المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التأويل (1) على ضوء المبحث السابق نستطيع أن نبين لماذا انتهج - منهج الأشاعرة في العقيدة - الكبير

[سفر الحوالي]

الفصل: ‌ ‌التأويل (1) على ضوء المبحث السابق نستطيع أن نبين لماذا انتهج

‌التأويل

(1)

على ضوء المبحث السابق نستطيع أن نبين لماذا انتهج الأشاعرة منهج التأويل حتى أصبح أصلًا كبيرًا من أصول مذهبهم، ليس في الصفات فحسب؛ بل في نصوص الإيمان، والوعد والوعيد، وعصمة الأنبياء، والقدر، وفي كل نصٍّ خالف ما قرروه من عقائدهم، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله عند تفصيل أصولهم الاعتقادية.

ذلك أن إيمانهم بمسألة تعارض العقل والنقل - مع التزامهم بالتوفيقية المضطربة بين السلف والمعتزلة - كان لابد أن يفضي بهم إلى البحث عن مهرب عقلي يقيهم الوقوع في إحدى مصيبتين:

(1)

- إما التمسك بنصوص الوحي.

وهذا يناقض أصولهم، وبجعلهم جزءًا من الحشوية (كما يسمون أهل السنة). وهذا عندهم بعيدٌ، بل محال.

(2)

- وإما أن يحكِّموا العقل مطلقًا، ويعودوا إلى أصلهم الاعتزالي الفلسفي.

وفي هذا إلغاءٌ لأصل وجودهم؛ لأنهم إنما ظهروا على أنهم فرقة منشقة من المعتزلة، ثم هم يختلفون فعلًا مع المعتزلة في أصولٍ كثيرةٍ، بعضها يتعلق بتحديد دائرتي العقل والنقل.

يضاف إلى ذلك أن بعض كبارهم لهم صلةٌ بالحديث النبوي، فمن

(1) المقصود هنا بحث هذا الموضوع من جهة علاقته بمصدر التلقي فقط.

ص: 83

غير المعقول أن يردوا الأحاديث الصحيحة ردًّا مباشرًا كما يفعل المعتزلة، فضلًا عن نصوص القرآن.

فما المخرج إذن؟!.

لعل أبرز ما يوضح هذه المشكلة هو هذا المثال الذي نقتبسه من كلمة لابن القيم، وهو وجود خليفة عادل اختلفت الرعية فيه ثلاثة أقسام:

- فقال قومٌ: لا بُدَّ من عزله والخروج عليه.

- وقال قومٌ: بل تجب طاعته ومناصرته.

- وجاء طائفةٌ ثالثةٌ أرادت التوفيق بين الفرقتين السابقتين فقالت: بل الحل أن يبقى له اسم الخلافة ورمزها، وتسحب منه شؤون الحكم وصلاحياته.

وحسب هذا المثال التقريبي وقفت الطوائف الثلاث (المعتزلة، السلف، الأشاعرة) من النصوص، وكان موقف الأشاعرة هو الثالث، أي الإبقاء على النصوص إثباتها، لكن ليس على أنها أصول تستمدّ منها الحقائق، بل على أنها آثار متحفية مقدسة، وبعبارة موجزة (الاحتفاظ بالنصِّ شكلًا مع إلغاء مفهومه حقيقة!).

وهذه هي حقيقة التأويل.

فالتأويل إذن ما هو إلا مهربٌ عقليٌّ من الالتزام بالنصوص، ووسيلةٌ ملتويةٌ للتخلص من معارضتها للعقل، ونتيجةٌ طبيعيةٌ من نتائج التوفيق الخاطئة.

والأشاعرة يفسرون جنوحهم للتأويل بالاضطرار، لا بالاختيار؛

ص: 84

ذلك أنهم رأوا أن الدفاع عن القرآن والإسلام في وجه الملاحدة الذين يتهمونه بالتناقض لا يمكن أن يتم إلا بتأويل بعضه ليوافق البعض الآخر المتفق مع القواطع العقلية.

وهم من هذا المنطلق يجعلون التأويل واجبًا شرعيًّا على كل مسلم.

يقول الدكتور البوطي - وتبعه عليه وهبي غاوجي وآخرون - عن وجوب تأويل آيات الصفات: «أما ترك هذه النصوص على ظاهرها دون أي تأويل لها - سواء كان إجماليًّا أو تفصيليًّا - فهو غير جائز، وهو شيءٌ لم يجنح إليه سلفٌ ولا خَلَفٌ (؟).

