الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبوات
تطبيقًا لمنهج التلقي عند الأشاعرة؛ جاءوا في النبوات بمثل ما جاءوا به في غيرها مما يخالف النقل والعقل.
وغير خافٍ على أحد ما لموضوع إثبات النبوة من أهمية قصوى؛ لأن كل العقائد مترتبة عليه، فكان لزامًا لأي فرقة تدعي أنها تمثل حقيقة الإسلام أن يكون إثبات هذا الأصل أقوى وأظهر أصولها .. لا سيما التي تدعي منهج العقل، لا منهج التقليد، ولكن الأشاعرة التزموا بمنهج ضيق محصور، كله ردود فعل دفاعية لكلام منكري النبوات، أو منكري بعض قضاياها وآثارها ..
فتجدهم في كل مرحلة من مراحل هذا المنهج التوفيقي الدفاعي ينتقلون من دائرة ضيقة إلى ما هو أضيق، حتى حصرَهم خصومهم وحشروهم في آخر دائرة منها، ولم يكن للأشاعرة منها من مستمسك إلا القولُ بأن هذا نعلم صحته بالاضطرار في نفوسنا!!.
ولا يمكن للأشاعرة دفع أي هجوم للخصوم إلا بنقض شيءٍ من أصول منهجهم، وإنكار شيء مما صحَّ في الشرع، فأمرهم في النبوات دائر بين البطلان والتناقض ..
وسيتضح لك ذلك من خلال العرض الموجز عن النبوة عندهم؛ حُكْمها، ثبوتها، القول في عصمة الأنبياء!.
فأما حكم النبوة عندهم؛ فانطلاقًا من القسمة الأشعرية الثلاثية (الواجب العقلي، المستحيل العقلي، الجائز العقلي)، جعلوا حكم
النبوة من القسم الأخير، أي (الجواز).
وقد ضيق الأشاعرة على أنفسهم بهذا التأصيل فرارًا من القول بوجوب شيء على الله، كما تقول المعتزلة، الذين جعلوا النبوة من القسم الأول، وفرارًا من القول باستحالة إرسال الرسل - كما يدعي منكرو النبوات من ملاحدة الفلاسفة ونحوهم - الذين يجعلونها من القسم الثاني.
ومن لوازم هذا التقسيم عند الأشاعرة: أن كل ما هو داخلٌ في دائرة الجواز والإمكان، فهو راجعٌ إلى محض المشيئة مجردةٌ عن أي حكمة أو تعليل، حتى التزموا القول بأنه ليس في القرآن كله (لام تعليل)، ويسمون أصلهم هذا (تنزيه الإله عن الغرض في أفعاله).
فأنكروا أن يكون لأفعاله تعالى - ومنها إرسال الرسل - حكمةٌ أو غرضٌ أراد الله تعالى تحقيقه بهذا الفعل، بل الأمر كله راجعٌ إلى المشيئة المحضة، فهو تعالى - حسب تعبيرهم - (يفعل لا لشيء).
ولا شك أن كل أفعاله تعالى راجعةٌ إلى مشيئته، ولكن تعلُّق المشيئة بأي أمرٍ لا ينفي تعلق غيرها من صفاته به؛ كالحكمة والرحمة.
والمهم: أن القضية من أصلها ليست قضية عقلية تجريدية تخضع لهذا التقسيم البدعي، فما المانع - عقلًا - أن تكون القسمة رباعية، أو خماسية، أو أكثر؟!.
هذا الأصل الفاسد المركب أضعَفَ قضية إثبات النبوة عند
الأشاعرة كثيرًا، فاستطال عليهم المعتزلة والفلاسفة، كلٌّ من جهته! (1).
والقول بأن حكم النبوة مجرد الجواز صرح به الأشاعرة في كتبهم كافة؛ كالباقلاني، والجويني، والشهرستاني، والغزالي، والبغدادي، والآمدي، وغيرهم.
وهذا نص الآمدي: «مذهب أهل الحق: أن النبوات ليست واجبة أن تكون، ولا ممتنعة أن تكون، بل الكون وأن لا يكون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجعها سيان، وهما بالنظر إليه سيان» (2).
ويستدل الجويني على الجواز بأنه: ليس من قسم المستحيل: «والدليل على جواز إرسال الله الرسل وشرْعِ الملل: أن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها؛ كاجتماع الضدين، وانقلاب الأجناس، ونحوها» (3).
وبهذا التقرير والاستدلال - على ضعفه وهزاله - أسقطوا حقيقة عظمى من الحقائق التي اقتضتها الحكمة الربانية في إرسال الرسل؛ إذ جعلوا قضية النبوة بمنزلة خلْق إنسان أو إماتته، وإيجاد شجرة أو عدمها .. فكلها من الأمور الممكنة المتعلقة بمحض المشيئة - حسب كلامهم -.
(1) انظر الشبهات التي أوردها الشهرستاني عن منكري النبوة، وردوده الضعيفة عليها.
(2)
غاية المرام (ص318).
(3)
الإرشاد (ص306).
على أن من البديهيات المسلَّمة لدى كل مؤمن صادق أن الله تعالى لا يفعل شيئًا مجردًا عن الحكمة مطلقًا، وأن من أعظم ما تتجلى فيه هذه الحكمة إرسال الرسل، وهذا ما صرح به قوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
وثبت في تفسيرها عند الشيخين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. (ليس أحدٌ أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل)(1).
