا موضع اختلاف مع أهل السنة (العلو)، وموضع اتفاق (الرؤية)، فهل هذا اضطرابٌ عارضٌ، أم تناقضٌ منهجيٌّ؟.

إن الإجابة على هذا السؤال تتضح من خلال الإجابة على سؤال وجهه أهل السنة، ويوجهونه إلى الأشاعرة، وهو: كيف تنكرون العلو مع ثبوت النصوص فيه بما يقدر بالمئات، بل الألوف، وإطباق كل من يُعتد بعقله من الملِّيِّين وغيرهم على إثباته؟.

ص: 52

وجوابهم: إن هذا من باب (العقليات) لا من باب (السمعيات)(1)، فإذا طلبنا منهم الإيضاح قالوا: إن العقل يحيل الجهة على الله تعالى - أي يحكم باستحالة ثبوت جهةٍ له سبحانه -؛ لأن إثبات الجهة من خصائص الأجسام، ونحن ننزه الله تعالى عن الجسمية (2).

فإذا سئلوا: وبم أثبتم الرؤية؟.

قالوا: أثبتناها بالعقل (3) لا بمجرد السمع؛ لأن العقل يجيز الرؤية دون اشتراط المقابلة والجهة وانطلاق شعاع من عين الرائي إلى المرئي

إلخ.

فانظر إلى عقلهم هذا الذي حكم باستحالة العلو، ولم يحكم باستحالة ذاتين منفصلتين يرى كل منهما الآخر بلا جهة ولا مقابلة!!.

وبهذا سخر منهم المعتزلة قائلين: «من أثبت الرؤية وأنكر الجهة فقد أضحك الناس على عقله» (4).

ثم نأتي لبيان وجه آخر من أوجه التناقض فنسألهم: قد علمنا بم أثبتم الرؤية وأنكرتم العلو، فبم أثبتم الصراط؟.

وجوابهم: إن هذا من باب (السمعيات)، نؤمن به لأنه غير

(1) وقد سبقت الإشارة (ص45) إلى أن كل ما يتقدم على إثبات الكلام حسب الأهمية عندهم فهو من باب العقليات.

(2)

وعلى هذا مدار كتاب (تأسيس التقديس). وقد سبق ذكر النصوص العشرة التي رآها صاحب (المواقف) في مسألة الفوقية. وقريبٌ منها في (الشامل).

(3)

الإرشاد (ص181)، وغاية المرام (ص159).

(4)

انظر بيان تلبيس الجهمية (ص (88)).

ص: 53

مستحيل في العقل، وقد أخبر به الصادق!.

وهنا يقال لهم: فأين نصوص إثبات العلو التي تعد بما ذكرنا مع صراحة الفطرة والعقل في إثباته من نصوص (الصراط) التي هي أقل بدرجات، بل لم يرد صريحًا في القرآن، ولم يتواتر - على شرطكم - من السنة؟.

فظهر تناقضهم في العقليات بين العلو والرؤية، وظهر تناقضهم في السمعيات بين الصراط والعلو، وهكذا شأن منهج الأشاعرة التوفيقي، وإن شئت فقل: التلفيقي في كل مسألة.

(2)

- إثبات المعاد (الآخرة):

ينفي الأشاعرة أن يكون للعقل مجالٌ في إثبات الآخرة، مكتفين بالقول المكرر دائمًا:«إن العقل لا يحكم باستحالته، وقد أخبر به الصادق» .

وهذا ما يخالفهم فيه أهل السنة والجماعة، بل سائر الفرق الإسلامية حتى المتفلسفة منهم.

يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما أمر المعاد؛ فيجعلونه كله من باب السمعيات؛ لأنه ممكن في العقل، والصادق قد أخبر به، وأما المعتزلة والفلاسفة والكرامية وغيرهم وكثيرٌ من أهل الحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم وكثير من الصوفية وسلف الأمة وأئمتها، فيجعلون المعاد أيضًا من العقليات، ويثبتونه بالعقل» (1).

(1) شرح الأصفهانية (ص (7)).