كيف ولو فعلتَ ذلك لحمّلتَ عقلك معانٍ متناقضة في شأن كثيرٍ من هذه الصفات، فقد أسند الله إلى نفسه العين بالإفراد في قوله تعالى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} {[طه: (39)]. وأسند مرةً أخرى إلى نفسه الأعين بالجمع فقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: (48)]. فلو ذهبت تفسر كلًّا من الآيتين على ظاهرها دون أي تأويل لألزمت القرآن بتناقض هو منه بريء (!!).

وتقرأ قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]. فإن فسرت الآيتين على ظاهرهما دون أي تأويل إجمالي ألزمت كتاب الله تعالى بالتناقض الواضح (؟).

إذ كيف يكون مستويًا على عرشه وبدون أي تأويل، ويكون في

ص: 85

الوقت نفسه أقرب إليّ من حبل الوريد بدون أي تأويل (؟).

وتقرأ قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]. وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: (84)]. فلئن فسرتها عزم ظاهرهما أقحمت التناقض في كتاب الله جل جلاله كما هو واضح» (1).

وهذا الكلام إنما يوضّح حقيقة جهل الأشاعرة الجانحين إلى التأويل من ابن فورك حتى البوطي والصابوني، فإنه لا تناقض بين هذه الآيات على الإطلاق (2)،

وحاشا كتاب الله الذي أنزله قولًا فصلًا وهدى

(1) كبرى اليقينيات (ص144)، وانظر: أركان الإيمان لوهبي غاوجي (ص19).

ومنشأ الخطأ: ظنهم أن الظاهر هو ما يتبادر من المعنى اللغوي للكلمة مطلقًا، كما إذا قرأه الأعجمي أو العامي في المعجم. فمن هنا قالوا: إن الظواهر تتناقض، أو إن الإيمان بالظاهر - كما هو مذهب السلف - تناقضٌ، وأن ترك النصوص عزم ظاهرها هو جمعٌ بين المتناقضات بلا عقل ولا تدبر.

(2)

أما قوله: {بِأَعْيُنِنَا} وقوله: {عَيْنِي} فليس بينها شائبة تناقض لكل ذي عقل، حتى أن العوام إذا طلبت من أحدهم شيئًا ما يقول تارة: من عيني، أو على عيني. وأخرى: من عيوني.

وأما استواؤه على العرش؛ فبذاته تعالى، وقربه منَّا بعلمه، كما قال قبلها وبعدها:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 16 - 17] فهو قريبٌ بعلمه وملائكته. وأما قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: (84)] فمعناها أنه في السماء معبودٌ، وفي الأرض معبودٌ، ولا خفاء في هذا ولا إشكال.

ص: 86

ونورًا أن يشتمل في أعظم الأصول وأوضحها على تناقض يضطر معه المؤمنون إلى نقض بعضه ببعض بتعسفات وتكلفات لم تأت في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا قول صحابي، ولا عالم من السلف المعتبرين.

ولكنها الأوهام الكاسدة، والأصول الفاسدة تعارض بعضه ببعض، وتختلق التناقض بين آياته المحكمات، ثم تجنح في حلها إلى الأصل الفاسد (التأويل).

هذا ولو نظرنا إلى التأويلات التي ذكرها الإيجي في المبحث السابق، لوجدنا أنها منقولة عن الجويني الذي نقلها بدوره عن ابن فورك.

أما الجويني فقد عقد في (الشامل) بابًا خاصًّا عنوانه: «باب ذكر تأويل جمل من ظواهر الكتاب والسنة» .

أوَّلَ فيه ما شاء من نصوص الكتاب والسنة بعد أن قرَّرَ قبل ذلك في أكثر من (500) صفحة عقيدته القائمة كلها على كلام الفلاسفة، ولم يذكر فيها من كلام الله ورسوله - فيما حصرت - إلا بضع آيات مجزوءة، وَرَدَ معظمها ضمن اعتراضات الخصوم، فلما عقد هذا الباب أتى على أهم آيات وأحاديث الصفات فأوَّلَهَا تأويلًا يصل أحيانًا إلى ما لايقبله عاقل من العوام (1).