ومن أجلى الاستدلالات على أن الأمر زائدٌ على مجرد المشيئة أن الكفار لما استدلوا على شركهم بالمشيئة فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ
…
} [النحل: (3) 5]. رد الله تعالى عليهم بقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
فجعل حكمة إرسال الرسل دافعة لشبهة الاحتجاج بالمشيئة الكونية.
وعلى كلام الأشاعرة يستوي إشراك المشركين، وإرسال الرسل في تعلق كل منهما بالمشيئة، فيتوجه احتجاج الكافرين بها عياذًا بالله!.
وكما أن قول الأشاعرة هذا يخالف مقتضى الحكمة؛ فإنه يخالف مقتضى الرحمة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
(1) أخرجه البخاري (5220)، ومسلم (2760).
[الأنبياء: 107]. فها هو ذا أمر عظيم زائد عن مجرد المشيئة.
على أن الأشاعرة سرعان ما نقضوا كلامهم هذا عند حديثهم عن المعجزة حيث قالوا: إن الله تعالى يعطي الأنبياء معجزات لتدل على صدقهم وتصديق الله لهم، فعللوا فعل الله وأظهروا حكمته، وبهذا ناقضوا أصلهم الكلي، وهو أنه (يفعل لا لشيء)، ومنزهٌ عن الغرض!!.
ولا نريد الإفاضة في بيان بطلان هذا الحكم، وإنما المراد إظهار تناقضهم وفساد أصولهم، فإن إنكارهم لبعض الصفات، ونفيهم للحكمة في أفعال الله، وإخضاع ما يتعلق بالله للتقسيمات العقلية المبتدعة، كلها أصولٌ فاسدةٌ اجتمعت في هذه القضية فأفسدتها!.
وأما ثبوت النبوة فاستدل عليه الأشاعرة بدليلين:
(1)
- عدم الاستحالة.
(2)
- المعجزة.
وهما في الحقيقة دليلٌ واحدٌ؛ لأن عدم الاستحالة إنما هو جزءٌ من حكمها في العقل، ولو لم يكن للمسلمين، بل ولسائر أتباع الملل من الحجة على إثبات جنس النبوة إلا هذا الدليل الأشعري (عدم الاستحالة)، لكان من حق منكري النبوات أن يظهروا عليهم كل الظهور!.
ومن حقّ كل مسلم أن يسأل هؤلاء القوم: يا من تطرحون النصوص جانبًا، وتقدِّمون - بل تحكِّمون - العقل، أين الدليل العقلي القاطع على إمكان النبوة؟ وهي أساس كل اعتقاد؟.
أهو قولكم: «إن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها؛ كاجتماع الضدين، وانقلاب الأجناس» ؟.
أهذا يكفي لتثبيت إيمان المؤمن، فضلًا عن إقناع المنكر الجاحد؟.
ثم إن هذا الدليل - في عمومه - يستطيع مسيلمة والعنسي وكل متنبئ إلى يوم القيامة أن يستدل به؛ إذ لا يترتب على كون أيٍّ من هؤلاء نبيًّا لذاته أي مستحيل عقلي مما ذكرتم؟!.
ولم تقفوا عند هذا؛ بل حصرتم الدليل كله في المعجزة كما فعل الجويني الذي عقَّب على كلامه السابق قائلًا: «فصل: لا دليل على صدق النبي غير المعجزة» (1). مع حصركم للمعجزة نفسها في الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي .. إلى آخر ما رتبتموه بالعقل المجرد.
وهذه هي الدائرة الأضيق التي حصرتم أنفسكم فيها، فتناوشتكم السهام من كل ناحية، ذلك أن المعجزة المجردة في ذاتها تتوارد عليها الطعون والاعتراضات العقلية التي لا يمكن - حسب منهجكم - دفعها إلا بإبطال أصل من أصولكم.
مثال ذلك أن يقال: إنه لا دليل على صدق موسى عليه السلام حسب كلامكم - إلا انقلاب العصا حيَّةً ونحوها، فماذا تقولون للسامريين من اليهود إذا قالوا: دلالة صدق السامري أعظم من دلالة صدق موسى، أو مساوية لها؛ لأن انقلاب الزينة عجلًا جسدًا له خوار أعظم عندنا - نحن السامرة - من انقلاب العصا حيَّة؟!.
عندئذ ستضطرون إما إلى تصديقهم في ذلك، وإما إلى مناقضة
(1) الإرشاد (ص331)، وانظر حول هذا الحصر عندهم درء تعارض العقل والنقل (7/ 309، 5/ 287).
أصلكم هذا، وهذا ما قررناه آنفًا من أن دعواكم مترددة بين البطلان والتناقض.
ولكن الواقع أن الأشاعرة لم يتراجعوا عن هذا الأصل - على فساده - بل استمروا عليه، مع ارتكاب صنوف من التمحل والتعسف ..
من أمثلة ذلك: أنهم اضطروا أن يتكلفوا لكل نبيٍّ ما ينطبق عليه مفهومهم الضيق للمعجزة، فأدى بهم هذا إلى هدم أصل من أصولهم في باب آخر؛ وذلك أنهم قالوا: إن معجزة نوح عليه السلام هي (الطوفان)، ومعجزة هود عليه السلام هي (الريح العقيم)(1).