ص: 54

والاستدلال على المعاد وثباته بالعقل - بمفهومه السلفي - هو طريقة القرآن، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله في مواضع كثيرة، وهو مما لا بحتاج فيه إلى النقل عن أحد لشهرته ووضوحه لكل قارئ للقرآن.

ومن أشهر استدلالات القرآن:

الاستدلال بالمنشأ على المعاد، والاستدلال بإحياء الأرض الميتة على إحياء الموتي، والاستدلال بخلق ما هو أكبر على إمكان إعادة ما هو أصغر.

ونحو ذلك من المسلَّمات البديهية التي وردت في آيات تجل عن الحصر.

وحسْبُ الأشاعرة - الذين يقولون: إن العقل أصلٌ للنقل؛ لأن النقل متوقفٌ على صحة النبوة، وهي إنما تثبت بالعقل، وإلا لزم الدور كما سبق -: أن الله سبحانه وتعالى خاطب الناس في المعاد بمثل ما خاطبهم به في النبوة، فقال عن النبوة:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: (46)].

وقال عن المعاد: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ 7 أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ 8} [الروم: 7 - 8].

فلو أن القوم تدبروا كتاب الله، واستمدوا منه؛ لفازوا بصحة

ص: 55

الإيمان وسلامة التفكير وقوة اليقين.

ثم لنأخذ القضية من زاوية أخرى:

إن ظاهرة الحكمة في الكون مما تقطع به البديهية الإنسانية، وتؤخذ به العقول السليمة، فكل ما حولنا من الكون شاهدٌ عليها، ناطقٌ بها، ومقتضى هذه الحكمة ولازمُها: أن يكون هناك جزاءٌ وحسابٌ بالعدل، وإلا انحرفت ظاهرة الحكمة في أعظم وأشرف مظاهر الكون وهو الوجود الإنساني، فكيف نفسر استواء مصير طاغوت مجرم قتل الملايين وخرب الحضارات وانتهك الحرمات، ومصير أي رجلٍ ممن تُجمِع الأمم على تعظيمهم وحُسن سيرتهم وما جلبوه للعالم من خير عظيم كالأنبياء؟.

فهذا يموت وهذا يموت، وربما عاش الطاغية متمتعًا بأعظم الملذات، مغمورًا بأوسع الجاه، وعاش النبي مضطهدًا محاربًا ومات مقتولًا

فكيف تفسّر العقول السليمة والفطر المستقيمة استواء مصير كل منهما إلى موت لا بعث بعده ولا نشور، إلا على القول بأن هذا الكون كله عبث لا حكمة فيه، وهو مما تحكم باستحالته!!.

ومع وضوح هذه الآيات والعير يقول الأشاعرة: «إن أمر الآخرة مثل وقوف غراب الآن على جبل قاف، أومنارة الإسكندرية» (1)؟!.

والآن لنأتِ بأمثلةٍ من كلامهم على ما ذكرنا.

(1) أي خبر ذهني مجرد قابل للثبوت والانتفاء بذاته، لا دخل فيه لضرورة العقل والفطرة.

ص: 56

يقول الباقلاني: «ويجب أن يعلم كل ما ورد به الشرع من عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورد الروح إلى الميت عند السؤال، ونصب الصراط، والميزان، والحوض، والشفاعة للعصاة من المؤمنين، كل ذلك حقٌّ وصدقٌ، ويجب الإيمان به، والقطع به؛ لأن جميع ذلك غير مستحيل في العقل» (1).

أما الجويني فيفصل القول في كل مسألة منها:

قال عن سؤال القبر: «إن السؤال يقع على أجزاء يعلمها الله تعالى من القلب أو غيره، فيحييها الرب تعالى فيتوجه السؤال عليها، وذلك غير مستحيلٍ عقلًا، وقد شهدت قواطع السمع به» (2).

وقال عن خلق الجنة والنار: «الجنة والنار مخلوقتان؛ إذ لا يحيل العقل خلقهما، وقد شهدت بذلك آيٌ من كتاب الله» (3).