(1) انظر: (ص543 - 570). ومما لا يقره عاقل في (ص567) عن حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: اعتقها فإنها مؤمنة). رواه مسلم وغيره. وتأويله بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سألها لأنها من عبدة الأوثان الذين يقولون بالجهة، فاستنطقها لكي تعترف بشركها، كما في سؤال الله تعالى: أين شركاني؟!!.

ص: 87

وقال في مقدمة الباب: «اعلموا وفقكم الله أنا كنا على أن نجتزئ بما ذكره الأستاذ أبو بكر (يعني ابن فورك) في تصنيفه المذكور المشهور المشتمل على تأويل مشكلات الأخبار (1)، ولكن اقتضى الحال أن نذكر أصول التأويلات ومآخذها ونرشد إلى جميع مداركها ..

وسبيلنا أن نبدأ بظواهر من كتاب الله تعالى، ونذكر وجوه التأويل فيها، ثم نذكر بعد تقدر الفراغ منها جملًا من السنة الواقعة من المساند المصححة عند الأثبات والثقات، ثم نشير إلى جمل من المتأكد (لعلها المآخذ) التي يتمسك بها الحشوية، ونوضح أنها لو صحت لم تضق مسالك التأويل منها» (2).

وبالاطلاع على كتاب ابن فورك نفسه يدهش المرء لكثرة ما فيه من التأويلات، فإنه لم يدع - والله أعلم - حديثًا في الصفات إلا أوَّلَه بناءً على ما ذكره أول كتابه من أنه «كتاب نذكر فيه ما اشتهر من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يوهم ظاهره التشبيه» (3)، وكل أحاديث الصفات عنده من هذا الباب.

وقد وضع ابن فورك في أول كتابه قانونًا كليًّا، لكنه سقط من

(1) هو كتاب مشكل الحديث وبيانه، طبع في الهند سنة (1362هـ)، وهو حسب اطلاعي أوسع كتاب في التأويل، وفيه ما لا يقبله مسلم، وكثيرًا ما يورد الحافظ ابن حجر كلامه وينقضه في شرحه لكتاب التوحيد من الفتح، وفيه يظهر أثر بشر المريسي اليهودي فيها.

(2)

الشامل (ص543).

(3)

كتاب مشكل الحديث (ص3).

ص: 88

الأصل، كما أشار المحقق، ولم يبق منه إلا آخر فقرة، وهي: «وأما ما كان من نوع الآحاد مما صحت الحجة به من طريق وثاقة النقلة، وعدالة الرواة، واتصال نقلهم، فإن ذلك وإن لم يوجب العلم والقطع فإنه يقتضي غالب ظن وتجويز حكم حتى يصحَّ أن حكم أنه من باب الجائز الممكن دون المستحيل الممتنع

» (1).

وهذه الفقرة كافيةٌ في بيان فكرة الرجل، وهي أن الأحاديث الصحيحة لا تفيد اليقين، وأن غاية إفادتها في ميزان النظر العقلي هي الإمكان والتجويز، ومن أجل سدّ هذا الباب اشتغل بتأويلها.

انظر إلى قوله بعد هذا مباشرة: «وإذا كانت ثمرة ما جرى هذا المجرى من الأخبار ما ذكرناه، فقد حصلت فائدةٌ عظيمةٌ لا يمكن التوصل إليها إلا به، وهذا يقتضي أن يكون الاشتغال بتأويله وإيضاح وجهه مرتبًا على ما يصحّ ويجوز في أوصافه جل ذكره، محمولًا على الوجه الذي نبينه ونرتبه من غير اقتضاء تشبيه، أو إضافة ما لا يليق بالله - جل ذِكره - إليه» (2).

وإيضاح هذا: أن معرفة الله عند الأشاعرة هي معرفة ما يجب له، وما يستحيل عليه، وما يجوز عليه، كل ذلك بطريق العقل (3).

(1) المصدر السابق (ص5).

(2)

المصدر السابق.

(3)

وهو من الأصول العقلية التي اتفقت عليها كتبهم قاطبة، وقد ترتبت على هذه القسمة الثلاثية أصول فاسدة؛ منها: نفي الحكمة عن أفعاله تعالى، واعتبارها جميعًا من قسم الجائز فقط.