فعلى مذهبهم هذا (وهو أنه لا يثبت صدق النبوة إلا بالمعجزة، ولا يجب على المكلف الإيمان إلا بعد ثبوتها) لا يكون قوم نوح وهود ملزمين بالإيمان إلا عند وقوع الطوفان وهبوب الريح، وإلى أن يتأكد قوم نوح أن هذا معجزة رسولهم، وليس حادثًا كونيًّا عاديًّا، يمكن الاعتصام منه برؤوس الجبال
…
إلى أن يتأكد قوم هود أن هذا ليس عارضًا ممطرهم
…
إلى أن يحصل هذا التأكد لا يجب على أي منهما أن يؤمن، إذ كيف يؤمن ودليل صدق النبي لم يثبت بعد؟! وبعد استيقانهم من صدق المعجزة يكونون قد ماتوا أو أشرفوا على الموت يقينًا، وحينئذٍ فيلزم أحد أمرين:
(1)
- إما أنهم آمنوا وأدخلهم الله الجنة، وهذا باطلٌ قطعًا، قال تعالى:
(1) أصول الدين (ص176).
{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا} [غافر: (85)]. بل هذا هو عين ما وقع لفرعون حين قال: (آمنت) لما أدركه الغرق.
(2)
- وإما أنهم لم يؤمنوا بعد، وهو ما نقوله نحن وأنتم، ويكون مصيرهم بلا ريب هو النار، فلا جدوى للمعجزة ولا حكمة فيها، بل أنتم تقرون أن الإنسان لا يؤاخذ قبل قيام المعجزة.
فظهر تناقضكم، ولزمكم نسبة الظلم إلى الله تعالى؛ لأنه أهلك قومًا وأدخلهم النار قبل قيام ما يدل على صدق النبي عندهم.
وإن كان هذا على أصولكم جائزًا عقلًا - تعالى الله عن ذلك -، كما أنه يتنافى مع ما أصلتموه في باب (المعرفة) و (أول واجب على المكلف) من أن من لا يستطيع النظر، أو لم يتمكن منه لا يؤاخذ (1)، فهؤلاء قد اخترمتهم المنية في أثناء النظر فكيف يؤاخذون؟.
وهكذا يصبح تناقض القوم واضطرابهم مركَّبًا.
ومن الإلزامات والإشكالات التي عجز عنها الأشاعرة؛ لأنهم تقيدوا بهذه الأصول الفاسدة والمنهج الضيق:
منها: ما أورده الآمدي نفسه على لسان منكري النبوة، وهو قولهم: إن إثبات صِدق النبي متوقف على ثبوت استحالة الكذب من الله تعالى؛ لأن إعطاء الله لنبيه معجزةً تصديقٌ له من الله، ولكن كما قال لهم الملاحدة الجاحدون: كيف نعلم أن الله لا يكذب على عباده، ولا يضلهم بإظهار المعجزة على يد الكذاب، وأنتم تقولون: إنه هو الذي
(1) الشامل للجويني (ص129).
يخلق الكفر في قلب الكافر؟ وألزموا الأشاعرة قائلين: «لا سبيل إلى القول باستحالته [أي الكذب من الله] عقلًا، إذ قد منعتم [معشر الأشاعرة] أن يكون الحُسن والقبح ذاتيًّا، ولا سبيل إلى إدراكه بالسمع، إذ السمع متوقفٌ على صحة النبوة، والنبوة متوقفةٌ على استحالة الكذب في حكم الله، فلو توقف ذلك على السمع كان دورًا ممتنعًا» (1).
ثم اعترف الآمدي باضطراب الأشاعرة في الجواب عن هذه الشبهة (2) التي لا مناص لهم حيالها من التزامٍ للباطل، أو اعترافٍ بالتناقض؛ فإما أن يبطلوا دعواهم، أو يبطلوا أصلهم في التحسين والتقبيح ولا بد.
وحاول هو أن يأتي بجواب مقنع فقال: «والذي يخُمد ثائرةَ هذا الإشكال
…
وإن كان عند الإنصاف في التحقيق عويصًا هو أن يقال: إن
(1) غاية العرام (ص (329)).
(2)
انظر الجواب الركيك الذي أجاب به الجويني عن هذه الشبهة، الإرشاد (ص326، 332 - 337)، وقد ذكر جواب أبي إسحاق الإسفرائيني وعقب عليه قائلًا:«ولسنا نرى ذلك مقنعًا في الحجاج» .
أما الشهرستاني فقد اضطر أن يجيب بقوله: «نحن نجوز الإضلال على الله تعالى، ولكن بشرط أن لا يقع خلاف المعلوم، وبشرط ألا يتناقض الدليل والمدلول، ولا يلتبس الدليل والشبهة ..» . نهاية الإقدام (ص440).
فانظر إلى تهافت أجوبتهم، ونقد بعضهم بعضًا في مسألة لا يشك فيها أجهل العوام، ولكنها الأصول الفاسدة!!.
القول باستحالة الكذب في حق الله تعالى مما لا يستند إلى سمع (1)، ولا إلى التحسين والتقبيح، وأن حَصْر مدرك ذلك في هذين باطل.
بل المدرك في ذلك يقال: قد ثبت كون الباري تعالى عالمًا متكلمًا، وأن كلامه في نفسه واحد، وذلك لا يقبل الصدق والكذب، وإنما يقبل ذلك من جهة كونه خبرًا، والخبرية له من جهة متعلقه لا غير» (2). أي ليست له لذاته.
وذكر كلامًا فلسفيًّا مملولًا، مؤداه امتناع قيام الخبر الكاذب بنفس الباري
…
وهكذا فر الآمدي من الالتزام بفساد أصلٍ ليقع في الالتزام بأصلٍ آخر أكثر فسادًا، وهو أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وهذا لا يوصف بالصدق والكذب لذاته، بل بمتعلقاته .. إلى آخر ما وصفه هو بأنه عويص، والواقع أنه تمحل ساقط القيمة.