وقال عن الشفاعة: «

فإذا ثبت جواز التشفيع عقلًا، فقد شهدت له سننٌ بلغت الاستفاضة». ثم قال:«فإذا شهد العقل بالجواز، وعضدته شواهد السمع؛ فلا يبقى بعد ذلك للإنكار مضطرب» (4).

وقال عن الجن والشياطين: «

نحن قائلون بثبوتهم

فليس في إثباتهم مستحيلٌ عقليٌّ، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على

(1) الإنصاف (ص51).

(2)

الإرشاد (ص (376)).

(3)

الإرشاد (ص (377)).

(4)

الإرشاد (ص (394) - (395)).

ص: 57

إثباتهم، وحق اللبيب والمعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته» (1).

وقال عن إعادة المعدوم: «ودرجة تحرير الدليل أنا لا نقدِّر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة، ولو قدرناها مثلًا لها لقضى العقل بتجويزها، فإن ما جاز وجوده جاز مثله» (2).

ويقول الآمدي: «ومذهب أهل الحق من الإسلاميين أن إعادة كل ما عدم من الحادثات جائزٌ عقلًا، وواقعٌ سمعًا، ولا فرق في ذلك بين أن يكون جوهرًا أوعَرَضًا

» إلخ.

ثم قال: «هذا حكم الحشر والنشر، وعذاب القبر ومساءلته، ونصب الصراط والميزان، وخلق النيران والجنان، والحوض، والشفاعة للمؤمن والعاصي، والثواب والعقاب، فكل ذلك ممكنٌ في نفسه، وقد وردت به القواطع السمعية والأدلة الشرعية» (3).

وقال في (المواقف): «إن جميع ما جاء في الشرع من الصراط والميزان، والحساب وقراءة الكتب، والحوض المورود، وشهادة الأعضاء حقٌّ، والعمدة في إثباتها: إمكانها في نفسها؛ إذ لا يلزم من فَرَض وقوعها محالٌ لذاته مع إخبار الصادق عنها

» (4).

فالقوم كما ترى ملتزمون بتقديم العقل وحكمه بالإمكان وعدم

(1) الإرشاد (ص (323)).

(2)

الإرشاد (ص (372)).

(3)

غاية المرام (ص300 - 301).

(4)

المواقف (ص (383)).

ص: 58

الاستحالة، ثم يوردون الأدلة السمعية مؤيدةً وظهيرةً، ومع هذا فالباب عندهم هو باب (السمعيات)!!.

ذلك الباب الذي يتبادر إلى الذهن أنهم سلَّموا فيه للنصوص هو من أكثر الأبواب عندهم تناقضًا واضطرابًا.

أما اشتراط عدم حكم العقل بالاستحالة لإثبات ما ورد في النص؛ فحسْبُك فيه ما قاله شيخ الإسلام في مناقشته للأشاعرة في كتابه الفذ (موافقة صر يح المعقول لصحيح المنقول)، وهو كله ردٌّ على الأشاعرة خاصة، ولمن عداهم تبعًا، قال:«ومن قال: أنا أقرُّ من الصفات بما لم ينفهِ العقل. أو: أثبت من السمعيات ما لم يخالفه العقل. لم يكن لقوله ضابطٌ، فإنه تصديق بالسمع مشروطًا بعدم جنسٍ لا ضابط له ولا منتهى، وما كان مشروطًا بعدم ما لا ينضبط لم ينضبط، فلا يبقى مع هذا الأصل إيمان» (1).

وقال رحمه الله في (شرح الأصفهانية): «إن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفًا على أن يقوم عليه دليلٌ عقليٌّ على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرنا بشيءٍ من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا، ومن لم يقرّ بما جاء به

(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 177). ويقصد أن عدم مخالفة العقل أمرٌ غير منضبط، فالعقول تختلف، وأوجه المخالفة تختلف، فإذا علقنا التصديق بثبوت شيء عليها، فقد علقناه على أمرٍ غير منضبط.

ص: 59

الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنًا بالرسول، ولا متلقيًّا عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيءٍ من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يُؤَوِّله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، وإلا فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكره من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق» (1).

(1) شرح الأصفهانية (ص10 - 11).

ص: 60