ص: 89

وهذه الأحاديث الصحيحة في نظر ابن فورك مع عدم إفادتها اليقين - كما صرح في آخر فصل من الكتاب - تفيد أن مدلولها يقع ضمن الدائرة الثالثة، وهي دائرة التجويز والإمكان العقلي، وهذا مع كونه فائدةً عظيمةً في نظره، لكن يجب ألا يتعارض مع ما يستحيل على الله وهو التشبيه - كما يتصورونه هم -، فلهذا وجب تأويلها، وليس هذا إلا من قبيل إرجاع الآيات المتشابهات - ومنها عندهم آيات الصفات - إلى الآيات المحكمات، كما نصَّ في أول كلامه الذي نقلنا.

وبهذا يظهر أن موقف الأشاعرة من النصوص أصلٌ من أصول المنهج، وأنه يشترك فيه متكلموهم المتأخرون مع المنتسبين للحديث من المتقدمين، وما سبب ذلك إلا ما قدمنا.

بل إن أبا حامد الغزالي مع أنه رجح معيار الكشف والذوق على معيار العقل - كما سيأتي - قد وافقهم على ذلك فهو يقول: «كل خبرٍ مما يشير إلى إثبات صفةٍ للباري تعالى يشعر ظاهره بمستحيل في العقل نُظِرَ: إن تطرق إليه التأويل قُبِلَ وأُوِّلَ.

وإن لم يندرج فيه احتمال تبين على القطع كذب الناقل (؟)، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسدد أرباب الألباب ومرشدهم، فلا يظن به أن يأتي بما يستحيل في العقل».

ثم ذكر أمثلة لذلك من أحاديث الصفات؛ كالقدم والإصبع والصورة، وأوَّلَها جميعها وقال:«والقول الوجيز أن كل ما لا تأويل له فهو مردودٌ، وما صحَّ وتطرق إليه التأويل قبل» (1).

(1) المنخول (ص286 - 287)، تحقيق محمد حسن هيتو.

ص: 90

فيا لها من قاعدة ما أفسدها، وأشد معاندتها للنصوص.

أما في (الإحياء) فقد نصَّ على أن الأخذ من النصوص مدعاة للاضطراب قال: «فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع، فلا يستقرّ له فيها قدم، ولا يتعين له موقف» (1).

وهناك بَيَّنَ أن معيار التأويل هو الذوق والكشف وسيأتي في بابه.

وقال في (المستصفى): «القسم الثاني من الأخبار: ما يعلم كذبه؛ وهي أربعة:

الأول: ما يعلم خلافه بضرورة العقل، أو نظره، أو الحس والمشاهدة، أو أخبار التواتر، وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة: كمن أخبر عن الجمع بين الضدين، وإحياء الموتى في الحال، وأنا (لعله وأنه) على جناح نسر، أو في لجة بحر، وما يحسّ خلافه» (2).

ثم جاء السنوسي فبين سبب الجنوح إلى التأويل فقال: «ما أخبر الشرع به وكان ظاهره مستحيلًا عند العقل، فإنا نصرفه عن ظاهره المستحيل

» (3). وقد سبق نقله بتمامه.

وقبلهم جميعًا قال عبد القاهر البغدادي: «إن روى الراوي ما

(1) الإحياء (1/ 180).

(2)

المستصفى (2/ 142) طبعة بولاق.

ولو طبقنا كلام الغزالي هذا على ما ورد في الإحياء من حكايات، فكم سيبقى منه؟ ولكنه لم يقصد ردَّ حكايات الصوفية، وإنما ردَّ الأحاديث.

(3)

شرح الكبرى مع الحواشي (ص502).

ص: 91

يُحِيله العقل ولم يحتمل تأويلًا صحيحًا فخبرٌ مردودٌ، وإن كان ما رواه الثقة يروق ظاهره في العقول، ولكن يحتمل تأويلًا يوافق قضايا العقل قبلنا روايته وتأوَّلناه على موافقته العقول». ومَثَّلَ لذلك بحديث:(إن الله خلق آدم على صورته)(1).

فالكل متفقون على تحكيم العقل، وأن النصوص لا تفيد اليقين، وأن التأويل مخرجٌ سائغ، ومهربٌ سليم، وهذا ما يضعنا على أعتاب قضية لا ينبغي تجاوزها، وهي جناية التأويل على الإسلام.

(1) أصول الدين (ص (23)).

ص: 92