على أن بعض الأشاعرة قد استرسلوا مع المنكرين في سلسلة من التنازلات فقالوا: إن الكذب ممتنعٌ على الله؛ لأن الله غنيٌّ عنه، فإن قيل فما دليل غناه؟ قالوا: إن الافتقار من خصائص الأجسام. قالوا: فما الدليل على أنه ليس بجسم؟ قالوا: إنه ليس بمتحيز، وليس في جهة، ولا تقوم به الحوادث. قالوا: فما الدليل على عدم قيام الحوادث به؟
(1) أي: أن الكتاب والسنة عنده لا يستدل بها على انتفاء الكذب على الله، وإلا لزمه الدور.
(2)
المصدر السابق (330 - 331).
قالوا: قيامها بالممكنات، وهي الأجسام الحادثة. فقال لهم المنكرون: لقد عاد القول إذن إلى قضية حدوث العالم، وهي قضية خلافية بيننا، فباعترافكم علمنا أن تصديق الرسول متوقفٌ على إثبات حدوث الأجسام، والثابت عندنا أن العالم قديمٌ لا صانع له، وأدلتكم على حدوثه غير موصلة إلى القطع!!.
فحقٌّ أن الأشاعرة لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا!!.
وبغض النظر عن إفحام المنكرين - لأن هذا ليس من شأننا هنا - نقول: إن الأشاعرة لزمهم لزومًا بيِّنًا أنه لا يمكن إثبات صدق النبي إلا بنفي صفات الله عز وجل، بل ونفي القدر أيضًا (1).
ومنها: أن الأشاعرة لما حصروا دليل صدق النبي في المعجزة، وحصروا المعجزة في الأمر الخارق للعادة، طالبهم منكرو النبوات بإثبات الفرق بين الخارق الذي يأتي على يد النبي، وبين الخارق الذي يأتي به الساحر والكاهن ونحوهمها، فلم يكن للأشاعرة من فرق إلا القول بأن فارق النبي مقرون بالتحدي ودعوى النبوة، أما غيره فلا يدعيها ولا يتحدى بخارقة.
قالوا لهم: فماذا لو أنه ادعى وتحدى؟.
قالت الأشاعرة: ولو فعل ذلك لسلبه الله القدرة على الإثبات بالخارق حالًا، أي أن الساحر لو ادعى النبوة محتجًّا بخارقة سحرية لسلب الله منه المعرفة بالسحر حالًا، أو خلق في غيره القدرة على
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل (5/ 286 - 287).
معارضته والإتيان بمثله ليبطل دعواه، ولو لم يفعل الله ذلك لكان هذا تصديقًا للكاذب، وإضلالًا لعباده، والله منزهٌ عنه.
وهذا الفارق المزعوم المكابر للعقول والواقع، هو الذي اعتمد عليه القاضي الباقلاني في كتابه الذي ألَّفه في الفَرق بين المعجزات والكرامات، والحيل والكهانات، والسحر
…
(1). وعليه سار من بعده كالجويني وصاحب (المواقف)(2).
ويَرِدُ عليه اعترضاتٌ كثيرةٌ قاطعةٌ ببطلانه؛ منها:
أ - استلزامه التسوية بين آيات الأنبياء وأفعال السحرة، وهو واضح البطلان في كل عقلٍ وفطرة.
ب - أن كون الدليل نفسه واحدًا - وهو الخارق - ثم إن اقرنت به الدعوى صار معجزة نبوية، وإن لم تقترن لم يكن كذلك، تحكُّمٌ معلوم البطلان لكل عاقل.
ج - أن سلب الله تعالى القدرة أو المعرفة من الكاذب، أمرٌ قدَّروه من عند أنفسهم، لم يقله الله تعالى عن نفسه، والواقع يكذِّبه، فكم من أدعياء ومتنبئين لم يسلبهم الله ذلك، لكنه أظهر كذبهم ببراهين أخرى (3)
…
د - أن هذا رجوع إلى مسألة إثبات أن الله لا يُضل العباد، وقد سبق
(1) ذكره شيخ الإسلام ونقده في النبوات. انظر الفصل من (ص27 - 38)، والفصل من (100 - 127)، ولم أعثر عليه، لكن غير الشيخ ذكره، ونقل عنه.
(2)
انظر الإرشاد (ص331)، المواقف (ص346).
(3)
انظر النبوات (ص (37)، 127).
القول فيها قريبًا.
والقصد هنا ليس الرد على منكري النبوة، ولا مناقشة الأشاعرة تفصيلًا، وإنما هو بيان تناقض أصولهم وفسادها، وأن هذه الأصول لا تستطيع النهوض أمام حجج المخاصمين، وإن كانوا مبطلين، فكيف يزعم أحدٌ أن هذه العقيدة هي التي تمثل حقيقة الإسلام، وهي التي يجب على المسلمين الالتفاف حولها، والاتحاد عليها!! (1).
