الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصدر التلقي
العقل مصدرًا ومعارضًا
إن موضوع مصدر التلقي لهو من أهم وأخطر القضايا الاعتقادية، بل هو بمنزلة الأساس الذي تقوم عليه سائر الاعتقادات، والأصل الذي تتفرع عنه سائر المناظرات.
وأهل السنة والجماعة فى هذه القضية على المنهاج الواضح، والمحجة البيضاء، وهي أن مصدر العلم عن الله، وما يتفرع عنه من أنواع التعبدات جميعها إنما هو الوحي، ومن خلال الوحي نعلم قيمة العقل ومهمته ومجاله، ألا وهي الاجتهاد فى فهم النصوص وكيفية العمل بها، لا في قبولها أو ردها، فهو الآلة التي وهبنا الله إياها لنسير بها على هدى وحيه العصوم (1)، وما كان للآلة أن تتعارض مع المنهج ولا أن تعترض عليه؛ لأن التعارض اتهامٌ لمن أنزل الوحي وخلق الآلة، والاعتراض متردٌ على الربوبية، وإنكارٌ للعبودية.
وقد سارت القرون المفضلة على هذه القاعدة البلجاء، فنالت قمة المجد والسعادة فى الدارين، فلما أطلّت الفتن والبدع برأسها، ثم تمكنت من التوغل فى عقول السلاطين فى عصر المأمون إلى المتوكل دارت أكبر معركة فكرية فى التاريخ الإسلامي، وكان موضوعها هو هذه القضية الكبرى (أيهما نقدم: النقل والاتباع، أم العقل والابتداع؟).
وهو الموضوع الذي تمثل فى أعظم مظاهره فى مسألة (القول بخلق
(1) ومن رحمة الله أن من سلبه الآلة لم يطالبه التكليف.
القرآن)، ووقف السلاطين والوزراء والجند والجلادون مع الرأي الثاني، ووقف أحمد بن حنبل والحق مع الأول.
وكان موقف الإمام الثابت خلال المحنة كلها هو قوله: «أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله» . فإن جاءوا بظواهر من القرآن قال: «أعطوني شيئًا من السنة، وأقوال الصحابة» . فكانت السياط تلهب ظهره حتى يغمى عليه، فإذا أفاق امتحنوه فأعاد العبارة نفسها، فيجلدونه حتى يغمى عليه ثانيةً، وهكذا
…
وصمد على هذا الموقف حتى اندحرت جيوش البدعة، وتكسرت راياتها، واستيقظت الأمة من جديد لتعرف أصل المعركة ودوافعها.
إن الإمام أحمد رحمه الله كان على يقينٍ تامٍّ بأن القضية ليست كلمة اعتراف يقولها المرء معللًا في نفسه بدواعي الإكراه، وتحميل النفس ما لا يطاق من العذاب، وينتهي الأمر؛ ولكن المسألة أكبر من كل قضايا الخلاف الفكري في التاريخ، إنها مسألة: أيهما المتبع وأيهما مصدر التلقي، الوحي أم غيره؟ ولا بد للأمة أن تعلم أن أصل الخلاف هو هذا، وأن التسليم بقضيةٍ واحدةٍ لغير الوحي يؤذن بإقصاء هذا المصدر كله.
وإزاء هذه المسألة هانت نفس أحمد بن حنبل عليه وتهون كل النفوس، وهذا النوع الفريد من المناظرة هو أحسن أنواع المناظرات وأفضلها (1)، ومن أراد إفحام أي زائغ أو مبتدع فليجعل هذا هو الأصل والقاعدة، ثم ليناظرهم بعد ذلك بما يشاء، كما فعل الإمام نفسه في مجلس الخليفة وفي كتبه.
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل ((1) / (288))، حيث علل شيخ الإسلام لأفضلية هذا النوع، وأنه ربطٌ بأصل المشكلة.
على أن الحقيقة الكبرى التي يجهلها هؤلاء المعارضون للوحي - وهي التي سطرها أحمد نفسه في رسالة الرد على الجهمية - أن الذي تعارض مع الوحي ليس العقل بذاته، ولكن استخدامهم المنكوس له، أما الثابت قطعًا بواقع الجيل الأول الذي هو أعظم الناس عقولًا، وأصفاها فكرًا، وبواقع الصراع الفكري في التاريخ الإسلامي كله، وبالاستقراء المستقصى؛ فهو أن العقل الصحيح لا يمكن أبدًا أن يتعارض مع النقل الصحيح. وهذا هو موضوع السِّفر العظيم الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)(1).
ولسنا في مقام الإفاضة في هذا الموضوع الجلل، وإنما غرضنا عرض مذهب الأشاعرة في القضية من خلال نصوص كتبهم تأصيلًا وتطبيقًا.