هذا ومن الغريب في موضوع المعجزة عند الأشاعرة: ما ذكره الرازي عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
قال: «لا شك أن الأمة كما يحتاجون في العلم بأن الرسول صادقٌ في ادعاء الرسالة إلى معجِز يَظهر على يده، فكذلك الرسول عند وصول المَلَك إليه وإخباره إياه بأن الله بعثه رسولًا، يحتاج إلى معجز يظهر على يد ذلك الملك؛ ليعلم الرسول أن ذلك الواصل مَلَكٌ كَرِيم، لا شيطانٌ رجيم، وكذا إذا سمع الملك كلام الله احتاج إلى معجز يدل
(1) أما بيان أدلة صدق الرسل بالأدلة العقلية والقاطعة، فقد زخرت بها - ولله الحمد - كتب العقيدة السلفية. وانظر مثلًا شرح الأصفهانية (ص128 - 146)، والنبوات (ص27، 100 - 128)، وبمقارنتها بكلام الأشاعرة الذي لخصناه أعلاه، يظهر لك الفرق الواضح بين العقيدتين، مع أنه في إمكان كل من سار على المنهج السلفي أن يزيد على ما ذكره علماء السلف السابقين، لأن منهجهم هو الأخذ من المعين الذي لا ينضب (الوحي)، أما الأشاعرة فهم محصورون في تلك القوالب العقلية الضيقة.
على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى، لا كلام غيره، إذا كان كذلك؛ فلا يَبعُد أن يقال: إنه لما جاء المَلَك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله تعالى بعثك رسولًا إلى الخلق طلب المعجز، فقال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم» (1)!!.
فالرسول في نظر الرازي يحتاج إلى معجز، بل جبريل يحتاج إلى معجز، والأصول العقلية الأشعرية لا يكفي أن تطبق على منكري النبوات، بل تطبق حتى على الأنبياء، بل على واسطة النبوة والروح الأمين نفسه!!.
فقل لي بربك: أمنكرو النبوات هم الذين تفوقوا على الأشاعرة؟ أم هؤلاء هم الذين يفتحون لهم الثغرات، وينبهونهم إلى ما لا يعلمون من الشبهات!!.
وصدَق من قال: إن الرازي يأتي بالشبهة نقدًا، ويجعل رَدَّها نسيئةً، واسمع إلى ما قاله الجويني أيضًا:«ومهما ظهرت معجزة في شرعنا على يد متنبئ تنبأ؛ تبين إذ ذاك كذبنا في تأبيد شريعتنا» (2).
فانظر إلى هذا التنازل الرخيص، مع ما سبق من تهافت شروطهم في المعجزة، وإمكان تحقق تلك الشروط في بعض الكاذبين؟!!.
(1) التفسير الكبير (1/ 39)، مع ما في هذا الكلام من تناقض أصلي الأشاعرة في العصمة والمعجزة!!.
(2)
الإرشاد (ص (343)).
وأغرب من هذين: تشبيه الآمدي حالة تلقي الوحي بحالة تلقي بعض المرضى والمصروعين والمتكهنين، والفرق عنده أن هذا صفة كمال، وذاك صفة نقص (1)، وما كنت أحسب أحدًا سبق المستشرقين إلى هذا اللغو المتهافت.
أما الكلام الباطني الباطل الذي وصف به الغزالي الوحي: بأنه انتقاش العلم فى العقل الثاني من العقل الكلي الذي هو عنده (اللوح المحفوظ)، فقد سبق الحديث عنه في مبحث (الكشف والذوق). نسأل الله الإيمان والعافية.
أما كان للأشاعرة غُنْيةٌ في حقائق السيرة، إن لم يكن لهم في دلائل النصوص يقين؟.
ها هي ذي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: وهو أكثر الأنبياء تابعًا، وسيرته أقرب وأوضح السير، فهل فيها ما يدل على المنهج الأشعري أو يؤيده؟.
إن قومه صلى الله عليه وسلم بشهادة الله لهم أو عليهم - قومٌ خصِمون جدِلون، وهو صلى الله عليه وسلم قد جاء بأعظم البراهين والآيات التي يسميها الأشاعرة (معجزات)، فأمامنا إذن أرقى صورة من صور الإعجاز، وأشد صورة من صور العناد تقابلتا في دعوته صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلا استدلاله صلى الله عليه وسلم، ولا ردود قومه كانا على المنهج الأشعري، فهو إذن محض خيال وتومهات ضلال!!.
وعلى الأشاعرة إن أنكروا هذا أن يأتونا بما يدل على أن الإيمان
(1) انظر غاية المرام (ص (325)).
بالنبي صلى الله عليه وسلم جرى على طريقتهم، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة، وطلب من الناس تصديقه، فطلبوا منه معجزة، فقال: هذه معجزتي فيؤمنون عقب رؤيتها!!.
وأنا لا أقصد القول بأن شيئًا من هذا لم يقع بإطلاق، فقد ترويه بعض السير، وقد يكون ثبوته - على قلته - موضع جدل، لكني أجزم - يقينًا أنه لو وقع نادرٌ لا حكم له، وليس كلامنا هنا في حادثة أو أكثر، بل في الأصل والمنهج مع المأثورات للعرب وسائر الأمم.
فكيف يكون هذا إذن هو الطريق الصحيح الوحيد الذي يجزم الأشاعرة أن لا دليل سواه أبدًا؟!.
أما الشواهد المتواترة على إيمان من آمن به بمجرد سماع قوله، أو رؤيته، ومعاشرته، أو سماع بعض ما جاء به من الحق، فلا أحسب أني بحاجة إلى التطويل بذكرها.
على أن المسألة أعظم وأعمق من هذا ..
فإن الله تعالى يقول في حق المنكرين الجاحدين: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ 14 لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ 15} [الحجر: 14 - 15].
وقال: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: (44)].
فالمسألة ليست مسألة معجزات ..
كما أن المسألة ليست مسألة تصديق مجرد، فإنَّ كُفر الأمم لم يكن بسبب عدم تصديقها العقلي بأن الرسول مرسَل من الله فعلًا؛ بل بعدم
الانقياد والإذعان لما جاء به بالقلب والجوارح، وهذا هو الذي سماه الله تكذيبًا مع إثبات استيقانهم للحق، ومعرفتهم بصدق الرسول، كما قال تعالى عن فرعون:{فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: (36)]. وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
وقال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102].
وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: (33)].
والآيات التي تحدّت العرب أن يأتوا مثل القرآن أو بعضه، لم تكن في معرض إجابة طلب الكفار للمعجزة، أو الاستدلال عليهم لإثبات دعوى النبوة؛ بل كانت ردًّا على دعوى أنه صلى الله عليه وسلم افتراه أو اكتتبه أو علّمه إياه بَشَرٌ، ونحو هذا مما يستلزم عندهم بطلان النبوة، وذلك شيء، وما نحن بصدده شيء آخر!!.
وما كانت قريش قط تشك أن القرآن من عند الله، أو أن محمدًا صادق، كيف وقد كانوا يتكالبون سرًّا للاستماع إليه، أو إلى أبي بكر، وهو يتلو هذا الكلام المفصّل الحكيم، كيف والجن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يتلوه، فآمنوا وولّوا إلى قومهم منذرين، بلا معجزة ولا تحد ولا شيء من هذه الترتيبات العقلية المجنحة في فضاء الخيال.
إن الأساس - كما قلنا وكررنا -: أن مصدر التلقي عند الأشاعرة
باطل، والمنهج باطل كذلك، وإلا لو استبعدوا هذا المنهج، واستمدوا من المصدر المعصوم (الوحي)، لوجدوا أنفسهم على نور من الله وبرهان، واستعلوا على كل خصم ومُناظر وجاحد.
أما موضوع العصمة فهو أهون شأنًا مما سبق، لكن دلالته على فساد المنهج لا تقل عن ذاك (1).
فمع ربطه بموضوع المعجزة - وقد سبق فساد كلامهم فيها - لست أدري أي عقل هذا الذي لا يشهد للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بالعصمة من الفواحش؟ ومن أين جاءكم البلاء إلا من تعظيم العقل وتحكيمه مرة، وطرده ورفضه مرة أخرى.
فالجويني يثبت بهذا أن المسألة سمعية خاصة لا شأن للعقل - على مفهومهم له - بها، وبحسب أن هذا يقيه شر الطعون والانتقادات، وهو منازع في الدعوى ودليلها.
أما صاحب (الواقف) فهو ينقل أن رأي الجمهور هو عصمتهم
(1) لمعرفة أن مذهب الأشاعرة في العصمة هو مذهب المعتزلة في الأصل. انظر مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 296 - 297).
(2)
الإرشاد (ص356).
من الكبائر عمدًا، وأنهم تنازعوا في وقوعها سهوًا، ووقوع الصغائر عمدًا، ولهذا آثر أن يستعمل كلمة (ذنب) بإجمالها، يوضّحه أنه قال في حقيقة العصمة:«وهي عندنا ألا يخلق الله فيهم ذنبا» (1).
ثم ذكر أدلة مذهبهم فقال: «لنا وجوه:
الأول: لو صدر منهم الذنب لحرم اتباعهم ..
الثاني: لو أذنبوا لردت شهادتهم ..
الثالث: إن صدر عنهم وجب زجرهم ..
الرابع: ولكانوا أسوأ حالًا من عصاة الأمة؛ إذ يضاعَف لهم العذاب ..
الخامس: ولم ينالوا عهده ..
السادس: ولكانوا غير مخلصين ..
السابع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]. فالذين لم يتبعوه إن كانوا هم الأنبياء فذاك، وإلا فالأنبياء بالطريق الأولى ..
الثامن: أنه تعالى قسم المكلفين إلى حزب الله وحزب الشيطان، فلو أذنبوا لكانوا من حزب الشيطان.
التاسع: قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]، وقوله:{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: (47)].
قال: فهذه حجج العصمة، وأنت تعلم أن دلالتها في محل النزاع
(1) المواقف (ص366).
- وهي عصمتهم عن الكبيرة سهوًا، وعن الصغيرة عمدًا - ليست بالقوية» (1).
أي: أن دلالتها إنما هي على عصمتهم عن الكبيرة عمدًا.
ثم قال عقب ذلك: «واحتج المخالف بقصص الأنبياء (التي) توهم صدور الذنب عنهم.
والجواب إجمالًا: أن ما كان منها منقولًا بأخبار الآحاد وجب ردها؛ لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء (2).
وما ثبت منها تواترًا فما دام له محمَل آخر حملناه عليه، ونصرفه عن ظاهره لدلائل العصمة.
وما لم نجد له محيصًا حملناه على أنه كان قبل البعثة (؟) أو من قبيل ترك الأولى، أو صغائر صدرت عنهم سهوًا، ولا ينفيه تسميته ذنبًا، ولا الاستغفار منه، ولا الاعتراف بكونه ظلمًا منهم، إذ لعل ذلك لعظمته عندهم، أو قصدوا به هضمًا من أنفسهم.
قال: ومن جوز الصغائر عمدًا فله زيادة فسحة» (3).