إن منهج الأشاعرة في هذه القضية يقوم على (القانون الكلي) الذي وُضعت مبادئه وبذوره في كتابات الباقلاني (ت403هـ)، والجويني (ت (478) هـ)، وستأتي النقول عنهما عما قليل، ثم جاء أبو حامد الغزالي (ت505هـ) فألف كتابه (قانون التأويل)، وأعقبه الفخر الرازي (ت606هـ) الذي وضع هذا القانون في صورة مقدمات موجزة، وعليه عوَّل من بعده كصاحب (المواقف) وشراحه.
وهذا القانون هو الذي صدر به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه المشار إليه (2).
(1) هذه التسمية الفضلى في نظرنا، وإن كان الدكتور رشاد سالم اختار (درء تعارض العقل والنقل) لأن الموافقة إيجابٌ، والدرء سلبٌ.
(2)
انظر درء تعارض العقل والنقل (ص (4))، ولم ينقله شيخ الإسلام بنصه؛ لأنه ذكر موجز كلامهم، لا كلام الرازي وحده.
وإليك نصّ القانون من أصل كلام صاحبه.
يقول الرازي في (أساس التقديس): «الفصل الثاني والثلاثون في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر التقلية فكيف يكون الحال فيها؟.
اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا (1) أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة (2):
(1)
- إما أن يُصَدِّقَ مقتضى العقل والنقل، فيلزم تصديق النقيضين وهو محال.
(2)
- إما أن يَبْطُل، فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال.
(3)
- وإما أن يصدق الظواهر النقلية، ويكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وسلم (3).
ولو جوَّزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهمًا غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة.
(1) انظر كيف قدم العقل وإثباته للشيء، ثم عقبه بقوله:«ثم وجدنا أدلة نقلية» فالعقل أساس البحث.
(2)
كتابة الأرقام من عندنا في هذا وما بعده.
(3)
وهذا هو طريق الإيمان الوحيد عند الأشاعرة.
فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا، وأنه باطلٌ، ولما بطلت الأقسام الأربعة (1) لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: إنها غير صحيحة (2)، أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها.
ثم إن جوَّزنا التأويل واشتغلنا (3) على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأول فوّضنا العلم بها إلى الله تعالى.
فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات. وبالله التوفيق» اهـ (4).
ويقول الجويني في (الإرشاد): «واعلموا وفقكم الله تعالى أن أصول العقائد تنقسم إلى:
1 -
ما يدرك عقلًا، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعًا.
(2)
- وإلى ما يدرك سمعًا، ولا يتقدر إدراكه عقلًا.
(3)
- وإلى ما يجوز إدراكه سمعًا وعقلًا.
(1)
- فأما ما لا يدرك إلا عقلًا، فكل قاعدة في الدين تتقدم على العلم بكلام الله تعالى، ووجوب اتصافه بكونه صدقًا، إذ السمعيات تستند إلى كلام الله تعالى، وما يسبق ثبوته في الترتيب ثبوت
(1) كذا! ولعل الصواب: الأقسام الثلاثة.
(2)
انظر كيف أطلق القول ولم يفرق على الأقل بين القرآن والسنة.
(3)
كذا بالأصل، ولعل الواو زائدة.
(4)
انظر أساس التقديس (ص172 - 173)، طبعة الحلبي 1354م. وهذا القانون ذكره أيضًا في الأربعين (ص115).
الكلام وجوبًا، فيستحيل أن يكون مدركه السمع (1).
(2)
- وأما ما لا يدرك إلاسمعًا، فهو القضاء بوقوع ما يجوز في العقل وقوعه، ولا يجب أن يتقرر الحكم بثبوت الجائز ثبوته فيما غاب عنا إلا بسمع.
ويتصل بهذا القسم عندنا جملة أحكام التكليف، وقضاياها من التحسين والتقبيح، والإيجاب والحظر، والندب والإباحة.
(3)
- وأما ما يجوز إدراكه عقلًا وسمعًا، فهو الذي تدلّ عليه شواهد العقول، ويتصور ثبوت العلم بكلام الله تعالى متقدمًا عليه. فهذا القسم يتوصل إلى دركه بالسمع والعقل».
«ونظير هذا القسم إثبات جواز الرؤية، وثبات استبداد الباري تعالى بالخلق والاختراع وما ضاهاهما ..
فإذا ثبتت هذه المقدمة فيتعيّن بعدها على كل معتنٍ بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية:
(1)
- فإن صادفه غير مستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعةً في طرقها لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها، ولا في
(1) يسير منهج الأشاعرة في العقيدة على سلسلة عقلية طويلة، تبدأ بالعلم والنظر، وما يتعلق بهما، ثم تنتقل إلى حدوث العالم وإثباته، ثم إثبات الصانع ومخالفته للحوادث، وفيها بحوث طويلة عن الجواهر والأعراض والأحوال وما شابهها، ثم تأتي مباحث صفات القديم وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر، وأخيرًا صفة الكلام، وكل ما كان قبله صفة الكلام - وقد يصل في بعض الكتب إلى نحو ثلثي الكتاب - فهو مما لا مدخل للوحي فيه، ولا يجوز إدراكه عن طريقه؛ لأن الوحي مبني على ثبوت صفة الكلام عندهم!!.