فنحن إذن أمام المنهج نفسه الذي حاكموا إليه نصوص الصفات،
(1) المواقف (359 - 361)، وقد حذفنا الأدلة على وقوع الذنوب من الأنبياء للاختصار، وهي معلومة.
(2)
هذه العبارة - على ما فيها - أكثر أدبًا من عبارة الرازي: (لأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء). التفسير الكبير ((22) / (285)).
(3)
المواقف (ص361).
وسائر نصوص الوحي، والذي سبق الحديث عنه في فصل (مصدر التلقي)، فالآحاد يرد وجوبًا، والتواتر يؤول، أو يتعسف له أي مخرج ..
ونحن نختصر بإيراد ما قالوه عن معصية آدم عليه السلام التي لا يشك فيها أحدٌ من أبنائه إلا الأشاعرة ومن حاذاهم، وقد صرح الله تعالى بها فقال:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121].
فقد أجاب الأشاعرة عنها بأجوبة كثيرة مختلفة، معظمها متفرعٌ عن ظنهم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يتعاملون مع النصوص كما يتعامل الأشاعرة!!.
قال بعضهم: إن آدم لم يكن نبيًّا عند أكله من الشجرة (1).
وقال بعضهم: بل قول الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} مجاز، وإنما أراد: وعصى أولادُ آدمَ ربهَّم. كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، أي أهلها (2)؟!!.
وقال بعضهم: بل إن آدم فهم أن النهي للتنزيه، لا للتحريم (3).
(1) فمتى أصبح نبيًّا؟ ا.
(2)
فالأولاد إذًا هم الذين أكلوا من الشجرة، أم أن الله غفر للأولاد وتحمل آدم العقوبة؟!.
(3)
من أين له بأصول فقه الأشاعرة؟. وقريبٌ من هذا تأويل الدكتور البوطي، إذ أوَّله بأن الأمر إرشادي، لا تكليفي، وأن المعصية لغوية لا شرعية، لكن كلامه لم يكن في مبحث العصمة، بل في القدر، إذ يرى أن أكل آدم من الشجرة ليس اختياريًّا، بل هو كحركة الارتعاش. انظر كتابه: الإنسان مسير أم مخير (ص131 - 135).
وقال بعضهم - وهو شارح الجوهرة -: «ما وقع من آدم فهو معصية لا كالمعاصي؛ لأنه تأول الأمر لسرٍّ بينه وبين سيده، وإن لم نعلمه، حتى نقل في (اليواقيت): لو كنت بدل آدم لأكلت الشجرة بتمامها!!. فهو وإن كاف منهيًّا ظاهرًا مأمورٌ باطنًا» (1).
وقال بعضهم - وهو الرازي - بعد تأويلات طويلة: «واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر، وهو: أنه تعالى كما قال: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} ، ونهاهما معًا، فظن آدم عليه السلام أنه يجوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة، وأن يتناول منها؛ لأن قوله:{وَلَا تَقْرَبَا} نهيٌ لهما على الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد
…
» (2).
وذهبوا إلى تكلفات لا تستقيم مع سياق الآيات بأي وجه من
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإن قيل: إن آدم شهد الأمر الكوني القدري، وكان مطيعًا لله بامتثاله له، فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، فهو كفر باتفاق المسلمين» . مجموع الفتاوى (2/ 321)، وواضحٌ أن هذا قول أصحاب الكشف والذوق الذين سبق الحديث عنهم.
(2)
التفسير الكبير (3/ 15). قال ابن القيم: «ونحن نقطع أن هذا التأويل لم يخطر بقلب آدم وحواء البتة، وهما كانا أعلم بالله من ذلك وأصح أفهامًا، أفترى فهم أحد من قول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}، ونظائره أي: إنما نهيتكم عن اجتماعكم على ذلك دون انفراد كل واحد منكم به؟ فيا للعجب من أوراق وقلوب تسود على هذه الهذيانات» . مختصر الصواعق المرسلة (ص (44)).
الوجوه، بل هم يتهمون السياق نفسه؛ كقولهم عن قصة داود:«والقصة مختلقة للحشوية؛ إذ لا يليق إدخال الذم الشنيع في أثناء المدائح العظام، بل تسوّر قومٌ قصْرَه للإيقاع به، فلما رأوه مستيقظًا اخترع أحدهم الخصومة، ونسبة الكذب إلى اللصوص أولى من نسبته إلى الملائكة» (1)!!.
ومن هذا ما ذكره وكرره (متولي الشعراوي) في أحاديثه الإذاعية، وهو أن نسبة الذنب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: (2)]. إنما هو باعتبار نظر قريش، أي: ذنبك عندهم، على أن الآية نزلت بعد الفتح حيث لم تعد قريش تعتبر النبي صلى الله عليه وسلم مذنبًا في حقها!!.
والحق: أنه ينبغي الترفع عن مناقشة مثل هذه الترهات والتكلفات.
وأصل الخطأ المنهجي في هذه المسألة وغيرها: هو حكيم القوانين العقلية في الأمور الاعتقادية، وصوغ القضايا الاعتقادية في القوالب العقلية الجامدة، فإنه لم يرِد في الكتاب والسنة نصًّا قاعدة عقلية كلية تقول:(إن كل نبي معصوم من كل ذنب).
وإنما هي قاعدة وضعها الكلاميون للرد على قاعدة عقلية أخرى وضعها منكرو النبوات، وهي (إذا جاز الذنب الواحد على النبي جاز
(1) المواقف (ص (363)). يقال له: وإذا كان الحشوية اختلقوا شيئًا، فمن أين جئت أنت بحكاية اللصوص؟!.