تأويلها، فما هذا سبيله فلا وجه إلا القطع به.
(2)
- وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة، ولم يكن مضمونها مستحيلًا في العقل، وثبتت أصولها قطعًا، ولكن طريق التأويل يجول فيها، فلا سبيل إلى القطع، ولكن المتدين يغلب على ظنه ثبوت ما دلَّ الدليل السمعي على ثبوته وإن لم يكن قاطعًا (1).
(3)
- وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفًا لقضية العقل، فهو مردودٌ قطعًا بأن الشرع لا يخالف العقل، ولا يتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع، ولا خفاء به» (2).
ويقول السنوسي في (شرح الكبرى): «ما أخبر الشرع به وكان ظاهره مستحيلًا عند العقل، فإنا نصرفه عن ظاهره المستحيل؛ لأنا نعلم قطعًا أن الشرع لا يخبر بوقوع ما لا يمكن وقوعه، ولو كذبنا العقل في هذا وعملنا بظاهر النقل المستحيل لأدى ذلك إلى انهدام النقل أيضًا؛ لأن العقل أصل لثبوت النبوات التي يتفرع عنها صحة النقل، فلزم إذن من تكذيب العقل تكذيب النقل» (3).
ولست أرى ما يدعوني إلى التعليق على هذا الكلام بالرد والنقض؛ فإن الاطلاع عليه ومعرفته كافيان في إبطاله، وما على من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعظم آيات الله وكلام رسوله، ولا يقدم بين يدي الله ورسوله، ويؤمن أنه لا خيرة له إذا قضى الله ورسوله أمرًا، إلا أن يقرأ هذا الكلام،
(1) إذا كان حال المتدين يغلب على ظنه صحة النص فما حال غيره، وبماذا نلزمه؟.
(2)
(ص358 - 360).
(3)
(ص205) مع حواشي الحامدي عليها.
فيرفضه دون نقاش ولا تردد.
ورحم الله ابن القيم فقد جعل هذا القانون هو الطاغوت الثاني، وكسره بأكثر من أربعين وجهًا مقتبسًا من كلام شيخ الإسلام (1)، وبيَّن أن تأصيل هذا الأصل الطاغوتي هو مفرق الطريق بين أهل السنة والجماعة وبين الأشاعرة، وأن حال الأشاعرة في هذا يشبه تمامًا حال المنافقين الذين دعوا إلى حكم الله ورسوله فرفضوه، وأرادوا التحاكم إلى الطاغوت، فلما ضُبطوا أقسموا أنهم ما قصدوا إلا الإحسان والتوفيق، والأشاعرة يزعمون أن هذا منهم إحسانٌ وتوفيقٌ بين العقل والنقل.
قال رحمه الله في نونيته المشهورة: (وقد آثرت نقلها لاشتمالها على موجز مذهب السلف أيضًا):
يا قوم تدرون العداوة بيننا من أجل ماذا في قديم زمان
إنا تحيزنا إلى القرآن والـ نقل الصحيح مفسر القرآن
وكذا إلى العقل الصريح وفطرة الرحمن قبل تغير الإنسان
هي أربع متلازمات بعضها قد صدقت بعضًا على ميزان
والله ما اجتمعت لديكم هذه أبدًا كما أقررتمُ بلسان
إذ قلتم العقل الصحيح يعارض الـ منقول من أثرٍ ومن قرآن
فنقدم المعقول ثم نصرف الـ منقول بالتأويل ذي الألوان
فإذا عجزنا عنه ألغينا ولم نعبأ به قصدًا إلى الإحسان
(1) انظر (الطاغوت الثاني) وهو يثمل النصف الثاني تقريبا من الجزء الأول من الصواعق المرسلة.
ولكم بذا سلفٌ لهم تابعتمُ لما دعوا للأخذ بالقرآن
صدوا فلما أن أصيبوا أقسموا لمرادنا توفيق ذي الإحسان (1)
هذا وقد رتب الأشاعرة على هذا الطاغوت، وفرعوا عنه من الأصول المنهجية الباطلة ما لا يتسع المجال لذكره، وحسبنا الإشارة إلى بعض ذلك؛ فمنها:
(1)
- عدم إفادة النصوص لليقين.
(2)
- التأويل.
(3)
- إسقاط قيمة النصوص في مجال العقيدة.
وهذه القضايا متلازمة، لكننا سنفصلها حسب ترتيبها.
(1) شرح النونية (2/ 326 - 334).