عليه كل ذنب).
فلما تقابلت هاتان القاعدتان في العقل المجرد كان طبيعيًّا أن يختار مثبتو النبوات - ومنهم الأشاعرة - القاعدة الأولى.
لكننا لو ابتعدنا عن هذا المنهج العقلي التجريدي وقوالبه الجامدة، ونظرنا إلى القضية من زاوية العقل بمفهومه الفطري الصحيح الذي أوضحناه في (السمعيات)، فلن نجد أي تعارض مطلقًا بين المنزلة العظيمة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبين وقوعهم في ذنوب أو أخطاء تتعلق بها حِكَم عظيمة، مع الإيمان بأنهم لا يُقَرُّون عليها من الله.
ولو لم يكن من هذه الحِكَم إلا إثبات بشريتهم، وإثبات تلقِّيهم عن الله عز وجل لا عن أنفسهم، وإظهار عبوديتهم لله في مقام الإنابة والتوبة، كما أظهروها في مقام الانقياد والتسليم، فضلًا عن الحكم التشريعية والتربوية، لكفى!!.
يتضح لك هذا إذا علمت أن القواعد الشرعية تقبل الاستثناء والتخصيص دون أن يقدح ذلك فيها، بخلاف القواعد العقلية - كقوانين الرياضيات، والقضايا المنطقية الكلية - فإنه يكفي لإبطالها وجود جزئيةٍ واحدةٍ لا تنطبق عليها.
والعقول الفطرية شاهدة بهذا، وليك هذا المثال للتقريب فقط: لو اشتهر عن رجل من الناس أنه غاية في الكرم، لا يرد سائلًا، ولا يبخل على أحدٍ قط، ثم ثبت بالخبر الصادق أنه رد سائلًا، ولم يعطه شيئًا، فهل يعني هذا بطلان اتصافه بالكرم، أو يقدح في أصل الصفة؟ أم الأقرب للعقول تخصيص ذلك بتلك الواقعة لسبب ما؟ لأنه إنما استحق
هذا الوصف من وقائع كثيرة متوالية تقطع برسوخ هذه الصفة في نفسه، فتخلُّف هذه الصفة في موقف من المواقف لسبب من الأسباب غير مؤثر.
فمع الفارق في التشبيه؛ كيف يتوهم الأشاعرة إذن أن النبي لو أذنب لأصبح من حزب الشيطان، وممن صدّق عليهم إبليسُ ظنَّه، ولكان غير مخلص، ولا مجتبى، ولرُدّت شهادته، وحرم اتباعه، ووجب زجره .. إلى آخر ما سبق إيراده عنهم؟!!.
المهم: أن المسألة إذ حُررت من القوالب الكلامية الجامدة؛ تقبلها العقل السليم بلا اعتراض، ولا استغراب.
أما أن نضع قاعدة من عند أنفسنا، ثم نستقرئ النصوص، فنجد كثيرًا منها يخالفها، فنتعسف في تأويلها تعسفًا لا يقره دينٌ ولا عقل، ونحسب هذا دفاعًا عن مقام النبوة، ودفعًا لشبهات المنكرين، فهذا هو عين الخطأ والضلال.
فالله هو الذي عصمهم، وهو الذي شاء لهم أحيانًا أن يفعلوا ما يوجب عتابهم، أو توبتهم؛ لحِكَمٍ عظيمة أرادها هو، وليس لنا نحن البشر أن نعقِّب على حُكمه، أو نردّ بعض أمره ببعض.
وإذا علمت أن آدم، ونوحًا، وإبراهيم، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وذا النون، ومحمدًا صلى الله عليهم وسلم أجمعين، قد ثبت عنهم بصريح القرآن والسنة شيءٌ من ذلك، وبعضهم وقع له أكثرَ مِن مرة، عرفت مقدار الشطط الحاصل في إطلاق نفي ذلك عنهم، وكثرة ما يحتاج إلى تأويل من الآيات والأحاديث.
هذا الشطط وقع فيه من قال من المعاصرين: «والصحيح الذي عليه المعوّل من أقوال العلماء: هو أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن المعاصي الصغائر والكبائر بعد النبوة باتفاق، وأما قبل النبوة؛ فيحتمل أن تقع منهم بعض المخالفات اليسيرة التي لا تخلّ ولا تقدح بالكرامة والشرف» (1).
وهذا كلام يهدم بعضه بعضًا، حيث يزعم الترجيح بين الأقوال، ثم يقول:(باتفاق)؟!!. فهو ناقلٌ خابطٌ، ونحن نسأله أو نسأل المنقول عنه: هل يريد منا أن نحمل كل ما وقع منهم مما جاء في القرآن والسنة على أنه قبل النبوة بإطلاق، أم نردّه بإطلاق؟.
إن هؤلاء يشطح بهم الخيال، وينسون النصوص القطعية، بل لا يعتدّون بدلالتها، وعلينا - أولًا - أن نُقنع هؤلاء الناس بقيمة النصوص، وحجية دلالتها!!.
(1) النبوة والأنبياء، لمحمد بن علي الصابوني، وهو أشعري المنهج والمصادر، طبع على نفقة الشربتلي، ووزعته رئاسة البحوث والدعوة والإفتاء سنوات كثيرة، وما علمنا أن كتاب النبوات لشيخ الإسلام قد حصل له مثل هذا.